بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الوكالة"
الكلام في هذا الكتاب في مواضع: في بيان معنى التوكيل لغة وشرعا, وفي بيان, ركن التوكيل, وفي بيان شرائط الركن, وفي حكم التوكيل, وفي بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة. أما الأول: فالتوكيل: إثبات الوكالة والوكالة في اللغة تذكر ويراد بها: الحفظ, قال الله عز وجل: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي الحافظ, وقال تبارك وتعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} قال الفراء أي حفيظا, وتذكر ويراد بها: الاعتماد وتفويض الأمر قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}, وقال الله تعالى عز وجل خبرا عن سيدنا هود عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه, وفي الشريعة يستعمل في هذين المعنيين أيضا على تقرير الوضع اللغوي, وهو تفويض التصرف, والحفظ إلى الوكيل؛ ولهذا قال أصحابنا: إن من قال لآخر "وكلتك في كذا" أنه يكون وكيلا في الحفظ;

 

ج / 6 ص -20-         لأنه أدى ما يحتمله اللفظ فيحمل عليه.

"فصل": وأما بيان ركن التوكيل. فهو الإيجاب والقبول فالإيجاب من الموكل أن يقول: "وكلتك بكذا" أو "افعل كذا" أو "أذنت لك أن تفعل كذا" ونحوه. والقبول من الوكيل أن يقول: "قبلت" وما يجري مجراه, فما لم يوجد الإيجاب والقبول لا يتم العقد؛ ولهذا لو وكل إنسانا بقبض دينه فأبى أن يقبل, ثم ذهب الوكيل فقبضه لم يبرأ الغريم؛ لأن تمام العقد بالإيجاب والقبول, وكل واحد منهما يرتد بالرد قبل وجود الآخر, كما في البيع ونحوه. ثم ركن التوكيل قد يكون مطلقا؛ وقد يكون معلقا بالشرط, نحو أن يقول: "إن قدم زيد؛ فأنت وكيلي في بيع هذا العبد" وقد يكون مضافا إلى وقت بأن يقول: "وكلتك في بيع هذا العبد غدا", ويصير وكيلا في الغد فما بعده, ولا يكون وكيلا قبل الغد؛ لأن التوكيل إطلاق التصرف, والإطلاقات مما يحتمل التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت كالطلاق, والعتاق وإذن العبد في التجارة, والتمليكات كالبيع والهبة والصدقة والإبراء عن الديون, والتقييدات كعزل الوكيل, والحجر على العبد المأذون, والرجعة, والطلاق الرجعي لا يحتمل ذلك.

"فصل": وأما الشرائط: فأنواع: بعضها يرجع إلى الموكل, وبعضها يرجع إلى الوكيل, وبعضها يرجع إلى الموكل به, أما الذي يرجع إلى الموكل فهو أن يكون ممن يملك فعل ما وكل به بنفسه؛ لأن التوكيل تفويض ما يملكه من التصرف إلى غيره, فما لا يملكه بنفسه, كيف يحتمل التفويض إلى غيره؟ فلا يصح التوكيل من المجنون, والصبي الذي لا يعقل أصلا؛ لأن العقل من شرائط الأهلية ألا ترى أنهما لا يملكان التصرف بأنفسهما؟ وكذا من الصبي العاقل بما لا يملكه بنفسه, كالطلاق, والعتاق, والهبة, والصدقة, ونحوها من التصرفات الضارة المحضة, ويصح بالتصرفات النافذة: كقبول الهبة, والصدقة, من غير إذن المولى؛ لأنه مما يملكه بنفسه بدون إذن وليه, فيملك تفويضه إلى غيره بالتوكيل. وأما التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع: كالبيع, والإجارة؛ فإن كان مأذونا له في التجارة يصح منه التوكيل بها؛ لأنه يملكها بنفسه وإن كان محجورا ينعقد موقوفا على إجازة وليه, وعلى إذن وليه بالتجارة أيضا, كما إذا فعل بنفسه؛ لأن في انعقاده فائدة, لوجود المجيز للحال, وهو الولي. ولا يصح من العبد المحجور, ويصح من المأذون, والمكاتب؛ لأنهما يملكان بأنفسهما, فيملكان بالتفويض إلى غيرهما بخلاف المحجور وأما التوكيل من المرتد: فموقوف: إن أسلم ينفذ, وإن قتل, أو مات على الردة, أو لحق بدار الحرب, يبطل عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد هو نافذ, بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده لوقوف أملاكه, وعندهما نافذة لثبوت أملاكه ويجوز التوكيل من المرتدة بالإجماع؛ لأن تصرفاتها نافذة بلا خلاف. وأما الذي يرجع إلى الوكيل فهو أن يكون عاقلا, فلا تصح وكالة المجنون, والصبي الذي لا يعقل, لما قلنا. وأما البلوغ, والحرية, فليسا بشرط لصحة الوكالة, فتصح وكالة الصبي العاقل, والعبد, مأذونين كانا أو محجورين وهذا عند أصحابنا. وقال الشافعي رحمه الله وكالة الصبي غير صحيحة؛ لأنه غير مكلف, ولا تصح وكالة المجنون. "ولنا" ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما خطب أم سلمة قالت: إن أوليائي غيب يا رسول الله فقال: صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يكرهني ثم قال لعمرو ابن أم سلمة: قم فزوج أمك مني فزوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صبيا" والاعتبار بالمجنون غير سديد؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات الشرعية, وقد انعدم هناك ووجد هنا؛ فتصح وكالته كالبالغ إلا أن حقوق العقد من البيع ونحوه, ترجع إلى الوكيل إذا كان بالغا, وإذا كان صبيا ترجع إلى الموكل, لما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. وكذا ردة الوكيل: لا تمنع صحة الوكالة؛ فتجوز وكالة المرتد, بأن وكل مسلم مرتدا؛ لأن وقوف تصرفات المرتد؛ لوقوف ملكه والوكيل يتصرف في ملك الموكل, وإنه نافذ التصرفات. وكذا لو كان مسلما وقت التوكيل, ثم ارتد, فهو على وكالته لما قلنا إلا أن يلحق بدار الحرب, فتبطل وكالته لما نذكر في موضعه. "وأما" علم الوكيل: فهل هو شرط لصحة الوكالة؟ لا خلاف في أن العلم بالتوكيل في الجملة شرط, إما علم الوكيل, وإما علم من يعامله حتى أنه لو وكل رجلا ببيع عبده, فباعه الوكيل من رجل قبل علمه, وعلم الرجل بالتوكيل, لا يجوز بيعه حتى

 

ج / 6 ص -21-         يجيزه الموكل, أو الوكيل بعد علمه بالوكالة؛ لأن حكم الآمر لا يلزم إلا بعد العلم بالمأمور به, أو القدرة على اكتساب سبب العلم بالمأمور به, كما في أوامر الشرع. "وأما" علم الوكيل على التعيين بالتوكيل: فهل هو شرط؟ ذكر في الزيادات أنه شرط. وذكر في الوكالة أنه ليس بشرط فإنه قال: إذا قال الموكل لرجل: اذهب بعبدي هذا إلى فلان, فيبيعه فلان منك, فذهب الرجل بالعبد إليه, وأخبره أن صاحب العبد أمره ببيعه منه, فاشتراه منه صح شراؤه, وإن لم يخبره بذلك فالبيع جائز كذا ذكر محمد في كتاب الوكالة, وجعل علم المشتري بالتوكيل كعلم البائع الوكيل. وذكر في الزيادات أنه لا يجوز البيع, وصورة المسألة في الصبي المأذون, وذكر في المأذون الكبير ما يدل على جواز البيع, فإنه قال: إذا قال المولى لقوم: بايعوا عبدي؛ فإني قد أذنت له في التجارة, فبايعوه جاز, وإن لم يعلم العبد بإذن المولى لهم بالمبايعة. وليس التوكيل كالوصاية, فإن من أوصى إلى رجل غائب, أي جعله وصيا بعد موته, ثم مات الموصي, ثم إن الوصي باع شيئا من تركة الميت قبل علمه بالوصاية والموت؛ فإن بيعه جائز استحسانا, ويكون ذلك قبولا منه للوصاية حتى لا يملك إخراج نفسه منها, والقياس أن لا يجوز. والفرق أن الوصي خلف عن الموصي, قائم مقامه, كالوارث يقوم مقام المورث. ولو باع الوارث تركة الميت بعد موته وهو لا يعلم موته جاز بيعه فكذا الوصي, بخلاف التوكيل؛ لأنه أمر من الموكل, وحكم الأمر لا يلزم إلا بعد العلم, أو سببه على ما مر فإذا ثبت أن العلم بالتوكيل شرط, فإن كان التوكيل بحضرة الموكل, أو كتب الموكل بذلك كتابا إليه, فبلغه وعلم ما فيه, أو أرسل إليه رسولا فبلغ الرسالة, أو أخبره بالتوكيل رجلان أو رجل واحد عدل, صار وكيلا بالإجماع, وإن أخبره بذلك رجل واحد غير عدل, فإن صدقه صار وكيلا أيضا, وإن لم يصدقه ينبغي أن يكون على الاختلاف في العدل عند أبي حنيفة لا يكون وكيلا, وعند أبي يوسف, ومحمد يكون وكيلا كما في العزل على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. "وأما" الذي يرجع إلى الموكل, فإنه يرجع إلى الموكل به, فإنه يرجع إلى بيان ما يجوز التوكيل به, وما لا يجوز, والجملة فيه أن التوكيل لا يخلو إما أن يكون بحقوق الله عز وجل وهي الحدود, وإما أن يكون بحقوق العباد والتوكيل بحقوق الله عز وجل نوعان, أحدهما بالإثبات, والثاني بالاستيفاء, أما التوكيل بإثبات الحدود فإن كان حدا لا يحتاج فيه إلى الخصومة كحد الزنا, وشرب الخمر, فلا يتقدر التوكيل فيه بالإثبات؛ لأنه يثبت عند القاضي بالبينة, أو الإقرار من غير خصومة, وإن كان مما يحتاج فيه إلى الخصومة كحد السرقة وحد القذف, فيجوز التوكيل بإثباته عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف لا يجوز, ولا تقبل البينة فيهما إلا من الموكل, وكذلك الوكيل بإثبات القصاص على هذا الخلاف. "وجه" قول أبي يوسف: أنه كما يجوز التوكيل فيه بالاستيفاء فكذا بالإثبات؛ لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء, ولهما الفرق بين الإثبات والاستيفاء, وهو أن امتناع التوكيل في الاستيفاء لمكان الشبهة, وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات. "وأما" التوكيل باستيفاء حد القذف والسرقة, فإن كان المقذوف والمسروق منه حاضرا وقت الاستيفاء جاز؛ لأن ولاية الاستيفاء إلى الإمام, وأنه لا يقدر على أن يتولى الاستيفاء بنفسه على كل حال, وإن كان غائبا اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يجوز؛ لأن عدم الجواز لاحتمال العفو والصلح, وأنه لا يحتملهما. وقال بعضهم: لا يجوز؛ لأنه إن كان لا يحتمل العفو والصلح فيحتمل الإقرار والتصديق, وهذا عندنا. وقال الشافعي: رحمه الله يجوز التوكيل باستيفاء حد القذف كيفما كان. "وجه" قوله أن هذا حقه, فكان بسبيل من استيفائه بنفسه, وبنائبه كما في سائر الحقوق. "ولنا" الفرق على قول بعض المشايخ, وهو ما ذكرنا أنه يحتمل أنه لو كان حاضرا لصدق الرامي فيما رماه, أو يترك الخصومة, فلا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة, والشبهة لا تمنع من استيفاء سائر الحقوق, ويجوز التوكيل بالتعزير إثباتا واستيفاء بالاتفاق. وللوكيل أن يستوفي, سواء كان الموكل غائبا, أو حاضرا؛ لأنه حق العبد ولا يسقط بالشبهات, بخلاف الحدود, والقصاص, ولهذا ثبت بشهادة رجل وامرأتين, فأشبه سائر الحقوق بخلاف الحد والقصاص. "وأما" التوكيل باستيفاء القصاص فإن كان الموكل وهو المولى حاضرا جاز؛ لأنه قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه, فيحتاج إلى التوكيل. وإن كان غائبا لا يجوز؛ لأن احتمال العفو قائم لجواز أنه لو كان حاضرا

 

