ج / 5 ص -4-
"كتاب
الشفعة"
الكلام في هذا الكتاب يقع في
مواضع: في بيان سبب ثبوت حق
الشفعة، وفي بيان شرائط ثبوت حق
الشفعة، وفي بيان ما يتأكد به حق
الشفعة ويستقر، وفي بيان ما يبطل
به حق الشفعة بعد ثبوته، وفي بيان
ما يملك به المشفوع فيه، وفي بيان
طريق التمليك، وبيان كيفيته، وفي
بيان شرط التملك، وفي بيان ما
يتملك به، وفي بيان المتملك، وفي
بيان المتملك منه، وفي بيان حكم
اختلاف الشفيع والمشتري، وفي بيان
الحيلة في إبطال الشفعة، وفي بيان
أنها مكروهة أم لا. "أما" سبب
وجوب الشفعة فالكلام فيه في
موضعين: أحدهما: في بيان ماهية
السبب، والثاني: في بيان كيفيته.
"أما" الأول فسبب وجوب الشفعة أحد
الأشياء الثلاثة الشركة في ملك
المبيع، والخلطة وهي الشركة في
حقوق الملك والجوار، وإن شئت قلت
أحد الشيئين الشركة والجوار، ثم
الشركة نوعان شركة في ملك المبيع
وشركة في حقوقه كالشرب والطريق
وهذا عند أصحابنا رضي الله عنهم
وقال الشافعي: السبب هو الشركة في
ملك المبيع لا غير فلا تجب الشفعة
عنده بالخلطة، ولا بالجوار احتج
بما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"إنما الشفعة في ما لم يقسم فإذا
وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
شفعة" فصدر الحديث إثبات الشفعة في غير المقسوم ونفيها في المقسوم؛ لأن
كلمة إنما لإثبات المذكور ونفي ما
عداه، وآخره نفي الشفعة عند وقوع
الحدود وصرف الطرق، والحدود بين
الجارين واقعة، والطرق مصروفة
فكانت الشفعة منفية؛ ولأن الأخذ
بالشفعة تملك مال المشتري من غير
رضاه، وعصمة ملكه، وكون التملك
إضرارا يمنع من ذلك فكان ينبغي أن
لا يثبت حق الأخذ أصلا إلا أنا
عرفنا ثبوته فيما لم يقسم بالنص
غير معقول المعنى فبقي الأمر في
المقسوم على الأصل، أو ثبت معلولا
بدفع ضرر خاص، وهو ضرر القسمة
لكونه ضررا لازما ما لا يمكن دفعه
إلا
ج / 5 ص -5-
بالشفعة. فأما ضرر الجوار فليس بلازم ، بل هو ممكن الدفع بالرفع إلى
السلطان، والمقابلة بنفسه فلا
حاجة إلى دفعه بالشفعة "ولنا" ما
روي أنه سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن أرض بيعت، وليس لها
شريك، ولها جار فقال عليه الصلاة
والسلام:
"الجار أحق بشفعتها" وهذا
نص في الباب وروي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الجار أحق بصقبه" والصقب الملاصق أي: أحق بما يليه وبما يقرب منه وروي "الجار أحق
بشفعته" وهذا نص في الباب ولأن حق
الشفعة بسبب الشركة إنما يثبت
لدفع أذى الدخيل، وضرره وذلك
متوقع الوجود عند المجاورة فورود
الشرع هناك يكون ورودا هنا دلالة،
وتعليل النص بضرر القسمة غير سديد
لأن القسمة ليست بضرر بل هي تكميل
منافع الملك، وهي ضرر غير واجب
الدفع لأن القسمة مشروعة ولهذا لم
تجب الشفعة بسبب الشركة في العروض
دفعا لضرر القسمة. "وأما" قوله:
يمكن دفع الضرر بالمقابلة بنفسه،
والمرافعة إلى السلطان فنقول وقد
لا يندفع بذلك ولو اندفع
فالمقابلة، والمرافعة في نفسها
ضرر، وضرر الجار السوء يكثر وجوده
في كل ساعة فيبقى في ضرر دائم
وأما الحديث فليس في صدره نفي
الشفعة عن المقسوم لأن كلمة إنما
لا تقتضي نفي غير المذكور قال
الله تبارك وتعالى:
{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وهذا لا ينفي أن يكون غيره عليه الصلاة والسلام بشرا مثله، وآخره
حجة عليه لأنه علق عليه الصلاة
والسلام سقوط الشفعة بشرطين: وقوع
الحدود، وصرف الطرق، والمعلق
بشرطين لا يترك عند وجود أحدهما،
وعنده يسقط بشرط واحد وهو وقوع
الحدود، وإن لم تصرف الطرق ثم هو
مؤول وتأويله فإذا وقعت الحدود
فتباينت وصرفت الطرق فتباعدت فلا
شفعة أو لا شفعة مع وجود من لم
ينفصل حده، وطريقه أو فلا شفعة
بالقسمة، كما لا شفعة بالرد بخيار
الرؤية؛ لأن في القسمة معنى
المبادلة فكان موضع الإشكال فأخبر
أنه لا شفعة ليزول الإشكال والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وأما" بيان كيفية السبب فالكلام
فيه في موضعين: أحدهما: يعم حال
انفراد الأسباب واجتماعها،
والثاني: يخص حالة الاجتماع "أما"
الذي يعم الحالين جميعا فهو أن
السبب أصل الشركة لا قدرها، وأصل
الجوار لا قدره حتى لو كان للدار
شريك واحد، أو جار واحد أخذ كل
الدار بالشفعة كثر شركته وجواره،
أو قل، وعلى هذا يخرج قول أصحابنا
رضي الله عنهم في قسمة الشفعة بين
الشركاء عند اتحاد السبب وهو
الشركة، أو الجوار أنها تقسم على
عدد الرءوس لا على قدر الشركة
وعند الشافعي رحمه الله على قدر
الشركة في ملك المبيع حتى لو كانت
الدار بين ثلاثة نفر، لأحدهم
نصفها، وللآخر ثلثها، ولآخر
سدسها، فباع صاحب النصف نصيبه
كانت الشفعة بين الباقين نصفين
عندنا على عدد الرءوس، وعنده
أثلاثا ثلثاه لصاحب الثلث، وثلثه
لصاحب السدس على قدر الشركة.
"وجه" قوله أن حق الشفعة من حقوق
الملك؛ لأنه ثبت لتكميل منافع
الملك فيتقدر بقدر الملك كالثمرة
والغلة. "ولنا" أن السبب في موضع
الشركة أصل الشركة وقد استويا فيه
فيستويان في الاستحقاق والدليل
على أن السبب أصل الشركة دلالة
الإجماع، والمعقول، أما دلالة
الإجماع؛ فلأن الشفيع إذا كان
واحدا يأخذ كل الدار بالشفعة، ولو
كان السبب قدر الشركة لتقدر حق
الأخذ بقدرها، وأما المعقول؛ فلأن
حق الشفعة إنما يثبت لدفع أذى
الدخيل وضرره، والضرر لا يندفع
إلا بأخذ كل الدار بالشفعة فدل أن
سبب الاستحقاق في الشركة هو أصل
الشركة وقد استويا فيه فبعد ذلك
لا يخلو إما أن يأخذ أحدهما الكل
دون صاحبه، وإما أن يأخذ كل واحد
منهما الكل لا سبيل إلى الأول؛
لأنه ليس أحدهما بأولى من صاحبه،
ولا سبيل إلى الثاني لاستحالة
تملك دار واحدة في زمان واحد من
اثنين على الكمال فتنصف بينهما
عملا بكمال السبب بقدر الإمكان.
ومثل هذا جائز فإن من هلك عن
ابنين كان ميراثه بينهما نصفين؛
لأن بنوة كل واحد منهما سبب
لاستحقاق كل الميراث إلا أنه لا
يمكن إثبات الملك في مال واحد لكل
واحد منهما على الكمال لتضايق
المحل فينصف بينهما فكذا هذا،
وكذلك إذا كان لدار واحدة شفيعان
جاران جوارهما على التفاوت بأن
كان جوار أحدهما بخمسة أسداس
الدار، وجوار الآخر لسدسها كانت
الشفعة بينهما نصفين لاستوائهما
في سبب الاستحقاق وهو أصل الجوار،
وعلى هذا يخرج ما إذا كان للدار
شفيعان فأسقط أحدهما الشفعة أن
للآخر أن يأخذ كل الدار
ج / 5 ص -6-
بالشفعة لوجود سبب الاستحقاق للكل في حق كل واحد منهما، وإنما
القسمة للتزاحم والتعارض على ما
بينا، فإذا أسقط أحدهما زال
التزاحم، والتعارض فظهر حق الآخر
في الكل، فيأخذ الكل. وكذلك لو
كان الشفعاء جماعة فأسقط بعضهم
حقه فللباقين أن يأخذوا الكل
بالشفعة لما قلنا ولو كان للدار
شفيعان وأحدهما غائب، فللحاضر أن
يأخذ كل الدار بالشفعة؛ لأن سبب
ثبوت الحق على الكمال وجد في حقه
وقد تأكد حقه بالطلب ولم يعرف
تأكد حق الغائب؛ لأنه محتمل يحتمل
أن يطلب، ويحتمل أن لا يطلب، أو
يعرض فلم يقع التعارض، والتزاحم
فلا يمنع الحاضر من استيفاء حقه
الثابت المتأكد بحق يحتمل التأكد،
والعدم بل يقضى له بالكل عملا
بكمال السبب من غير تعارض بخلاف
ما إذا كان لرجلين على رجل ألف
درهم فهلك الرجل وترك ألف درهم،
وأحد صاحبي الدين غائب أنه لا
يسلم إلى الحاضر إلا خمسمائة، لأن
هناك حق كل واحد منهما يساوي حق
الآخر في التأكد فيقسم بينهما على
السوية لوقوع التعارض، والتزاحم.
وكذلك لو كان للدار شفعاء بعضهم
غائب، وبعضهم حاضر يقضى بالدار
بين الحضور على عدد رءوسهم لما
قلنا ولو جعل بعضهم نصيبه لبعض،
لم يصح جعله في حق غيره وسقط حق
الجاعل، وقسمت على عدد رءوس من
بقي؛ لأن حق الشفعة مما لا يحتمل
النقل؛ لأنه ليس بأمر ثابت في
المحل فبطل الجعل في حق غيره،
وسقط حقه لكون الجعل دليل الإعراض
وبقي كل الدار بين الباقين
فيقسمونها على عدد الرءوس لما
ذكرنا، ولو كان أحدهم حاضرا فقضي
له بكل الدار، ثم جاء آخر يقضى له
بنصف ما في يد الحاضر، فإن جاء
ثالث يقضى له بثلث ما في يد كل
منهما لوقوع التعارض، والتزاحم،
لاستواء الكل في سبب ثبوت الحق
وتأكده فيقسم بينهم على السوية.
ولو أخذ الحاضر الكل، ثم قدم
الغائب وأراد أن يأخذ النصف فقال
له الحاضر: أنا أسلم لك الكل فإما
أن تأخذ، أو تدع فليس له ذلك،
وللذي قدم أن يأخذ النصف؛ لأن
القاضي لما قضى للحاضر بكل الدار
تضمن قضاؤه بطلان حق الغائب عن
النصف، وصار الغائب مقضيا عليه في
ضمن القضاء للحاضر بالكل فبعد
ذلك، وإن بطل القضاء لكن الحق
بعدما بطل لا يتصور عوده، ولو قضى
بالدار للحاضر ثم وجد به عيبا
فرده ثم قدم الغائب فليس له أن
يأخذ بالبيع الأول إلا نصف الدار
سواء كان الرد بالعيب بقضاء، أو
بغير قضاء وسواء كان قبل القبض أو
بعده لما ذكرنا أنه لما قضى
القاضي للحاضر بكل الدار بالشفعة
فقد أبطل حق الغائب عن النصف وصار
هو مقضيا عليه ضرورة القضاء على
المشتري فبطلت شفعته في هذا النصف
فلا يحتمل العود سواء كان الرد
بالعيب بقضاء، أو بغير قضاء؛ لأنه
إنما بطل حقه في النصف بالقضاء
بالشفعة، وبالرد بالعيب لا يتبين
أن القضاء بالشفعة لم يكن، وكذا
يستوي فيه الرد قبل القبض وبعده
لما قلنا ولو أراد الغائب أن يأخذ
كل الدار بالشفعة برد الحاضر
بالعيب ويدع البيع الأول، ينظر إن
كان الرد بغير قضاء فله ذلك؛ لأن
الرد بغير قضاء بيع مطلق فكان
بيعا جديدا في حق الشفعة فيأخذ
الكل بالشفعة كما يأخذ بالبيع
المبتدإ هكذا ذكر محمد وأطلق
الجواب ولم يفصل بينما إذا كان
الرد بالعيب قبل القبض أو بعده من
مشايخنا من قال: ما ذكر من الجواب
محمول على ما بعد القبض؛ لأن الرد
قبل القبض بغير قضاء بيع جديد،
وبيع العقار قبل القبض لا يجوز
على أصله وإنما يستقيم إطلاق
الجواب على أصل أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله "ومنهم" من قال:
يستقيم على مذهب الكل؛ لأن رضا
الشفيع ههنا غير معتبر لكونه
مجبورا في التمليك فكان رضاه
ملحقا بالعدم، وإن كان بقضاء فليس
له أن يأخذ؛ لأنه فسخ مطلق، ورفع
العقد من الأصل كأنه لم يكن،
والأخذ بالشفعة يختص بالبيع ولو
اطلع الحاضر على عيب قبل أن يقضى
له بالشفعة فسلم الشفعة ثم قدم
الغائب فإن شاء أخذ الكل، وإن شاء
ترك؛ لأن القاضي إذا لم يقض
بالشفعة للحاضر لم يبطل حق الغائب
بل بقي في كل الدار لوجود سبب
استحقاق الكل إلا أنه لم يظهر
لمزاحمة الحاضر في الكل وبالتسليم
زالت المزاحمة فظهر حق الغائب في
كل الدار، ولو رد الحاضر الدار
بالعيب بعد ما قضي له بالشفعة ثم
حضر شفيعان أخذا ثلثي الدار
بالشفعة، والحكم في الاثنين
والثلاث سواء يسقط حق الغائب بقدر
حصة الحاضر لما قلنا، وكذا لو كان
الشفيع الحاضر اشترى الدار من
المشتري ثم حضر الغائب فإن شاء
أخذ كل الدار بالبيع الأول، وإن
شاء أخذ كلها بالبيع
ج / 5 ص -7-
الثاني. "أما" الأخذ بالبيع الأول؛ فلأن حق الحاضر في الشفعة قد بطل
بالشراء من المشتري لكون الشراء
منه دليل الإعراض فزالت المزاحمة
الموجبة للقسمة فبقي حق الغائب في
كل الدار فيأخذ الكل بالبيع الأول
إن شاء بخلاف الشفيع إذا اشترى
الدار المشفوعة من صاحبها أنه لا
تبطل شفعته؛ لأن البطلان بالإقدام
على الشراء ولا حق له قبل الشراء
ليبطل به. "وأما" الأخذ بالبيع
الثاني؛ فلأن البيع الثاني وجد
ولا حق للحاضر في الشفعة لصيرورته
معرضا بالشراء، فيظهر حق الأخذ
بالكل، ولو كان المشتري الأول
شفيعا للدار فاشتراها الشفيع
الحاضر منه ثم قدم الغائب فإن شاء
أخذ نصف الدار بالبيع الأول، وإن
شاء أخذ كلها بالبيع الثاني.
"أما" أخذ النصف بالبيع الأول؛
فلأن المشتري الأول لم يثبت له حق
قبل الشراء حتى يكون بشرائه معرضا
عنه، فإذا باعه من الشفيع الحاضر
لم يثبت للغائب إلا مقدار ما كان
يخصه بالمزاحمة مع الأول وهو
النصف وأما أخذ الكل بالعقد
الثاني؛ فلأن السبب عند البيع
الأول أوجب الشفعة للكل في الدار
وقد بطل حق الشفيع الحاضر بالشراء
لكون الشراء دليل الإعراض فبقي حق
المشتري الأول، والغائب في كل
الدار فيقسم بينهما للتزاحم فيأخذ
الغائب نصف الدار بالبيع الأول إن
شاء، وإن شاء أخذ الكل بالعقد
الثاني؛ لأن السبب عند العقد
الثاني أوجب للشفيع حق الشفعة ثم
بطل حق الشفيع الحاضر عند العقد
الأول ولم يتعلق بإقدامه على
الشراء الثاني بعقده حق لإعراضه
فكان للغائب أن يأخذ كل الدار
بالعقد الثاني. ولو كان المشتري
الأول أجنبيا اشتراها بألف فباعها
من أجنبي بألفين ثم حضر الشفيع،
فالشفيع بالخيار إن شاء أخذ
بالبيع الأول وإن شاء أخذ بالبيع
الثاني لوجود سبب الاستحقاق،
وشرطه عند كل واحد من البيعين
فكان له الخيار فإن أخذ بالبيع
الأول سلم الثمن إلى المشتري
الأول، والعهدة عليه وينفسخ البيع
الثاني ويسترد المشتري الثاني
الثمن من الأول، وإن أخذ بالبيع
الثاني تم البيعان جميعا والعهدة
على الثاني غير أنه إن وجد
المشتري الثاني، والدار في يده
فله أن يأخذ بالبيع الثاني سواء
كان المشتري الأول حاضرا، أو
غائبا، وإن أراد أن يأخذ بالبيع
الأول فليس له ذلك حتى يحضر
المشتري الأول والثاني هكذا، ذكر
القاضي الإمام الإسبيجابي عليه
الرحمة في شرحه مختصر الطحاوي ولم
يحك خلافا، وذكر الكرخي عليه
الرحمة أن هذا قول أبي حنيفة،
ومحمد عليهما الرحمة. وعند أبي
يوسف رحمه الله: حضرة الأول ليست
بشرط وللشفيع أن يأخذ من الذي في
يده ويدفع إليه ألفا ويقال له:
اتبع الأول وخذ منه ألفا، وإن كان
الثاني اشتراه بألف يؤخذ منه
ويدفع إليه ألفا. "وجه" قول أبي
يوسف أن حق الشفعة حق متعلق بعين
الدار فلا يشترط لاستيفائه حضرة
المشتري. "وجه" قولهما أن الأخذ
من غير حضرة المشتري الأول يكون
قضاء على الغائب، لأن الأخذ
بالبيع الأول يوجب انفساخ البيع
الأول على المشتري الأول على ما
نذكره في موضعه إن شاء الله تبارك
وتعالى، فيكون قضاء على الغائب من
غير أن يكون عنه خصم حاضر وأنه لا
يجوز، وقوله: حق الشفعة متعلق
بالعين ممنوع بل لا حق في العين
وإنما الثابت حق التمليك على
المشتري فلا بد من حضرته ولو كان
المشتري باع نصف الدار ولم يبع
جميعها، فجاء الشفيع وأراد أن
يأخذ بالبيع الأول أخذ جميع الدار
ويبطل البيع في النصف الثاني من
المشتري الثاني؛ لأن سبب استحقاق
الجميع، وشرطه موجود عند البيع
الأول فإذا أخذ الكل بالبيع الأول
انفسخ البيع في النصف الثاني من
المشتري؛ لأنه تبين أنه تقدم على
حق الشفيع في قدر النصف وإن أراد
أن يأخذ النصف بالبيع الثاني فله
ذلك؛ لأن شرط الاستحقاق وهو البيع
وجد في النصف، وبطلت شفعته في
النصف الذي في يد المشتري الأول
لوجود دليل الإعراض. ولو كان
المشتري لم يبع الدار ولكنه وهبها
من رجل، أو تصدق بها على رجل
وقبضها الموهوب له أو المتصدق
عليه، ثم حضر الشفيع والمشتري
والموهوب له حاضران، أخذها الشفيع
بالبيع لا بالهبة؛ لأن كون العقد
معاوضة من شرائط الاستحقاق على ما
نذكره إن شاء الله تعالى ولا بد
من حضرة المشتري حتى لو حضر
الشفيع ووجد الموهوب له فلا خصومة
معه حتى يجد المشتري فيأخذها
بالبيع الأول، والثمن للمشتري
وتبطل الهبة كذا ذكر القاضي من
غير خلاف وأما الكرخي فقد جعله
على الخلاف الذي ذكرنا أن الذي في
يده الدار وهو الموهوب له
ج / 5 ص -8-
لم يكن خصما عندهما، وعند أبي يوسف يكون خصما كما في البيع. ولو وهب
المشتري نصف الدار مقسوما وسلمه
إلى الموهوب له ثم حضر الشفيع
وأراد أن يأخذ النصف الباقي بنصف
الثمن ليس له ذلك ولكنه يأخذ جميع
الدار بجميع الثمن، أو يدع؛ لأن
في أخذ البعض دون البعض تفريق
الصفقة على المشتري، وإذا أخذ
الكل بطلت الهبة وكان الثمن كله
للمشتري لا للموهوب له، ولو اشترى
دارا بألف ثم باعها بألفين فعلم
الشفيع بالبيع الثاني ولم يعلم
بالبيع الأول فأخذها بقضاء، أو
بغير قضاء، ثم علم أن البيع الأول
كان بألف فليس له أن ينقض أخذه؛
لأنه لما أخذها بالبيع الثاني فقد
ملكها، وحق التمليك بالبيع الأول
بعد ثبوت الملك له لا يتصور فسقط
حقه في الشفعة في البيع الأول
ضرورة ثبوت الملك له، والثابت
ضرورة يستوي فيه العلم والجهل،
فإن اشتراها بألف ثم زاده في
الثمن ألفا فعلم الشفيع بالألفين
ولم يعلم أن الألف زيادة فأخذها
بألفين فإذا أخذ بقضاء القاضي
أبطل القاضي الزيادة وقضى له
بالألف؛ لأن الزيادة غير ثابتة
شرعا في حق الشفيع فكان القضاء
بالزيادة قضاء بما ليس بثابت
فيبطلها القاضي وإن أخذها بغير
قضاء فليس له أن ينقض أخذه؛ لأن
الأخذ بغير قضاء بمنزلة شراء
مبتدإ فسقط حقه في الشفعة ولو كان
المشتري حين اشتراه بألف ناقضه
البيع ثم اشتراه بألفين فأخذ
الشفيع بألفين ولم يعلم بالبيع
الأول، ثم علم به لم يكن له أن
ينقضه سواء كان بقضاء، أو بغير
قضاء؛ لأنه اجتمع بيعان لا يمكن
الأخذ بهما فإذا أخذ بأحدهما
انتقض الآخر والله عز وجل أعلم.
