بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الكفارات"
الكلام في الكفارات في مواضع: في.بيان أنواعها، وفي بيان وجوب كل نوع، وفي بيان كيفية وجوبه، وفي بيان شرط وجوبه، وفي بيان شرط جوازه، "أما" الأول: فالكفارات المعهودة في الشرع خمسة أنواع: كفارة اليمين، وكفارة الحلق، وكفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار، والكل واجبة إلا أن أربعة منها عرف وجوبها بالكتاب العزيز، وواحدة منها عرف وجوبها بالسنة، "أما" الأربعة التي عرف وجوبها بالكتاب العزيز فكفارة اليمين وكفارة الحلق وكفارة القتل وكفارة الظهار، قال الله تعالى عز شأنه في كفارة اليمين: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}. والكفارة في عرف الشرع اسم للواجب، وقال جل شأنه في كفارة الحلق: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، أي فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، وقال تعالى في كفارة القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلى قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} أي فعليه تحرير رقبة مؤمنة وعليه ذلك وعليه صوم شهرين متتابعين لأن صيغته وإن كانت صيغة الخبر لكن لو حمل على الخبر لأدى إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف، فيحمل على الإيجاب، والأمر بصيغة الخبر كثير النظير في القرآن، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي ليرضعن، وقال عز شأنه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي ليتربصن، ونحو ذلك. وقال الله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} إلى قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ

 

ج / 5 ص -96-         أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} ، أي فعليهم ذلك لما قلنا "وأما" كفارة الإفطار فلا ذكر لها في الكتاب العزيز وإنما عرف وجوبها بالسنة وهو ما روي "أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هلكت وأهلكت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا صنعت؟ فقال واقعت امرأتي في شهر رمضان متعمدا فقال النبي عليه الصلاة والسلام:" أعتق رقبة قال: ليس عندي ما أعتق فقال له عليه الصلاة والسلام: صم شهرين متتابعين قال: لا أستطيع فقال له عليه الصلاة والسلام: أطعم ستين مسكينا فقال: لا أجد ما أطعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعا من تمر فقال: خذها وفرقها على المساكين، فقال: أعلى أهل بيت أحوج مني، والله ما بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: كلها وأطعم عيالك تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك" وفي بعض الروايات "أن الأعرابي لما قال ذلك تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال عليه الصلاة والسلام: كلها وأطعم عيالك تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك" فقد أمر عليه الصلاة والسلام بالإعتاق ثم بالصوم ثم بالإطعام، ومطلق الأمر محمول على الوجوب والله عز شأنه أعلم.

"فصل" وأما بيان كيفية وجوب هذه الأنواع فلوجوبها كيفيتان: إحداهما أن بعضها واجب على التعيين مطلقا، وبعضها على التخيير مطلقا، وبعضها على التخيير في حال والتعيين في حال. "أما" الأول فكفارة القتل والظهار والإفطار؛ لأن الواجب في كفارة القتل التحرير على التعيين، لقوله عز شأنه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلى قوله جل شأنه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} والواجب في كفارة الظهار والإفطار ما هو الواجب في كفارة القتل وزيادة الإطعام إذا لم يستطع الصيام، لقوله عز شأنه: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}، وكذا الواجب في كفارة الإفطار لما روينا من الحديث. "وأما" الثاني فكفارة الحلق لقوله عز شأنه {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. وأما الثالث فهو كفارة اليمين لأن الواجب فيها أحد الأشياء الثلاثة باختياره فعلا غير عين، وخيار التعيين إلى الحالف يعين أحد الأشياء الثلاثة باختياره فعلا، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في الأمر بأحد الأشياء أنه يكون أمرا بواحد منها غير عين، وللمأمور خيار التعيين وقالت المعتزلة يكون أمرا بالكل على سبيل البدل. وهذا الاختلاف بناء على أصل مختلف بيننا وبينهم معروف يذكر في أصول الفقه، والصحيح قولنا، لأن كلمة "أو" إذا دخلت بين أفعال يراد بها واحد منها لا الكل في الإخبار والإيجاب جميعا، يقال جاءني زيد أو عمرو ويراد به مجيء أحدهما، ويقول الرجل لآخر بع هذا أو هذا ويكون توكيلا ببيع أحدهما، فالقول بوجوب الكل يكون عدولا عن مقتضى اللغة، ولدلائل أخر عرفت في أصول الفقه فإن لم يجد شيئا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام على التعيين لقوله عز شأنه {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}. والثانية أن الكفارات كلها واجبة على التراخي هو الصحيح من مذهب أصحابنا في الأمر المطلق عن الوقت حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان ويكون مؤديا لا قاضيا. ومعنى الوجوب على التراخي هو أن يجب في جزء من عمره غير عين، وإنما يتعين بتعيينه فعلا، أو في آخر عمره؛ بأن أخره إلى وقت يغلب على ظنه أنه لو لم يؤد فيه لفات، فإذا أدى فقد أدى الواجب، وإن لم يؤد حتى مات أثم لتضييق الوجوب عليه في آخر العمر، وهل يؤخذ من تركته؟ ينظر إن كان لم يوص لا يؤخذ ويسقط في حق أحكام الدنيا عندنا كالزكاة والنذر، ولو تبرع عنه ورثته جاز عنه في الإطعام والكسوة، وأطعموا في كفارة اليمين عشرة مساكين أو كسوتهم، وفي كفارة الظهار والإفطار أطعموا ستين مسكينا ولا يجبرون عليه، ولا يجوز أن يعتقوا عنه لأن التبرع بالإعتاق عن الغير لا يصح، ولا أن يصوموا عنه لأنه عبادة بدنية محضة فلا تجري فيه النيابة. وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد"، وإن كان أوصى بذلك يؤخذ من ثلث ماله فيطعم الوصي في كفارة اليمين عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة لأنه لما أوصى فقد بقي ملكه في ثلث ماله، وفي كفارة القتل والظهار والإفطار تحرير رقبة إن بلغ ثلث ماله قيمة الرقبة ، وإن لم يبلغ أطعم ستين مسكينا في كفارة الظهار والإفطار ، ولا يجب الصوم فيها وإن أوصى لأن الصوم نفسه لا يحتمل النيابة ،

 

ج / 5 ص -97-         ولا يجوز الفداء عنه بالطعام لأنه في نفسه بدل والبدل لا يكون له بدل، ولو أوصى أن يطعم عنه عشرة مساكين عن كفارة يمينه ثم مات فغدى الوصي عشرة ثم ماتوا يستأنف فيغدي ويعشي غيرهم لأنه لا سبيل إلى تفريق الغداء والعشاء على شخصين لما نذكر، ولا يضمن الوصي شيئا لأنه غير متعد إذ لا صنع له في الموت، ولو قال أطعموا عني عشرة مساكين غداء وعشاء ولم يسم كفارة فغدوا عشرة ثم ماتوا يعشوا عشرة غيرهم لأنه لم يأمر بذلك على وجه الكفارة، ألا ترى أنه لم يسم كفارة فكان سببه النذر فجاز التفريق والله تعالى عز شأنه أعلم.

"فصل" وأما شرائط وجوب كل نوع فكل ما هو شرط انعقاد سبب وجوب هذه الكفارة من اليمين والظهار والإفطار والقتل فهو شرط وجوبها؛ لأن الشروط كلها شروط العلل عندنا، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الأيمان والظهار والصوم والجنايات، ومن شرائط وجوبها القدرة على أداء الواجب، وهذا شرط معقول لاستحالة وجوب فعل بدون القدرة عليه، غير أن الواجب إذا كان معينا تشترط القدرة على أدائه عينا كما في كفارة القتل والظهار والإفطار، فلا يجب التحرير فيها إلا إذا كان واجدا للرقبة، وهو أن يكون له فضل مال على كفايته يؤخذ به رقبة صالحة للتكفير.فإن لم يكن لا يجب عليه التحرير لقوله جل وعلا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} شرط سبحانه وتعالى عدم وجدان الرقبة لوجوب الصوم، فلو لم يكن الوجود شرطا لوجوب التحرير وكان يجب عليه وجد أو لم يجد لم يكن لشرط عدم وجدان الرقبة لوجوب الصوم معنى، فدل أن عدم الوجود شرط الوجوب فإذا كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير يجب عليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واجد حقيقة، فكذا إذا لم يكن في ملكه عين رقبة وله فضل مال على كفايته يجب رقبة صالحة للتكفير لأنه يكون واجدا من حيث المعنى.فأما إذا لم يكن له فضل مال على قدر كفاية ما يتوصل به إلى الرقبة ولا في ملكه عين الرقبة لا يجب عليه التحرير لأن قدر الكفارة مستحق الصرف إلى حاجته الضرورية، والمستحق كالمصروف فكان ملحقا بالعدم، كالماء المحتاج إليه للشرب في السفر حتى يباح له التيمم، ويدخل تحت قوله عز شأنه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}، وإن كان موجودا حقيقة لكنه لما كان مستحق الصرف إلى الحاجة الضرورية ألحق بالعدم شرعا، كذا هذا. وإن كان الواجب واحدا منها كما في كفارة اليمين تشترط القدرة على أداء الواجب على الإبهام، وهو أن يكون في ملكه فضل على كفاية ما يجد به أحد الأشياء الثلاثة لأنه يكون واجدا معنى، أو يكون في ملكه واحد من المنصوص عليه عينا من عبد صالح للتكفير، أو كسوة عشرة مساكين، أو إطعام عشرة مساكين؛ لأنه يكون واجدا حقيقة، وكذا لا يجب الصيام ولا الإطعام فيما للطعام فيه مدخل إلا على القادر عليهما، لأن إيجاب الفعل على العاجز ممتنع ولقوله عز اسمه في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} شرط سبحانه وتعالى عدم استطاعة الصيام لوجوب الإطعام فدل أن استطاعة الصوم شرط لوجوبه، ولا يجب على العبد في الأنواع كلها إلا الصوم لأنه لا يقدر إلا عليه؛ لأنه ليس من أهل ملك المال، لأنه مملوك في نفسه فلا يملك شيئا، ولو أعتق عنه مولاه أو أطعم أو كسا لا يجوز لأنه لا يملك وإن ملك، وكذا المكاتب لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وكذا المستسعى في قول أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه بمنزلة المكاتب. "ومنها" العجز عن التحرير عينا في الأنواع الثلاثة شرط لوجوب الصوم فيها، لقوله عز شأنه في كفارة القتل والظهار {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي من لم يجد رقبة، شرط سبحانه وتعالى عدم وجود الرقبة لوجوب الصوم فلا يجب الصوم مع القدرة على التحرير. "وأما" في كفارة اليمين فالعجز عن الأشياء الثلاثة شرط لوجوب الصوم فيها لقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام} أي فمن لم يجد واحدا منها فعليه صيام ثلاثة أيام فلا يجب الصوم مع القدرة على واحد منها، "وأما" العجز عن الصيام فشرط لوجوب الإطعام فيما للإطعام فيه مدخل لقوله جل وعلا {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي من لم يستطع الصيام فعليه إطعام ستين مسكينا فلا يجب الإطعام مع استطاعة الصيام، ثم اختلف في أن المعتبر هو القدرة والعجز وقت الوجوب أم وقت الأداء، قال: أصحابنا رحمهم الله: وقت الأداء، وقال الشافعي رحمه الله: وقت الوجوب، حتى لو كان

 