ج / 6 ص -22-         لعفا, فلا يجوز استيفاء القصاص مع قيام الشبهة, وهذا المعنى منعدم حالة الحضرة, وعند الشافعي رحمه الله يجوز, وإن كان غائبا, والكلام في الطرفين على نحو ما ذكرنا في حد القذف. "وأما" التوكيل بحقوق العباد فنقول وبالله التوفيق: حقوق العباد على نوعين, نوع لا يجوز استيفاؤه مع الشبهة, كالقصاص, وقد مر حكم التوكيل بإثباته واستيفائه, ونوع يجوز استيفاؤه وأخذه مع الشبهة, كالديون والإعتاق, وسائر الحقوق سوى القصاص, فنقول: لا خلاف أنه يجوز التوكيل بالخصومة في إثبات الدين, والعين, وسائر الحقوق, برضا الخصم, حتى يلزم الخصم جواب التوكيل. والأصل فيه ما روي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن سيدنا عليا رضي الله عنه كان لا يحضر الخصومة, وكان يقول: إن لها لحما يحضرها الشياطين, فجعل الخصومة إلى عقيل رضي الله عنه فلما كبر ورق حولها إلي, وكان علي يقول: ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي. ومعلوم أن سيدنا عليا رضي الله عنه لم يكن ممن لا يرضى أحد بتوكيله, فكان توكيله برضا الخصم, فدل على الجواز برضا الخصم, واختلف في جوازه بغير رضا الخصم, قال أبو حنيفة عليه الرحمة: لا يجوز من غير عذر المرض والسفر. وقال أبو يوسف, ومحمد: يجوز في الأحوال كلها وهو قول الشافعي رحمه الله وذكر الجصاص أنه لا فصل في ظاهر الرواية بين الرجل والمرأة, والبكر والثيب لكن المتأخرين من أصحابنا استحسنوا في المرأة إذا كانت مخدرة غير بريزة, فجوزوا توكيلها, وهذا استحسان في موضعه وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز إلا توكيل البكر, وهذا غير سديد لما يذكر. "وجه" قولهم أن التوكيل بالخصومة صادف حق الموكل, فلا يقف على رضا الخصم, كالتوكيل باستيفاء الدين, ودلالة ذلك أن الدعوى حق المدعي, والإنكار حق المدعى عليه, فقد صادف التوكيل من المدعي والمدعى عليه حق نفسه, فلا يقف على رضا خصمه, كما لو كان خاصمه بنفسه, ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحق هو الدعوى الصادقة, والإنكار الصادق, ودعوى المدعي خبر يحتمل الصدق, والكذب, والسهو والغلط, وكذا إنكار المدعى عليه, فلا يزداد الاحتمال في خبره بمعارضة خبر المدعي, فلم يكن كل ذلك حقا, فكان الأصل أن لا يلزم به جواب إلا أن الشرع ألزم الجواب لضرورة فصل الخصومات, وقطع المنازعات المؤدية إلى الفساد, وإحياء الحقوق الميتة, وحق الضرورة يصير مقضيا بجواب الموكل, فلا تلزم الخصومة عن جواب الوكيل من غير ضرورة, مع ما أن الناس في الخصومات على التفاوت بعضهم أشد خصومة من الآخر, فربما يكون الوكيل ألحن بحجته, فيعجز من يخاصمه عن إحياء حقه, فيتضرر به, فيشرط رضا الخصم, ليكون لزوم الضرر مضافا إلى التزامه وإذا كان الموكل مريضا, أو مسافرا, فهو عاجز عن الدعوى, وعن الجواب بنفسه, فلو لم يملك النقل إلى غيره بالتوكيل لضاعت الحقوق, وهلكت, وهذا لا يجوز. وكذلك إذا كانت المرأة مخدرة مستورة؛ لأنها تستحيي عن الحضور لمحافل الرجال, وعن الجواب بعد الخصومة بكرا كانت أو ثيبا؛ فيضيع حقها. "وأما" في مسألتنا فلا ضرورة, ولو وكل بالخصومة, واستثنى الإقرار وتزكية الشهود في عقد التوكيل بكلام منفصل جاز, ويصير وكيلا بالإنكار, سواء كان التوكيل من الطالب أو من المطلوب في ظاهر الرواية. وروي عن محمد أنه إذا وكل الطالب, واستثنى الإقرار, يجوز, وإن وكل المطلوب لا يجوز, والصحيح جواب؛ ظاهر الرواية؛ لأن استثناء الإقرار في عقد التوكيل إنما جاز لحاجة الموكل إليه؛ لأن الوكيل بالخصومة يملك الإقرار على موكله عند أصحابنا الثلاثة. ولو أطلق التوكيل من غير استثناء لتضرر به الموكل, وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين التوكيل من الطالب والمطلوب؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى التوكيل بالخصومة, هذا إذا وكل بالخصومة, واستثنى الإقرار في العقد فأما إذا وكل مطلقا, ثم استثنى الإقرار في كلام منفصل, يصح عند أبي يوسف, وعند محمد لا يصح. "وأما" التوكيل بالإقرار: فذكر في الأصل, أنه يجوز. وذكر الطحاوي أنه لا يجوز ويجوز التوكيل بالخصومة من المضارب, والشريك شركة العنان, والمفاوضة, والعبد المأذون, والمكاتب؛ لأنهم يملكون الخصومة بأنفسهم, فيملكون تفويضها إلى غيرهم بالتوكيل. ويجوز من الذمي كما يجوز من المسلم؛ لأن حقوقهم مصونة مرعية عن الضياع كحقوقنا ويجوز التوكيل بقبض الدين؛ لأن الموكل قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه فيحتاج

 

ج / 6 ص -23-         إلى التفويض إلى غيره كالوكيل بالبيع والشراء وسائر التصرفات, إلا أن التوكيل بقبض رأس مال السلم وبدل الصرف, إنما يجوز في المجلس؛ لأن الموكل إنما يملك القبض فيه لا في غيره, وإذا قبض الدين من الغريم برئ الغريم؛ لأن القبض الصحيح يوجب البراءة, وتجوز الوكالة بقضاء الدين؛ لأنه يملك القضاء بنفسه وقد لا يتهيأ له القضاء بنفسه فيحتاج إلى التفويض إلى غيره سواء كان الموكل حرا أو عبدا مأذونا أو مكاتبا؛ لأنهما يملكان القضاء بأنفسهما فيملكان التفويض إلى غيرهما أيضا, ويجوز بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة؛ لأن هذه حقوق يتولاها المرء بنفسه, فيملك توليتها غيره. ويجوز بالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والكتابة والإعتاق على مال والصلح على إنكار؛ لأنه يملك هذه التصرفات بنفسه فيملك تفويضها إلى غيره: وتجوز الهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والاستعارة والاستيهاب والارتهان, لما قلنا ويجوز بالشركة, والمضاربة لما قلنا. ويجوز بالإقراض والاستقراض, إلا أن في التوكيل بالاستقراض لا يملك الموكل ما استقرضه الوكيل, إلا إذا بلغ على وجه الرسالة بأن يقول: أرسلني فلان إليك ليستقرض كذا ويجوز التوكيل بالصلح وبالإبراء ويجوز بالطلاق والعتاق والإجارة والاستئجار لما قلنا ويجوز بالسلم والصرف؛ لأنه يملكهما بنفسه, فيملك تفويضهما إلى غيره إلا أن قبض البدل في المجلس شرط بقاء العقد على الصحة, والعبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما؛ لأن حقوق العقد راجعة إليهما لما نذكر فإذا تقابض الوكيلان في المجلس فقد وجد القبض المستحق قبل الافتراق فيبقى العقد على الصحة بخلاف الرسولين إذا تقابضا في المجلس ثم افترقا أنه يبطل العقد؛ لأن حقوق العقد لا ترجع إلى الرسول, فلا يقع قبضهما عن المستحق بالعقد, فإذا افترقا, فقد حصل الافتراق لا عن قبض فيبطل العقد بخلاف الوكيلين على ما مر ولا تعتبر مفارقة الموكل؛ لأن الحقوق لا ترجع إليه, بل هو أجنبي عنها, فبقاؤه وافتراقه بمنزلة واحدة, ويجوز التوكيل بالبيع والشراء؛ لأنهما مما يملك الموكل مباشرتهما بنفسه فيملك التفويض إلى غيره إلا أن لجواز التوكيل بالشراء شرطا, وهو الخلو عن الجهالة الكثيرة في أحد نوعي الوكالة دون النوع الآخر وبيان ذلك أن التوكيل بالشراء نوعان: عام وخاص فالعام: أن يقول له: اشتر لي ما شئت, أو ما رأيت, أو أي ثوب شئت, أو أي دار شئت, أو ما تيسر لك من الثياب, ومن الدواب, ويصح مع الجهالة الفاحشة من غير بيان النوع والصفة والثمن لأنه فوض الرأي إليه فيصح مع الجهالة الفاحشة كالبضاعة, والمضاربة. والخاص: أن يقول: اشتر لي ثوبا أو حيوانا أو دابة أو جوهرا أو عبدا أو جارية أو فرسا أو بغلا, أو حمارا أو شاة والأصل فيه أن الجهالة إن كانت كثيرة تمنع صحة التوكيل, وإن كانت قليلة لا تمنع وهذا استحسان. والقياس أن يمنع قليلها وكثيرها, ولا يجوز إلا بعد بيان النوع والصفة ومقدار الثمن؛ لأن البيع والشراء لا يصحان مع الجهالة اليسيرة, فلا يصح التوكيل بهما أيضا. "وجه" الاستحسان ما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "دفع دينارا إلى حكيم بن حزام ليشتري له به أضحية" ولو كانت الجهالة القليلة مانعة من صحة التوكيل بالشراء لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن جهالة الصفة لا ترتفع بذكر الأضحية, وبقدر الثمن؛ ولأن الجهالة القليلة في باب الوكالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن مبنى التوكيل على الفسحة والمسامحة فالظاهر أنه لا تجوز المنازعة فيه عند قلة الجهالة بخلاف البيع لأن مبناه على المضايقة, والمماكسة لكونه معاوضة المال بالمال فالجهالة فيه وإن قلت تفضي إلى المنازعة فتوجب فساد العقد فهو الفرق. وإذا ثبت أن الجهالة القليلة غير مانعة ففي كل موضع قلت الجهالة, صح التوكيل بالشراء وإلا فلا, فينظر إن كان اسم ما وقع التوكيل بشرائه مما يقع على أنواع مختلفة لا يجوز التوكيل به, إلا بعد بيان النوع وذلك نحو أن يقول: اشتر لي ثوبا لأن اسم الثوب يقع على أنواع مختلفة من ثوب الإبريسم والقطن والكتان وغيرهم, فكانت الجهالة كثيرة, فمنعت صحة التوكيل, فلا يصح. وإن سمى الثمن؛ لأن الجهالة بعد بيان الثمن متفاحشة فلا تقل, إلا بذكر النوع: بأن يقول: اشتر لي ثوبا هرويا فإن سكت عنه كثرت الجهالة, فلم يصح التوكيل, وكذا إذا قال: اشتر لي حيوانا, أو قال: اشتر لي دابة, أو أرضا أو مملوكا أو جوهرا أو حبوبا؛ لأن كل واحد منها اسم جنس, يدخل تحته أنواع مختلفة, فلا بد من ذكر النوع بأن يقول: ثوبا هرويا فإذا سكت عنه كثرت الجهالة فلم يصح التوكيل, وكذا إذا قال:

 

ج / 6 ص -24-         اشتر لي دارا لا يصح؛ لأن بين الدار والدار تفاوتا فاحشا فإن عين الدار يجوز وإن لم يعين, ولكنه بين الثمن جاز أيضا ويقع على دور المصر الذي وقع فيه الوكيل؛ لأن الجهالة تقل بعد بيان الثمن. وروي عن أبي يوسف أنه لا يصح التوكيل بعد بيان الثمن حتى يعين مصرا من الأمصار ولو قال: اشتر لي دارا في موضع كذا, أو حبة لؤلؤ أو فص ياقوت أحمر ولم يسم الثمن لا يجوز؛ لأن التفاوت متفاحش والصفة لا تصير معلومة بحال الموكل فلا بد من بيان الثمن وإن كان اسم ما وقع التوكيل بشرائه لا يقع إلا على نوع واحد يكتفى فيه بذكر أحد أمرين: إما الصفة بأن قال: اشتر لي عبدا تركيا, أو مقدار الثمن بأن قال: اشتر لي عبدا بألف درهم؛ لأن الجهالة تقل بذكر أحدهما, وبحال الموكل؛ لأن الصفة تصير معلومة بذكر الثمن وإن لم يذكرها وإذا ذكر الصفة يصير الثمن معلوما بحال الآمر, فيما يشتريه أمثاله عادة حتى إنه لو خرج المشتري عن عادة أمثاله لا يلزم الموكل. كذا روي عن أبي يوسف فيمن قال: اشتر لي خادما من جنس كذا أن ذلك يقع على ما يتعامله الناس من ذلك الجنس, فإن كان الثمن كثيرا, لا يتعامل الناس به لم يجز على الآمر, وكذا البدوي إذا قال: اشتر لي خادما حبشيا فهو على ما يعتاده أهل البادية, وهذا كله اعتبار حال الموكل فإن لم يذكر أحدهما أصلا فالوكالة باطلة؛ لأن الجهالة فحشت بترك ذكرهما جميعا, فمنعت صحة الوكالة ولو قال: اشتر لي حمارا أو بغلا أو فرسا أو بعيرا ولم يذكر له صفة ولا ثمنا قالوا إنه يجوز؛ لأن النوع صار معلوما بذكر الحمار والبغل والفرس والبعير, والصفة تصير معلومة بحال الموكل وكذا الثمن فينظر إن اشترى حمارا بمثل قيمته أو بأقل, أو بأكثر, قدر ما يتغابن الناس في مثله جاز على الموكل, إذا كان الحمار مما يشتري مثله الموكل, وإن كان مما لا يشتري مثله الموكل لا يجوز على الموكل, ويلزم الوكيل وإن اشتراه بمثل قيمته نحو أن يكون الموكل مكاريا فاشترى الوكيل حمارا مصريا يصلح للركوب؛ لأن مثله يشتري الحمار للعمل والحمل لا للركوب. ولو قال: اشتر لي شاة, أو بقرة, ولم يذكر صفة ولا ثمنا لا يجوز؛ لأن الشاة والبقرة لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل ولا بد وأن يكون أحدهما معلوما لما بينا. ولو قال: اشتر لي حنطة لا يصح التوكيل ما لم يذكر أحد شيئين: إما: قدر الثمن, وإما قدر المثمن وهو المكيل؛ لأن الجهالة لا تقل إلا بذكر أحدهما وعلى هذا جميع المقدرات من المكيلات, والموزونات. ولو وكله ليشتري له طيلسانا لا يصح إلا بعد بيان الثمن والنوع؛ لأن الجهالة لا تقل إلا بعد بيان أحدهما والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان حكم التوكيل. فنقول وبالله التوفيق حكم التوكيل صيرورة المضاف إليه وكيلا؛ لأن التوكيل إثبات الوكالة وللوكالة أحكام "منها": ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل فيحتاج إلى بيان ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته, وما لا يملكه فنقول وبالله التوفيق: الوكيل بالخصومة يملك الإقرار على موكله في الجملة عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر, والشافعي رحمهما الله: لا يملك, والأب والوصي وأمين القاضي لا يملك الإقرار على الصغير بالإجماع. "وجه" قولهما أن الوكيل بالخصومة وكيل بالمنازعة, والإقرار مسالمة فلا يتناوله التوكيل بالخصومة فلا يملكه الوكيل. "ولنا": أن التوكيل بالخصومة وكيل بالجواب الذي هو حق عند الله عز وجل, وقد يكون ذلك إنكارا, وقد يكون إقرارا, فإذا أقر على موكله دل أن الحق هو الإقرار فينفذ على الموكل كما إذا أقر على موكله وصدقه الموكل ثم اختلف أصحابنا الثلاثة فيما بينهم قال: أبو حنيفة ومحمد, يصح إقراره في مجلس القاضي لا في غيره وقال أبو يوسف: يصح فيه وفي غيره. "وجه" قوله أن التوكيل تفويض ما يملكه الموكل إلى غيره, وإقرار الموكل لا تقف صحته على مجلس القاضي, فكذا إقرار الوكيل ولهما أنه فوض الأمر إليه لكن في مجلس القاضي؛ لأن التوكيل بالخصومة أو بجواب الخصومة, وكل ذلك يختص بمجلس القاضي, ألا ترى أن الجواب لا يلزم في غير مجلس القاضي؟ وكذا الخصومة لا تندفع باليمين في غير مجلس القاضي؛ فتتقيد بمجلس القاضي, إلا أنه إذا أقر في غير مجلس القاضي يخرج عن الوكالة وينعزل؛ لأنه لو بقي وكيلا لبقي وكيلا بالإقرار عينا؛ لأن الإنكار لا يسمع منه للتناقض, والإقرار عينا غير موكل به, والوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي به يملك قبضه عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يملك. "وجه" قوله أن