وإذا كان للدار جاران أحدهما غائب
والآخر حاضر فخاصم الحاضر إلى قاض
لا يرى الشفعة بالجوار فأبطل
شفعته ثم حضر الغائب فخاصمه إلى
قاض يرى الشفعة قضى له بجميع
الدار، لأن قضاء القاضي الأول
صادف محل الاجتهاد فنفذ، وبطلت
شفعة الحاضر فبقي حق الغائب في كل
الدار لوجود سبب استحقاق الكل
فيأخذ الكل بالشفعة ولو كان
القاضي الأول قال: أبطلت كل
الشفعة التي تتعلق بهذا البيع لم
تبطل شفعة الغائب كذا قاله محمد
وهو صحيح؛ لأنه قضاء على الغائب
وأنه لا يجوز والله سبحانه وتعالى
أعلم. "وأما" الذي يخص حالة
الاجتماع فهو أن أسباب استحقاق
الشفعة إذا اجتمعت يراعى فيها
الترتيب فيقدم الأقوى، فالأقوى
فيقدم الشريك على الخليط، والخليط
على الجار لما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من غيره" ولأن المؤثر في ثبوت حق الشفعة هو دفع ضرر الدخيل، وأذاه، وسبب
وصول الضرر والأذى هو الاتصال،
والاتصال على هذه المراتب،
فالاتصال بالشركة في عين المبيع
أقوى من الاتصال بالخلط، والاتصال
بالخلط أقوى من الاتصال بالجوار،
والترجيح بقوة التأثير ترجيح
صحيح، فإن سلم الشريك وجبت للخليط
وإن اجتمع خليطان يقدم الأخص على
الأعم، وإن سلم الخليط وجبت للجار
لما قلنا وهذا جواب ظاهر الرواية
وروي عن أبي يوسف أنه إذا سلم
الشريك فلا شفعة لغيره. "وجه"
رواية أبي يوسف أن الحق عند البيع
كان للشريك لا لغيره ألا ترى أن
غيره لا يملك المطالبة؟ فإذا سلم
سقط الحق أصلا؟ والصحيح جواب ظاهر
الرواية؛ لأن كل واحد من هذه
الأشياء الثلاثة سبب صالح
للاستحقاق إلا أنه يرجح البعض على
البعض لقوة في التأثير على ما
بينا، فإذا سلم الشريك التحقت
شركته بالعدم وجعلت كأنها لم تكن
فيراعى الترتيب في الباقي، كما لو
اجتمعت الخلطة والجوار ابتداء،
وبيان هذا في مسائل: دار بين
رجلين في سكة غير نافذة طريقها من
هذه السكة باع أحدهما نصيبه،
فالشفعة لشريكه؛ لأن شركته في عين
الدار، وشركة أهل السكة في الحقوق
فكان الشريك في عين الدار أولى
بالشفعة فإذا سلم فالشفعة لأهل
السكة كلهم يستوي فيه الملاصق،
وغير الملاصق؛ لأنهم كلهم خلطاء
في الطريق فإن سلموا فالشفعة
للجار الملاصق. وعلى ما روي عن
أبي يوسف إذا سلم الشريك سقطت
الشفعة، أصلا ولو انشعبت من هذه
السكة سكة أخرى غير نافذة، فبيعت
دار فيها فالشفعة لأهل هذه السكة
خاصة؛ لأن خلطة أهل هذه السكة
السفلى أخص من خلطة أهل السكة
العليا، ولو بيعت دار في السكة
العليا استوى في شفعتها أهل السكة
العليا، وأهل السكة السفلى؛ لأن
خلطتهم في السكة العليا سواء،
فيستوون في الاستحقاق وقال محمد
رحمه الله أهل الدرب يستحقون
الشفعة بالطريق إذا كان ملكهم أو
كان فناء غير مملوك، أما إذا كان
ملكا لهم فظاهر
ج / 5 ص -9-
لوجود الخلطة وهي الشركة في الطريق. وأما إذا كان فناء غير مملوك؛
فلأنهم أخص به من غيرهم فكان في
معنى المملوك، وإن كانت السكة
نافذة فبيعت دار فيها فلا شفعة
إلا للجار الملاصق؛ لأن الشركة
العامة إباحة معنى، لما قلنا وإن
كان مملوكا فهو في حكم غير
النافذ، والطريق النافذ الذي لا
يستحق به الشفعة ما لا يملك أهله
سده؛ لأنه إذا كان كذلك يتعلق به
حق جميع المسلمين فكانت شركته
عامة فيشبه الإباحة. وعلى هذا
يخرج النهر إذا كان صغيرا يسقى
منه أراضي معدودة أو كروم معدودة
فبيع أرض منها أو كرم أن الشركاء
في النهر كلهم شفعاء، يستوي
الملاصق وغير الملاصق لاستوائهم
في الخلطة وهي الشركة في الشرب
وإن كان النهر كبيرا فالشفعة
للجار الملاصق بمنزلة الشوارع،
واختلف في الحد الفاصل بين
الصغير، والكبير قال أبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله إذا كان تجري
فيه السفن فهو كبير، وإن كان لا
تجري فهو صغير وروي عن أبي يوسف
رحمه الله أنه قال لا أستطيع أن
أحد هذا بحد هو عندي على ما أرى
حين يقع ذلك وروي عن أبي يوسف
رحمه الله رواية أخرى أنه إن كان
يسقى منه مراحان، أو ثلاثة، أو
بستانان، أو ثلاثة ففيه الشفعة
وما زاد على ذلك فلا، كذا ذكر
الكرخي رضي الله عنه الاختلاف بين
أصحابنا. والقاضي لم يذكر خلافهم
وإنما ذكر اختلاف المشايخ رحمهم
الله قال بعضهم إن كان شركاء
النهر بحيث يحصون فهو صغير، وإن
كانوا لا يحصون فهو كبير، وقال
بعضهم: إن كانوا مائة فما دونهم
فهو صغير، وإن كانوا أكثر من مائة
فهو كبير، وقال بعضهم: هو مفوض
إلى رأي القاضي فإن رآه صغيرا قضى
بالشفعة لأهله، وإن رآه كبيرا قضى
بها للجار الملاصق، ولو نزع من
هذا النهر نهر آخر فيه أرضون، أو
بساتين، وكروم فبيع أرض، أو بستان
شربه من هذا النهر النازع فأهل
هذا النهر أحق بالشفعة من أهل
النهر الكبير ألا ترى أنهم مختصون
بشرب النهر النازع؟ فكانوا أولى
كما في السكة المنشعبة من سكة غير
نافذة، ولو بيعت أرض على النهر
الكبير كان أهله، وأهل النهر
النازع في الشفعة سواء لاستوائهم
في الشرب.قال محمد رحمه الله في
قراح واحد في وسط ساقية جارية شرب
هذا القراح منها من الجانبين فبيع
القراح فجاء شفيعان أحدهما يلي
هذه الناحية في القراح، والآخر
يلي الجانب الآخر قال هما شفيعان
في القراح وليست الساقية بحائلة؛
لأن الساقية من حقوق هذا القراح
فلا يعتبر فاصلا كالحائط الممتد،
ولو كانت هذه الساقية بجوار
القراح ويشرب منها ألف جريب من
هذا القراح، فأصحاب الساقية أحق
بالشفعة من الجار؛ لأنهم شركاء في
الشرب، والشريك مقدم على الجار
لما مر، والله سبحانه وتعالى
أعلم. وعلى هذا يخرج ما روي عن
أبي يوسف أنه قال في دار بين
رجلين ولرجل فيها طريق فباع
أحدهما نصيبه من الدار أن الشريك
أحق بالشفعة من صاحب الطريق؛ لأن
الشريك في عين العقار أحق من
الخليط، وكذلك إذا كانت الدار بين
رجلين ولأحدهما حائط بأرضه في
الدار بينه وبين آخر فباع الذي له
شركة في الحائط نصيبه من الدار
والحائط، فالشريك في الدار أحق
بشفعة الدار، والشريك في الحائط
أولى بالحائط؛ لأن الشريك في
الحائط ليس بشريك في الدار بل هو
جار لبقية الدار، والشريك مقدم
على الجار. وكذلك دار بين رجلين
ولأحدهما بئر في الدار بينه وبين
آخر فباع الذي له شركة في البئر
نصيبه من الدار والبئر فالشريك في
الدار أحق بشفعة الدار، والشريك
في البئر أحق بالبئر لما ذكرنا أن
الشريك في البئر جار لبقية الدار،
والشريك مقدم على الجار، وكذلك
سفل بين رجلين ولأحدهما علو عليه
بينه وبين آخر فباع الذي له نصيب
في السفل والعلو نصيبه فلشريكه في
السفل الشفعة في السفل، ولشريكه
في العلو الشفعة في العلو ولا
شفعة لشريكه في السفل في العلو،
ولا لشريكه في العلو في السفل؛
لأن شريكه في السفل جار العلو،
وشريكه في حقوق العلو وإن كان
طريق العلو فيه ليس بشريك له في
العلو والشريك في عين البقعة أو
ما هو في معنى البقعة مقدم على
الجار، والشريك في الحقوق وشريكه
في العلو جار للسفل، أو شريكه في
الحقوق إذا كان طريق العلو في تلك
الدار ولا شركة له في عين البقعة
فكان الشريك في عين البقعة أولى.
ولو كان لرجل علو على دار وطريقه
فيها وبقية الدار لآخر فباع صاحب
العلو العلو بطريقه، فالقياس أن
لا شفعة لصاحب السفل في العلو وفي
الاستحسان تجب. "وجه" القياس أن
من شرائط وجوب الشفعة أن يكون
المبيع عقارا والعلو
ج / 5 ص -10-
منقول فلا تجب فيه الشفعة كما لا تجب في سائر المنقولات. "وجه"
الاستحسان أن العلو في معنى
العقار؛ لأن حق البناء على السفل
حق لازم لا يحتمل البطلان فأشبه
العقار الذي لا يحتمل الهلاك فكان
ملحقا بالعقار فيعطى حكمه ولو كان
طريق هذا العلو في دار رجل آخر
فبيع العلو فصاحب الدار التي فيها
الطريق أولى بشفعة العلو من صاحب
الدار التي عليها العلو؛ لأن صاحب
الدار التي فيها الطريق شريك في
الحقوق وصاحب الدار التي عليها
العلو جار، والشريك مقدم على
الجار فإن سلم صاحب الطريق الشفعة
فإن لم يكن للعلو جار ملاصق أخذه
صاحب الدار التي عليها العلو
بالجوار؛ لأنه جاره، وإن كان
للعلو جار ملاصق أخذه بالشفعة مع
صاحب السفل لأنهما جاران وإن لم
يكن جار العلو ملاصقا وبين العلو
وبين مسكنه طائفة من الدار فلا
شفعة له؛ لأنه ليس بجار ولو باع
صاحب السفل السفل كان صاحب العلو
شفيعا؛ لأنه جاره وليس شريكه وهو
كدارين متجاورتين لأحدهما خشب على
حائط الآخر أن صاحب الخشب لا
يستحق إلا بالجوار ولا يستحق
بالخشب شيئا ولو بيعت الدار التي
فيها طريق العلو فصاحب العلو أولى
بشفعة الدار من الجار؛ لأنه شريك
في الحقوق فكان مقدما على الجار.
وروي عن أبي يوسف أنه قال في بيت
عليه غرفتان إحداهما فوق الأخرى
ولكل غرفة طريق في دار أخرى وليس
بينهما شركة في الطريق فباع صاحب
البيت الأوسط بيته وسلم صاحب
الطريق فالشفعة لصاحب العلو
ولصاحب السفل جميعا لاستوائهما في
الجوار فإن باع صاحب العلو كانت
الشفعة للأوسط دون الأسفل؛ لأن
الجوار له لا للأسفل وعلى هذا
يخرج ما روي عن أبي يوسف أنه قال
في دار فيها مسيل ماء لرجل آخر
فبيعت الدار كانت له الشفعة
بالجوار لا بالشركة وليس المسيل
كالشرب؛ لأن صاحب المسيل مختص
بمسيل الماء لا شركة للآخر فيه
فصار كحائط لصاحب إحدى الدارين في
الأخرى ولو أن حائطا بين داري
رجلين والحائط بينهما فصاحب الشرك
في الحائط أولى بالحائط من الجار
وبقية الدار يأخذها بالجوار مع
الجار بينهما هكذا روي عن أبي
يوسف وزفر رحمهما الله وروي عن
أبي يوسف رواية أخرى أن الشريك في
الحائط أولى بجميع الدار. "وجه"
هذه الرواية أن الشريك في الحائط
شريك في بعض المبيع فكان أولى من
الجار الذي لا شركة له كالشريك في
الشرب والطريق. "وجه" الرواية
الأولى أن الشريك في الحائط شريك
لكن في بقعة معينة وهي ما تحت
الحائط لا في بقية الدار بل هو
جار في بقية الدار فكان أولى بما
هو شريك فيه وبقية الدار بينه
وبين الجار الآخر لاستوائهما في
الجوار وكذلك الدار لرجل فيها بيت
بينه وبين غيره فباع الرجل الدار
وطلب الجار الشفعة وطلبها الشريك
في البيت فصاحب الشركة في البيت
أولى بالبيت وبقية الدار بينهما
نصفان قال الكرخي عليه الرحمة
وأصح الروايات عن أبي يوسف أن
الشريك في الحائط أولى ببقية
الدار من الجار لما ذكرنا من
تحقيق الشركة في نفس المبيع
والشريك مقدم على الجار قال وعن
محمد مسألة تدل على أن الشريك في
الحائط أولى فإنه قال في حائط بين
دارين لكل واحد منهما عليه خشبة
ولا يعلم أن الحائط بينهما إلا
بالخشبة فبيعت إحدى الدارين قال
فإن أقام الآخر بينة أن الحائط
بينهما فهو أحق من الجار؛ لأنه
شريك وإن لم يقم بينة لم أجعله
شريكا وقوله أحق من الجار أي: أحق
بالجميع لا بالحائط خاصة وهذا هو
مقتضى ظاهر هذا الإطلاق. وروي عن
أبي يوسف فيمن اشترى حائطا بأرضه
ثم اشترى ما بقي من الدار ثم طلب
جار الحائط الشفعة فله الشفعة في
الحائط ولا شفعة له فيما بقي من
الدار؛ لأنه لم يكن جارا لبقية
الدار وقت البيع إذ الحائط حائل
بين ملكه وبقية الدار فلا تجب
الشفعة له وروي عن أبي يوسف في
دار بين رجلين لرجل فيها طريق
فباع أحدهما نصيبه من الدار
فشريكه في الدار أحق بالشفعة في
الدار ولصاحب الطريق الشفعة في
الطريق؛ لأن الطريق إذا كان معينا
كان بمنزلة الحائط على ما ذكرنا
وهذا على الرواية التي تقول
الشريك في الحائط جار في بقية
الدار على ما ذكرنا فيما تقدم
والله أعلم.
"فصل" وأما شرائط وجوب الشفعة فأنواع: "منها" عقد المعاوضة وهو البيع
أو ما هو في معناه فلا تجب الشفعة
ج / 5 ص -11-
فيما ليس ببيع ولا بمعنى البيع حتى لا تجب بالهبة والصدقة والميراث
والوصية ؛ لأن الآخذ بالشفعة يملك
على المأخوذ منه بمثل ما ملك هو
فإذا انعدم معنى المعاوضة فلو أخذ
الشفيع فإما أن يأخذ بالقيمة وإما
أن يأخذ مجانا بلا عوض لا سبيل
إلى الأول؛ لأن المأخوذ منه لم
يملكه بالقيمة ولا سبيل إلى
الثاني؛ لأن الحد على التبرع ليس
بمشروع فامتنع الأخذ أصلا. وإن
كانت الهبة بشرط العوض فإن تقابضا
وجبت الشفعة لوجود معنى المعاوضة
عند التقابض وإن قبض أحدهما دون
الآخر فلا شفعة عند أصحابنا
الثلاثة وعند زفر تجب الشفعة بنفس
العقد وهذا بناء على أصل وهو أن
الهبة بشرط العوض عندنا تبرع
ابتداء معاوضة انتهاء وعنده
معاوضة ابتداء وانتهاء ودلائل هذا
الأصل في كتاب الهبة نذكرها هناك
إن شاء الله تعالى. ولو وهب عقارا
من غير شرط العوض ثم إن الموهوب
له عوضه من ذلك دارا فلا شفعة في
الدارين لا في دار الهبة ولا في
دار العوض؛ لأن إعطاء دار العوض
هبة مبتدأة إلا أنها اختصت بالمنع
من الرجوع إلا أن تكون عوضا حقيقة
بدليل أنه لو وهب عشرة دراهم
فعوضه بخمسة جاز ولو كان عوضا
حقيقة لما جاز؛ لأنه يكون ربا دل
أن الثاني ليس بعوض عن الأول
حقيقة فلم يكن هذا معاوضة بل كان
هبة مبتدأة فلم تجب به الشفعة
وتجب الشفعة في الدار التي هي بدل
الصلح سواء كان الصلح على الدار
عن إقرار أو إنكار أو سكوت لوجود
معنى المعاوضة. "أما" في الصلح عن
إقرار فظاهر؛ لأن المدعي ملك
المدعى في حق المدعي والمدعى عليه
فكانت الدار التي هي بدل الصلح
عوضا عن ملك ثابت في حقهما جميعا
فيتحقق معنى المعاوضة في هذا
الصلح. "وأما" في الصلح عن إنكار
فلان عند المدعي أنه أخذ الدار
عوضا عن ملكه الثابت فكان الصلح
معاوضة في حقه وكان للشفيع فيها
حق الشفعة وكذا في الصلح عن سكوت
المدعى عليه؛ لأن المدعي إن كان
محقا في دعواه كان بدل الصلح عوضا
عن ملكه حقيقة وإن كان مبطلا كان
عوضا عن ملكه في زعمه فيتحقق معنى
المعاوضة في زعمه وكذا تجب الشفعة
في الدار المصالح عنها عن إقرار
لوجود معنى المعاوضة في هذا الصلح
من الجانبين جميعا. "وأما" عن
إنكار فلا تجب به الشفعة؛ لأن في
زعم المدعى عليه أن الدار المدعاة
ملكه وإنما بذل المال لدفع
الخصومة الباطلة فلا يتحقق معنى
المعاوضة في حقه فلم يكن للشفيع
أن يأخذها منه بالشفعة للحال
ولكنه يقوم مقام المدعي في إقامة
الحجة فإن أقام البينة على صاحب
اليد أن الدار كانت للمدعي أو حلف
المدعى عليه فنكل فله الشفعة؛
لأنه تبين أن الصلح وقع معاوضة
حقيقة وإن لم تقم له الحجة فلا
شفعة له وكذلك لا تجب الشفعة في
الدار المصالح عنها عن سكوت؛ لأن
المدعي إن كان محقا في دعواه كان
الصلح معاوضة فتجب الشفعة وإن كان
مبطلا لم يكن معاوضة في حق المدعى
عليه فلا تجب الشفعة مع الاحتمال؛
لأن الحكم كما لا يثبت بدون شرطه
لا يثبت مع وجود الشك في شرطه؛
لأن غير الثابت بيقين لا يثبت
بالشك ولو كان بدل الصلح منافع
فلا شفعة في الدار المصالح عنها
سواء كان الصلح عن إنكار أو
إقرار؛ لأن بدل الصلح ليس بعين
مال فلم يكن هذا الصلح معاوضة عين
المال بعين المال وهذا من شرائط
ثبوت الشفعة على ما نذكره إن شاء
الله تعالى. ولو اصطلحا على أن
يأخذ المدعى عليه الدار ويعطيه
دارا أخرى فإن كان الصلح عن إنكار
تجب في كل واحدة من الدارين
الشفعة بقيمة الدار الأخرى؛ لأن
الصلح إذا كان عن إنكار كان الصلح
على معاوضة دار بدار وإن كان عن
إقرار لا يصح الصلح ولا تجب
الشفعة في الدارين جميعا؛ لأنهما
جميعا ملك المدعي ولو اشترى دارا
فسلم الشفيع الشفعة ثم رد المشتري
الدار بخيار رؤية أو شرط قبل
القبض أو بعده فأراد الشفيع أن
يأخذ الدار بالشفعة بسبب الرد لم
يكن له ذلك؛ لأن الرد بخيار
الرؤية والشرط ليس في معنى البيع
ألا ترى أنه يرد من غير رضا
البائع بل هو فسخ محض في حق الكل
ورفع العقد من الأصل كأنه لم يكن
فيعود إليه قديم ملكه فلم يتحقق
معنى البيع فلا تجب الشفعة وكذا
لو رد عليه بعيب قبل القبض أو
بعده بقضاء القاضي؛ لأن الرد
بقضاء القاضي فسخ مطلق وإن كان
بغير قضاء القاضي فللشفيع الشفعة؛
لأن الرد بغير قضاء بيع جديد في
حق ثالث. وكذا الإقالة قبل القبض
أو بعده؛ لأنها بيع جديد في حق
ثالث ولا تجب الشفعة في القسمة
وإن كان فيها معنى المعاوضة؛
لأنها ليست
ج / 5 ص -12-
بمعاوضة محضة بل فيها معنى الإقرار والتمييز ألا ترى أنه يجرى فيها
الجبر فلم تكن معاوضة مطلقة فلا
تجب فيها الشفعة كما إذا صالح عن
دم عمد على دار أنه لا تجب
الشفعة. "ومنها" معاوضة المال
بالمال فلا تجب في معاوضة المال
بغير المال؛ لأن الأخذ بالشفعة
تملك بمثل ما تملك به المشتري فلو
وجبت في معاوضة المال بغير المال
فإما أن يأخذ بما تملك به المشتري
ولا سبيل إليه؛ لأنه تملك بالقصاص
وإما أن يأخذ بقيمة الدار ولا
سبيل إليه أيضا؛ لأن المشتري لم
يتملك به فامتنع التملك أصلا وعلى
هذا يخرج ما إذا صالح عن دم العمد
على دار أنه لا تجب الشفعة؛ لأن
القصاص ليس بمال فلم توجد معاوضة
المال بالمال وكذا لو صالح من
جناية توجب القصاص فيما دون النفس
على دار لما قلنا ولو صالح من
جناية توجب الأرش دون القصاص على
دار تجب فيها الشفعة بالأرش لوجود
معاوضة المال بالمال وكذا لو أعتق
عبدا على دار؛ لأن العتق ليس بمال
فلم توجد معاوضة المال بالمال.
