بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب المزارعة"
الكلام في هذا الكتاب في مواضع في معنى المزارعة لغة وشرعا, وفي بيان شرعيتها, وفي بيان ركن المزارعة, وفي بيان الشرائط المصححة للركن على قول من يجيز المزارعة, والشرائط المفسدة لها, وفي بيان حكم المزارعة الصحيحة, وفي بيان حكم المزارعة الفاسدة, وفي بيان المعاني التي هي عذر في فسخ المزارعة, وفي بيان الذي ينفسخ به عقد المزارعة بعد وجودها, وفي بيان حكم المزارعة المنفسخة. "أما" الأول فالمزارعة في اللغة: مفاعلة من الزرع, وهو الإنبات, والإنبات المضاف إلى العبد مباشرة فعل أجرى الله سبحانه وتعالى العادة بحصول النبات عقيبه لا بتخليقه وإيجاده, وفي عرف الشرع: عبارة عن العقد على المزارعة ببعض الخارج بشرائطه الموضوعة له شرعا, فإن قيل: المزارعة من باب المفاعلة فيقتضي وجود الفعل من اثنين, كالمقابلة والمضاربة ونحوهما, وفعل الزرع يوجد من العامل دون غيره بدليل أنه يسمى هو مزارعا دون رب الأرض والبذر ومن لا عمل من جهته, فكيف يسمى هذا العقد مزارعة؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن المفاعلة جاز أن تستعمل فيما لا يوجد الفعل إلا من واحد, كالمداواة والمعالجة, وإن كان الفعل لا يوجد إلا من الطبيب والمعالج, وقال الله تعالى عز شأنه {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. ولا أحد يقصد مقاتلة الله عز شأنه فكذلك المزارعة جاز أن تكون كذلك. والثاني: إن كان أصل الباب ما ذكر فقد وجد الفعل هنا من اثنين؛ لأن المزارعة مفاعلة من الزرع, والزرع هو الإنبات لغة وشرعا, والإنبات المتصور من العبد هو التسبيب لحصول النبات, وفعل التسبيب يوجد من كل واحد منهما إلا أن التسبيب من أحدهما بالعمل ومن الآخر بالتمكين من العمل بإعطاء الآلات والأسباب التي لا يحصل العمل بدونها عادة, فكان كل واحد منهما مزارعا حقيقة؛ لوجود فعل الزرع منه بطريق التسبيب إلا أنه اختص العامل بهذا الاسم في العرف, ومثل هذا جائز, كاسم الدابة ونحوه على ما عرف في أصول الفقه.

"فصل": وأما شرعية المزارعة فقد اختلف فيها قال أبو حنيفة عليه الرحمة: أنها غير مشروعة, وبه أخذ الشافعي رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إنها مشروعة. "وجه" قولهما ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "دفع نخل خيبر معاملة, وأرضها مزارعة", وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام الجواز, وكذا هي شريعة متوارثة لتعامل السلف والخلف ذلك من غير إنكار. "وجه" قول أبي حنيفة أن عقد المزارعة استئجار ببعض الخارج, وإنه منهي بالنص والمعقول "أما" النص فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "قال لرافع بن خديج في حائط لا تستأجره بشيء منه", وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن قفيز الطحان", والاستئجار ببعض الخارج في معناه, والمنهي غير مشروع. "وأما" المعقول فهو أن الاستئجار ببعض الخارج من النصف والثلث والربع ونحوه استئجار ببدل مجهول, وإنه لا يجوز كما في الإجارة, وبه تبين أن حديث خيبر محمول على الجزية دون المزارعة صيانة لدلائل الشرع عن التناقض, والدليل على أنه لا يمكن حمله على المزارعة أنه عليه الصلاة والسلام قال فيه "أقركم ما أقركم الله", وهذا منه عليه الصلاة والسلام تجهيل المدة, وجهالة المدة تمنع صحة المزارعة بلا خلاف. بقي ترك الإنكار على التعامل, وذا يحتمل أن يكون للجواز, ويحتمل أن يكون لكونه محل الاجتهاد, فلا يدل على الجواز مع الاحتمال.

 

ج / 6 ص -176-       "فصل": وأما ركن المزارعة فهو الإيجاب والقبول, وهو أن يقول صاحب الأرض للعامل: دفعت إليك هذه الأرض مزارعة بكذا, ويقول العامل: قبلت أو رضيت أو ما يدل على قبوله ورضاه فإذا وجدا تم العقد بينهما.