 

ج / 6 ص -25-         المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء ومن الوكيل بالقبض الأمانة, وليس كل من يهتدي إلى شيء يؤتمن عليه, فلا يكون التوكيل بالخصومة توكيلا بالقبض. "ولنا": أنه لما وكله بالخصومة في مال فقد ائتمنه على قبضه؛ لأن الخصومة فيه لا تنتهي إلا بالقبض, فكان التوكيل بها توكيلا بالقبض, والوكيل بتقاضي الدين يملك القبض في ظاهر الرواية؛ لأن حق التقاضي لا ينقطع إلا بالقبض, فكان التوكيل به توكيلا بالقبض؛ ولأن التقاضي والاقتضاء والاستيفاء واحد إلا أن المتأخرين من أصحابنا قالوا إنه لا يملك في عرف ديارنا؛ لأن الناس في زماننا لا يرضون بقبض المتقاضي كالوكلاء على أبواب القضاة لتهمة الخيانة في أموال الناس, والوكيل بقبض الدين يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر الغريم عند أبي حنيفة وعندهما لا يملك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أيضا فيملك إقامة البينة وكذا لو أقام المدعى عليه البينة أن صاحب الدين استوفى منه, أو أبرأه عنه قبلت بينته عنده وعندهما لا تقبل ولا يملك وأجمعوا في الوكيل بقبض العين إذا أنكر من في يده أنه لا يملك الخصومة حتى لا يملك إقامة البينة ولو أقام المدعى عليه البينة أنه اشتراها من الذي وكله بالقبض لا تسمع منه بينته في إثبات الشراء, ولكنها تسمع لدفع خصومة الوكيل في الحال إلى أن يحضر الموكل, وقالوا في الوكيل بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة إنه يملك الخصومة. "وجه" قولهما: أن التوكيل بقبض الدين توكيل باستيفاء عين الحق, فلا يتعدى إلى الخصومة كالتوكيل بقبض العين, ولأبي حنيفة أن التوكيل بقبض الدين توكيل بالمبادلة, والحقوق في مبادلة المال بالمال تتعلق بالعاقد كما في البيع والإجارة, ودلالة ذلك أن استيفاء عين الدين لا يتصور؛ لأن الدين إما أن يكون عبارة عن الفعل وهو فعل تسليم المال, وإما أن يكون عبارة عن مال حكمي في الذمة. وكل ذلك لا يتصور استيفاؤه, ولكن استيفاء الدين عبارة عن نوع مبادلة, وهو مبادلة المأخوذ العين بما في ذمة الغريم وتمليكه بهذا القدر المأخوذ من المال فأشبه البيع والخصومة في حقوق مبادلة المال بالمال فيملكه الوكيل, بخلاف الوكيل بقبض الثمن؛ لأن ذلك توكيل باستيفاء عين الحق لا بالمبادلة؛ لأن عينه مقدور الاستيفاء فلا يملك الخصومة فيها إلا بأمر جديد فهو الفرق بين الفصلين فإذا لم يملك الخصومة لا تسمع بينة المدعى عليه على الشراء من الموكل بالقبض؛ لأنها بينة قامت لا على خصم, ولكنها تسمع في دفع قبض الوكيل, ويجوز أن تكون البينة مسموعة من وجه دون وجه كمن وكل إنسانا بنقل زوجته إلى حيث هو فطالبها الوكيل بالانتقال, فأقامت البينة على أن زوجها طلقها ثلاثا, تسمع هذه البينة في اندفاع حق الوكيل في النقل ولا تسمع في إثبات الحرمة. كذا هذا وكذلك الوكيل بأخذ الدار بالشفعة وكيل بالمبادلة؛ لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وكذا الرد بالعيب, والقسمة فيها معنى المبادلة, فكانت الخصومة فيها من حقوقها فيملكها الوكيل كالوكيل بالبيع, والوكيل بالقبض إذا أراد أن يوكل غيره هذا على وجهين: "إما" أن كانت الوكالة عامة بأن قال له وقت التوكيل بالقبض: اصنع ما شئت أو ما صنعت من شيء فهو جائز علي أو نحو ذلك: "وإما" أن كانت خاصة بأن لم يقل ذلك عند التوكيل بالقبض؛ فإن كانت عامة يملك أن يوكل غيره بالقبض لأن الأصل فيما يخرج مخرج العموم, إجراؤه على عمومه, وإن كانت خاصة فليس له أن يوكل غيره بالقبض؛ لأن الوكيل يتصرف بتفويض الموكل فيملك قدر ما فوض إليه فإن فعل ذلك وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ الغريم من الدين؛ لأن توكيله بالقبض إذا لم يصح فقبضه وقبض الأجنبي سواء فإن وصل إلى يد الوكيل الأول برئ الغريم؛ لأنه وصل إلى يد من هو نائب الموكل في القبض. وإن هلك في يده قبل أن يصل إلى الوكيل الأول ضمن القابض للغريم؛ لأن قبضه بجهة استيفاء الدين, والقبض بجهة استيفاء الدين قبض بجهة المبادلة على ما مر, والمقبوض بجهة المبادلة مضمون على القابض كالمقبوض على سوم الشراء وكان له أن يرجع بما ضمن على الوكيل الأول؛ لأنه صار مغرورا من جهته بتوكيله بالقبض فيرجع عليه إذ كل غار ضامن للمغرور بما لحقه من العهدة فيرجع عليه بضمان الكفالة. ولا يبرأ الغريم من الدين لما قلنا إن توكيله بالقبض لم يصح فكان للطالب أن يأخذ الغريم بدينه وإذا أخذ منه رجع الغريم على الوكيل الثاني لما قلنا, ويرجع الوكيل الثاني على الأول بحكم الغرور لما قلنا إن الوكيل بقبض الدين للموكل على إنسان معين أو في بلد

 

ج / 6 ص -26-         معين لا يملك أن يتعدى إلى غيره؛ لأن المتصرف بحكم الآمر لا يملك التعدي عن موضع الأمر وليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عوضا عن الدين؛ وهو أن يأخذ عينا مكانه؛ لأن هذه معاوضة مقصودة, وأنها لا تدخل تحت التوكيل بقبض الدين وهذا لما بينا أن قبض الدين حقيقة لا يتصور لما ذكرنا فلا يتصور التوكيل بقبضه حقيقة إلا أن التوكيل بقبض الدين جعل توكيلا بالمعاوضة ضرورة تصحيح التصرف ودفع الحاجة المعلقة بالتوكيل بقبض الدين. وحق الضرورة يصير مقضيا بثبوتها ضمنا للعقد فبقيت المعاوضة المقصودة خارجة عن العقد أصلا فلا يملكها الوكيل. ولو كان لرجل على رجل دين فجاء إنسان إلى الغريم وقال: إن الطالب أمرني أن أقبضه منك, فإن صدقه الغريم وأراد أن يدفع إليه لا يمنع منه, وإن أبى أن يدفع إليه يجبر على الدفع في الدين وفي العين لا يجبر عليه والفرق: أن التصديق في الدين إقرار على نفسه, فكان مجبورا على التسليم, وفي العين إقرار على غيره فلا يصح إلا بتصديق ذلك الغير, وإن لم يصدقه لم يجبر على الدفع فإن دفعه إليه ثم جاء الطالب فإن صدقه مضى الأمر, وإن كذبه وأنكر أن يكون وكله بذلك فهذا على وجوه ثلاثة: إما أن صدقه ودفعه إليه, وإما أن كذبه ومع ذلك دفع إليه. وأما إن لم يصدقه ولم يكذبه ودفع إليه, فإن صدقه في الوكالة ولم يضمنه فجاء الطالب, يقال له: ادفع الدين إلى الطالب, ولا حق لك على الوكيل؛ لأنه لما صدقه في الوكالة فقد أقر بوكالته, وإقراره صحيح في حق نفسه, فكأنه يقول: إن الوكيل كان محقا في القبض, وإن الطالب ظالم فيما يقبض مني, وإن ظلم على مبطل فلا أظلم على محق, وإن صدقه وضمنه ما دفع إليه ثم حضر الطالب فأخذ منه يرجع هو على القابض؛ لأن الغريم وإن أقر أن القابض محق في القبض بتصديقه إياه في الوكالة فعنده أن الطالب مبطل فيه ظالم فيما يقبض منه؛ فإذا ضمنه فقد أضاف الضمان إلى ما يقبضه الطالب عنه بغير حق, وإضافة الضمان إلى المقبوض المضمون صحيح كما إذا قال ما غصبك فلان فعلي, وإن كذبه في الوكالة ومع ذلك دفع إليه له أن يضمن الوكيل؛ لأن عنده أنه مبطل في القبض وإنما دفعه إليه على رجاء أن يجوزه الطالب وكذا إذا لم يصدق ولم يكذب؛ لأنه لم يوجد منه الإقرار بكونه محقا في القبض فيملك الرجوع عليه, الوكيل بقبض الدين إذا قبضه فوجده معيبا فما كان للموكل رده فله رده وأخذ بدله؛ لأنه قائم مقام الموكل فهو يملك قبض حقه أصلا ووصفا فكذا الوكيل ولو وكل رجلا بقبض دين له على رجل وغاب الطالب فادعى الغريم أنه قد أوفاه الطالب لا يحتاج الوكيل إلى إقامة البينة, ولا إلى إحضار الطالب ليحلفه, لكن يقال للغريم: ادفع الدين إلى الوكيل, ثم اتبع الطالب وحلفه إن أردت يمينه فإن حلف وإلا رجعت عليه؛ لأنه مقر بالدين, والدين مقضي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم بسقوطه بدعوى الإيفاء مع الاحتمال, بل يجبر على التسليم إلى الوكيل, وكذلك الوكيل بطلب الشفعة إذا ادعى المشتري أن الشفيع قد سلم للشفعة يؤمر بتسليم الدار إلى الوكيل, ثم يقال له: اتبع الشفيع وحلفه إن أردت يمينه؛ لأن المشتري مقر بثبوت حق الشفعة؛ لأن تسليم الشفعة بعد ثبوتها يكون فلا يبطل الحق الثابت بدعوى التسليم مع الاحتمال فيؤمر بتسليم المشترى إلى الوكيل, وهذا بخلاف الوكيل بالرد بالعيب إذا ادعى البائع أن المشتري قد رضي بالعيب أنه لا يكون للوكيل حق الرد حتى يحضر الموكل فيحلف بالله تعالى ما رضي بهذا العيب؛ لأن البائع بقوله رضي المشتري بالعيب, لم يقر بثبوت حق الرد بالعيب, إذ ليس كل عيب موجبا للرد, ألا ترى أنه لو اشتراه وهو عالم بعيبه ليس له حق الرد مع وجود العيب, فيتوقف على حضور الموكل ويمينه, فإن أراد الغريم أن يحلف الوكيل بالله عز وجل ما يعلم أن الطالب قد استوفى الدين لم يكن له أن يحلفه عند أبي حنيفة: وأبي يوسف. وقال زفر: يحلفه على علمه, فإن أبى أن يحلف خرج عن الوكالة ولم يبرأ الغريم وكان الطالب على حجته. "وجه" قول زفر أن هذا أمر لو أقر به الوكيل للزمه, وسقط حقه من القبض, فإذا أنكر يستحلف لجواز أنه ينكل عن اليمين, فيسقط حقه. "ولنا" قول النبي: عليه الصلاة والسلام "واليمين على المدعى عليه" والغريم ما ادعى على الوكيل شيئا وإنما ادعى على الموكل, فكانت اليمين عليه, واليمين مما لا تجري فيه النيابة, فلا يثبت للغريم ولاية استحلاف الوكيل. وهذا بخلاف ما إذا مات الطالب, فادعى الغريم أنه قد كان استوفاه حال حياته, وأنكر الوارث: أن له أن يستحلف الوارث على علمه

 