"ومنها" معاوضة عين المال بعين
المال فلا تجب في معاوضة عين
المال بما ليس بعين المال لما
ذكرنا أن التملك بما تملكه به
المشتري غير ممكن والتملك بعين
المال ليس تملكا بما تملك به
المشتري فامتنع أصلا وعلى هذا
يخرج ما إذا جعل الدار مهرا بأن
تزوج على دار أو جعلها بدل الخلع
بأن خالع امرأته على دار أو جعلها
أجرة في الإجارات بأن استأجر
بدار؛ لأن هذا معاوضة المال
بالمنفعة؛ لأن حكم الإجارة ثبت في
المنفعة وكذا حكم النكاح وهو
الصحيح على ما عرف في مسائل
النكاح من الخلاف والمنفعة ليست
بمال وهذا عند أصحابنا رحمهم الله
وقال الشافعي رحمه الله هذا ليس
بشرط وتجب الشفعة في هذه المواضع
فيأخذها الشفيع بقيمة البضع وهي
مهر المثل في النكاح والخلع وفي
الإجارة بأجرة المثل. "وجه" قوله
أن الأخذ بالشفعة تملك بمثل ما
تملك به المشتري عند الإمكان وعند
التعذر تقام قيمته مقامه ألا ترى
أنه لو اشترى دارا بعبد فالشفيع
يأخذها بقيمة العبد لتعذر الأخذ
بمثله إذ لا مثل له فتقوم قيمته
مقامه كذا ههنا والمنافع تتقوم
بالعقد بلا خلاف فتقام قيمة العوض
مقامه. "ولنا" أن المنافع في
الأصل لا قيمة لها على أصول
أصحابنا والأصل فيها أن لا تكون
مضمونة؛ لأن الشيء يضمن بمثله في
الأصل والعرض لا يماثل العين
ولهذا قالوا إنها لا تضمن بالغصب
والإتلاف إلا أنها تتقوم بالعقد
بطريق الضرورة ولحاجة الناس فبقي
ما وراء ذلك على الأصل فلا يظهر
تقومها في حق الشفيع ولو تزوج
امرأة على دار على أن ترد المرأة
عليه ألفا فلا شفعة في شيء من
الدار عند أبي حنيفة رحمه الله
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تجب الشفعة في حصة الألف. "وجه"
قولهما أن الدار بعضها مهر وبعضها
مبيع فلئن تعذر إيجاب الشفعة في
حصة المهر أمكن إيجابها في حصة
المبيع فتجب في حصته. "وجه" قول
أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يمكن
إيجاب الشفعة في حصة المبيع إلا
بعد قسمة الدار وفي قسمتها تقويم
المنافع ولا قيمة لها إلا عند
الضرورة على ما بينا ولأن المهر
في الدار هو الأصل؛ لأنها إنما
دفعت الألف لتسلم لها الدار فإذا
لم تثبت الشفعة في الأصل فكيف تجب
في التابع؟ ولو تزوجها على مهر
مسمى ثم باع داره من المرأة بذلك
المهر أو تزوجها بغير مهر مسمى ثم
باع داره من المرأة بمهر المثل
تجب فيها الشفعة؛ لأن هذا مبيع
مبتدأ فتجب به الشفعة ولو تزوجها
على دار أو تزوجها على غير مسمى
ثم فرض لها داره مهرا لا تجب فيها
الشفعة؛ لأن الغرض منه ليس ببيع
بل هو تقدير المهر فلا تجب
الشفعة. "ومنها" أن يكون المبيع
عقارا وما هو بمعناه فإن كان غير
ذلك فلا شفعة فيه عند عامة
العلماء رضي الله عنهم وقال مالك
رضي الله عنه هذا ليس بشرط وتجب
الشفعة في السفن. "وجه" قوله أن
السفينة أحد المسكنين فتجب فيها
الشفعة كما تجب في المسكن الآخر
وهو العقار ولنا ما روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا شفعة إلا في ربع أو حائط"؛
لأن الشفعة في العقار ما وجبت
لكونه مسكنا وإنما وجبت لخوف أذى
الدخيل وضرره على سبيل الدوام
وذلك لا يتحقق إلا في العقار ولا
تجب إلا في العقار أو ما في معناه
وهو العلو على ما نذكره إن شاء
الله تعالى سواء كان العقار مما
يحتمل القسمة أو لا يحتملها
كالحمام والرحا والبئر والنهر
والعين والدور الصغار عند أصحابنا
رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه
الله لا تجب الشفعة إلا في عقار
يحتمل القسمة والكلام فيه يرجع
إلى أصل تقدم ذكره وهو
ج / 5 ص -13-
أن الشفعة عندنا وجبت معلولة بدفع ضرر الدخيل وأذاه على سبيل اللزوم
وذلك يوجد فيما يحتمل القسمة
وفيما لا يحتمل القسمة على السواء
وعنده وجبت معلولة بدفع ضرر خاص
وهو ضرر القسمة فلا يتعدى إلى ما
لا يحتمل القسمة وهذا مع أنه
تعليل لمنع التعدية قد أبطلناه
فيما تقدم وروي عن النبي عليه
الصلاة والسلام أنه قال: "إنما
الشفعة فيما لم يقسم من غير فصل"
وإذا بيع سفل عقار دون علوه أو
علوه دون سفله أو بيعا جميعا وجبت
الشفعة أما السفل فلا شك فيه؛
لأنه عقار وأما العلو بدون السفل
فتجب فيه الشفعة إذا كان العلو
قائما استحسانا؛ لأن حق البناء
على السفل متعلق به على سبيل
التأبيد فصار بمعنى العقار فتجب
فيه الشفعة ولو انهدم العلو ثم
بيع السفل وجبت الشفعة لصاحب
العلو عند أبي يوسف وعند محمد لا
شفعة له ذكره محمد في الزيادات.
"وجه" قول أبي يوسف أن البناء وإن
بطل فحق البناء قائم وأنه حق
متعلق بالبقعة على سبيل الاستقرار
والتأبيد فكان بمنزلة البقعة.
"وجه" قول محمد أن الشفعة إنما
تجب إما بالشركة في الملك أو
الحقوق أو بجوار الملك ولم يوجد
شيء من ذلك أما الشركة فظاهر
الانتفاء وكذا الجوار؛ لأن الجوار
كان بالبناء وقد زال البناء فلا
تجب الشفعة وذكر في الزيادات فيمن
باع علوا فاحترق قبل التسليم بطل
البيع هكذا ذكر ولم يحك خلافا من
مشايخنا رحمهم الله من قال هذا
قوله. "فأما" على أصل أبي يوسف
ينبغي أن لا يبطل؛ لأنه يجعل في
حق البناء بمنزلة العرصة فصار
كأنه باع العرصة مع البناء فاحترق
البناء. "ومنها" زوال ملك البائع
عن المبيع؛ لأن الشفيع يملك
المبيع على المشتري بمثل ما ملك
به فإذا لم يزل ملك البائع استحال
تملك المشتري فاستحال تملك الشفيع
فلا تجب الشفعة في المبيع بشرط
خيار البائع؛ لأن خياره يمنع زوال
المبيع عن ملكه حتى لو أسقط خياره
وجبت الشفعة؛ لأنه تبين أن المبيع
زال عن ملكه من حين وجود المبيع
ولو كان الخيار للمشتري تجب
الشفعة؛ لأن خياره لا يمنع زوال
المبيع عن ملك البائع وحق الشفعة
يقف عليه ولو كان الخيار لهما لم
تجب الشفعة لأجل خيار البائع ولو
شرط البائع الخيار للشفيع فلا
شفعة له؛ لأن شرط الخيار للشفيع
شرط لنفسه وأنه يمنع وجوب الشفعة
فإن أجاز الشفيع البيع جاز البيع
ولا شفعة له؛ لأن البيع تم من
جهته فصار كأنه باع ابتداء وإن
فسخ البيع فلا شفعة له؛ لأن ملك
البائع لم يزل والحيلة للشفيع في
ذلك أن لا يفسخ ولا يجيز حتى يجيز
البائع أو يجوز هو بمضي المدة
فتكون له الشفعة وخيار العيب
والرؤية لا يمنع وجوب الشفعة؛
لأنه لا يمنع زوال ملك البائع.
"ومنها" زوال حق البائع فلا تجب
الشفعة في المشترى شراء فاسدا؛؛
لأن للبائع حق النقض والرد إلى
ملكه ردا للفساد، وفي إيجاب
الشفعة تقرير الفساد حتى لو سقط
حق الفسخ بأسباب مسقطة للفسخ
كالزيادة وزوال ملك المشتري ونحو
ذلك كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة؛
لأن المانع قيام الفسخ وقد زال
كما لو باع بشرط الخيار له ثم
أسقط الخيار وجبت الشفعة لزوال
المانع من الوجوب وهو الخيار فكذا
هذا ولو باعها المشتري شراء فاسدا
بيعا صحيحا فجاء الشفيع فهو
بالخيار؛ إن شاء أخذها بالبيع
الأول وإن شاء أخذها بالبيع
الثاني؛ لأن حق الشفيع ثابت عند
كل واحد من البيعين لوجود سبب
الثبوت عند كل واحد منهما وشرائطه
فكان له الخيار.غير أنه إن أخذ
بالبيع الثاني أخذ بالثمن وإن أخذ
بالبيع الأول أخذ بقيمة المبيع
يوم القبض؛ لأن الشفيع يتملك بما
تملك به المشتري، والمشتري الثاني
تملك بالثمن؛ لأن البيع الثاني
صحيح، والبيع الصحيح يفيد الملك
بالمسمى وهو الثمن، والمشتري
الأول تملك المبيع بقيمته؛ لأن
البيع الفاسد يفيد الملك بقيمة
المبيع لا بالثمن وإنما تعتبر
قيمته يوم القبض؛ لأن المبيع بيعا
فاسدا مضمون بالقبض كالمغصوب؛
وعلى هذا الأصل يخرج قول أبي
حنيفة رضي الله عنه فيمن اشترى
أرضا شراء فاسدا فبنى عليها أنه
يثبت للشفيع حق الشفعة؛ لأن حق
البائع في القبض قد زال بالبناء
وبطل فزال المانع من وجوب الشفعة.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
لا يثبت؛ لأن حق البائع لم يبطل
بالبناء فكان المانع قائما، وعلى
هذا يخرج قول أبي حنيفة رحمه الله
في المريض إذا باع الدار من وارثه
بمثل قيمتها وشفيعها أجنبي أنه لا
شفعة له؛ لأن بيع المريض مرض
الموت عينا من أعيان ماله لوارثه
فاسد عنده إلا إذا أجاز الورثة،
وإن كان بمثل القيمة ولا شفعة له
في البيع الفاسد إلا إذا أجاز
فتجب الشفعة. ولو باعها من أجنبي
بمثل قيمتها والوارث شفيعها لا
شفعة للوارث عنده
ج / 5 ص -14-
أيضا؛ لأنه يصير كأنه باعها من الوارث ابتداء لتحول ملك الصفقة إليه
أو لتقدير صفقة أخرى مع الوارث
وذلك فاسد عنده، وعندهما تجب
الشفعة للوارث؛ لأن العقد جائز،
هذا إذا باع بمثل القيمة فأما إذا
باع وحابى بأن باعها بألفين
وقيمتها ثلاثة آلاف؛ فإن باعها من
الوارث وشفيعها أجنبي فلا شك أنه
لا شفعة عند أبي حنيفة عليه
الرحمة؛ لأن بيعها من الوارث بمثل
القيمة فاسد عنده فبالمحاباة أولى
ولا شفعة في البيع الفاسد،
وعندهما البيع جائز ولكن يدفع قدر
المحاباة فتجب الشفعة. ولو باع من
أجنبي فكذلك لا شفعة للوارث عند
أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الشفيع
يأخذها بتلك الصفقة بالتحول إليه
أو بصفقة مبتدأة مقدرة بينهما
فكان بيعا من الوارث بالمحاباة،
وسواء أجازت الورثة أو لم يجيزوا؛
لأن الإجازة محلها العقد الموقوف،
والشراء وقع نافذا من المشتري؛
لأن المحاباة قدر الثلث وهي نافذة
من الأجنبي فلغت الإجازة في حق
المشتري فتلغو في حق الشفيع أيضا.
وأما عندهما فقد اختلفت الروايات
فيه؛ في رواية كتاب الشفعة من
الأصل والجامع لا شفعة له، وفي
رواية كتاب الوصايا له الشفعة،
وهي من مسائل الجامع تعرف ثمة إن
شاء الله تعالى. "ومنها" ملك
الشفيع وقت الشراء في الدار التي
يأخذها بالشفعة؛ لأن سبب
الاستحقاق جوار الملك، والسبب
إنما ينعقد سببا عند وجود الشرط،
والانعقاد أمر زائد على الوجود
فإذا لم يوجد عند البيع كيف ينعقد
سببا؟ فلا شفعة له بدار يسكنها
بالإجارة والإعارة، ولا بدار
باعها قبل الشراء، ولا بدار جعلها
مسجدا، ولا بدار جعلها وقفا، وقضى
القاضي بجوازه أو لم يقض على قول
من يجيز الوقف؛ لأنه زال ملكه
عنها لا إلى أحد. "ومنها" ظهور
ملكه للمشتري عند الإنكار بحجة
مطلقة؛ وهي البينة وهذا في
الحقيقة شرط ظهور الحق لا شرط
ثبوته، وعلى هذا يخرج ما إذا أنكر
المشتري كون الدار التي يشفع بها
مملوكة للشفيع أنه ليس له أن يأخذ
بالشفعة حتى يقيم البينة أنها
داره، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد
وإحدى الروايتين عن أبي يوسف.
وروي عنه رواية أخرى أن هذا ليس
بشرط، والقول قول الشفيع ولا
يحتاج إلى إقامة البينة وهو قول
زفر والشافعي رحمهما الله. "وجه"
هذه الرواية أن الملك كان ثابتا
للشفيع في هذه الدار لوجود سبب
الثبوت، وما ثبت يبقى إلى أن يوجد
المزيل ولأن اليد دليل الملك، ألا
ترى أن من رأى شيئا في يد إنسان
حل له أن يشهد له بالملك دل أن
اليد دليل الملك من حيث الظاهر
فكان الملك ثابتا للشفيع ظاهرا.
"وجه" ظاهر الرواية أن سبب ثبوت
الحكم لا يوجب بقاءه وإنما البقاء
بحكم استصحاب الحال لا يصلح
للإلزام على الغير؛ كحياة المفقود
وحرية الشهود ونحو ذلك، والحاجة
ههنا إلى إلزام المشتري فلا يظهر
الملك في حق المشتري. وقوله: اليد
دليل الملك قلنا: إن سلم ذلك
فالثابت باليد ملك يظهر في حق
الدفع لا في حق الاستحقاق على
الغير، والحاجة ههنا إلى
الاستحقاق على المشتري فلا يكفي
الملك الثابت بظاهر اليد، وذكر عن
أبي يوسف فيمن ادعى على آخر دارا
وأقام البينة على أن هذه الدار
كانت في يد أبيه مات وهي في يده
أنه يقضى له بالدار فإن جاء يطلب
بها شفعة دار أخرى إلى جنبها لم
يقض له بالشفعة حتى يقيم البينة
على الملك لم يجعل القضاء باليد
قضاء بالملك على الإطلاق حيث لم
يوجب به الشفعة، وعلى هذا يخرج ما
ذكر عن محمد أنه قال في حائط بين
دارين لكل واحد منهما عليه خشبة
ولا يعلم أن الحائط بينهما إلا
بالخشبة فبيعت إحدى الدارين أنه
إن أقام الآخر بينة أن الحائط
بينهما فهو أحق من الجار؛ لأنه
شريك، وإن لم يقم بينة لم أجعله
شريكا؛ لأن ملك الحائط بينهما لم
يثبت إلا بظاهر الاستعمال
بالخشبة، والملك الثابت بمثل هذا
الظاهر لا يكفي لاستحقاق الشفعة،
قال: ولو أقر البائع قبل البيع أن
الحائط بينهما لم أجعل له بهذا
شفعة بمنزلة دار في يد رجل أقر
أنها لآخر فبيعت إلى جنبها دار
فطلب المقر له الشفعة فلا شفعة له
حتى يقيم البينة أن الدار داره؛
لأن الملك في الموضعين جميعا ثبت
بالإقرار وأنه حجة قاصرة، فيظهر
في حق المقر في المسألة الأولى،
وفي المسألة الثانية يظهر في حق
المقر له خاصة ولا يتعدى إلى
المشتري. وذكر في المنتقى عن أبي
يوسف في رجل في يده دار عرف
القاضي أنها له، فبيعت دار إلى
جنب داره فقال الشفيع بعد بيع
الدار التي فيها الشفعة: داري هذه
لفلان وقد بعتها منه منذ سنة،
وقال: هذا في وقت يقدر على الأخذ
بالشفعة، أو طلبها لنفسه، قال: لا
شفعة له في الدار حتى يقيم المقر
له بينة على المشتري. "أما" المقر
فلا شك أنه لا شفعة له
ج / 5 ص -15-
لأنه لا ملك له وقت البيع في الدار بإقراره بالبيع قبله. "وأما"
المقر له فلما ذكرنا أن الملك
الثابت بالإقرار ليس بثابت بحجة
مطلقة لكون الإقرار حجة قاصرة فلا
يظهر في حق الاستحقاق على
المشتري. وذكر الخصاف في إسقاط
الشفعة أن البائع إذا أقر بسهم من
الدار للمشتري ثم باع منه بقية
الدار أن الجار لا يستحق الشفعة؛
لأن المشتري صار شريك البائع في
ذلك السهم، والشريك مقدم على
الجار، ومن أصحابنا من خطأ الخصاف
في هذا وقال: تجب الشفعة للجار؛
لأن شركة المشتري لم تثبت إلا
بالإقرار من البائع، والإقرار حجة
قاصرة فلا يظهر في حق الجار فكان
على شفعته، وكان يستدل بمسألة
الحائط والله سبحانه وتعالى أعلم.
"ومنها" أن لا تكون الدار
المشفوعة ملكا للشفيع وقت البيع،
فإن كانت لم تجب الشفعة لاستحالة
تملك الإنسان مال نفسه، وعلى هذا
يخرج ما إذا باع المأذون دارا
والمولى شفيعها أنه إن لم يكن
عليه دين فلا شفعة للمولى؛ لأنها
ملك المولى، والعبد كالوكيل عنه
بالبيع فلا تثبت له الشفعة. وإن
كان عليه دين فله الشفعة؛ لأن
المولى لا يملك كسب عبده المأذون
المديون فكان بمنزلة الأجنبي وكذا
إذا باع المولى دارا والمأذون
شفيعها وعليه دين فله الشفعة؛ لأن
الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء من
المشتري، وشراء كل واحد منهما من
صاحبه جائز، وإن لم يكن عليه دين
فلا يتصور الأخذ بالشفعة؛ لأن
الأخذ يقع تملكا للمولى، وتملك
المولى محال. ولو اشترى المأذون
دارا والمولى شفيعها؛ فإن كان
عليه دين فلمولاه الشفعة؛ لأن
الملك بالشراء لم يقع للمولى وإن
لم يكن عليه دين فلا يستحق الأخذ
بالشفعة؛ لأن الملك يقع له وكذا
إذا اشترى المولى دارا والمأذون
شفيعها فإن كان عليه دين فله
الشفعة وإن لم يكن فلا يتصور
الأخذ بالشفعة لما قلنا. "وأما"
المكاتب إذا باع أو اشترى دارا
والمولى شفيعها فله أن يأخذ
بالشفعة سواء كان عليه دين أو لم
يكن؛ لأنه فيما يبيع ويشتري مع
المولى بمنزلة الأجنبي؛ لأنه حر
يدا ألا ترى أنه لا سبيل لمولاه
على ما في يده فكان في حق ما في
يده ملحقا بسائر الأجانب، والله
سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" عدم
الرضا من الشفيع بالبيع وحكمه،
فإن رضي بالبيع أو بحكمه فلا شفعة
له؛ لأن حق الشفعة إنما يثبت له
دفعا لضرر المشتري، فإذا رضي
بالشراء أو بحكمه فقد رضي بضرر
جواره فلا يستحق الدفع بالشفعة،
ثم الرضا قد يكون صريحا وقد يكون
دلالة. "أما" الصريح فلا يشكل.
"وأما" الدلالة فنحو أن يبيع
الشفيع الدار المشفوع فيها بأن
وكله صاحب الدار ببيعها فباعها
فلا شفعة له؛ لأن بيع الشفيع
دلالة الرضا بالعقد، وثبوت حكمه
وهو الملك للمشتري، وكذلك المضارب
إذا باع دارا من مال المضاربة ورب
المال شفيعها بدار له أخرى فلا
شفعة لرب الدار سواء كان في الدار
ربح أو لم يكن. "أما" إذا لم يكن
فيها ربح؛ فلأن المضارب وكيله
بالبيع والرضا بالتوكيل بالبيع
رضا بالبيع وحكمه ضرورة وأنه يمنع
وجوب الشفعة وإن كان فيها ربح.
"أما" في حصة رب المال فلما ذكرنا
من وجود دلالة الرضا بالبيع في
حصته. "وأما" في حصة المضارب؛
فلأنه متى امتنع الوجوب في حصة رب
المال فلو ثبت في حصة المضارب
لأدى إلى تفريق الصفقة على
المشتري وأنه لا يجوز، ولأن
المشتري صار شريكا للمضارب،
والشريك مقدم على الجار، ولو كان
الشفيع وكيلا بشراء الدار المشفوع
فيها فاشترى لموكله فللشفيع
الشفعة؛ لأن الشراء لغيره لا يكون
فوق الشراء لنفسه، والشراء لنفسه
لا يمنع وجوب الشفعة حتى لو اشترى
الدار المشفوع فيها ثم حضر شفيع
آخر كان له أن يأخذ النصف
بالشفعة، فالشراء لغيره لأن لا
يمنع الوجوب أولى ولو باع رب
المال دارا لنفسه والمضارب شفيعها
بدار من المضاربة فإن كان في يده
من مال المضاربة وفاء بثمن الدار
لم تجب الشفعة؛ لأن الأخذ إذ ذاك
يقع لرب المال وقد وجد منه دلالة
الرضا بثبوت الملك للمشتري وأنه
يمنع وجوب الشفعة، ولو لم يكن في
يده وفاء؛ فإن لم يكن في الدار
ربح فلا شفعة أيضا؛ لأن الأخذ يقع
لرب المال، وإن كان فيها ربح
فللمضارب أن يأخذها بالشفعة
لنفسه؛ لأن له نصيبا في ذلك ولم
يوجد منه الرضا بسقوط حقه. ولو
اشترى أجنبي دارا إلى جنب دار
المضاربة؛ فإن كان في يد المضارب
وفاء بالثمن فله أن يأخذها
بالشفعة للمضاربة وله أن يسلم
الشفعة؛ لأن حق الأخذ له فيملك
تسليمه، وإن لم يكن في يده وفاء؛
فإن كان في الدار ربح فالشفعة لرب
المال والمضارب جميعا؛ لأن الدار
مشتركة بينهما، وإن لم يكن فيها
ربح فالشفعة لرب
ج / 5 ص -16-
المال خاصة؛ لأن الدار ملكه خاصة والشفعة من حقوق الملك. وعلى هذا
يخرج ما إذا باع الدار على أن
يضمن له الشفيع الثمن من المشتري
فضمن وهو حاضر حتى جاز البيع أنه
لا شفعة للشفيع؛ لأن ضمان الثمن
من المشتري دلالة الرضا بالشراء
وحكمه؛ لأن تمام العقد وإبرامه
يتعلق به فكان دليل الرضا وكذا لو
اشترى المشتري الدار على أن يضمن
الشفيع الدرك عن البائع فضمن وهو
حاضر حتى جاز البيع أنه لا شفعة
للشفيع؛ لأنه لما ضمن الدرك فقد
صار راضيا بالعقد وحكمه، وهو
الملك للمشتري فلم تجب الشفعة،
وأما إسلام الشفيع فليس بشرط
لوجوب الشفعة فتجب لأهل الذمة
فيما بينهم، وللذمي على المسلم؛
لأن هذا حق التملك على المشتري
بمنزلة الشراء منه، والكافر
والمسلم في ذلك سواء؛ لأنه من
الأمور الدنيوية. وروي عن شريح
أنه قضى بالشفعة لذمي على مسلم
فكتب إلى سيدنا عمر رضي الله
تعالى عنه فأجازه وكان ذلك بمحضر
من الصحابة الكرام رضي الله تعالى
عنهم فيكون ذلك إجماعا. ولو اشترى
ذمي من ذمي دارا بخمر أو خنزير
وشفيعها ذمي أو مسلم وجبت الشفعة
عند أصحابنا رحمهم الله، وقال
الشافعي رحمه الله: لا تجب؛ بناء
على أن ذلك ليس بمال عنده أصلا
حتى لم يكن مضمونا بالإتلاف أصلا،
ومن شرط وجوب الشفعة معاوضة المال
بالمال، وعندنا هو مال متقوم في
حق أهل الذمة بمنزلة الخل والشاة
لنا، ثم إذا وجبت الشفعة فإن كان
الشفيع ذميا أخذ الدار بمثل الخمر
وبقيمة الخنزير؛ لأن الخمر عندهم
من ذوات الأمثال كالخل، والخنزير
ليس من ذوات الأمثال بل من ذوات
القيم كالشاة، وإن كان مسلما
أخذها بقيمة الخمر والخنزير؛ لأن
الأخذ تملك والمسلم ليس من أهل
تملك الخمر والخنزير ومتى تعذر
عليه التملك بالعين تملك بالقيمة؛
كما لو كان الشراء بالعرض أنه
يأخذها بقيمة العرض كذا هذا. وكذا
الحرية والذكورة والعقل والبلوغ
والعدالة فتجب الشفعة للمأذون
والمكاتب ومعتق البعض والنسوان
والصبيان والمجانين وأهل البغي؛
لأنه حق مبني على الملك، وهؤلاء
من أهل ثبوت الملك لهم إلا أن
الخصم فيما يجب للصبي أو عليه
وليه الذي يتصرف في ماله من الأب
ووصيه، والجد لأب ووصيه، والقاضي
ووصي القاضي، فإذا بيعت دار
والصبي شفيعها كان لوليه أن يطالب
بالشفعة ويأخذ له؛ لأن الأخذ
بالشفعة بمنزلة الشراء من
المشتري، والولي يملك ذلك كما
يملك الشراء فإن سلم الشفعة صح
التسليم ولا شفعة للصبي إذا بلغ
عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله
عنهما، وعند محمد وزفر رحمهما
الله لا يصح تسليمه والصبي على
شفعته إذا بلغ. "وجه" قوله أن هذا
حق ثبت للصبي نظرا فإبطاله لا
يكون نظرا في حقه، ومثل هذا لا
يدخل تحت ولاية الولي كالعفو عن
قصاص وجب للصبي على إنسان
والإبراء عن كفالته بنفس أو مال
ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله ما ذكرنا أن الأخذ بالشفعة
بمنزلة الشراء فتسليمه امتناع من
الشراء، وللولي ولاية الامتناع من
الشراء، ألا ترى أن من قال: بعت
هذا الشيء لفلان الصبي لا يلزم
الولي القبول؛ وهذا لأن الولي
يتصرف في مال الصبي على وجه
المصلحة، والمصلحة قد تكون في
الشراء وقد تكون في تركه والولي
أعلم بذلك فيفوض إليه، وعلى هذا
الخلاف إذا سكت الولي أو الوصي عن
الطلب أنه يبطل حق الشفعة عند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند
محمد وزفر رحمهما الله لا يبطل.
