بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الصلح"
 الكلام في كتاب الصلح يقع في مواضع في بيان أنواع الصلح, وفي بيان شرعية كل نوع, وفي بيان ركن الصلح, وفي

 

ج / 6 ص -40-         بيان شرائط الركن, وفي بيان حكم الصلح, وفي بيان ما يبطل به عقد الصلح بعد وجوده, وفي بيان حكمه إذا بطل, أو لم يصح من الأصل "أما" الأول فنقول وبالله التوفيق. الصلح في الأصل أنواع ثلاثة: صلح عن إقرار المدعى عليه, وصلح عن إنكاره, وصلح عن سكوته من غير إقرار, ولا إنكار, وكل نوع من ذلك لا يخلو إما أن يكون بين المدعي, والمدعى عليه وإما أن يكون بين المدعي, والأجنبي المتوسط فإن كان بين المدعي والمدعى عليه فكل واحد من الأنواع الثلاثة مشروع عند أصحابنا, وقال ابن أبي ليلى: المشروع هو الصلح عن إقرار وسكوت لا غيرهما, وقال الشافعي: رحمه الله أما المشروع هو الصلح عن إقرار لا غير. "وجه" قول الشافعي رحمه الله أن جواز الصلح يستدعي حقا ثابتا, ولم يوجد في موضع الإنكار والسكوت أما في الإنكار؛ فلأن الحق لو ثبت فإنما يثبت بالدعوى, وقد عارضها الإنكار, فلا يثبت الحق عند التعارض, فأما في السكوت فلأن الساكت ينزل منكرا حكما حتى تسمع عليه البينة فكان إنكاره معارضا لدعوى المدعي فلم يثبت الحق. ولو بذل المال لبذله لدفع خصومة باطلة فكان في معنى الرشوة "ولنا" ظاهر قوله تعالى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}, وصف الله تعالى عز شأنه جنس الصلح بالخيرية, ومعلوم أن الباطل لا يوصف بالخيرية, فكان كل صلح مشروعا بظاهر هذا النص إلا ما خص بدليل, وعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا, فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن أمر رضي الله عنه برد الخصوم إلى الصلح مطلقا, وكان ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم, ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعا من الصحابة فيكون حجة قاطعة؛ ولأن الصلح شرع للحاجة إلى قطع الخصومة, والمنازعة والحاجة إلى قطعها في التحقيق عند الإنكار إذ الإقرار مسالمة, ومساعدة, فكان أولى بالجواز, ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: أجوز ما يكون الصلح على الإنكار, وقال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي: رحمه الله ما صنع الشيطان من إيقاع العداوة والبغضاء في بني آدم ما صنع الشافعي رحمه الله في إنكاره الصلح على الإنكار, وقوله أن الحق ليس بثابت قلنا هذا على الإطلاق ممنوع, بل الحق ثابت في زعم المدعي, وحق الخصومة واليمين ثابتان له شرعا فكان هذا صلحا عن حق ثابت فكان مشروعا.
"فصل": وأما ركن الصلح. فالإيجاب والقبول وهو أن يقول المدعى عليه: صالحتك من كذا على كذا, أو من دعواك كذا على كذا, ويقول الآخر: قبلت, أو رضيت, أو ما يدل على قبوله ورضاه, فإذا وجد الإيجاب والقبول, فقد تم عقد الصلح.

"فصل": وأما شرائط الركن. فأنواع بعضها يرجع إلى المصالح, وبعضها يرجع إلى المصالح عليه, وبعضها يرجع إلى المصالح عنه. "أما". الذي يرجع إلى المصالح. فأنواع: "منها" أن يكون عاقلا, وهذا شرط عام في جميع التصرفات كلها فلا يصح صلح المجنون والصبي الذي لا يعقل لانعدام أهلية التصرف بانعدام العقل. "فأما" البلوغ, فليس بشرط حتى يصح صلح الصبي في الجملة, وهو الصبي المأذون إذا كان له فيه نفع, أو لا يكون له فيه ضرر ظاهر بيان ذلك إذا وجب للصبي المأذون على إنسان دين, فصالحه على بعض حقه فإن لم يكن له عليه بينة جاز الصلح؛ لأن عند انعدام البينة لا حق له إلا الخصومة, والحلف والمال أنفع له منهما, وإن كان له عليه بينة لا يجوز الصلح؛ لأن الحط تبرع, وهو لا يملك التبرعات. ولو أخر الدين جاز سواء كانت له بينة, أو لا فرقا بينه وبين الصلح؛ لأن تأخير الدين من أعمال التجارة, والصبي المأذون في التجارات كالبالغ ألا ترى أنه يملك التأجيل في نفس العقد بأن يبيع بأجل, فيملكه متأخرا عن العقد أيضا بخلاف الحط؛ لأنه ليس من التجارة, بل هو تبرع فلا يملكه إلا أنه يملك حط بعض الثمن لأجل العيب؛ لأن حط بعض الثمن للعيب قد يكون أنفع من أخذ المبيع المعيب فكان ذلك من باب التجارة, فيملكه ولو صالح الصبي المأذون من المسلم فيه على رأس المال جاز؛ لأن الصلح من المسلم فيه على رأس المال إقالة للعقد والإقالة من باب التجارة, وكذلك لو اشترى سلعة وظهر بها عيب فصالح البائع على أن قبلها جاز؛ لأن الثمن أنفع من المبيع المعيب عادة. ولو صالحه البائع, فحط عنه بعض الثمن لا شك فيه أنه يجوز؛ لأن الحط من البائع تبرع منه على الصبي, فيصح. ولو ادعى إنسان

 

ج / 6 ص -41-         عليه دينا فأقر به, فصالحه على أن حط عنه البعض جاز؛ لأن إقرار الصبي المأذون بالدين صحيح, فكان الصلح تبرعا على الصبي بحط بعض الحق الواجب عليه, والصبي من أهل أن يتبرع عليه, فيصح. وكذلك حرية المصالح ليست بشرط لصحة الصلح, حتى يصح صلح العبد المأذون إذا كان له فيه منفعة, أو كان من التجارة إلا أنه لا يملك الصلح على حط بعض الحق إذا كان له عليه بينة, ويملك التأجيل كيف ما كان, ويملك حط بعض الثمن لأجل العيب لما قلنا. ولو صالحه البائع على حط بعض الثمن جاز لما ذكرنا في الصبي المأذون, وكذلك لو ادعى على إنسان دينا, وهو مأذون فأقر به, ثم صالحه على أن حط بعضه جاز؛ لأن إقرار العبد المأذون بالدين صحيح فكان الحط من المدعي تبرعا على العبد ببعض الدين فيصح. ولو حجر عليه المولى, ثم ادعى إنسان عليه دينا, فأقر به, وهو محجور, ثم صالحه عنه على مال ضمنه بإقراره فإن لم يكن في يده مال لا ينفذ الصلح؛ لأن إقرار المحجور لا ينفذ إذا لم يكن في يده مال وإذا لم ينفذ لم ينفذ الصلح فلا يطالب به للحال ولكن يطالب به بعد العتق لأن إقراره من نفسه صحيح لصدوره من أهله إلا أنه إذا لم يظهر في حق المولى للحال لمانع, وهو حق المولى, فإذا عتق زال المانع فيظهر حينئذ. وأما إذا كان في يده مال فيجوز إقراره عند أبي حنيفة, وعندهما لا يجوز. "وجه" قولهما أن هذا إقرار المحجور لبطلان الإذن بالحجر, وإقرار المحجور غير صحيح. "وجه" قول أبي حنيفة أن إقرار المحجور إذا كان في يده مال صحيح؛ لأن العبد المحجور من أهل الإقرار, وإنما المانع من ظهوره حق المولى فإذا كانت يده ثابتة على هذا المال منع ظهور حق المولى لأنه يحتمل أن يكون صادقا في إقراره فيمنع ظهور حق المولى فيه, ويحتمل أن يكون كاذبا فلا يظهر, فلا تبطل يده الثابتة عليه بالشك بخلاف ما إذا لم يكن في يده مال؛ لأن يد المولى ثابتة حقيقة, والإقرار في نفسه محتمل فلا يوجب بطلان يده الثابتة حقيقة مع الشك والاحتمال, وكذلك المكاتب نظير العبد المأذون في جميع ما ذكرنا؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عجز المكاتب, فادعى رجل عليه دينا, فاصطلحا على أن يأخذ بعضه, ويؤخر بعضه فإن لم يكن له عليه بينة لا يجوز؛ لأنه لما عجز, فقد صار محجورا عن التصرف, فلا يصح صلحه, وإن كانت له عليه بينة جاز؛ لأنه, وإن عجز, فالخصم في ديونه هو فيملك التصرف فيها لحط البعض بالصلح. "ومنها" أن لا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضرا به مضرة ظاهرة حتى أن من ادعى على صبي دينا فصالح أب الوصي من دعواه على مال الصبي الصغير, فإن كان للمدعي بينة, وما أعطى من المال مثل الحق المدعى, أو زيادة يتغابن في مثلها, فالصلح جائز؛ لأن الصلح في هذه الصورة لمعنى المعاوضة لإمكان الوصول إلى كل الحق بالبينة, والأب يملك المعاوضة من مال الصغير بالغبن اليسير, وإن لم تكن له بينة لا يجوز؛ لأن عند انعدام البينة يقع الصلح تبرعا بمال الصغير, وأنه ضرر محض, فلا يملكه الأب. ولو صالح من مال نفسه جاز؛ لأنه ما أضر بالصغير, بل نفعه حيث قطع الخصومة عنه. ولو ادعى أبو الصغير على إنسان دينا للصغير فصالح على أن حط بعضه, وأخذ الباقي فإن كان له عليه بينة؛ لا يجوز؛ لأن الحط منه تبرع من ماله, وهو لا يملك ذلك, وإن صالحه على مثل قيمة ذلك الشيء أو نقص منه شيئا يسيرا جاز؛ لأن الصلح في هذه الصورة بمعنى البيع, وهو يملك البيع فيملك الصلح, وهل يملك الأب الحط من دين وجب للصغير, والإبراء عنه هذا لا يخلو من أحد وجهين: "إما" إن كان ولي ذلك العقد بنفسه "وإما" إن لم يكن وليه فإن لم يكن وليه لا يجوز بالإجماع؛ لأن الحط, والإبراء من باب التبرع, والأب لا يملك التبرع؛ لكونه مضرة محضة, وإن كان وليه بنفسه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يجوز وهذا على اختلافهم في الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن, أو حط بعضه, وقد ذكرناه في كتاب الوكالة, ولا يجوز صلح أحد على حمل أيا كان المصالح أو غيره, وإن خرج حيا بعد ذلك وورث وجازت الوصايا؛ لأنه لو صح عليه؛ لكان لا يخلو إما أن يصح على اعتبار الحال, وإما أن يصح على اعتبار الانفصال لا سبيل إلى الأول؛ لأن الصلح عليه من باب تنفيذ الولاية, وهو للحال لا يوصف بكونه موليا عليه, ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن الصلح لا يحتمل الإضافة إلى الوقت, ويملك الأب استيفاء القصاص في النفس وما دونها, ولا يملك الوصي استيفاء القصاص في النفس. والفرق أن استيفاء القصاص تصرف

 

