بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 5 ص -2-            بسم الله الرحمن الرحيم
"كتاب الاستصناع"
يحتاج لمعرفة مسائل هذا الكتاب إلى بيان صورة الاستصناع ومعناه، وإلى بيان جوازه، وإلى بيان حكمه، وإلى بيان صفته.
"فصل" أما صورة الاستصناع فهي أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفا، أو آنية من أديم أو نحاس، من عندك بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل وقدره وصفته، فيقول الصانع: نعم. وأما معناه: فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هو مواعدة وليس ببيع، وقال بعضهم: هو بيع، لكن للمشتري فيه خيار، وهو الصحيح؛ بدليل أن محمدا رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في العدات، وكذا أثبت فيه خيار الرؤية، وأنه يختص بالبياعات، وكذا يجري فيه التقاضي، وإنما يتقاضى فيه الواجب لا الموعود ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع.قال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة، وقال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. وجه القول الأول: أن الصانع لو أحضر عينا، كان عملها قبل العقد، ورضي به المستصنع؛ لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد؛ لما جاز؛ لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي والصحيح هو القول الأخير؛ لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعا؛ فكان مأخذ الاسم دليلا عليه؛ ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما، وهذا العقد يسمى استصناعا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع ؛ فإنما جاز لا بالعقد الأول ، بل بعقد آخر ، وهو التعاطي بتراضيهما.

"فصل" وأما جوازه فالقياس: أن لا يجوز؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانا؛ لإجماع الناس على ذلك؛ لأنهم يعملون

 

ج / 5 ص -3-            ذلك في سائر الأعصار من غير نكر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وقال عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنا؛ فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا؛ فهو عند الله قبيح" والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر، من غير بيان المدة، ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي قطعه الشارب للسقاء، من غير بيان قدر المشروب، وفي شراء البقل، وهذه المحقرات كذا هذا؛ ولأن الحاجة تدعو إليه؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف، أو نعل من جنس مخصوص، ونوع مخصوص، على قدر مخصوص وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعا؛ فيحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز؛ لوقع الناس في الحرج وقد خرج الجواب عن قوله: إنه معدوم؛ لأنه ألحق بالموجود لمساس الحاجة إليه، كالمسلم فيه: فلم يكن بيع ما ليس عند الإنسان على الإطلاق؛ ولأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة؛ لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين؛ كان جائزا.

"فصل" وأما شرائط جوازه "فمنها" بيان جنس المصنوع، ونوعه وقدره وصفته؛ لأنه لا يصير معلوما بدونه. "ومنها" أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس من أواني الحديد والرصاص، والنحاس والزجاج، والخفاف والنعال، ولجم الحديد للدواب، ونصول السيوف، والسكاكين والقسي، والنبل والسلاح كله، والطشت والقمقمة، ونحو ذلك ولا يجوز في الثياب؛ لأن القياس يأبى جوازه، وإنما جوازه استحسانا لتعامل الناس، ولا تعامل في الثياب. "ومنها" أن لا يكون فيه أجل، فإن ضرب للاستصناع أجلا؛ صار سلما حتى يعتبر فيه شرائط السلم، وهو قبض البدل في المجلس، ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم "وهذا" قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد: هذا ليس بشرط، وهو استصناع على كل حال ضرب فيه أجلا أو لم يضرب ولو ضرب للاستصناع فيما لا يجوز فيه الاستصناع كالثياب ونحوها أجلا؛ ينقلب سلما في قولهما جميعا "وجه" قولهما: أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة؛ فلا يخرج به عن كونه استصناعا، أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل؛ فلا يخرج العقد عن موضوعه، مع الشك والاحتمال، بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع؛ لأن ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل؛ فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين، وذلك بالسلم ولأبي حنيفة: رضي الله عنه أنه إذا ضرب فيه أجلا؛ فقد أتى بمعنى السلم؛ إذ هو عقد على مبيع في الذمة مؤجلا، والعبرة في العقود لمعانيها لا لصور الألفاظ ألا ترى أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة، وكذا النكاح على أصلنا "ولهذا" صار سلما فيما لا يحتمل الاستصناع كذا هذا ولأن التأجيل يختص بالديون؛ لأنه وضع لتأخير المطالبة وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة، وليس ذلك إلا السلم؛ إذ لا دين في الاستصناع ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع من العمل قبل العمل بالاتفاق؟ ثم إذا صار سلما؛ يراعى فيه شرائط السلم، فإن وجدت صح، وإلا فلا.

"فصل" وأما حكم الاستصناع: فهو ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكا غير لازم، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.