وذكر في نوادر أبي يوسف رحمه الله
فيمن اشترى دارا وابنه الصغير
شفيعها كان له أن يأخذ لابنه
الصغير بالشفعة، فإن لم يأخذ وسلم
لنفسه جاز؛ لأن الشراء لا ينافي
الأخذ بالشفعة؛ لأن كل واحد منهما
تملك بعوض ولهذا لو كان وكيلا
بالشراء لغيره كان له أن يأخذ
بالشفعة لنفسه فلأن يملك الأخذ
لابنه أولى، وإذا ملك الأخذ ملك
التسليم؛ لأنه امتناع عن الأخذ،
ولو باع دارا لنفسه وابنه شفيعها
لم يكن له أن يأخذ بالشفعة؛ لأن
الأخذ بالشفعة تملك والبيع تمليك
فينافي التملك، ولهذا لا يملك
الوكيل بالبيع لغيره أن يأخذ
بالشفعة وإذا لم يملك الأخذ لم
يملك التسليم فلم يصح تسليمه
وتوقف إلى حين بلوغ الصبي كما إذا
لم يكن له ولي. وأما الوصي إذا
اشترى دارا لنفسه والصبي شفيعها
لم يكن له أن يأخذ بالشفعة للصغير
ولو سلم الشفعة؛ فالصغير على
شفعته وكذا إذا باع؛ لأنه ملك
الدار بالشراء لنفسه فبالأخذ
بالشفعة للصغير يريد تمليك ما
ملكه من الصغير. والوصي لا يملك
تمليك مال الصغير إلا إذا كان فيه
نفع ظاهر له، وإذا لم يملك الأخذ
بالشفعة لم يكن سكوته عن الطلب
تسليما للشفعة فبقي حق الصغير
ج / 5 ص -17-
في الشفعة يأخذه إذا بلغ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل" وأما بيان ما يتأكد به حق الشفعة ويستقر فنقول وبالله تعالى
التوفيق أنه يتأكد ويستقر بالطلب،
والكلام في الطلب في مواضع في
بيان وقت الطلب وفي بيان شروطه
وفي بيان كيفيته وفي بيان حكمه.
"أما" وقته فالطلب نوعان: طلب
مواثبة وطلب تقرير. "أما" طلب
المواثبة فوقته وقت علم الشفيع
بالبيع حتى لو سكت عن الطلب بعد
البيع قبل العلم به لم تبطل
شفعته؛ لأنه ترك الطلب قبل وقت
الطلب فلا يضره ثم علمه بالبيع قد
يحصل بسماعه بالبيع بنفسه وقد
يحصل بإخبار غيره، لكن هل يشترط
فيه العدد والعدالة؟ اختلف
أصحابنا رحمهم الله فيه فقال أبو
حنيفة: رضي الله عنه يشترط أحد
هذين إما العدد في المخبر رجلان
أو رجل وامرأتان وإما العدالة،
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يشترط
فيه العدد ولا العدالة حتى لو
أخبره واحد بالشفعة عدلا كان أو
فاسقا، حرا أو عبدا مأذونا، بالغا
أو صبيا، ذكرا أو أنثى، فسكت ولم
يطلب على فور الخبر على رواية
الأصل أو لم يطلب في المجلس على
رواية محمد بطلت شفعته عندهما إذا
ظهر كون الخبر صدقا، وهذا على
اختلافهم عن عزل الوكيل وعن جناية
العبد وعن عجز المولى على ما نذكر
في كتاب الوكالة، فهما يقولان:
العدد والعدالة ساقطا الاعتبار
شرعا في المعاملات، وهذا من باب
المعاملة فلا يشترط فيه العدد ولا
العدالة. ولأبي حنيفة رضي الله
عنه أن هذا إخبار فيه معنى
الإلزام ألا ترى أن حق الشفيع
يبطل لو لم يطلب بعد الخبر فأشبه
الشهادة فيعتبر فيه أحد شرطي
الشهادة وهو العدد أو العدالة،
ولو أخبر المشتري الشفيع بنفسه
فقال قد اشتريته فلم يطلب شفعته
وإن لم يكن المشتري عدلا كذا روي
عن أبي حنيفة؛ لأن المشتري خصم،
وعدالة الخصم ليست بشرط في
الخصومات. وقالوا في المخيرة إذا
بلغها التخيير أنه لا يشترط في
المخبر العدد ولا العدالة، والفرق
لأبي حنيفة رحمه الله أن الإخبار
عن التخيير ليس في معنى الشهادة؛
لخلوه عن إلزام حكم فلم يعتبر فيه
أحد شرطي الشهادة، بخلاف الإخبار
عن البيع في باب الشفعة على ما
بينا، والله سبحانه وتعالى أعلم
وأما شرطه فهو أن يكون على فور
العلم بالبيع إذا كان قادرا عليه،
حتى لو علم بالبيع وسكت عن الطلب
مع القدرة عليه بطل حق الشفعة في
رواية الأصل وروي عن محمد رحمه
الله أنه على المجلس كخيار
المخيرة وخيار القبول ما لم يقم
عن المجلس أو يتشاغل عن الطلب
بعمل آخر لا تبطل شفعته وله أن
يطلب، وذكر الكرخي رحمه الله أن
هذا أصح الروايتين. "وجه" هذه
الرواية أن حق الشفعة ثبت نظرا
للشفيع دفعا للضرر عنه فيحتاج إلى
التأمل أن هذه الدار هل تصلح بمثل
هذا الثمن؟ وأنه هل يتضرر بجوار
هذا المشتري فيأخذ بالشفعة؟ أو لا
يتضرر فيترك؟ وهذا لا يصح بدون
العلم بالبيع؟ والحاجة إلى التأمل
شرط المجلس في جانب المخيرة
والقبول كذا ههنا. "وجه" رواية
الأصل ما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "الشفعة
لمن واثبها" وروي عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال:
"إنما الشفعة كنشط عقال إن قيد مكانه ثبت وإلا ذهب" وفي بعض الروايات
"إنما الشفعة كحل عقال إن قيد
مكانه ثبت وإلا فاللوم عليه" ولأنه حق ضعيف متزلزل لثبوته على خلاف القياس؛ إذ الأخذ بالشفعة
تملك مال معصوم بغير إذن مالكه؛
لخوف ضرر يحتمل الوجود والعدم فلا
يستقر إلا بالطلب على المواثبة.
"وأما" الإشهاد فليس بشرط لصحة
الطلب حتى لو طلب على المواثبة
ولم يشهد صح طلبه فيما بينه وبين
الله سبحانه وتعالى جلت عظمته
وإنما الإشهاد للإظهار عند
الخصومة على تقدير الإنكار؛ لأن
من الجائز أن المشتري لا يصدق
الشفيع في الطلب أو لا يصدق في
الفور ويكون القول قوله، فيحتاج
إلى الإظهار بالبينة عند القاضي
على تقدير عدم التصديق؛ لأنه شرط
صحة الطلب. ونظيره من أخذ لقطة
ليردها على صاحبها فهلكت في يده
لا ضمان عليه فيما بينه وبين الله
تبارك وتعالى، وإنما الحاجة إلى
الإشهاد عند أبي حنيفة رضي الله
عنه لتوثيق الأخذ للرد على تقدير
الإنكار؛ إلا أنه شرط البراءة عن
الضمان حتى لو صدقه صاحبها في ذلك
ثم طلب منه الضمان ليس له ذلك
بالإجماع كذا هذا وإذا طلب على
المواثبة؛ فإن كان هناك شهود
أشهدهم وتوثق الطلب، وإن لم يكن
بحضرته من يشهده فبعث في طلب شهود
لم تبطل شفعته لما قلنا أن
الإشهاد لإظهار الطلب عند الحاجة،
لكن يصح الإشهاد على الطلب على
رواية الفور
ج / 5 ص -18-
فبطلت الشهادة على الفور ضرورة. وعلى رواية المجلس إذا قال وهو في
المجلس: ادعوا لي شهودا أشهدهم
فجاء الشهود فأشهدهم صح وتوثق
الطلب؛ لأن المجلس قائم، ولو أخبر
ببيع الدار فقال: الحمد لله قد
ادعيت شفعتها، أو سبحان الله قد
ادعيت شفعتها فهو على شفعته على
رواية محمد؛ لأن هذا يذكر لافتتاح
الكلام تبركا به فلا يكون دليل
الإعراض عن الطلب. وكذا إذا سلم
أو شمت العاطس؛ لأن ذلك ليس بعمل
يدل على الإعراض؛ ولهذا لم يبطل
به خيار المخيرة، وكذلك إذا قال
من ابتاعها وبكم بيعت؟ لأن
الإنسان قد يرضى بمجاورة إنسان
دون غيره وقد تصلح له الدار بثمن
دون غيره فكان السؤال عن حال
الجار ومقدار الثمن من مقدمات
الطلب لا إعراضا عنه، وهذا كله
على رواية اعتبار المجلس، فأما
على رواية اعتبار الفور تبطل
شفعته في هذه المواضع لانقطاع
الفور من غير ضرورة، ولو أخبر
بالبيع وهو في الصلاة فمضى فيها
فالشفيع لا يخلو من أن يكون في
الفرض أو في الواجب أو في السنة
أو في النفل المطلق فإن كان في
الفرض لا تبطل شفعته؛ لأن قطعها
حرام فكان معذورا في ترك الطلب،
وكذا إذا كان في الواجب؛ لأن
الواجب ملحق بالفرض في حق العمل،
وإن كان في السنة فكذلك؛ لأن هذه
السنن الراتبة في معنى الواجب
سواء كانت السنة ركعتين أو أربعا
كالأربع قبل الظهر حتى لو أخبر
بعدما صلى ركعتين فوصل بهما الشفع
الثاني لم تبطل شفعته؛ لأنها
بمنزلة صلاة واحدة واجبة. وقال
محمد: إذا بلغ الشفيع البيع فصلى
بعد الجمعة أربعا لم تبطل شفعته،
وإن صلى أكثر من ذلك بطلت شفعته؛
لأن الأربع بتسليمة واحدة سنة
فصار كالركعتين والزيادة عليها
ليست بسنة، وذكر محمد رحمه الله
في المخيرة إذا كانت في صلاة
النفل فزادت على ركعتين بطل
خيارها؛ لأن كل شفع من التطوع
صلاة على حدة، والغائب إذا علم
بالشفعة فهو مثل الحاضر في الطلب
والإشهاد؛ لأنه قادر على الطلب
الذي يتأكد به الحق وعلى الإشهاد
الذي يتوثق به الطلب. ولو وكل
الغائب رجلا ليأخذ له بالشفعة
فذلك طلب منه؛ لأن في التوكيل
طلبا وزيادة، وإذا طلب الغائب على
المواثبة وأشهد فله بعد ذلك من
الأجل مقدار المسافة التي يأتي
إلى حيث البائع أو المشتري أو
الدار لا زيادة عليه؛ لأن تأجيل
هذا القدر للضرورة ولا ضرورة
للزيادة. "أما" طلب التقرير فشرطه
أن يكون على فور الطلب الأول
والإشهاد عليه، فإذا طلب على
المواثبة وأشهد على فوره ذلك شخصا
إلى حيث البائع أو المشتري أو
الدار إذا كان قادرا عليه، وتفصيل
الكلام فيه أن المبيع إما أن يكون
في يد البائع وإما أن يكون في يد
المشتري، فإن كان في يد البائع
فالشفيع بالخيار إن شاء طلب من
البائع وإن شاء طلب من المشتري
وإن شاء طلب عند الدار. "أما"
الطلب من البائع والمشتري؛ فلأن
كل واحد منهما خصم البائع باليد
والمشتري بالملك، فكان كل واحد
منهما خصما فصح الطلب من كل واحد
منهما. "وأما" الطلب عند الدار؛
فلأن الحق متعلق بها فإن سكت عن
الطلب من أحد المتبايعين وعند
الدار مع القدرة عليه بطلت شفعته؛
لأنه فرط في الطلب. وإن كان في يد
المشتري فإن شاء طلب من المشتري
وإن شاء عند الدار، ولا يطلب من
البائع؛ لأنه خرج من أن يكون خصما
لزوال يده ولا ملك له فصار بمنزلة
الأجنبي، ولو لم يطلب من المشتري
ولا عند الدار وشخص إلى البائع
للطلب منه والإشهاد بطلت شفعته؛
لوجود دليل الإعراض، وفي الحقيقة
لوجود دليل الرضا ولو تعاقد
البائع والمشتري في غير الموضع
الذي فيه الدار فليس على الشفيع
أن يأتيهما ولكنه يطلب عند الدار
ويشهد عليه؛ لأن الشفيع إذا كان
بجنب الدار والعاقدان غائبان
تعينت الدار للطلب عندها
والإشهاد، فإن لم يطلب عندها وشخص
إلى العاقدين بطلت شفعته لوجود
الإعراض عن الطلب، هذا إذا كان
قادرا على الطلب من المشتري أو
البائع أو عند الدار، فأما إذا
كان هناك حائل بأن كان بينهما نهر
مخوف أو أرض مسبعة أو غير ذلك من
الموانع لا تبطل شفعته بترك
المواثبة إلى أن يزول الحائل.
"وأما" الإشهاد على هذا الطلب
فليس بشرط لصحته كما ليس بشرط
لصحة طلب المواثبة، وإنما هو
لتوثيقه على تقدير الإنكار كما في
الطلب الأول، وكذا تسمية المبيع
وتحديده ليس بشرط لصحة الطلب
والإشهاد في ظاهر الرواية. وروي
عن أبي يوسف أنه شرط؛ لأن الطلب
لا يصح إلا بعد العلم، والعقار لا
يصير معلوما إلا بالتحديد فلا يصح
الطلب والإشهاد بدونه. "وأما"
بيان كيفية الطلب فقد اختلف فيه
ج / 5 ص -19-
عبارات المشايخ؛ عن محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله أن الشفيع يقول
طلبت الشفعة وأطلبها وأنا طالبها،
وعن محمد بن سلمة رضي الله عنه
أنه كان يقول طلبت الشفعة فحسب،
وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني
رحمه الله أنه لا يراعى فيه ألفاظ
الطلب بل لو أتى بلفظ يدل على
الطلب أي لفظ كان يكفي، نحو أن
يقول ادعيت الشفعة أو سألت الشفعة
ونحو ذلك مما يدل على الطلب، وهو
الصحيح؛ لأن الحاجة إلى الطلب
ومعنى الطلب يتأدى بكل لفظ يدل
عليه سواء كان بلفظ الطلب أو
بغيره. "وأما" حكم الطلب فهو
استقرار الحق فالشفيع إذا أتى
بطلبين صحيحين استقر الحق على وجه
لا يبطل بتأخير المطالبة بالأخذ
بالشفعة أبدا حتى يسقطها بلسانه،
وهو قول أبي حنيفة وإحدى
الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية
أخرى قال: إذا ترك المخاصمة إلى
القاضي في زمان يقدر فيه على
المخاصمة بطلت شفعته، ولم يوقت
فيه وقتا. وروي عنه أنه قدره بما
يراه القاضي، وقال محمد وزفر
رحمهما الله: إذا مضى شهر بعد
الطلب ولم يطلب من غير عذر بطلت
شفعته، وهو رواية عن أبي يوسف
أيضا. "وجه" قول محمد وزفر أن حق
الشفعة ثبت لدفع الضرر عن الشفيع،
ولا يجوز دفع الضرر عن الإنسان
على وجه يتضمن الإضرار بغيره، وفي
إبقاء هذا الحق بعد تأخير الخصومة
أبدا إضرار بالمشتري؛ لأنه لا
يبني ولا يغرس خوفا من النقض
والقلع فيتضرر به فلا بد من
التقدير بزمان لئلا يتضرر به،
فقدرنا بالشهر؛ لأنه أدنى الآجال،
فإذا مضى شهر ولم يطلب من غير عذر
فقد فرط في الطلب فتبطل شفعته.
"وجه" قول أبي حنيفة عليه الرحمة
أن الحق للشفيع قد ثبت بالطلبين،
والأصل أن الحق متى ثبت لإنسان لا
يبطل إلا بإبطال ولم يوجد؛ لأن
تأخير المطالبة منه لا يكون
إبطالا كتأخير استيفاء القصاص
وسائر الديون، وقوله "يتضرر
المشتري" ممنوع فإنه إذا علم أن
للشفيع أن يأخذ بالشفعة فالظاهر
أن يمتنع من البناء والغرس خوفا
من النقض والقلع، فلئن فعل فهو
الذي أضر بنفسه فلا يضاف ذلك إلى
الأخذ بالشفعة؛ ولهذا لم يبطل حق
الشفعة بغيبة الشفيع ولا يقال أن
فيه ضررا بالمشتري بالامتناع من
البناء والغرس لما قلنا، كذا هذا.
"فصل" وأما
بيان ما يبطل به حق الشفعة بعد
ثبوته فنقول وبالله التوفيق: ما
يبطل به حق الشفعة بعد ثبوته في
الأصل نوعان: اختياري وضروري؛
والاختياري نوعان: صريح وما يجري
مجرى الصريح دلالة؛ أما الأول
فنحو أن يقول الشفيع: أبطلت
الشفعة أو أسقطتها أو أبرأتك عنها
أو سلمتها ونحو ذلك؛ لأن الشفعة
خالص حقه فيملك التصرف فيها
استيفاء وإسقاطا كالإبراء عن
الدين والعفو عن القصاص ونحو ذلك؛
سواء علم الشفيع بالبيع أو لم
يعلم بعد أن كان بعد البيع؛ لأن
هذا إسقاط الحق صريحا وصريح
الإسقاط يستوي فيه العلم والجهل
كالطلاق والإبراء عن الحقوق،
بخلاف الإسقاط من طريق الدلالة
فإنه لا يسقط حقه ثمة إلا العلم،
والفرق يذكر بعد هذا. ولا يصح
تسليم الشفعة قبل البيع؛ لأنه
إسقاط الحق، وإسقاط الحق قبل
وجوبه ووجود سبب وجوبه محال ولو
أخبر بالبيع بقدر من الثمن أو جنس
منه أو من فلان فسلم فظهر بخلافه
هل يصح تسليمه؟ فالأصل في جنس هذه
المسائل أنه ينظر إن كان لا يختلف
غرض الشفيع في التسليم صح التسليم
وبطلت شفعته، وإن كان يختلف غرضه
لم يصح وهو على شفعته؛ لأن غرضه
في التسليم إذا لم يختلف بين ما
أخبر به وبين ما بيع به وقع
التسليم محصلا لغرضه فصح، وإذا
اختلف غرضه في التسليم لم يقع
التسليم محصلا لغرضه فلم يصح
التسليم وبيان هذا في مسائل: إذا
أخبر أن الدار بيعت بألف درهم
فسلم ثم تبين أنها بيعت بألفين
فلا شفعة له؛ لأن تسليمه كان
لاستكثاره الثمن فإذا لم تصلح له
بأقل الثمنين فبأكثرهما أولى،
فحصل غرضه بالتسليم فبطلت شفعته.
ولو أخبر أنها بيعت بألف فسلم ثم
تبين أنها بيعت بخمسمائة فله
الشفعة؛ لأن التسليم عند كثرة
الثمن لا يدل على التسليم عند
قلته فلم يحصل غرضه بالتسليم فبقي
على شفعته. ولو أخبر أنها بيعت
بألف درهم ثم تبين أنها بيعت
بمائة دينار فإن كانت قيمتها ألفا
أو أكثر فلا شفعة له وإن كانت أقل
فهو على شفعته عند أصحابنا
الثلاثة رضي الله عنهم وقال زفر
رحمه الله: له الشفعة في الوجهين
جميعا. "وجه" قول زفر أن الدراهم
والدنانير جنسان مختلفان حقيقة،
واعتبار الحقائق هو الأصل، والغرض
يختلف باختلاف الجنس؛ لأنه قد
يتيسر عليه جنس ويتعذر عليه الآخر
فلم يقع
ج / 5 ص -20-
التسليم محصلا لغرضه فيبقى على شفعته؛ كما لو أخبر أنها بيعت بحنطة
فسلم ثم تبين أنها بيعت بشعير
قيمته مثل قيمة الحنطة. "ولنا" أن
الدراهم والدنانير في حق الثمنية
كجنس واحد؛ لأنها أثمان الأشياء،
وقيمتها تقوم الأشياء بها تقويما
واحدا أعني أنها تقوم بهذا مرة
وبذاك أخرى، وإنما يختلفان في
القدر لا غير فوجب اعتبار قدر
قيمتهما في الكثرة والقلة، كما
إذا أخبر أنها بيعت بألف درهم أو
بمائة دينار فسلم ثم تبين أنها
بيعت بأكثر أو بأقل على ما بينا،
كذا هذا بخلاف ما إذا أخبر أنها
بيعت بحنطة فسلم ثم تبين أنها
بيعت بشعير قيمته مثل قيمة الحنطة
أو أقل أو أكثر؛ لأن هناك اختلف؛
إذ الحنطة والشعير جنسان مختلفان
على الإطلاق، واختلاف الجنس يوجب
اختلاف الغرض فلم يصح التسليم.