"فصل": وأما الشرائط فهي في الأصل نوعان: شرائط مصححة للعقد على قول من يجيز المزارعة, وشرائط مفسدة له. "أما" المصححة فأنواع: بعضها يرجع إلى المزارع, وبعضها يرجع إلى الزرع وبعضها يرجع إلى ما عقد عليه المزارعة وبعضها يرجع إلى الآلة للمزارعة وبعضها إلى الخارج, وبعضها يرجع إلى المزروع فيه, وبعضها يرجع إلى مدة المزارعة. "أما" الذي يرجع إلى المزارع فنوعان: الأول: أن يكون عاقلا فلا تصح مزارعة المجنون والصبي الذي لا يعقل المزارعة دفعا واحدا؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات. "وأما" البلوغ فليس بشرط لجواز المزارعة حتى تجوز مزارعة الصبي المأذون دفعا واحدا؛ لأن المزارعة استئجار ببعض الخارج, والصبي المأذون يملك الإجارة؛ لأنها تجارة فيملك المزارعة, وكذلك الحرية ليست بشرط لصحة المزارعة فتصح المزارعة من العبد المأذون دفعا واحدا لما ذكرنا في الصبي المأذون. والثاني: أن لا يكون مرتدا على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله في قياس قول من أجاز المزارعة, فلا تنفذ مزارعته للحال, بل هي موقوفة وعندهما هذا ليس بشرط لجواز المزارعة, ومزارعة المرتد نافذة للحال بيان ذلك أنه إذا دفع المرتد أرضا إلى رجل مزارعة بالنصف أو بالثلث أو بالربع فعمل الرجل وأخرجت الأرض زرعا ثم قتل المرتد أو مات على الردة أو لحق بدار الحرب, وقضي بلحاقه بدار الحرب, فهذا على وجهين: إما أن دفع الأرض والبذر جميعا مزارعة أو دفع الأرض دون البذر, فإن دفعهما جميعا مزارعة فالخارج كله للمزارع, ولا شيء لورثة المرتد؛ لأن مزارعته كانت موقوفة فإذا مات أو لحق بدار الحرب تبين أنه لم يصح أصلا, فصار كأن العامل زرع أرضه ببذر, مغصوب ومن غصب من آخر حبا وبذر به أرضه فأخرجت كان الخارج له دون صاحب البذر, وعلى العامل مثل ذلك البذر؛ لأنه مغصوب استهلكه, وله مثله فيلزمه مثله ثم ينظر إن كانت الأرض نقصتها المزارعة فعليه ضمان النقصان؛ لأنه أتلف مال الغير بغير إذنه فيجب عليه الضمان, ويتصدق بما وراء قدر البذر ونقصان الأرض؛ لأنه حصل بسبب خبيث فكان سبيله التصدق, وإن كان لم ينقصها المزارعة فلا ضمان عليه؛ لانعدام الإتلاف, وإن أسلم فالخارج بينهما على الشرط سواء أسلم قبل أن يستحصد الزرع أو بعد ما استحصد؛ لأنه لما أسلم تبين أن المزارعة وقعت صحيحة, وعند أبي يوسف ومحمد الخارج على الشرط كيف ما كان؛ لأن تصرفات المرتد نافذة عندهما بمنزلة تصرفات المسلم, فتكون حصته له فإن مات أو لحق بدار الحرب يكون لورثته, وإن دفع إليه الأرض دون البذر فالخارج له أيضا؛ لأنه لما ظهر أنه لما لم تصح المزارعة صار كأنه غصب أرضا وبذرها ببذر نفسه, فأخرجت. ولو كان كذلك كان الخارج له كذا هذا إلا أنه يأخذ من ذلك قدر بذره ونفقته وضمان النقصان إن كانت المزارعة نقصتها ويتصدق بالفضل لما ذكرنا, وإن كانت لم تنقصها, فقياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قياس قول من أجاز المزارعة أن يكون الخارج كله للعامل, ولا يلزمه نقصان الأرض ولا غيره, وفي الاستحسان: الخارج بين العامل وبين ورثة المرتد على الشرط. "وجه" القياس ما ذكرنا أنه يصير بمنزلة الغاصب, ومن غصب من آخر أرضا فزرعها ببذر نفسه, ولم تنقصها الزراعة كان الخارج كله له, ولا يلزمه شيء كذا هذا "وجه" الاستحسان أن انعدام صحة تصرف المرتد بعد الموت واللحاق ليس لمكان انعدام أهليته لأن الردة لا تنافي انعدام الأهلية بل لتعلق حق ورثته بماله لوجود أمارة الاستغناء بالردة؛ لأن الظاهر أنه لا يسلم بل يقتل أو يلحق بدار الحرب فيستغني عن ماله فيثبت التعلق نظرا لهم, ونظرهم هنا في تصحيح التصرف لا في إبطاله ليصل إليهم شيء فأشبه العبد المحجور, إذا آجر نفسه, وسلم من العمل أنه لا يبطل تصرفه بل يصحح حتى تجب الأجرة؛ لأن الحكم ببطلان تصرفه لنظر المولى, ونظره ههنا في التصحيح دون الإبطال كذا هذا, وإذا أسلم المرتد فالخارج على الشرط سواء أسلم قبل انقضاء المزارعة أو بعد انقضائها نقصت الزراعة الأرض أو لم تنقصها, كما ذكرنا في الوجه الأول, وعلى قولهما: الخارج على الشرط كيف ما كان أسلم أو قتل أو لحق؛ لأن تصرفاته نافذة بمنزلة تصرفات المسلم هذا إذا

 

