بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب النذر"
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في ثلاثة مواضع: في بيان ركن النذر، وفي بيان شرائط الركن، وفي بيان حكم النذر أما الأول: فركن النذر هو الصيغة الدالة عليه وهو قوله: "لله عز شأنه علي كذا، أو علي كذا، أو هذا هدي، أو صدقة، أو مالي صدقة، أو ما أملك صدقة، ونحو ذلك.

"فصل" وأما شرائط الركن فأنواع: بعضها يتعلق بالناذر ، وبعضها يتعلق بالمنذور به ، وبعضها يتعلق بنفس الركن . أما الذي يتعلق بالناذر فشرائط الأهلية:. "منها" العقل. "ومنها" البلوغ ، فلا يصح نذر المجنون والصبي الذي لا يعقل ، لأن حكم النذر وجوب المنذور به ، وهما ليسا من أهل الوجوب ، وكذا الصبي العاقل ؛ لأنه ليس من أهل وجوب الشرائع ، ألا ترى أنه لا يجب عليهما شيء من الشرائع بإيجاب الشرع ابتداء؟ فكذا بالنذر ، إذ الوجوب عند

 

ج / 5 ص -82-         وجود الصيغة من الأهل في المحل بإيجاب الله تعالى لا بإيجاب العبد، إذ ليس للعبد ولاية الإيجاب، وإنما الصيغة علم على إيجاب الله تعالى. "ومنها" الإسلام فلا يصح نذر الكافر، حتى لو نذر ثم أسلم لا يلزمه الوفاء به، وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله ؛ لأن كون المنذور به قربة شرط صحة النذر، وفعل الكافر لا يوصف بكونه قربة. "وأما" حرية الناذر فليست من شرائط الصحة؛ فيصح نذر المملوك، ثم إن كان المنذور به من القرب الدينية كالصلاة والصوم ونحوهما يجب عليه للحال، ولو كان من القرب المالية كالإعتاق والإطعام ونحو ذلك يجب عليه بعد العتاق ؛ لأنه ليس من أهل الملك للحال ولو قال: إن اشتريت هذه الشاة فهي هدي، أو إن اشتريت هذا العبد فهو حر ، فعتق لم يلزمه حتى يضيفه إلى ما بعد العتق في قياس قول أبي حنيفة، وقد ذكرناه في كتاب العتاق. "وأما" الطواعية فليست بشرط عندنا خلافا للشافعي رحمه الله كما في اليمين، وكذا الجد والهزل والله عز شأنه أعلم. "وأما" الذي يرجع إلى المنذور به فأنواع: "منها" أن يكون متصور الوجود في نفسه شرعا، فلا يصح النذر بما لا يتصور وجوده شرعا كمن قال: لله تعالى علي أن أصوم ليلا أو نهارا أكل فيه، وكالمرأة إذا قالت: لله علي أن أصوم أيام حيضي ؛ لأن الليل ليس محل الصوم، والأكل مناف للصوم حقيقة والحيض مناف له شرعا ؛ إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرط وجود الصوم الشرعي ولو قالت: لله علي أن أصوم غدا فحاضت في غد، أو قالت: لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم حاضت فيه لا شيء عليها عند محمد، وعند أبي يوسف عليها قضاء ذلك اليوم، وهي من مسائل الصوم. وعلى هذا يخرج ما إذا قال: لله تعالى علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ، فقدم في النهار أنه إن قدم قبل الزوال أو قبل أن يتناول شيئا من المفطرات يلزمه صومه ، وإن قدم بعد الزوال أو بعد ما تناول شيئا من المفطرات لا يلزمه شيء ؛ لأنه أوجب على نفسه صوم يوم موصوف بأنه يوجد فيه قدوم فلان ولا علم له بهذا اليوم قبل القدوم ولا دليل العلم، ولا وجوب لهذا الصوم بدون العلم ؛ أو دليله ؛ لأن ما ثبت أداؤه على قصد المؤدي في تحصيله لا يجب أداؤه إلا بعد العلم بوجوبه أو دليل العلم، فلم يجب الصوم ما لم يوجد اليوم الموصوف، ولا وجود إلا بالقدوم، فصار الوجوب على هذا التخريج متعلقا بالقدوم، ووجوب صوم يوم لم تزل فيه الشمس، ولم يتناول شيئا من المفطرات متصور، كما لو أنشأ النذر فوجب عليه للحال، ولا تصور له بعد التناول وبعد الزوال فلا يجب عليه شيء، بخلاف اليمين بأن قال: والله لأصومن اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم بعد ما أكل ، أو بعد الزوال حنث في يمينه ، والفرق أن في باب النذر يجب الفعل حقا لله تعالى ؛ لأن الوجوب بإيجاب الله تعالى عند مباشرة سبب الوجوب من العبد فصار هذا وسائر العبادات المقصودة على السواء. "وأما" في باب اليمين: فالفعل في نفسه غير واجب، بل الواجب هو الامتناع عن هتك حرمة اسم الله تعالى عز شأنه وإنما وجب الفعل لضرورة حصول البر ، وحصول البر أيضا لضرورة الامتناع عن الهتك فوجوبه لا يفتقر إلى العلم ، فكان وجوب تحصيل البر والامتناع ثابتا قبل وجود دليل الوجوب وهو القدوم ، فوجب عليه البر من أول وجود هذا اليوم الذي حلف أن يصومه وإن لم يكن له به علم ، فإذا لم يصم: بأن أكل أو امتنع من النذر حتى زالت الشمس حنث في يمينه لفوات البر والله عز شأنه أعلم. "ومنها" أن يكون قربة فلا يصح النذر بما ليس بقربة رأسا كالنذر بالمعاصي بأن يقول: لله عز شأنه علي أن أشرب الخمر أو أقتل فلانا أو أضربه أو أشتمه ونحو ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا نذر في معصية الله تعالى" ، وقوله: عليه الصلاة والسلام "من نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه" ، ولأن حكم النذر وجوب المنذور به ، ووجوب فعل المعصية محال وكذا النذر بالمباحات من الأكل والشرب والجماع ونحو ذلك لعدم وصف القربة لاستوائهما فعلا وتركا ، وكذا لو قال: علي طلاق امرأتي ؛ لأن الطلاق ليس بقربة فلا يلزم بالنذر ، وهل يقع الطلاق به؟ فيه كلام نذكره إن شاء الله تعالى. "ومنها" أن يكون قربة مقصودة ، فلا يصح النذر بعيادة المرضى وتشييع الجنائز والوضوء والاغتسال ودخول المسجد ومس المصحف والأذان وبناء الرباطات والمساجد وغير ذلك وإن كانت قربا ؛ لأنها ليست بقرب مقصودة ويصح النذر بالصلاة والصوم والحج والعمرة والإحرام بهما والعتق والبدنة والهدي والاعتكاف ونحو ذلك ؛ لأنها قرب مقصودة

 

ج / 5 ص -83-         وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "من نذر وسمى فعليه وفاؤه بما سمى" ؛ إلا أنه خص منه المسمى الذي ليس بقربة أصلا، والذي ليس بقربة مقصودة فيجب العمل بعمومه فيما وراءه ومن مشايخنا من أصل في هذا أصلا فقال: ما له أصل في الفروض يصح النذر به ولا شك أن ما سوى الاعتكاف من الصلاة والصوم وغيرهما له أصل في الفروض، والاعتكاف له أصل أيضا في الفروض وهو الوقوف بعرفة، وما لا أصل له في الفروض لا يصح النذر به كعيادة المرضى وتشييع الجنازة ودخول المسجد ونحوها وعلل بأن النذر إيجاب العبد فيعتبر بإيجاب الله تعالى. ولو قال: لله علي أن أصوم يوم النحر، أو أيام التشريق يصح نذره عند أصحابنا الثلاثة، ويفطر ويقضي وقال زفر رحمه الله والشافعي: لا يصح نذره لهما لأنه نذر بما هو معصية؛ لكون الصوم في أيام التشريق منهيا عنه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا لا تصوموا في هذه الأيام ؛ فإنها أيام أكل وشرب" والمنهي عنه يكون معصية، والنذر بالمعاصي لا يصح لما بينا والدليل عليه أن الصوم في هذه الأيام لا يلزم بالشروع، ولا يضمن بالقضاء عند الإفساد بأن أصبح صائما ثم أفطر. "ولنا" أنه نذر بقربة مقصودة فيصح النذر، كما لو نذر بالصوم في غير هذه الأيام، ودلالة الوصف النص والمعقول. "أما" النص فقوله عليه الصلاة والسلام خبرا عن الله تعالى جل شأنه "الصوم لي وأنا أجزي به". "وأما" المعقول فهو أنه سبب التقوى والشكر ومواساة الفقراء ؛ لأن الصائم في زمان الصوم يتقي الحلال ، فالحرام أولى، ويعرف قدر نعم الله تعالى جل شأنه عليه بما تجشم من مرارة الجوع والعطش ؛ فيحمله ذلك على الشكر، وعلى الإحسان إلى الفقراء؛ لما عرف قدر مقاساة المبتلى بالجوع والفقر وهذه المعاني موجودة في الصوم في هذه الأيام، وإنها معان مستحسنة عقلا، والنهي لا يرد عما عرف حسنه عقلا لما فيه من التناقض فيحمل على غير مجاور له صيانة لحجج الله تعالى عن التناقض عملا بالدلائل بقدر الإمكان. "وأما" فصل الشروع والقضاء فممنوع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وعند أبي حنيفة عليه الرحمة إنما يلزم بالشروع، ولا يجب القضاء بالإفطار ؛ لأن لزوم الإتمام في صوم التطوع لضرورة صيانة المؤدى عن الإبطال ؛ لأن إبطال العمل حرام، وههنا صاحب الحق وهو الله تعالى جلت عظمته رضي بإبطال حقه، فلا يحرم الإبطال فلا يلزم الإتمام ووجوب القضاء ضرورة لزوم الإتمام فإذا لم يلزم لا يجب. ولو قال: علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو إلى بكة فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وعليه ذبح شاة لركوبه وجملة الكلام فيه أن المكان نوعان: مكان يصح الدخول فيه بغير إحرام، وهو ما سوى الحرم: كمسجد المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ومسجد بيت المقدس وغيرهما من سائر المساجد والأماكن ومكان لا يصح الدخول فيه بغير إحرام وهو، الحرم والحرم مشتمل على مكة، ومكة على المسجد الحرام، والمسجد الحرام على الكعبة، فالناذر إما أن يسمى في النذر الكعبة، أو بيت الله تعالى أو مكة أو بكة أو الحرم أو المسجد الحرام والأفعال التي يوجبها على نفسه شبه ألفاظ المشي والخروج والسفر والركوب والذهاب والإياب فإن أوجب على نفسه شيئا من هذه الأفعال وأضافه إلى مكان يصح دخوله فيه بغير إحرام لا يصح إيجابه، لأنه أوجب على نفسه التحول من مكان إلى مكان، وذا ليس بقربة مقصودة، ولا يصح النذر بما ليس بقربة، والدليل عليه ما روي "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح لك مكة أن أصلي مائتي ركعة في مائة مسجد فقال عليه الصلاة والسلام: صلي في مسجد واحد"، فلم يصحح عليه الصلاة والسلام نذرها بالصلاة في كل مسجد والنذر بخلاف اليمين، فإن اليمين تنعقد بهذه الألفاظ، بأن يقول: والله لأذهبن إلى موضع كذا، أو لأسافرن، أو غيرهما من الألفاظ ؛ لأن اليمين لا يقف انعقادها على كون المحلوف عليه قربة، بل ينعقد على القربة وغيرها، بخلاف النذر. وإن أضاف إيجاب شيء من هذه الأفعال إلى المكان الذي لا يصح الدخول فيه بغير إحرام ينظر: فإن أضاف إيجاب ما سوى المشي إليه لا يصح، ولا يلزمه شيء لما ذكرنا أن التحول من مكان إلى مكان ليس بقربة في نفسه وإن أضاف إيجاب المشي إليه فإن ذكر سوى ما ذكرنا من الأمكنة من الكعبة وبيت الله تعالى ومكة وبكة