ج / 5 ص -98-         موسرا وقت الوجوب ثم أعسر جاز له الصوم عندنا وعنده لا يجوز، ولو كان على القلب لا يجوز عندنا وعنده يجوز "وجه" قوله إن الكفارة وجبت عقوبة فيعتبر فيها وقت الوجوب كالحد فإن العبد إذا زنى ثم أعتق يقام عليه حد العبيد. "والدليل" على أنها وجبت عقوبة أن سبب وجوبها الجناية من الظهار والقتل والإفطار والحنث، وتعليق الوجوب بالجناية تعليق الحكم بوصف مناسب مؤثر فيحال عليه، وربما قالوا هذا ضمان يختلف باليسار والإعسار فيعتبر فيه حال الوجوب كضمان الإعتاق. "ولنا" أن الكفارة عبادة لها بدل ومبدل فيعتبر فيها وقت الأداء لا وقت الوجوب كالصلاة بأن فاتته صلاة في الصحة فقضاها في المرض قاعدا أو بالإيماء أنه يجوز  "والدليل" على أنها عبادة وأن لها بدلا أن الصوم بدل عن التكفير بالمال، والصوم عبادة ، وبدل العبادة عبادة ، وكذا يشترط فيها النية وإنها لا تشترط إلا في العبادات، وإذا ثبت أنها عبادة لها بدل ومبدل فهذا يوجب أن يكون المعتبر فيها وقت الأداء لا وقت الوجوب ، لأنه إذا أيسر قبل الشروع في الصيام أو قبل تمامه فقد قدر على المبدل قبل حصول المقصود بالبدل فيبطل البدل، وينتقل الأمر إلى المبدل كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الشروع في الصلاة أو بعده قبل الفراغ منها عندنا، وكالصغيرة إذا اعتدت بشهر ثم حاضت إنه يبطل الاعتداد بالأشهر وينتقل الحكم إلى الحيض، وإذا أعسر قبل التكفير بالمال فقد عجز عن المبدل قبل حصول المقصود به وقدر على تحصيله بالبدل كواجد الماء إذا لم يتوضأ حتى مضى الوقت ثم عدم الماء ووجد ترابا نظيفا أنه يجوز له أن يتيمم ويصلي، بل يجب عليه ذلك كذا ههنا، بخلاف الحدود لأن الحد ليس بعبادة مقصودة بل هو عقوبة ولهذا لا يفتقر إلى النية، وكذا لا بدل له لأن حد العبيد ليس بدلا عن حد الأحرار بل هو أصل بنفسه، ألا ترى أنه يحد العبيد مع القدرة على حد الأحرار، ولا يجوز المصير إلى البدل مع القدرة على المبدل كالتراب مع الماء وغير ذلك، بخلاف الصلاة إذا وجبت على الإنسان وهو مقيم ثم سافر، أو مسافر ثم أقام إنه يعتبر في قضائها وقت الوجوب، لأن صلاة المسافر ليست بدلا عن صلاة المقيم، ولا صلاة المقيم بدل عن صلاة المسافر، بل صلاة كل واحد منهما أصل بنفسها، ألا ترى أنه يصلي إحداهما مع القدرة على الأخرى؟ وبخلاف ضمان الإعتاق لأنه ليس بعبادة، وكذا السعاية ليست ببدل عن الضمان على أصل أبي حنيفة رحمه الله لأن الشريك مخير عندهم بين التضمين والاستسعاء ولا يخير بين البدل والمبدل في الشريعة "وأما" قوله إن سبب وجوب الكفارة الجناية فممنوع، بل سبب وجوبها ما هو سبب وجوب التوبة، إذ هي أحد نوعي التوبة، وإنما الجناية شرط كما في التوبة، هذا قول المحققين من مشايخنا، وعلى هذا يخرج ما إذا وجب عليه التحرير، أو أحد الأشياء الثلاثة بأن كان موسرا ثم أعسر أنه يجزئه الصوم، ولو كان معسرا ثم أيسر لم يجزه الصوم عندنا، وعند الشافعي لا يجزئه في الأول ويجزئه في الثاني، لأن الاعتبار لوقت الأداء عندنا لا لوقت الوجوب، وهو في الأول يعتبر وقت الأداء فوجد شرط جواز الصوم ووجوبه وهو عدم الرقبة فجاز بل وجب، وفي الثاني لم يوجد الشرط فلم يجز، وعنده لما كان المعتبر وقت الوجوب فيراعى وجود الشرط للجواز وعدمه وقت الوجوب، ولم يوجد في الأول ووجد في الثاني، ولو شرع في الصوم ثم أيسر قبل تمامه لم يجز صومه، ذكر هذا في الأصل، بلغنا ذلك عن عبد الله بن عباس وإبراهيم لما ذكرنا أنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فلا يعتبر البدل، والأفضل أن يتم صوم ذلك اليوم فلو أفطر لا يلزمه القضاء عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله يقضي، وأصل هذه المسألة في كتاب الصوم، وهو من شرع في صوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه فالأفضل له أن يتم الصوم، ولو أفطر فهو على الاختلاف الذي ذكرنا، وعلى قياس قول الشافعي رحمه الله يمضي على صومه لأن العبرة في باب الكفارات لوقت الوجوب عنده، ووقت الوجوب كان معسرا، ولو أيسر بعد الإتمام جاز صومه لأنه قدر على المبدل بعد حصول المقصود بالبدل فلا يبطل البدل، بخلاف الشيخ الفاني إذا فدى ثم قدر على الصوم إنه تبطل الفدية ويلزمه الصوم لأن الشيخ الفاني هو الذي لا ترجى له القدرة على الصوم، فإذا قدر تبين أنه لم يكن شيخا فانيا، ولأن الفدية ليست ببدل مطلق لأنها ليست بمثل للصوم صورة ومعنى فكانت بدلا ضروريا، وقد ارتفعت الضرورة فبطلت القدرة ،

 

ج / 5 ص -99-         فأما الصوم فبدل مطلق فلا يبطل بالقدرة على الأصل بعد حصول المقصود به والله عز شأنه أعلم.

"فصل" وأما شرط جواز كل نوع فلجواز هذه الأنواع شرائط، بعضها يعم الأنواع كلها، وبعضها يخص البعض دون البعض، "أما" الذي يعم الكل فنية الكفارة حتى لا تتأدى بدون النية، والكلام في النية في موضعين: أحدهما في بيان أن نية الكفارة شرط جوازها والثاني في بيان شرط صحة النية، "أما" الأول فلأن مطلق الفعل يحتمل التكفير ويحتمل غيره فلا بد من التعيين، وذلك بالنية، ولهذا لا يتأدى صوم الكفارة بمطلق النية لأن الوقت يحتمل صوم الكفارة وغيره فلا يتعين إلا بالنية كصوم قضاء رمضان وصوم النذر المطلق، ولو أعتق رقبة واحدة عن كفارتين فلا شك أنه لا يجوز عنهما جميعا لأن الواجب عن كل كفارة منهما إعتاق رقبة كاملة ولم يوجد، وهل يجوز عن إحداهما؟ فالكفارتان الواجبتان لا يخلو. "أما" إن وجبتا بسببين من جنسين مختلفين وأما إن وجبتا بسببين من جنس واحد ؛ "فإن" وجبتا بسببين من جنسين مختلفين كالقتل والظهار فأعتق رقبة واحدة ينوي عنهما جميعا لا يجوز عن إحداهما بلا خلاف بين أصحابنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز، "وإن" وجبتا بسببين من جنس واحد كظهارين أو قتلين يجوز عن إحداهما عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله استحسانا، وهو قول الشافعي رحمه الله، والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر رحمه الله، وهذا الاختلاف مبني على أن نية التعيين والتوزيع هل تقع معتبرة أم تقع لغوا، فعند أصحابنا معتبرة في الجنسين المختلفين، وعند الشافعي رحمه الله لغو فيهما جميعا، "وأما" في الجنس الواحد فهي لغو عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وعند زفر معتبرة قياسا. "أما" الكلام مع الشافعي فوجه قوله إن الكفارات على اختلاف أسبابها جنس واحد، ونية التعيين في الجنس الواحد لغو لما ذكر. "ولنا" أن التعيين في الأجناس المختلفة محتاج إليه، وذلك بالنية فكان نية التعيين محتاجا إليها عند اختلاف الجنس، فصادفت النية محلها فصحت، ومتى صحت أوجبت انقسام عين رقبة واحدة على كفارتين فيقع عن كل واحد منهما عتق نصف رقبة فلا يجوز لا عن هذه ولا عن تلك "وأما" قوله الكفارتان جنس واحد فنعم من حيث هما كفارة لكنهما اختلفا سببا وقدرا وصفة، "أما" السبب فلا شك فيه، "وأما" القدر فإن الطعام يدخل في إحداهما وهي كفارة الظهار ولا يدخل في الأخرى وهي كفارة القتل، "وأما" الصفة فإن الرقبة في كفارة الظهار مطلقة عن صفة الإيمان وفي كفارة القتل مقيدة بها، وإذا اختلفا من هذه الوجوه كان التعيين بالنية محتاجا إليه فصادفت النية محلها فصحت فانقسم عتق رقبة بينهما فلم يجز عن إحداهما؛ حتى لو كانت الرقبة كافرة وتعذر صرفها إلى الكفارة للقتل انصرفت بالكلية إلى الظهار وجازت عنه، كذا قال بعض مشايخنا بما وراء النهر "ونظيره" ما إذا جمع بين امرأة وابنتها أو أمها أو أختها وتزوجهما في عقدة واحدة فإن كانتا فارغتين لا يجوز، وإن كانت إحداهما منكوحة والأخرى فارغة يجوز نكاح الفارغة. "وأما" الكلام بين أصحابنا فوجه القياس في ذلك أنه أوقع عتق رقبة واحدة عن كفارتين على التوزيع والانقسام فيقع عن كل واحدة منهما عتق نصف رقبة فلا يجوز عن واحدة منهما، لأن المستحق عليه عن كل واحدة منهما إعتاق رقبة كاملة ولم يوجد، وبهذا لم يجز عن إحداهما عند اختلاف الجنس. "ولنا" أن نية التعيين لم تصادف محلها لأن محلها الأجناس المختلفة إذ لا تقع الحاجة إلى التعيين إلا عند اختلاف الجنس، فإذا اتحد الجنس لم تقع الحاجة إليها فلغت نية التعيين وبقي أصل النية وهي نية الكفارة فتقع عن واحدة منهما، كما في قضاء صوم رمضان إذا كان عليه صوم يومين فصام يوما ينوي قضاء صوم يومين تلغو نية التعيين وبقيت نية ما عليه، كذا هذا، بخلاف ما إذا اختلف الجنس لأن باختلاف الجنس تقع الحاجة إلى التعيين فلا تلغو نية التعيين بل تعتبر ومتى اعتبرت يقع عن كل جنس نصف رقبة فلا يجوز عنه.كما إذا كان عليه صوم يوم من قضاء رمضان وصوم يوم من كفارة اليمين فنوى من الليل أن يصوم غدا عنهما كانت نية التوزيع معتبرة حتى لا يصير صائما عن أحدهما لأن الانقسام يمنع من ذلك والله تعالى أعلم ولو أطعم ستين مسكينا كل مسكين صاعا من حنطة عن ظهارين لم يجز إلا عن أحدهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله يجزئه عنهما، وقال زفر رحمه الله لا يجزئه

 