ج / 6 ص -177-       دفع مرتد أرضه مزارعة إلى مسلم أما إذا دفع مسلم أرضه مزارعة إلى مرتد فهذا على وجهين: أيضا: إما أن دفع الأرض والبذر جميعا أو دفع الأرض دون البذر, فإن دفعهما جميعا مزارعة فعمل المرتد فأخرجت الأرض زرعا كثيرا ثم قتل المرتد أو مات أو لحق بدار الحرب فالخارج كله بين المسلم وبين ورثة المرتد على الشرط بلا خلاف؛ لأن انعدام صحة تصرف المرتد لا لعين ردته بل لتضمنه إبطال حق الورثة لتعلق حقهم بماله على ما مر, وعمل المرتد ههنا ليس تصرفا في ماله بل على نفسه بإيفاء المانع, ولا حق لورثته في نفسه فصحت المزارعة فكان الخارج على الشرط المذكور, وإن دفع الأرض دون البذر فعمل المرتد ببذره وأخرجت الأرض زرعا. ففي قياس قول أبي حنيفة على قياس قول من أجاز المزارعة أن الخارج كله لورثة المرتد, ولا يجب نقصان الأرض؛ لأن عنده تصرفات المرتد موقوفة غير نافذة للحال فلم تنفذ مزارعته فكان الخارج حادثا على ملكه لكونه نماء ملكه فكان لورثته, وفيه إشكال وهو أن هذا الخارج من أكساب ردته, وكسب الردة فيء عند أبي حنيفة, فكيف يكون لورثته؟ "والجواب": أنه حين بذر كان حق الورثة متعلقا بالبذر؛ لما مر من قبل, فالحاصل منه يحدث على ملكهم فلا يكون كسب الردة, ولا يجب نقصان الأرض؛ لأن ضمان النقصان يعتمد إتلاف مال الغير بغير إذنه, ولم يوجد؛ إذ المزارعة حصلت بإذن المالك, وعند أبي يوسف ومحمد الخارج على الشرط كما إذا كان مسلما؛ لما ذكرنا, وإن أسلم فالخارج على الشرط بلا خلاف سواء أسلم قبل أن يستحصد الزرع أو بعد ما استحصد؛ لما ذكرنا هذا إذا كانت المزارعة بين مرتد ومسلم "فأما" إذا كانت بين مسلمين ثم ارتدا أو ارتد أحدهما فالخارج على الشرط بلا خلاف؛ لأنه لما كان مسلما وقت العقد صح التصرف فاعتراض الردة بعد ذلك لا تبطله. "وأما" المرتدة فتصح مزارعتها دفعا واحدا بالإجماع؛ لأن تصرفاتها نافذة بمنزلة تصرفات المسلمة فتصح المزارعة منها دفعا واحدا بمنزلة مزارعة المسلمة.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى الزرع فنوع واحد, وهو أن يكون معلوما بأن بين ما يزرع؛ لأن حال المزروع يختلف باختلاف الزرع بالزيادة والنقصان فرب زرع يزيد في الأرض, ورب زرع ينقصها, وقد يقل النقصان, وقد يكثر فلا بد من البيان؛ ليكون لزوم الضرر مضافا إلى التزامه إلا إذا قال له: ازرع فيها ما شئت, فيجوز له أن يزرع فيها ما شاء؛ لأنه لما فوض الأمر إليه فقد رضي بالضرر إلا أنه لا يملك الغرس؛ لأن الداخل تحت العقد الزرع دون الغرس.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المزروع فهو أن يكون قابلا لعمل الزراعة, وهو أن يؤثر فيه العمل بالزيادة بمجرى العادة؛ لأن ما لا يؤثر فيه العمل بالزيادة عادة لا يتحقق فيه عمل الزراعة حتى لو دفع أرضا فيها زرع قد استحصد مزارعة لم يجز كذا قالوا؛ لأن الزرع إذا استحصد لا يؤثر فيه عمل الزراعة بالزيادة, فلا يكون قابلا لعمل الزراعة.

 

ج / 6 ص -178-       فلأن الخارج يكون مشتركا بينهما على الشرط المذكور, وإذا ثبت أن معنى الإجارة والشركة لازم لهذا العقد فاشتراط قدر معلوم من الخارج ينفي لزوم معنى الشركة لاحتمال أن الأرض لا تخرج زيادة على القدر المعلوم؛ ولهذا إذا شرط في المضاربة سهم معلوم من الربح لا يصح كذا هذا, وكذا إذا ذكر جزءا شائعا, وشرط معه زيادة أقفزة معلومة أنه لا يصح لما قلنا, وعلى هذا إذا شرط أحدهما البذر لنفسه, وأن يكون الباقي بينهما لا تصح المزارعة؛ لجواز أن لا تخرج الأرض إلا قدر البذر, فيكون كل الخارج له فلا يوجد معنى الشركة, ولأن هذا في الحقيقة شرط قدر البذر أن يكون له لا عين البذر؛ لأن عينه تهلك في التراب, وذا لا يصح؛ لما ذكرنا, وهذا بخلاف المضاربة؛ لأن قدر رأس المال يرفع, ويقسم الباقي على الشرط؛ لأن المضاربة تقتضي الشركة في الربح لا في غيره, ودفع رأس المال لانعدام معنى الشركة في الربح "فأما" المزارعة فتقتضي الشركة في كل الخارج, واشتراط قدر معلوم من الخارج يمنع تحقق الشركة في كله, فهو الفرق بين الفصلين, وكذا إذا شرطا ما على الماذيانات والسواقي لا يصح العقد؛ لأن ما على الماذيانات والسواقي معلوم, فشرطه يمنع لزوم الشركة في العقد, وقد روي أنهم كانوا يشترطون في عقد المزارعة لأحدهما ما على الماذيانات والسواقي, فلما بعث النبي المكرم عليه أفضل التحية أبطله.