ج / 6 ص -42-         على نفس الصغير بالإحياء, وتحصيل التشفي قال الله تعالى عز شأنه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}, وكذا منفعة التشفي راجعة إلى نفسه, وللأب, ولاية على نفس الصغير, ولا ولاية للوصي عليها, ولهذا ملك إنكاحه دون الوصي إلا أنه يملك القصاص فيما دون النفس؛ لأن ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال لشبهه بالأموال ألا ترى أن القصاص لا يجري بين طرف الحر والعبد, ولا بين طرف الذكر, والأنثى مع جريان القصاص بينهم في الأنفس, ويستوفى القصاص فيما دون النفس في الحر كما يستوفى في سائر الحقوق المالية فيه, ولا يستوفى القصاص في النفس فيه, ويقضى بالنكول في الأطراف, كما يقضى به في الأموال عند أبي حنيفة, ولا يقضى به في الأنفس, وله ولاية التصرف في الحال, والمآل فيلي التصرف فيما دون النفس, ويملك الأب الصلح عن القصاص في النفس, وما دونه؛ لأنه لما ملك الاستيفاء, فلأن يملك الصلح أولى؛ لأنه أنفع من الاستيفاء, وكذا الوصي يملك الصلح عن القصاص فيما دون النفس؛ لأنه يملك الاستيفاء فيما دون النفس, فكذا الصلح عنه؛ لأنه أنفع, وهل يملك الصلح عن القصاص في النفس ذكر في كتاب الصلح أنه لا يملك, وذكر في الجامع الصغير أنه يملك, وكذا روى القدوري رحمه الله فعلى رواية الجامع يحتاج إلى الفرق بين الاستيفاء وبين الصلح. "ووجه" الفرق بينهما ظاهر لما ذكرنا أن القصاص تصرف في النفس بتحصيل الحياة, والتشفي, ولا ولاية له على نفسه فلا يملك الاستيفاء, فأما الصلح فتصرف في المال وله ولاية التصرف في المال, وأنه فرق واضح. "وجه" رواية الصلح أن الصلح اعتياض عن القصاص فإذا لم يملك القصاص, فكيف يملك الاعتياض عنه؟ ولو صالح الأب أو الوصي على أقل من الدية في الخطإ, وشبه العمد لا يجوز؛ لأن الحط تبرع, وهما لا يملكان التبرع بمال اليتيم, والحط القليل والكثير سواء بخلاف الغبن اليسير في البيع أنهما يملكانه, والفرق أن الحط نقصان متحقق؛ لأن الدية مقدرة بمقدار معلوم فالنقصان عنه متحقق وإن قل والنقصان في البيع غير متحقق؛ لأن العوض فيه غير مقدر لاختلافه بتقويم المقومين فإذا لم يتقدر العوض لا يتحقق النقصان. "ومنها" أن يكون المصالح عن الصغير ممن يملك التصرف في ماله كالأب والجد والوصي؛ لأن الصلح تصرف في المال, فيختص بمن يملك التصرف فيه. "ومنها" أن لا يكون مرتدا عند أبي حنيفة, وعندهما صلحه نافذ بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده, وعندهما نافذة لكن عند محمد نفاذ تصرف المريض, وعند أبي يوسف نفاذ تصرف من عليه القصاص في النفس, والمسألة تعرف في موضعها إن شاء الله تعالى. وأما المرتدة فصلحها جائز بلا خلاف؛ لأن حكمها حكم الحربية إلا أنها إذا التحقت بدار الحرب, وقضى القاضي بذلك بطل بعضه دون بعض كصلح الحربية لثبوت أحكام أهل الحرب في حقها بالتحاقها بدار الحرب.

"فصل": وأما الشرائط التي ترجع إلى المصالح عليه. فأنواع: "منها" أن يكون مالا فلا يصح الصلح على الخمر والميتة والدم وصيد الإحرام والحرم وكل ما ليس بمال؛ لأن في الصلح معنى المعاوضة فما لا يصلح عوضا في البياعات لا يصلح بدل الصلح, وكذا إذا صالح على عبد, فإذا هو حر؛ لا يصح الصلح؛ لأنه تبين أن الصلح لم يصادف محله, وسواء كان المال عينا أو دينا, أو منفعة ليست بعين ولا دين؛ لأن العوض في المعاوضات المطلقة قد يكون عينا, وقد يكون دينا, وقد يكون منفعة إلا أنه يشترط القبض في بعض الأعواض في بعض الأحوال دون بعض, وجملة الكلام فيه أن المدعى لا يخلو من أحد وجوه "إما" أن يكون عينا, وهو ما يحتمل التعيين مطلقا جنسا ونوعا وقدرا وصفة واستحقاقا كالعروض من الثياب والعقار من الأرضين والدور والحيوان من العبيد والدواب والمكيل من الحنطة والشعير والموزون من الصفر والحديد "وإما" أن يكون دينا, وهو ما لا يحتمل التعيين من الدراهم, والدنانير والمكيل الموصوف في الذمة والموزون الموصوف سوى الدراهم, والدنانير والثياب الموصوفة والحيوان الموصوف "وإما" أن يكون منفعة "وإما" أن يكون حقا ليس بعين, ولا دين, ولا منفعة, وبدل الصلح لا يخلو من أن يكون عينا أو دينا أو منفعة والصلح لا يخلو من أن يكون عن إقرار المدعى عليه, أو عن إنكاره, أو عن سكوته, فإن كان المدعى عينا فصالح منها عن إقرار يجوز سواء كان بدل الصلح عينا, أو دينا بعد أن كان معلوم القدر والصفة إلا الحيوان, وإلا الثياب إلا بجميع شرائط

 

ج / 6 ص -43-         السلم؛ لأن هذا الصلح من الجانبين جميعا في معنى البيع فكان بدل الصلح في معنى الثمن, وهذه الأشياء تصلح ثمنا في البياعات عينا كانت, أو دينا إلا الحيوان؛ لأنه يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال أصلا, والثياب لا يثبت دينا في الذمة إلا بشرائط السلم من بيان القدر, والوصف والأجل, والمكيل والموزون يثبتان في الذمة مطلقا في المعاوضة المطلقة من غير أجل, ولا يشترط قبضه في المجلس؛ لأنه ليس بصرف ولا في ترك قبضه افتراق عن دين بدين, بل هو افتراق عن عين بعين, أو عين بدين, وكل ذلك جائز, وإن كان دينا فإن كان دراهم أو دنانير, فصالح منها لا يخلو من أحد وجهين "إما" إن صالح منها على خلاف جنسها, أو على جنسها, فإن صالح منها على خلاف جنسها فإن صالح منها على عين جاز؛ لأن الصلح عليها في معنى بيع الدين بالعين, وأنه جائز, ولا يشترط القبض, وإن صالح منها على دين سواه؛ لا يجوز؛ لأنه بائع ما ليس عنده؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان أبدا, وما وقع عليه الصلح مبيع فالصلح في هذه الصورة يقع بيع ما ليس عند البائع, وأنه منهي عنه, وإن صالح منها على جنسها, فإن صالح من دراهم على دراهم فهذا لا يخلو من ثلاثة, أوجه. "إما" أن صالح على مثل حقه "وإما" أن صالح على أقل من حقه. "وإما" أن صالح على أكثر من حقه, فإن صالح على مثل حقه قدرا أو وصفا بأن صالح من ألف جياد على ألف جياد, فلا شك في جوازه, ولا يشترط القبض؛ لأن هذا استيفاء عين حقه أصلا ووصفا. ولو صالح على أقل من حقه قدرا ووصفا بأن صالح من الألف الجياد على خمسمائة نبهرجة يجوز أيضا, ويحمل على استيفاء بعض عين الحق أصلا والإبراء عن الباقي أصلا ووصفا؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد ما أمكن. ولو حمل على المعاوضة؛ يؤدى إلى الربا؛ لأنه يصير بائعا ألفا بخمسمائة, وأنه ربا, فيحمل على استيفاء بعض الحق, والإبراء عن الباقي, ولا يشترط القبض, ويجوز مؤجلا؛ لأن جوازه ليس بطريق المعاوضة؛ ليكون صرفا, وكذلك إن صالح على أقل من حقه, وصفا لا قدرا بأن صالح عن ألف جياد على ألف نبهرجة, أو صالح على أقل من حقه قدرا لا وصفا, بأن صالح من ألف جياد على خمسمائة جيدة يجوز, ويحمل على استيفاء البعض, والحط والإبراء والتجوز بدون الحق أصلا ووصفا؛ يجوز من غير قبض ومؤجلا. ولو صالح على أكثر من حقه قدرا ووصفا بأن صالح من ألف نبهرجة على ألف وخمسمائة جياد, أو صالح على أكثر من حقه قدرا لا وصفا بأن صالح من ألف جياد على ألف وخمسمائة نبهرجة لا يجوز؛ لأنه ربا؛ لأنه يحمله على المعاوضة هنا لتعذر حمله على استيفاء البعض وإسقاط الباقي, وإن صالح على أكثر من حقه وصفا لا قدرا بأن صالح من ألف نبهرجة على ألف جياد جاز, ويشترط الحلول, أو التقابض حتى لو كان الصلح مؤجلا إن لم يقبض في المجلس يبطل؛ لأنه صرف. "وأما" إذا صالح على أكثر من حقه وصفا, وأقل منه قدرا بأن صالح من ألف نبهرجة على خمسمائة جياد لا يجوز عند أبي حنيفة, ومحمد, وهو قول أبي يوسف الآخر, وكان يقول أولا: يجوز, ثم رجع "وجه" قوله الأول أن هذا حط بعض حقه, وهو خمسمائة نبهرجة, فيبقى عليه خمسمائة نبهرجة إلا أنه أحسن في القضاء بخمسمائة جيدة فلا يمنع عنه حتى أنه لو امتنع؛ لا يكون عليه إلا خمسمائة نبهرجة. "وجه" ظاهر الرواية أن الصلح من الألف النبهرجة على الخمسمائة الجيدة اعتياض عن صفة الجودة, وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها لقوله عليه الصلاة والسلام "جيدها, ورديئها سواء" فلا يصح الاعتياض عنها لسقوط قيمتها شرعا, والساقط شرعا, والعدم الأصلي سواء؛ ولأن الصلح على هذا الوجه لا يخلو إما أن يجعل استيفاء لعين الحق, أو يجعل معاوضة لا سبيل إلى الأول؛ لأن حقه في الرديء لا في الجيد, فيحمل على المعاوضة فيصير بائعا ألفا نبهرجة بخمسمائة جيدة فيكون ربا, وكذلك حكم الدنانير, والصلح منها على دنانير كحكم الدراهم في جميع ما ذكرنا. ولو صالح من دراهم على دنانير, أو من دنانير على دراهم؛ جاز, ويشترط القبض في المجلس؛ لأنه صرف. ولو ادعى ألف درهم, ومائة دينار, فصالحه على مائة درهم إلى شهر؛ جاز, وطريق جوازه بأن يجعل حطا لا معاوضة؛ لأنه لو جعل معاوضة؛ لبطل؛ لأنه يصير بعض المائة عوضا عن الدنانير, والبعض عوضا عن الدراهم, فيصير بائعا تسعمائة بخمسين, فيكون ربا, وأمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد ما أمكن, وأمكن أن يجعل حطا للدنانير أصلا, وبعض الدراهم

 