ج / 5 ص -100-       عنهما، وكذلك لو أطعم عشرة مساكين كل مسكين صاعا عن يمينين فهو على هذا الاختلاف، ولو كانت الكفارتان من جنسين مختلفين جاز فيهما بالإجماع. "وأما" وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فلما ذكرنا أن من أصل أصحابنا الثلاثة أن الكفارتين إذا كانتا من جنس واحد لا يحتاج فيهما إلى نية التعيين بل تلغو نية التعيين ههنا ويبقى أصل النية وهو نية الكفارة يدفع ستين صاعا إلى ستين مسكينا من غير تعيين أن نصفه عن هذا ونصفه عن ذاك، ولو لم يعين لم يجز إلا عن أحدهما كذا هذا، إلا أن محمدا يقول: إن نية التعيين إنما تبطل لأنه لا فائدة فيها، وههنا في التعيين فائدة وهي جواز ذلك عن الكفارتين فوجب اعتبارها، ويقول: إطعام ستين مسكينا يكون عن كفارة واحدة والكفارة الواحدة منهما مجهول، ولهذا قال إذا أعتق رقبة واحدة عنهما لا يجوز عن واحدة منهما، بخلاف ما إذا كانت الكفارتان من جنسين لأنه قد صح من أصل أصحابنا جميعا أن نية التعيين عند اختلاف الجنس معتبرة، وإذا صح التعيين والمؤدى يصلح عنهما جميعا وقع المؤدى عنهما فجاز عنهما جميعا والله تعالى أعلم. "وأما" شرط جواز النية فهو أن تكون النية مقارنة لفعل التكفير، فإن لم تقارن الفعل رأسا، أو لم تقارن فعل التكفير بأن تأخرت عنه لم يجز؛ لأن اشتراط النية لتعيين المحتمل وإيقاعه على بعض الوجوه، ولن يتحقق ذلك إلا إذا كانت مقارنة للفعل، ولأن النية هي الإرادة، والإرادة مقارنة للفعل كالقدرة الحقيقية لأن بها يصير الفعل اختياريا، وعلى هذا يخرج ما إذا اشترى أباه أو ابنه ينوي به العتق عن كفارة يمينه أو ظهاره أو إفطاره أو قتله أجزأه عندنا استحسانا. والقياس أن لا يجزيه، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله بناء على أن شراء القريب إعتاق عندنا، فإذا اشتراه ناويا عن الكفارة فقد قارنت النية الإعتاق فجاز، وعندهما العتق يثبت بالقرابة والشراء شرط فلم تكن النية مقارنة لفعل الإعتاق فلا يجوز "وجه" القياس أن الشراء ليس بإعتاق حقيقة ولا مجازا، أما الحقيقة فلا شك في انتفائها لأن واضع اللغة ما وضع الشراء للإعتاق، "وأما" المجاز فلأن المجاز يستدعي المشابهة في المعنى اللازم المشهور في محل الحقيقة ولا مشابهة ههنا أصلا، لأن الشراء تملك والإعتاق إزالة الملك، وبينهما مضادة. "ولنا" ما روى أبو داود في سننه بإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" سماه معتقا عقيب الشراء ولا فعل منه بعد الشراء، فعلم أن الشراء وقع إعتاقا منه عقلنا وجه ذلك أو لم نعقل، فإذا نوى عند الشراء الكفارة فقد اقترنت النية بفعل الإعتاق فجاز، وقولهما "الشراء ليس بإعتاق حقيقة" ممنوع بل هو إعتاق حقيقة لكن حقيقة شرعية لا وضعية، والحقائق أنواع: وضعية وشرعية وعرفية على ما عرف في أصول الفقه، وكذلك إذا وهب له أو أوصى له به فقبله لأنه يعتق بالقبول فقارنت النية فعل الإعتاق، وإن ورثه ناويا عن الكفارة لم يجز لأن العتق ثبت من غير صنعه رأسا فلم يوجد قران النية الفعل فلا يجوز. وعلى هذا يخرج ما إذا قال لعبد الغير: إن اشتريتك فأنت حر فاشتراه ناويا عن الكفارة لم يجز لأن العتق عند الشراء يثبت بالكلام السابق ولم تقارنه النية، حتى لو قال: إن اشتريت فلانا فهو حر عن كفارة يميني أو ظهاري أو غير ذلك يجزيه لقران النية كلام الإعتاق ولو قال: إن اشتريت فلانا فهو حر عن ظهاري، ثم قال بعد ذلك: ما اشتريته فهو حر عن كفارة قتلي، ثم اشتراه فهو حر عن الظهار؛ لأنه لما قال إن اشتريته فهو حر عن كفارة قتلي فقد أراد فسخ الأول، واليمين لا تحتمل الفسخ، وكذلك لو قال: إن اشتريته فهو حر تطوعا، ثم قال: إن اشتريته فهو حر عن ظهاري، ثم اشتراه كان تطوعا لأنه بالأول علق عتقه تطوعا بالشراء، ثم أراد بالثاني فسخ الأول، واليمين لا يلحقها الفسخ والله عز شأنه أعلم. "وأما" الذي يخص البعض دون البعض فأما كفارة اليمين فيبدأ بالإطعام ثم بالكسوة ثم بالتحرير لأن الله تعالى عز شأنه بدأ بالإطعام في كتابه الكريم وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام "ابدءوا بما بدأ الله به" فنقول: لجواز الإطعام شرائط بعضها يرجع إلى صفة الإطعام، وبعضها يرجع إلى مقدار ما يطعم، وبعضها يرجع إلى محل المصروف إليه الطعام، أما الذي يرجع إلى صفة الإطعام فقد قال أصحابنا: إنه يجوز فيه التمليك وهو طعام الإباحة وهو مروي عن سيدنا علي كرم الله وجهه وجماعة من التابعين مثل محمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة ومالك والثوري والأوزاعي رضي الله عنهم، وقال الحكم وسعيد بن

 

 

ج / 5 ص -101-       جبير لا يجوز إلا التمليك وبه أخذ الشافعي رحمه الله.فالحاصل أن التمليك ليس بشرط لجواز الإطعام عندنا بل الشرط هو التمكين، وإنما يجوز التمليك من حيث هو تمكين لا من حيث هو تمليك، وعند الشافعي رحمه الله التمليك شرط الجواز، لا يجوز بدونه. "وجه" قوله إن التكفير مفروض فلا بد وأن يكون معلوم القدر ليتمكن المكلف من الإتيان به لئلا يكون تكليف ما لا يحتمله الوسع، وطعام الإباحة ليس له قدر معلوم وكذا يختلف باختلاف حال المسكين من الصغر والكبر والجوع والشبع يحققه أن المفروض هو المقدر، إذ الفرض هو التقدير، يقال: فرض القاضي النفقة أي قدر، قال الله سبحانه وتعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي قدرتم فطعام الإباحة ليس بمقدر، ولأن المباح له يأكل على ملك المبيح فيهلك المأكول على ملكه، ولا كفارة بما يهلك في ملك المكفر، وبهذا شرط التمليك في الزكاة والعشر وصدقة الفطر. "ولنا" أن النص ورد بلفظ الإطعام، قال الله عز شأنه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، والإطعام في متعارف اللغة اسم للتمكين من المطعم لا التمليك، قال الله عز شأنه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}، والمراد بالإطعام الإباحة لا التمليك، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أفشوا السلام وأطعموا الطعام" والمراد منه الإطعام على وجه الإباحة وهو الأمر المتعارف بين الناس، يقال: فلان يطعم الطعام أي يدعو الناس إلى طعامه والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، وإنما يطعمون على سبيل الإباحة دون التمليك، بل لا يخطر ببال أحد في ذلك التمليك ؛ فدل أن الإطعام هو التمكين من التطعم إلا أنه إذا ملك جاز لأن تحت التمليك تمكينا لأنه إذا ملكه فقد مكنه من التطعم والأكل فيجوز من حيث هو تمكين، وكذا إشارة النص دليل على ما قلنا لأنه قال: "إطعام عشرة مساكين" والمسكنة هي الحاجة، واختصاص المسكين للحاجة إلى أكل الطعام دون تملكه تعم المسكين وغيره، فكان في إضافة الإطعام إلى المساكين إشارة إلى أن الإطعام هو الفعل الذي يصير المسكين به متمكنا من التطعم لا التمليك، بخلاف الزكاة وصدقة الفطر والعشر أنه لا يجوز فيه طعام الإباحة لأن الشرع هناك لم يرد بلفظ الإطعام وإنما ورد بلفظ الإيتاء والأداء.قال الله تعالى في الزكاة: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقال تعالى في العشر: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في صدقة الفطر: "أدوا عن كل حر وعبد" الحديث، والإيتاء والأداء يشعران بالتمليك، على أن المراد من الإطعام المذكور في النص إن كان هو التمليك كان النص معلولا بدفع حاجة المسكين، وهذا يقتضي جواز التمكين على طريق الإباحة، بل أولى من وجهين: أحدهما أنه أقرب إلى دفع الجوع وسد المسكنة من التمليك لأنه لا يحصل معنى الدفع والسد بتمليك الحنطة إلا بعد طول المدة، وإلا بعد تحمل مؤن، فكان الإطعام على طريق الإباحة أقرب إلى حصول المقصود من التمليك فكان أحق بالجواز. والثاني أن الكفارة جعلت مكفرة للسيئة بما أعطى نفسه من الشهوة التي لم يؤذن له فيها، حيث لم يف بالعهد الذي عهد مع الله تعالى عز شأنه فخرج فعله مخرج ناقض العهد ومخلف الوعد ؛ فجعلت كفارته بما تنفر عنه الطباع وتتألم ويثقل عليها ليذوق ألم إخراج ماله المحبوب عن ملكه فيكفر ما أعطى نفسه من الشهوة، لأنه من وجه أذن له فيها، ومعنى تألم الطبع فيما قلنا أكثر لأن دعاء المساكين وجمعهم على الطعام وخدمتهم والقيام بين أيديهم أشد على الطبع من التصدق عليهم لما جبل طبع الأغنياء على النفرة من الفقراء ومن الاختلاط معهم والتواضع لهم فكان هذا أقرب إلى تحقيق معنى التكفير فكان تجويز التمليك تكفيرا تجويز لطعام الإباحة تكفيرا من طريق الأولى "وأما" قوله: "إن الكفارة مفروضة فلا بد وأن تكون معلومة القدر" فنقول: هي مقدرة بالكفارة، لأن الله عز شأنه فرض هذا الإطعام وعرف المفروض بإطعام الأهل بقوله عز شأنه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فلا بد وأن يكون الأهل معلوما، والمعلوم من طعام الأهل هو طعام الإباحة دون التمليك، فدل على أن طعام الإباحة معلوم القدر وقدره الكفارة بطعام الأهل، فجاز أن يكون مفروضا كطعام الأهل فيمكنه الخروج عن عهدة الفرض وأما قوله: "إن الطعام يهلك على ملك المكفر فلا يقع عن التكفير" فممنوع بل كما صار مأكولا فقد زال ملكه عنه، إلا أنه يزول لا إلى أحد وهذا يكفي لصيرورته كفارة كالإعتاق. "وأما" الذي يرجع إلى مقدار ما يطعم فالمقدار في التمليك هو نصف صاع

 