ولو أخبر أنها بيعت بألف درهم
فسلم ثم تبين أنها بيعت بمكيل أو
بموزون سوى الدراهم والدنانير أو
عددي متقارب فالشفعة قائمة؛ لأن
الثمن الذي وقع به البيع إذا كان
من ذوات الأمثال فالشفيع يأخذ
بمثله، وأنه جنس آخر غير الجنس
الذي أخبر به الشفيع فاختلف
الغرض. ولو أخبر أنها بيعت بألف
فسلم ثم تبين أنها بيعت بعرض وما
ليس من ذوات الأمثال؛ فإن كانت
قيمته مثل الألف أو أكثر صح
تسليمه، وإن كانت أقل لم يصح
تسليمه وله الشفعة؛ لأن الشفيع
ههنا يأخذ الدار بقيمة العرض؛
لأنه لا مثل له وقيمته دراهم أو
دنانير، فكان الاختلاف راجعا إلى
القدر فأشبه الألف والألفين
والألف وخمسمائة على ما مر. ولو
أخبر بشراء نصف الدار فسلم ثم
تبين أنه اشترى الجميع فله الشفعة
ولو أخبر بشراء الجميع فسلم ثم
تبين أنه اشترى النصف فالتسليم
جائز ولا شفعة له.هذا هو الرواية
المشهورة في الفصلين وقد روي
الجواب فيهما على القلب وهو أن
التسليم في النصف يكون تسليما في
الكل، والتسليم في الكل لا يكون
تسليما في النصف. "وجه" هذه
الرواية أن تسليم النصف لعجزه عن
الثمن، ومن عجز عن القليل كان عن
الكثير أعجز، فأما العجز عن
الكثير لا يدل على العجز عن
القليل. "وجه" الرواية المشهورة
أن التسليم في النصف للاحتراز عن
الضرر وهو ضرر الشركة، وهذا لا
يوجد في الكل فاختلف الغرض فلم
يصح التسليم فبقي على شفعته، وإذا
صح تسليم الكل فقد سلم البعض
ضرورة؛ لأنه داخل في الكل، فصار
بتسليم الكل مسلما للنصف؛ لأن
الشركة عيب فكان التسليم بدون
العيب تسليما مع العيب من طريق
الأولى أخبر أن المشتري زيد فسلم
ثم تبين أنه عمرو فهو على شفعته؛
لأن التسليم للأمن عن الضرر،
والأمن عن ضرر زيد لا يدل على
الأمن عن ضرر عمرو؛ لتفاوت الناس
في الجوار ولو أخبر أن المشتري
زيد فسلم ثم تبين أنه زيد وعمرو
كان له أن يأخذ نصيب عمرو؛ لأنه
سلم نصيب زيد لا نصيب عمرو فبقي
له الشفعة في نصيبه. ولو أخبر أن
الدار بيعت بألف درهم فسلم ثم إن
البائع حط عن المشتري خمسمائة
وقبل المشتري الحط كان له الشفعة؛
لأن الحط يلتحق بأصل العقد فتبين
أن البيع كان بخمسمائة فصار، كما
إذا أخبر أنها بيعت بألف فسلم ثم
تبين أنها بيعت بخمسمائة ولو لم
يقبل الحط لم تجب الشفعة؛ لأن
الحط لم يصح إذا لم يقبل فلم
يتبين أنها بيعت بأنقص من ألف فلم
تجب الشفعة. ولو باع الشفيع داره
التي يشفع بها بعد شراء المشتري
هل تبطل شفعته؟ فهذا لا يخلو إما
إن كان البيع باتا وإما إن كان
فيه شرط الخيار؛ فإن كان باتا لا
يخلو إما إن باع كل الدار وإما إن
باع جزءا منها، فإن باع كلها بطلت
شفعته؛ لأن سبب الحق هو جوار
الملك وقد زال سواء علم بالشراء
أو لم يعلم؛ لأن هذا في معنى صريح
الإسقاط؛ لأن إبطال سبب الحق
إبطال الحق فيستوي فيه العلم
والجهل، فإن رجعت الدار إلى ملكه
بعيب بقضاء أو بغير قضاء أو بخيار
رؤية أو بخيار شرط للمشتري فليس
له أن يأخذ بالشفعة؛ لأن الحق قد
بطل فلا يعود إلا بسبب جديد.
وكذلك لو باعها الشفيع بيعا فاسدا
وقبضها المشتري بطلت شفعته؛ لزوال
سبب الحق وهو جواز الملك، فإن نقض
البيع فلا شفعة له؛ لما ذكرنا أن
الحق بعدما بطل لا يعود إلا بسبب
جديد. وإن باع جزءا من داره فإن
باع جزءا شائعا منها فله الشفعة
بما بقي؛ لأن ما بقي يصلح
لاستحقاق الشفعة ابتداء فأولى أن
يصلح للبقاء؛ لأن البقاء أسهل من
الابتداء وإن باع جزءا معينا بيتا
أو حجرة فإن كان ذلك لا يلي الدار
التي فيها الشفعة فكذلك؛ لأن
السبب وهو جوار الملك قائم وإن
كان مما يلي تلك الدار؛ فإن
استغرق حدود الدار التي فيها
الشفعة بطلت الشفعة؛ لأن الجوار
قد زال، وإن بقي من حدها شيء
ملاصق لما بقي من الدار فهو على
شفعته؛ لما ذكرنا أن
ج / 5 ص -21-
هذا القدر يصلح للاستحقاق ابتداء فلأن يصلح لبقاء المستحق أولى، وإن
كان فيه خيار الشرط فإن كان
الخيار للبائع وهو الشفيع فهو على
شفعته ما لم يوجب البيع؛ لأن
السبب وهو جوار الملك قائم لأن
خيار البائع يمنع زوال المبيع عن
ملكه، فإن طلب الشفعة في مدة
الخيار كان ذلك منه نقضا للبيع؛
لأن طلب الشفعة دليل استبقاء
الملك في المبيع وذلك إسقاط
للخيار ونقض للبيع. وإن كان
الخيار للمشتري بطلت شفعته؛ لأن
الدار خرجت عن ملكه بلا خلاف فزال
سبب الحق وهو جوار الملك، وإن كان
الشفيع شريكا وجارا فباع نصيبه
الذي يشفع به كان له أن يطلب
الشفعة بالجوار؛ لأنه إن بطل أحد
السببين وهو الشركة فقد بقي الآخر
وهو الجوار ولهذا استحق به
ابتداء، فلأن يبقى به الاستحقاق
أولى. ولو صالح المشتري الشفيع من
الشفعة على مال لم يجز الصلح ولم
يثبت العوض وبطل حق الشفعة؛ أما
بطلان الصلح فلانعدام ثبوت الحق
في المحل؛ لأن الثابت للشفيع حق
التملك وأنه عبارة عن ولاية
التملك وأنها معنى قائم بالشفيع
فلم يصح الاعتياض عنه فبطل الصلح
ولم يجب العوض وأما بطلان حق
الشفيع في الشفعة؛ فلأنه أسقطه
بالصلح، فالصلح وإن لم يصح فإسقاط
حق الشفعة صحيح؛ لأن صحته لا تقف
على العوض بل هو شيء من الأموال
لا يصلح عوضا عنه فالتحق ذكر
العوض بالعدم فصار كأنه سلم بلا
عوض، وعلى هذا إذا قال الزوج
للمخيرة: اختاريني بألف درهم،
فقالت: اخترتك، لم يجب العوض وبطل
خيارها. وكذلك العنين إذا قال
لامرأته بعدما أخبرت بسبب العنة:
اختاري ترك الفسخ بالعنة بألف،
فقالت: اخترت، بطل خيارها ولم يجب
العوض. وفي الكفالة بالنفس إذا
أسقطها بعوض روايتان: في رواية لا
يجب العوض وتبطل الكفالة كما في
الشفعة، وفي رواية لا تبطل
الكفالة. "وجه" الرواية الأولى
أنه أسقط الكفالة بعوض، فالاعتياض
إن لم يصح فالإسقاط صحيح؛ لأن
صحته لا تقف على العوض. "وجه"
الرواية الأخرى أنه ما رضي
بالسقوط إلا بعوض ولم يثبت العوض
فلا يسقط. وأما بطلان الشفعة من
طريق الدلالة فهو أن يوجد من
الشفيع ما يدل على رضاه بالعقد
وحكمه للمشتري وهو ثبوت الملك له؛
لأن حق الشفعة مما يبطل بصريح
الرضا فيبطل بدلالة الرضا أيضا؛
وذلك نحو ما إذا علم بالشراء فترك
الطلب على الفور من غير عذر أو
قام عن المجلس أو تشاغل عن الطلب
بعمل آخر على اختلاف الروايتين؛
لأن ترك الطلب مع القدرة عليه
دليل الرضا بالعقد وحكمه للدخيل،
وكذا إذا ساوم الشفيع الدار من
المشتري أو سأله أن يوليه إياها
أو استأجرها الشفيع من المشتري أو
أخذها مزارعة أو معاملة، وذلك كله
بعد علمه بالشراء؛ لأن ذلك كله
دليل الرضا، أما المساومة؛ فلأنها
طلب تمليك بعقد جديد وأنه دليل
الرضا بملك المتملك، وكذلك
التولية؛ لأنها تملك بمثل الثمن
الأول من غير زيادة ولا نقصان
وأنها دليل الرضا بملك المتملك.
وأما الاستئجار والأخذ معاملة أو
مزارعة؛ فلأنها تقرير لملك
المشتري فكانت دليل الرضا بملكه،
فرق بين هذا وبين الفصل الأول حيث
شرط ههنا علم الشفيع بالشراء
لبطلان حق الشفعة وهناك لم يشترط
وإنما كان كذلك؛ لأن السقوط في
الفصل الأول بصريح الإسقاط،
والإسقاط تصرف في نفس الحق
فيستدعى ثبوت الحق لا غير كالطلاق
والعتاق والإبراء عن الديون،
والسقوط ههنا بطريق الدلالة وهي
دلالة الرضا لا بالتصرف في محل
الحق بل في محل آخر، والتصرف في
محل آخر لا يصلح دليل الرضا إلا
بعد العلم بالبيع؛ إذ الرضا
بالشيء بدون العلم به محال، والله
عز وجل أعلم. ولو سلم الشفعة في
النصف بطلت في الكل؛ لأنه لما سلم
في النصف بطل حقه في النصف المسلم
فيه بصريح الإسقاط وبطل حقه في
النصف الباقي؛ لأنه لا يملك تفريق
الصفقة على المشتري فبطلت شفعته
في الكل. ولو طلب نصف الدار
بالشفعة هل يكون ذلك تسليما منه
للشفعة في الكل؟ اختلف فيه أبو
يوسف ومحمد؛ قال أبو يوسف: لا
يكون تسليما، وقال محمد: يكون
تسليما في الكل إلا أن يكون سبق
منه طلب الكل بالشفعة فلم يسلم له
المشتري فقال له حينئذ أعطني
نصفها على أن أسلم لك النصف
الباقي فإن هذا لا يكون تسليما.
"وجه" قول محمد أنه لما طلب النصف
بالشفعة فقد أبطل حقه في النصف
الآخر؛ لأنه ترك الطلب فيه مع
القدرة عليه وذا دليل الرضا فبطل
حقه فيه فيبطل حقه في النصف
المطلوب ضرورة تعذر تفريق الصفقة
على المشتري بخلاف ما إذا كان سبق
منه الطلب في الكل؛ لأنه لما طلب
ج / 5 ص -22-
في الكل فقد تقرر حقه في الكل ولم يكن قوله بعد ذلك أعطني النصف على
أن أسلم لك النصف الباقي تسليما،
بخلاف ما إذا قال ابتداء؛ لأن
الحق لم يتقرر بعد. "وجه" قول أبي
يوسف أن الحق ثبت له في كل الدار،
والحق إذا ثبت لا يسقط إلا
بالإسقاط ولم يوجد فبقي كما كان
إن شاء أخذ الكل بالشفعة وإن شاء
ترك، وجواب محمد رحمه الله عن هذا
أنه وجد منه الإسقاط في النصف
الذي لم يطلبه من طريق الدلالة
على ما بينا، والله سبحانه وتعالى
أعلم. وأما الضروري فنحو أن يموت
الشفيع بعد الطلبين قبل الأخذ
بالشفعة فتبطل شفعته، وهذا عندنا،
وعند الشافعي رحمه الله لا تبطل
ولوارثه حق الأخذ، ولغب المسألة
أن خيار الشفعة هل يورث؟ عندنا لا
يورث، وعنده يورث والكلام فيه من
الجانبين على نحو الكلام في خيار
الشرط، وسيأتي ذكره في كتاب
البيوع. ولا يبطل بموت المشتري
وللشفيع أن يأخذ من وارثه لأن
الشفعة حق على المشتري؛ ألا ترى
أنه مجبور عليه في التملك فلا
يسقط بموته كحق الرد بالعيب؟،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل" وأما بيان
ما يملك به المشفوع فيه فنقول
وبالله التوفيق: المشفوع فيه يملك
بالتملك وهو تفسير الأخذ بالشفعة
فلا ملك للشفيع قبل الأخذ بل له
حق الأخذ والتملك قبل الأخذ
للمشتري؛ لوجود سبب الملك فيه وهو
الشراء، فله أن يبني ويغرس ويهدم
ويقلع ويؤاجر ويطيب له الأجر
ويأكل من ثمار الكرم ونحو ذلك،
وكذا له أن يبيع ويهب ويوصي، وإذا
فعل ينفذ إلا أن للشفيع أن ينقض
ذلك بالأخذ بالشفعة؛ لأن حقه سابق
على تصرف المشتري فيمتنع اللزوم،
ولو جعل المشتري الدار مسجدا أو
مقبرة فللشفيع أن يأخذها بالشفعة
وينقض ما صنع المشتري، كذا ذكر في
الأصل، وقال الحسن بن زياد: بطلت
شفعته. "وجه" قوله أن المشتري
تصرف في ملك نفسه فينفذ كما لو
باع إلا أن البيع ونحوه مما يحتمل
النقض بعد وجوده فنفذ ولم يلزم،
وهذه التصرفات مما لا يحتمل
الانتقاض كالإعتاق فكان نفاذها
لزومها، ولنا أن تعلق حق الشفيع
بالمبيع يمنع من صيرورته مسجدا؛
لأن المسجد ما يكون خالصا لله
تعالى، وتعلق حق العبد به يمنع
خلوصه لله عز وجل فيمنع صيرورته
مسجدا، وله أن يأخذ الدار
المشتراة بالشفعة لوجود السبب وهو
جوار الملك أو الشركة في ملك
المبيع وعلى هذا يخرج ما إذا
اشترى دارا ولها شفيع فبيعت دار
إلى جنب هذه الدار فطالب المشتري
بالشفعة وقضي له بها ثم حضر
الشفيع يقضى له بالدار التي
بجواره ويمضي القضاء في الثانية
للمشتري، أما للشفيع فظاهر وأما
للمشتري؛ فلأن الجوار كان ثابتا
له وقت البيع والقضاء بالشفعة إلا
أنه بطل بعد ذلك بأخذ الشفيع
للدار بالشفعة وهذا لا يوجب بطلان
القضاء؛ لأنه تبين أن جوار الملك
لم يكن ثابتا كمن اشترى دارا ولها
شفيع فقضي له بالشفعة ثم باع داره
التي بها يشفع أنه لا يبطل القضاء
بالشفعة لما قلنا، كذا هذا. ولو
كان الشفيع جارا للدارين فالمسألة
بحالها فيقضى له بكل الدار الأولى
وبالنصف من الثانية؛ لأنه جار خاص
للدار الأولى فيختص بشفعتها، وهو
مع المشتري جاران للدار الثانية
فيشتركان في شفعتها، وشراء
المشتري لا يبطل حقه في الشفعة
ولأنه لا ينافيه بل يقرره على ما
بينا فيما تقدم. وروي عن أبي يوسف
رحمه الله فيمن اشترى نصف دار ثم
اشترى رجل آخر نصفها الآخر فخاصمه
المشتري الأول فيقضى له بالشفعة
بالشركة، ثم خاصمه الجار في
الشفعتين جميعا أن الجار أحق
بشفعة النصف الأول ولا حق له في
النصف الثاني لأنه جار للنصف
الأول فيأخذه بالجوار والمشتري
شريك عند بيع النصف الثاني لثبوت
الملك له في النصف الأول بسبب
الشراء، وثبوت الحق للشفيع في
النصف الأول لا يمنع ثبوت الملك
للمشتري فيه فكان شريكا عند بيع
النصف الثاني، والشريك مقدم على
الجار. وكذلك لو اشترى نصفها ثم
اشترى نصفها الآخر رجل آخر فلم
يخاصمه فيه حتى أخذ الجار النصف
الأول فالجار أحق بالنصف الثاني؛
لأن الملك وإن ثبت للمشتري الأول
في النصف الأول لكنه قد بطل بأخذ
الجار بالشفعة فبطل حقه في
الشفعة. ولو ورث رجل دارا فبيعت
دار الأول بجنبها فأخذها بالشفعة
ثم بيعت دار إلى جنب الثانية
فأخذها بالشفعة ثم استحقت الدار
الموروثة وطلب المستحق الشفعة فإن
المستحق يأخذ الدار الثانية،
والوارث أحق بالثالثة؛ لأن
بالاستحقاق تبين أن الدار التي
يشفع بها الوارث كانت ملك المستحق
فتبين أنه أخذ الثانية بغير حق إذ
تبين أنه لم يكن جارا فكانت
الشفعة في الثانية للمستحق،
والوارث
ج / 5 ص -23-
يكون أحق بالثالثة؛ لأن الملك كان ثابتا للوارث عند بيع الثالثة
فكان السبب وهو جوار الملك ثابتا
له عنده ثم بطل الاستحقاق، وبطلان
الملك لا يوجب بطلان الشفعة. وليس
للشفيع أن ينقض قسمة المشتري حتى
لو اشترى نصف دار من رجل مشاعا
وقاسم المشتري البائع ثم حضر
الشفيع فالقسمة ماضية ليس للشفيع
أن ينقضها ليأخذ نصفها مشاعا سواء
كانت قسمته بقضاء أو بغير قضاء؛
لأن القسمة من تمام القبض ولهذا
لم تصح هبة المشاع فيما يحتمل
القسمة؛ لأن القبض شرط صحة الهبة،
والقبض على التمام لا يتحقق مع
الشياع. وإذا كانت القسمة من تمام
القبض فالشفيع لا يملك نقض القبض
بأن اشترى دارا وقبضها ثم حضر
الشفيع وأراد أن ينقض قبضه
ليأخذها من البائع لم يملك ذلك،
وإذا لم يملك نقض القبض لا يملك
نقض ما به تمام القبض وهو القسمة،
بخلاف ما إذا كانت الدار مشتركة
بين اثنين باع أحدهما نصيبه من
رجل فقاسم المشتري الشريك الذي لم
يبع ثم حضر الشفيع له أن ينقض
القسمة؛ لأن القسمة هناك ليست من
جملة القبض؛ لأنها من حكم البيع
الأول؛ إذ البيع الأول كما أوجب
الملك أوجب القسمة في المشاع،
والبيع الأول لم يقع مع هذا
المشتري الذي قاسم فلم تكن هذه
القسمة بحكم العقد بل بحكم الملك،
والتصرف بحكم الملك يملك الشفيع
نقضه كالبيع والهبة، وللشفيع أن
يأخذ النصف الذي أصاب المشتري
بالشفعة سواء وقع نصيب المشتري من
جانب الشفيع أو من جانب آخر؛ لأن
الشفعة وجبت له في النصف المشترى،
والنصف الذي أصاب المشتري هو
المشترى؛ لأن القسمة إفراز. ولو
وقع نصيب البائع من جانب الشفيع
فباعه بعد القسمة قبل طلب الشفيع
الشفعة الأولى ثم طلب الشفيع فإن
قضى القاضي بالشفعة الأخيرة جعل
نصف البائع بين الشفيع وبين
المشتري وقضى بالشفعة الأولى وهي
نصف المشتري للشفيع؛ لأن الشفيع
مع المشتري جاران لنصف البائع،
والشفيع جار خاص لنصف المشتري،
ولو بدأ فقضى للشفيع بالشفعة
الأولى قضى له بالأخيرة أيضا؛
لأنه لما قضى له بالشفعة الأولى
بطل حق جوار المشتري فلم يبق له
حق الأخذ بالشفعة، وللشفيع أن يرد
المشفوع فيه بخيار الرؤية والعيب
وللمشتري حق الحبس لاستيفاء
الثمن؛ لأن الملك فيه لما كان
يثبت بالتملك ببدل كان الأخذ
بالشفعة شراء فيراعى فيه أحكام
البيع والشراء، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
"فصل" وأما بيان طريق التملك بالشفعة وبيان كيفيته فالتملك بالشفعة يكون
بأحد طريقين: إما بتسليم المشتري
وإما بقضاء القاضي؛ أما التملك
بالتسليم بالبيع فظاهر؛ لأن الأخذ
بتسليم المشتري برضاه ببدل يبدله
الشفيع وهو الثمن يفسر الشراء،
والشراء تملك وأما بقضاء القاضي
فالكلام فيه في ثلاثة مواضع في
بيان كيفية التملك بالقضاء
بالشفعة وفي بيان شرط جواز القضاء
بالشفعة، وفي بيان وقت القضاء
بالشفعة، أما الأول فالمبيع لا
يخلو إما أن يكون في يد البائع
وإما أن يكون في يد المشتري فإن
كان في يد البائع ذكر الكرخي رحمه
الله أن القاضي إذا قضى بالشفعة
ينتقض البيع الذي كان بين البائع
وبين المشتري في المشهور من قولهم
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه
لا ينقض، واختلف المشايخ فيه قال
بعضهم: البيع لا ينتقض بل تتحول
الصفقة إلى الشفيع وقال بعضهم:
ينتقض البيع الذي جرى بين البائع
والمشتري وينعقد للشفيع بيع آخر
كأنه كان من البائع إيجابان
أحدهما مع المشتري والآخر مع
الشفيع، فإذا قضى القاضي بالشفعة
فقد قبل الشفيع الإيجاب الذي أضيف
إليه وانتقض ما أضيف إلى المشتري
سواء قبل المشتري الإيجاب المضاف
إليه أو لم يقبل. "وجه" قول من
قال بالتحول لا بالانتقاض أن
البيع لو انتقض لتعذر الأخذ
بالشفعة؛ لأنه من شرائط وجوب
الشفعة فإذا انتقض لم يجب فتعذر
الأخذ. "وجه" قول من قال أنه
ينتقض نص محمد، والمعقول
والأحكام؛ أما الأول فقد ذكر محمد
رحمه الله وقال انتقض البيع فيما
بين البائع والمشتري، وهذا نص في
الباب. وأما المعقول فمن وجهين:
أحدهما: أن القاضي إذا قضى
بالشفعة قبل القبض فقد عجز
المشتري عن قبض المبيع؛ والعجز عن
قبض المبيع يوجب بطلان البيع
لخلوه عن الفائدة؛ كما إذا هلك
المبيع قبل القبض، والثاني: أن
الملك قبل الأخذ بالشفعة للمشتري
لوجود آثار الملك في حقه على ما
بينا فيما تقدم ولو تحول الملك
إلى الشفيع لم يثبت الملك
للمشتري. وأما الأحكام
ج / 5 ص -24-
فإن للشفيع أن يرد الدار على من أخذها منه بخيار الرؤية وإذا رد
عليه لا يعود شراء المشتري ولو
تحولت الصفقة إلى الشفيع لعاد
شراء المشتري؛ لأن التحول كان
لضرورة مراعاة حق الشفيع ولما رد
فقد زالت الضرورة فينبغي أن يعود
الشراء، ولأنها لو تحولت إليه
لصار المشتري وكيلا للشفيع؛ لأن
عقده يقع له، ولو كان كذلك لما
ثبت للشفيع خيار الرؤية إذا كان
المشتري رآها قبل ذلك ورضي بها؛
لأن خيار الرؤية يبطل برؤية
الوكيل ورضاه، وكذلك لو كان
الشراء بثمن مؤجل فأراد الشفيع أن
يأخذها للحال يأخذ بثمن حال، ولو
تحولت الصفقة إليه لأخذها بثمن
مؤجل، وكذا لو اشتراها على أن
البائع بريء من كل عيب بها عند
البيع ثم أخذها الشفيع فوجد بها
عيبا فله أن يردها على من أخذها
منه ولو تحولت تلك الصفقة إلى
الشفيع لما ثبت له حق الرد كما لم
يثبت للمشتري، فدلت هذه المسائل
على أن شراء المشتري ينتقض
ويأخذها الشفيع بشراء مبتدإ بعد
إيجاب مبتدإ مضاف إليه. وقد خرج
الجواب عن قولهم أن البيع لو
انتقض لتعذر الأخذ بالشفعة؛ لأنه
لا يأخذ بذلك العقد لانتقاضه بل
بعقد مبتدإ مقرر بين البائع وبين
الشفيع على ما بينا تقريره والله
سبحانه وتعالى أعلم. وإن كان
المبيع في يد المشتري أخذه منه
ودفع الثمن إلى المشتري، والبيع
الأول صحيح؛ لأن التملك وقع على
المشتري فيجعل كأنه اشترى منه ثم
إذا أخذ الدار من يد البائع يدفع
الثمن إلى البائع وكانت العهدة
عليه ويسترد المشتري الثمن من
البائع إن كان قد نقد، وإن أخذها
من يد المشتري دفع الثمن إلى
المشتري وكانت العهدة عليه؛ لأن
العهدة هي حق الرجوع بالثمن عند
الاستحقاق، فيكون على من قبض
الثمن. وروي عن أبي يوسف رحمه
الله أن المشتري إذا كان نقد
الثمن ولم يقبض الدار حتى قضي
للشفيع بمحضر منهما أن الشفيع
يأخذ الدار من البائع وينقد الثمن
للمشتري والعهدة على المشتري، وإن
كان لم ينقد دفع الشفيع الثمن إلى
البائع والعهدة على البائع؛ لأنه
إذا كان نقد الثمن للبائع فالملك
لا يقع على البائع أصلا؛ لأنه لا
ملك له، ولا بد أيضا لبطلان حق
الحبس بنقد الثمن بل يقع على
المشتري فيكون الثمن له والعهدة
عليه، وإذا كان لم ينقد فللبائع
حق الحبس فلا يتمكن الشفيع من قبض
الدار إلا بدفع الثمن إلى البائع
فكانت العهدة على البائع. وأما
شرط جواز القضاء بالشفعة فحضرة
المقضي عليه؛ لأن القضاء على
الغائب لا يجوز، وجملة الكلام فيه
أن المبيع إما أن يكون في يد
البائع وإما أن يكون في يد
المشتري؛ فإن كان في يد البائع
فلا بد من حضرة البائع والمشتري
جميعا؛ لأن كل واحد منهما خصم؛
أما البائع فباليد وأما المشتري
فبالملك فكان كل واحد منهما مقضيا
عليه فيشترط حضرتهما لئلا يكون
قضاء على الغائب من غير أن يكون
عنه خصم حاضر. وأما إن كان في يد
المشتري فحضرة البائع ليست بشرط
ويكتفى بحضرة المشتري؛ لأن البائع
خرج من أن يكون خصما لزوال ملكه
ويده عن المبيع فصار كالأجنبي،
وكذا حضرة الشفيع أو وكيله شرط
جواز القضاء له بالشفعة؛ لأن
القضاء على الغائب كما لا يجوز
فالقضاء للغائب لا يجوز أيضا، ثم
القاضي إذا قضى بالشفعة يثبت
الملك للشفيع ولا يقف ثبوت الملك
له على التسليم؛ لأن الملك للشفيع
يثبت بمنزلة الشراء، والشراء
الصحيح يوجب الملك بنفسه. وأما
وقت القضاء بالشفعة فوقته وقت
المنازعة والمطالبة بها؛ فإذا
طالبه بها الشفيع يقضي القاضي له
بالشفعة سواء حضر الثمن أو لا؛ في
ظاهر الرواية، وللمشتري أن يحبس
الدار حتى يستوفي الثمن من الشفيع
وكذا الورثة؛ لأن التملك بالشفعة
بمنزلة الشراء من المشتري وللبائع
حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن فإن
أبى أن ينقد حبسه القاضي لأنه ظهر
ظلمه بالامتناع من إيفاء حق واجب
عليه فيحبسه ولا ينقض الشفعة؛
كالمشتري إذا امتنع من إيفاء
الثمن أنه يحبس ولا ينقض البيع.