ج / 6 ص -27-         بالله تعالى ما يعلم أن الطالب استوفى الدين؛ لأن هناك الوارث مدعى عليه؛ لأن الغريم يدعي عليه بطلان حقه في الاستيفاء الذي هو حقه, فلم يكن استحلافه بطريق النيابة عن المورث إلا أنه يستحلف على علمه؛ لأنه يستحلف على فعل غيره. وكل من يستحلف على فعل باشره غيره يستحلف على العلم لا البت؛ لأنه لا علم له به أنه فعل ذلك أو لم يفعل. فإن أقام الغريم البينة على الإيفاء سمعت بينته عند أبي حنيفة. وعندهما لا تسمع وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة: بناء على أن الوكيل بقبض الدين هل يكون وكيلا بالخصومة فيه؟ عنده يكون وعندهما لا يكون لما تقدم, وكذلك على هذا الاختلاف إذا أقام الغريم البينة أنه أعطى الطالب بالدراهم الدنانير أو باعه بها عرضا فبينته مسموعة عنده, وعندهما غير مسموعة؛ لأن إيفاء الدين بطريقي المبادلة والمقاصة, ويستوي فيهما الجنس وخلاف الجنس فكان الخلاف في الكل ثابتا. "وأما": الوكيل بالبيع فالتوكيل بالبيع لا يخلو إما أن يكون مطلقا, وإما أن يكون مقيدا, فإن كان مقيدا يراعى فيه القيد بالإجماع, حتى إنه إذا خالف قيده لا ينفذ على الموكل ولكن يتوقف على إجازته إلا أن يكون خلافه إلى خير لما مر أن الوكيل يتصرف بولاية مستفادة من قبل الموكل, فيلي من التصرف قدر ما ولاه, وإن كان الخلاف إلى خير فإنما نفذ؛ لأنه إن كان خلافا صورة فهو وفاق معنى؛ لأنه آمر به دلالة فكان متصرفا بتولية الموكل, فنفذ بيان هذه الجملة إذا قال: بع عبدي هذا بألف درهم فباعه بأقل من الألف لا ينفذ, وكذا إذا باعه بغير الدراهم, لا ينفذ, وإن كانت قيمته أكثر من ألف درهم؛ لأنه خلاف إلى شر؛ لأن أغراض الناس تختلف باختلاف الأجناس فكان في معنى الخلاف إلى شر وإن باعه بأكثر من ألف درهم نفذ؛ لأنه خلاف إلى خير, فلم يكن خلافا أصلا, وكذلك على هذا لو وكله بالبيع بألف درهم حالة فباعه بألف نسيئة لم ينفذ بل يتوقف لما قلنا, وإن وكله بأن يبيعه بألف درهم نسيئة, فباعه بألف حالة نفذ لما قلنا, وإن وكله بأن يبيع ويشترط الخيار للآمر, فباعه ولم يشترط الخيار, لم يجز, بل يتوقف. ولو باع وشرط الخيار للآمر ليس له أن يجيز؛ لأنه لو ملك الإجازة بنفسه لم يكن للتقييد فائدة, هذا إذا كان التوكيل بالبيع مقيدا. فأما: إذا كان مطلقا فيراعى فيه الإطلاق عند أبي حنيفة, فيملك البيع بالقليل والكثير, وعندهما لا يملك البيع إلا بما يتغابن الناس في مثله, وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما. "وجه" قولهما أن مطلق البيع ينصرف إلى البيع المتعارف, والبيع بغبن فاحش ليس بمتعارف, فلا ينصرف إليه كالتوكيل بالشراء. ولأبي حنيفة أن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه, ولا يجوز تقييده إلا بدليل والعرف متعارض فإن البيع بغبن فاحش لغرض التوصل بثمنه إلى شراء ما هو أربح منه متعارف أيضا فلا يجوز تقييد المطلق مع التعارض مع ما أن البيع بغبن فاحش إن لم يكن متعارفا فعلا فهو متعارف ذكرا وتسمية؛ لأن كل واحد منهما يسمى بيعا أو هو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب لغة وقد وجد, ومطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف ذكرا وتسمية من غير اعتبار الفعل, ألا ترى أن من حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الآدمي أو لحم الخنزير يحنث وإن لم يكن أكله متعارفا لكونه متعارفا إطلاقا وتسمية كذا هذا. "وأما" التوكيل بالشراء فالجواب عنه من وجهين "أحدهما" أن جوازه ثبت على خلاف القياس, لكونه أمرا بالتصرف في مال غيره, وذكر الثمن فيه تبع, ألا ترى أنه يصح بدون ذكر الثمن, إلا أنه جوز باعتبار الحاجة إذ كل أحد لا يتهيأ له أن يشتري بنفسه فيحتاج إلى من يوكل به غيره, والحاجة إلى التوكيل بالشراء بثمن جرى التعارف بشراء مثله بمثله فينصرف الأمر بمطلق الشراء إليه ألبتة. الثاني المشتري متهم بهذا الاحتمال: أنه يشتري لنفسه فلما تبين فيه الغبن أظهر الشراء للموكل, ومثل هذه التهمة في البيع منعدمة فهو الفرق, وكذلك يملك البيع بغير الأثمان المطلقة عنده, وعندهما لا يملك. وهو قول الشافعي رحمه الله. ويملك البيع بالنقد والنسيئة عنده, وعندهما لا يملك إلا بالنقد. والحجج من الطرفين على نحو ما ذكرنا في البيع بغبن فاحش ولو باع الوكيل بعض ما وكل ببيعه فهو على وجهين: إما أن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه, كالمكيل والموزون بأن كان وكيلا ببيع عبدين فباع أحدهما؛ جاز بالإجماع وإن كان في تبعيضه ضرر بأن وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز عند أبي حنيفة: رحمه الله, وعندهما لا يجوز إلا بإجازة

 

ج / 6 ص -28-         الموكل أو ببيع النصف الباقي. ولو كان وكيلا بالشراء فاشترى نصفه لم يلزم الآمر إجماعا. إلا أنه يشتري الباقي ويجيزه الموكل. "وجه" قولهما الجمع بين الشراء والبيع بجامع, وهو العرف والعادة ووجوب دفع الضرر الحاصل بالشركة في الأعيان؛ ولأبي حنيفة الفرق بين البيع والشراء على ما مر. ألا يرى أن عنده لو باع الكل بهذا القدر من الثمن يجوز فلأن يجوز بيع البعض به أولى؛ لأنه نفع موكله حيث أمسك البعض على ملكه وبهذا فارق الشراء؛ لأن الوكيل بالشراء إذا اشترى النصف بثمن الكل لا يجوز, والوكيل بالبيع يملك إبراء المشتري عن الثمن؛ وله أن يؤخره عنه, وله أن يأخذ به عوضا, وله أن يصالح على شيء ويحتال به على إنسان, وهذا قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف, ومحمد: لا يملك شيئا من ذلك. "وجه" قولهما أن الوكيل بالإبراء, وأخواته تصرف في ملك الموكل من غير إذنه فلا ينفذ عليه كما لو فعلها أجنبي "وجه" قوله أنه تصرف في حق نفسه بالإبراء؛ لأن قبض الثمن حقه, فكان الإبراء عن الثمن إبراء عن قبضه تصحيحا لتصرفه بقدر الإمكان. ولو أسقط حق القبض لسقط الدين ضرورة؛ لأنه لو بقي لبقي دينا لا يحتمل القبض أصلا, وهذا مما لا نظير له في أصول الشرع؛ ولأن دينا لا يحتمل القبض, والاستيفاء بوجه لا يفيد فيسقط ضرورة ويضمن الثمن للموكل؛ لأنه وإن تصرف في حق نفسه, لكنه تعدى إلى ملك غيره بالإتلاف فيجب عليه الضمان, وكذا إذا أخذ بالثمن عوضا عن المشتري؛ لأنه ملك منه القبض الذي هو حقه فيصح, ومتى ملك ذلك فيملك رقبة الدين ضرورة بما أخذه من العوض؛ ويضمن لما ذكرنا؛ وكذا إذا صالحه على شيء؛ لأن الصلح مبادلة؛ وكذا إذا أحاله المشتري بالثمن على إنسان وقبل الوكيل الحوالة؛ لأنه بقبول الحوالة تصرف في حق نفسه بالإبراء عنه؛ لأن الحوالة مبرئة وذلك يوجب سقوط الدين عن المحيل فيه لما ذكرنا ويضمن لما قلنا وكذلك تأخير الدين من الوكيل, تأخير حق المطالبة والقبض وأنه صادف حق نفسه فيصح لكنه تعدى إلى الموكل بثبوت الحيلولة بينه وبين ملكه فيضمن وليس للوكيل بالبيع أن يوكل غيره؛ لأن مبنى الوكالة على الخصوص؛ لأن الوكيل يتصرف بولاية مستفادة من قبل الموكل فيملك قدر ما أفاده, ولا يثبت العموم إلا بلفظ يدل عليه, وهو قوله: اعمل فيه برأيك وغير ذلك مما يدل على العموم, فإن وكل غيره بالبيع فباع الثاني بحضرة الأول جاز, وإن باع بغير حضرته لا يجوز إلا أن يجيزه الأول أو الموكل, وكذا إذا باعه فضولي فبلغ الوكيل أو الموكل, فأجاز يجوز هذا عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر: لا يجوز بيع الوكيل الثاني سواء كان بحضرة الوكيل الأول أو لم يكن بحضرته. وقال ابن أبي ليلى: يجوز كيفما كان والصحيح قول أصحابنا الثلاثة؛ لأن عبارة الوكيل ليست مقصود الموكل, بل المقصود رأيه. فإذا باع الثاني بحضرته فقد حصل التصرف برأيه فنفذ وإذا باعه لا بحضرته أو باع فضولي, فقد خلا التصرف عن رأيه فلا ينفذ ولكنه ينعقد موقوفا على إجازة الوكيل أو الموكل لصدور التصرف من أهله في محله, وليس للوكيل بالبيع أن يبيع من نفسه؛ لأن الحقوق تتعلق بالعاقد فيؤدي إلى أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلما ومتسلما, مطالبا ومطالبا وهذا محال, وكذا لا يبيع من نفسه, وإن أمره الموكل بذلك لما قلنا؛ ولأنه متهم في ذلك وليس له أن يبيع من أبيه وجده وولده وولد ولده الكبار وزوجته عند أبي حنيفة وعندهما يجوز ذلك بمثل القيمة وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يبيع من عبده ومكاتبه. "وجه" قولهما أن البيع من هؤلاء ومن الأجنبي سواء؛ لأن كل واحد منهما يملكه أجنبي من صاحبه ثم لا يملك البيع من نفسه ولأبي حنيفة أن البيع من هؤلاء بيع من نفسه من حيث المعنى لاتصال منفعة ملك كل واحد منهما بصاحبه, ثم لا يملك البيع من نفسه, فلا يملكه من هؤلاء بخلاف الأجنبي, ولهذا لا يملك البيع من عبده ومكاتبه؛ لأن البيع من عبده بيع من نفسه؛ لأنه لا ملك له, وكذا المكاتب؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا هذا يحققه أن اتصال منافع الأملاك بينهما تورث التهمة, لهذا لم تقبل شهادة أحدهما لصاحبه بخلاف الأجنبي ولو عمم التوكيل فقال: اصنع ما شئت, أو بع من هؤلاء, أو أجاز ما صنعه الوكيل, جاز بيعه بالاتفاق. ولا يجوز أن يبيع من نفسه أو من ولده الصغير أو من عبده إذا لم يكن عليه دين يحال الوكيل بالبيع مطلقا يملك البيع الصحيح, والفاسد؛ لأن اسم البيع يقع على كل واحد من النوعين إذ هو مبادلة شيء مرغوب

 

ج / 6 ص -29-         بشيء مرغوب, وقد وجد بخلاف الوكيل بالنكاح مطلقا, أنه لا يملك النكاح الفاسد؛ لأن المقصود من النكاح الحل, والنكاح الفاسد لا يفيد الحل والمقصود من البيع الملك, وأنه يثبت بالبيع الفاسد. وأما: الوكيل: بالبيع الفاسد فهل يملك البيع الصحيح قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يملك وقال محمد: لا يملك وبه أخذ الشافعي رحمه الله. "وجه" قول محمد أن البيع الفاسد بيع لا يفيد الحكم بنفسه, والصحيح يفيد الحكم بنفسه, فكانا مختلفين, فلا يكون التوكيل بأحدهما توكيلا بالآخر. فإذا باع بيعا صحيحا صار مخالفا "ولهما" أن هذا ليس بخلاف حقيقة؛ لأن البيع الصحيح خير, وكل موكل بشيء موكل بما هو خير منه دلالة, والثابت دلالة كالثابت نصا, فكان آتيا بما وكل به فلا يكون مخالفا. "وأما" الوكيل بالشراء فالتوكيل بالشراء لا يخلو إما أن كان مطلقا أو كان مقيدا, فإن كان مقيدا يراعى فيه القيد إجماعا لما ذكرنا, سواء كان القيد راجعا إلى المشترى أو إلى الثمن, حتى إنه إذا خالف يلزم الشراء إلا إذا كان خلافا إلى خير فيلزم الموكل, مثال الأول: إذا قال: اشتر لي جارية؛ أطؤها, أو أستخدمها أو أتخذها أم ولد, فاشترى جارية مجوسية أو أخته من الرضاع أو مرتدة أو ذات زوج, لا ينفذ على الموكل, وينفذ على الوكيل. وكذلك إذا قال: اشتر لي جارية تخدمني, فاشترى جارية مقطوعة اليدين أو الرجلين أو عمياء؛ لأن الأصل في كل مقيد اعتبار القيد فيه إلا قيدا لا يفيد اعتباره, واعتبار هذا النوع من القيد مفيد وكذلك إذا قال: اشتر لي جارية تركية, فاشترى جارية حبشية, لا يلزم الموكل ويلزم الوكيل لما ذكرنا. ومثال الثاني إذا قال: له اشتر لي جارية بألف درهم, فاشترى جارية بأكثر من الألف, تلزم الوكيل دون الموكل؛ لأنه خالف أمر الموكل, فيصير مشتريا لنفسه. ولو قال: اشتر لي جارية بألف درهم, أو بمائة دينار, فاشترى جارية بما سوى الدراهم والدنانير, لا تلزم الموكل إجماعا؛ لأن الجنس مختلف, فيكون مخالفا ولو قال: اشتر لي هذه الجارية بمائة دينار, فاشتراها بألف درهم, قيمتها مائة دينار ذكر الكرخي أن المشهور من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنه لا يلزم الموكل؛ لأن الدراهم والدنانير جنسان مختلفان حقيقة, فكان التقييد بأحدهما مفيدا. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يلزم الموكل, كأنه اعتبرهما جنسا واحدا في الوكالة كما اعتبرا جنسا واحدا في الشفعة, وهو أن الشفيع إذا أخبر أن الدار بيعت بدنانير فسلم الشفعة, ثم ظهر أنها بيعت بدراهم وقيمتها مثل الدنانير, صح التسليم. كذا ههنا فإن اشترى جارية بألف درهم, فإن كان مثلها يشترى بألف أو بأكثر من ألف أو بأقل من ألف مقدار ما يتغابن الناس فيه فيلزم الموكل. وإن كان النقصان مقدار ما لا يتغابن الناس فيه لزم الوكيل؛ لأن شراء الوكيل معروف. وإن اشترى جارية بثمانمائة درهم, ومثلها يشترى بألف, لزم الموكل؛ لأن الخلاف إلى خير لا يكون خلافا معنى. وكذا إذا وكله بأن يشتري له جارية بألف نسيئة, فاشترى جارية بألف حالة, لزم الوكيل؛ لأنه خالف قيد الموكل. ولو أمره أن يشتري بألف حالة فاشترى بألف نسيئة, لزم الموكل؛ لأنه وإن خالف صورة فقد وافق معنى والعبرة للمعنى, لا للصورة. ولو وكله أن يشتري ويشترط الخيار للموكل فاشترى بغير خيار, لزم الوكيل. والأصل أن الوكيل بالشراء إذا خالف يكون مشتريا لنفسه, والوكيل بالبيع إذا خالف يتوقف على إجازة الموكل, والفرق بينهما قد ذكرناه فيما تقدم أن الوكيل بالشراء متهم؛ لأنه يملك الشراء لنفسه فأمكن تنفيذه عليه, حتى إنه لو كان صبيا محجورا أو عبدا محجورا لا ينفذ عليه بل يتوقف على إجازة الموكل؛ لأنهما لا يملكان الشراء لأنفسهما, فلا يمكن التنفيذ عليهما فتوقف, وكذا إذا كان الوكيل مرتدا, أو كان وكيلا بشراء عبد بعينه, فاشترى نصفه لعدم إمكان التنفيذ عليه, فاحتمل التوقف؛ ومعنى التهمة لا يتعذر من الوكيل بالبيع فاحتمل التوقف على الإجازة. ولو وكله بشراء عبد فاشتراه بعين من أعيان مال الموكل توقف على الإجازة؛ لأنه لما اشتراه بعين من أعيان ماله, فقد باع العين, والبيع يقف على إجازة الموكل هذا إذا كان التوكيل بالشراء مقيدا. فأما إذا كان مطلقا فإنه يراعى فيه الإطلاق ما أمكن, إلا إذا قام دليل التقييد من عرف أو غيره, فيتقيد به, وعلى هذا إذا وكل رجلا بشراء جارية وسمى نوعها وثمنها حتى صحت الوكالة فاشترى جارية مقطوعة اليد والرجل من خلاف, أو عوراء, لزم الموكل, وكذا إذا اشترى جارية مقطوعة اليدين أو الرجلين أو عمياء عند أبي حنيفة, وعندهما يلزم الوكيل "وجه" قولهما أن الجارية تشترى للاستخدام عرفا وعادة