ج / 6 ص -44-         وذلك تسعمائة, وتأجيل البعض, وذلك مائة إلى شهر, وكذلك لو كان عليه ألف درهم وكر, فصالحه على مائة جاز, وطريق جوازه أن يجعل حطا وإسقاطا للكر لا معاوضة؛ لأن استبدال المسلم فيه لا يجوز. ولو كان المالان عليه لرجلين لأحدهما دراهم والآخر دنانير فصالحه على مائة درهم جاز, وطريقة جوازه أن يعتبر معاوضة في حق أحدهما وحطا, وإسقاطا في حق الآخر, وذلك أن يقسم بدل الصلح على قدر قيمة دينهما من الدراهم, والدنانير, فالقدر الذي أصاب الدنانير يكون عوضا عنها فيكون صرفا, فيراعى فيه شرائط الصرف, فيشترط القبض في المجلس والقدر الذي أصاب الدراهم لا يجوز أن يجعل عوضا؛ لأنه يؤدي إلى الربا, فيجعل الصلح في حقه استيفاء لبعض الحق وإبراء عن الباقي, والأصل أن الصلح متى وقع على أقل من جنس حقه من الدراهم, والدنانير يعتبر استيفاء لبعض الحق وإبراء عن الباقي, ومتى وقع على أكثر من جنس حقه منها, أو وقع على جنس آخر من الدين, والعين يعتبر معاوضة؛ لأنه لا يمكن حمله على استيفاء عين الحق, والإبراء عن الباقي؛ لأن استيفاء عين الحق من جنسه يكون, ولم يوجد فيعتبر معاوضة فما جازت به المعاوضات يجوز هذا, وما فسدت به تلك؛ يفسد به هذا, وقد ذكرنا بعض مسائل هذا الأصل, وعلى هذا إذا صالح من ألف حالة على ألف مؤجلة؛ جاز, ويعتبر حطا للحلول, وتأجيلا للدين, وتجوزا بدون من حقه لا معاوضة. ولو صالح من ألف حالة على خمسمائة قد ذكرنا أنه يجوز, ويعتبر استيفاء لبعض حقه وإبراء عن الباقي. وأما إذا صالح على خمسمائة أن يعطيها إياه فهذا لا يخلو من أحد وجهين "إما" إن وقت لأداء الخمسمائة وقتا "وإما" إن لم يوقت فإن لم يوقت فالصلح جائز, ويكون حطا للخمسمائة؛ لأن هذا الشرط لا يفيد شيئا لم يكن من قبل ألا ترى أنه لو لم يذكر للزمه الإعطاء, فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة, وكذلك الحط على هذا بأن قال للغريم حططت عنك خمسمائة على أن تعطيني خمسمائة لما بينا, وإن وقت بأن قال: صالحتك على خمسمائة على أن تعطينيها اليوم, أو على أن تعجلها اليوم فأما إن اقتصر على هذا القدر, ولم ينص على شرط العدم. وأما إن نص عليه فقال: فإن لم تعطني اليوم, أو إن لم تعجل اليوم, أو على أن تعجلها اليوم, فالألف عليك فإن نص عليه فإن أعطاه, وعجلت في اليوم, فالصلح ماض, وبرئ عن خمسمائة, وإن لم يعطه حتى مضى اليوم, فالألف عليه بلا خلاف, وكذلك الحط على هذا. "وأما" إذا اقتصر عليه, ولم ينص على شرط العدم فإن أعطاه في اليوم برئ عن خمسمائة بالإجماع, وأما إذا لم يعطه حتى مضى اليوم بطل الصلح, والألف عليه عند أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف الصلح ماض, وعليه خمسمائة فقط. "وجه" قوله أن شرط التعجيل ما أفاده شيئا لم يكن من قبل؛ لأن التعجيل كان واجبا عليه بحكم العقد فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة. ولو سكت عنه؛ لكان الأمر على ما وصفنا, فكذا هذا بخلاف ما إذا قال: فإن لم نفعل فكذا؛ لأن التنصيص على عدم الشرط نفي للمشروط عند عدمه فكان مفيدا. "وجه" قولهما أن شرط التعجيل في هذه الصورة شرط انفساخ العقد عند عدمه بدلالة حال تصرف العاقل؛ لأن العاقل يقصد بتصرفه الإفادة دون اللغو واللعب والعبث. ولو حمل المذكور على ظاهر شرط التعجيل للغا؛ لأن التعجيل ثابت بدونه فيجعل ذكر شرط التعجيل ظاهرا شرطا لانفساخ العقد عند عدم التعجيل فصار كأنه نص على هذا الشرط, فقال, فإن لم تعجل فلا صلح بيننا. ولو كان كذلك؛ لكان الأمر على ما نص عليه فكذا هذا, وتبين بهذا أن هذا تعليق الفسخ بالشرط لا تعليق العقد, كما إذا باع بألف على أن ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فإن لم ينقده فلا بيع بينهما, وذلك جائز لدخول الشرط على الفسخ لا على العقد فكذا هذا, وكذلك لو أخذ منه كفيلا, وشرط على الكفيل أنه إن لم يوفه خمسمائة إلى رأس الشهر فعليه كل المال, وهو الألف فهو جائز, والألف لازمة للكفيل إن لم يوفه؛ لأنه جعل عدم إيفاء الخمسمائة إلى رأس الشهر شرطا للكفالة بألف فإذا وجد الشرط ثبت المشروط. ولو ضمن الكفيل الألف, ثم قال: حططت عنك خمسمائة على أن توفيني رأس الشهر خمسمائة فإن لم تفعل فالألف عليك فهذا أوثق من الباب الأول؛ لأن هذا هنا علق الحط بشرط التعجيل, وهو إيفاء الخمسمائة رأس الشهر, وجعل عدم هذا الشرط شرطا لانفساخ الحط, وفي الباب الأول جعل عدم التعجيل شرطا للعقد, وهو الكفالة بالألف, والفسخ للشرط أقبل من العقد لذلك كان الثاني

 

ج / 6 ص -45-         أوثق من الأول, وكذلك لو جعل المال نجوما بكفيل, أو بغير كفيل, وشرط أنه إن لم يوفه كل نجم عند محله, فالمال حال عليه فهو جائز على ما شرط؛ لأنه جعل الإخلال بنجم شرطا لحلول كل المال عليه, وأنه صحيح. ولو كان له عليه ألف فقال: أد إلي من الألف خمسمائة غدا على أنك بريء من الباقي فإن أدى إليه خمسمائة غدا يبرأ من الباقي إجماعا, وإن لم يؤد, فعليه الألف عند أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف ليس عليه إلا خمسمائة, وقد مرت المسألة. ولو قال: إن أديت إلي خمسمائة فأنت بريء من الباقي, أو قال: متى أديت فأد إليه خمسمائة لا يبرأ عن الخمسمائة الباقية حتى يبرئه, وكذلك إذا قال لمكاتبه ذلك فأدى خمسمائة لا يبرأ عن الباقي حتى يبرئه؛ لأن هذا تعليق البراءة بالشرط, وأنه باطل بخلاف ما إذا كان بلفظ الصلح أو الحط أو الأمر؛ لأن ذلك ليس تعليق البراءة بالشرط على ما مر. ولو قال لمكاتبه إن أديت إلي خمسمائة فأنت حر فأدى خمسمائة عتق؛ لأن هذا تعليق العتق بالشرط, وذلك في حق المكاتب صحيح. ولو كان له على إنسان ألف مؤجلة, فصالح منها فهذا لا يخلو من أحد وجهين, إما أن صالح منها على أقل من حقه, أو على تمام حقه, وكل ذلك لا يخلو من أن يشترط التعجيل, أو لم يشترط, فإن صالح على أقل من حقه قدرا أو وصفا أو قدرا ووصفا, ولم يشترط التعجيل لما وقع عليه الصلح جاز, ويكون حطا, وتجوزا بدون حقه, وله أن يأخذ الباقي بعد حل الأجل, وإن شرط التعجيل فالصلح باطل, وعليه رد ما قبض والرجوع برأس ماله بعد حل الأجل؛ لأن فيه معاوضة الأجل, وهو التعجيل بالحط, وهذا لا يجوز؛ لأن الأجل ليس بمال, وإن صالح على تمام حقه؛ جاز, وإن شرط التعجيل فإن صالح من ألف مؤجلة على ألف معجلة لكن بشرط القبض قبل الافتراق عن المجلس, وكذلك حكم الدنانير على هذا. ولو كان الواجب عليه قيمة المستهلك فإن كان المستهلك من ذوات القيمة, فصالح فإن صالح على الدراهم والدنانير حالة أو مؤجلة جاز الصلح؛ لأن الواجب في ذمته قبل المتلف صورة ومعنى كذا الاستهلاك تحقيقا للماثلة المعلقة, ثم يملكه بأداء الضمان فإذا صالح كان هذا الصلح على عين حقه فيجوز على أي وصف كان, وإن صالح على غير الدراهم والدنانير إن كان عينا؛ جاز, ولا يشترط القبض, وإن كان دينا موصوفا يجوز أيضا لكن القبض في المجلس شرط. ولو كان الواجب عليه مثل المستهلك فإن كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون الذي ليس في تبعيضه ضرر فحكم الصلح فيه كحكم الصلح في كر الحنطة فنقول, وبالله التوفيق. إذا كان المدعى دينا سوى الدراهم والدنانير فإن كان مكيلا بأن كان كر حنطة مثلا, فصالح منه لا يخلو من أحد وجهين "أما" إن صالح على جنسه, أو على خلاف جنسه فإن صالح على جنسه لا يخلو من ثلاثة أوجه. "أما" إن صالح على مثل حقه. "وأما" على أقل منه "وأما" إن صالح على أكثر منه, فإن صالح على مثل حقه قدرا ووصفا جاز, ولا يشترط القبض؛ لأنه استوفى عين حقه, وإن صالح على أقل من حقه قدرا ووصفا جاز, ويكون حطا لا معاوضة لما ذكرنا في الدراهم, ولا يشترط القبض, ويكون مؤجلا, وإن صالح على أقل من حقه, وصفا لا قدرا؛ جاز أيضا, ويكون استيفاء لعين حقه أصلا, وإبراء له عن الصفة فلا يشترط القبض, ويجوز حتى لا يبطل بالتأجيل أو تركه, ويعتبر رضا بدون حقه. ولو صالح على أكثر من حقه قدرا ووصفا, أو قدرا لا وصفا لا يجوز؛ لأنه ربا, وإن صالح على أكثر منه وصفا لا قدرا بأن صالح من كر رديء على كر جيد جاز ويعتبر معاوضة احترازا عن الافتراق عن دين بدين, ولو صالح منه على كر مؤجل جاز؛ لأنه حط حقه في الحلول, ورضي بدون حقه كما في الدراهم والدنانير هذا إذا كان أكثر الدين حالا, فإن كان مؤجلا فصالح على بعض حقه, أو على تمام حقه فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الصلح من الألف المؤجلة من غير تفاوت هذا إذا صالح من الكر على جنسه فإن صالح على خلاف جنس حقه فإن كان الكر الذي عليه سلما لا يجوز بحال؛ لأن الصلح على خلاف جنس المسلم فيه يكون معاوضة, وفيه استبدال المسلم فيه قبل قبضه إلا أن يكون الصلح منه على رأس المال يجوز؛ لأن الصلح من المسلم فيه على رأس المال يكون إقالة للمسلم, وفسخا له وذلك جائز, وإن لم يكن سلما فصالح على خلاف جنس حقه فإن كان ذلك من الدراهم والدنانير؛ جاز, ويشترط القبض, وإن كان معينا مشارا إليه؛ لأنها لا تتعين بالتعيين فكان ترك قبضه افتراقا عن دين بدين, وإن كان ذلك من المكيلات

 