 

ج / 5 ص -84-         والمسجد الحرام والحرم، بأن أوجب على نفسه المشي إلى الصفا والمروة ومسجد الخيف وغيرها من المساجد التي في الحرم لا يصح نذره بلا خلاف وإن ذكر الكعبة وبيت الله عز شأنه أو مكة أو بكة، يصح نذره ويلزمه حجة أو عمرة ماشيا، وإن شاء ركب وذبح لركوبه شاة ، وهذا استحسان، والقياس أن لا يصح ولا يلزمه شيء. "وجه" القياس أن من شرط صحة النذر أن يكون المنذور به قربة مقصودة، ولا قربة في نفس المشي، وإنما القربة في الإحرام وإنه ليس بمذكور؛ ولهذا لم يصح بسائر الألفاظ سوى لفظ المشي. "وجه" الاستحسان: أن هذا الكلام عندهم كناية عن التزام الإحرام ، يستعملونه لالتزام الإحرام بطريق الكناية من غير أن يعقل فيه وجه الكناية، بمنزلة قوله: لله علي أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة كناية عن التزام الصدقة باصطلاحهم، والإحرام يكون بالحجة أو بالعمرة فيلزمه أحدهما بخلاف سائر الألفاظ ، فإنها ما جرت عادتهم بالتزام الإحرام بها، والمعتبر في الباب عرفهم وعادتهم ، ولا عرف هناك فيلزمه ذلك ماشيا ؛ لأنه التزم المشي، وفيه زيادة قربة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من حج ماشيا فله بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم قيل: وما حسنات الحرم قال عليه الصلاة والسلام: واحدة بسبعمائة"، فجاز التزامه بالنذر كصفة التتابع في الصوم، فيمشي حتى يطوف طواف الزيارة ؛ لأن بذلك يقع الفراغ من أركان الحج، إلا أن له أن يركب ويذبح لركوبه شاة لما روي: "أن أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما نذرت أن تحج ماشية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد الخدري: إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك: مرها فلتركب ولترق دما". وما روي في بعض الروايات "أن عقبة بن عامر الجهني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج البيت ماشية غير مختمرة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله غني عن تعذيب أختك فلتركب ولتهد شاة وفي بعضها أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى حافية حاسرة، فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى غني عن عناء أختك مرها فلتركب ولتهد شاة وتحرم إن شاءت بحجة وإن شاءت بعمرة". وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: من جعل على نفسه الحج ماشيا حج وركب وذبح لركوبه شاة رواه في الأصل وإنما استوى فيه لفظ الكعبة وبيت الله ومكة وبكة؛ لأن كل واحد من هذه الألفاظ يستعمل عند استعمال الأخر، يقال: فلان مشى إلى بيت الله وإلى الكعبة وإلى مكة، وإلى بكة ولا يقال مشى إلى الصفا والمروة، وإن ذكر المسجد الحرام أو الحرم.قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصح نذره ولا يلزمه شيء وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يلزمه حجة أو عمرة. "وجه" قولهما إن الحرم مشتمل على البيت وعلى مكة فصار كأنه قال علي المشي إلى بيت الله وإلى مكة ولأبي حنيفة رحمه الله أن القياس أن لا يجب شيء بإيجاب المشي المضاف إلى مكان ما، لما ذكر أن المشي ليس بقربة مقصودة، إذ هو انتقال من مكان إلى مكان، فليس في نفسه قربة، ولهذا لا يجب بسائر الألفاظ إلا أنا أوجبنا عليه الإحرام في لفظ المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو إلى بكة للعرف، حيث تعارفوا استعمال ذلك كناية عن التزام الإحرام، ولم يتعارفوا استعمال غيرها من الألفاظ، ألا ترى أنه يقال مشى إلى مكة والكعبة وبيت الله ولا يقال مشى إلى الحرم أو المسجد الحرام؟ كما يقال مشى إلى الصفا والمروة ، والكناية يتبع فيها عين اللفظ لا المعنى، بخلاف المجاز فإنه يراعى فيه المعنى اللازم المشهور في محل الحقيقة ؛ لأن الكناية ثابتة بالاصطلاح كالأسماء الموضوعة ، فيتبع فيها العرف، واستعمال اللفظ بخلاف المجاز. ولو قال: علي المشي إلى بيت الله وهو ينوي مسجدا من مساجد الله سوى المسجد الحرام لم يلزمه شيء ؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه ؛ لأن كل مسجد بيت الله تعالى فصحت نيته، على أن الظاهر إن كانت إرادة الكعبة من هذا الكلام لا غير لكن هذا أمر بينه وبين الله تعالى فيكتفي فيه باحتمال اللفظ إياه في الجملة. ولو قال: أنا أحرم أو أنا محرم أو أهدي أو أمشي إلى البيت ، فإن نوى به الإيجاب يكون إيجابا ؛ لأنه يذكر ويراد به الإيجاب، كقولنا: أشهد أن لا إله إلا الله إنه يكون توحيدا ، وكقول الشاهد عند القاضي: أشهد أنه يكون شهادة ، فقد نوى ما يحتمله لفظه ، وإن نوى أن يعد من نفسه عدة ولا يوجب شيئا كان عدة ولا شيء عليه ؛ لأن اللفظ يحتمل العدة ؛ لأنه يستعمل في العدات. وإن لم يكن له نية

 