 

ج / 6 ص -30-         وغرض الاستخدام لا يحصل عند فوات جنس المنفعة, فيتقيد بالسلامة عن هذه الصفة بدلالة العرف, ولهذا قلنا: لا يجوز تحريرها عن الكفارة وإن كان نص التحرير مطلقا عن شرط السلامة لثبوتها دلالة كذا هذا. "وجه" قول أبي حنيفة: أن اسم الجارية بإطلاقها يقع على هذه الجارية كما يقع على سليمة الأطراف, فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل وقد وجد. "وأما" في باب الكفارة فلأن الأمر تعلق بتحرير رقبة, والرقبة اسم لذات مركب من هذه الأجزاء, فإذا فات ما يقوم به جنس من منافع الذات, انتقض الذات فلا يتناوله مطلق اسم الرقبة فأما اسم الجارية فلا يدل على هذه الذات باعتبار الأجزاء, فلا يقدح نقصانها في اسم الجارية, بخلاف اسم الرقبة حتى إن التوكيل لو كان بشراء رقبة لا يجوز كما لا يجوز في الكفارة كذا قالوا. ولو وكله أن يشتري له جارية وكالة صحيحة, ولم يسم ثمنا, فاشترى الوكيل جارية, إن اشترى بمثل القيمة أو بأقل من القيمة أو بزيادة يتغابن في مثلها جاز على الموكل, وإن اشترى بزيادة لا يتغابن الناس في مثلها يلزم الوكيل؛ لأن الزيادة القليلة مما لا يمكن التحرز عنها فلو منعت النفاذ على الموكل لضاق الأمر على الوكلاء ولامتنعوا عن قبول الوكالات وبالناس حاجة إليها, فمست الحاجة إلى تحملها ولا ضرورة في الكثير لإمكان التحرز عنه, والفاصل بين القليل والكثير إن كانت زيادة تدخل تحت تقويم المقومين فهي قليلة, وما لا تدخل تحت تقويمهم فهي كثيرة؛ لأن ما يدخل تحت تقويم المقومين, لا يتحقق كونه زيادة وما لا يدخل كانت زيادته متحققة, وقدر محمد الزيادة القليلة التي يتغابن في مثلها في الجامع بنصف العشر فقال: إن كانت نصف العشر أو أقل فهي مما يتغابن في مثلها, وإن كانت أكثر من نصف العشر فهي مما لا يتغابن في مثلها, وقال الجصاص ما ذكره محمد, لم يخرج مخرج التقدير في الأشياء كلها؛ لأن ذلك يختلف باختلاف السلع. منها ما يعد أقل من ذلك غبنا فيه, ومنها ما لا يعد أكثر من ذلك غبنا فيه, وقدر نصر بن يحيى: القليل بالده ينم وفي الحيوان بالده يازده وفي العقار بالده دوازده, والله تعالى أعلم. الوكيل بشراء عبد بعينه إذا اشترى نصفه فالشراء موقوف إن اشترى باقيه قبل الخصومة لزم الموكل عند أصحابنا الثلاثة؛ لأنه امتثل أمر الوكيل, وعند زفر يلزم الوكيل ولو خاصم الموكل الوكيل إلى القاضي قبل أن يشتري الوكيل الباقي, وألزم القاضي الوكيل ثم إن الوكيل اشترى الباقي بعد ذلك يلزم الوكيل إجماعا؛ لأنه خالف. وكذلك هذا في كل ما في تبعيضه ضرر وفي تشقيصه عيب, كالعبد والأمة والدابة والثوب وما أشبه ذلك, وهذا بخلاف ما إذا وكله ببيع عبده, فباع نصفه أو جزءا منه معلوما أنه يجوز عند أبي حنيفة سواء باع الباقي منه أو لا, والفرق له على نحو ما ذكرنا في التوكيل بالبيع مطلقا. ولو أعتقه بعد ما اشترى نصفه قبل أن يشتري الباقي قال أبو يوسف: إن أعتقه الموكل جاز, وإن أعتقه الوكيل لم يجز, وقال محمد على القلب من ذلك. "وجه" قول محمد: أن الوكيل قد خالف فيما وكل به فلم يكن مشتريا للموكل فكيف ينفذ منه إعتاقه وهو في الظاهر مشتر لنفسه, فينفذ إعتاقه. ولأبي يوسف أن إعتاق الموكل صادف عقدا موقوفا نفاذه على إجازته, فكان الإعتاق إجازة منه, كما إذا صرح بالإجازة. وإعتاق الوكيل لم يصادف عقدا موقوفا على إجازته؛ لأن الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك الشراء لنفسه, فلم يحتمل التوقف على إجازته؛ فبطل. وإن كان وكله بشراء شيء ليس في تبعيضه ضرر ولا في تشقيصه عيب فاشترى نصفه يلزم الموكل, ولا يقف لزومه على شراء الباقي. نحو إن وكله بشراء كر حنطة بمائة درهم, فاشترى نصف الكر بخمسين, وكذا لو وكله بشراء عبدين بألف درهم, فاشترى أحدهما بخمسمائة, لزم الموكل إجماعا. وكذا لو وكله بشراء جماعة من العبيد, فاشترى واحدا منها والله أعلم. الوكيل بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم إذا اشترى عشرين رطلا بدرهم من لحم يباع مثله عشرة أرطال بدرهم, لزم الموكل منه عشرة أرطال بنصف درهم عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يلزمه العشرون بدرهم ولو اشترى عشرة أرطال ونصف رطل بدرهم يلزم الموكل استحسانا. "وجه" قول أبي يوسف: أن هذا خلاف صورة لا معنى لأنه خلاف إلى خير, وذا لا يمنع النفاذ على الموكل. كما إذا اشترى عشرة أرطال ونصفا بدرهم أنه يلزم الموكل كذا هذا. "وجه" قولهما أن الوكيل يتصرف بحكم الآمر, فلا يتعدى تصرفه موضع الأمر, وقد أمره بشراء عشرة أرطال فلا يلزمه الزيادة على ذلك. بخلاف ما إذا اشترى عشرة أرطال ونصف رطل بدرهم؛ لأن الزيادة القليلة لا تتحقق زيادة

 

ج / 6 ص -31-         لدخولها بين الوزنين. ولو وكله بشراء عبد بمائة, فاشترى بها عبدين كل واحد منهما يساوي مائة روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يلزم الموكل واحد منهما. وقال أبو حنيفة: إذا وكل رجلا بشراء عبدين بأعيانهما بألف درهم, وقيمتهما سواء فاشترى أحدهما بستمائة درهم, لا يلزم الموكل إلا أن يشتري الثاني ببقية الألف وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كانت الزيادة مما يتغابن الناس في مثلها, يلزمه وهذا لا يتحقق خلافا والله عز وجل أعلم. والوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك أن يشتريه لنفسه, وإذا اشترى يقع الشراء للموكل؛ لأن شراءه لنفسه عزل لنفسه عن الوكالة, وهو لا يملك ذلك إلا بمحضر من الموكل, كما لا يملك الموكل عزله إلا بمحضر منه على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. "وأما" الوكيل بشراء شيء بغير عينه إذا اشترى يكون مشتريا لنفسه, إلا أن ينويه للموكل. وجملة الكلام فيه: أنه إذا قال: اشتريته لنفسي, وصدقه الموكل, فالمشترى له, وإذا قال الموكل: اشتريته لي وصدقه الوكيل, فالمشترى للموكل؛ لأن الوكيل بشراء شيء بغير عينه يملك الشراء لنفسه, كما يملك للموكل, فاحتمل شراؤه لنفسه, واحتمل شراؤه لموكله, فيحكم فيه التصديق, فيحمل على أحد الوجهين بتصادقهما. ولو اختلفا فقال الوكيل: اشتريته لنفسي, وقال الموكل: بل اشتريته لي, يحكم فيه الثمن, فإن أدى الوكيل الثمن من دراهم نفسه. فالمشترى له, وإن أداه من دراهم موكله؛ فالمشترى لموكله؛ لأن الظاهر نقد الثمن من مال من يشترى له, فكان الظاهر شاهدا للثمن, فكان صادقا في حكمه. "وأما" إذا لم تحضره النية وقت الشراء, واتفقا عليه يحكم فيه الثمن أيضا عند أبي يوسف. وعند محمد يكون الشراء للوكيل. "وجه" قول محمد أن الأصل أن يكون الإنسان متصرفا لنفسه لا لغيره, فكان الظاهر شاهدا للوكيل فكان المشترى له. "وجه" قول أبي يوسف: أن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد ما أمكن وذلك في تحكيم الثمن على ما مر والله تعالى أعلم. الوكيل بالشراء لا يملك الشراء من نفسه؛ لأن الحقوق في باب الشراء ترجع إلى الوكيل, فيؤدي إلى الإحالة: وهو أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلما ومتسلما مطالبا ومطالبا؛ ولأنه متهم في الشراء من نفسه. ولو أمره الموكل بذلك لا يصح, لما ذكرنا وكذلك لو اشترى من ولده الصغير؛ لأن ذلك شراء من نفسه. وكذلك لو اشترى من عبده الذي لا دين عليه, أو مكاتبه. وكذا الوكيل بالشراء لا يملك الشراء من أبيه, وجده, وولده, وولد ولده, وزوجته, وكل من لا تقبل شهادته له عند أبي حنيفة. وعندهما يجوز إذا اشترى بمثل القيمة, أو بأقل, أو بزيادة يتغابن في مثلها. وأجمعوا على أنه لا يملك الشراء من عبده الذي لا دين عليه, ومكاتبه, وقد مرت المسألة بحججها من قبل. ولو كانت الوكالة عامة, بأن قال له: اعمل ما شئت, أو قال له: بع من هؤلاء, أو أجاز ما صنعه الوكيل, جاز؛ لأن المانع من الجواز التهمة وقد زالت بالأمر والإجازة. ولو دفع إليه دراهم, ووكله أن يشتري له بها طعاما, فهو على الحنطة والدقيق لا على الفاكهة واللحم والخبز؛ لأن الطعام في الحقيقة وإن كان اسما لما يطعم, لكنه ينصرف إلى الحنطة والدقيق بقرينة الشراء في العرف, ولهذا سمي السوق الذي تباع فيه الحنطة والدقيق سوق الطعام دون غيره, إلا إذا كان المدفوع إليه قليلا, كالدراهم ونحوه, أو كان هناك وليمة فينصرف إلى الخبز, وقيل: يحكم الثمن إن كان قليلا ينصرف إلى الخبز, وإن كان كثيرا ينصرف إليهما. ولو قال اشتر لي بدرهم لحما, ينصرف إلى اللحم الذي يباع في السوق, ويشتري الناس منه في الأغلب من لحم الضأن والمعز والبقر والإبل إن جرت العادة بشرائه. ولا ينصرف إلى المشوي والمطبوخ, إلا إذا كان مسافرا ونزل خانا, ودفع إلى إنسان درهما ليشتري به لحما ولا إلى لحم الطير والوحش والسمك ولا إلى شاة حية ولا إلى مذبوحة غير مسلوخة؛ لانعدام جريان العادة باشترائه, وإن اشترى مسلوخا جاز على الموكل؛ لأن المسلوخ يباع في الأسواق في العادة, ولا إلى البطن والكرش والكبد والرأس والكراع؛ لأنها ليست بلحم, ولا يشترى مقصودا أيضا بل تبعا للحم فلا ينصرف مطلق التوكيل إليه, بخلاف ما إذا حلف لا يأكل لحما فأكل هذه الأشياء, أنه يحنث؛ لأن مبنى الأيمان على العرف ذكرا وتسمية, ومبنى الوكالة على العرف عادة وفعلا ألا ترى أن حكم الحنث يلزم بأكل القديد. ولو اشترى الوكيل القديد لا يلزم الموكل؛ لانعدام العادة ببيع القديد في الأسواق في الغالب. ولا إلى شحم البطن والألية؛ لأنهما ليسا بلحم. ولو وكله بشراء ألية لا يملك أن يشتري لحما؛ لأنهما مختلفان اسما ومقصودا. ولو وكله أن يشتري سمكا بدرهم فهو