فصل": وأما الذي يرجع إلى المزروع فيه, وهو الأرض فأنواع: "منها": أن تكون صالحة للزراعة حتى لو كانت سبخة أو نزة لا يجوز العقد؛ لأن المزارعة عقد استئجار لكن ببعض الخارج, والأرض السبخة والنزة لا تجوز إجارتها, فلا تجوز مزارعتها "فأما" إذا كانت صالحة للزراعة في المدة لكن لا تمكن زراعتها وقت العقد لعارض من انقطاع الماء وزمان الشتاء ونحوه من العوارض التي هي على شرف الزوال في المدة تجوز مزارعتها, كما تجوز إجارتها. "ومنها" أن تكون معلومة, فإن كانت مجهولة لا تصح المزارعة؛ لأنها تؤدي إلى المنازعة. ولو دفع الأرض مزارعة على أن ما يزرع فيها حنطة فكذا, وما يزرع فيها شعيرا فكذا يفسد العقد؛ لأن المزروع فيه مجهول؛ لأن كلمة "من" للتبعيض فيقع على بعض الأرض, وإنه غير معلوم, وكذا لو قال: على أن يزرع بعضها حنطة وبعضها شعيرا؛ لأن التنصيص على التبعيض تنصيص على التجهيل. ولو قال: على أن ما زرعت فيها حنطة فكذا, وما زرعت فيها شعيرا فكذا جاز؛ لأنه جعل الأرض كلها ظرفا لزرع الحنطة أو لزرع الشعير؛ فانعدم التجهيل. ولو قال: على أن أزرع فيها بغير كراب فكذا ذكر في الأصل أنه جائز, وهذا مشكل؛ لأن المزروع فيه من الأرض مجهول فأشبه ما إذا قال: ما زرع فيها حنطة فكذا وما زرع فيها شعيرا فكذا, ومنهم من اشتغل بتصحيح جواب الكتاب, والفرق بين الفصلين على وجه لم يتضح. ولو قال: على أنه إن زرع حنطة فكذا, وإن زرع شعيرا فكذا, وإن زرع سمسما فكذا, ولم يذكر منها فهو جائز لانعدام جهالة المزروع فيه, وجهالة الزرع للحال ليس بضائر؛ لأنه فوض الاختيار إليه فأي ذلك اختاره يتعين ذلك العقد باختياره فعلا كما قلنا في الكفارات الثلاث. ولو زرع بعضها حنطة وبعضها شعيرا جاز؛ لأنه لو زرع الكل حنطة أو الكل شعيرا لجاز, فإذا زرع البعض حنطة والبعض شعيرا أولى "ومنها": أن تكون الأرض مسلمة إلى العامل مخلاة, وهو أن يوجد من صاحب الأرض التخلية بين الأرض, وبين العامل حتى لو شرط العمل على رب الأرض لا تصح المزارعة لانعدام التخلية, فكذا إذا اشترط فيه عملهما فيمنع التخلية جميعا؛ لما قلنا؛ ولهذا لو شرط رب المال في عقد المضاربة العمل مع المضارب لا تصح المضاربة؛ لأنه شرط يمنع وجود ما هو شرط لصحة العقد وهو التخلية كذا هذا, وعلى هذا إذا دفع أرضا وبذرا وبقرا على أن يزرع العامل وعبد رب الأرض وللعامل الثلث, ولرب الأرض الثلث ولعبده الثلث فهو جائز على ما اشترط؛ لأن صاحب الأرض صار مستأجرا للعامل ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه, فصح وشرط العمل على عبده لا يكون شرطا على نفسه؛ لأن العبد المأذون له يد نفسه على كسبه لا يد النيابة عن مولاه, فيصير بمنزلة الأجنبي فلا يمنع تحقيق التخلية, فلا يمنع الصحة, ويكون نصيب العبد لمولاه, وإن كان البذر من العامل لا تصح المزارعة؛ لأنه يصير مستأجرا للأرض والبقر والعبد ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه, وذا

 

ج / 6 ص -179-       لا يصح, على ما نذكر ويكون الخارج له, وعليه أجر مثل الأرض والبقر والعبد؛ لأن هذا حكم المزارعة الفاسدة على ما يذكر في موضعه, وكذا لو كان شرط عمل رب الأرض مع ذلك كان له أيضا أجر مثل عمله؛ لأن هذا شرط مفسد للعقد والله أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى ما عقد عليه المزارعة فهو أن يكون المعقود عليه في باب المزارعة مقصودا من حيث إنها إجارة أحد أمرين إما منفعة العامل بأن كان البذر من صاحب الأرض, وإما منفعة الأرض بأن كان البذر من العامل؛ لأن البذر إذا كان من قبل رب الأرض يصير مستأجرا للعامل, وإذا كان من قبل العامل يصير مستأجرا للأرض, وإذا اجتمعا في الاستئجار فسدت المزارعة, فأما منفعة البقر فإن حصلت تابعة صحت المزارعة, وإن جعلت مقصودة فسدت.