ج / 5 ص -85-         فهو على الوعد ؛ لأنه غلب استعماله فيه، فعند الإطلاق يحمل عليه، هذا إذا لم يعلقه بالشرط، فإن علقه بالشرط بأن قال إن فعلت كذا فأنا أحرم فهو على الوجوه التي بينا أنه إن نوى الإيجاب يكون إيجابا، وإن نوى الوعد يكون وعدا لما قلنا، وإن لم يكن له نية فهو على الإيجاب بخلاف الفصل الأول ؛ لأن العدات لا تتعلق بالشروط، وإن الواجبات تتعلق بها، فالمعرفة إلى الإيجاب بقرينة التعليق بالشرط ولم توجد القرينة في الفصل الأول فصار الحاصل أن هذا اللفظ في غير المعين بالشرط على الوعد إلا أن ينوي به الإيجاب، وفي المعلق يقع على الإيجاب إلا أن ينوي به الوعد. ولو قال: لله تعالى علي أن أنحر ولدي أو أذبح ولدي يصح نذره ويلزمه الهدي وهو نحر البدنة أو ذبح الشاة ، والأفضل هو الإبل ثم البقر ثم الشاة ، وإنما ينحر أو يذبح في أيام النحر سواء كان في الحرم أو لا ، وهذا استحسان وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله والقياس أن لا يصح نذره وهو قول أبي يوسف وزفر والشافعي رحمهم الله. "وجه" القياس: أنه نذر بما هو معصية، والنذر بالمعاصي غير صحيح ، ولهذا لم يصح بلفظ القتل. "وجه" الاستحسان: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وقوله عليه الصلاة والسلام "من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى"، والمراد من الحديثين النذر بما هو طاعة مقصودة وقربة مقصودة، وقد نذر بما هو طاعة مقصودة وقربة مقصودة ؛ لأنه نذر بذبح الولد تقديرا بما هو خلف عنه وهو ذبح الشاة، فيصح النذر بذبح الولد على وجه يظهر أثر الوجوب في الشاة التي هي خلف عنه، كالشيخ الفاني إذا نذر أن يصوم رجب أنه يصح نذره وتلزمه الفدية خلفا عن الصوم، ودليل ما قلنا الحديث وضرب من المعقول. "أما" الحديث فقول النبي عليه الصلاة والسلام: "أنا ابن الذبيحين" أراد أول آبائه من العرب وهو سيدنا إسماعيل عليه الصلاة والسلام وآخر آبائه حقيقة وهو عبد الله بن عبد المطلب، سماهما عليه الصلاة والسلام ذبيحين ومعلوم أنهما ما كانا ذبيحين حقيقة فكانا ذبيحين تقديرا بطريق الخلافة لقيام الخلف مقام الأصل. "وأما" المعقول فلأن المسلم إنما يقصد بنذره التقرب إلى الله تعالى، إلا أنه عجز عن التقرب بذبح الولد تحقيقا، فلم يكن ذلك مرادا من النذر، وهو قادر على ذبحه تقديرا بذبح الخلف وهو ذبح الشاة فكان هذا نذرا بذبح الولد تقديرا بذبح ما هو خلف عنه حقيقة، كالشيخ الفاني إذا نذر بالصوم وإنما لا يصح بلفظ القتل؛ لأن التعيين بالنذر وقع للواجب على سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام والواجب هناك بالإيجاب المضاف إلى ذبح الولد بقوله تعالى عز شأنه: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} على أن هذا حكم ثبت استحسانا بالشرع، والشرع إنما ورد بلفظ الذبح لا بلفظ القتل، ولا يستقيم القياس؛ لأن لفظ القتل لا يستعمل في تفويت الحياة على سبيل القربة، والذبح يستعمل في ذلك.ألا ترى أنه لو نذر بقتل شاة لا يلزمه، ولو نذر بذبحها لزمه. ولو نذر بنحر نفسه لم يذكر في ظاهر الروايات، وذكر في نوادر هشام أنه على الاختلاف الذي ذكرنا، ولو نذر بنحر ولد ولده ذكر في شرح الآثار أنه على الاختلاف. ولو نذر بنحر والديه أو جده أو جدته يصح نذره عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند الباقين لا يصح. ولو نذر بذبح عبده: عند محمد رحمه الله يصح، وعند الباقين لا يصح، وإنما اختلف أبو حنيفة ومحمد فيما بينهما مع اتفاقهما في الولد لاختلافهما في المعنى في الولد، فالمعنى في الولد عند أبي حنيفة رحمه الله هو أنه نذر بالتقرب إلى الله تعالى بذبح ما هو أعز الأشياء عنده، وهذا المعنى يوجد في الوالدين ولا يوجد في العبد، وعند محمد رحمه الله المعنى في الولد أن النذر بذبحه تقرب إلى الله تعالى بما هو من مكاسبه، والولد في معنى المملوك له شرعا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" وإن ولده من كسبه، فعدى الحكم إلى المملوك حقيقة وهو العبد وإلى النفس وولد ولده لكونهما في معنى المملوك له، ولم يعد إلى الوالدين لانعدام هذا المعنى، وعلى هذا القياس ينبغي أن يصح نذر الجد بذبح الحافد، وعند محمد لا يصح. وإذا أوجب على نفسه الهدي فهو بالخيار بين الأشياء الثلاثة: إن شاء أهدي شاة، وإن شاء بقرة ، وإن شاء إبلا وأفضلها أعظمها ؛ لأن اسم الهدي يقع على كل واحد منهم ، ولو أوجب على نفسه بدنة فهو بالخيار بين شيئين: الإبل والبق ، والإبل أفضل ؛ لأن اسم البدانة يقع على كل واحد منهما ؛ ولو أوجب جزورا فعليه الإبل خاصة ؛ لأن اسم الجزور يقع عليه خاصة ، ولا يجوز فيهما إلا ما يجوز في الأضاحي وهو الثني من الإبل والبقر ، والجذع من

 

ج / 5 ص -86-         الضأن إذا كان ضخما، ولا يجوز ذبح الهدي الذي أوجب إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ولم يرد به نفس البيت بل البقعة التي هو فيها، وهي الحرم ؛ لأن الدم لا يراق في البيت، والمراد من قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} نفس البيت؛ لأنه هناك ذكر الطواف بالبيت وههنا أضافه إلى البيت، لذلك افترقا ؛ ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان الهدايا، ومكان الهدايا هو الحرم ولا يحل له الانتفاع بها ولا بشيء منها إلا في حال الضرورة، فإن اضطر إلى ركوبها ركبها، ويضمن ما نقص ركوبه عليها، وهذه من مسائل المناسك. ولو أوجب على نفسه أن يهدي مالا بعينه، فإن كان مما لا يحتمل الذبح يلزمه أن يتصدق به، أو بقيمته على فقراء مكة، وإن كان مما يذبح ذبحه في الحرم وتصدق بلحمه على فقراء مكة، ولو تصدق به على فقراء الكوفة جاز كذا ذكر في الأصل. ولو أوجب بدنة فذبحها في الحرم وتصدق على الفقراء جاز بالإجماع، ولو ذبح في غير الحرم وتصدق باللحم على الفقراء جاز عن نذره في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجوز ولو أوجب جزورا فله أن ينحره في الحل والحرم، ويتصدق بلحمه وهذه من مسائل الحج. ولو قال ما أملك هدي أو قال ما أملك صدقة يمسك بعض ماله ويمضي الباقي ؛ لأنه أضاف الهدي والصدقة إلى جميع ما يملكه فيتناول كل جنس من جنس أمواله، ويتناول القليل والكثير إلا أنه يمسك بعضه ؛ لأنه لو تصدق بالكل لاحتاج إلى أن يتصدق عليه فيتضرر بذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" فكان له أن يمسك مقدار ما يعلم أنه يكفيه إلى أن يكتسب ، فإذا اكتسب مالا تصدق بمثله؛ لأنه انتفع به مع كونه واجب الإخراج عن ملكه لجهة الصدقة ، فكان عليه عوضه ، كمن أنفق ماله بعد وجوب الزكاة عليه. ولو قال مالي صدقة فهذا على الأموال التي فيها الزكاة من الذهب والفضة وعروض التجارة والسوائم ، ولا يدخل فيه ما لا زكاة فيه، فلا يلزم أن يتصدق بدور السكنى وثياب البدن والأثاث والعروض التي لا يقصد بها التجارة والعوامل وأرض الخراج ؛ لأنه لا زكاة فيها، ولا فرق بين مقدار النصاب وما دونه ؛ لأنه مال الزكاة.ألا ترى أنه إذا انضم إليه غيره تجب فيه الزكاة ، ويعتبر فيه الجنس لا القدر؟ ولهذا قالوا: إذا نذر أن يتصدق بماله وعليه دين محيط أنه يلزمه أن يتصدق به ؛ لأنه جنس مال تجب فيه الزكاة وإن لم تكن واجبة، فإن قضى دينه به لزمه التصدق بمثله لما ذكرنا فيما تقدم ، وهذا الذي ذكرنا استحسان والقياس أن يدخل فيه جميع الأموال كما في فصل الملك؛ لأن المال اسم لما يتمول كما أن الملك اسم لما يملك، فيتناول جميع الأموال كالملك. "وجه" الاستحسان أن النذر يعتبر بالأمر ؛ لأن الوجوب في الكل بإيجاب الله جل شأنه وإنما وجد من العبد مباشرة السبب الدال على إيجاب الله تعالى، ثم الإيجاب المضاف إلى المال من الله تعالى في الأمر وهو الزكاة في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وقوله عز شأنه:{فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} ونحو ذلك تعلق بنوع دون نوع فكذا في النذر وقد قال أبو يوسف رحمه الله: قياس قول أبي حنيفة عليه الرحمة إذا حلف لا يملك مالا، ولا نية، له وليس له مال تجب فيه الزكاة يحنث ؛ لأن إطلاق اسم المال لا يتناول ذلك، وقال أبو يوسف ولا أحفظ عن أبي حنيفة إذا نوى بهذا النذر جميع ما يملك داره تدخل في نذره؛ لأن اللفظ يحتمله، وفيه تشديد على نفسه، وقال أبو يوسف: ويجب عليه أن يتصدق بما دون النصاب ولا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله والوجه ما ذكرنا. وإذا كانت له ثمرة عشرية أو غلة عشرية تصدق بها في قولهم ؛ لأن هذا مما يتعلق به حق الله تعالى وهو العشر وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا تدخل الأرض في النذر ، وقال أبو يوسف: يتصدق بها لأبي يوسف أنها من جملة الأموال النامية التي يتعلق حق الله تعالى بها فتدخل في النذر، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن حق الله تعالى لا يتعلق بها، وإنما يتعلق بالخارج منها فلا تدخل. قال بشر عن أبي يوسف: إذا جعل الرجل على نفسه أن يطعم عشرة مساكين ولم يسم فعليه ذلك، فإن أطعم خمسة لم يجزه ؛ لأن النذر يعتبر بأصل الإيجاب، ومعلوم أن ما أوجبه ينبغي أن يكون لعدد من المساكين لا يجوز دفعه إلى بعضهم إلا على التفريق في الأيام فكذا النذر. ولو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم على المساكين فتصدق بها على واحد أجزأه ؛ لأنه يجوز دفع الزكاة إلى مسكين واحد وإن كان المذكور فيها جميع المساكين لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} ، كذلك النذر. ولو قال: لله علي أن أطعم هذا المسكين هذا

 