وإن طلب أجلا لنقد الثمن أجله
يوما أو يومين أو ثلاثة أيام؛
لأنه لا يمكنه النقد للحال فيحتاج
إلى مدة يتمكن فيها من النقد
فيمهله ولا يحبسه؛ لأن الحبس جزاء
الظلم بالمطل ولم يظهر مطله؛ فإن
مضى الأجل ولم ينقد حبسه وقال
محمد رحمه الله ليس ينبغي للقاضي
أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع
المال؛ فإن طلب أجلا أجله يوما أو
يومين أو ثلاثة أيام ولم يقض له
بالشفعة، فإن قضى بالشفعة ثم أبى
الشفيع أن ينقد حبسه، وهذا عندي
ليس باختلاف على الحقيقة وللقاضي
أن يقضي بالشفعة قبل إحضار الثمن
بلا خلاف؛ لأن لفظ محمد رحمه
الله: "ليس ينبغي للقاضي أن يقضي
بالشفعة حتى يحضر الشفيع المال"
لا يدل على أنه ليس له أن يقضي بل
هو إشارة إلى نوع احتياط محل
ج / 5 ص -25-
واختيار الأول، لا تستعمل لفظة "لا ينبغي" إلا في مثله؛ ولهذا لو
قضى جاز ونفذ قضاؤه، نص عليه
محمد؛ وليس ذلك لكونه محل
الاجتهاد ولأن القضاء بمذهب
المخالف في المجتهدات إنما ينفذ
بشريطة اعتقاد إصابته فيه وإفضاء
اجتهاده إليه، وقد أطلق القضية في
النفاذ من غير هذا الشرط فدل أنه
لا خلاف في المسألة على التحقيق،
ثم إن ثبت الخلاف. "فوجه" قول
محمد أن حق الشفعة إنما يثبت لدفع
ضرر الدخيل عن الشفيع، والقضاء
قبل إحضار الثمن يتضمن الضرر
بالمشتري لاحتمال إفلاس الشفيع
ودفع الضرر عن الإنسان بإضرار
غيره متناقض فلا يقضى قبل الإحضار
ولكن يؤجله يومين أو ثلاثة إن طلب
التأجيل تمكينا له من نقد الثمن.
"وجه" ظاهر الرواية أن الشفيع
يصير متملكا المشفوع فيه بمقتضى
القضاء بالشفعة كأن اشتراه منه،
والتملك بالشراء لا يقف على إحضار
الثمن كما في الشراء المبتدإ وقال
محمد رحمه الله لو ضرب له القاضي
أجلا فقال له إن لم تأت بالثمن
إلى وقت كذا فلا شفعة لك فلم يأت
به بطلت شفعته، وكذا إذا قال
الشفيع إن لم أعطك الثمن إلى وقت
كذا فأنا بريء من الشفعة؛ لأن هذا
تعليق إسقاط حق الشفعة بالشرط
والإسقاطات مما يحتمل التعليق
بالشرط كالطلاق والعتاق ونحو ذلك.
"فصل" وأما بيان شرط التملك فالتملك بالشفعة له شرطان: أحدهما: رضا
المشتري أو قضاء القاضي؛ لأن تملك
مال الغير مما لا سبيل إليه في
الشرع إلا بالتراضي أو بقضاء
القاضي فلا يثبت التملك بدونهما،
والثاني: أن لا يتضمن التملك
تفريق الصفقة على المشتري؛ فإن
تضمن ليس له أن يتملك؛ لأن في
التفريق ضررا بالمشتري وهو ضرر
الشركة، ودفع الضرر بالضرر
متناقض. وعلى هذا يخرج ما إذا
أراد الشفيع أن يأخذ بعض المشترى
بالشفعة دون بعضه أنه هل يملك
ذلك؟ فجملة الكلام فيه أن المشترى
لا يخلو إما أن يكون بعضه ممتازا
عن البعض وإما أن لا يكون؛ فإن لم
يكن بأن اشترى دارا واحدة فأراد
الشفيع أن يأخذ بعضها بالشفعة دون
البعض أو يأخذ الجانب الذي يلي
الدار دون الباقي ليس له ذلك بلا
خلاف بين أصحابنا، ولكن يأخذ الكل
أو يدع؛ لأنه لو أخذ البعض دون
البعض لتفرقت الصفقة على المشتري؛
لأن الملك له في كل الدار ثبت
بقول واحد فكان أخذ البعض تفريقا
فلا يملكه الشفيع؛ وسواء اشترى
واحد من واحد أو واحد من اثنين أو
أكثر، حتى لو أراد الشفيع أن يأخذ
نصيب أحد البائعين ليس له؛ لما
قلنا، سواء كان المشتري قبض أو لم
يقبض في ظاهر الرواية عن أصحابنا،
وروي عنهم أن للشفيع أن يأخذ نصيب
أحد البائعين قبل القبض وليس له
أن يأخذ من المشتري نصيب أحدهما
بعد القبض. "وجه" هذه الرواية أن
التملك قبل القبض لا يتضمن معنى
التفريق؛ لأن التملك يقع على
البائع وقد خرج نصيبه عن ملكه فلا
يلزمه ضرر التفريق؛ وهو ضرر
الشركة، بخلاف ما بعد القبض؛ لأن
التملك بعد القبض يقع على
المشتري، ألا ترى أن العهدة عليه
وفيه تفرق ملكه؟ والصحيح جواب
الرواية لأن الملك قبل القبض
للمشتري بصفقة واحدة؛ فبملك نصيب
أحد البائعين تفريق ملكه فيلزمه
ضرر الشركة. ولو اشترى رجلان من
رجل دارا فللشفيع أن يأخذ نصيب
أحد المشتريين في قولهم جميعا؛
لأن الأخذ هنا لا يتضمن التفريق
لأن الصفقة حصلت متفرقة وقت
وجودها؛ إذ الملك في نصيب كل واحد
منهما ثبت بقوله فلم تتحد الصفقة
فلا يقع الأخذ تفريقا؛ لحصول
التفريق قبله، وسواء كان بعد
القبض أو قبله في ظاهر الرواية
وروي أنه ليس للشفيع أن يأخذ قبل
القبض إلا الكل وبعد القبض له أن
يأخذ نصيب أحد المشتريين. "وجه"
هذه الرواية أن أخذ البعض قبل
القبض يتضمن تفريق اليد على
البائع، والتملك قبل القبض لا
يتضمن التفريق؛ لأن التملك يقع
على البائع وأنه لا يجوز، ألا ترى
أن أحد المشتريين لو أراد أن يقبض
حصته دون صاحبه ليس له ذلك. "وجه"
ظاهر الرواية ما ذكرنا أن الصفقة
حصلت متفرقة من الابتداء فلا يكون
أخذ البعض تفريقا لحصول التفريق
قبل الأخذ وقوله فيه تفريق اليد
وهو القبض ممنوع فالشفيع يتملك
نصيب أحد المشتريين بالشفعة ولكنه
لا يفرق اليد حتى لو نقد الثمن،
ليس له أن يقبض أحد النصفين ما لم
ينقد الآخر كي لا يتفرق القبض،
وسواء سمى لكل نصف ثمنا على حدة
أو سمى للجملة ثمنا واحدا فالعبرة
لاتحاد الصفقة وتعددها لا لاتحاد
الثمن وتعدده؛ لأن المانع من
التفريق هو الضرر، والضرر
ج / 5 ص -26-
ينشأ عن اتحاد الصفقة لا عن اتحاد الثمن، وسواء كان المشتري عاقدا
لنفسه أو لغيره في الفصلين جميعا
حتى لو وكل رجلان جميعا رجلا
واحدا بالشراء فاشترى الوكيل من
رجلين فجاء الشفيع ليس له أن يأخذ
نصيب أحد البائعين بالشفعة. ولو
وكل رجل واحد رجلين فاشتريا من
واحد فللشفيع أن يأخذ ما اشتراه
أحد الوكيلين، وكذا لو كان
الوكلاء عشرة اشتروا لرجل واحد
فللشفيع أن يأخذ من واحد أو من
اثنين أو من ثلاثة قال محمد رحمه
الله وإنما أنظر في هذا إلى
المشتري ولا أنظر إلى المشترى له،
وهو نظر صحيح؛ لأن الأخذ بالشفعة
من حقوق البيع وأنها راجعة إلى
الوكيل فكانت العبرة لاتحاد
الوكيل وتعدده دون الموكل، والله
سبحانه وتعالى أعلم. وإن كان
المشترى بعضه ممتازا عن البعض بأن
اشترى دارين صفقة واحدة فأراد
الشفيع أن يأخذ إحداهما دون
الأخرى فإن كان شفيعا لهما جميعا
فليس له ذلك ولكن يأخذهما جميعا
أو يدعهما، وهذا قول أصحابنا
الثلاثة رضي الله تعالى عنهم وقال
زفر رحمه الله: له أن يأخذ
إحداهما بحصتها من الثمن. "وجه"
قوله أن المانع من أخذ البعض دون
البعض هو لزوم ضرر الشركة ولم
يوجد ههنا لانفصال كل واحدة من
الدارين عن الأخرى. "ولنا" أن
الصفقة وقعت مجتمعة لأن المشتري
ملك الدارين بقبول واحد فلا يملك
الشفيع تفريقها كما في الدار
الواحدة، وقوله: "ليس فيه ضرر
الشركة" مسلم لكن فيه ضرر آخر وهو
أن الجمع بين الجيد والرديء في
الصفقة معتاد فيما بين الناس فلو
ثبت له حق أخذ أحدهما لأخذ الجيد
فيتضرر له المشتري؛ لأن الرديء لا
يشترى وحده بمثل ما يشترى مع
الجيد فيتضرر به وسواء كانت
الداران متلاصقتين أو متفرقتين في
مصر واحد أو مصرين فهو على
الاختلاف لما ذكرنا من المعنى في
الجانبين، فإن كان الشفيع شفيعا
لإحداهما دون الأخرى ووقع البيع
صفقة واحدة فهل له أن يأخذ الكل
بالشفعة؟ روي عن أبي حنيفة أنه
ليس له أن يأخذ إلا التي تجاوره
بالحصة، وكذا روي عن محمد في
الدارين المتلاصقين إذا كان
الشفيع جارا لإحداهما أنه ليس له
الشفعة إلا فيما يليه، وكذا قال
محمد في الأقرحة المتلاصقة؛ وواحد
منها يلي أرض إنسان وليس بين
الأقرحة طريق ولا نهر إنما هي
منساة أنه لا شفعة له إلا في
القراح الذي يليه خاصة وكذلك في
القرية إذا بيعت بدورها وأراضيها
أن لكل شفيع أن يأخذ القراح الذي
يليه خاصة، وروى الحسن عن أبي
حنيفة رضي الله عنه أن للشفيع أن
يأخذ الكل في ذلك كله بالشفعة قال
الكرخي: رواية الحسن تدل على أن
قول أبي حنيفة كان مثل قول محمد
رحمه الله ثم رجع عن ذلك فجعله
كالدار الواحدة. "وجه" الرواية
الأولى أن سبب ثبوت الحق وهو
الجوار وجد في أحدهما وهو ما يليه
فلا يملك إلا أخذ أحدهما، والصفقة
وإن وقعت مجتمعة ولكنها أضيفت إلى
شيئين أحدهما ثبت فيه حق الشفعة
والآخر لم يثبت فيه حق الشفعة فله
أن يأخذ ما ثبت فيه الحق؛ كما إذا
اشترى عقارا أو منقولا صفقة واحدة
أنه يأخذ العقار خاصة، كذا هذا.
"وجه" الرواية الأخرى أن سبب
الوجوب وإن وجد فيما يليه دون
الباقي لكن لا سبيل إلى أخذه خاصة
بدون الباقي لما فيه من تفريق
الصفقة فيأخذ ما يليه قضية للسبب
ويأخذ الباقي ضرورة التحرز عن
تفريق الصفقة.
"فصل" وأما بيان ما يتملك به.فنقول وبالله التوفيق ثمن المشترى لا يخلو
إما أن يكون مما له مثل كالمكيلات
والموزونات والعدديات المتقاربة
وإما أن يكون مما لا مثل له
كالمزروعات والمعدودات المتفاوتة
كالثوب والعبد ونحو ذلك؛ فإن كان
مما له مثل فالشفيع يأخذ بمثله؛
لأن فيه تحقيق معنى الأخذ بالشفعة
إذ هو تمليك بمثل ما تملك به
المشتري، وإن كان مما لا مثل له
يأخذ بقيمته عند عامة العلماء،
وقال أهل المدينة يأخذ بقيمة
المشترى. "وجه" قولهم أن المصير
إلى قيمة المبيع عند تعذر إيجاب
المسمى من الثمن هو الأصل في
الشريعة كما في البيع الفاسد،
وههنا تعذر الأخذ بالمسمى فصار
إلى قيمة الدار والعقار. ولنا أن
الأخذ بالشفعة يملك بمثل ما تملك
به المشتري فإن كان الثمن الذي
تملك به المشتري من ذوات الأمثال
كان الأخذ به تملكا بالمثل صورة
ومعنى، وإن لم يكن من ذوات
الأمثال كان الأخذ بقيمته تملكا
بالمثل معنى؛ لأن قيمته مقدار
ماليته بتقويم المقومين؛ لهذا
سميت قيمته لقيامه مقامه فكان
مثله معنى. وأما قيمة الدار فلا
تكون مثل العبد والثوب لا صورة
ولا معنى فالتملك بها لا يكون
تملكا بالمثل فلا
ج / 5 ص -27-
يتحقق معنى الأخذ بالشفعة. ولو تبايعا دارا بدار فلشفيع كل واحدة من
الدارين أن يأخذها بقيمتها؛ لأن
الدار ليست من ذوات الأمثال فلا
يمكن الأخذ بمثلها فيأخذ بقيمتها
كالعبد والثوب، وعلى هذا يخرج ما
لو اشترى دارا بعرض ولم يتقابضا
حتى هلك العرض بطل البيع فيما بين
البائع والمشتري وللشفيع الشفعة،
وكذلك لو كان المشتري قبض الدار
ولم يسلم العرض حتى هلك؛ أما
بطلان البيع فيما بين البائع
والمشتري؛ فلأن العرض مبيع إذ
المبيع في الأصل ما يتعين
بالتعيين في البيع، والعرض يتعين
بالتعيين في البيع فكان مبيعا،
وهلاك المبيع قبل القبض يوجب
بطلان البيع لتعذر التسليم بعد
الهلاك فلم يكن في إبقاء العقد
فائدة فيبطل. وأما بقاء الشفعة
للشفيع؛ فلأن الواجب عليه قيمة
العرض لا عينه، والقيمة مقدور
التسليم في حقه فكان بقاء العرض
في حق الشفيع وهلاكه بمنزلة
واحدة.ثم الشفيع إنما يأخذ بما
وجب بالعقد لا بما أعطى بدلا من
الواجب لما ذكرنا أن الأخذ
بالشفعة يملك بمثل ما تملك به
المشتري، والمشتري تملك المبيع
بالمسمى وهو الواجب بالعقد فيأخذه
الشفيع به حتى لو اشترى الدار
بالدراهم والدنانير ثم دفع مكانها
عرضا فالشفيع يأخذ بالدراهم
والدنانير لا بالعرض؛ لأن الدراهم
والدنانير هي الواجبة بالعقد وأما
العرض فإنما أخذه البائع بعقد آخر
وهو الاستبدال فلم يكن واجبا
بالعقد فصار كأن البائع اشترى
بالثمن عرضا ابتداء ثم حضر
الشفيع، ولو كان كذلك لكان يأخذ
بالثمن لا بالعرض، كذا هذا، والله
عز وجل أعلم. ولو زاد المشتري
البائع في الثمن فالزيادة لا تلزم
الشفيع لأن الشفيع إنما يأخذ بما
وجب بالعقد، والزيادة ما وجبت
بالعقد في حق الشفيع لانعدامها
وقت العقد حقيقة إلا أنها جعلت
موجودة عند العقد في حق
المتعاقدين تصحيحا لتصرفهما فلا
يظهر الوجود في حق الشفيع فلم تكن
الزيادة ثمنا في حقه بل كانت هبة
مبتدأة فلا تتعلق بها الشفعة
كالهبة المبتدأة ولو حط البائع عن
المشتري أو أبرأه عن البعض
فالشفيع يأخذ بما بقي؛ لأن حط بعض
الثمن يلتحق بأصل العقد ويظهر في
حق الشفيع كأن العقد ما ورد إلا
على هذا القدر بخلاف الزيادة فإن
التحاقها لا يظهر في حق الشفيع
لما بينا ولأن في تصحيح الزيادة
ثمنا في حق الشفيع ضررا به ولا
ضرر عليه في الحط، ولو حط جميع
الثمن يأخذ الشفيع بجميع الثمن
ولا يسقط عنه شيء لأن حط كل الثمن
لا يلتحق بأصل العقد؛ لأنه لو
التحق لبطل البيع لأنه يكون بيعا
بلا ثمن فلم يصح الحط في حق
الشفيع والتحق في حقه بالعدم
فيأخذ بجميع الثمن ولا يسقط عنه
شيء؛ لأن حط كل الثمن لا يلتحق
بأصل العقد وصح في حق المشتري وإن
كان إبراء له عن الثمن. ولو اشترى
دارا بثمن مؤجل فالشفيع بالخيار
إن شاء أخذها بثمن حال وإن شاء
انتظر مضي الأجل فأخذ عند ذلك،
وليس له أن يأخذها للحال بثمن
مؤجل؛ لأن الشفيع إنما يأخذ بما
وجب بالبيع، والأجل لم يجب بالبيع
وإنما وجب بالشرط والشرط لم يوجد
في حق الشفيع ولهذا لم يثبت خيار
المشتري للشفيع بأن اشترى على أنه
بالخيار؛ لأن ثبوته بالشرط ولم
يوجد من الشفيع، وكذا البراءة عن
العيب لا تثبت في حق الشفيع؛ لأن
ثبوتها بالشرط ولم يوجد مع
الشفيع، كذا هذا. وله أن يمتنع من
الأخذ في الحال؛ لأن الشفيع غير
مجبور على الأخذ بالشفعة، ولو
اختار الشفيع أخذ الدار بثمن حال
كان الثمن للبائع على المشتري إلى
أجل لأن الأخذ من المشتري تملك
منه بمنزلة التملك المبتدإ كأنه
اشترى منه فلا يوجب بطلان البيع
الأول فبقي الأول على حاله فكان
الثمن على حاله إلى أجله. وروي عن
أبي يوسف في شراء الدار بثمن مؤجل
أنه يجب على الشفيع أن يطلب عند
علمه بالبيع فإن سكت إلى حين محل
الأجل فذلك تسليم منه ثم رجع وقال
إذا طلب عند حل الأجل فله الشفعة
وإن لم يطلب عند علمه بالبيع.