"فصل": وبيان هذه الجملة ببيان أنواع المزارعة فنقول وبالله التوفيق: المزارعة أنواع "منها": أن تكون الأرض والبذر والبقر والآلة من جانب, والعمل من جانب وهذا جائز؛ لأن صاحب الأرض يصير مستأجرا للعامل لا غير ليعمل له في أرضه ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر. "ومنها": أن تكون الأرض من جانب, والباقي كله من جانب, وهذا أيضا جائز؛ لأن العامل يصير مستأجرا للأرض لا غير ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر "ومنها": أن تكون الأرض والبذر من جانب والبقر والآلة والعمل من جانب فهذا أيضا جائز؛ لأن هذا استئجار للعامل لا غير مقصودا فأما البذر فغير مستأجر مقصودا, ولا يقابله شيء من الأجرة بل هي توابع للمعقود عليه, وهو منفعة العامل؛ لأنه آلة للعمل فلا يقابله شيء من العمل كمن استأجر خياطا فخاط بإبرة نفسه جاز ولا يقابلها شيء من الأجرة, ولأنه لما كان تابعا للمعقود عليه, فكان جاريا مجرى الصفة للعمل كان العقد عقدا على عمل جيد, والأوصاف لا قسط لها من العوض فأمكن أن تنعقد إجارة ثم تتم شركة بين منفعة الأرض وبين منفعة العامل. "ومنها": أن تكون الأرض والبقر من جانب, والبذر والعمل من جانب وهذا لا يجوز في ظاهر الرواية, وروي عن أبي يوسف أنه يجوز. "وجه" قوله أنه لو كان الأرض والبذر من جانب, وجعلت منفعة البقر تابعة لمنفعة العامل فكذا, إذا كان الأرض والبقر من جانب يجب أن يجوز, ويجعل منفعة البقر تابعة لمنفعة الأرض. "وجه" ظاهر الرواية أن العامل هنا يصير مستأجرا للأرض والبقر جميعا مقصودا ببعض الخارج؛ لأنه لا يمكن تحقيق معنى التبعية هنا؛ لاختلاف جنس المنفعة؛ لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض, فبقيت أصلا بنفسها, فكان هذا استئجار البقر ببعض الخارج أصلا ومقصودا, واستئجار البقر مقصودا ببعض الخارج لا يجوز لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا أن المزارعة تنعقد إجارة ثم تتم شركة, ولا يتصور انعقاد الشركة بين منفعة البقر وبين منفعة العامل بخلاف الفصل الأول؛ لأنه يتصور انعقاد الشركة بين منفعة الأرض ومنفعة العامل والثاني: أن جواز المزارعة ثبت بالنص مخالفا للقياس؛ لأن الأجرة معدومة, وهي مع انعدامها مجهولة فيقتصر جوازها على المحل الذي ورد النص فيه, وذلك فيما إذا كانت الآلة تابعة, فإذا جعلت مقصودة يرد إلى القياس "ومنها": أن يكون البذر والبقر من جانب, والأرض والعمل من جانب, وهذا لا يجوز أيضا؛ لأن صاحب البذر يصير مستأجرا للأرض والعامل جميعا ببعض الخارج, والجمع بينهما يمنع صحة المزارعة. "ومنها": أن يكون البذر من جانب, والباقي كله من جانب, وهذا لا يجوز أيضا؛ لما قلنا وروي عن أبي يوسف في هذين الفصلين أيضا أنه يجوز؛ لأن استئجار كل واحد منهما جائز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع "والجواب": ما ذكرنا أن الجواز على مخالفة القياس ثبت عند الانفراد فتبقى حالة الاجتماع على أصل القياس, وطريق الجواز في هذين الفصلين بالاتفاق أن يأخذ صاحب البذر الأرض مزارعة ثم يستعير من صاحبها ليعمل له فيجوز, والخارج يكون بينهما على الشرط. "ومنها": أن يشترك جماعة من أحدهم الأرض ومن الآخر البقر ومن الآخر البذر ومن الرابع العمل, وهذا لا يجوز؛ أيضا لما مر, وفي عين هذا ورد الخبر بالفساد, فإنه روي أن أربعة نفر اشتركوا على عهد رسول الله

 

ج / 6 ص -180-       صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم مزارعتهم, وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف يجوز. "ومنها": أن يشترط في عقد المزارعة أن يكون بعض البذر من قبل أحدهما, والبعض من قبل الآخر, وهذا لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما يصير مستأجرا صاحبه في قدر بذره, فيجتمع استئجار الأرض والعمل من جانب واحد وإنه مفسد. "ومنها": أن تكون الأرض من جانب, والبذر والبقر من جانب دفع صاحب الأرض أرضه إليه على أن يزرعها ببذره وبقره مع هذا الرجل الآخر على أن ما خرج من شيء فثلثه لصاحب الأرض, وثلثاه لصاحب البذر والبقر, وثلثه لذلك العامل, وهذا صحيح في حق صاحب الأرض, والعامل الأول فاسد في حق العامل الثاني, ويكون ثلث الخارج لصاحب الأرض, وثلثاه للعامل الأول, وللعامل الثاني أجر مثل عمله, وكان ينبغي أن تفسد المزارعة في حق الكل لأن صاحب البذر, وهو العامل الأول جمع بين استئجار الأرض, والعامل وقد ذكرنا أن الجمع بينهما مفسد للعقد؛ لكونه خلاف مورد الشرع بالمزارعة, ومع ذلك حكم بصحتها في حق صاحب الأرض والعامل الأول, وإنما كان كذلك؛ لأن العقد فيما بين صاحب الأرض والعامل الأول وقع استئجارا للأرض لا غير وإنه صحيح, وفيما بين العاملين وقع استئجار الأرض والعامل جميعا وإنه غير صحيح, ويجوز أن يكون العقد الواحد له جهتان: جهة الصحة وجهة الفساد خصوصا في حق شخصين, فيكون صحيحا في حق أحدهما فاسدا في حق الآخر. ولو كان البذر في هذه المسألة من صاحب الأرض صحت المزارعة في حق الكل, والخارج بينهم على الشرط؛ لأن صاحب الأرض في هذه الصورة يعتبر مستأجرا للعاملين جميعا, والجمع بين استئجار العاملين لا يقدح في صحة العقد, وإذا صح العقد كان الخارج على الشرط.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى آلة المزارعة فهو أن يكون البقر في العقد تابعا, فإن جعل مقصودا في العقد تفسد المزارعة, وقد تقدم بيانه في الفصل المتقدم بما فيه كفاية.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى مدة المزارعة فهو أن تكون المدة معلومة, فلا تصح المزارعة إلا بعد بيان المدة؛ لأنها استئجار ببعض الخارج, ولا تصح الإجارة مع جهالة المدة, وهذا هو القياس في المعاملة أن لا تصح إلا بعد بيان المدة؛ لأنها استئجار العامل ببعض الخارج, فكانت إجارة بمنزلة المزارعة إلا أنها جازت في الاستحسان لتعامل الناس ذلك من غير بيان المدة, وتقع على أول جزء يخرج من الثمرة في أول السنة؛ لأن وقت ابتداء المعاملة معلوم "فأما" وقت ابتداء المزارعة فمتفاوت حتى إنه لو كان في موضع لا يتفاوت يجوز من غير بيان المدة, وهو على أول زرع يخرج كذا ذكر محمد بن سلمة أن بيان المدة في ديارنا ليس بشرط, كما في المعاملة.