ج / 5 ص -87-         الطعام بعينه فأعطى ذلك الطعام غيره أجزأه ؛ لأن الصدقة المتعلقة بمال متعين لا يتعين فيها المسكين ؛ لأنه لما عين المال صار هو المقصود فلا يعتبر تعيين الفقير، والأفضل أن يعطي الذي عينه. ولو قال: لله علي أن أطعم هذا المسكين شيئا سماه ولم يعينه، فلا بد أن يعطيه الذي سماه؛ لأنه إذا لم يعين المنذور صار تعيين الفقير مقصودا، فلا يجوز أن يعطي غيره. ولو قال: لله علي إطعام عشرة مساكين وهو لا ينوي أن يطعم عشرة مساكين، إنما نوى أن يطعم واحدا ما يكفي عشرة أجزأه ؛ لأن الطعام اسم للمقدار، فكأنه أوجب مقدار ما يطعم عشرة، فيجوز أن يطعم بعضهم. ولو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم يوم يقدم فلان، ثم قال: إن كلمت فلانا فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم، فكلم فلانا وقدم فلان أجزأه أن يتصدق بتلك الدراهم عنهما جميعا، ولا يلزمه غير ذلك وكذلك الصيام إذا سمى يوما بعينه ؛ لأنه علق وجوب شيء واحد بشرطين لكل واحد منهما بحياله، فإن وجد الشرطان معا وجبت بالإيجابين جميعا ؛ لأن اجتماع سببين على حكم واحد جائز، فإن وجدا على التعاقب وجب بالأول، ولا يتعلق بالثاني حكم.نظيره إذا قال لعبده: إن دخل زيد هذه الدار فأنت حر، ثم قال إن دخلها عمرو فأنت حر فإن دخلا معا عتق العبد بالإيجابين، وإن دخلا على التعاقب عتق بالأول ولا يتعلق بالثاني حكم كذا هذا. ولو قال: إن كلمت فلانا فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم فكلم فلانا وجب عليه أن يتصدق بها ؛ لأنه أوجب على نفسه التصدق بها، فيجب عليه ذلك، فإن أعطى ذلك من كفارة يمينه أو من زكاة ماله فعليه لنذره مثل ما أعطى ؛ لأنه لما أعطى تعين للإخراج بجهة النذر، ولم يتعين للإخراج بجهة الزكاة، فإذا أخرجه بحق لم يتعين فيه صار مستهلكا له فيضمن مثله، كما لو أنفقه بخلاف الفصل الأول؛ لأن مثال الواجب تعين لكل واحد عن النذرين فجاز عنهما. ولو قال: إن قدم فلان فلله علي أن أصوم يوم الخميس ثم صام يوم الخميس عن قضاء رمضان، أو كفارة يمين أو تطوعا فقدم فلان يومئذ بعد ارتفاع النهار فعليه يوم مكانه لقدوم فلان ؛ لأنه وجب عليه صوم ذلك اليوم عن جهة النذر، لوجود شرط وجوبه وهو قدوم فلان فيه ؛ فإذا صام عن غيره فقد منع وقوعه عن النذر فصار كأنه قدم بعدما أكل، فيلزمه صوم يوم آخر مكانه لقدوم فلان، ولو كان أراد بهذا القول اليمين لم يحنث في يمينه؛ لوجود شرط البر وهو صوم اليوم الذي حلف على صومه، وجهات الصوم لم تتناولها اليمين، ولو كان قدم فلان بعد الظهر لم يكن عليه قضاؤه ؛ لأنه لما قدم بعد الظهر لم يجب الصوم عن النذر، كما لو أنشأ النذر بعد الزوال فقال: لله علي أن أصوم هذا اليوم فلا يجب قضاؤه، وإن قدم فلان قبل الزوال في يوم قد أكل فيه فعليه أن يقضي؛ لأن القدوم حصل في زمان يصح ابتداء النذر فيه، وإنما امتنع الصوم لوجود المنافي له وهو الأكل، فلا يمنع صحة النذر كما لو أوجب ثم أكل. ولو قال: لله علي أن أصوم الشهر الذي يقدم فيه فلان، فقدم في رمضان فصامه في رمضان أجزأ عن رمضان، ولا يلزمه صوم آخر بالنذر؛ لأن شهر رمضان في حال الصحة والإقامة يتعين لصومه لا يحتمل غيره، فلم يتعلق بهذا النذر حكم، ولا كفارة عليه إن كان أراد به اليمين لتحقق البر وهو الصوم، واليمين انعقدت على الصوم دون غيره وقد صام. ولو قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان شكرا لله تطوعا لقدومه، ونوى به اليمين فصامه عن كفارة يمين، ثم قدم فلان ذلك اليوم عند ارتفاع النهار فعليه قضاؤه والكفارة. "أما" القضاء فلأنه نذر أن يصوم ذلك اليوم للقدوم وذلك اليوم غير متعين لصوم الكفارة، فإذا صام عن جهة يتعين الوقت لها لزمه القضاء. "وأما" الكفارة ؛ فلأنه لم يحلف على مطلق الصوم، بل على أن يصوم عن القدوم، فإذا صام عن غيره لم يوجد البر فيحنث ، ولو كان في رمضان فلا قضاء عليه، وعليه الكفارة. "أما" عدم وجوب القضاء فلأن زمان رمضان يتعين لصوم رمضان، فلا يصح إيجاب الصوم فيه لغيره. "وأما" وجوب الكفارة فيه ؛ فلأنه لم يصم لما حلف عليه، فلم يوجد البر وإن صامه ينوي الشكر على قدوم فلان ولا ينوي رمضان بر في يمينه وأجزأه عن رمضان. "أما" الجواز عن رمضان؛ فلأن صوم رمضان لا يعتبر فيه تعيين النية، لكون الزمان متعينا له فوقع عنه. "وأما" بره في يمينه فلأنه حلف على الصوم بجهة، وقد قصد تلك الجهة إلا أنه وقع عن غيره حكما من غير قصد. ولو قال: لله علي أن أصوم هذا اليوم شهرا فإنه يصوم ذلك اليوم، حتى يستكمل منه ثلاثين يوما فإنه تعذر حمله على ظاهره، إذ اليوم الواحد لا يوجد شهرا، لأنه إذا مضى لا يعود ثانيا، فيحمل على التزام صوم اليوم المسمى

 

ج / 5 ص -88-         بذلك اليوم الذي هو فيه من الاثنين أو الخميس كلما تجدد إلى أن يستكمل شهرا ثلاثين يوما، حملا للكلام على وجه الصحة. ولو قال: لله علي أن أصوم هذا الشهر يوما نظر إلى ذلك الشهر أنه رجب أو شعبان أو غيره، ويصير كأنه قال: لله علي أن أصوم رجبا أو شعبان في وقت من الأوقات، إذ الشهر لا يوجد في يوم واحد، فلا يمكن حمله على ظاهره، وقد قصد تصحيح نذره، فيحمل على وجه يصح وهو حمل اليوم على الوقت. وقد يذكر اليوم ويراد به مطلق الوقت، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، ويقال في العرف: يوما لنا ويوما علينا على إرادة مطلق الوقت. ولو قال: لله علي أن أصوم هذا اليوم غدا فعليه أن يصوم اليوم الذي قال فيه هذا القول؛ إن قال ذلك قبل الزوال وقبل أن يتناول ما ينقض صومه، ويبطل قوله غدا؛ لأنه ركب اسما على اسم لا بحرف النسق، فبطل التركيب؛ لأنه يكون إيجاب صوم هذا اليوم غدا، وهذا اليوم لا يوجد في غد، فلا يكون الغد ظرفا له، بطل قوله غدا وبقي قوله لله علي أن أصوم هذا اليوم، فينظر في ذلك اليوم، فإن كان قابلا للإيجاب صح، وإلا بطل بخلاف الفصل الأول؛ لأن اليوم قد يعتد به عن مطلق الوقت. "وأما" الغد فلا يصلح عبارة عن مطلق الوقت، ولا يعبر به إلا عن عين الغد ولو قال: لله علي أن أصوم غدا اليوم فعليه أن يصوم غدا وقوله: اليوم حشو من كلامه؛ لأنه أوجب على نفسه صوم الغد وذلك صحيح، ولم يصح قوله اليوم؛ لأنه ركبه على الغد لا بحرف النسق فبطل؛ لأن صوم غد لا يتصور وجوده في اليوم، فلغي قوله: اليوم، وبقي قوله: لله علي أن أصوم غدا. ولو قال: لله علي صوم أمس غدا لم يلزمه شيء؛ لأن أمس لا يمكن أن يصام فيه؛ لأنه لا يعود ثانيا فبطل الالتزام فيه فلا يلزمه بقوله: غدا ؛ لأنه لم يوجب صوم غد، وإنما جعل الغد ظرفا للأمس ؛ وإنه لا يصلح ظرفا له، فلغيت تسمية الغد أيضا، والأصل في هذا النوع أن اللفظ الثاني يبطل في الأحوال كلها ؛ لما ذكرنا ؛ وإذا بطل هذا ينظر إلى اللفظ الأول فإن صلح صح النذر به وإلا بطل. ولو قال: لله علي صوم كذا كذا يوما، ولا نية له فعليه صوم أحد عشر يوما؛ لأنه جمع بين عددين مفردين مجملين لا بحرف النسق، فانصرف إلى أقل عددين مفردين يجمع بينهما لا بحرف النسق وذلك أحد عشر ؛ لأن الأقل متيقن به، والزيادة مشكوك فيها، وإن نوى شيئا فهو على ما نوى يوما كان أو أكثر؛ لأن حمل هذا اللفظ على التكرار جائز في اللغة؛ يقال: صوم يوم يوم ويراد به تكرار يوم، وإذا جاز هذا فقد نوى ما يحتمله كلامه فعملت نيته. ولو قال: لله علي صوم كذا وكذا يوما فعليه صوم أحد وعشرين يوما إن لم يكن له نية؛ لأنه جمع بين عددين مفردين على الإكمال بحرف النسق، فحمل على أقل ذلك، وأقله أحد وعشرون يوما، وإن كانت له نية فهو على ما نوى، واحدا أو أكثر ؛ لأن هذا مما يحتمل التكرار، يقال: صوم يوم يوم ويراد به تكرار يوم واحد. ولو قال: لله علي صوم بضعة عشر يوما ولا نية له كان عليه صوم ثلاثة عشر يوما؛ لأن البضع عند العرب عبارة عن ثلاثة فما فوقها إلى تمام العقد وهو عشرة وعشرون وثلاثون وأربعون ونحو ذلك.فإذا لم يكن له نية صرف إلى أقله وذلك ثلاثة عشر ؛ إذ الأقل متيقن. ولو قال: لله علي صوم سنين فهو على ثلاث سنين؛ لأن الثلاث مستحقة هذا الاسم بيقين، ولو قال: السنين فهو على عشر سنين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما على الأبد. ولو قال: علي صوم الشهور فهو على عشرة أشهر عند أبي حنيفة رحمه الله إذا لم يكن له نية، وعندهما على اثني عشر شهرا. ولو قال صوم شهور فهو على ثلاثة أشهر بلا خلاف، وكذا هذا في الأيام، وأياما منكرا ومعرفا، وعندهما المعرف يقع على الأيام السبعة، وقد ذكرناه في كتاب الأيمان. ولو قال لله علي صوم جمع هذا الشهر فعليه صوم كل يوم جمعة في ذلك الشهر إذا لم يكن له نية، لأن هذا اللفظ يراد به في ظاهر العادة عين يوم الجمعة. ولو قال لله علي صوم أيام الجمعة فعليه صوم سبعة أيام؛ لأن أيام الجمعة سبعة في تعارف الناس. ولو قال لله علي صوم جمعة فإن كانت له نية فهو على ما نوى إن نوى عين يوم الجمعة، أو نوى أيامها؛ لأن ظاهر لفظه يحتمل كليهما، وإن لم يكن له نية فهو على أيامها ؛ لأنه يراد به في أغلب العادات أيامها والله عز شأنه أعلم. ولو نذر بقربة مقصودة من صلاة أو صوم، فقال رجل آخر: علي مثل ذلك يلزمه وكذا إذا قال علي المشي إلى بيت الله عز شأنه ، وكل مملوك لي حر ، وكل امرأة لي طالق إذا دخلت الدار ، فقال رجل آخر: علي مثل ذلك إن دخلت الدار ، ثم