ج / 5 ص -102-       من حنطة أو صاع من شعير أو صاع من تمر كذا روي عن سيدنا عمر وسيدنا علي وسيدتنا عائشة، وذكر في الأصل بلغنا عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ليرفأ مولاه: إني أحلف على قوم لا أعطيهم ثم يبدو لي فأعطيهم، فإذا أنا فعلت ذلك فأط عم عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر، وبلغنا عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال في كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين نصف صاع من حنطة، وبه قال جماعة من التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن وهو قول أصحابنا رضي الله عنهم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن سيدنا عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، ومن التابعين عطاء وغيره: لكل مسكين مد من حنطة، وبه أخذ مالك والشافعي رحمهما الله. والترجيح لقول سيدنا عمر وسيدنا علي وسيدتنا عائشة رضوان الله عليهم لقوله تعالى عز اسمه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، والمد ليس من الأوسط بل أوسط طعام الأهل يزيد على المد في الغالب، ولأن هذه صدقة مقدرة بقوت مسكين ليوم فلا تنقص عن نصف صاع كصدقة الفطر والأذى، فإن أعطى عشرة مساكين كل مسكين مدا من حنطة فعليه أن يعيد عليهم مدا مدا، فإن لم يقدر عليهم استقبل الطعام لأن المقدار أن لكل مسكين في التمليك مدا فلا يجوز أقل من ذلك، ويجوز في التمليك الدقيق والسويق، ويعتبر فيه تمام الكيل ولا يعتبر فيه القيمة كالحنطة لأنه حنطة إلا أنه فرقت أجزاؤها بالطحن. وهذا التفريق تقريب إلى المقصود منها فلا تعتبر فيه القيمة، ويعتبر في تمليك المنصوص عليه تمام الكيل ولا يقوم البعض مقام بعض باعتبار القيمة إذا كان أقل من كيله حتى لو أعطى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من حنطة لا يجوز لأنه منصوص عليه فيقع عن نفسه لا عن غيره فأما الأرز والذرة والجاروس فلا يقوم مقام الحنطة والشعير في الكيل لأنه غير منصوص عليه، وإنما جوازه باعتبار القيمة فتعتبر قيمته كالدراهم والدنانير وهذا عند أصحابنا رحمهم الله وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا إذا عين المنصوص عليه. ولا يجوز دفع القيم والأبدال كما في الزكاة، وعندنا يجوز "وجه" قوله إن الله تعالى أمر بالإطعام بقوله جل شأنه {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، فالقول بجواز أداء القيمة يكون تغييرا لحكم النص وهذا لا يجوز. "ولنا" ما ذكرنا أن إطعام المسكين اسم لفعل يتمكن المسكين به من التطعم في متعارف اللغة لما ذكرنا فيما تقدم. وهذا يحصل بتمليك القيمة فكان تمليك القيمة من الفقير إطعاما له ؛ فيتناول النص جواز التمليك من حيث هو تمكين لا من حيث هو تمليك على ما مر أن الإطعام إن كان اسما للتمليك فجوازه معلول بدفع الحاجة وهو المسألة، عرفنا ذلك بإشارة النص وضرب من الاستنباط على ما بينا، والقيمة في دفع الحاجة مثل الطعام فورود الشرع بجواز الطعام يكون ورودا بجواز القيمة بل أولى، لأن تمليك الثمن أقرب إلى قضاء حاجة المسكين من تمليك عين الطعام؛ لأنه به يتوصل إلى ما يختاره من الغذاء الذي اعتاد الاغتذاء به فكان أقرب إلى قضاء حاجته فكان أولى بالجواز، ولما ذكرنا أن التكفير بالإطعام يحمل مكروه الطبع بإزاء ما نال من الشهوة، وذلك المعنى يحصل بدفع القيمة، ولأن الكفارة جعلت حقا للمسكين، فمتى أخرج من عليه الطعام إلى المستحق بدله وقبله المستحق عن طوع فقد استبدل حقه به فيجب القول بجواز هذا الاستبدال بمنزلة التناول في سائر الحقوق. "وأما" المقدار في طعام الإباحة فأكلتان مشبعتان غداء وعشاء، وهذا قول عامة العلماء. وعن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس والشعبي أنه يطعمهم أكلة واحدة، وقال الحسن وجبة واحدة، والصحيح قول العامة لأن الله عز وجل عرف هذا الإطعام بإطعام الأهل بقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، وذلك أكلتان مشبعتان غداء وعشاء كذا هذا، ولأن الله جل شأنه ذكر الأوسط. والأوسط ما له حاشيتان متساويتان، وأقل عدد له حاشيتان متساويتان ثلاثة، وذلك يحتمل أنواعا ثلاثة: أحدها الوسط في صفات المأكول من الجودة والرداءة. والثاني الوسط من حيث المقدار من السرف والقتر. والثالث الوسط من حيث أحوال الأكل من مرة ومرتين وثلاث مرات في يوم واحد، ولم يثبت بدليل عقلي ولا بسمعي تعيين بعض هذه الأنواع فيحمل على الوسط من الكل احتياطا ليخرج عن عهدة الفرض بيقين وهو أكلتان في يوم بين الجيد والرديء، والسرف والقتر، ولأن

 

ج / 5 ص -103-       أقل الأكل في يوم مرة واحدة وهو المسمى بالوجبة، وهو في وقت الزوال إلى زوال يوم الثاني منه. والأكثر ثلاث مرات غداء وعشاء وفي نصف اليوم، والوسط مرتان غداء وعشاء وهو الأكل المعتاد في الدنيا وفي الآخرة أيضا، قال الله سبحانه وتعالى في أهل الجنة {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}، فيحمل مطلق الإطعام على المتعارف، وكذلك إذا غداهم وسحرهم، أو عشاهم وسحرهم، أو غداهم غداءين، أو عشاهم عشاءين، أو سحرهم سحورين لأنهما أكلتان مقصودتان، فإذا غداهم في يومين أو عشاهم في يومين كان كأكلتين في يوم واحد معنى إلا أن الشرط أن يكون ذلك في عدد واحد، حتى لو غدى عددا وعشى عددا آخر لم يجزه لأنه لم يوجد في حق كل مسكين أكلتان. ولهذا لم يجز مثله في التمليك بأن فرق حصة مسكين على مسكينين فكذا في التمكين، وسواء كان الطعام مأدوما أو غير مأدوم، حتى لو غداهم وعشاهم خبزا بلا إدام أجزأه لقول الله تبارك وتعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} مطلقا من غير فصل بين المأدوم وغيره وقد أطعم، ولأن الله عز شأنه عرف الإطعام على وجه الإباحة بإطعام الأهل. وذلك قد يكون مأدوما وقد يكون غير مأدوم فكذا هذا، وكذلك لو أطعم خبز الشعير أو سويقا أو تمرا أجزأه لأن ذلك قد يؤكل وحده في طعام الأهل، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه: قال إذا أطعم مسكينا واحدا غداء وعشاء أجزأه من إطعام مساكين وإن لم يأكل إلا رغيفا واحدا، لأن المعتبر هو الكفاية والكفاية قد تحصل برغيف واحد فلا يعتبر القلة والكثرة، فإن ملكه الخبز بأن أعطاه أربعة أرغفة فإن كان يعدل ذلك قيمة نصف صاع من حنطة أجزأه، وإن لم يعدل لم يجزه لأن الخبز غير منصوص عليه فكان جوازه باعتبار القيمة وقال أبو يوسف رحمه الله: لو غدى عشرة مساكين في يوم ثم أعطاهم مدا مدا أجزأه لأنه جمع بين التمليك والتمكين وكل واحد منهما جائز حال الانفراد كذا حال الاجتماع، ولأن الغداء مقدر بنصف كفاية المسكين والمد مقدر بنصف كفايته فقد حصلت له كفاية يوم فيجوز، فإن أعطى غيرهم مدا مدا لم يجز لأنه فرق طعام العشرة على عشرين فلم يحصل لكل واحد منهم مقدار كفايته، ولو غداهم وأعطى قيمة العشاء فلوسا ودراهم أجزأه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لأن القيمة في الكفارة تقوم مقام المنصوص عليه عندنا وعنده لا تقوم. "وأما" الذي يرجع إلى المحل المصروف إليه الطعام فمنها أن يكون فقيرا، فلا يجوز إطعام الغني عن الكفارة تمليكا وإباحة لأن الله تبارك وتعالى أمر بإطعام عشرة مساكين بقوله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، ولو كان له مال وعليه دين له مطالب من جهة العباد يجوز إطعامه لأنه فقير بدليل أنه يجوز إعطاء الزكاة إياه فالكفارة أولى. ومنها أن يكون ممن يستوفي الطعام، وهذا في إطعام الإباحة حتى لو غدى عشرة مساكين وعشاهم وفيهم صبي أو فوق ذلك لم يجز وعليه إطعام مسكين واحد لقوله جل جلاله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وذلك ليس من أوسط ما يطعم، حتى لو كان مراهقا جاز لأن المراهق يستوفي الطعام فيحصل الإطعام من أوسط ما يطعم ومنها أن لا يكون مملوكه لأن الصرف إليه صرف إلى نفسه فلم يجز ومنها أن لا يكون من الوالدين والمولودين فلا يجوز إطعامهم تمليكا وإباحة لأن المنافع بينهم متصلة فكان الصرف إليهم صرفا إلى نفسه من وجه، ولهذا لم يجز صرف الزكاة إليهم، ولا تقبل شهادة البعض للبعض، ولما ذكرنا أن الواجب بحق التكفير لما اقترف من الذنب بما أعطى نفسه مناها وأوصلها إلى هواها بغير إذن من الآذن وهو الله سبحانه جلت عظمته ففرض عليهم الخروج عن المعصية بما تتألم به النفس وينفر عنه الطبع ليذيق نفسه المرارة بمقابلة إعطائها من الشهوة. وهذا المعنى لا يحصل بإطعام هؤلاء لأن النفس لا تتألم به بل تميل إليه لما جعل الله سبحانه الطبائع بحيث لا تحتمل نزول البلاء والشدة بهم، وبحيث يجتهد كل في دفع الحاجة عنهم مثل الدفع عن نفسه، ولو أطعم أخاه أو أخته وهو فقير جاز لأن هذا المعنى لا يوجد في الأخ والأخت فدخل تحت عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، ولو أطعم ولده أو غنيا على ظن أنه أجنبي أو فقير ثم تبين أجزأه في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الزكاة وقد مر الكلام فيه. ومنها أن لا يكون هاشميا لأن الله تبارك وتعالى كره لهم غسالة أيدي الناس وعوضهم بخمس الخمس من الغنيمة، ولو دفع إليه على ظن أنه ليس

 