 

ج / 6 ص -181-       فيه بعد الإدراك مما لا يفيده, وكل عمل يكون بعد القسمة من الحمل إلى البيت ونحوه مما يحتاج إليه لإحراز المقسوم فعلى كل واحد منهما في نصيبه؛ لأن ذلك مؤنة ملكه فيلزمه دون غيره. وروي عن أبي يوسف أنه أجاز شرط الحصاد ورفع البيدر والدياس والتذرية على المزارع لتعامل الناس, وبعض مشايخنا بما وراء النهر يفتون به أيضا, وهو اختيار نصير بن يحيى ومحمد بن سلمة من مشايخ خراسان والجذاذ في باب المعاملة لا يلزم العامل بلا خلاف "أما" في ظاهر الرواية فلا يشكل. وأما على رواية أبي يوسف فلانعدام التعامل فيه. ولو باع الزرع قصيلا فاجتمعا على أن يقصلاه كان القصل على كل واحد منهما في قدر شرط الحب؛ لأنه بمنزلة شرط الحصاد "ومنها": شرط التبن لمن لا يكون البذر من قبله, وجملته أن هذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن شرطا أن يكون التبن بينهما وإما أن سكتا عنه وإما أن شرطا أن يكون لأحدهما دون الآخر, فإن شرطا أن يكون بينهما لا شك أنه يجوز؛ لأنه شرط مقرر, ومقتضى العقد؛ لأن الشركة في الخارج من الزرع من معاني هذا العقد على ما مر, وإن سكتا عنه يفسد عند أبي يوسف, وعند محمد: لا يفسد, ويكون لصاحب البذر منهما ذكر الطحاوي أن محمدا رجع إلى قول أبي يوسف. "وجه" قول محمد أن ما يستحقه صاحب البذر يستحقه ببذره لا بالشرط فكان شرط التبن, والسكوت عنه بمنزلة واحدة. "وجه" قول أبي يوسف: أن كل واحد منهما أعني الحب والتبن مقصود من العقد فكان السكوت عن التبن بمنزلة السكوت عن الحب, وذا مفسد بالإجماع فكذا هذا, وإن شرطا أن يكون لأحدهما دون الآخر, فإن شرطاه لصاحب البذر جاز, ويكون له, لأن صاحب البذر يستحقه من غير شرط؛ لكونه نماء ملكه فالشرط لا يزيده إلا تأكيدا, وإن شرطاه لمن لا بذر له فسدت المزارعة؛ لأن استحقاق صاحب البذر التبن بالبذر لا بالشرط؛ لأنه نماء ملكه, ونماء ملك الإنسان ملكه فصار شرط كون التبن لمن لا بذر من قبله بمنزلة شرط كون الحب له, وذا مفسد كذا هذا. "ومنها": أن يشترط صاحب الأرض على المزارع عملا يبقى أثره ومنفعته بعد مدة, فالمزارعة كبناء الحائط والسرقند واستحداث حفر النهر ورفع المسناة ونحو ذلك مما يبقى أثره ومنفعته إلى ما بعد انقضاء المدة؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد. وأما الكراب فلا يخلو في الأصل من وجهين: أما إن شرطاه في العقد وأما إن سكتا عنه, فإن سكتا عنه هل يدخل تحت عقد المزارعة حتى يجبر المزارع عليه لو امتنع أو لا؟ فسنذكره في حكم المزارعة الصحيحة إن شاء الله تعالى, وإن شرطاه في العقد فلا يخلو أيضا من وجهين: إما أن شرطاه مطلقا عن صفة التثنية, وإما أن شرطاه مقيدا بها, فإن شرطاه مطلقا عن الصفة قال بعضهم: إنه يفسد العقد؛ لأن أثره يبقى إلى ما بعد المدة وقال عامتهم: لا يفسد, وهو الصحيح؛ لأن الكراب بدون التثنية مما يبطل السقي على وجه لا يبقى له أثر ومنفعة بعد المدة فلم يكن شرطه مفسدا للعقد, وإن شرطاه مع التثنية فسدت المزارعة؛ لأن التثنية إما أن تكون عبارة عن الكراب مرتين: مرة للزراعة ومرة بعد الحصاد؛ ليرد الأرض على صاحبها مكروبة, وهذا شرط فاسد لا شك فيه؛ لما ذكرنا أنه شرط عمل ليس هو من عمل المزارعة؛ لأن الكراب بعد الحصاد ليس من عمل المزارعة في هذه السنة, وإما أن يكون عبارة عن فعل الكراب مرتين قبل الزراعة, وإنه عمل يبقى أثره ومنفعته إلى ما بعد المدة, فكان مفسدا حتى إنه لو كان في موضع لا يبقى لا يفسد كذا قال بعض مشايخنا. ولو دفع الأرض مزارعة على أنه إن زرعها بغير كراب فللمزارع الربع, وإن زرعها بكراب فله الثلث, وإن كربها وثناها فله النصف فهو جائز على ما شرطا كذا ذكر في الأصل, وهذا مشكل في شرط الكراب مع التثنية؛ لأنه شرط مفسد فينبغي أن يفسدها هذا الشرط, وإذا عمل يكون له أجر مثل عمله, فأما شرط الكراب وعدمه فصحيح على الشرط المذكور؛ لأنه غير مفسد, وبعضهم صححوا جواب الكتاب, وفرقوا بين هذا الشرط وبين شرط التثنية بفرق لم يتضح, وفرع في الأصل فقال: ولو زرع بعض الأرض بكراب وبعضها بغير كراب وبعضها بثنيان فهو جائز, والشرط بينهما في كل الأرض نافذ على ما شرطا كذا ذكر في الأصل, وهذا بناء على الأول؛ لأنه إن شرط التثنية في كل الأرض عند اختياره ذلك يصح في البعض بالطريق الأولى.