 

ج / 5 ص -89-         دخل الثاني الدار فإنه يلزمه المشي، ولا يلزمه العتاق والطلاق، ثم: قال ألا ترى أنه لو قال: علي طلاق امرأتي فإن الطلاق لا يقع عليها؟ وهذا يدل على أن من قال: الطلاق علي واجب أنه لا يقع طلاقه.قال القدوري رحمه الله: وكان أصحابنا بالعراق يقولون فيمن قال: الطلاق لي لازم يقع الطلاق لعرف الناس أنهم يريدون به الطلاق وكان محمد بن سلمة يقول: إن الطلاق يقع بكل حال. وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني عن علي بن أحمد بن نصر بن يحيى عن محمد بن مقاتل رحمهم الله أنه قال: المسألة على الخلاف، قال أبو حنيفة عليه الرحمة: إذا قال الطلاق لي لازم أو علي واجب لم يقع وقال محمد: يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب، وحكى ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف في رجل قال: ألزمت نفسي طلاق امرأتي هذه أو ألزمت نفسي عتق عبدي هذا قال: إن نوى به الطلاق والعتاق فهو واقع، وإلا لم يلزمه؛ وكذلك لو قال ألزمت نفسي طلاق امرأتي هذه إن دخلت الدار أو عتق عبدي هذا؛ فدخل الدار وقع الطلاق والعتاق إن نوى ذلك، وإن لم ينو فليس بشيء جعله بمنزلة كنايات الطلاق. وجه قول محمد عليه الرحمة أن الوقوع للعادة، والعادة في اللزوم؛ لأنهم يذكرونه على إرادة الإيقاع، ولا عادة في الإيجاب فلا يقع به شيء ولأبي يوسف رحمه الله أن الظاهر الإلزام والإيجاب للنذر، ويحتمل أن يراد به التزام حكم الطلاق الواقع فيقف على النية كسائر كنايات الطلاق ولأبي حنيفة رحمه الله أن الطلاق لا يحتمل الإيجاب والإلزام؛ لأنه ليس بقربة فبطل. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال رجل: امرأة زيد طالق ثلاثا ورقيقه أحرار، وعليه المشي إلى بيت الله جل شأنه إن دخل هذه الدار؛ فقال زيد: نعم كان كأنه قد حلف بذلك كله ؛ لأن نعم جواب لا يستقل بنفسه، فيتضمن إضمار ما خرج جوابا له، كما في قوله عز شأنه: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}، تقديره: نعم وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، وكالشهود إذا قرءوا على المشهود عليه كتاب الوثيقة، فقالوا: نشهد عليك بما فيه؟ فقال: نعم إن لهم أن يشهدوا؛ لأن تقديره نعم اشهدوا علي بما في الكتاب ولو لم يكن قال نعم ولكنه قال أجزت ذلك، فهذا لم يحلف على شيء؛ لأن قوله: أجزت ليس بإيجاب والتزام، فلا يلزمه شيء، فإن قال: قد أجزت ذلك علي إن دخلت الدار، أو قال: قد ألزمت نفسي ذلك إن دخلت الدار، كان لازما له؛ لأنه التزم ما قاله، فلزمه. ولو أن رجلا قال: امرأة زيد طالق، فقال زيد: قد أجزت لزمه الطلاق، وكذلك لو قال: قد رضيت ما قال أو ألزمته نفسي؛ لأن هذا ليس بيمين، بل هو إيقاع، فيقف على الإجازة، فأما اليمين فيحتاج إلى الالتزام، ليجوز على الحالف وينفذ عليه، فلا بد من لفظ الالتزام. ولو أن رجلا قال: إن بعت هذا المملوك من زيد فهو حر؛ فقال زيد قد أجزت ذلك أو رضيت ذلك ثم اشتراه لم يعتق؛ لأن الحالف أعتق عبده بشرط، فوجد الشرط في غير ملكه فلم يحنث، ولا يتعلق بالإجازة حكم؛ لأن البائع لم يوقت اليمين، وإنما حلف في ملك نفسه، ولو كان البائع قال: إن اشترى زيد هذا العبد فهو حر، فقال: نعم ثم اشتراه عتق عليه، لأن البائع لم يعقد اليمين في ملك نفسه، وإنما أضافها إلى ملك المشتري، فصار عاقدا ليمين موقوفة، وقد أجازها من وقفت عليه فتعلق الحكم بها. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف لو أن رجلا طلق امرأته، فقال آخر: علي مثل ذلك فإن هذا لا يلزم الثاني، وكذلك لو قال علي مثل هذا الطلاق ؛ لأن قوله: علي مثل ذلك، إيجاب الطلاق على نفسه، والطلاق لا يحتمل الإيجاب. ولو حلف رجل بطلاق امرأته لا يدخل هذه الدار فقال آخر: علي مثل ذلك إن دخلتها فإن دخلها الثاني، لم يلزمه طلاق امرأته ؛ لأنه أوجب على نفسه الطلاق إن دخل الدار والطلاق لا يحتمل الإيجاب والإلزام ؛ لأنه ليس بقربة ، فإن أراد بهذا الإيجاب اليمين فليست بطلاق حتى تطلق، فإن لم يفعل حتى مات أحدهما حنث ؛ لأن النذر إذا أريد به اليمين صار كأنه قال: لأطلقنها ولو قال ذلك لا يحنث حتى يموت أحدهما كذا هذا. ولو قال: عبدي هذا حر إن دخلت هذه الدار، فقال آخر: علي مثل ذلك إن دخلت هذه الدار، فدخل الثاني لم يعتق عبده ؛ لأنه أوجب على نفسه بدخول الدار عتقا غير معين، فكان له أن يخرج منه بشراء عبد يعتقه فلا يتعلق العتق بعبيده الموجودين لا محالة ، وإذا لم يتعلق بهم لا يلزمه عتق في ذمته ؛ لأنه لو لزمه لم يكن ذلك مثل ما فعله الحالف. ولو أن رجلا قال: لله علي نسمة إن دخلت هذه الدار ، فقال آخر: علي مثل ذلك إن دخلت فهذا لازم للأول ولازم للثاني ؛ أيهما دخل لزمه نسمة ؛ لأن الأول أوجب

 

ج / 5 ص -90-         عتقا في ذمته، وذلك مما يجب بالنذر، وإذا أوجب آخر مثله وجب عليه، بخلاف الفصل الأول ؛ لأن ثمة ما أوجب العتق بل علق، فلا يكون على الثاني إيجاب؛ لأنه ليس بمثل. ولو قال: كل ما لي هدي وقال: آخر وعلي مثل ذلك فعليه أن يهدي جميع ماله، سواء كان أقل من مال الأول أو أكثر ؛ إلا أن يعني مثل قدره فيلزمه مثل ذلك، إن كان مال الثاني أكثر، وإن كان مال الثاني أقل يلزمه في ذمته تمام مال الأول ؛ لأن مطلق الإيجاب يضاف إلى هدي جميع ماله كما أوجب الأول، فإذا أراد القدر فقد نوى ما يحتمله الكلام، فيحمل عليه.فإن قال رجل: كل مال أملك إلى سنة فهو هدي، فقال آخر: علي مثل ذلك لم يلزمه شيء؛ لأن الثاني لم يضف الهدي إلى الملك، فلا تثبت الإضافة بالإضمار. والله عز شأنه أعلم. "ومنها" أن يكون المنذور به إذا كان مالا مملوك الناذر وقت النذر، أو كان النذر مضافا إلى الملك، أو إلى سبب الملك، حتى لو نذر بهدي ما لا يملكه، أو بصدقة ما لا يملكه للحال لا يصح، لقوله: عليه الصلاة والسلام "لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم" إلا إذا أضاف إلى الملك، أو إلى سبب الملك بأن قال: كل مال أملكه فيما أستقبل فهو هدي، أو قال فهو صدقة، أو قال: كلما اشتريته أو أرثه فيصح عند أصحابنا خلافا للشافعي رحمه الله، والصحيح: قولنا لقوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} إلى قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ}. دلت الآية الشريفة على صحة النذر المضاف؛ لأن الناذر بنذره عاهد الله تعالى الوفاء بنذره، وقد لزمه الوفاء بما عهد، والمؤاخذة على ترك الوفاء به، ولا يكون ذلك إلا في النذر الصحيح. "ومنها" أن لا يكون مفروضا ولا واجبا، فلا يصح النذر بشيء من الفرائض سواء كان فرض عين كالصلوات الخمس وصوم رمضان ، أو فرض كفاية كالجهاد وصلاة الجنازة ، ولا بشيء من الواجبات سواء كان عينا كالوتر وصدقة الفطر والعمرة والأضحية ، أو على سبيل الكفاية كتجهيز الموتى وغسلهم ورد السلام ونحو ذلك ؛ لأن إيجاب الواجب لا يتصور. "وأما" الذي يرجع إلى نفس الركن فخلوه عن الاستثناء فإن دخله أبطله.