ج / 5 ص -104-       بهاشمي ثم ظهر أنه هاشمي فهو على الاختلاف. ومنها أن لا يكون زوجا أو زوجة له لأن ما شرع له الكفارة وهو تألم الطبع ونفاره بالبذل والإخراج لا يوجد بين الزوجين لما يوجد البذل بينهما شهوة وطبيعة ويكون التناكح لمثله في العرف والشرع على ما روي "تنكح المرأة لمالها وجمالها"، وعلى ما وضع النكاح للمودة والمحبة ولا يتحقق ذلك إلا بالبذل ودفع الشح، ولهذا لا تقبل شهادة أحدهما للآخر لأن أحدهما ينتفع بمال صاحبه فتتمكن التهمه في الشهادة. ومنها أن لا يكون حربيا وإن كان مستأمنا لأن الله تعالى عز شأنه نهانا عن البر بهم والإحسان إليهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} ولأن في الدفع إلى الحربي إعانة له على الحراب مع المسلمين وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ويجوز إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات والنذور وغير ذلك إلا الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا النذور والتطوع ودم المتعة "وجه" قوله أن هذه صدقة وجبت بإيجاب الله عز شأنه فلا يجوز صرفها إلى الكافر كالزكاة بخلاف النذر لأنه وجب بإيجاب العبد، والتطوع ليس بواجب أصلا، والتصدق بلحم المتعة غير واجب لأن معنى القربة في الإراقة. "ولهما" عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} من غير فصل بين المؤمن والكافر إلا أنه خص منه الحربي بما تلونا فبقي الذمي على عموم النص فكان ينبغي أن يجوز صرف الزكاة إليه إلا أن الزكاة خصت "بقول النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم"، أمر عليه الصلاة والسلام برد الزكاة إلى من أمر بالأخذ من أغنيائهم، والمأخوذ منه المسلمون فكذا المردود عليهم. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم وأردها في فقرائهم". "ووجه" الاستدلال ما ذكرنا، ولأن الكفارة وجبت لدفع المسكنة والمسكنة موجودة في الكفرة فيجوز صرف الصدقة إليهم كما يجوز صرفها إلى المسلم بل أولى لأن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم إلى الإسلام ويحملهم عليه، ولما ذكرنا أن الكفارات وجبت بما اختار من إعطاء النفس شهوتها فيما لا يحل له فتكون كفارتها بكف النفس عن شهوتها فيما يحل له وبذل ما كان في طبعه منعه، وهذا المعنى يحصل بالصرف إلى الكافر بخلاف الزكاة لأنها ما وجبت بحق التكفير بل بحق الشكر، ألا ترى أنها تجب بلا كسب من جهة العبد؟ وحق الشكر الإنفاق في طاعة المنعم، والصرف إلى المؤمن إنفاق على من يصرفه إلى طاعة الله جل شأنه فيخرج مخرج المعونة على الطاعة فيحصل معنى الشكر على الكمال والكافر لا يصرفه إلى طاعة الله عز شأنه فلا يتحقق معنى الشكر على التمام، فأما الكفارات فما عرف وجوبها شكرا بل تكفيرا لإعطاء النفس شهوتها بإخراج ما في شهوتها المنع وهذا المعنى في الصرف إلى الكافر موجود على الكمال والتمام لذلك افترقا. وهل يشترط عدد المساكين صورة في الإطعام تمليكا وإباحة؟ قال أصحابنا: ليس بشرط وقال الشافعي رحمه الله: شرط، حتى لو دفع طعام عشرة مساكين وذلك خمسة أصوع إلى مسكين واحد في عشرة أيام كل يوم نصف صاع، أو غدى مسكينا واحدا أو عشاه عشرة أيام أجزأ عندنا. وعنده لا يجزيه إلا عن واحد، واحتج بظاهر قوله جل شأنه:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} نص على عدد العشرة فلا يجوز الاقتصار على ما دونه كسائر الأعداد المذكورة في القرآن العظيم كقوله عز شأنه:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقوله جل شأنه:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، ونحو ذلك والدليل عليه أنه لو دفع طعام عشرة مساكين إلى مسكين واحد دفعة واحدة في يوم واحد لا يجوز. "ولنا" أن في النص إطعام عشرة مساكين، وإطعام عشرة مساكين قد يكون بأن يطعم عشرة مساكين، وقد يكون بأن يكفي عشرة مساكين سواء أطعم عشرة مساكين أو لا، فإذا أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام قدر ما يكفي عشرة مساكين فقد وجد إطعام عشرة مساكين فخرج عن العهدة على أن معنى إطعام مساكين إن كان هو بأن يطعم عشرة مساكين، لكن إطعام عشرة مساكين على هذا التفسير قد يكون صورة ومعنى بأن يطعم عشرة من المساكين عددا في يوم واحد أو في عشرة أيام، وقد يكون معنى لا صورة وهو أن يطعم مسكينا واحدا في عشرة أيام لأن الإطعام لدفع الجوعة وسد المسكنة، وله كل يوم جوعة ومسكنة على حدة لأن الجوع يتجدد، والمسكنة تحدث في كل يوم، ودفع عشر جوعات عن مسكين

 

ج / 5 ص -105-       واحد في عشرة أيام في معنى دفع عشر جوعات عن عشرة مساكين في يوم واحد أو في عشرة أيام، فكان هذا إطعام عشرة مساكين معنى فيجوز. ونظير هذا ما روي في الاستنجاء بثلاثة أحجار ثم لو استنجى بالمدر أو بحجر له ثلاثة أحرف جاز لحصول المقصود منه وهو التطهير كذا هذا، ولأن ما وجبت له هذه الكفارة يقتضي سقوط اعتبار عدد المساكين وهو ما ذكرنا من إذاقة النفس مرارة الدفع وإزالة الملك لابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى لتكفير ما أتبعها هواها وأوصلها إلى مناها، كما خالف الله عز وجل في فعله بترك الوفاء بعهد الله سبحانه وتعالى وهذا المعنى في بذل هذا القدر من المال تمليكا وإباحة لا في مراعاة عدد المساكين صورة بخلاف ذكر العدد في باب الحد والعدة، لأن اشتراط العدد هناك ثبت نصا غير معقول المعنى فلا يحتمل التعدية وههنا معقول على ما بينا، وبخلاف الشهادات حيث لا تجوز إقامة الواحد فيها في يومين أو في دفعتين مقام شهادة شاهدين لأن هناك المعنى الذي يحصل بالعدد لا يحصل بالواحد وهو انتفاء التهمة ومنفعة التصديق ونفاذ القول على ما نذكره في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى، وههنا معنى التكفير ودفع الحاجة وسد المسكنة لا يختلف لما بينا. "وأما" إذا دفع طعام عشرة مساكين إلى مسكين واحد في يوم واحد دفعة واحدة أو دفعات فلا رواية فيه، واختلف مشايخنا: قال بعضهم: يجوز. وقال عامة مشايخنا: لا يجوز إلا عن واحد؛ لأن ظاهر النص يقتضي الجواز على الوجه الذي بينا إلا أنه مخصوص في حق يوم واحد لدليل كما صار مخصوصا في حق بعض المساكين من الوالدين والمولودين ونحوهم، فيجب العمل به فيما وراء المخصوص، ولما ذكرنا أن الأصل في الطعام هو طعام الإباحة إذ هو المتعارف في اللغة وهو التغدية والتعشية لدفع الجوع وإزالة المسكنة وفي الحاصل دفع عشر جوعات وهذا في واحد في حق مسكين واحد لا يكون فلا بد من تفريق الدفع على الأيام، ويجوز أن يختلف حكم التفريق المجتمع كما في رمي الجمار أنه إذا رمى بالحصى متفرقا جاز، ولو رمى مجتمعا دفعة واحدة لا يجوز إلا عن واحدة ووجد في مسألتنا فجاز وكذلك لو غدى رجلا واحدا عشرين يوما أو عشى رجلا واحدا في رمضان عشرين يوما أجزأه عندنا لما ذكرنا وعند الشافعي لا يجوز لأن عدد المساكين عنده شرط ولم يوجد والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الكسوة فالكلام فيها في ثلاثة مواضع: في بيان قدرها، وفي بيان صفتها، وفي بيان مصرفها "أما" الأول فأدنى الكسوة ثوب واحد جامع لكل مسكين قميص أو رداء أو كساء أو ملحفة أو جبة أو قباء أو إزار كبير وهو الذي يستر البدن لأن الله تعالى ذكر الكسوة ولم يذكر فيه التقدير فكل ما يسمى لابسه مكتسيا يجزي وما لا فلا ولابس ما ذكرنا يسمى مكتسيا فيجزي عن الكفارة ولا تجزي القلنسوة والخفان والنعلان لأن لابسهما لا يسمى مكتسيا إذا لم يكن عليه ثوب ولا هي تسمى كسوة في العرف. وأما السراويل والعمامة فقد اختلفت الروايات فيها، روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه إذا أعطى مسكينا قباء أو كساء أو سراويل أو عمامة سابغة يجوز وروي عن أبي يوسف أنه لا تجزي السراويل والعمامة، وهو رواية عن محمد في الإملاء. وروى هشام رحمه الله عنه: أن السراويل تجزيه وهذا لا يوجب اختلاف الرواية في العمامة، لأن في رواية الحسن شرط في العمامة أن تكون سابغة، فتحمل رواية عدم الجواز فيها على ما إذا لم تكن سابغة وهي أن لا تكفي تقميص واحد "وأما" السراويل "فوجه" رواية الجواز تجوز فيه الصلاة فيجزي عن الكفارة كالقميص "ووجه" رواية عدم الجواز وهي التي صححها القدوري رحمه الله أن لابس السراويل لا يسمى مكتسيا عرفا وعادة بل يسمى عريانا فلا يدخل تحت مطلق الكسوة وذكر الطحاوي أنه إذا كسا امرأة فإنه يزيد فيه الخمار وهذا اعتبار جواز الصلاة في الكسوة على ما روي عن محمد لأن رأسها عورة لا تجوز صلاتها مع انكشافها ولو أعطى كل مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة ولكنه يجزي من الطعام عندنا إذا كان يساوي نصف صاع من حنطة "أما" عدم جوازه من الكسوة فلأن الواجب هو الكسوة ونصف ثوب لا يسمى كسوة، لا يجوز أن تعتبر قيمته عن كسوة رديئة؛ لأن الشيء لا يكون بدلا عن نفسه. "وأما" جوازه عن الطعام إذا بلغ قيمته نصف صاع فلأن القيمة تجوز بدلا عن الكسوة عندنا كما تجوز بدلا

 