ج / 6 ص -46-         وهو عين جاز, ولا يشترط القبض, وإن كان موصوفا في الذمة جاز أيضا فرق بين هذا وبين ما إذا كان عليه دراهم أو دنانير فصالح منها على مكيل أو موزون موصوف في الذمة أنه لا يجوز؛ لأن ذلك مبيع ألا ترى أنه قوبل بالأثمان, والمبيع ما يقابل بالثمن, وهذا لا يقابل بالثمن فلا يكون مبيعا إلا أنه لا بد من القبض في المجلس احترازا من الافتراق عن دين بدين, وإن كان من العروض والحيوان فإن كان عينا؛ جاز, وإن كان دينا يجوز في الثياب الموصوفة إذا أتى بشرائط السلم لكن القبض في المجلس شرط احتراز عن الافتراق عن دين بدين, ولا يجوز في الحيوان الموصوف بحال؛ لأنه لا يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال, وكذلك إذا كان المدعى موزونا دينا موصوفا في الذمة فصالح منه على جنسه أو على خلاف جنسه إلى آخر ما ذكرنا في المكيل الموصوف هذا إذا كان المدعى مكيلا أو موزونا دينا موصوفا في الذمة. فإن كان ثوب السلم فصالح منه فهذا لا يخلو من أحد وجهين "إما" إن صالح منه على جنسه, وإما إن صالح منه على خلاف جنسه فإن صالح على جنسه؛ فهو على ثلاثة أوجه. "إما" إن صالح على مثل حقه, أو أكثر منه, أو أقل فإن صالح على مثل حقه قدرا ووصفا فإن صالح من ثوب هروي جيد على ثوب هروي جيد؛ جاز, ولا يشترط القبض؛ لأنه استوفى عين حقه, وكذلك إن صالح على أقل من حقه قدرا ووصفا, أو وصفا لا قدرا يجوز, ويكون هذا استيفاء لبعض عين حقه, وحطا للباقي, وإبراء عنه أصلا ووصفا, والإبراء عن المسلم فيه صحيح؛ لأن قبضه ليس بواجب, وإن صالح على أقل من حقه قدرا لا وصفا بأن صالح من ثوب رديء على نصف ثوب جيد؛ جاز بخلاف الدراهم والدنانير والمكيل والموزون الموصوفين بأن صالح من ألف نبهرجة على خمسمائة جياد, أو صالح من كر رديء على نصف كر جيد, أو صالح من حديد رديء على نصف من جيد أنه لا يجوز, والفرق أن المانع من الجواز هو الاعتياض عن الجودة هنا جائز؛ لأن الجودة في غير الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها لها قيمة بخلاف الأموال الربوية, وهذا؛ لأن الأصل أن تكون الجودة متقومة في الأموال كلها؛ لأنها صفة مرغوبة يبذل العوض في مقابلتها إلا أن الشرع أسقط اعتبارها في الأموال الربوية تعبدا بقوله جيدها, ورديئها سواء, فبقيت متقومة في غيرها على الأصل فيصح الاعتياض عنها, وإن صالح على أكثر من حقه قدرا ووصفا بأن صالح من ثوب هروي جيد على ثوبين هرويين جيدين يجوز لكن يشترط القبض؛ لأن جوازه بطريق المعاوضة, والجنس بانفراده يحرم النساء, فلا بد من القبض لئلا يؤدي إلى الربا, وكذلك إن صالح على أكثر من حقه قدرا لا وصفا بأن صالح عن ثوب هروي جيد على ثوبين هرويين رديئين جاز, والقبض شرط لما ذكرنا. ولو صالح على أكثر من حقه, وصفا لا قدرا بأن صالح من ثوب رديء على ثوب جيد؛ جاز؛ لأنه معاوضة إذ لا يمكن حمله على استيفاء عين الحق؛ لأن الزيادة غير مستحقة له فيحمل على المعاوضة, ويشترط القبض لئلا يؤدي إلى الربا, وإن صالح على خلاف جنس حقه كائنا ما كان لا يجوز دينا كان, أو عينا؛ لأن فيه استبدال المسلم فيه قبل القبض, وإنه لا يجوز إلا على رأس مال السلم؛ لأن الصلح عليه يكون إقالة, وفسخا لا استبدالا. وإن كان المدعى حيوانا موصوفا في الذمة في قتل الخطإ, أو شبه العمد فصالح, فنقول الجملة فيه أن هذا في الأصل لا يخلو من وجهين. "إما" أن صالح على ما هو مفروض في باب الدية في الجملة. "وإما" أن صالح على ما ليس بمفروض في الباب أصلا, وكل ذلك لا يخلو إما أن صالح قبل تعيين القاضي نوعا من الأنواع المفروضة, أو بعد تعيينه نوعا منها, فإن صالح على المفروض قبل تعيين القاضي بأن صالح على عشرة آلاف درهم, أو على ألف دينار, أو على مائة من الإبل, أو على مائة بقرة, أو على ألفي شاة, أو على مائتي حلة؛ جاز الصلح, وهو في الحقيقة تعيين منها للواجب من أحد الأنواع المفروضة بمنزلة تعيين القاضي فيجوز, ويكون استيفاء لعين حقه الواجب عند اختياره ذلك فعلا برضا القاتل, وكذا إذا صالح على أقل من المفروض يكون استيفاء لبعض عين الحق, وإبراء عن الباقي, وإن صالح على أكثر من المفروض لا يجوز؛ لأنه ربا. ولو صالح بعد ما عين القاضي نوعا منها فإن صالح على جنس حقه المعين جاز إذا كان مثله, أو أقل منه, وإن كان أكثر لا يجوز؛ لأنه ربا, وإن صالح على خلاف الجنس المعين فإن كان من جنس المفروض في الجملة بأن عين القاضي مائة من الإبل فصالح على مائة من البقر, أو أكثر

 

ج / 6 ص -47-         جاز, وتكون معاوضة؛ لأن الإبل تعينت واجبة بتعيين القاضي, فلم يبق غيره واجبا فكانت البقر بدلا عن الواجب في الذمة فكانت معاوضة, ولا بد من القبض احترازا عن الافتراق عن دين بدين, وكذلك إذا كان من خلاف جنس المفروض بأن صالح على مكيل أو موزون سوى الدراهم والدنانير؛ جاز, ويكون معاوضة, ويشترط التقابض لما قلنا. ولو صالح على قيمة الإبل أو أكثر مما يتغابن الناس فيه؛ جاز؛ لأن قيمة الإبل دراهم ودنانير, وإنها ليست من جنس الإبل فكان الصلح عليها معاوضة فيجوز قل أو كثر, ولا يشترط القبض, وكذلك إذا صالح من الإبل على دراهم في الذمة, وافترقا من غير قبض؛ جاز, وإن كان هذا افتراقا عن دين بدين؛ لأن هذا المعنى ليس بمعاوضة, بل هو استيفاء عين حقه؛ لأن الحيوان الواجب في الذمة, وإن كان دينا لكنه ليس بدين لازم ألا ترى أن من عليه إذا جاء بقيمته يجبر من له على القبول بخلاف سائر الديون فلا يكون افتراقا عن دين بدين حقيقة هذا إذا قضى القاضي عليه بالإبل فإن قضى عليه بالدراهم, والدنانير فصالح من مكيل أو موزون سوى الدراهم والدنانير, أو بقر ليس عنده لا يجوز لأن ما يقابل هذه الأشياء دراهم أو دنانير وأنها أثمان فتتعين هذه مبيعة وبيع المبيع الذي ليس بمعين لا يجوز إلا بطريق السلم هذا إذا صالح على المفروض في باب الدية فأما إذا صالح على ما ليس بمفروض أصلا كالمكيل والموزون سوى الدراهم والدنانير ونحو ذلك مما لا يدخل له في الفرض قبل تعيين القاضي؛ جاز, وإن كانت قيمته أكثر من المفروض لكن القبض في المجلس شرط؛ لأنه معاوضة فيجوز, ولا بد من القبض لما قلنا, وإن كان بعد تعيين القاضي فهو على ما ذكرنا من التفصيل. وكذلك حكم الصلح عن إنكار المدعى عليه وسكوته بحكم الصلح عن إقراره في جميع ما وصفنا هذا الذي ذكرنا إذا كان بدل الصلح مالا عينا أو دينا فأما إذا كان منفعة بأن صالح على خدمة عبد بعينه, أو ركوب دابة بعينها, أو على زراعة أرض, أو سكنى دار, وقتا معلوما جاز الصلح, ويكون في معنى الإجارة سواء كان الصلح عن إقرار المدعى عليه, أو عن إنكاره, أو عن سكوته؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض, وقد وجد أما في موضع الإقرار فظاهر؛ لأن بدل الصلح عوض عن المدعى, وكذا في موضع الإنكار في جانب المدعي, وفي جانب المدعى عليه هو عوض عن الخصومة واليمين, وكذا في السكوت؛ لأن الساكت منكر حكما سواء كان المدعى عينا, أو دينا لكن تمليك المنفعة قد يكون بالعين, وقد يكون بالدين, كما في سائر الإجارات, وإن كان المدعى منفعة فإن كانت المنفعتان من جنسين مختلفين, كما إذا صالح من سكنى دار على خدمة عبد يجوز بالإجماع, وإن كانتا من جنس واحد لا يجوز عندنا, وأصل المسألة في كتاب الإجارات, وإذا اعتبر الصلح على المنافع إجارة يصح بما تصح به الإجارات, ويفسد بما تفسد به, ولصاحب العبد أن يعتقه؛ لأن صحة الإعتاق يقف على قيام ملك الرقبة, وإنه قائم فأشبه إعتاق المستأجر, والمرهون, وليس له أن يبيعه؛ لأن جواز البيع بعد ملك اليد, ولم يوجد فلا يجوز بيعه كالعبد المستأجر والمرهون. وله أن يؤاجره من غيره؛ لأن منفعته صارت مملوكة له بالصلح فإن شاء استوفاه بنفسه, وإن شاء ملكها من غيره كالعبد المستأجر, وله أن يؤاجره من المدعى عليه في مدة الصلح عند أبي يوسف, ولا يبطل الصلح, كما لو آجره من غيره, وعند محمد لا يجوز, ويبطل الصلح كما لو آجره من المؤاجر في مدة الإجارة, وأنه لا يجوز بالإجماع, وتبطل الإجارة الأولى, ولا يجب على المستأجر شيء من الأجرة كذا هذا, وله أن يسافر به, وذكر في الإجارة أن من استأجر عبدا للخدمة لم يكن له أن يسافر به للتفاوت بين خدمتي السفر, والحضر, والفرق أن المسافرة بالعبد المستأجر للخدمة إلحاق الضرر بالآجر؛ لأن مؤنة الرد في باب الإجارة عليه, وربما يلزمه برده مؤنة تزيد على الأجرة فيتضرر به فلم يملك المسافرة به دفعا للضرر عنه, وهذا المعنى ههنا منعدم؛ لأن مؤنة الرد لا تلزم صاحب العبد فأشبه العبد الموصى بخدمته والعبد المرهون, وهما يملكان المسافرة به كذا هذا. ولو ادعى على رجل دارا في يده فأنكر المدعى عليه فصالحه على أن يسكن المدعى عليه الذي في يده الدار سنة, ثم يدفعها إلى المدعي؛ جاز؛ لأن المدعي متصرف في ملك نفسه ببدل المنفعة للمدعى عليه في زعمه سنة, والمدعى عليه متصرف في ملك نفسه باستيفاء المنفعة لنفسه في المدة المشروطة, فكان كل واحد منهما متصرفا في ملك نفسه في زعمه فيجوز, ومنها أن يكون متقوما, فلا يصح

 