"فصل" "وأما" حكم النذر فالكلام فيه في مواضع: الأول في بيان أصل الحكم، والثاني في بيان وقت ثبوته، والثالث في بيان كيفية ثبوته.- أما أصل الحكم فالناذر لا يخلو من أن يكون نذر وسمى، أو نذر ولم يسم، فإن نذر وسمى فحكمه وجوب الوفاء بما سمى، بالكتاب العزيز والسنة والإجماع والمعقول. "أما" الكتاب الكريم فقوله عز شأنه {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}، وقوله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}، والنذر نوع عهد من الناذر مع الله جل وعلا فيلزمه الوفاء بما عهد، وقوله جلت عظمته {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أي العهود، وقوله عز شأنه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} ألزم الوفاء بعهده حيث أوعد على ترك الوفاء. "وأما" السنة فقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى"، وعلى كلمة إيجاب، وقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عند شروطهم"، والناذر شرط الوفاء بما نذر فيلزمه مراعاة شرطه، وعليه إجماع الأمة. "وأما" المعقول فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بنوع من القرب المقصودة التي له رخصة تركها لما يتعلق به من المعاقبة الحميدة، وهي نيل الدرجات العلى، والسعادة العظمى في دار الكرامة، وطبعه لا يطاوعه على تحصيله، بل يمنعه عنه ؛ لما فيه من المضرة الحاضرة وهي المشقة، ولا ضرورة في الترك فيحتاج إلى اكتساب سبب يخرجه عن رخصة الترك، ويلحقه بالفرائض الموظفة، وذلك يحصل بالنذر؛ لأن الوجوب يحمله على التحصيل؛ خوفا من مضرة الترك فيحصل مقصوده، فثبت أن حكم النذر الذي فيه تسمية هو وجوب الوفاء بما سمى، وسواء كان النذر مطلقا أو مقيدا معلقا بشرط بأن قال: إن فعلت كذا فعلي لله حج أو عمرة أو صوم أو صلاة أو ما أشبه ذلك من الطاعات، حتى لو فعل ذلك يلزمه الذي جعله على نفسه، ولم يجز عنه كفارة، وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم. وقال الشافعي رحمه الله: إن علقه بشرط يريد كونه لا يخرج عنه بالكفارة، كما إذا قال: إن شفى الله مريضي، أو إن قدم غائبي فعلي كذا، وإن علقه بشرط لا يريد كونه بأن قال: إن كلمت فلانا، أو قال: إن دخلت الدار فلله علي

 

ج / 5 ص -91-         كذا يخرج عنه بالكفارة، وهو بالخيار إن شاء وفى بالنذر، وإن شاء كفر وأصحاب الشافعي رحمه الله يسمون هذا يمين الغصب. وروى عامر عن علي بن معبد عن محمد رحمهم الله: أنه رجع عن ذلك وقال يجزئ فيه كفارة اليمين وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجزيه كفارة اليمين. وروي أن أبا حنيفة عليه الرحمة رجع إلى الكفارة في آخر عمره ، فإنه روي عن عبد العزيز بن خالد أنه قال: قرأت على أبي حنيفة رحمه الله كتاب الأيمان، فلما انتهيت إلى هذه المسألة قال: قف فإن من رأيي أن أرجع إلى الكفارة، قال: فخرجت حاجا فلما رجعت وجدت أبا حنيفة عليه الرحمة قد مات ، فأخبرني الوليد بن أبان أن أبا حنيفة رجع عن الكفارة؛ والمسألة مختلفة بين الصحابة: رضي الله عنهم روي عن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن عليه الوفاء بما سمى، وعن سيدنا عمر وعبد الله ابن سيدنا عمر وسيدتنا عائشة وسيدتنا حفصة رضي الله عنهم أن عليه الكفارة. واحتج من قال بوجوب الكفارة بقوله جلت عظمته: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وقوله جل شأنه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} وهذا يمين ؛ لأن اليمين بغير الله تعالى جل شأنه شرط وجزاء، وهذا كذلك. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" ، وهذا نص ، ولأن هذا في معنى اليمين بالله تعالى جل شأنه ؛ لأن المقصد من اليمين بالله تعالى الامتناع من المحلوف عليه، أو تحصيله خوفا من لزوم الحنث، وهذا موجود ههنا ؛ لأنه إن قال: إن فعلت كذا فعلي حجة، فقد قصد الامتناع من تحصيل الشرط، وإن قال: إن لم أفعل كذا فعلي حجة، فقد قصد تحصيل الشرط، وكل ذلك خوفا من الحنث فكان في معنى اليمين بالله تعالى فتلزمه الكفارة عند الحنث. "ولنا" قوله جل شأنه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الآية، وغيرها من نصوص الكتاب العزيز والسنة المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر عاما مطلقا من غير فصل بين المطلق والمعلق بالشرط، والوفاء بالنذر هو فعل ما تناوله النذر لا الكفارة؛ ولأن الأصل اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف تنجيزا كان أو تعليقا بشرط؛ والمتصرف أوقعه نذرا عليه عند وجود الشرط وهو إيجاب الطاعة المذكورة لا إيجاب الكفارة، واحتج أبو يوسف رحمه الله في ذلك وقال: القول بوجوب الكفارة يؤدي إلى وجوب القليل بإيجاب الكثير، ووجوب الكثير بإيجاب القليل؛ لأنه لو قال: إن فعلت كذا فعلي صوم سنة، أو إطعام ألف مسكين لزمه صوم ثلاثة أيام، أو إطعام عشرة مساكين، ولو قال: إن فعلت كذا فعلي صوم يوم، أو إطعام مسكين لزمه إطعام عشرة مساكين، أو صوم ثلاثة، ولا حجة لهم بالآية الكريمة؛ لأن المراد بها اليمين بالله عز شأنه؛ لأن الله تعالى أثبت باليمين المعقودة ما نفاه بيمين اللغو بقوله تعالى جلت كبرياؤه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، والمراد من النفي اليمين بالله تعالى كذا في الإثبات، والحديث محمول على النذر المبهم توفيقا بين الدلائل، صيانة لها عن التناقض. وأما قولهم: إن هذا في معنى اليمين بالله تعالى ممنوع بأن النذر المعلق بالشرط صريح في الإيجاب عند وجود الشرط، واليمين بالله تعالى ليس بصحيح في الإيجاب، وكذا الكفارة في اليمين بالله تعالى تجب جبرا لهتك حرمة اسم الله عز اسمه الحاصل بالحنث، وليس في الحنث ههنا هتك حرمة اسم الله تعالى، وإنما فيه إيجاب الطاعة، فلم يكن في معنى اليمين بالله تعالى، ثم الوفاء بالمنذور به نفسه حقيقة، إنما يجب عند الإمكان، فأما عند التعذر فإنما يجب الوفاء به تقديرا بخلفه؛ لأن الخلف يقوم مقام الأصل، كأنه هو، كالتراب حال عدم الماء، والأشهر حال عدم الإقراء، حتى لو نذر الشيخ الفاني بالصوم، يصح نذره، وتلزمه الفدية؛ لأنه عاجز عن الوفاء بالصوم حقيقة فيلزمه الوفاء به تقديرا بخلفه، ويصير كأنه صام، وعلى هذا يخرج أيضا النذر بذبح الولد، أنه يصح عند أبي حنيفة عليه الرحمة ومحمد رحمه الله ويجب ذبح الشاة؛ لأنه إن عجز عن تحقيق القربة بذبح الولد حقيقة لم يعجز عن تحقيقها بذبحه تقديرا بذبح خلفه وهو الشاة، كما في الشيخ الفاني إذا نذر بالصوم. "وأما" وجوب الكفارة عند فوات المنذور به إذا كان معينا، بأن نذر صوم شهر بعينه، ثم أفطر فهل هو من حكم النذر؟ فجملة الكلام فيه: أن الناذر لا يخلو إما إن قال ذلك ونوى النذر ولم يخطر بباله اليمين أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا، أو لم يخطر بباله شيء لا النذر ولا اليمين، أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر، أو نوى اليمين ونوى أن لا يكون

 