ج / 5 ص -106-       عن الطعام والوجه فيه على نحو ما ذكرنا في الطعام وهل تشترط نية البدلية؟ قال أبو يوسف: تشترط ولا تجزي الكسوة عن الطعام إلا بالنية وقال محمد: لا تشترط، ونية التكفير كافية. "وجه" قول محمد إن الواجب عليه ليس إلا التكفير فيستدعي نية التكفير وقد وجدت فيجزيه، كما لو أعطى المساكين دراهم بنية الكفارة وهي لا تبلغ قيمة الكسوة وتبلغ قيمة الطعام جازت عن الطعام، ولو كانت لا تبلغ قيمة الطعام وتبلغ قيمة الكسوة جازت عن الكسوة من غير نية البدلية كذا هذا "وجه" قول أبي يوسف إن المؤدى يحتمل الجواز عن نفسه لأنه يمكن تكميله بضم الباقي إليه فلا يصير بدلا إلا بجعله بدلا وذلك بالنية، بخلاف الدراهم لأنه لا جواز لها عن نفسها لأنها غير منصوص عليها فكانت متعينة للبدلية فلا حاجة إلى التعيين وكذلك لو كسا كل مسكين قلنسوة أو خفين أو نعلين لم يجزه في الكسوة وأجزأه في الطعام إذا كان يساويه في القيمة عند أصحابنا لما قلنا، وكذا لو أعطى عشرة مساكين ثوبا واحدا بينهم كثير القيمة، نصيب كل مسكين منهم أكثر من قيمة ثوب لم يجزه في الكسوة وأجزأه في الطعام لما ذكرنا أن الكسوة منصوص عليها فلا تكون بدلا عن نفسها وتصلح بدلا عن غيرها كما لو أعطى كل مسكين ربع صاع من حنطة وذلك يساوي صاعا من تمر أنه لا يجزي عن الطعام. وإن كان مد من حنطة يساوي ثوبا يجزي عن الكسوة لأن الطعام يجوز أن يكون قيمة عن الثوب ولا يجوز أن يكون قيمة عن الطعام، لأن الطعام كله شيء واحد لأن المقصود منه واحد فلا يجوز بعضه عن بعض بخلاف الطعام مع الكسوة لأنهما متغايران ذاتا ومقصودا فجاز أن يقوم أحدهما مقام الآخر وكذا لو أعطى عشرة مساكين دابة أو عبدا وقيمته تبلغ عشرة أثواب جاز في الكسوة وإن لم تبلغ قيمته عشرة أثواب وبلغت قيمة الطعام أجزأه عنه عندنا لأن دفع البدل في باب الكفارة جائز عندنا قال أبو يوسف: لو أن رجلا عليه كفارة يمين فأعطى عشرة مساكين مسكينا نصف صاع من حنطة ومسكينا صاعا من شعير ومسكينا ثوبا وغدى مسكينا وعشاه لم يجزه ذلك حتى يكمل عشرة من أحد النوعين لأن الله تبارك وتعالى جعل الكفارة أحد الأنواع الثلاثة من الإطعام أو الكسوة أو التحرير بقوله تبارك وتعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وأو تتناول أحدها فلا تجوز الجمع بينها لأنه يكون نوعا رابعا وهذا لا يجوز، لكنه إذا اختار الطعام جاز له أن يعطي مسكينا حنطة ومسكينا شعيرا ومسكينا تمرا لأن اسم الطعام يتناول الكل، ولو أعطى نصف صاع من تمر جيد يساوي نصف صاع من بر لم يجز إلا عن نفسه بقدره لأن التمر منصوص عليه في الإطعام كالبر فلا يجزي أحدهما عن الآخر كما لا يجوز الثمن عن التمر، ويجزي التمر عن الكسوة لأن المقصود من كل واحد منهما غير المقصود من الآخر فجاز إخراج أحدهما عن الآخر بالقيمة والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" صفة الكسوة فهي أنها لا تجوز إلا على سبيل التمليك بخلاف الإطعام عندنا ؛ لأن الكسوة لدفع حاجة الحر والبرد وهذه الحاجة لا تندفع إلا بتمليك لأنه لا ينقطع حقه إلا به، فأما الإطعام فلدفع حاجة الجوع وذلك يحصل بالطعم لأن حقه ينقطع به، ويجوز أداء القيمة عن الكسوة كما يجوز عن الطعام عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ولو دفع كسوة عشرة مساكين إلى مسكين واحد في عشرة أيام جاز عندنا، وعند الشافعي لا يجوز إلا عن مسكين واحد كما في الإطعام، ولو أطعم خمسة مساكين على وجه الإباحة وكسا خمسة مساكين، فإن أخرج ذلك على وجه المنصوص عليه لا يجوز لما ذكرنا أن الله تبارك وتعالى أوجب أحد شيئين، فلا يجمع بينهما وإن أخرجه على وجه القيمة فإن كان الطعام أرخص من الكسوة أجزأه وإن كانت الكسوة أرخص من الطعام لم يجزه لأن الكسوة تمليك فجاز أن تكون بدلا عن الطعام ثم إذا كانت قيمة الكسوة مثل قيمة الطعام فقد أخرج الطعام، وإن كانت أغلى فقد أخرج قيمة الطعام وزيادة فجاز، وصار كما لو أطعم خمسة مساكين طعام الإباحة، وأدى قيمة طعام خمسة مساكين طعام الإباحة، وأداء قيمة طعام خمسة مساكين أو أكثر جائز عندنا كذا هذا وإذا كانت قيمة الكسوة أرخص من قيمة الطعام، لا يكون الطعام بدلا عنه لأن طعام الإباحة ليس بتمليك فلا يقوم مقام التمليك، وهو الكسوة ؛ لأن الشيء لا يقوم مقام ما هو فوقه، ولو أعطى خمسة مساكين وكسا خمسة جاز، وجعل أغلاهما ثمنا بدلا عن أرخصهما ثمنا أيهما كان ؛ لأن كل واحد منهما تمليك فجاز أن

 

ج / 5 ص -107-       يكون أحدهما بدلا عن الآخر "وأما" مصرف الكسوة فمصرفها هو مصرف الطعام، وقد ذكرناه. "وأما" التحرير فلجوازه عن التكفير شرائط تختص به، "فمنها" ملك الرقبة حتى لو أعتق إنسان عبده عن كفارة الغير لا يجوز وإن أجاز ذلك الغير ؛ لأن الإعتاق وقع عنه فلا توقف على غيره ، وكذا لو قال لغيره أعتق عبدك عن كفارتي، فأعتق لم يجز عن كفارته وعتق العبد، ولو قال أعتق عبدك على ألف درهم عن كفارة يميني، فأعتقه أجزأه عند أصحابنا الثلاثة ؛ لأن العتق يقع عن الآخر، وعند زفر رحمه الله لا يجزيه ؛ لأن العتق عن المأمور ولو قال: أعتق عبدك عني عن كفارة يميني ولم يذكر البدل لم يجزه عن الكفارة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن العتق يقع عن الآمر. والمسألة قد مرت في كتاب الولاء، فرق بين هذا وبين الكسوة والإطعام: أن هناك يجزيه عن الكفارة وإن لم يذكر البدل، وعن الإعتاق لا يجوز عندهما "ووجهه" أن التمليك بغير بدل هبة، ولا جواز لها بدون القبض، ولم يوجد القبض في الإعتاق، ووجد في الإطعام، والكسوة ؛ لأن قبض الفقير يقوم مقام قبض المكفر. "ومنها" أن تكون الرقبة كاملة للمعتق، وهو أن تكون كلها ملك المعتق، وإن شئت قلت: ومنها حصول كمال العتق للرقبة بالإعتاق ؛ لأن التحرير المطلق مضافا إلى الرقبة لا يتحقق بدونه، وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق عبدين بينه وبين رجل أنه لا يجزئه عن الكفارة لأن إعتاق عبدين بين رجلين يوجب تفريق العتق في شخصين، فلا يحصل لكل واحد منهما عتق كامل لانعدام كمال الملك له في كل واحد منهما فالواجب عليه صرف عتق كامل إلى شخص واحد، فإذا فرقه لا يجوز ، كما لو أعطى طعام مسكين واحد إلى مسكينين، بخلاف شاتين بين رجلين ذكياهما عن نسكيهما أجزأهما ؛ لأن الشركة في النسك جائزة إذا صاب كل واحد منهما مقدار شاة، بدليل أنه يجوز بدنة واحدة لسبعة فكان الشرط في باب النسك أن يكون مقدار شاة وقد وجد، وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق عبدا بينه وبين غيره وهو موسر أو معسر أنه لا يجوز عن الكفارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه لنقصان الملك والعتق لأن العتق يتجزأ عنده، وعندهما إن كان موسرا يجوز وإن كان معسرا لا يجوز؛ لأنه تجب السعاية على العبد إذا كان معسرا فيكون إعتاقا بعوض، وإذا كان موسرا، لا سعاية على العبد. "ومنها" أن تكون الرقبة كاملة الرق ؛ لأن المأمور به تحرير رقبة مطلقا، والتحرير تخليص عن الرق فيقتضي كون الرقبة مرقوقة مطلقة، ونقصان الرق فوات جزء منه، فلا تكون الرقبة مرقوقة مطلقة فلا يكون تحريرها مطلقا، فلا يكون آتيا بالواجب، وعلى هذا يخرج تحرير المدبر وأم الولد عن الكفارة أنه لا يجوز ؛ لنقصان رقهما لثبوت الحرية من وجه، أو حق الحرية بالتدبير والاستيلاد، حتى امتنع تمليكها بالبيع والهبة وغيرهما. "وأما" تحرير المكاتب عن الكفارة فجائز استحسانا، إذا كان لم يؤد شيئا من بدل الكتابة، والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله ولو كان أدى شيئا من بدل الكتابة، لا يجوز تحريره عن الكفارة في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه يجوز، ولو عجز عن أداء بدل الكتابة، ثم أعتقه جاز بلا خلاف، سواء كان أدى شيئا من بدل الكتابة أو لم يؤد. "وجه" القياس أن الإعتاق إزالة الملك، وملك المولى من المكاتب زائل إذ الملك عبارة عن القدرة الشرعية على التصرفات الحسية والشرعية من الاستخدام، والاستفراش، والبيع، والهبة، والإجارة، ونحوها، وهذه القدرة زائلة عن المولى في حق المكاتب، فإنه لا يملك شيئا من ذلك عليه، والدليل أنه لو قال: كل مملوك لي حر لا يدخل فيه المكاتب، وكذا لو وطئت المكاتبة بشبهة كان العقر لها لا للمولى وإذا جنى على المكاتب كان الأرش له لا للمولى فدل أن ملكه زائل، فلا يجوز إعتاقه عن الكفارة، ولهذا تسلم له الأولاد والإكساب، ولا يسلم ذلك بالإعتاق المبتدأ فدل أن العتق يثبت بجهة الكتابة "ولنا" لبيان أن الملك ملك المولى النص، ودلالة الإجماع، والمعقول. "أما" النص فقول النبي: عليه الصلاة والسلام "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" والعبد المضاف إلى العباد اسم للمملوك من بني آدم في عرف اللغة والشرع، ولهذا لو قال: كل عبد لي فهو حر دخل فيه المكاتب، والله جل وعلا أعلم "وأما" دلالة الإجماع فإنه لو أدى بدل الكتابة أو أبرأه المولى عن البدل يعتق ولا عتق فيما لا يملكه ابن آدم على لسان رسول الله.صلى الله عليه وسلم

 