 

ج / 6 ص -32-         فهو على الطري الكبار دون المالح والصغار؛ لأن العادة شراء الطري الكبار منه دون المالح ودون الصغار؛ ولو وكله بشراء الرأس فهو على النيء دون المطبوخ والمشوي, وهو على رأس الغنم دون البقر, والإبل, إلا في موضع جرت العادة بذلك, والمذكور من الخلاف في الجامع الصغير يرجع إلى اختلاف العصر والزمان دون الحقيقة ودون رأس العصفور والسمك والجراد لانعدام العادة. ولو وكله بشراء دهن, فله أن يشتري أي دهن شاء, وكذا إذا وكله بشراء فاكهة له أن يشتري أي فاكهة تباع في السوق عادة؛ ولو وكله بشراء البيض فهو على بيض الدجاج. وإن كانت اليمين المنعقدة عليه تقع على بيض الطيور كلها لما ذكرنا. ولو وكله أن يشتري لبنا فهو على ما يباع في عادة البلد في السوق من الغنم والبقر والإبل وكذا إذا وكله بشراء السمن فإن استويا فهو عليهما جميعا بخلاف ما إذا حلف لا يذوق لبنا إن ذلك يقع على لبن الغنم والبقر والإبل لما ذكرنا من العرف والله تعالى أعلم. الوكيل بشراء الكبش لا يملك شراء النعجة حتى لو اشترى لا يلزم الموكل؛ لأن الكبش اسم للذكر, والنعجة اسم للأنثى, وكذا لو وكله بشراء عناق, فاشترى جديا, أو شراء فرس, أو برذون, فاشترى رمكة, لا يجوز على الموكل. والبقر يقع على الذكر والأنثى, وكذا البقرة في رواية الجامع قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قيل: إنها كانت ذكرا وقال سبحانه وتعالى: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} وإثارة الأرض عمل الثيران. وذكر القدوري رحمه الله أنها تقع على الأنثى. والصحيح رواية الجامع لما ذكرنا. والدجاج يقع على الذكر والأنثى, والدجاجة على الأنثى, والبعير على الذكر, والناقة على الأنثى, والبختي ضرب خاص من الإبل, والنجيبة ضرب معروف بسرعة السير, وهي كالحمارة في عرف بلادنا, ولا يقع اسم البقر على الجاموس وإن كان من جنس البقر حتى يتم به نصاب الزكاة لبعده عن أوهامهم لقلته فيهم والله تعالى أعلم. الوكيل بالشراء إذا أمر غيره, فاشترى إن فعله بحضرة الأول, أو بإجازته أو بإجازة الموكل, جاز على الموكل, وإلا فلا إلا إذا كانت الوكالة عامة على ما مر والله عز وجل أعلم.

"فصل": الوكيلان هل ينفرد أحدهما بالتصرف فيما وكلا به؟ أما الوكيلان بالبيع فلا يملك أحدهما التصرف بدون صاحبه. ولو فعل لم يجز, حتى يجيز صاحبه أو الموكل؛ لأن البيع مما يحتاج فيه إلى الرأي, والموكل إنما رضي برأيهما لا برأي أحدهما, واجتماعهما على ذلك ممكن فلم يمتثل أمر الموكل فلا ينفذ عليه. وكذا الوكيلان بالشراء, سواء كان الثمن مسمى, أو لم يكن, وسواء كان الوكيل الآخر غائبا أو حاضرا لما ذكرنا في البيع, إلا أن في الشراء إذا اشترى أحدهما بدون صاحبه ينفذ على المشتري, ولا يقف على الإجازة, وفي البيع يقف على الإجازة وقد مر الفرق. وكذلك الوكيلان بالنكاح, والطلاق على مال, والعتق على مال والخلع, والكتابة, وكل عقد فيه بدل هو مال؛ لأن كل ذلك مما يحتاج إلى الرأي, ولم يرض برأي أحدهما بانفراده. وكذا ما خرج مخرج التمليك بأن قال لرجلين: جعلت أمر امرأتي بيدكما, أو قال لهما: طلقا امرأتي إن شئتما, لا ينفرد أحدهما بالتطليق؛ لأنه جعل أمر اليد تمليكا ألا ترى أنه يقف على المجلس؟ والتمليكات هي التي تختص بالمجلس, والتمليك على هذا الوجه مشروط بالمشيئة, كأنه قال: طلقا امرأتي إن شئتما وهناك لا يملك أحدهما التطليق دون صاحبه؛ لأن المعلق بشرطين لا ينزل إلا عند وجودهما فكذا هذا, وكذا الوكيلان بقبض الدين لا يملك أحدهما أن يقبض دون صاحبه؛ لأن قبض الدين مما يحتاج إلى الرأي والأمانة, وقد فوض الرأي إليهما جميعا لا إلى أحدهما ورضي بأمانتهما جميعا لا بأمانة أحدهما, فإن قبض أحدهما لم يبرئه الغريم حتى يصل ما قبضه إلى صاحبه, فيقع في أيديهما جميعا, أو يصل إلى الموكل؛ لأنه لما وصل المقبوض إلى صاحبه أو إلى الموكل فقد حصل المقصود بالقبض فصار كأنهما قبضاه جميعا ابتداء. "وأما" الوكيلان بالطلاق على غير مال, والعتق على غير مال والوكيلان بتسليم الهبة ورد الوديعة وقضاء الدين, فينفرد أحدهما بالتصرف فيما وكلا به؛ لأن هذه التصرفات مما لا تحتاج إلى الرأي, فكان إضافة التوكيل إليهما تفويضا للتصرف إلى كل واحد منهما بانفراده. "وأما" الوكيلان بالخصومة, فكل واحد منهما يتصرف بانفراده عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر لا ينفرد. "وجه" قوله أن الخصومة مما يحتاج, إلى الرأي, ولم يرض برأي أحدهما, فلا يملكها أحدهما دون صاحبه. "وجه" قول أصحابنا الثلاثة: أن الغرض من

 

ج / 6 ص -33-         الخصومة إعلام القاضي بما يملكه المخاصم, واستماعه واجتماع الوكيلين على ذلك يخل بالإعلام والاستماع؛ لأن ازدحام الكلام يخل بالفهم, فكان إضافة التوكيل إليهما تفويضا للخصومة إلى كل واحد منهما, فأيهما خاصم كان تمثيلا, إلا أنه لا يملك أحدهما القبض دون صاحبه وإن كان الوكيل بالخصومة يملك القبض عندنا؛ لأن اجتماعهما على القبض ممكن فلا يكون راضيا بقبض أحدهما بانفراده. "وأما" المضاربان فلا يملك أحدهما التصرف بدون إذن صاحبه إجماعا. وفي الوصيين خلاف بين أصحابنا نذكره في كتاب الوصية والله تعالى أعلم. الوكيل هل يملك الحقوق؟ جملة الكلام فيه: أن الموكل به نوعان: نوع لا حقوق له, إلا ما أمر به الموكل, كالوكيل بتقاضي الدين, والتوكيل بالملازمة ونحوه. ونوع له حقوق كالبيع والشراء والنكاح والخلع ونحوه. "أما" التوكيل بالبيع والشراء: فحقوقها ترجع إلى الوكيل, فيسلم المبيع, ويقبضه ويقبض الثمن ويطالب به ويخاصم في العيب وقت الاستحقاق. والأصل أن كل عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى نفسه, فحقوقه راجعة إلى العاقد كالبياعات والأشربة. والإجارات والصلح الذي هو في معنى البيع, فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وعليه, ويكون الوكيل في هذه الحقوق كالمالك, والمالك كالأجنبي حتى لا يملك الموكل مطالبة المشتري من الوكيل بالثمن ولو طالبه فأبى لا يجبر على تسليم الثمن إليه. ولو أمره الوكيل بقبض الثمن ملك المطالبة, وأيهما طالب المشتري بالثمن يجبر على التسليم إليه. ولو نهاه الوكيل عن قبض الثمن صح نهيه. ولو نهى الموكل الوكيل عن قبض الثمن لا يعمل نهيه, غير أن المشتري إذا نقد الثمن إلى الموكل يبرأ عن الثمن استحسانا, وكذا الوكيل هو المطالب بتسليم المبيع إذا نقد المشتري الثمن ولا يطالب به الموكل. وإذا استحق المبيع في يد المشتري يرجع بالثمن على الوكيل إن كان نقد الثمن إليه, وإن كان نقده إلى الموكل يرجع بالثمن عليه, وكذا إذا وجد المشتري بالمبيع عيبا, له أن يخاصم الوكيل, وإذا أثبت العيب عليه ورده عليه بقضاء القاضي أخذ الثمن من الوكيل إن كان نقده الثمن, وإن كان نقده إلى الموكل أخذه منه. وكذا الوكيل بالشراء هو المطالب بالثمن دون الموكل, وهو الذي يقبض المبيع دون الموكل. وإذا استحق المبيع في يده فهو الذي يتولى الرجوع بالثمن على بائعه دون الموكل. ولو وجد بالمبيع عيبا إن كان المبيع في يده, ولم يسلمه إلى الموكل بعد فله أن يرده على بائعه بالعيب, وإن كان قد سلمه إلى موكله ليس له أن يرده عليه إلا برضا موكله. وكذلك هذا في الإجارة, والاستئجار وأخواتهما, وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل فحقوقه ترجع إلى الموكل كالنكاح والطلاق على مال, والعتاق على مال والخلع والصلح عن دم العمد, والكتابة والصلح عن إنكار المدعى عليه ونحوه, فحقوق هذه العقود تكون للموكل عليه, والوكيل فيها يكون سفيرا ومعبرا محضا. حتى إن وكيل الزوج في النكاح لا يطالب بالمهر, وإنما يطالب به الزوج إلا إذا ضمن المهر, فحينئذ يطالب به لكن بحكم الضمان, ووكيل المرأة في النكاح لا يملك قبض المهر. وكذا الوكيل بالكتابة والخلع لا يملك قبض بدل الكتابة والخلع إن كان وكيل الزوج, وإن كان وكيل المرأة لا يطالب ببدل الخلع, إلا بالضمان. وكذا الوكيل بالصلح عن دم العمد وهذا الذي ذكرنا أن حقوق العقد في البيع, والشراء وأخواتهما ترجع إلى الوكيل مذهب علمائنا, وقال الشافعي رحمه الله: لا يرجع شيء من الحقوق إلى الوكيل, وإنما يرجع إلى الموكل. "وجه" قوله أن الوكيل متصرف بطريق النيابة عن الموكل, وتصرف النائب تصرف المنوب عنه ألا ترى أن حكم تصرفه يقع للموكل؟ فكذا حقوقه؛ لأن الحقوق تابعة للحكم, والحكم هو المتبوع فإذا كان الأصل له فكذا التابع. "ولنا": أن الوكيل هو العاقد حقيقة, فكانت حقوق العقد راجعة إليه, كما إذا تولى الموكل بنفسه, ولا شك أن الوكيل هو العاقد حقيقة؛ لأن عقده كلامه القائم بذاته حقيقة ويستحيل أن يكون الإنسان فاعلا بفعل الغير حقيقة, وهذه حقيقة مقررة بالشريعة قال الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وقال الله عز شأنه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وكان ينبغي أن يكون أصل الحكم له أيضا؛ لأن السبب وجد منه حقيقة وشرعا, إلا أن الشرع أثبت أصل الحكم للموكل؛ لأن الوكيل إنما فعله له بأمره وإنابته, وفعل المأمور مضاف إلى الآمر, فتعارض الشبهان, فوجب اعتبارهما بقدر الإمكان, فعملنا بشبه الآمر. والإنابة بإيجاب أصل الحكم للموكل ونسبة الحقيقة المقررة بالشريعة

 