ج / 6 ص -48-         الصلح على الخمر والخنزير من المسلم؛ لأنه ليس بمال متقوم في حقه, وكذا إذا صالح على دن من خل فإذا هو خمر لم يصح؛ لأنه تبين أنه لم يصادف محله, ومنها أن يكون مملوكا للمصالح حتى إنه إذا صالح على مال, ثم استحق من يد المدعي لم يصح الصلح؛ لأنه تبين أنه ليس مملوكا للمصالح فتبين أن الصلح لم يصح, ومنها أن يكون معلوما؛ لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة فتوجب, فساد العقد إلا إذا كان شيئا لا يفتقر إلى القبض والتسليم, كما إذا ادعى رجلان كل واحد منهما على صاحبه حقا, ثم تصالحا على أن جعل كل واحد منهما ما ادعاه على صاحبه صلحا مما ادعاه عليه صاحبه يصح الصلح, وإن كان مجهولا؛ لأن جهالة البدل لا تمنع جواز العقد لعينها بل لإفضائها إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم فإذا كان مالا يستغنى عن التسليم والتسلم لا يفضي إلى المنازعة فلا يمنع الجواز إلا أن الصلح من القصاص في النفس, وما دونه تتحمل الجهالة القليلة في البدل, كما تتحمل في المهر في باب النكاح, والخلع, والإعتاق على مال والكتابة لما علم ولو صالح على مسيل, أو شرب من نهر لا حق له في رقبته, أو على أن يحمل كذا, وكذا جذعا على هذا الحائط, وعلى أن يسيل ميزابه في داره أياما معلومة لا يجوز؛ لأن ما وقع عليه الصلح في هذه المواضع مفتقر إلى القبض والتسليم فلم تكن جهالته محتملة لهذا لا يجوز بيعها, فلا يصح الصلح عليها, والأصل أن كل ما يجوز بيعه وشراؤه يجوز الصلح عليه, وما لا, فلا.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المصالح عنه. فأنواع: أحدها: أن يكون حق العبد لا حق الله عز وجل سواء كان مالا عينا, أو دينا, أو حقا ليس بمال عين, ولا دين حتى لا يصح الصلح من حد الزنا والسرقة وشرب الخمر بأن أخذ زانيا أو سارقا من غيره أو شارب خمر, فصالحه على مال أن لا يرفعه إلى ولي الأمر؛ لأنه حق الله تعالى جل شأنه, ولا يجوز الصلح من حقوق الله تعالى عز شأنه؛ لأن المصالح بالصلح متصرف في حق نفسه إما باستيفاء كل حقه, أو باستيفاء البعض, وإسقاط الباقي, أو بالمعاوضة وكل ذلك لا يجوز في غير حقه, وكذا إذا صالح من حد القذف بأن قذف رجلا فصالحه على مال على أن يعفو عنه؛ لأنه, وإن كان للعبد فيه حق فالمغلب فيه حق الله تعالى, والمغلوب ملحق بالعدم شرعا فكان في حكم الحقوق المتمحضة حقا لله تعالى عز وجل وأنها لا تحتمل الصلح كذا هذا, وكذلك لو صالح شاهدا يريد أن يشهد عليه على مال على أن لا يشهد عليه فهو باطل؛ لأن الشاهد في إقامة الشهادة محتسب حقا لله تعالى عز شأنه قال الله سبحانه وتعالى, {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} , والصلح عن حقوق الله عز وجل باطل, ويجب عليه رد ما أخذ؛ لأنه أخذه بغير حق. ولو علم القاضي به أبطل شهادته؛ لأنه فسق إلا أن يحدث توبة فتقبل, ويجوز الصلح عن التعزير؛ لأنه حق العبد, وكذا يصح عن القصاص في النفس, وما دونه؛ لأن القصاص من حق العبد سواء كان البدل عينا, أو دينا إلا إذا كان دينا يشترط القبض في المجلس احترازا عن الافتراق عن دين بدين, وسواء كان معلوما, أو مجهولا جهالة غير متفاحشة حتى لو صالح من القصاص على عبد, أو ثوب هروي جاز؛ لأن الجهالة قلت ببيان النوع؛ لأن مطلق العبد يقع على عبد وسط, ومطلق الثوب الهروي يقع على الوسط منه, فتقل الجهالة فيصح الصلح, وله الخيار إن شاء أعطى الوسط من ذلك, وإن شاء أعطى قيمته كما في النكاح فأما إذا صالح على ثوب أو دابة أو دار لا يجوز؛ لأن الثياب والدواب أجناس تحتها أنواع مختلفة, وجهالة النوع متفاحشة فتمنع الجواز, وكذا جهالة الدور لاختلاف الأماكن ملحقة بجهالة الثوب, والدابة فتمنع الجواز كما في باب النكاح, والأصل أن كل جهالة تمنع صحة التسمية في باب النكاح تمنع صحة الصلح من القصاص, وما لا فلا؛ لأن ما وقع عليه الصلح, والمهر كل واحد منهما يجب بدلا عما ليس بمال, والجهالة لا تمنع من الصحة لعينها ألا ترى أن الشرع ورد بمهر المثل في باب النكاح مع أنه مجهول القدر, وإنما يمنع منها لإفضائها إلى المنازعة, ومبنى النكاح والصلح من القصاص على المسامحة كالإنسان يسامح بنفسه ما لا يسامح بماله عادة فلا يكون القليل من الجهالة مفضيا إلى المنازعة, فلا يمنع من الجواز بخلاف باب البيع؛ لأن مبناه على المعاكسة, والمضايقة لكونه معاوضة مال بمال, والإنسان يضايق بماله ما لا يضايق بنفسه فهو الفرق, والله عز وجل الموفق, وإذا لم يصح الصلح لتفاحش جهالة البدل يسقط القصاص, وتجب الدية, وفي النكاح

 

ج / 6 ص -49-         يجب مهر المثل إلا أن بينهما فرقا من وجه, فإنه لو صالح عن القصاص على خمر أو خنزير لا يصح, ولا يجب شيء آخر. ولو تزوج امرأة على خمر أو خنزير؛ لا تصح التسمية ويجب مهر المثل. "وجه" الفرق أن الخمر إذا لم تصلح بدل الصلح بطلت تسميته, وجعل لفظة الصلح كناية عن العفو, وذلك جائز؛ لأن العفو الفضل, وفي الصلح معنى الفضل فأمكن جعله كناية عنه, وبعد العفو لا يجب شيء آخر, فأما لفظ النكاح فلا يحتمل العفو, ولو احتمله فالعفو عن حق الغير لا يصح فيبقى النكاح من غير تسمية فيجب مهر المثل, كما إذا سكت عن المهر أصلا فهو الفرق, وسواء كان البدل قدر الدية, أو أقل, أو أكثر لقوله تعالى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} قوله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} أي أعطي له كذا روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وقوله عز شأنه {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي فليتبع: مصدر بمعنى الأمر فقد أمر الله تبارك وتعالى الولي بالاتباع بالمعروف, إذا أعطي له شيء, واسم الشيء يتناول القليل والكثير فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على القليل, والكثير, وهذا بخلاف القتل الخطإ وشبه العمد أنه إذا صالح على أكثر من الدية لا يجوز, والفرق أن بدل الصلح في باب الخطإ, وشبه العمد عوض عن الدية, وإنها مقدرة بمقدار معلوم لا تزيد عليه, فالزيادة على المقدر تكون ربا فأما بدل الصلح عن القصاص, فعوض عن القصاص, والقصاص ليس من جنس المال حتى يكون البدل عنه زيادة على المال المقدر فلا يتحقق الربا فهو الفرق. وأما كون المصالح عنه معلوما فليس بشرط لجواز الصلح حتى إن من ادعى على آخر حقا في عين, فأقر به المدعى عليه؛ أو أنكر فصالح على مال معلوم؛ جاز؛ لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح بطريق الإسقاط, ولا يمكن تصحيحه هنا بطريق المعاوضة لجهالة أحد البدلين فيصحح بطريق الإسقاط فلا يؤدي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم والقبض؛ لأن الساقط لا يحتمل ذلك, وقد مر أن الجهالة فيما لا يحتمل التسليم, والقبض لا تمنع جواز الصلح. والثاني أن يكون حق المصالح, والثالث أن يكون حقا ثابتا له في المحل فما لا يكون حقا له, أو لا يكون حقا ثابتا له في المحل لا يجوز الصلح عنه حتى لو أن امرأة طلقها زوجها ادعت عليه صبيا في يده أنه ابنه منها, وجحد الرجل فصالحت عن النسب على شيء فالصلح باطل؛ لأن النسب حق الصبي لا حقها فلا تملك الاعتياض عن حق غيرها؛ ولأن الصلح إما إسقاط أو معاوضة, والنسب لا يحتملهما. ولو صالح الشفيع من الشفعة التي وجبت له على شيء على أن يسلم الدار للمشتري, فالصلح باطل؛ لأنه لا حق للشفيع في المحل إنما الثابت له حق التمليك, وهو ليس لمعنى في المحل بل هو عبارة عن الولاية, وأنها صفة الوالي, فلا يحتمل الصلح عنه بخلاف الصلح عن القصاص؛ لأن هناك المحل يصير مملوكا في حق الاستيفاء فكان الحق ثابتا في المحل فملك الاعتياض عنه بالصلح, فهو الفرق, وكذلك الكفيل بالنفس إذا صالح على مال على أن يبرئه من الكفالة فالصلح باطل؛ لأن الثابت للطالب قبل الكفيل بالنفس حق المطالبة بتسليم نفس المكفول بنفسه, وذلك عبارة عن ولاية المطالبة, وأنها صفة الوالي فلا يجوز الصلح عنها فأشبه الشفعة, وهل تبطل الكفالة؟ فيه روايتان: في رواية لا تبطل؛ لأنه ما رضي بسقوط حقه إلا بعوض, ولم يسلم له فلا يسقط حقه, وفي رواية يسقط؛ لأن الإبراء لا تقف صحته على العوض فيصح, وإن لم يسلم العوض فإذا صح أنه إسقاط فالساقط لا يحتمل العود, وعلى هذا إذا كان لرجل ظلة على طريق, أو كنيف شارعه, أو ميزابه فخاصمه رجل, وأراد أن يطرحه فصالحه على مال, فهذا لا يخلو من وجهين إما أن يكون الطريق نافذا, وإما أن لا يكون نافذا فإذا كان نافذا فخاصمه رجل من المسلمين, وأراد طرحه فصالحه على مال فالصلح باطل؛ لأن رقبة الطريق النافذ لا تكون ملكا لأحد من المسلمين, وإنما لهم حق المرور, وإنه ليس بحق ثابت في رقبة الطريق, بل هو عبارة عن ولاية المرور, وإنه صفة المار فلا يجوز الصلح عنه مع ما أنه لا فائدة في هذا الصلح؛ لأنه إن سقط حق هذا الواحد بالصلح, فللباقين حق القلع. وكذا لو صالح الثاني مع هذا المتقدم إليه على مال يؤخذ من المتقدم إليه الطرح فالصلح باطل لأن الطرح واجب عليه فأخذ المال عليه يكون رشوة هذا إذا كان الطريق نافذا, فأما إذا لم يكن نافذا فصالحه رجل من أهل الطريق على مال للترك فالصلح جائز؛ لأن رقبة الطريق هنا مملوكة لأهل السكة فكان لكل واحد منهم فيها

 