"وجه" قوله الأول أن وقت الطلب هو
وقت العلم بالبيع لا وقت حل الأجل
فقد أخره عن وقته من غير عذر فبطل
الحق. "وجه" قوله الآخر أن الطلب
لا يراد لعينه بل لتأكيد الحق
واستقراره، والتأكيد لا يراد
لنفسه بل لإمكان الأخذ، وله أن لا
يأخذ قبل حل الأجل فله أن لا يطلب
قبل حله أيضا والله تعالى أعلم.
"فصل" وأما بيان
ما يتملك بالشفعة فالذي يتملكه
الشفيع بالشفعة هو الذي ملكه
المشتري بالشراء سواء ملكه أصلا
أو تبعا بعد أن يكون متصلا وقت
التملك بالشفعة، وذلك نحو البناء
والغرس والزرع والثمر وهذا
استحسان
ج / 5 ص -28-
والقياس أن لا يؤخذ البناء والغرس والزرع والثمر بالشفعة. "وجه"
القياس أن الشفيع إنما يتملك ما
يثبت له فيه حق الشفعة وأنه يثبت
في العقار لا في المنقول وهذه
الأشياء منقولة فلم يثبت فيها
الحق فلا تتملك بالشفعة وخاصة
الزرع والثمر؛ لأنهما مبيعان
ومقصودان لا يدخلان في العقد من
غير تسمية فلم يثبت الحق فيهما لا
أصلا ولا تبعا، ولنا أن الحق إذا
ثبت في العقار يثبت فيما هو تبع
له؛ لأن حكم التبع حكم الأصل،
وهذه الأشياء تابعة للعقار حالة
الاتصال أما البناء والغرس
فظاهران؛ لأن قيامهما بالأرض
وكذلك الزرع والثمر؛ لأن قيام
الزرع وقيام الثمر بالشجر وقيام
الشجر بالأرض فكان تبعا للأرض
بواسطة الشجر فيثبت الحق فيهما
تبعا فيملكهما بالشفعة بطريق
التبعية إلا أنهما لا يدخلان في
العقد إلا بالتسمية مع وجود
التبعية حقيقة بالنص وهو ما سنروي
في كتاب البيوع عن سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من باع نخلا قد أبرت فثمرتها
للبائع إلا أن يشترطها المبتاع".
فما دام البناء والشجر متصلا
بالأرض فللشفيع أن يأخذ الأرض معه
بالثمن الأول وكذا له أن يأخذ
الأرض مع الثمر والزرع بالثمن
الأول بقلا كان الزرع أو مستحصدا
إذا كان متصلا، فأما إذا زال
الاتصال ثم حضر الشفيع فلا سبيل
للشفيع عليه، وإن كان عينه قائمة
سواء كان الزوال بآفة سماوية أو
بصنع المشتري أو الأجنبي؛ لأن حق
الشفعة في هذه الأشياء إنما ثبت
معدولا به عن القياس معلولا
بالتبعية وقد زالت التبعية بزوال
الاتصال فيرد الحكم فيه إلى أصل
القياس، وهل يسقط عن الشفيع حصته
من الثمن؟ هذا لا يخلو إما إن كان
مما يدخل في العقد من غير تسمية
وإما إن كان مما لا يدخل فيه إلا
بالتسمية فإن كان مما يدخل في
العقد من غير تسمية كالبناء
والشجر ينظر؛ إن كان زوال الاتصال
بآفة سماوية بأن احترق البناء أو
غرق أو جف شجر البستان لا يسقط
شيء من الثمن والشفيع يأخذ الأرض
بجميع الثمن إن شاء أخذ وإن شاء
ترك. وكذلك لو انهدمت الدار سواء
بقي عين النقض أو هلك كذا ذكر
القدوري رحمه الله في مختصره وسوى
بينه وبين الغرق والحرق، وفرق
الكرخي رحمه الله فقال: إن احترق
أو غرق ولم يبق منه شيء لا يسقط
شيء من الثمن، وإن انهدم يسقط عن
الشفيع حصته من الثمن، وسوى بينه
وبين ما إذا انهدم بفعل المشتري
أو الأجنبي لكنه فرق بينهما من
وجه آخر وهو أن هناك تعتبر قيمته
متصلا فيقسم الثمن على قيمة
البناء مبنيا وعلى قيمة الأرض
فيأخذ الأرض بحصتها من الثمن
وههنا يعتبر منفصلا ساقطا ويسقط
ذلك القدر من الثمن. والصحيح ما
ذكره القدوري رحمه الله؛ لأن
البناء تبع والأتباع لا حصة لها
من الثمن إلا أن تصير مقصودة
بالفعل وهو الإتلاف والقبض ولم
يوجد؛ ولهذا لو احترق أو غرق لا
يسقط شيء من الثمن، كذا هذا وإن
كان زوال الاتصال بفعل المشتري أو
أجنبي بأن انهدم البناء أو قطع
الشجر تسقط حصته من الثمن؛ لأنه
صار مقصودا بالإتلاف فصار له حصة
من الثمن كأطراف العبد ويقسم
الثمن على البناء مبنيا وعلى قيمة
الأرض؛ لأنه إنما يسقط حصة البناء
فصار مضمونا عليه بفعله وهو الهدم
والهدم صادفه وهو مبني فتعتبر
قيمته مبنيا بخلاف ما إذا انهدم
بنفسه على رواية الكرخي رحمه
الله؛ لأنه انهدم لا بصنع أحد
فيعتبر حاله يوم الانهدام، ولو لم
يهدم المشتري البناء لكنه باعه
بغير أرض ثم حضر الشفيع كان أحق
بالبناء والأرض فيأخذ وينتقض
البيع في البناء؛ لأنه باع
البناء. وحق الشفيع متعلق به تبعا
للأرض لوجود الاتصال فكان سبيلا
من إبطال البيع كما لو باع الأصل
وهو الأرض ثم حضر الشفيع أن له أن
يأخذ، وينتقض البيع كما قلنا، كذا
هذا. وإن كان مما لا يدخل في
العقد إلا بالتسمية كالثمر والزرع
يسقط عن الشفيع حصته من الثمن
سواء كان زوال الاتصال بصنع العبد
أو بآفة سماوية بخلاف الفصل الأول
إذا احترق البناء أو غرق أو انهدم
على رواية القدوري رحمه الله أنه
لا يسقط شيء من الثمن؛ لأن البناء
مبيع تبعا لا مقصودا لثبوت حكم
البيع فيها تبعا لا مقصودا
بالتسمية، والأتباع ما لها حصة من
الثمن إلا إذا صارت مقصودة بالفعل
ولم يوجد، فأما الثمر والزرع فكل
واحد منهما مبيع مقصود ألا يرى
أنه لا يدخل في العقد من غير
تسمية؟ فلا بد وأن يخصه شيء من
الثمن فإن هلك يهلك بحصته من
الثمن سواء هلك بنفسه أو
بالاستهلاك لما قلنا، وتعتبر
قيمته يوم العقد؛ لأنه أخذ الحصة
بالعقد فتعتبر قيمته يوم العقد
فيقسم الثمن على قيمة
ج / 5 ص -29-
الأرض وعلى قيمة الزرع وقت العقد لكنه كيف تعتبر قيمتها يوم العقد
مفصولا مجذوذا أم قائما؟ روي عن
أبي يوسف أنه تعتبر قيمة الزرع
وهو بقل مفصول ومجذوذ فيسقط عنه
ذلك القدر. وروي عن محمد في
النوادر أنه يعتبر قيمته قائما
فتقوم الأرض وفيها الزرع والثمر
وتقوم وليس فيها الزرع والثمر
فيسقط عن الشفيع ما بين ذلك.
"وجه" قول محمد أن الزرع دخل في
العقد وهو متصل ويثبت الحق فيه
وهو منفصل، وكذا الثمر فتعتبر
قيمتها على صفة الاتصال على أن في
اعتبار حالة الانفصال إضرارا
بالشفيع إذ ليس للمفصول والثمر
المجذوذ كثير قيمة فيتضرر به
الشفيع. "وجه" قول أبي يوسف إن حق
الشفيع إنما سقط بعد زوال الاتصال
فتعتبر قيمتها منفصلا لا متصلا.
وكذا لو كانت الأرض مبذورة ولم
يطلع الزرع بعد ثم طلع فقصله
المشتري عند أبي يوسف يقسم الثمن
على قيمة البذر وعلى قيمة الأرض
فيسقط قدر قيمة البذر عن الثمن
وعند محمد تقوم الأرض مبذورة وغير
مبذورة فيسقط عنه ما بين ذلك إذا
آجر الشفيع الأرض مع الشجر بحصتها
من الثمن وبقيت الثمرة في يد
البائع هل يثبت الخيار للمشتري؟
ذكر محمد أن الثمرة لازمة للمشتري
ولا خيار له. ولو كان البائع أتلف
الثمرة قبل أن يأخذ الشفيع الأرض
بالشفعة فالمشتري بالخيار إن شاء
أخذ الأرض بحصتها من الثمن وإن
شاء ترك؛ لأنه لما أتلف الثمرة
فقد فرق الصفقة على المشتري قبل
التمام من غير رضاه وأنه يوجب
الخيار، بخلاف ما إذا كان الشفيع
أخذ الأرض بالشفعة؛ لأن التفريق
هناك حصل برضا المشتري؛ لأن حق
الشفيع كان ثابتا في المأخوذ وأنه
حق لازم فكان التفريق هناك لضرورة
حق ثابت لازم شرعا فكان المشتري
راضيا به، والتفريق المرضي به لا
يوجب الخيار والله سبحانه وتعالى
أعلم.هذا إذا كانت هذه الأشياء
موجودة عند العقد متصلة بالعقار
ودام الاتصال إلى وقت التملك
بالشفعة أو زال ثم حضر الشفيع.
فأما إذا لم تكن موجودة عند العقد
ووجدت بعده ثم حضر الشفيع فإن كان
الحادث مما يثبت حكم البيع فيه
تبعا وهو الثمر بأن وقع البيع ولا
ثمر في الشجر ثم أثمر بعده ثم حضر
الشفيع فما دام متصلا يأخذه
الشفيع مع الأرض بالثمن الأول
استحسانا؛ لأنه ثبت حكم البيع فيه
تبعا لثبوته في الأرض بواسطة
الشجر فكان مبيعا تبعا فيثبت حق
الشفعة تبعا سواء حدث في يد
المشتري أو في يد البائع؛ لأن
الشفعة موجودة في الحالين فإن زال
الاتصال فحضر الشفيع؛ فإن كان حدث
في يد المشتري فالشفيع يأخذ الأرض
والشجر بالثمن الأول إن شاء، وإن
شاء ترك ولا يسقط شيء من الثمن،
وسواء كان زواله بآفة سماوية وهو
قائم بعد الزوال أو هالك أو كان
زواله بفعل أحد؛ أما إذا كان بآفة
سماوية وهو قائم أو هالك؛ لأنه
كان تبعا حالة الاتصال ولم يرد
عليه فعل يصير به مقصودا، والتبع
لا يصير له حصة من الثمن بدونه،
وأما إذا كان الزوال بصنع العبد
بأن جذه المشتري وهو قائم أو
هالك؛ فلأنه لم يرد عليه العقد
ولا القبض. وإن كان حدث في يد
البائع فإن كان الزوال بآفة
سماوية وهو قائم أو هالك فكذلك
أخذ الشفيع الأرض والشجر بجميع
الثمن إن شاء؛ لأنه لم يوجد فعل
يصير به مقصودا فيقابله الثمن،
وإن كان بفعل البائع بأن استهلكه
يسقط عن الشفيع حصته من الثمن
لصيرورته مقصودا بالإتلاف، وإن
كان الحادث مما لم يثبت فيه حكم
البيع رأسا لا أصلا ولا تبعا بأن
بنى المشتري بناء أو غرس أو زرع
ثم حضر الشفيع يقضى له بشفعة
الأرض ويجبر المشتري على قلع
البناء والغرس وتسليم الساحة إلى
الشفيع إلا إذا كان في القلع
نقصان الأرض فللشفيع الخيار؛ إن
شاء أخذ الأرض بالثمن، والبناء
والغرس بقيمته مقلوعا وإن شاء
أجبر المشتري على القلع وهذا جواب
ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف
أنه لا يجبر المشتري على قلع
البناء والغرس ولكنه يأخذ الأرض
بثمنها والبناء والغرس بقيمته
قائما غير مقلوع إن شاء وإن شاء
ترك وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه
وأجمعوا على أن المشتري لو زرع في
الأرض ثم حضر الشفيع أنه لا يجبر
المشتري على قلعه ولكنه ينتظر
إدراك الزرع ثم يقضى له بالشفعة
فيأخذ الأرض بجميع الثمن. "وجه"
رواية أبي يوسف رحمه الله أن في
الجبر على النقض ضررا بالمشتري
وهو إبطال تصرفه في ملكه وفيما
قلنا مراعاة الجانبين. "أما" جانب
المشتري فظاهر؛ لأن فيه صيانة حقه
عن الإبطال. "وأما" جانب الشفيع؛
فلأنه يأخذ البناء بقيمته، وأخذ
الشيء بقيمته لا ضرر فيه على أحد.
"وجه" ظاهر
ج / 5 ص -30-
الرواية أن حق الشفيع كان متعلقا بالأرض قبل البناء ولم يبطل ذلك
بالبناء بل بقي فإذا قضي له
بالشفعة فقد صار ذلك الحق ملكا له
فيؤمر بتسليم ملكه إليه ولا يمكنه
التسليم إلا بالنقض فيؤمر بالنقض
ولهذا أمر الغاصب والمشتري عند
الاستحقاق بالنقض كذا هذا قوله:
في النقض ضرر بالمشتري؛ قلنا إن
كان فيه ضرر به فهو الذي أضر
بنفسه حيث بنى على محل تعلق به حق
غيره، ولو أخذ الشفيع الأرض
بالشفعة وبنى عليها ثم استحقت
وأمر الشفيع بنقض البناء فإن
الشفيع يرجع على المشتري بالثمن
ولا يرجع عليه بقيمة البناء إن
كان أخذ منه ولا على البائع أيضا
إن كان أخذ منه في ظاهر الرواية
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه
يرجع عليه. "وجه" هذه الرواية أن
الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء من
المشتري ولو كان اشتراه لرجع عليه
كذا إذا أخذه بالشفعة له الرجوع
بقيمة البناء في الشراء لوجود
الغرور من البائع وضمان السلامة
للمشتري؛ لأن كل بائع مخير
للمشتري أنه يبيع ملك نفسه وشارط
سلامة ما يبنى فيه دلالة فإذا لم
يسلم يدفع بحكم الضمان المشروط
دلالة؛ إذ ضمان الغرور ضمان
الكفالة في الحقيقة ولا غرور من
المشتري في حق الشفيع؛ لأنه مجبور
على التملك منه، وحق الرجوع بضمان
الغرور على المختار لا على
المجبور؛ كالجارية المأسورة إذا
اشتراها رجل فأخذها المالك القديم
بالثمن واستولدها ثم استحقت من
يده وقضي عليه بالعقر وقيمة الولد
فإنه يرجع على المشتري بالثمن
الذي دفعه إليه ولا يرجع عليه
بقيمة الولد، ومثله إذا استولد
جارية بالشراء ثم استحقت فإن
المشتري يرجع على بائعه بالثمن
وبقيمة الولد ؛ لصيرورته مغرورا
من جهته ولا غرور من المشتري من
الحربي لكونه مجبورا في التملك
عليه بما أخذه من الحربي، كذا
هذا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل" وأما بيان من يتملك منه الشقص المشفوع فيه فالشفيع يتملك من الذي
في يده ؛ إن كان في يد البائع
أخذه منه ونقده الثمن والعهدة
عليه، وإن كان في يد المشتري أخذه
ودفع الثمن إليه والعهدة عليه
سواء كان المشتري عاقدا لنفسه أو
لغيره؛ بأن كان وكيلا بالشراء
وقبض الدار ثم حضر الشفيع. وهذا
جواب ظاهر الرواية وروي عن أبي
يوسف رحمه الله أنه لا يأخذها من
يد الوكيل. "وجه" هذه الرواية أن
الوكيل لم يشتر لنفسه وإنما اشترى
لموكله فلم يكن هو خصما بل الخصم
الموكل فلا يأخذ منه ولكن يقال له
سلم الدار إلى الموكل، فإذا سلم
يأخذها الشفيع منه. "وجه" ظاهر
الرواية أن الشفعة من حقوق العقد
وأنها راجعة إلى الوكيل، والوكيل
في الحقوق أصل بمنزلة المشتري
لنفسه فكان خصم الشفيع فيأخذ
الدار منه بالثمن وكانت العهدة
عليه وإن كان الوكيل سلم الدار
إلى الموكل ثم حضر الشفيع فإنه
يأخذ الدار من الموكل ويدفع الثمن
إليه وكانت العهدة عليه، ولا
خصومة للشفيع مع الوكيل؛ لأنه
بالتسليم إلى الموكل زالت يده عن
الدار فخرج من أن يكون خصما
بمنزلة البائع إذا سلم الدار إلى
المشتري أنه لا خصومة للشفيع مع
البائع لما قلنا، كذا هذا غير أن
الدار إذا كانت في يد البائع لم
يكن خصما ما لم يحضر المشتري،
وإذا كانت في يد الوكيل يكون خصما
وإن لم يحضر الموكل؛ لأن الوكيل
بالتوكيل قائم مقام الموكل
والبائع ليس بقائم مقام المشتري
لانعدام ما يوجب ذلك. ولو قال
المشتري قبل أن يخاصمه الشفيع في
الشفعة إنما اشتريت لفلان، وسلم
إليه ثم حضر الشفيع فلا خصومة
بينه وبين المشتري؛ لأنه أقر قبل
أن يكون خصما للشفيع فصح إقراره
لانعدام التهمة، فصار كما لو كانت
الوكالة معلومة. ولو أقر بذلك
بعدما خاصمه الشفيع لم تسقط
الخصومة عنه؛ لأنه متهم في هذا
الإقرار لصيرورته خصما للشفيع فلا
يقبل في إبطال حقه ولو أقام بينة
أنه قال قبل الشراء إنما اشترى
لفلان لم تقبل بينته؛ لأن هذه
البينة لو صدقت لم تدفع الخصومة
عنه؛ لأنه لا يثبت بها إلا الشراء
لفلان وبهذا لا تندفع عنه الخصومة
وروي عن محمد أنها لا تقبل لإثبات
الملك للغائب وتقبل لدفع الخصومة
بينه وبين الشفيع حتى يحضر المقر
له.
"فصل"
في بيان حكم اختلاف الشفيع والمشتري وأما بيان حكم اختلاف الشفيع
والمشتري فاختلافهما لا يخلو إما
أن يرجع إلى الثمن ، وإما أن يرجع
إلى المبيع ، وإما أن يرجع إلى
صفة المبيع ؛ أما. الذي يرجع إلى
الثمن فلا يخلو. إما أن يقع
الاختلاف في جنس الثمن وإما أن
يقع في قدره وإما أن يقع في صفته
وإن وقع في الجنس بأن قال
المشتري: اشتريت بمائة دينار ،
وقال الشفيع: لا بل
ج / 5 ص -31-
بألف درهم فالقول قول المشتري؛ لأن الشفيع يدعي عليه التملك بهذا
الجنس وهو ينكر فكان القول قول
المنكر مع يمينه ولأن المشتري
أعرف بجنس الثمن من الشفيع؛ لأن
الشراء وجد منه لا من الشفيع فكان
أعرف به من الشفيع فيرجع في معرفة
الجنس إليه. وإن وقع الاختلاف في
قدر الثمن بأن قال المشتري:
اشتريت بألفين وقال الشفيع: بألف،
فالقول قول المشتري مع يمينه وعلى
الشفيع البينة أنه اشتراه بألف؛
لأن الشفيع يدعي التملك على
المشتري بهذا القدر من الثمن
والمشتري ينكر فكان القول قول
المنكر ولو صدق البائع الشفيع بأن
قال: بعت بألف ينظر في ذلك إن كان
البائع ما قبض الثمن فالقول قول
البائع والشفيع يأخذ بالألف سواء
كان المبيع في يد البائع أو في يد
المشتري إذا لم يكن نقد الثمن؛
لأن البائع إذا لم يكن قبض الثمن
فالتملك يقع عليه بتمليكه فيرجع
في مقدار ما ملك به إلى قوله ولأن
الشراء لو وقع بألف كما قاله
البائع أخذ الشفيع به وإن وقع
بألفين كما قاله المشتري كان قول
البائع بعت بألف حط بعض الثمن عن
المشتري، وحط بعض الثمن يصح ويظهر
في حق الشفيع على ما مر. وإن كان
البائع قبض الثمن لا يلتفت إلى
تصديقه والقول قول المشتري؛ لأنه
إذا قبض الثمن لم يبق له حق في
المبيع أصلا وصار أجنبيا فالتحق
تصديقه بالعدم، وقيل إنه يراعى
التقديم والتأخير في تصديق البائع
فإن بدأ بالإقرار بالبيع بأن قال:
بعت الدار بألف وقبضت الثمن
فالشفيع يأخذها بألف، وإن بدأ
بالإقرار بقبض الثمن بأن قال:
قبضت الثمن وهو الألف لا يلتفت
إلى قوله؛ لأنه لما بدأ بالإقرار
بالبيع فقال بعت بألف فقد تعلق به
حق الشفعة فهو بقوله قبضت الثمن
يريد إسقاط حق متعلق بقوله فلا
يصدق، وإذا بدأ بالإقرار بقبض
الثمن فقد صار أجنبيا فلا يقبل
قوله في مقدار الثمن. وروى الحسن
عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أن
المبيع إذا كان في يد البائع فأقر
بقبض الثمن وزعم أنه ألف فالقول
قوله؛ لأن المبيع إذا كان في يد
البائع فالتملك يقع عليه فكان
القول قوله في مقدار الثمن، ولو
اختلف البائع مع المشتري والشفيع
والدار في يد البائع أو المشتري
لكنه لم ينقد الثمن فالقول في ذلك
قول البائع، والبائع مع المشتري
يتحالفان ويترادان، والشفيع يأخذ
الدار بما قال البائع إن شاء، أما
التحالف والتراد فيما بين البائع
والمشتري فلقوله عليه الصلاة
والسلام "إذا اختلف المتبايعان
تحالفا وترادا". وأما أخذ الشفيع
بقول البائع "إن شاء"؛ فلأنه إذا
لم يقبض الثمن فالتملك يقع عليه
فكان القول في مقدار الثمن في حق
الشفيع قوله، وإن كان البائع قد
قبض الثمن فلا يلتفت إلى قوله؛
لأنه صار أجنبيا على ما بينا هذا
إذا لم يكن لأحدهما بينة لا
للشفيع ولا للمشتري، فإن قامت
لأحدهما بينة قبلت بينته وإن
أقاما جميعا البينة فالبينة بينة
الشفيع عند أبي حنيفة ومحمد، وعند
أبي يوسف البينة بينة المشتري.