ج / 6 ص -35-         بإثبات توابع الحكم للوكيل توفيرا على الشبهين حظهما من الحكم, ولا يمكن الحكم بالعكس, وهو إثبات أصل الحكم للوكيل, وإثبات التوابع للموكل؛ لأن الأصل في نفاذ تصرف الوكيل هو الولاية؛ لأنها علة نفاذه إذ لا ملك له. والموكل أصل في الولاية, والوكيل تابع له؛ لأنه لا يتصرف بولاية نفسه لعدم الملك بل بولاية مستفادة من قبل الموكل, فكان إثبات أصل الحكم للموكل, وإثبات التوابع للوكيل وضع الشيء في موضعه وهو حد الحكمة, وعكسه وضع الشيء في غير موضعه, وهو حد السفه بخلاف النكاح وأخواته؛ لأن الوكيل هناك ليس بنائب عن الموكل بل هو سفير ومعبر بمنزلة الرسول, ألا ترى أنه لا يضيف العقد إلى نفسه, بل إلى موكله؟ فانعدمت النيابة, فبقي سفيرا محضا فاعتبر العقد موجودا من الموكل من كل وجه, فترجع الحقوق إليه, ثم نقول: إنما تلزمه العهدة, وترجع الحقوق إليه إذا كان من أهل العهدة, "فأما" إذا لم يكن بأن كان صبيا محجورا ينفذ بيعه وشراؤه, وتكون العهدة على الموكل لا عليه؛ لأن ذلك من باب التبرع؛ والصبي ليس من أهل التبرع, لكونه من التصرفات الضارة المحضة, فيقع محضا لحصول التجربة والممارسة له في التصرفات, ولا خيار للمشتري من الوكيل المحجور سواء علم أنه محجور أو لم يعلم في ظاهر الرواية, وعن أبي يوسف أنه إن كان عالما فلا خيار له, فأما إذا كان جاهلا فله الخيار, إن شاء فسخ العقد, وإن شاء أمضاه. "وجه" قوله أن الرضا شرط جواز التجارة, وقد اختل الرضا؛ لأنه لما أقدم على العقد, على أن تكون العهدة على العاقد, فإذا تبين أنها ليست عليه اختل رضاه, فثبت له الخيار, كما إذا ظهر به عيب "وجه" ظاهر الرواية: أن الجهل بالحجر ليس بعذر؛ لأنه يمكنه الوصول إليه, خصوصا في حق الصبي؛ لأن الأصل فيه هو الحجر, والإذن يعارض الرشد, فكان سبب الوصول إلى العلم قائما, فالجهل به لتقصير من جهته فلا يعذر ويعتبر عالما. ولو علم بالحجر حقيقة لما ثبت له الخيار كذا هذا والله تعالى أعلم. الوكيل بالهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والقرض إذا فعل ما أمر به وقبض لا يملك المطالبة برد شيء من ذلك إلى يده ولا أن يقبض الوديعة والعارية والرهن ولا القرض ممن عليه؛ لأن الحكم في هذه العقود يقف على القبض, ولا صنع للوكيل في القبض, بل هو صنع القابض في محل مملوك للمولى, فكانت حقوق العقد راجعة إليه, وكان الوكيل سفيرا عنه بمنزلة الرسول. بخلاف الوكيل بالبيع وأخواته؛ لأن الحكم فيها للعقد لا للقبض, وهو العاقد حقيقة وشرعا على ما قررنا فكانت الحقوق عائدة إليه وكذا في التوكيل بالاستعارة, والارتهان والاستيهاب, الحكم والحقوق ترجع إلى الموكل. وكذا في التوكيل بالشركة, والمضاربة لما قلنا. وللوكيل أن يوكل غيره في الحقوق؛ لأنه أصل في الحقوق, والمالك أجنبي عنها فملك توكيل غيره فيها "ومنها": أن المقبوض في يد الوكيل بجهة التوكيل بالبيع والشراء وقبض الدين والعين وقضاء الدين أمانة بمنزلة الوديعة, لأن يده يد نيابة عن الموكل بمنزلة يد المودع, فيضمن بما يضمن في الودائع, ويبرأ بما يبرأ فيها, ويكون القول قوله في دفع الضمان عن نفسه. ولو دفع إليه مالا وقال: اقضه فلانا عن ديني فقال الوكيل: قد قضيت صاحب الدين, فادفعه إلي وكذبه, صاحب الدين, فالقول قول الوكيل في براءة نفسه عن الضمان, والقول قول الطالب في أنه لم يقبضه حتى لا يسقط دينه عن الموكل؛ لأن الوكيل أمين فيصدق في دفع الضمان عن نفسه, ولا يصدق على الغريم في إبطال حقه, وتجب اليمين على أحدهما لا عليهما؛ لأنه لا بد للموكل من تصديق أحدهما, وتكذيب الآخر, فيحلف المكذب منهما دون المصدق. فإن صدق الوكيل في الدفع, يحلف الطالب بالله عز وجل ما قبضه, فإن حلف لم يظهر قبضه, ولم يسقط دينه, وإن نكل ظهر قبضه وسقط دينه عن الموكل, وإن صدق الطالب أنه لم يقبضه, وكذب الوكيل, يحلف بالله تعالى لقد دفعه إليه فإن حلف برئ, وإن نكل لزمه ما دفع إليه, وكذلك لو أودع ماله رجلا, وأمره أن يدفع الوديعة إلى فلان, فقال المودع: دفعت, وكذبه فلان فهو على التفصيل الذي ذكرنا. ولو دفع المودع الوديعة إلى رجل, وادعى أنه قد دفعها إليه بأمر صاحب الوديعة, وأنكر صاحب الوديعة الأمر, فالقول قوله مع يمينه أنه لم يأمره بذلك؛ لأن المودع يدعي عليه الأمر, وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه. ولو كان المال مضمونا على رجل كالمغصوب في يد الغاصب أو الدين على الغريم, فأمر الطالب, أو المغصوب منه أن يدفعه إلى فلان, فقال المأمور: قد دفعت إليه, وقال فلان: ما قبضت فالقول قول

 

ج / 6 ص -36-         وقبضت الثمن وهلك هذا على وجهين. "أما" إن كان الموكل سلم العبد إلى الوكيل. أو كان لم يسلم إليه. فإن لم يكن سلم العبد إليه فقال الوكيل: بعته من هذا الرجل وقبضت منه الثمن وهلك الثمن في يدي. أو قال دفعته إلى الموكل. فهذا لا يخلو إما: أن صدقه في ذلك أو كذبه. فإن كذبه بالبيع أو صدقه بالبيع وكذبه في قبض الثمن أو صدقه فيهما وكذبه في الهلاك, فإن صدقه في ذلك كله يهلك الثمن من مال الموكل ولا شيء على الوكيل؛ لأنه يهلك أمانة في يده. وإن كذبه في ذلك كله: بأن كذبه بالبيع, أو صدقه بالبيع وكذبه في قبض الثمن, فإن الوكيل يصدق في البيع, ولا يصدق في قبض الثمن في حق الموكل؛ لأن إقرار الوكيل في حق نفسه جائز عليه. والمشتري بالخيار, إن شاء نقد الثمن ثانيا إلى الموكل, وأخذ منه المبيع, وإن شاء فسخ البيع, وله أن يرجع في الحالين جميعا على الوكيل بما نقده. كذا. ولو أقر الوكيل بالبيع, وزعم أن الموكل قبض من المشتري الثمن, وأنكر الموكل ذلك فإن الوكيل يصدق في البيع, ولا يصدق في إقراره على الموكل بالقبض, لما ذكرنا. ويجبر المشتري على ما ذكرنا. إلا أن هناك لا يرجع على الوكيل بشيء؛ لأنه لم يوجد منه الإقرار بقبض الثمن. وإن صدقه الموكل في البيع وقبض الثمن وكذبه في الهلاك أو الدفع إليه فالقول قول الوكيل في دعوى الهلاك, أو الدفع إليه مع يمينه؛ لأنه أمين. ويجبر الموكل على تسليم العبد إلى المشتري؛ لأنه ثبت البيع وقبض الثمن بتصديقه إياه. ولا يؤمر المشتري بنقد الثمن ثانيا إلى الموكل؛ لأنه ثبت وصول الثمن إلى يد وكيله بتصديقه, ووصول الثمن إلى يد وكيله كوصوله إلى يده. هذا إذا لم يكن العبد مسلما إلى الوكيل. فأما إذا كان مسلما إليه فقال الوكيل: بعته من هذا الرجل وقبضت منه الثمن فهلك عندي أو قال: دفعته إلى الموكل, أو قال: قبض الموكل الثمن من المشتري, فإن الوكيل يصدق في ذلك كله ويسلم العبد إلى المشتري, ويبرأ المشتري من الثمن, ولا يمين عليه. "أما" إذا صدقه الموكل في ذلك كله: فلا يشكل. وكذا إذا كذبه في البيع أو صدقه فيه وكذبه في قبض الثمن؛ لأن الوكيل أقر ببراءة المشتري عن الثمن, فلا يحلف. ويحلف الوكيل. فإن حلف على ما يدعيه برئ من الثمن. وإن نكل عن اليمين لزمه ضمان الثمن للموكل. فإن استحق العبد بعد ذلك من يد المشتري فإنه يرجع بالثمن على الوكيل. إذا أقر بقبض الثمن منه. والوكيل لا يرجع على الموكل بما ضمن من الثمن للمشتري؛ لأن الموكل لم يصدقه على قبض الثمن فإقرار الوكيل في حقه جائز ولا يجوز في حقه الرجوع على الموكل وله أن يحلف الموكل على العلم بقبض الوكيل. فإن نكل رجع عليه بما ضمن. ولو أقر الموكل بقبض الوكيل الثمن لكنه كذبه في الهلاك أو الدفع إليه, فإن الوكيل يرجع بما ضمن عليه؛ لأن يد وكيله كيده. ولو كان الوكيل لم يقر بقبض الثمن بنفسه, ولكنه أقر أن الموكل قبضه من المشتري لا يرجع المشتري على الوكيل؛ لأنه لم يقبض منه الثمن, ولا يرجع على الموكل أيضا؛ لأن إقرارهما على الموكل لا يجوز. ولو لم يستحق المبيع, ولكنه وجد به عيبا, كان له أن يخاصم الوكيل, فإذا رد عليه بقضاء القاضي, رجع عليه بالثمن إن أقر بقبض الثمن منه, وللوكيل أن يرجع على الموكل بما ضمن, إذا أقر الموكل بقبض الوكيل الثمن, ويكون المبيع للموكل. وإن لم يقر الموكل بقبض الوكيل الثمن, لا يرجع الوكيل بما ضمن على الموكل. وله أن يحلف الموكل على العلم بقبضه. فإن نكل رجع عليه, وإن حلف لا يرجع, ولكنه يبيع العبد فيستوفي ما ضمن من ثمن العبد فإن كان فيه فضل رده على الموكل, وإن كان فيه نقصان فلا يرجع بالنقصان على أحد ولو كان الوكيل لم يقر بقبض الثمن بنفسه, ولكنه أقر بقبض الموكل, لا يرجع المشتري بالثمن على الوكيل؛ لأنه لم يدفعه إليه ولا يرجع على الموكل أيضا لأنهما لا يصدقان عليه بالقبض وعلى الموكل اليمين على البتات فإن نكل رجع عليه والمبيع له. وإن حلف لا يرجع عليه بشيء ولكن المبيع يباع عليه. وذكر الطحاوي في الفصل الأول: أن الوكيل يبيعه في قولهما. وفي قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يبيعه وجعل هذا كبيع مال المديون المفلس. ولكن الوكيل لو باعه يجوز بيعه؛ لأنه لما رد عليه فسخا, عادت الوكالة. فإذا بيع العبد يستوفي المشتري الثمن منه إن أقر الوكيل بقبض الموكل ولم يقر بقبض نفسه, وإن أقر بقبض الثمن وضمن المشتري, يأخذ من الثمن مقدار ما غرم فإن كان فيه فضل رده على الموكل, وإن كان فيه نقصان لا يرجع على أحد. "ومنها": أن الوكيل بقضاء الدين إذا لم يدفع الموكل إليه مالا ليقضي دينه منه فقضاه من

 

ج / 6 ص -37-         مال نفسه, يرجع بما قضى على الموكل؛ لأن الآمر بقضاء الدين من مال غيره استقراض منه, والمقرض يرجع على المستقرض بما أقرضه. وكذلك الوكيل بالشراء من غير دفع الثمن إلى الوكيل توكيل بقضاء الدين وهو الثمن والوكيل بقضاء الدين: إذا قضى من مال نفسه, يرجع على الموكل. فكذا الوكيل بالشراء, وله أن يحبس المبيع؛ لاستيفاء الثمن من الموكل عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر: ليس له حبسه. "وجه" قوله أن المبيع أمانة في يد الوكيل, ألا ترى أنه لو هلك في يده فالهلاك على الموكل حتى لا يسقط الثمن عنه وليس للأمين حبس الأمانة بعد طلب أهلها, قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فصار كالوديعة. "ولنا" أنه عاقد وجب الثمن له على من وقع له حكم البيع ضمانا للمبيع, فكان له حق حبس المبيع؛ لاستيفاء الثمن, كالبائع مع المشتري وإذا طلب منه الموكل, فحبسه حتى هلك كان مضمونا عليه بلا خلاف بين أصحابنا. لكنهم اختلفوا في كيفية الضمان, قال أبو حنيفة ومحمد: يكون مضمونا ضمان البيع. وقال أبو يوسف: يكون مضمونا ضمان الرهن. وقال زفر: يكون مضمونا ضمان الغصب. "وجه" قول زفر ما ذكرنا أن المبيع أمانة في يده, والأمين لا يملك حبس الأمانة عن صاحبها, فإذا حبسها فقد صار غاصبا, والمغصوب مضمون بقدره من المثل أو بالقيمة بالغا ما بلغ. "وجه" قول أبي يوسف أن هذه عين محبوسة بدين يسقط بهلاكها فكانت مضمونة بالأقل من قيمتها ومن الدين كالرهن. "وجه" قولهما أن هذه عين محبوسة بدين هو ثمن, فكانت مضمونة ضمان البيع, كالمبيع في يد البائع, وكذلك الوكيل بالبيع؛ إذا باع, وسلم, وقبض الثمن, ثم استحق المبيع في يد المشتري؛ فإنه يرجع بالثمن على الوكيل؛ فيأخذ عينه إن كان قائما, ومثله أو قيمته إن كان هالكا, والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة: فنقول وبالله التوفيق: الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء "منها": عزل الموكل إياه ونهيه؛ لأن الوكالة عقد غير لازم, فكان محتملا للفسخ بالعزل والنهي ولصحة العزل شرطان: أحدهما علم الوكيل به؛ لأن العزل فسخ للعقد, فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به, كالفسخ فإذا عزله وهو حاضر انعزل, وكذا لو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل, فبلغه الكتاب, وعلم بما فيه, انعزل؛ لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر؛ وكذلك لو أرسل إليه رسولا, فبلغ الرسالة. وقال: إن فلانا أرسلني إليك, ويقول: إني عزلتك عن الوكالة, فإنه ينعزل كائنا ما كان الرسول عدلا كان أو غير عدل, حرا كان أو عبدا, صغيرا كان أو كبيرا, بعد أن بلغ الرسالة على الوجه الذي ذكرنا؛ لأن الرسول قائم مقام المرسل معبر وسفير عنه فتصح سفارته بعد أن صحت عبارته على أي صفة كان. وإن لم يكتب كتابا, ولا أرسل رسولا, ولكن أخبره بالعزل رجلان عدلان كانا أو غير عدلين أو رجل واحد عدل, ينعزل في قولهم جميعا, سواء صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق الخبر؛ لأن خبر الواحد مقبول في المعاملات. فإن لم يكن عدلا فخبر العدلين أو العدل أولى, وإن أخبره واحد غير عدل: فإن صدقه ينعزل بالإجماع, وإن كذبه لا ينعزل وإن ظهر صدق الخبر في قول أبي حنيفة. وعندهما ينعزل إذا ظهر صدق الخبر وإن كذبه. "وجه" قولهما أن الإخبار عن العزل من باب المعاملات, فلا يشترط فيه العدد, ولا العدالة كما في الإخبار في سائر المعاملات. "وجه" قول أبي حنيفة أن الإخبار عن العزل له شبه الشهادة؛ لأن فيه التزام حكم المخبر به وهو العزل, وهو لزوم الامتناع من التصرف, ولزوم العهدة فيما يتصرف فيه بعد العزل, فأشبه الشهادة؛ فيجب اعتبار أحد شروطها وهو العدالة أو العدد وعلى هذا الاختلاف: الشفيع إذا أخبره بالبيع واحد غير عدل فلم يصدقه, ولم يطلب الشفعة حتى ظهر عنده صدق الخبر فهو على شفعته عند أبي حنيفة وعندهما بطلت شفعته, وعلى هذا الاختلاف إذا جنى العبد جناية في بني آدم, ثم أخبر واحد غير عدل مولاه أن عبده قد جنى, فلم يصدقه حتى أعتقه, لا يصير المولى مختارا للفداء عند أبي حنيفة وعندهما: يصير مختارا للفداء. وعلى هذا الاختلاف: العبد المأذون إذا بلغه حجر المولى من غير عدل, فلم يصدقه لا يصير محجورا عنده, وعندهما: يصير محجورا. وإن عزله الموكل, وأشهد على عزله, وهو غائب, ولم يخبره بالعزل أحد, لا ينعزل, ويكون تصرفه قبل العلم بعد العزل كتصرفه قبل العزل في جميع الأحكام التي بيناها. وعن أبي يوسف: في الموكل: إذا عزل الوكيل ولم يعلم به, فباع الوكيل وقبض الثمن فهلك الثمن في يد الوكيل ومات