ج / 6 ص -50-         ملكا فجاز الصلح عنه, وكذا إسقاط حق كل واحد منهم بالصلح مفيد لاحتمال تحصيل رضا الباقين, ولا يحتمل ذلك في الوجه الأول؛ لأنهم لا يحصون, وكذا لو صالح الثاني مع واحد منهم على مال للترك؛ جاز, ويطيب له المال؛ لأن رقبة الطريق مملوكة لهم على الشركة فكان لكل واحد منهم فيها نصيب فكان الصلح اعتياضا عن ملكه فصح, فأما في طريق المسلمين فلا ملك لأحد فيها ولا حق ثابت في المحل فلم يكن الصلح اعتياضا عن ملك, ولا حق ثابت في المحل فبطل, وذكر الجصاص أن جواز الصلح في طريق غير نافذ محمول على ما إذا بنى على الطريق, فأما إذا شرع إلى الهواء فلا يجوز؛ لأنه اعتياض عن الهواء. ولو ادعى على رجل مالا, وأنكر المدعى عليه, ولا بينة للمدعي فطلب منه اليمين فصالح عن اليمين على أن لا يستحلفه؛ جاز الصلح وبرئ من اليمين, وكذا إذا قال المدعى عليه: صالحتك من اليمين التي وجبت لك علي, أو قال افتديت منك يمينك بكذا, وكذا صح الصلح؛ لأن هذا صلح عن حق ثابت للمدعي؛ لأن اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه قال عليه الصلاة والسلام في قصة الحضرمي والكندي: "ألك بينة؟ قال: لا, قال: إذا لك يمينه" جعل اليمين حق المدعي فكان هذا صلحا عن حق ثابت شرعا للمدعي, وكذا الملك في المدعى ثابت في زعمه, فكان الصلح عن حق ثابت في حقه وفي حق المدعى عليه, وهو بدل المال لإسقاط الخصومة, والافتداء عن اليمين. ولو قال المدعى عليه: اشتريت منك اليمين على كذا, وقال المدعي بعت منك اليمين على كذا لا يصح فقد خالف الصلح البيع, حيث جاز بلفظ الصلح والافتداء, ولم يجز بلفظ البيع والشراء. ولو ادعى على رجل أنه عبده فأنكر فصالحه على مائة درهم, جاز؛ لأن هذا صلح عن حق ثابت في حق المدعى؛ لأن الرق ثابت في حقه فكان الصلح في حقه إعتاقا على مال فيصح إلا أن الولاء لا يكون له لإنكار المدعى عليه الرق فإن أقام المدعي بعد ذلك بينة لا تقبل إلا في حق إثبات الولاء, وكذلك لو صالحه على حيوان في الذمة إلى أجل كان جائزا؛ لأن الرق ثابت في حق المدعى فكان بدل الصلح بدلا عن العتق في حقه فأشبه بدل الكتابة فيجوز على حيوان في الذمة. ولو ادعى رجل على امرأة نكاحا فجحدته, فصالحته على مال بذلته حتى يترك الدعوى جاز؛ لأن النكاح حق ثابت في حق المدعى فكان الصلح على حق ثابت فكان في معنى الخلع إذ هو أخذ المال بالبضع, وقد وجد فكان جائزا, وفي حقها بدل مال لإسقاط الخصومة, وإنه جائز أيضا للنص. ولو ادعت امرأة على رجل نكاحا فجحد الرجل فصالحها على مال بذله لها لا يجوز؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون النكاح ثابتا, أو لم يكن ثابتا فإن لم يكن ثابتا كان دفع المال إليها من الرجل في معنى الرشوة, وإن كان ثابتا لا تثبت الفرقة بهذا الصلح؛ لأن العوض في الفرقة تعطيه المرأة لا الزوج فلا يكون المال الذي تأخذه المرأة عوضا عن شيء, فلا يجوز. ولو ادعى على إنسان مائة درهم؛ فأنكر المدعى عليه فتصالحا على أنه إن حلف المدعى عليه فهو بريء فالصلح باطل, والمدعي على دعواه حتى لو أقام بينة أخذه بها؛ لأن قوله على أنه إن حلف المدعى عليه, فهو بريء تعليق البراءة بالشرط, وأنه باطل؛ لأن في الإبراء معنى التمليك, والأصل في التمليك أن لا يحتمل التعليق بالشرط, وإن لم تكن له بينة, وأراد استحلافه؛ فهو على, وجهين إن كان ذلك الحلف عند غير القاضي؛ فله أن يستحلفه عند القاضي مرة أخرى؛ لأن تلك اليمين غير معتبرة؛ لأنها غير واجبة, ولا تنقطع بها خصومة, فلم يكن معتدا بها, وإن كان عند القاضي لم يستحلفه ثانيا؛ لأن الحلف عند القاضي معتد به فقد استوفى المدعي حقه مرة فلا يجب الإيفاء ثانيا. ولو تصالحا على أن يحلف المدعى عليه فإذا حلف فالمال واجب على المدعى عليه فهو باطل؛ لأن هذا تعليق وجوب المال بالشرط, وأنه باطل؛ لكونه قمارا. ولو أودع إنسانا وديعة, ثم طلبها منه, فقال المودع: هلكت, أو قال: رددتها, وكذبه المودع, وقال: استهلكتها فتصالحا على شيء, فالصلح باطل عند أبي يوسف, وعند محمد صحيح. "وجه" قول محمد أن هذا صلح وقع عن دعوى صحيحة, ويمين متوجهة, فيصح, كما في سائر المواضع "وجه" قول أبي يوسف أن المدعي مناقض في هذه الدعوى؛ لأن المودع أمين المالك, وقول الأمين قول المؤتمن, فكان إخباره بالرد, والهلاك إقرارا من المودع, فكان مناقضا في دعوى الاستهلاك, والتناقض يمنع صحة الدعوى إلا أنه يستحلف لكن لا لدفع الدعوى؛ لأنها مندفعة لبطلانها بل للتهمة, وإذا لم تصح الدعوى لا يصح

 

ج / 6 ص -51-         الصلح. ولو ادعى المودع الاستهلاك ولم يقل المودع إنها هلكت, أو رددتها فتصالحا على شيء جاز؛ لأن دعوى الاستهلاك صحيحة, واليمين متوجهة عليه فصح الصلح. ولو طلب المودع الوديعة فجحدها المودع, وقال: لم تودعني شيئا, ثم قال: هلكت, أو رددتها, وقال المودع: بل استهلكتها فتصالحا جاز؛ لأن المالك يدعي عليه ضمان الغصب بالجحود إذ هو سبب لوجوب الضمان, وكل جواب عرفته في الوديعة فهو الجواب في العارية والمضاربة؛ لأن كل ذلك أمانة. ولو اشترى من رجل عبدا فطعن فيه بعيب, وخاصمه فيه, ثم صالحه على شيء, أو حط من ثمنه شيئا, فإن كان العبد مما يجوز رده على البائع, وله المطالبة بأرش العيب دون الرد, فالصلح جائز؛ لأن الصلح عن العيب صلح عن حق ثابت في المحل, وهو صفة سلامة المبيع عن عيب, وأنها من قبيل الأموال, فكان عن العيب معاوضة مال بمال, فصح, وكذا الصلح عن الأرش معاوضة مال بمال لا شك فيه, وإذا صار المبيع بحال لا يملك رده على البائع, ولا المطالبة بأرشه بأن باع العبد فالصلح باطل؛ لأن حق الدعوى, والخصومة فيهما قبل البيع قد بطل بالبيع, فلا يجوز الصلح. ولو صالح من العيب, ثم زال العيب بأن كان بياضا في عين العبد, فانجلى بطل الصلح, ويرد ما أخذ؛ لأن المعوض, وهي صفة السلامة قد عادت فيعود العوض فبطل الصلح. ولو طعن المشتري بعيب, فصالحه البائع على أن يبرئه من ذلك العيب, ومن كل عيب, فهو جائز؛ لأن الإبراء عن العيب إبراء عن صفة السلامة, وإسقاط لها, وهي مستحقة على البائع فيصح الصلح عنها, والإبراء عن كل عيب, وإن كان إبراء عن المجهول لكن جهالة المصالح عنه لا تمنع صحة الصلح فلا تمنع صحة الإبراء للفقه الذي مر قبل هذا أن الجهالة لعينها غير مانعة بل لإفضائها إلى المنازعة المانعة من التسليم والقبض والذي وقع الصلح والإبراء عنه لا يفتقر إلى التسليم والقبض, فلا تضره الجهالة, وكذلك لو لم يطعن المشتري بعيب, فصالحه البائع من كل عيب على شيء فالصلح جائز؛ لأنه وإن لم يطعن بعيب, فله حق الخصومة فيصالحه لإبطال هذا الحق. ولو خاصمه في ضرب من العيوب نحو الشجاج والقروح, فصالحه على ذلك, ثم ظهر عيب غيره كان له أن يخاصمه فيه؛ لأن الصلح وقع عن نوع خاص, فكان له حق الخصومة في غيره. ولو اشترى شيئا من امرأة فظهر به عيب, فصالحته على أن تتزوجه, فهو جائز, وهذا إقرار منها بالعيب, فإن كان يبلغ أرش العيب عشرة دراهم فهو مهرها, وإن كان أقل من ذلك يكمل لها عشرة دراهم؛ لأن أرش العيب لما صار مهرها, والنكاح معاوضة البضع بالمهر فإذا نكحت نفسها, فقد أقرت بالعيب, وكذلك لو اشترى شيئا بأرش عيب كان إقرارا بالعيب؛ لأن الشراء معاوضة فالإقدام عليه يكون إقرارا بالعيب بخلاف الصلح حيث لا يكون إقرارا بالعيب؛ لأن الصلح مرة يصح معاوضة, ومرة يصح إسقاطا, فلا يصح دليلا على الإقرار بالشك والاحتمال. ولو اشترى ثوبين كل واحد بعشرة, فقبضهما, ثم وجد بأحدهما عيبا, فصالح على أن يرده بالعيب على أن يزيده في ثمن الآخر درهما, فالرد جائز, وزيادة الدرهم باطل عند أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف لا يجوز شيء من ذلك. "وجه" قوله أن الرد بالعيب فسخ, والفسخ بيع جديد بمنزلة الإقالة, والبيع تبطله الشروط الفاسدة. "وجه" قولهما أن هذا تعليق الزيادة في الثمن بالشرط, وأنه باطل؛ لأن الزيادة تلحق بأصل العقد, وأصل الثمن لا يحتمل التعليق بالشرط؛ لأنه في معنى القمار فكذا الزيادة عليه فأما الرد ففسخ العقد, وأنه يحتمل الشرط فجائز. ولو ادعى على امرأة نكاحا, فجحدت فصالحها على مائة درهم على أن تقر له بالنكاح, فأقرت, فهو جائز, وتجعل المائة من الزوج زيادة في مهرها؛ لأن إقرارها بالنكاح محمول على الصحة. ولو ادعى على إنسان ألفا, وأنكر المدعي, فصالحه على مائة درهم على أن يقر له بالألف, فهو باطل؛ لأن المدعي لا يخلو إما أن يكون صادقا في دعواه الألف وإما أن يكون كاذبا فيها فإن كان صادقا فيها فالألف واجبة على المدعى عليه ويكون أخذ العوض عليه في معنى الرشوة وأنه حرام وإن كان كاذبا في دعواه, فإقرار المدعى عليه بالألف التزام المال ابتداء, وهذا لا يجوز. ولو قال لامرأة: أعطيتك مائة درهم على أن تكوني امرأتي ففعلت ذلك, فهو جائز إذا كان بمحضر من الشهود ويجعل كناية عن إنشاء النكاح, وكذا لو قال: تزوجتك أمس على ألف درهم, فجحدت, فقال: أزيدك مائة درهم على أن تقري لي بالنكاح, فأقرت؛ جاز, ولها ألف ومائة, ويحمل إقرارها على الصحة, والله عز وجل

 