"فصل": وأما بيان حكم المزارعة الصحيحة عند من يجيزها فنقول وبالله التوفيق: للمزارعة الصحيحة أحكام:

 

ج / 6 ص -182-       "منها": أن كل ما كان من عمل المزارعة مما يحتاج إليه لإصلاحه فعلى المزارع؛ لأن العقد تناوله وقد بيناه. "ومنها": أن كل ما كان من باب النفقة على الزرع من السرقين وقلع الحشاوة, ونحو ذلك فعليهما على قدر حقهما, وكذلك الحصاد والحمل إلى البيدر والدياس وتذريته؛ لما ذكرنا أن ذلك ليس من عمل المزارعة حتى يختص به المزارع. "ومنها": أن يكون الخارج بينهما على الشرط المذكور؛ لأن الشرط قد صح فيلزم الوفاء به لقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون عند شروطهم". "ومنها": أنها إذا لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء لواحد منهما لا أجر العمل ولا أجر الأرض سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض بخلاف المزارعة الفاسدة أنه يجب فيها أجر المثل, وإن لم تخرج الأرض شيئا, والفرق أن الواجب في العقد الصحيح هو المسمى وهو بعض الخارج, ولم يوجد الخارج فلا يجب شيء, والواجب في المزارعة الفاسدة أجر مثل العمل في الذمة لا في الخارج, فانعدام الخارج لا يمنع وجوبه في الذمة فهو الفرق "ومنها": أن هذا العقد غير لازم في جانب صاحب البذر لازم في جانب صاحبه. ولو امتنع بعدما عقد المزارعة على الصحة, وقال: لا أريد زراعة الأرض له ذلك سواء كان له أو لم يكن. ولو امتنع صاحبه ليس له ذلك إلا من عذر, وعقد المعاملة لازم ليس لواحد منهما أن يمتنع إلا من عذر, والفرق بين هذه الجملة أن صاحب البذر لا يمكنه المضي في العقد إلا بإتلاف ملكه, وهو البذر؛ لأن البذر يهلك في التراب فلا يكون الشروع فيه ملزما في حقه؛ إذ الإنسان لا يجبر على إتلاف ملكه ولا كذلك من ليس البذر من قبله والمعاملات؛ لأنه ليس في لزوم المعنى إياهم إتلاف ملكهم, فكان الشروع في حقهم ملزما, ولا ينفسخ إلا من عذر كما في سائر الإجارات. وسواء كان المزارع كرب الأرض أو لم يكربها؛ لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بينهما, ولا شيء للعامل في عمل الكراب على ما نذكره في حكم المزارعة المنفسخة إن شاء الله تعالى ومنها: ولاية جبر المزارع على الكراب وعدمها, وهذا على وجهين: إما أن شرطا الكراب في العقد وإما أن سكتا عن شرطه فإن شرطاه يجبر عليه لأنه شرط صحيح فيجب الوفاء به, وإن سكتا عنه ينظر إن كانت الأرض مما يخرج الزرع بدون الكراب زرعا معتادا يقصد مثله في عرف الناس لا يجبر المزارع عليه, وإن كانت مما لا يخرج أصلا أو يخرج, ولكن شيئا قليلا لا يقصد مثله بالعمل يجبر على الكراب؛ لأن مطلق عقد المزارعة يقع على الزراعة المعتادة, وعلى هذا إذا امتنع المزارع عن السقي, وقال: ادعها حتى تسقيها السماء فهو على قياس هذا التفصيل أنه إن كان الزرع مما يكتفي بماء السماء, ويخرج زرعا معتادا بدونه لا يجبر على السقي, وإن كان مع السقي أجود, فإن كان مما لا يكتفي به يجبر على السقي؛ لما قلنا. "ومنها": جواز الزيادة على الشرط المذكور من الخارج والحط عنه وعدم الجواز, والأصل فيه أن كل ما احتمل إنشاء العقد عليه احتمل الزيادة, وما لا فلا, والحط جائز في الحالين جميعا كما في الزيادة في الثمن في باب البيع إذا عرف هذا فنقول: الزيادة والحط في المزارعة على وجهين: إما أن يكون من المزارع, وإما أن يكون من صاحب الأرض ولا يخلو إما أن يكون البذر من قبل المزارع, وإما أن يكون من صاحب الأرض بعد ما استحصد الزرع أو قبل أن يستحصد, فإن كان من بعد ما استحصد, والبذر من قبل العامل, وكانت المزارعة على النصف مثلا فزاد المزارع صاحب الأرض السدس في حصته, وجعل له الثلثين, ورضي به صاحب الأرض لا تجوز الزيادة, والخارج بينهما على الشرط نصفان, وإن زاد صاحب الأرض المزارع السدس في حصته وتراضيا فالزيادة جائزة؛ لأن الأول زيادة على الأجرة بعد انتهاء عمل المزارعة باستيفاء المعقود عليه, وهو المنفعة وإنه لا يجوز ألا ترى أنهما لو أنشآ العقد بعد الحصاد لا يجوز فكذلك الزيادة, والثاني حط من الأجرة وإنه لا يستدعي قيام المعقود عليه كما في باب البيع, هذا إذا كان البذر من قبل العامل فإن كان من قبل صاحب الأرض لا يجوز, وإن زاد المزارع جاز؛ لما قلنا, هذا إذا زاد أحدهما بعد ما استحصد الزرع فإن زاد قبل أن يستحصد جاز أيهما كان؛ لأن الوقت يحتمل إنشاء العقد فيحتمل الزيادة أيضا بخلاف الفصل الأول.