 

ج / 6 ص -38-         العبد قبل التسليم إلى المشتري, كان للمشتري أن يرجع بالثمن على الوكيل, ويرجع الوكيل على الموكل كما قبل العزل سواء؛ لأن العزل لم يصح لانعدام شرط صحته, وهو العلم. والثاني أن لا يتعلق بالوكالة حق الغير, فأما إذا تعلق بها حق الغير فلا يصح العزل بغير رضا صاحب الحق؛ لأن في العزل إبطال حقه من غير رضاه ولا سبيل إليه, وهو كمن رهن ماله عند رجل بدين له عليه أو وضعه على يدي عدل, وجعل المرتهن أو العدل مسلطا على بيعه, وقبض ثمنه عند حل الأجل, فعزل الراهن المسلط على البيع, لا يصح به عزله لما ذكرنا. وكذلك إذا وكل المدعى عليه وكيلا بالخصومة مع المدعي بالتماس المدعي, فعزله المدعى عليه بغير حضرة المدعي, لا ينعزل لما ذكرنا. واختلف المشايخ فيمن وكل رجلا بطلاق امرأته إن غاب ثم عزله الزوج من غير حضرة المرأة ثم غاب قال بعضهم: لا يصح عزله؛ لأنه تعلق بهذه الوكالة حق المرأة فأشبه الوكيل بالخصومة. وقال بعضهم: يصح عزله؛ لأنه غير مجبور على الطلاق ولا على التوكيل به وإنما فعله باختياره, فيملك عزله كما في سائر الوكالات. ولو وكل وكالة غير جائز الرجوع, يعني بالفارسية وكيلي دماركست, هل يملك عزله؟ اختلف المشايخ. قال بعضهم: إن كان ذلك في الطلاق, والعتاق لا يملك؛ لأنه لما وكله وكالة ثابتة غير جائز الرجوع عنها, فقد ألحق حكم هذا التوكيل بالأمر, ثم لو جعل أمر امرأته إلى رجل يطلقها متى شاء, أو أمر عبده إلى رجل يعتقه متى شاء لا يملك الرجوع عنه, وكذا إذا قال لرجل: طلق امرأتي إن شئت أو أعتق عبدي إن شئت لا يملك عزله, كذا هذا, وإن كان في البيع والشراء والإجارة والنكاح ونحوه يملك عزله, وقال بعضهم: إنه يملك العزل في الكل؛ لأن الوكالة ليست بلازمة, بل هي إباحة, وللمبيح حق المنع عن المباح. ولو قال وقت التوكيل: كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مستقبلة فعزله ينعزل, ولكنه يصير وكيلا ثانيا وكالة مستقبلة كما شرط؛ لأن تعليق الوكالة بالشرط جائز. ولو قال الموكل للوكيل: كنت وكلتك وقلت لك: كلما عزلتك فأنت وكيلي فيه وقد عزلتك عن ذلك كله لا يصير وكيلا بعد ذلك إلا بتوكيل جديد؛ لأن من علق التوكيل بشرط ثم عزله عن الوكالة قبل وجود الشرط ينعزل الوكيل, ولا يصير وكيلا بعد ذلك بوجود الشرط. وقال بعضهم في التوكيل المعلق: لا يملك العزل قبل وجود الشرط, ويكون الوكيل على وكالته بعد العزل وكالة مستقبلة, والأول أصح؛ لأنه لما ملك العزل في المرسل ففي المعلق أولى. "ومنها" موت الموكل؛ لأن التوكيل بأمر الموكل وقد بطلت أهلية الآمر بالموت فتبطل الوكالة علم الوكيل بموته أم لا "ومنها" جنونه جنونا مطبقا؛ لأن الجنون المطبق مبطل لأهلية الآمر. واختلف أبو يوسف ومحمد في حد الجنون المطبق فحده أبو يوسف بما يستوعب الشهر, ومحمد بما يستوعب الحول. "وجه" قول محمد أن المستوعب للحول هو المسقط للعبادات كلها فكان التقدير به أولى "وجه" قول أبي يوسف أن هذا القدر أدنى ما يسقط به عبادة الصوم, فكان التقدير به أولى. "ومنها": لحاقه بدار الحرب مرتدا عند أبي حنيفة, وعندهما لا يخرج به الوكيل عن الوكالة, بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده, فكانت وكالة الوكيل موقوفة أيضا, فإن أسلم الموكل نفذت. وإن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب, بطلت. وعندهما تصرفاته نافذة, فكذا الوكالة, وإن كان الموكل امرأة فارتدت, فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب إجماعا. لأن ردة المرأة لا تمنع نفاذ تصرفها؛ لأنها لا تؤثر فيما رتب عليه النفاذ وهو الملك. "ومنها" عجز الموكل والحجر عليه بأن وكل المكاتب رجلا, فعجز الموكل, وكذا إذا وكل المأذون إنسانا, فحجر عليه؛ لأنه بالعجز والحجر عليه بطلت أهلية آمره بالتصرف في المال فيبطل الأمر, فتبطل الوكالة. "ومنها" موت الوكيل لأن الموت مبطل لأهلية التصرف "ومنها" جنونه المطبق لما ذكرنا, وإن لحق بدار الحرب مرتدا, لم يجز له التصرف إلا أن يعود مسلما؛ لأن أمره قبل الحكم بلحاقه بدار الحرب كان موقوفا فإن عاد مسلما زال التوقف, وصار كأنه لم يرتد أصلا. وإن حكم بلحاقه بدار الحرب ثم عاد مسلما هل تعود الوكالة؟ قال أبو يوسف: لا تعود. وقال محمد تعود. "وجه" قوله أن نفس الردة لا تنافي الوكالة, ألا ترى أنها لا تبطل قبل لحاقه بدار الحرب؟ إلا أنه لم يجز تصرفه في دار الحرب؛ لتعذر التنفيذ لاختلاف الدارين. فإذا عاد زال المانع, فيجوز, ونظيره من وكل رجلا ببيع عبد بالكوفة, فلم يبعه فيها حتى خرج إلى البصرة, لا يملك بيعه بالبصرة, ثم إذا عاد إلى الكوفة ملك بيعه فيها, كذا هذا. "وجه"

 

ج / 6 ص -39-         قول أبي يوسف أن الوكالة عقد, حكم ببطلانه بلحاقه بدار الحرب, فلا يحتمل العود كالنكاح. "وأما" الموكل إذا ارتد ولحق بدار الحرب, ثم عاد مسلما, لا تعود الوكالة في ظاهر الرواية. وروي عن محمد أنها تعود: ووجهه: أن بطلان الوكالة لبطلان ملك الموكل, فإذا عاد مسلما, عاد ملكه الأول, فيعود بحقوقه. "وجه" ظاهر الرواية أن لحوقه بدار الحرب بمنزلة الموت. ولو مات لا يحتمل العود فكذا إذا لحق بدار الحرب. "ومنها": أن يتصرف الموكل بنفسه فيما وكل به قبل تصرف الوكيل نحو ما إذا وكله ببيع عبده, فباعه الموكل أو أعتقه أو دبره أو كاتبه أو وهبه وكذا إذا استحق أو كان حر الأصل. لأن الوكيل عجز عن التصرف؛ لزوال ملك الموكل؛ فينتهي حكم الوكالة. كما إذا هلك العبد ولو باعه الموكل بنفسه, ثم رد عليه بعيب بقضاء, هل تعود الوكالة كما إذا هلك العبد؟ قال أبو يوسف: لا تعود. وقال محمد: تعود؛ لأن العائد بالفسخ عين الملك الأول, فيعود بحقوقه. "وجه" قول أبي يوسف: أن تصرف الموكل نفسه يتضمن عزل الوكيل؛ لأنه أعجزه عن التصرف فيما وكله به والوكيل بعد ما انعزل لا يعود وكيلا, إلا بتجديد التوكيل. ولو وكله أن يهب عبده, فوهبه الموكل بنفسه, ثم رجع في هبته, لا تعود الوكالة؛ حتى لا يملك الوكيل أن يهبه. فمحمد يحتاج إلى الفرق بين البيع وبين الهبة: "ووجه" الفرق له لم يتضح. وكذلك لو وكله بشراء شيء, ثم اشتراه بنفسه, وكذا إذا وكله بتزويج امرأة, فتزوجها؛ لأنه عجز عن تزويجها منه, فبطلت الوكالة. وكذا إذا وكله بعتق عبده أو بالتدبير أو بالكتابة أو الهبة ففعل بنفسه لما قلنا. وكذا إذا وكله بخلع امرأته. ثم خلعها؛ لأن المختلعة لا تحتمل الخلع. وكذا إذا وكله بطلاق امرأته, فطلقها بنفسه ثلاثا أو واحدة وانقضت عدتها؛ لأنها لا تحتمل الطلاق بعد الثلاث وانقضاء العدة حتى لو طلقها الزوج واحدة, والعدة باقية فالوكالة قائمة؛ لأنها تحتمل الطلاق في العدة. ولو وكله بالكتابة فكاتبه, ثم عجز لم يكن له أن يكاتبه مرة ثانية. وكذا لو وكله أن يزوجه امرأة, فزوجه, وأبانها, لم يكن للوكيل أن يزوجه مرة أخرى؛ لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار, فإذا فعل مرة حصل الامتثال, فانتهى حكم الآمر كما في الأوامر الشرعية بخلاف ما لو وكله ببيع عبده فباعه الوكيل, ثم رد عليه بقضاء قاض, أن له أن يبيعه ثانيا؛ لأن الرد بقضاء القاضي يوجب ارتفاع العقد من الأصل, ويجعله كأن لم يكن, فلم يكن هذا تكرارا. حتى لو رده عليه بغير قضاء قاض, لم يجز له أن يبيعه؛ لأن هذا بيع جديد وقد انتهت الوكالة بالأول فلا يملك الثاني إلا بتجديد التوكيل. "ومنها": هلاك العبد الذي وكل ببيعه أو بإعتاقه أو بهبته أو بتدبيره أو بكتابته, أو نحو ذلك؛ لأن التصرف في المحل لا يتصور بعد هلاكه. والوكالة بالتصرف فيما لا يحتمل التصرف محال, فبطل ثم هذه الأشياء التي ذكرنا له أن يخرج بها الوكيل من الوكالة سوى العزل والنهي, لا يفترق الحال فيها بين ما إذا علم الوكيل أو لم يعلم في حق الخروج عن الوكالة, لكن تقع المفارقة فيما بين البعض والبعض من وجه آخر, وهو أن الموكل إذا باع العبد الموكل ببيعه بنفسه, ولم يعلم به الوكيل, فباعه الوكيل, وقبض الثمن, فهلك الثمن في يده, ومات العبد قبل التسليم إلى المشتري, ورجع المشتري على الوكيل بالثمن, رجع الوكيل على الموكل. وكذا لو دبره أو أعتقه, أو استحق أو كان حر الأصل. وفيما إذا مات الموكل أو جن أو هلك العبد الذي وكل ببيعه ونحوه لا يرجع الوكيل. والفرق: أن الوكيل هناك وإن صار معزولا بتصرف الموكل لكنه صار مغرورا من جهته بترك إعلامه إياه, فصار كفيلا له بما يلحقه من الضمان؛ فيرجع عليه بضمان الكفالة؛ إذ ضمان الغرور في الحقيقة ضمان الكفالة ومعنى الغرور لا يتقدر في الموت وهلاك العبد والجنون وأخواتها, فهو الفرق ولو وكله بقبض دين له على رجل, ثم إن الموكل وهب المال للذي عليه الدين, والوكيل لا يعلم بذلك فقبض الوكيل المال, فهلك في يده كان لدافع الدين أن يأخذ به الموكل, ولا ضمان على الوكيل؛ لأن يد الوكيل يد نيابة عن الموكل؛ لأنه قبضه بأمره. وقبض النائب كقبض المنوب عنه, فكأنه قبضه بنفسه بعد ما وهبه منه. ولو كان كذلك لرجع عليه فكذا هذا والله عز وجل أعلم.