ج / 6 ص -52-         أعلم هذا الذي ذكرنا إذا كان الصلح بين المدعي, والمدعى عليه. "وأما" إذا كان بين المدعي, والأجنبي المتوسط, أو المتبرع فلا يخلو إما أن كان ذلك بأمر المدعى عليه, أو بغير أمره فإن كان بأمره يصح؛ لأنه وكيل عنه, والصلح مما يحتمل التوكيل به, وإن كان بغير أمره, فهو صلح الفضولي, وإنه على خمسة أوجه: أحدها أن يضيف الضمان إلى نفسه: بأن يقول للمدعي: صالحتك, أو أصالحك من دعواك هذه على فلان على ألف درهم على أني ضامن لك الألف, أو على أن علي الألف, والثاني: أن يضيف المال إلى نفسه بأن يقول على ألفي هذه, أو على عبدي هذا, والثالث أن يعين البدل, وإن كان لا ينسبه إلى نفسه بأن يقول على هذه الألف, أو على هذا العبد, والرابع: أن يسلم البدل, وإن لم يعين, ولم ينسب بأن قال: صالحتك على ألف, وسلمها إليه, والخامس: أن لا يفعل شيئا من ذلك بأن يقول صالحتك على ألف درهم, أو على عبد, وسط, ولم يزد عليه ففي الوجوه الأربعة: يصح الصلح لقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}, وهذا خاص في صلح المتوسط, وقوله عز شأنه {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}, وهذا عام في جميع أنواع الصلح لدخول الألف واللام على الصلح, وأنهما لاستغراق الجنس؛ ولأنه بالصلح في هذه الوجوه متصرف على نفسه بالتبرع بإسقاط الدين على الغير بالقضاء من مال نفسه إن كان الصلح عن إقرار, وإن كان عن إنكار بإسقاط الخصومة فيصح تبرعه كما إذا تبرع بقضاء دين غيره من مال نفسه ابتداء, ومتى صح صلحه يجب عليه تسليم البدل في الوجوه الثلاثة, وليس له أن يرجع على المدعى عليه؛ لأن التبرع بقضاء الدين لا يطلق الرجوع على ما نذكره في فصل الحكم إن شاء الله تعالى. "وأما" في الوجه الخامس فموقوف على إجازة المدعى عليه؛ لأن عند انعدام الضمان والنسبة, وتعيين البدل, والتمكين لا يمكن حمله على التبرع بقضاء دين غيره من مال نفسه, فلا يكن متصرفا على نفسه, بل على المدعى عليه, فيقف على إجازته فإن أجاز نفذ, ويجب البدل عليه دون المصالح؛ لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة. ولو كان وكيلا من الابتداء لنفذ تصرفه على موكله فكذلك إذا التحق التوكيل بالإجازة, وإن رده بطل؛ لأن التصرف على الإنسان لا يصح من غير إذنه وإجازته, ثم إنما يصح صلح الفضولي إذا كان حرا بالغا فلا يصح صلح العبد المأذون, والصبي؛ لأنهما ليسا من أهل التبرع, وكذا الخلع من الأجنبي على هذه الفصول التي ذكرنا بأن كان بإذن الزوج أو المرأة يصير وكيلا, ويجب المال على المرأة دون الوكيل, وإن كان بغير إذنهما؛ فهو على الفصول التي ذكرنا في الصلح, وكذلك الزيادة في الثمن من الأجنبي على هذا التفصيل إن كان بإذن المشتري يكون وكيلا, ويجب على المشتري, وإن كان بغير إذنه؛ فعلى ما ذكرنا من الفصول, وكذلك العفو والصلح عن دم العمد من الأجنبي على هذه الفصول, ثم لا يخلو إما إن صالح على المفروض, أو على غير المفروض بمقدار المفروض, أو بأكثر منه قبل تعيين القاضي, أو بعده على ما تقدم, والأصل فيه أنه يجوز من صلح الأجنبي ما يجوز من صلح القاتل وما لا فلا. وبيان ذلك أنه إذا صالح الفضولي على خمسة عشر ألفا, أو على ألفي دينار, وضمن قبل تعيين القاضي الواجب على العاقلة جاز الصلح على عشرة آلاف درهم, وعلى ألف دينار, وتبطل الزيادة لما ذكرنا أن الفضولي بالصلح في مثل هذا الموضع متبرع بقضاء دين على المتبرع عليه, وليس عليه إلا هذا القدر, فلا يصح تبرعه عليه بالزيادة كمن كان له على آخر ألف درهم دين فقضى عنه ألفين بغير أمره له أن يسترد الزيادة هذا إذا صالح على المفروض, فإن صالح على جنس آخر جاز؛ لأن المانع من الجواز هو الربا, ولا يجري في مختلفي الجنس, وكذلك لو صالح على مائتي بعير بعينها, أو بغير عينها؛ جاز صلحه على المائة لما أن القاتل لو فعل ذلك بنفسه لما جاز إلا على المائة فكذا الفضولي لما ذكرنا, ثم إن كانت بغير أعيانها؛ فالواجب عليه مائة من الإبل على الأسنان الواجبة في باب الدية؛ لأن مطلق الإبل في هذا الباب ينصرف إلى الواجب, وإن كانت بأعيانها, فالواجب مائة منها, والخيار إلى الطالب؛ لأن الرضا بالكل يكون رضا بالبعض, فإن كان في أسنان الإبل نقصان عن أسنان الإبل الواجبة في باب الدية فللطالب أن يرد الصلح؛ لأن صلح الطالب على الزيادة على المفروض محمول على أن غرضه أنه لو ظهر نقصان في السن لا يجبر بزيادة العدد, فإذا لم تحصل له الزيادة لم يحصل غرضه فاختل رضاه بالنقصان فأوجب حق النقص. ولو صالح على مائة على

 

ج / 6 ص -53-         أسنان الدية, وضمنها فهو جائز, ولا خيار للطالب؛ لأن الصلح على مائة على أسنان الدية استيفاء عين الحق, وإن كان القاضي عين الواجب فقضى عليه بالدراهم, فصالح المتوسط على ألفي دينار؛ جاز, ولا بد من القبض في المجلس, كما لو فعله القاتل بنفسه؛ لأنه صرف, فيراعى له شرائطه, والله تعالى أعلم.

"فصل": "وأما" بيان حكم الصلح. فنقول, وبالله التوفيق إن للصلح أحكاما بعضها أصلي لا ينفصل عنه جنس الصلح المشروع, وبعضها دخيل يدخل في بعض أنواع الصلح دون البعض أما الأصل, فهو انقطاع الخصومة والمنازعة بين المتداعيين شرعا حتى لا تسمع دعواهما بعد ذلك, وهذا حكم لازم جنس الصلح. فأما. الدخيل. فأنواع: منها حق الشفعة للشفيع, وجملته أن المدعى لو كان دارا, وبدل الصلح سوى الدار من الدراهم, والدنانير, وغيرهما, فإن كان الصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت للشفيع فيها حق الشفعة؛ لأنه في معنى البيع من الجانبين فيجب حق الشفعة, وإن كان الصلح عن إنكار لا يثبت؛ لأنه ليس في معنى البيع من جانب المدعى عليه, بل هو بذل المال لدفع الخصومة, واليمين لكن للشفيع أن يقوم مقام المدعي فيدلي بحجته على المدعى عليه, فإن كانت للمدعي بينة أقامها الشفيع عليه, وأخذ الدار بالشفعة؛ لأن بإقامة البينة تبين له أن الصلح كان في معنى البيع, وكذلك إن لم تكن له بينة فحلف المدعى عليه, فنكل, وإن كان بدل الصلح دارا, والصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت للشفيع حق الشفعة في الدارين جميعا لما مر أن الصلح هنا في معنى البيع من الجانبين, فصار كأنهما تبايعا دارا بدار, فيأخذ شفيع كل دار الدار المشفوعة بقيمة الدار الأخرى, وإن تصالحا على أن يأخذ المدعي الدار المدعاة, ويعطي المدعى عليه دارا أخرى, فإن كان الصلح عن إنكار وجبت فيهما الشفعة بقيمة كل واحدة منهما لأن هذا الصلح في معنى البيع من الجانبين وإن كان الصلح عن إقرار لا يصح؛ لأن الدارين جميعا ملك المدعي لاستحالة أن يكون ملكه بدلا عن ملكه, وإذا لم يصح الصلح لا تجب الشفعة. ولو صالح عن الدار على منافع لا تثبت الشفعة, وإن كان الصلح عن إقرار؛ لأن المنفعة ليست بعين مال, فلا يجوز أخذ الشفعة بها, وإن كان الصلح عن إنكار يثبت للشفيع حق الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح, ولا يثبت في الدار المدعاة؛ لأن الأخذ بالشفعة يستدعي كون المأخوذ مبيعا في حق من يأخذ منه؛ لأن الصلح عن إنكار في جانب المدعي معاوضة فكان بدل الصلح بمعنى البيع في حقه إذا كان عينا فكان للشفيع حق الأخذ منه بالشفعة, وفي جانب المدعى عليه ليس بمعاوضة, بل هو إسقاط الخصومة, ودفع اليمين عن نفسه فلم يكن للدار المدعاة حكم المبيع في حقه, فلم يكن للشفيع أن يأخذها بالشفعة إلا أن يدلي بحجة المدعي فيقيم البينة, أو يحلف المدعى عليه, فينكل على ما ذكرنا. ومنها حق الرد بالعيب, وأنه يثبت من الجانبين جميعا إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه بمنزلة البيع, وإن كان عن إنكار يثبت في جانب المدعي, ولا يثبت في جانب المدعى عليه؛ لأن هذا بمنزلة البيع في حقه لا في حق المدعى عليه, والعيب على المدعى عليه في دعواه فإن أقام البينة أخذ حصة العيب, وإن لم يثبت للمدعى عليه حق الرد بالعيب لم يرجع في شيء, وكذا لو استحق عليه الدار, وقد بنى فيها بناء فنقض لا يرجع على المدعي بقيمة البناء, وكذا لو كان المدعى جارية, فاستولدها لم يكن مغرورا, ولا يرجع بقيمة الولد؛ لأن ما أخذه المدعي ليس بدل المدعى في حقه إلا أنه إذا استحقت الدار المدعاة يرجع على المدعي بما أدى إليه؛ لأن المؤدى بدل الخصومة في حقه, وقد تبين أنه لا خصومة فيه فكان له حق الرجوع بالمؤدى. ولو وجد ببدل الصلح عيبا فلم يقدر على رده للهلاك أو للزيادة أو للنقصان في يد المدعي فإن كان الصلح عن إقرار يرجع على المدعى عليه بحصة العيب في المدعى, وإن كان عن إنكار يرجع بحصة العيب على المدعى عليه في دعواه, فإن أقام البينة أخذ حصة العيب, وكذا إذا حلفه فنكل, وإن حلف فلا شيء عليه. ومنها الرد بخيار الرؤية في نوعي الصلح, وفرق الطحاوي بينهما, وألحق الرد في الصلح عن إنكار ببدل الصلح عن القصاص وبالمهر, وبدل الخلع, والرد بخيار الرؤية غير ثابت في تلك العقود, فكذا ههنا, وفي كتاب الصلح أثبت حق الرد في النوعين جميعا من غير فصل هو الصحيح؛ لأن الخيار ثبت للمدعي فيستدعي كونه معاوضة عن حقه, وقد وجد وكذلك الأحكام تشهد بصحة هذا

 

ج / 6 ص -54-         على ما نذكر. ومنها أنه لا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض إذا كان منقولا في نوعي الصلح, فلا يجوز للمدعي بيعه وهبته ونحو ذلك, وإن كان عقارا يجوز عند أبي حنيفة, وأبي يوسف, وعند محمد لا يجوز, ويجوز ذلك في الصلح عن القصاص للمصالح أن يبيعه, ويبرأ عنه قبل القبض, وكذلك المهر والخلع والفرق أن المانع من الجواز في سائر المواضع التحرز عن انفساخ العقد على تقدير الهلاك, ولم يوجد هنا؛ لأن الصلح عن القصاص بما لا يحتمل الانفساخ, فلا حاجة إلى الصيانة بالمنع كالموروث, وبذا تبين أن إلحاق العقد بالعقود التي هي مبادلة مال بغير مال على ما ذكره الطحاوي غير سديد. ولو صالح عن القصاص على عين, فهلكت قبل التسليم؛ فعليه قيمتها؛ لأن الصلح لم ينفسخ فبقي وجوب التسليم, وهو عاجز عن تسليم العين للمصلح فيجب تسليم القيمة. "ومنها" أن الوكيل بالصلح إذا صالح ببدل الصلح يلزمه, أو يلزم المدعى عليه, فهذا في الأصل لا يخلو من وجهين إما أن يكون الصلح في معنى المعاوضة, وإما أن يكون في معنى استيفاء عين الحق فإن كان في معنى المعاوضة يلزمه دون المدعى عليه؛ لأنه يكون جاريا مجرى البيع, وحقوق البيع راجعة إلى الوكيل, وإن كان في معنى استيفاء عين الحق, فهذا على وجهين أيضا إما إن ضمن بدل الصلح وإما إن لم يضمن, فإن لم يضمن لا يلزمه؛ لأنه يكون سفيرا بمنزلة الرسول, فلا ترجع إليه الحقوق, وإن ضمن لزمه بحكم الكفالة لا بحكم العقد. "وأما" الفضولي فإن نفذ صلحه فالبدل عليه, ولا يرجع به على المدعى عليه؛ لأنه متبرع, وإن وقف صلحه فإن رده المدعى عليه بطل, ولا شيء على واحد منهما, وإن أجازه جاز, والبدل عليه دون الفضولي.