ج / 5 ص -92-         نذرا، أو نوى النذر واليمين جميعا فإن لم يخطر بباله شيء لا النذر ولا اليمين، أو نوى النذر ولم يخطر بباله اليمين، أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا بالإجماع. وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا ولا يكون نذرا بالاتفاق، وإن نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر، أو نوى النذر واليمين جميعا كان نذرا ويمينا في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يكون يمينا ولا يكون نذرا، والأصل عند أبي يوسف: لا يتصور أن يكون الكلام الواحد نذرا ويمينا، بل إذا بقي نذرا لا يكون يمينا، وإذا صار يمينا لم يبق نذرا وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز أن يكون الكلام الواحد نذرا ويمينا. "وجه" قول أبي يوسف أن الصيغة للنذر حقيقة وتحتمل اليمين مجازا لمناسبة بينهما بكون كل واحد منهما سببا لوجوب الكف عن فعل، أو الإقدام عليه، فإذا بقيت الحقيقة معتبرة لم يثبت المجاز، وإذا انقلب مجازا لم تبق الحقيقة؛ لأن الكلام الواحد لا يشتمل على الحقيقة والمجاز لما بينهما من التنافي، إذ الحقيقة من الأسامي ما تقرر في المحل الذي وضع له، والمجاز ما جاوز محل وضعه وانتقل عنه إلى غيره لضرب مناسبة بينهما، ولا يتصور أن يكون الشيء الواحد في زمان واحد متقررا في محله، ومنتقلا عنه إلى غيره. "ولهما" أن النذر فيه معنى اليمين؛ لأن النذر وضع لإيجاب الفعل مقصودا تعظيما لله تعالى، وفي اليمين وجوب الفعل المحلوف عليه، إلا أن اليمين ما وضعت لذلك، بل لتحقيق الوعد والوعيد، ووجوب الفعل لضرورة تحقق الوعد والوعيد لا أنه يثبت مقصودا باليمين، لأنها ما وضعت لذلك، وإذا كان وجوب الفعل فيها لغيره لم يكن الفعل واجبا في نفسه، ولهذا تنعقد اليمين في الأفعال كلها، واجبة كانت أو محظورة أو مباحة. ولا ينعقد النذر إلا فيما لله تعالى من جنسه إيجاب، ولهذا لم يصح اقتداء الناذر بالناذر لتغاير الواجبين؛ لأن صلاة كل واحد منهما وجبت بنذره، فتتغاير الواجبات، ولم يصح الاقتداء، ويصح اقتداء الحالف بالحالف؛ لأن المحلوف عليه إذا لم يكن واجبا في نفسه كان في نفسه نفلا كأن اقتدى المتنفل بالمتنفل فصح، وإذا ثبت أن المنذور واجب في نفسه، والمحلوف واجب لغيره، فلا شك أن ما كان واجبا في حق نفسه كان في حق غيره واجبا، فكان معنى اليمين وهو الوجوب لغيره موجودا في النذر، فكان كل نذر فيه معنى اليمين، إلا أنه لا يعتبر لوقوع النسبة بوجوبه في حق نفسه عن وجوبه في حق غيره، فإذا نواه فقد اعتبره فصار نذرا ويمينا. وبه تبين أن ليس هذا من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد؛ لأن المجاز ما جاوز محل الحقيقة إلى غيره لنوع مناسبة بينهما، وهذا ليس من هذا القبيل بل هو من جعل ما ليس بمعتبر في محل الحقيقة مع وجوده وتقرره معتبرا بالنسبة، فلم يكن من باب المجاز، والدليل على أنه يجوز اشتمال لفظ واحد على معنيين مختلفين كالكتابة، والإعتاق على مال أن كل واحد منهما يشتمل على معنى اليمين، ومعنى المعاوضة على ما ذكرنا في كتاب العتاق والمكاتب. "وأما" النذر الذي لا تسمية فيه فحكمه وجوب ما نوى إن كان الناذر نوى شيئا سواء كان مطلقا عن شرط، أو معلقا بشرط، بأن قال: لله علي نذر أو قال: إن فعلت كذا فلله علي نذر، فإن نوى صوما أو صلاة أو حجا أو عمرة، لزمه الوفاء به في المطلق للحال، وفي المعلق بالشرط عند وجود الشرط، ولا تجزيه الكفارة في قول أصحابنا على ما بينا، وإن لم تكن له نية فعليه كفارة اليمين، غير أنه إن كان مطلقا يحنث للحال، وإن كان معلقا بشرط يحنث عند الشرط، لقوله عليه الصلاة والسلام: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين"، والمراد منه النذر المبهم الذي لا نية للناذر فيه، وسواء كان الشرط الذي علق به هذا النذر مباحا أو معصية، بأن قال: إن صمت أو صليت فلله علي نذر ويجب عليه أن يحنث نفسه، ويكفر عن يمينه لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه". ولو نوى في النذر المبهم صياما ولم ينو عددا؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في المطلق للحال، وفي المعلق إذا وجد الشرط، وإن نوى طعاما ولم ينو عددا؛ فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة ؛ لأنه لو لم يكن له نية لكان عليه كفارة اليمين ؛ لما ذكرنا أن النذر المبهم يمين، وأن كفارته كفارة يمين بالنص ، فلما نوى به الصيام انصرف إلى صيام الكفارة ، وهو صيام ثلاثة أيام ، وانصرف الإطعام إلى طعام الكفارة ، وهو إطعام عشرة مساكين ولو قال: لله علي صدقة ، فعليه نصف صاع ، ولو قال: لله علي صوم فعليه صوم يوم ؛ ولو قال: لله علي صلاة ، فعليه ركعتان ؛ لأن ذلك أدنى ما ورد

 

ج / 5 ص -93-         الأمر به، والنذر يعتبر بالأمر فإذا لم ينو شيئا ينصرف إلى أدنى ما ورد به الأمر في الشرع. "وأما" وقت ثبوت هذا الحكم فالنذر لا يخلو إما أن يكون مطلقا، وإما أن يكون معلقا بشرط أو مقيدا بمكان أو مضافا إلى وقت، والمنذور لا يخلو أما إن كان قربة بدنية كالصوم والصلاة. وأما إن كان مالية كالصدقة فإن كان النذر مطلقا عن الشرط والمكان والزمان، فوقت ثبوت حكمه وهو وجوب المنذور به هو وقت وجود النذر، فيجب عليه في الحال مطلقا عن الشرط والمكان والزمان، لأن سبب الوجوب وجد مطلقا، فيثبت الوجوب مطلقا، وإن كان معلقا بشرط نحو أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو إن قدم فلان الغائب فلله علي أن أصوم شهرا، أو أصلي ركعتين، أو أتصدق بدرهم، ونحو ذلك فوقته وقت الشرط، فما لم يوجد الشرط لا يجب بالإجماع. ولو فعل ذلك قبل وجود الشرط يكون نفلا؛ لأن المعلق بالشرط عدم قبل وجود الشرط، وهذا لأن تعليق النذر بالشرط هو إثبات النذر بعد وجود الشرط كتعليق الحرية بالشرط إثبات الحرية بعد وجود الشرط، فلا يجب قبل وجود الشرط، لانعدام السبب قبله وهو النذر فلا يجوز تقديمه على الشرط؛ لأنه يكون أداء قبل الوجوب وقبل وجود سبب الوجوب، فلا يجوز كما لا يجوز التكفير قبل الحنث؛ لأنه شرط أن يؤديه بعد وجود الشرط، فيلزمه مراعاة شرطه لقوله: عليه الصلاة والسلام "المسلمون عند شروطهم" وإن كان مقيدا بمكان بأن قال: لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا، أو أتصدق على فقراء بلد كذا يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله لا يجوز إلا في المكان المشروط. "وجه" قوله أنه أوجب على نفسه الأداء في مكان مخصوص، فإذا أدى في غيره لم يكن مؤديا ما عليه، فلا يخرج عن عهدة الواجب؛ ولأن إيجاب العبد يعتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى مقيدا بمكان لا يجوز أداؤه في غيره كالنحر في الحرم والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة كذا ما أوجبه العبد. "ولنا" أن المقصود والمبتغى من النذر هو التقرب إلى الله عز وجل، فلا يدخل تحت نذره إلا ما هو قربة، وليس في عين المكان وإنما هو محل أداء القربة فيه، فلم يكن بنفسه قربة فلا يدخل المكان تحت نذره، فلا يتقيد به فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة وإن كان مضافا إلى وقت بأن قال لله علي أن أصوم رجبا، أو أصلي ركعتين يوم كذا، أو أتصدق بدرهم في يوم كذا فوقت الوجوب في الصدقة هو وقت وجود النذر في قولهم جميعا، حتى يجوز تقديمها على الوقت بلا خلاف بين أصحابنا، واختلف في الصوم والصلاة، قال أبو يوسف: وقت الوجوب فيهما وقت وجود النذر، وعند محمد عليه الرحمة وقت مجيء الوقت حتى يجوز تقديمه على الوقت في قول أبي يوسف، ولا يجوز في قول محمد رحمه الله. "وجه" قول محمد أن النذر إيجاب ما شرع في الوقت نفلا، ألا ترى أن النذر بما ليس بمشروع نفلا وفي وقت لا يتصور، كصوم الليل وغيره لا يصح؟ والناذر أوجب على نفسه الصوم في وقت مخصوص، فلا يجب عليه قبل مجيئه، بخلاف الصدقة؛ لأنها عبادة مالية لا تعلق لها بالوقت؛ بل بالمال فكان ذكر الوقت فيه لغوا، بخلاف العبادة البدنية. "وجه" قول أبي يوسف أن الوجوب ثابت قبل الوقت المضاف إليه النذر، فكان الأداء قبل الوقت المذكور أداء بعد الوجوب فيجوز، والدليل على تحقق الوجوب قبل الوقت المعين وجهان: أحدهما أن العبادات واجبة على الدوام بشرط الإمكان وانتفاء الحرج بالنصوص والمعقول. "أما" النصوص فقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ونحو ذلك. "وأما" المعقول فهو أن العبادة ليست إلا خدمة المولى؛ وخدمة المولى على العبد مستحقة، والتبرع من العبد على المولى محال، والعبودية دائمة فكان وجوب العبادة عليه دائما؛ ولأن العبادات وجبت شكرا للنعمة، والنعمة دائمة ، فيجب أن يكون شكرها دائما حسب دوام النعمة، إلا أن الشرع رخص للعبد تركها في بعض الأوقات ، فإذا نذر فقد اختار العزيمة، وترك الرخصة ، فيعود حكم العزيمة كالمسافر إذا اختار صوم رمضان فصام، سقط عنه الفرض ؛ لأن الواجب عليه هو الصوم ، إلا أنه رخص له تركه لعذر السفر ، فإذا صام فقد اختار العزيمة وترك الرخصة فعاد حكم العزيمة، لهذا المعنى كان الشروع في نفل العبادة اللزوم في الحقيقة بما ذكرنا من الدلائل بالشروع، إلا أنه لما شرع فقد اختار العزيمة وترك الرخص، فعاد حكم العزيمة كذا في النذر. والثاني أنه وجد سبب الوجوب للحال وهو