"وجه" قوله أن بينة المشتري تظهر
زيادة فكانت أولى بالقبول كما إذا
اختلف البائع والمشتري في مقدار
الثمن فقال البائع بعت بألفين
وقال المشتري بألف، وأقاما جميعا
البينة فالبينة بينة البائع لما
قلنا، والجامع بينهما من وجهين:
أحدهما: أن الزيادة التي تظهرها
إحدى البينتين لا معارض لها فتقبل
في قدر الزيادة لخلوها عن المعارض
ولا يمكن إلا بالقبول في الكل
فتقبل في الكل ضرورة، والثاني: أن
البينة المظهرة للزيادة مثبتة
والأخرى نافية، والمثبت يترجح على
النافي. ولأبي حنيفة رضي الله عنه
طريقتان؛ إحداهما ذكرها أبو يوسف
لأبي حنيفة ولم يأخذ بها،
والثانية ذكرها محمد وأخذ بها أما
الأولى فهي أن البينة جعلت حجة
للمدعي قال النبي عليه الصلاة
والسلام "البينة على المدعي"
والمدعي ههنا هو الشفيع؛ لأنه غير
مجبور على الخصومة في الشفعة بل
إذا تركها ترك والمشتري مجبور على
التملك عليه، بحيث لو ترك الخصومة
لا يترك فكان المدعي منهما هو
الشفيع فكانت البينة حجته. وأما
الثانية فهي أن البينة حجة من حجج
الشرع فيجب العمل بها ما أمكن
وههنا أمكن العمل بالبينتين في حق
الشفيع بأن يجعل كأنه وجد عقدان
أحدهما بألف والآخر بألفين؛ لأن
البيع الثاني لا يوجب انفساخ
البيع الأول في حق الشفيع وإن كان
يوجب ذلك في حق العاقدين؛ ألا ترى
أنه لو باع بألف ثم باع بألفين ثم
حضر الشفيع كان له أن يأخذ الدار
بألف دل أن البيعين قائمان في حق
الشفيع وأن الفسخ الأول في حقهما
فأمكن تقدير عقدين، بخلاف ما إذا
اختلف البائع والمشتري في مقدار
الثمن وأقاما البينة أن البينة
بينة البائع أما على الطريق
الأولى؛ فلأن البائع هناك هو
ج / 5 ص -32-
المدعي فكانت البينة حجته؛ ألا ترى أنه لا يجبر على الخصومة
والمشتري مجبور عليها، وههنا
بخلافه على ما بينا. وأما على
الطريق الثانية؛ فلأن تقدير عقدين
هنا متعذر؛ لأن البيع الثاني يوجب
انفساخ الأول في حق العاقدين فكان
العقد واحدا، والترجيح بجانب
البائع لانفراد بينته بإظهار فضل
فكانت أولى بالقبول والله سبحانه
وتعالى أعلم. ولو اشترى دارا بعرض
ولم يتقابضا حتى هلك العرض وانتقض
البيع فيما بين البائع والمشتري
أو كان المشتري قبض الدار ولم
يسلم العرض حتى هلك وانتقض البيع
فيما بينهما وبقي للشفيع حق
الشفعة بقيمة العرض على ما بينا
فيما تقدم ثم اختلف الشفيع
والبائع في قيمة العرض فالقول قول
البائع مع يمينه؛ لأن الشفيع يدعي
عليه التملك بهذا القدر من الثمن
وهو ينكر، فإن أقام أحدهما بينة
قبلت بينته وإن أقاما جميعا
البينة فالقول قول البائع عند أبي
يوسف ومحمد، وهو قول أبي حنيفة
على قياس العلة التي ذكرها محمد
لأبي حنيفة رحمه الله في تلك
المسألة، أما عند أبي حنيفة
فظاهر؛ لأن بينة البائع انفردت
بإثبات زيادة وكذلك عند محمد على
قياس ما ذكره لأبي حنيفة في تلك
المسألة وأخذ به؛ لأن تقدير عقدين
ههنا غير ممكن؛ لأن العقد وقع على
عرض بعينه وإنما اختلفا في قيمة
ما وقع عليه العقد فكان العقد
واحدا فلا يمكن العمل بالبينتين
فيعمل بالراجح منهما وهو بينة
البائع لانفرادها بإظهار الفضل،
وكذلك عند أبي حنيفة على قياس ما
علل له محمد. وأما على قياس ما
علل له أبو يوسف فينبغي أن تكون
البينة بينة الشفيع؛ لأنه هو
المدعي وهكذا ذكر الطحاوي رحمه
الله والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو هدم المشتري بناء الدار حتى
سقط عن الشفيع قدر قيمته من الثمن
ثم اختلفا في قيمة البناء فهذا لا
يخلو. "إما" أن اختلفا في قيمة
البناء واتفقا على قيمة الساحة
وإما أن اختلفا في قيمة البناء
والساحة جميعا؛ فإن اختلفا في
قيمة البناء لا غير فالقول قول
المشتري مع يمينه؛ لأن الشفيع
يدعي على المشتري زيادة في السقوط
وهو ينكر، وإن اختلفا في قيمة
البناء والساحة جميعا فإن الساحة
تقوم الساعة والقول في قيمة
البناء قول المشتري. "أما" تقوم
الساحة الساعة؛ فلأنه يمكن معرفة
قيمتها للحال فيستدل بالحال على
الماضي ولا يمكن تحكيم الحال في
البناء؛ لأنه تغير عن حاله،
والقول قول المشتري لما قلنا، فإن
قامت لأحدهما بينة قبلت بينته وإن
أقاما جميعا البينة؛ قال أبو
يوسف: البينة بينة الشفيع على
قياس قول أبي حنيفة رحمه الله
وقال محمد البينة بينة المشتري
على قياس قول أبي حنيفة وقال أبو
يوسف من تلقاء نفسه البينة بينة
المشتري؛ لأنها تظهر زيادة وإنما
اختلفا في القياس على قول أبي
حنيفة لاختلاف الطريقين اللذين
ذكرناهما له في تلك المسألة؛
فطريق أبي يوسف أن الشفيع هو
المدعي والبينة حجة المدعي، وهذا
موجود ههنا وطريق محمد رحمه الله
العمل بالبينتين بتقدير عقدين،
وهذا التقدير منعدم هنا فيعمل
بإحدى البينتين وهي بينة المشتري
لانفرادها بإظهار زيادة والله
سبحانه وتعالى أعلم. وإن اختلفا
في صفة الثمن بأن قال المشتري
اشتريت بثمن معجل، وقال الشفيع لا
بل اشتريته بثمن مؤجل فالقول قول
المشتري؛ لأن الحلول في الثمن أصل
والأجل عارض فالمشتري يتمسك
بالأصل فيكون القول قوله؛ ولأن
العاقد أعرف بصفة الثمن من غيره
ولأن الأجل يثبت بالشرط فالشفيع
يدعي عليه شرط التأجيل وهو ينكر
فكان القول قوله. "وأما" الذي
يرجع إلى المبيع فهو أن يختلفا
فيما وقع عليه البيع أنه وقع عليه
بصفقة واحدة أم بصفقتين نحو ما
إذا اشترى دارا فقال المشتري
اشتريت العرصة على حدة بألف
والبناء بألف، وقال الشفيع لا بل
اشتريتهما جميعا بألفين والدار لي
ببنيانها، فالقول قول الشفيع؛ لأن
إفراد كل واحد منهما بالصفقة حالة
الاتصال ليس بمعتاد بل العادة
بيعهما صفقة واحدة فكان الظاهر
شاهدا للشفيع فكان القول قوله؛
ولأن سبب وجوب الشفعة في العرصة
يقتضي الوجوب في البناء تبعا له
حالة الاتصال، وشرط الوجوب هو
الشراء وقد أقر المشتري بالشراء
إلا أنه يدعي زيادة أمر وهو تفريق
الصفقة فلا يصدق إلا بتصديق
الشفيع أو ببينة ولم توجد، وأيهما
أقام البينة قبلت بينته وإن أقاما
جميعا البينة ولم يوقتا وقتا
فالبينة بينة المشتري عند أبي
يوسف، وعند محمد البينة بينة
الشفيع. "وجه" قول محمد أن بينة
الشفيع أكثر إثباتا؛ لأنها تثبت
زيادة استحقاق وهو استحقاق البناء
فكانت أولى بالقبول؛ ولأن العمل
بالبينتين ههنا ممكن بأن يجعل
كأنه باعهما بصفقتين ثم باعهما
ج / 5 ص -33-
بصفقة واحدة فكان للشفيع أن يأخذها بأيهما شاء. "وجه" قول أبي يوسف
أن بينة المشتري أكثر إثباتا؛
لأنها تثبت زيادة صفقة فكانت أولى
بالقبول فأبو يوسف نظر إلى زيادة
الصفقة ومحمد نظر إلى زيادة
الاستحقاق، وقال أبو يوسف: إذا
ادعى المشتري أنه أحدث البناء في
الدار وقال الشفيع لا بل اشتريتها
والبناء فيها أن القول قول
المشتري؛ لأنه لم يوجد من المشتري
الإقرار بشراء البناء والشفيع
يدعي عليه استحقاق البناء وهو
ينكر. ولو اشترى دارين ولهما شفيع
ملاصق فقال المشتري: اشتريت واحدة
بعد واحدة وأنا شريكك في الثانية،
وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما
صفقة واحدة ولي الشفعة فيهما
جميعا، فالقول قول الشفيع؛ لأن
سبب الاستحقاق ثابت فيهما جميعا
وهو الجوار على سبيل الملاصقة وقد
أقر المشتري بشرط الاستحقاق وهو
شراؤهما إلا أنه بدعوى تفريق
الصفقة يدعي البطلان بعد وجود
السبب وشرطه من حيث الظاهر فلا
يصدق إلا ببينة، وأيهما أقام بينة
قبلت بينته وإن أقاما جميعا
البينة فهو على الاختلاف الذي
ذكرنا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله ولو قال المشتري: وهب لي هذا
البيت مع طريقه من هذه الدار ثم
اشتريت بقيتها، وقال الشفيع: لا
بل اشتريت الكل فللشفيع الشفعة
فيما أقر أنه اشترى ولا شفعة له
فيما ادعى من الهبة؛ لأنه وجد سبب
الاستحقاق وهو الجوار ووجد شرطه
وهو الشراء بإقرار، فهو بدعوى
الهبة يريد بطلان حق الشفيع فلا
يصدق، وللشفيع الشفعة فيما أقر
بشرائه ولا شفعة له في الموهوب؛
لأنه لم يوجد من المشتري الإقرار
بشرط الاستحقاق على الموهوب
وأيهما أقام البينة قبلت بينته،
وإن أقاما جميعا البينة فالبينة
بينة المشتري عند أبي يوسف رحمه
الله؛ لأنها تثبت زيادة الهبة،
وينبغي أن تكون البينة بينة
الشفيع عند محمد رحمه الله؛ لأنها
تثبت زيادة الاستحقاق. وروي عن
محمد فيمن اشترى دارا وطلب الشفيع
الشفعة فقال المشتري: اشتريت نصفا
ثم نصفا فلك النصف الأول، وقال
الشفيع: لا بل اشتريت الكل صفقة
واحدة ولي الكل فالقول قول
الشفيع؛ لأن سبب ثبوت الحق في
الكل كان موجودا وقد أقر بشرط
الثبوت؛ وهو الشراء، ولكنه يدعي
أمرا زائدا وهو تفريق الصفقة فلا
يقبل ذلك منه إلا ببينة، فإن قال
المشتري: اشتريت ربعا ثم ثلاثة
أرباع فلك الربع فقال الشفيع: لا
بل اشتريت ثلاثة أرباع ثم ربعا
فالقول قول الشفيع؛ لأن السبب كان
موجودا وقد أقر المشتري بشراء
ثلاثة أرباع إلا أنه يدعي أمرا
زائدا وهو سبق الشراء في الربع
فلا يثبت إلا ببينة فإن قال
المشتري: اشتريت صفقة واحدة وقال
الشفيع: اشتريت نصفا ثم نصفا فأنا
آخذ النصف فالقول قول المشتري
يأخذ الشفيع الكل أو يدع؛ لأن
الشفيع يريد تفريق الصفة وفيه ضرر
الشركة فلا يقبل قوله إلا ببينة،
والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما
الذي يرجع إلى صفة البيع فهو أن
يختلفا في البتات والخيار أو في
الصحة والفساد بأن اشترى دارا
بألف درهم وتقابضا فأراد الشفيع
أخذها بالشفعة فقال البائع
والمشتري البيع كان بخيار البائع
ولو يمض فلا شفعة لك، وأنكر
الشفيع الخيار فالقول قول البائع
والمشتري وعلى الشفيع البينة أن
البيع كان باتا عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وهو إحدى
الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله.
وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أن
القول قول الشفيع. "وجه" هذه
الرواية أن الظاهر شاهد للشفيع؛
لأن البتات أصل في البيع والخيار
فيه عارض فكان القول قول من يتمسك
بالأصل. "وجه" ظاهر الرواية أن
الشفيع يدعي ثبوت حق الشفعة وهما
ينكران ذلك بقولهما كان فيه خيار؛
لأن حق الشفعة لا يجب في بيع فيه
خيار فكان القول قول المنكر؛ ولأن
البيع يقوم بالعاقدين فكانا أعرف
بصفقته من الشفيع، والرجوع في كل
باب إلى من هو أعرف به، ولهذا لو
تصادقا على أن الثمن كان دنانير
والشفيع يدعي أنه كان دراهم كان
القول قولهما، كذا هذا ولو كان
البائع غائبا والدار في يد
المشتري فأراد الشفيع أن يأخذ منه
فقال المشتري كان للبائع فيه خيار
وكذبه الشفيع فالقول قول المشتري
أيضا لما ذكرنا من المعنيين. وإن
اختلف العاقدان فيما بينهما فادعى
البائع الخيار وقال المشتري لم
يكن فيه خيار كان القول قول
المشتري ويأخذ الشفيع الدار في
الرواية المشهورة وروي عن أبي
يوسف أن القول قول البائع. "وجه"
هذه الرواية أن البائع بدعوى
الخيار منكر للبيع حقيقة؛ لأن
البيع بشرط الخيار غير منعقد في
حق الحكم، وخيار البائع يمنع زوال
المبيع
ج / 5 ص -34-
عن ملكه والمشتري والشفيع يدعيان الزوال عن ملكه فكان القول قول
البائع، كما لو وقع الاختلاف
بينهم في أصل العقد. "وجه" ظاهر
الرواية أن الخيار لا يثبت إلا
باشتراطهما فالبائع بدعوى الخيار
يدعي الاشتراط على المشتري وهو
ينكر فكان القول قوله كما لو ادعى
المشتري الشراء بثمن مؤجل وادعى
البائع التعجيل فالقول قول البائع
لما أن التأجيل لا يثبت إلا بشرط
يوجد من البائع وهو منكر للشرط
فكان القول قوله، كذا هذا بخلاف
ما لو أنكر البائع البيع والمشتري
يدعيه أن القول قول البائع لأنه
أنكر زوال ملكه ولم يدع على
المشتري فعلا فكان القول قوله.
ولو أراد الشفيع أن يأخذ الدار
المشتراة بالشفعة فقال البائع
والمشتري كان البيع فاسدا فلا
شفعة لك، وقال الشفيع كان جائزا
ولي الشفعة فهو على اختلافهم في
شرط الخيار للبائع؛ في قول أبي
حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن
أبي يوسف: القول قول العاقدين ولا
شفعة للشفيع. وفي رواية عن أبي
يوسف: القول قول الشفيع وله
الشفعة، فأبو يوسف يعتبر الاختلاف
بينهم في الصحة والفساد باختلاف
المتعاقدين فيما بينهما، ولو
اختلفا فيما بينهما في الصحة
والفساد كان القول قول من يدعي
الصحة، كذا هذا، والجامع أن الصحة
أصل في العقد، والفساد عارض وهما
يعتبران اختلافهم في هذا
باختلافهم في البتات والخيار
للبائع، والجامع أن الشفيع بدعوى
البتات والصحة يدعي عليهما حق
التمليك وهما بدعوى الخيار
والفساد ينكران ذلك فكان القول
قولهما، وكذا هما أعرف بصفة العقد
الواقع منهما لقيامه بهما فكان
القول في ذلك قولهما، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل" وأما بيان الحيلة في إسقاط الشفعة فقد ذكروا لإسقاط الشفعة حيلا
بعضها يعم الشفعاء كلهم وبعضها
يخص البعض دون البعض أما الذي يعم
كل الشفعاء فنحو أن يشتري الدار
بأكثر من قيمتها بأن كانت قيمتها
ألفا فيشتريها بألفين وينقد من
الثمن ألفا إلا عشرة ثم يبيع
المشتري من البائع عرضا قيمته
عشرة بألف درهم وعشرة فتحصل الدار
للمشتري بألف لا يأخذها الشفيع
إلا بألفين، وهذه الحيلة ليست
بمسقطة للشفعة شرعا لكنها مانعة
من الأخذ بالشفعة عادة ألا ترى أن
للشفيع أن يأخذها بألفين ويلتزم
الضرر. "وأما" الذي يخص بعض
الشفعاء دون بعض فأنواع منها أن
يبيع دارا إلا ذراعا منها في طول
الحد الذي يلي دار الشفيع،
فالشفيع لا يستحق الشفعة؛ أما في
قدر الذراع فلانعدام الشرط وهو
البيع وأما فيما وراء ذلك
فلانعدام السبب وهو الجوار، ومنها
أن يهب البائع الحائط الذي بينه
وبين الجار مع أصله للمشتري
مقسوما ويسلمه إليه أو يهب له من
الأرض قدر ذراع من الجانب الذي
يلي دار الشفيع ويسلمه إليه ثم
يبيع منه البقية بالثمن فلا شفعة
للجار لا في الموهوب ولا في
المبيع. "أما" في الموهوب
فلانعدام شرط وجوب الشفعة وهو
البيع وأما في المبيع فلانعدام
سبب الوجوب وهو الجوار، ومنها أن
يبيع الدار نصفين فيبيع الحائط
بأصله أولا بثمن كثير ثم يبيع
بقية الدار بثمن قليل فلا شفعة
للشفيع شرعا فيما وراء الحائط
لانعدام السبب وهو الجوار ولا
يأخذ الحائط عادة لكثرة الثمن.
ومنها أن يبيع الدار والأرض في
صفقتين فيبيع من الدار بناها ومن
الأرض أشجارها أولا بثمن قليل ثم
يبيع الأرض بثمن كثير فلا شفعة
للشفيع في البناء والشجر شرعا
لانفرادهما بالصفقة، ولا يأخذ
الأرض بذلك الثمن عادة ليضمن
تكثير الثمن ومنها أن يبيع الدار
نصفين فيبيع عشرا منها بثمن كثير
ثم يبيع البقية بثمن قليل فلا
يأخذ الشفيع العشر بثمنه عادة لما
فيه من الضرر، ولا شفعة له في
تسعة أعشارها شرعا لأنه حين اشترى
البقية كان شريك البائع بالعشر،
والشريك في البقعة مقدم على الجار
والخليط، وهذا النوع من الحيلة لا
يصلح للشريك؛ لأن الشفيع إذا كان
شريكا له أن يأخذ نصف البقعة
بقليل الثمن أيضا. ولو كانت الدار
لصغير فلا تباع بقية الدار بقليل
الثمن لأنه لا يجوز إذ هو بيع مال
الصغير بأقل من قيمته مقدار ما
يتغابن الناس في مثله عادة.
والولي لا يملك ذلك فالسبيل فيه
أن تباع بقية الدار بثمن مثله.
"ومنها" ما ذكره الخصاف رحمه الله
أن يقر البائع بسهم من الدار
للمشتري ثم يبيع بقية الدار منه
فلا يستحق الشفيع الشفعة، أما في
القدر المقر به فلانعدام شرط
الاستحقاق وهو البيع. وأما فيما
وراء ذلك؛ فلأن المشتري صار شريك
البائع في ذلك السهم، والشريك في
البقعة مقدم على الجار والخليط،
ومن
ج / 5 ص -35-
مشايخنا من كان يفتي بوجوب الشفعة في هذه الصورة ويخطئ الخصاف؛ لأن
الشركة في السهم المقر به لم تثبت
إلا بإقرار فلا يظهر في حق الشفيع
على ما بينا فيما تقدم والله عز
وجل أعلم.
"فصل" وأما الكلام في كراهة الحيلة للإسقاط وعدمها فالحيلة إما إن كانت
بعد وجوب الشفعة وإما إن كانت قبل
الوجوب؛ فإن كانت بعد الوجوب قيل
إنها مكروهة بلا خلاف وذلك بأن
يقول المشتري للشفيع صالحتك على
كذا كذا درهما على أن تسلم لي
شفعتك فيقبل فتبطل شفعته ولا
يستحق بدل الصلح، أو يقول له اشتر
الدار مني بكذا فيقول اشتريت
فتبطل شفعته ونحو ذلك، وإن كانت
قبل الوجوب فقد اختلف فيه قال أبو
يوسف رحمه الله لا تكره، وقال
محمد رحمه الله تكره. "وجه" قول
محمد أن شرع الحيلة يؤدي إلى سد
باب الشفعة وفيه إبطال هذا الحق
أصلا ورأسا. "وجه" قول أبي يوسف
إن الحيلة قبل الوجوب منع من
الوجوب بمباشرة سبب الامتناع شرعا
وهذا جائز كالشراء والهبة وسائر
التمليكات فإن المشتري يمنع حدوث
الملك للبائع في المبيع بمباشرة
سبب الامتناع شرعا وهو الشراء،
وكذا الهبة والصدقة وسائر
التمليكات. وقد خرج الجواب عن قول
محمد رحمه الله أن هذا إبطال لحق
الشفعة؛ لأن إبطال الشيء بعد
ثبوته ضرر والحق ههنا لم يثبت بعد
ذلك فلا تكون الحيلة إبطالا له بل
هو منع من الثبوت بمباشرة سبب
الامتناع شرعا وأنه جائز، فما
ذكره أبو يوسف رحمه الله هو الحكم
المروي وما ذكره محمد رحمه الله
احتياطا والأصل في شرع الحيلة
قوله سبحانه وتعالى في قصة سيدنا
أيوب عليه الصلاة والسلام
{وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ
وَلا تَحْنَثْ} والله سبحانه وتعالى أعلم. |