"فصل": وأما بيان ما يبطل به الصلح بعد وجوده. فنقول وبالله التوفيق ما يبطل به الصلح أشياء "منها" الإقالة فيما سوى القصاص؛ لأن ما سوى القصاص لا يخلو عن معنى معاوضة المال بالمال, فكان محتملا للفسخ كالبيع ونحوه "فأما" في القصاص فالصلح فيه إسقاط محض؛ لأنه عفو, والعفو إسقاط فلا يحتمل الفسخ كالطلاق ونحوه "ومنها" لحاق المرتد بدار الحرب, أو موته على الردة عند أبي حنيفة بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده على الإسلام أو اللحوق بدار الحرب والموت, فإن أسلم نفذ, وإن لحق بدار الحرب, وقضى القاضي به, أو قتل, أو مات على الردة تبطل, وعندهما نافذة والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب يبطل من صلحها ما يبطل من صلح الحربية؛ لأن حكمها حكم الحربية, والمسألة تعرف في موضعها, إن شاء الله تعالى "ومنها" الرد بخيار العيب والرؤية؛ لأنه يفسخ العقد لما علم "ومنها" الاستحقاق, وأنه ليس إبطالا حقيقة, بل هو بيان أن الصلح لم يصح أصلا لا أنه بطل بعد الصحة إلا أنه إبطال من حيث الظاهر لنفاذ الصلح ظاهرا, فيجوز إلحاقه بهذا القسم لكنه ليس بإبطال حقيقة, فكان إلحاقه بأقسام الشرائط على ما ذكرنا أولى وأقرب إلى الصناعة والفقه, فكان أولى "ومنها" هلاك أحد المتعاقدين في الصلح على المنافع قبل انقضاء المدة؛ لأنه بمعنى الإجازة, وإنما تبطل بموت أحد المتعاقدين, وأما هلاك ما وقع الصلح على منفعته هل يوجب بطلان الصلح فلا يخلو إما أن كان حيوانا كالعبد والدابة أو غير حيوان كالدار والبيت, فإن كان حيوانا؛ لا يخلو إما أن هلك بنفسه, أو باستهلاك, فإن هلك بنفسه يبطل الصلح إجماعا, وإن هلك باستهلاك, فلا يخلو من ثلاثة أوجه إما إن استهلكه أجنبي, وإما إن استهلكه المدعى عليه, وإما إن استهلكه المدعي, فإن استهلكه أجنبي بطل الصلح عند محمد, وقال أبو يوسف: لا يبطل ولكن للمدعي الخيار إن شاء نقض الصلح, وإن شاء اشترى له بقيمته عبدا يخدمه إلى المدة المضروبة. "وجه" قول محمد إن الصلح على المنفعة بمنزلة الإجارة؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض, وقد وجد؛ ولهذا ملك إجارة العبد من غيره بمنزلة المستأجر في باب الإجارة, والإجارة تبطل بهلاك المستأجر سواء هلك بنفسه, أو باستهلاك كذا هذا. "وجه" قول أبي يوسف إن هذا صلح فيه معنى الإجارة, وكما أن معنى المعاوضة لازم في الإجارة فمعنى استيفاء عين الحق أصل في الصلح فيجب اعتبارهما جميعا ما أمكن, ومعلوم أنه لا يمكن استيفاء الحق من المنفعة؛ لأنها ليست من جنس المدعى فيجب تحقيق معنى الاستيفاء من محل المنفعة, وهو الرقبة, ولا يمكن ذلك إلا بعد ثبوت الملك له فيها فتجعل كأنها ملكه في حق استيفاء حقه منها وبعد القتل إن تعذر الاستيفاء من عينها يمكن من بدلها, فكان له أن يستوفي من البدل بأن يشتري له عبدا فيخدمه إلى

 

ج / 6 ص -55-         المدة المشروطة, وله حق النقض أيضا لتعذر محل الاستيفاء, وإن استهلكه المدعى عليه بأن قتله, أو كان عبدا فأعتقه يبطل الصلح أيضا, وقيل هذا قول محمد, فأما على أصل أبي يوسف فلا يبطل, وتلزمه القيمة ليشتري له بها عبدا آخر يخدمه إلى المدة المشروطة, كما إذا قتله أجنبي, وكالراهن إذا قتل العبد المرهون, أو أعتقه, وهذا لأن رقبة العبد, وإن كانت مملوكة للمدعى عليه لكنها مشغولة بحق الغير, وهو المدعي لتعلق حقه بها, فتجب رعايتهما جميعا بتنفيذ العتق, ويضمن القيمة, كما في الرهن, وكذا لو استهلكه المدعي بطل الصلح عند محمد, وعند أبي يوسف لا يبطل, وتؤخذ من المدعي قيمة العبد, ويشترى عبد آخر يخدمه, وهل يثبت الخيار للمدعي في نقض الصلح على مذهبه فيه نظر هذا إذا كان الصلح على منافع الحيوان فأما إذا كان على سكنى بيت فهلك بنفسه بأن انهدم, أو باستهلاك بأن هدمه غيره لا يبطل الصلح, ولكن لصاحب السكنى, وهو المدعي الخيار إن شاء بناه صاحب البيت بيتا آخر يسكنه إلى المدة المضروبة, وإن شاء نقض الصلح, ولا يتعذر هنا خلاف محمد؛ لأن إجارة العبد تبطل بموته بالإجماع, وإجارة الدار لا تبطل بانهدامها, ولصاحب الدار أن يبنيها مرة أخرى في بعض إشارات الروايات عن أصحابنا على ما مر في الإجارات. ولو تصالحا عن إنكار المدعى عليه على مال, ثم أقر المدعى عليه بعد الصلح لا ينفسخ الصلح؛ لأن الإقرار مبين أن الصلح وقع معاوضة من الجانبين فكان مقرا للصلح لا مبطلا له. ولو أقام المدعي البينة بعد الصلح لا تسمع بينته إلا إذا ظهر ببدل الصلح عيب, وأنكر المدعى عليه, فأقام البينة ليرده بالعيب, فتسمع بينته, وتبين أن للصلح الماضي حكم الصلح عن إقرار المدعى عليه فكل حكم ثبت في ذلك ثبت في هذا.

"فصل": وأما بيان حكم الصلح إذا بطل بعد صحته, أو لم يصح أصلا. فهو أن يرجع المدعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار, وإن كان عن إقرار, فيرجع على المدعى عليه بالمدعى لا غيره إلا أن في الصلح عن قصاص إذا لم يصح؛ كان له أن يرجع على القاتل بالدية دون القصاص إلا أن يصير مغرورا من جهة المدعى عليه, فيرجع عليه بضمان الغرور أيضا, وبيان هذه الجملة أنهما إذا تقايلا الصلح فيما سوى القصاص, أو رد البدل بالعيب, وخيار الرؤية يرجع المدعي بالمدعى إن كان عن إقرار, وإن كان عن إنكار يرجع إلى دعواه؛ لأن الإقالة والرد بالعيب, وخيار الرؤية فسخ للعقد, وإذا فسخ جعل كأن لم يكن فعاد الأمر على ما كان من قبل, وكذا إذا استحق؛ لأن بالاستحقاق ظهر أنه لم يصح لفوات شرط الصحة فكأنه لم يوجد أصلا, فكان وجوده وعدمه بمنزلة واحدة إلا أن في الصلح عن القصاص عن إقرار لا يرجع بالمدعى, وإن فات شرط الصحة؛ لأن صورة الصلح أورثت شبهة في درء القصاص والقصاص لا يستوفى مع الشبهة فسقط لكن إلى بدل, وهو الدية, فأما المال, وما سوى القصاص من الحقوق والحدود فيما يمكن استيفاؤه مع الشبهة فأمكن الرجوع بالمدعى, ولا يرجع بشيء آخر إلا إذا صار مغرورا من جهة المدعى عليه بأن كان بدل الصلح جارية, فقبضها واستولدها, ثم جاء مستحق فاستحقها وأخذها وأخذ عقرها وقيمة ولدها وقت الخصومة, فإنه يرجع على المدعى عليه بالمدعى, وبما ضمن من قيمة الولد إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه صار مغرورا من جهته, وإن كان الصلح عن إنكار يرجع إلى دعواه لا غير, فإن أقام البينة على صحة دعواه, أو حلف المدعى عليه فنكل حينئذ يرجع بما ادعى, وبقيمة الولد؛ لأنه تبين أنه كان مغرورا, فيرجع عليه بضمان الغرور, ولا يرجع بالعقر في نوعي الصلح؛ لأن العقر بدل لمنفعة المستوفى, فكان عليه العقر, وإن كان الصلح عن القصاص في النفس, أو ما دونها فصالح على جارية فاستولدها, ثم استحقت, فإنه يرجع على المدعى عليه بقيمة الجارية, وبما ضمن من قيمة الولد إن كان الصلح عن إقرار, ولا يرجع بالعقر لما ذكرنا, وإن كان الصلح عن إنكار؛ يرجع إلى دعواه لا غير فإن أقام البينة, أو حلف المدعى عليه, فنكل يرجع بقيمة الجارية, وبما ضمن من قيمة الولد لما قلنا, وإن حلف لا يرجع بشيء, أو صالح المتوسط على عبد معين فاستحق العبد, أو وجد به عيبا فرده حتى بطل الصلح لا سبيل للمدعي على المتوسط, ولكنه يرجع بالمدعى إن كان الصلح عن إقرار, وإن كان عن إنكار يرجع إلى دعواه؛ لأن المتوسط بهذا الصلح لا يضمن سوى تسليم العبد المعين. ولو صالح على دراهم مسماة, وضمنها

 

ج / 6 ص -56-         ودفعها إليه, ثم استحقت, أو وجدها زيوفا له أن يرجع على المصالح المتوسط؛ لأنه بالضمان التزم تسليم الجارية, وسلامة المضمون. ولو استحقت الدار المدعاة بعد الصلح عن إقرار, أو عن إنكار كان للمدعى عليه أن يرجع بما دفع. "أما" في موضع الإقرار, فلا شك فيه؛ لأن المأخوذ عوض في حقهما جميعا. "وأما" في موضع الإنكار فلأن المأخوذ عوض في حق المدعي عن المدعى عليه, وقد فات بالاستحقاق, فيجب عليه رد عوضه هذا إذا استحق كل الدار فأما إذا استحق بعضها, فإن كان ادعى جميع الدار يرجع بحصة ما استحق لفوات بعض ما هو عوض عن المستحق, وإن كان ادعى فيها حقا لم يرجع بشيء لجواز أن يكون المدعى ما وراء المستحق, وإذا بطل الصلح على المنافع بموت أحد المتعاقدين, وغير ذلك في أثناء المدة, فإن كان الصلح عن إقرار رجع بالمدعى بقدر ما لم يستوف من المنفعة, وإن كان عن إنكار رجع إلى الدعوى في قدر ما لم يستوف من المنفعة. ولو صالح عن القصاص على دن من خمر فإذا هو خل, أو على عبد؛ فإذا هو حر, فهو على الاختلاف الذي عرف في باب النكاح إلا أن فيما يجب مهر المثل هناك تجب الدية هنا, وفيما تجب القيمة لرجل مثله هناك يجب ذاك هنا, ولا يشبه هذا ما إذا صالح عن القصاص على خمر, وهو يعلم بأنه خمر أنه لا يجب شيء, وههنا يجب شيء؛ لأن هناك صار مغرورا من جهة المدعى عليه بتسمية العبد والخل, وكل من غر غيره في شيء, يكون ملتزما ما يلحقه من العهدة فيه, فإذا ظهر الأمر بخلافه كان له حق الرجوع عليه بحكم الكفالة والضمان, ومعنى الغرور, لا يتقدر عند علمه بحال المسمى فتبقى لفظة الصلح كناية عن العفو, وأنه مسقط للحق أصلا, فهو الفرق بين الأمرين, والله عز وجل أعلم.