 

ج / 5 ص -94-         النذر، وإنما الأجل ترفيه يترفه به في التأخير، فإذا عجل فقد أحسن في إسقاط الأجل فيجوز كما في الإقامة في حق المسافر لصوم رمضان، وهذا لأن الصيغة صيغة إيجاب، أعني قوله: لله علي أن أصوم والأصل في كل لفظ موجود في زمان اعتباره فيه فيما يقتضيه في وضع اللغة، ولا يجوز إبطاله ولا تغييره إلى غير ما وضع له إلا بدليل قاطع أو ضرورة داعية، ومعلوم أنه لا ضرورة إلى إبطال هذه الصيغة، ولا إلى تغييرها، ولا دليل سوى ذكر الوقت، وأنه محتمل قد يذكر للوجوب فيه، كما في باب الصلاة، وقد يذكر لصحة الأداء كما في الحج والأضحية، وقد يذكر للترفيه والتوسعة كما في وقت الإقامة للمسافر، والحول في باب الزكاة، فكان ذكر الوقت في نفسه محتملا، فلا يجوز إبطال صيغة الإيجاب الموجود للحال مع الاحتمال، فبقيت الصيغة موجبة وذكر الوقت للترفيه والتوسعة ؛ كي لا يؤدي إلى إبطال الثابت بيقين إلى أمر محتمل، وبه تبين أن هذا ليس بإيجاب صوم رجب عينا ؛ بل هو إيجاب صوم مقدر بالشهر، أي شهر كان، فكان ذكر رجب لتقرير الواجب لا للتعيين، فأي شهر اتصل الأداء به تعين ذلك الشهر للوجوب فيه، وإن لم يتصل به الأداء إلى رجب تعين رجب، لوجوب الأداء فيه، فكان تعيين كل شهر قبل رجب باتصال الأداء به، وتعيين رجب بمجيئه قبل اتصال الأداء بشهر قبله كما في باب الصلاة أنها تجب في جزء من الوقت غير معين. وإنما يتعين الوجوب بالشروع إن شرع فيها، وإن لم يشرع إلى آخر الوقت تعين آخر الوقت للوجوب وهو الصحيح من الأقاويل على ما عرف في أصول الفقه، وكما في النذر المطلق عن الوقت، وسائر الواجبات المطلقة عن الوقت من قضاء رمضان والكفارة وغيرهما، أنها تجب في مطلق الوقت في غير تعيين، وإنما يتعين الوجوب إما باتصال الأداء به، وإما بآخر العمر إذا صار إلى حال لو لم يؤد لفات بالموت. "وأما" كيفية ثبوته فالنذر لا يخلو إما إن أضيف إلى وقت مبهم، وإما إن أضيف إلى وقت معين، فإن أضيف إلى وقت مبهم بأن قال: لله علي أن أصوم شهرا ولا نية له، فحكمه هو حكم الأمر المطلق عن الوقت، واختلف أهل الأصول في ذلك أن حكمه وجوب الفعل على الفور أم على التراخي، حكى الكرخي رحمه الله عن أصحابنا أنه على الفور، وروى ابن شجاع البلخي عن أصحابنا أنه يجب وجوبا موسعا، فظهر الاختلاف بين أصحابنا في الحج، فعند أبي يوسف يجب على الفور، وعند محمد على التراخي. وروي عن أبي حنيفة عليه الرحمة مثل قول أبي يوسف، وقال عامة مشايخنا بما وراء النهر أنه على التراخي، وتفسير الواجب على التراخي عندهم أنه يجب في جزء من عمره غير معين وإليه خيار التعيين، ففي أي وقت شرع فيه تعين ذلك الوقت للوجوب، وإن لم يشرع يتضيق الوجوب في آخر عمره إذا بقي من آخر عمره قدر ما يمكنه الأداء فيه بغالب ظنه، حتى لو مات قبل الأداء يأثم بتركه، وهو الصحيح؛ لأن الأمر بالفعل مطلق عن الوقت، فلا يجوز تقييده إلا بدليل، فكذلك النذر؛ لأن النصوص المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر مطلقة عن الوقت، فلا يجوز تقييدها إلا بدليل، وكذا سبب الوجوب وهو النذر وجد مطلقا عن الوقت، والحكم يثبت على وفق السبب، فيجب عليه أن يصوم شهرا من عمره غير معين، وخيار التعيين إليه إلى أن يغلب على ظنه الفوت لو لم يصم فيضيق الوقت حينئذ. وكذا حكم الاعتكاف المضاف إلى وقت مبهم، بأن قال: لله علي أن أعتكف شهرا، ولا نية له، وهذا بخلاف اليمين بالكلام، بأن قال: والله لا أكلم فلانا شهرا ؛ أنه يتعين الشهر الذي يلي اليمين، وكذا الإجارة بأن أجر داره، أو عبده شهرا، فإنه يتعين الشهر الذي يلي العقد ؛ لأنه أضاف النذر إلى شهر منكر، والصرف إلى الشهر الذي يلي النذر يعين المنكر، ولا يجوز تعيين المنكر إلا بدليل هو الأصل، وقد قام دليل التعيين في باب اليمين والإجارة ؛ لأن غرض الحالف منع نفسه عن الكلام، والإنسان إنما يمنع نفسه عن الكلام مع غيره ؛ لإهانته والاستخفاف به لداع يدعوه إلى ذلك الحال، والإجارة تنعقد للحاجة إلى الانتفاع بالمستأجر، والحاجة قائمة عقيب العقد، فيتعين الزمان المتعقب للعقد لثبوت حكم الإجارة، ويجوز تعيين المبهم عند قيام الدليل المعين. ولو نوى شهرا معينا صحت نيته ؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه، وفيه تشديد عليه، ثم في النذر المضاف إلى وقت مبهم إذا عين شهرا للصوم فهو بالخيار: إن شاء تابع ، وإن شاء فرق ، بخلاف الاعتكاف إنه إذا عين شهرا للاعتكاف فلا بد وأن يعتكف متتابعا في النهار والليالي جميعا ؛ لأن الإيجاب في النوعين حصل مطلقا عن صفة التتابع ، إلا أن في

 

ج / 5 ص -95-         ذات الاعتكاف ما يوجب التتابع، وهو كونه لبثا على الدوام فكان مبناه على الاتصال، والليالي والنهر قابلة لذلك، فلا بد من التتابع ومبنى الصوم ليس على التتابع بل على التفريق لما بين كل يومين ما لا يصلح له وهو الليل، فبقي له الخيار. وإن أضيف إلى وقت معين بأن قال: لله علي أن أصوم غدا يجب عليه صوم الغد وجوبا مضيقا، ليس له رخصة التأخير من غير عذر. وكذا إذا قال لله علي صوم رجب فلم يصم فيما سبق من الشهور على رجب حتى هجم رجب لا يجوز له التأخير من غير عذر؛ لأنه إذا لم يصم قبله حتى جاء رجب تعين رجب لوجوب الصوم فيه على التضييق، فلا يباح له التأخير، ولو صام رجبا وأفطر منه يوما لا يلزمه الاستقبال، ولكنه يقضي ذلك اليوم من شهر آخر، بخلاف ما إذا قال: لله علي أن أصوم شهرا متتابعا، أو قال: أصوم شهرا ونوى التتابع فأفطر يوما أنه يستقبل؛ لأن هناك أوجب على نفسه صوما موصوفا بصفة التتابع، وصح الإيجاب؛ لأن صفة التتابع زيادة قربة لما يلحقه بمراعاتها من زيادة مشقة، وهي صفة معتبرة شرعا ورد الشرع بها في كفارة القتل، والظهار، والإفطار، واليمين عندنا، فيصح التزامه بالنذر، فيلزمه كما التزم، فإذا ترك فلم يأت بالملتزم؛ فيستقبل كما في صوم كفارة الظهار والقتل.فأما ههنا فما أوجب على نفسه صوما متتابعا، وإنما وجب عليه التتابع لضرورة تجاور الأيام؛ لأن أيام الشهر متجاورة، فكانت متتابعة فلا يلزمه إلا قضاء ما أفطر، كما لو أفطر يوما من رمضان لا يلزمه إلا قضاؤه، وإن كان صوم شهر رمضان متتابعا لما قلنا كذا هذا؛ ولأنا لو ألزمناه الاستقبال لوقع أكثر الصوم في غير ما أضيف إليه النذر، ولو أتم وقضى يوما لكان مؤديا أكثر الصوم في الوقت المعين، فكان هذا أولى، ولو أفطر رجبا كله قضى في شهر آخر؛ لأنه فوت الواجب عن وقته فصار دينا عليه، والدين مقضي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا وجب قضاء رمضان إذا فات عن وقته؛ ولأن الوجوب عند النذر بإيجاب الله عز شأنه فيعتبر بالإيجاب المبتدأ وما أوجبه الله تعالى عز شأنه على عباده ابتداء لا يسقط عنه إلا بالأداء أو بالقضاء كذا هذا والله تعالى عز شأنه أعلم.