ج / 5 ص -108-       وأما" المعقول: فهو أن الملك كان ثابتا له فيه قبل العقد، والعارض ليس إلا لفظ الكتابة، وليس فيه ما ينبئ عن زوال الملك ؛ لأن الكتابة تستعمل في الفرض والتقدير، وفي الكتابة المعروفة وشيء من ذلك لا ينبئ عن زوال الملك فيبقى الملك على ما كان قبل العقد. "وأما" قوله: إن الملك هو القدرة الشرعية على التصرفات الحسية والشرعية، وهي غير ثابتة للمولى فممنوع أن الملك هو القدرة، بل هو اختصاص المالك بالمملوك فملك العين هو اختصاص المالك بالعين، وكونه أحق بالعين من غيره، ثم قد يظهر أثره في جواز التصرفات، وقد لا يظهر مع قيامه في نفسه لقيام حق الغير في المحل حقا محترما كالمرهون والمستأجر، وإنما لا يدخل في إطلاق قوله: كل مملوك لي فهو حر لا لخلل في الملك؛ لأنه لا خلل فيه كما بينا بل لخلل في الإضافة؛ لكونه حرا يدا، فلم يدخل تحت مطلق الإضافة حتى لو نوى يدخل. وسلامة الأولاد، والإكساب ممنوعة في الفرع، والرواية فيما أدى بدل الكتابة، أو أبرأه عنها، كذا قال أستاذ أستاذي الشيخ الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي ولئن سلمنا سلامة الإكساب، والأولاد، ولكن لم قلتم: إن السلامة تثبت حكما لثبوت العتق بجهة الكتابة السابقة، بل تثبت حكما لثبوت العتق بالإعتاق الموجود في حال الكتابة بدليل أنه يسقط عنه بدل الكتابة، وبدل الكتابة لا يسقط بثبوت العتق بجهة الكتابة بل يتقرر به "وأما" إذا كان أدى بعض بدل الكتابة فأعتقه عن الكفارة فممنوع على رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه "وأما" التخريج على ظاهر الرواية فظاهر أيضا؛ لأنه لما أدى بعض بدل الكتابة فقد حصل للمولى عوضا عن بعض رقبته فيكون في معنى الإعتاق بعوض، وذا لا يجزئ عن التكفير، كذا هذا والله عز وجل أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق نصف عبده عن كفارة، ثم أعتق النصف الآخر عنها أنه يجزئه "أما" على أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فظاهر؛ لأن إعتاق النصف إعتاق الكل؛ لأن العتق لا يتجزأ فلم يتطرق إلى الرق نقصان "وأما" على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه فالعتق وإن كان متجزئا وحصل بإعتاق النصف الأول نقصان لكن النقصان حصل مصروفا إلى الكفارة في رق النصف الآخر لاستحقاقه حق الحرية بتخريجه إلى الإعتاق ؛ لأنه حين ما أعتق النصف الأول كان النصف الآخر على ملكه، فأمكن صرف النقصان إلى الكفارة، فصار كأنه أعتق النصف وبعض النصف الكامل وهو ما انتقص منه، ثم أعتق البقية في المرة الثانية، بخلاف ما إذا أعتق نصف عبد بينه وبين آخر وهو موسر، فضمنه صاحبه نصف قيمته، ثم أعتق النصف الآخر إنه لا يجوز عند أبي حنيفة؛ رضي الله عنه لأن إعتاق النصف الأول أوجب نقصانا في النصف الباقي، ولا يمكن أن يجعل كأنه صرف ذلك النقصان إلى الكفارة لأنه لا ملك له في ذلك النصف فبطل قدر النقصان، ولم يقع عن الكفارة، ثم بعد أداء النصف الباقي صرفه إلى الكفارة، وهو ناقص فيصير في الحقيقة معتقا عن الكفارة عبدا إلا قدر النقصان "وأما" على أصلهما فيجوز في المسألتين لأن العتق عندهما لا يتجزأ فكان إعتاق البعض إعتاق الكل دفعة واحدة ، فلا يتمكن نقصان الرق في الرقبة فيجوز، ولو أعتق عبدا حلال الدم جاز لأن حل الدم لا يوجب نقصانا في الرق فكان كامل الرق، وإنما وجب عليه حق فأشبه العبد المديون. "ومنها" أن تكون كاملة الذات، وهو أن لا يكون جنس من أجناس منافع أعضائها فائتا؛ لأنه إذا كان كذلك كانت الذات هالكة من وجه، فلا يكون الموجود تحرير رقبة مطلقة فلا يجوز عن الكفارة، وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق عبدا مقطوع اليدين أو الرجلين أو مقطوع يد واحدة ورجل واحدة من جانب واحد، أو يابس الشق مفلوجا أو مقعدا، أو زمنا أو أشل اليدين، أو مقطوع الإبهامين من اليدين أو مقطوع ثلاثة أصابع من كل يد سوى الإبهامين، أو أعمى أو مفقود العينين، أو معتوها مغلوبا، أو أخرس، أن لا يجوز عن الكفارة لفوات جنس من أجناس المنفعة، وهي منفعة البطش بقطع اليدين وشللهما، وقطع الإبهامين لأن قطع الإبهامين يذهب بقوة اليد فكان كقطع اليدين وقطع ثلاثة أصابع من كل يد؛ لأن منفعة البطش تفوت به، ومنفعة المشي بقطع الرجلين وبقطع يد ورجل من جانب، والزمانة والفلج ومنعه النظر بالعمى وفقء العينين، ومنفعة الكلام بالخرس ومنفعة العقل بالجنون. ويجوز إعتاق الأعور، ومفقود إحدى العينين، والأعشى

 

ج / 5 ص -109-       ومقطوع يد واحدة أو رجل واحدة، ومقطوع يد ورجل من خلاف وأشل يد واحدة ومقطوع الأصبعين من كل يد سوى الإبهامين، والعينين، والخصي، والمجبوب والخنثى، والأمة الرتقاء والقرناء، وما يمنع من الجماع؛ لأن منفعة الجنس في هذه الأعضاء قائمة، ويجوز مقطوع الأذنين ؛ لأن منفعة السمع قائمة، وإنما الأذن الشاخصة للزينة، وكذا مقطوع الأنف ؛ لأن الفائت هو الجمال، "وأما" منفعة الشم فقائمة، وكذا ذاهب شعر الرأس، واللحية والحاجبين؛ لأن الشعر للزينة، وكذا مقطوع الشفتين إذا كان يقدر على الأكل؛ لأن منفعة الجنس قائمة، وإنما عدمت الزينة، ولا يجزئ ساقط الأسنان ؛ لأنه لا يقدر على الأكل ففاتت منفعة الجنس. "وأما" الأصم فالقياس أن لا يجوز لفوات جنس المنفعة، وهي منفعة السمع فأشبه الأعمى، ويجوز استحسانا، لأن أصل المنفعة لا يفوت بالصمم، وإنما ينتقص ؛ لأن ما من أصم إلا ويسمع إذا بولغ في الصياح إلا إذا كان أخرس كذا قيل، فلا يفوت بالصمم أصل المنفعة بل ينتقص، ونقصان منفعة الجنس لا يمنع جواز التكفير، وقيل هذا إذا كان في أذنه وقر، فأما إذا كان بحال لو جهر بالصوت في أذنه لا يسمع لا يجوز، ولو أعتق جنينا لم يجزه عن الكفارة وإن كان ولد بعد يوم جنايته؛ لأن المأمور به تحرير رقبة، والجنين لا يسمى رقبة ولأنه لا يبصر فأشبه الأعمى. "ومنها" أن يكون الإعتاق بغير عوض فإن كان بعوض لا يجوز؛ لأن الكفارة عبارة عما يكون شاقا على البدن، فإذا قابله عوض لا يشق عليه إخراجه عن ملكه، ولما ذكرنا أن كفارة اليمين إنما تجب لإذاقة النفس مرارة زوال الملك بمقابلة ما استوفت من الشهوات في غير حلها. وهذا المعنى لا يحصل إذا كان بعوض؛ لأن الزائل إلى عوض قائم معنى، فلا يتحقق ما وضعت له هذه الكفارة، وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق عبده على مال عن كفارته إنه لا يجوز، وإن أبرأه بعد ذلك عن العوض، لا يجوز أيضا؛ لأنه وقع لا عن جهة التكفير، ومضى على وجه، فلا ينقلب كفارة بعد ذلك، كما لو أعتق بغير نية الكفارة، ثم نوى بعد العتق ولو كان العبد بين رجلين، أعتقه أحدهما وهو معسر عن كفارته لا يجزيه ؛ لأن للشريك أن يستسعي العبد في نفسه بالاتفاق، فيصير في معنى الإعتاق بعوض، ولو كان في رقبة العبد دين فأعتقه المولى عن كفارته، فاختار الغرماء استسعاء العبد، أجزأه عن الكفارة؛ لأن السعاية ليست بعوض عن الرق، وإنما هي لدين لزم العبد قبل الحرية، فيسعى وهو حر فلا يمنع جواز الإعتاق عن الكفارة، وكذا لو أعتق عبدا رهنا فسعى العبد في الدين فإنه يرجع على المولى، ويجوز عن الكفارة؛ لأن السعاية ليست بدل الرق ؛ لأنها ما وجبت للتخريج إلى الإعتاق لحصول العتق بالإعتاق السابق، وإنما هي لدين لزمه عن المولى، وإن كان موسرا لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه لنقصان الملك والرق أيضا على ما بينا.ألا ترى أنه لا يعتق إلا نصفه عنده لتجزي العتق عنده؟ وعندهما لا يجوز ؛ لأن العتق لا يتجزأ عندهما فيتكامل، ولا يتكامل الملك، فيتملك نصيب الشريك بمقتضى الإعتاق، ويسار المعتق يمنع استسعاء العبد عندهما فعري الإعتاق عن العوض فجاز، ولو أعتق عبدا في مرض موته عن الكفارة وليس له مال غيره لم يجزه عن الكفارة ؛ لأنه يعتق ثلثه ويسعى في ثلثيه، فيصير بعضه ببدل وبعضه بغير بدل، فلم يجز والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" الحنث في كفارة اليمين فلا يجوز تكفير اليمين قبل الحنث وهو قول الشافعي رحمه الله في التكفير بالصوم "وأما" التكفير بالمال فجائز عنده والمسألة مرت في كتاب الأيمان "وأما" الموت فليس بشرط في كفارة القتل حتى يجوز التكفير فيها بعد الجرح قبل الموت وقد ذكرنا وجه الفرق بين الكفارتين في كتاب الإيمان والله عز وجل الموفق ويستوي في التحرير الرقبة الكبيرة والصغيرة، والذكر والأنثى لإطلاق اسم الرقبة في النصوص فإن قيل: الصغير لا منافع لأعضائه، فينبغي أن لا يجوز إعتاقه عن الكفارة كالذمي، وكذا لا يجزي إطعامه عن الكفارة فكذا إعتاقه، فالجواب عن الأول: أن أعضاء الصغير سليمة لكنها ضعيفة، وهي بغرض أن تصير قوية فأشبه المريض، وهذا لأن سلامة الأعضاء إذا كانت ثابتة يشق عليه إخراجه عن ملكه أكثر مما يشق عليه إخراج فائت جنس المنفعة ، وذا جائز فهذا أولى "وأما" إطعامه عن الكفارة فجائز على طريق التمليك وإنما لا يجوز على سبيل الإباحة ؛ لأنه لا يأكل أكلا معتادا ويستوي فيه الرقبة المؤمنة ،

 

ج / 5 ص -110-       والكافرة ، وكذا في كفارة الظهار عندنا. "وأما" في كفارة القتل فلا يجوز فيها إلا المؤمنة بالإجماع وقال الشافعي: رضي الله عنه لا يجوز في الكفارات كلها إلا المؤمنة، والأصل فيه أن النص الوارد في كفارة اليمين وكفارة الظهار مطلق عن قيد أيمان الرقبة، والنص الوارد في كفارة القتل مقيد بقيد الأيمان فحمل الشافعي رحمه الله المطلق على المقيد، ونحن أجرينا المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده. "وجه" قوله: إن المطلق في معنى المجمل والمقيد في معنى المفسر، والمجمل يحمل على المفسر، ويصير النصان في معنى؛ كنص المجمل والمفسر، ولهذا حمل المطلق على المقيد في باب الشهادة والزكاة وكفارة اليمين، حتى شرطت العدالة لوجوب قبول الشهادة والإسامة لوجوب الزكاة، وشرط التتابع في صوم كفارة اليمين كذا ههنا. "ولنا" وجهان أحدهما: طريق مشايخنا بسمرقند، وهو أن حمل المطلق على المقيد، ضرب النصوص بعضها في بعض وجعل النصين كنص واحد مع إمكان العمل بكل واحد منهما وهذا لا يجوز، بخلاف المجمل ؛ لأنه غير ممكن العمل بظاهره. والثاني طريق مشايخ العراق وهو: أن حمل المطلق على المقيد نسخ للإطلاق ؛ لأن بعد ورود النص المقيد لا يجوز العمل بالمطلق، بل ينسخ حكمه، وليس النسخ إلا بيان منتهى مدة الحكم الأول، ولا يجوز نسخ الكتاب بالقياس، ولا بخبر الواحد. وقوله: المطلق في معنى المجمل ممنوع؛ لأن المجمل لا يمكن العمل بظاهره، والمطلق يمكن العمل بظاهره، إذ هو اسم لما يتعرض للذات دون الصفات، فيمكن العمل بإطلاقه من غير الحاجة إلى البيان فلا ضرورة إلى حمل المطلق على المقيد، وفي الموضع الذي حمل إنما حمل لضرورة عدم الإمكان، وذلك عند اتحاد السبب والحكم لاستحالة ثبوت حكم واحد في زمان واحد مطلقا ومقيدا، فيخرج على البيان وعلى الناسخ، وعلى الاختلاف المعروف بين مشايخنا أن تقييد المطلق بيان أو نسخ، وعند اختلاف السبب لا ضرورة فلا يحمل والله عز وجل أعلم. وبه تبين أن شرط الأيمان في كفارة القتل ثبت نصا غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النص ويمكن أن يقال: إن تحرير رقبة موصوفة بصفة الإيمان في باب القتل ما وجب بطريق التكفير؛ لأن الكفارة كاسمها ستارة للذنوب والمؤاخذات في الآخرة والله سبحانه وتعالى وضع المؤاخذة في الخطأ بدعاء النبي عليه أشرف التحية {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقال النبي: عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وإنما وجبت بطريق الشكر لسلامة نفسه في الدنيا عن القصاص، وفي الآخرة عن العقاب؛ لأن حفظ النفس عن الوقوع في الخطأ، مقدور في الجملة بالجهد والجد والتكلف، فجعل الله سبحانه وتعالى تحرير رقبة موصوفة بكونها مؤمنة شكرا لتلك النعمة، والتحرير في اليمين والظهار يجب بطريق التكفير، إذا لم يعرف ارتفاع المؤاخذة الثابتة ههنا، فوجب التحرير فيهما تكفيرا فلا يستقيم القياس، فإن قيل: إذا حنث في يمينه خطأ كان التحرير شكرا على ما قلتم، فينبغي أن يقاس على القتل في إيجاب تحرير رقبة مؤمنة، فالجواب أنه لا يمكن القياس في هذه الصورة أيضا ؛ لما ذكرنا أن تحرير المؤمن جعل شكرا لنعمة خاصة، وهي سلامة الحياة في الدنيا مع ارتفاع المؤاخذة في الآخرة ، وفي باب اليمين النعمة هي ارتفاع المؤاخذة في الآخرة فحسب إذ ليس ثمة موجب دنيوي يسقط عنه، فكانت النعمة في باب القتل فوق النعمة في باب اليمين، وشكر النعمة يجب على قدر النعمة؛ كالجزاء على قدر الجناية ولا يعلم مقدار الشكر إلا من علم مقدار النعمة، وهو الله سبحانه وتعالى فلا تمكن المقايسة في هذه الصورة أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" كفارة الظهار والإفطار والقتل، فأما التحرير، فجميع ما ذكرنا أنه شرط جوازه في كفارة اليمين، فهو شرط جوازه في كفارة الظهار، والإفطار، والقتل وما ليس بشرط لجواز التحرير في كفارة اليمين، فليس بشرط لجوازه في تلك الكفارات، إلا أيمان الرقبة خاصة، فإنه شرط الجواز في كفارة القتل بالإجماع، وكذا كمال العتق قبل المسيس في كفارة الظهار، وهذا تفريع على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه خاصة، حتى لو أعتق نصف عبده ثم وطئ ثم أعتق ما بقي فعليه أن يستقبل عتق الرقبة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ؛ لأن العتق يتجزأ عند أبي حنيفة عليه الرحمة فلم يوجد تحرير كامل قبل المسيس فيلزمه الاستقبال. "وأما" الصوم فقدر الصوم في كفارة اليمين ثلاثة أيام لقوله: سبحانه وتعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وكذا

 

ج / 5 ص -111-       في كفارة الحلق ؛ لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه ذكرناه في كتاب الحج، وفي القتل، والظهار ، والإفطار صوم شهرين لورود النص به "وأما" شرط جواز هذه الصيامات فلجواز صيام الكفارة شرائط مخصوصة منها: النية من الليل حتى لا يجوز بنية من النهار بالإجماع ؛ لأنه صوم غير عين ، فيستدعي وجوب النية من الليل لما ذكرنا في كتاب الصوم. "ومنها" التتابع في غير موضع الضرورة في صوم كفارة الظهار والإفطار والقتل بلا خلاف؛ لأن التتابع منصوص عليه في هذه الكفارات الثلاثة قال الله تبارك وتعالى في كفارتي القتل والإفطار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} "وقال النبي عليه الصلاة والسلام للأعرابي: صم شهرين متتابعين" بخلاف صوم قضاء رمضان؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر به من غير شرط التتابع بقوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. "وأما" صوم كفارة اليمين فيشترط فيه التتابع أيضا عندنا. وعند الشافعي لا يشترط بل هو بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق، واحتج بظاهر قوله تبارك وتعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} من غير شرط التتابع. "ولنا" قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وقراءته كانت مشهورة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكانت بمنزلة الخبر المشهور لقبول الصحابة رضي الله عنهم إياها تفسيرا للقرآن العظيم ، إن لم يقبلوها في كونها قرآنا، فكانت مشهورة في حق حكم الصحابة رضي الله عنهم إياها في حق وجوب العمل ، فكانت بمنزلة الخبر المشهور والزيادة على الكتاب الكريم بالخبر المشهور جائزة بلا خلاف ، ويجوز بخبر الواحد ، وكذا عند بعض مشايخنا على ما عرف في أصول الفقه وعلى هذا يخرج ما إذا أفطر في خلال الصوم أنه يستقبل الصوم ، سواء أفطر لغير عذر أو لعذر مرض، أو سفر ؛ لفوت شرط التتابع، وكذلك لو أفطر يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق، فإنه يستقبل الصيام سواء أفطر في هذه الأيام أو لم يفطر ؛ لأن الصوم في هذه الأيام لا يصلح لإسقاط ما في ذمته ؛ لأن ما في ذمته كامل والصوم في هذه الأيام ناقص لمجاورة المعصية إياه، والناقص لا ينوب عن الكامل ولو كانت امرأة فصامت عن كفارة الإفطار في رمضان، أو عن كفارة القتل، فحاضت في خلال ذلك لا يلزمها الاستقبال؛ لأنها لا تجد صوم شهرين لا تحيض فيهما فكانت معذورة ، وعليها أن تصلي أيام القضاء بعد الحيض بما قبله حتى لو لم تصلي وأفطرت يوما بعد الحيض استقبلت ؛ لأنها تركت التتابع من غير ضرورة، ولو نفست تستقبل لعدم الضرورة ؛ لأنها تجد شهرين لا نفاس فيهما، ولو كانت في صوم كفارة اليمين، فحاضت في خلال ذلك تستقبل ؛ لأنها تجد ثلاثة أيام لا حيض فيها فلا ضرورة إلى سقوط اعتبار الشرط ولو جامع امرأته التي لم يظاهر منها بالنهار ناسيا، أو بالليل عامدا أو ناسيا، أو أكل بالنهار ناسيا، لا يستقبل ؛ لأن الصوم لم يفسد فلم يفت شرط التتابع "ومنها" عدم المسيس في الشهرين في صوم كفارة الظهار، سواء فسد الصوم أو لا في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: الشرط عدم فساد الصوم حتى لو جامع امرأته التي ظاهر منها بالليل عامدا أو ناسيا، أو بالنهار ناسيا، استقبل عندهما وعند أبي يوسف: يمضي على صومه وبه أخذ الشافعي "وجه" قول أبي يوسف أن هذا الجماع لا ينقطع به التتابع ؛ لأنه لا يفسد الصوم فلا يجب الاستقبال ، كما لو جامع امرأة أخرى، ثم ظاهر منها والصحيح قولنا ؛ لأن المأمور به صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما ، بقوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فإذا جامع في خلالهما، فلم يأت بالمأمور به، ولو جامعها بالنهار عامدا استقبل بالاتفاق "أما" عندهما فلوجود المسيس، "وأما" عنده فلانقطاع التتابع لوجود فساد الصوم "وأما" وجوب كفارة الحلق، فصاحبه بالخيار إن شاء فرق لإطلاق قوله تبارك وتعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} من غير فصل. "وأما" الإطعام في كفارتي الظهار والإفطار فالكلام في جوازه صفة وقدرا ومحلا كالكلام في كفارة اليمين وقد ذكرناه وعدم المسيس في خلال الإطعام في كفارة الظهار ليس بشرط حتى لو جامع في خلال الإطعام لا يلزمه الاستئناف لأن الله تبارك وتعالى لم يشترط ذلك في هذه الكفارة لقوله سبحانه وتعالى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} من غير شرط ترك المسيس، إلا أنه منع من الوطء قبله؛ لجواز أن يقدر على الصوم أو الاعتكاف، فتنتقل الكفارة إليهما، فيتبين أن الوطء كان حراما على ما ذكرنا في كتاب الظهار.

 

ج / 5 ص -112-       والكلام في الإطعام في كفارة الحلق، كالكلام في كفارة اليمين، إلا في عدد من يطعم وهم ستة مساكين ؛ لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه فأما في الصفة والقدر والمحل، فلا يختلفان حتى يجوز فيه التمليك والتمكين وهذا قول أبي يوسف وقال محمد: لا يجوز فيها إلا التمليك، كذا حكى الشيخ القدوري رحمه الله الخلاف، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله قول أبي حنيفة مع أبي يوسف. "وجه" قول محمد رحمه الله أن جواز التمكين في طعام كفارة اليمين؛ لورود النص بلفظ الإطعام، إذ هو في عرف اللغة اسم لتقديم الطعام على وجه الإباحة، والنص ورد ههنا بلفظ الصدقة، وإنها تقتضي التمليك، لكنه معلل بدفع الحاجة، والتصدق تمليك فأشبه الزكاة والعشر، "ولهما" أن النص وإن ورد بلفظ الصدقة، وإنها تقتضي التمليك، لكنه معلل بدفع الحاجة، وذا يحصل بالتمكين فوق ما يحصل بالتمليك على ما بينا، ولهذا جاز دفع القيمة وإن فسرت الصدقة بثلاث أصوع في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. ولو وجب عليه كفارة يمين فلم يجد ما يعتق، ولا ما يكسو، ولا ما يطعم عشرة مساكين، وهو شيخ كبير لا يقدر على الصوم فأراد أن يطعم ستة مساكين عن صيام ثلاثة أيام، لم يجز إلا أن يطعم عشرة مساكين؛ لأن الصوم بدل والبدل لا يكون له بدل، فإذا عجز عن البدل تأخر وجوب الأصل، وهو أحد الأشياء الثلاثة إلى وقت القدرة، وإن كان عليه كفارة القتل أو الظهار أو الإفطار ولم يجد ما يعتق، وهو شيخ كبير لا يقدر على الصوم ولا يجد ما يطعم في كفارة الظهار والإفطار ، يتأخر الوجوب إلى أن يقدر على الإعتاق في كفارة القتل، وعلى الإعتاق أو الإطعام في كفارة الظهار والإفطار ؛ لأن إيجاب الفعل على العاجز محال والله أعلم.