"فصل": وأما حكم المزارعة الفاسدة فأنواع: "منها": أنه لا يجب على المزارع شيء من أعمال المزارعة؛ لأن

 

ج / 6 ص -183-       وجوبه بالعقد ولم يصح و "منها": أن الخارج يكون كله لصاحب البذر سواء كان رب الأرض أو المزارع؛ لأن استحقاق صاحب البذر الخارج لكونه نماء ملكه لا بالشرط لوقوع الاستغناء بالملك عن الشرط, واستحقاق الأجر الخارج بالشرط وهو العقد فإذا لم يصح الشرط استحقه صاحب الملك ولا يلزمه التصدق بشيء؛ لأنه نماء ملكه. "ومنها": أن البذر إذا كان من قبل صاحب الأرض كان للعامل عليه أجر المثل؛ لأن البذر إذا كان من قبل صاحب الأرض كان هو مستأجرا للعامل فإذا فسدت الإجارة وجب أجر مثل عمله, وإذا كان البذر من قبل العامل كان عليه لرب الأرض أجر مثل أرضه؛ لأن البذر إذا كان من قبل العامل يكون هو مستأجرا للأرض, فإذا فسدت الإجارة يجب عليه أجر مثل أرضه. "ومنها": أن البذر إذا كان من قبل صاحب الأرض واستحق الخارج وغرم للعامل أجر مثل عمله فالخارج كله له طيب؛ لأنه حاصل من ملكه وهو البذر في ملكه وهو الأرض, وإذا كان من قبل العامل واستحق الخارج وغرم لصاحب الأرض أجر مثل أرضه فالخارج كله لا يطيب له بل يأخذ من الزرع قدر بذره وقدر أجر مثل الأرض ويطيب ذلك له؛ لأنه سلم له بعوض ويتصدق بالفضل على ذلك؛ لأنه وإن تولد من بذره لكن في أرض غيره بعقد فاسد, فتمكنت فيه شبهة الخبث فكان سبيله التصدق. "ومنها": أن أجر المثل لا يجب في المزارعة الفاسدة ما لم يوجد استعمال الأرض؛ لأن المزارعة عقد إجارة والأجرة في الإجارة الفاسدة لا تجب إلا بحقيقة الاستعمال, ولا تجب بالتخلية لانعدام التخلية فيها حقيقة؛ إذ هي عبارة عن رفع الموانع والتمكن من الانتفاع حقيقة وشرعا, ولم يوجد بخلاف الإجارة الصحيحة على ما عرف في الإجارات. "ومنها": أن أجر المثل يجب في المزارعة الفاسدة, وإن لم تخرج الأرض شيئا بعد أن استعملها المزارع, وفي المزارعة الصحيحة إذا لم تخرج شيئا لا يجب شيء لواحد منهما وقد مر الفرق فيما تقدم. "ومنها": أن أجر المثل في المزارعة الفاسدة يجب مقدرا بالمسمى عند أبي يوسف, وعند محمد: يجب تاما, وهذا إذا كانت الأجرة وهو حصة كل واحد منهما مسماة في العقد, فإن لم يكن يجب أجر المثل تاما بالإجماع. "وجه" قول محمد رحمه الله أن الأصل في الإجارة وجوب أجر المثل؛ لأنها عقد معاوضة, وهو تمليك المنفعة بعوض ومبنى المعاوضات على المساواة بين البدلين, وذلك في وجوب أجر المثل؛ لأنه المثل الممكن في الباب؛ إذ هو قدر قيمة المنافع المستوفاة إلا أن فيه ضرب جهالة, وجهالة المعقود عليه تمنع صحة العقد فلا بد من تسمية البدل تصحيحا للعقد فوجب المسمى على قدر قيمة المنافع أيضا, فإذا لم يصح العقد لفوات شرط من شرائطه وجب المصير إلى البدل الأصلي للمنافع وهو أجر المثل؛ ولهذا إذا لم يسم البدل أصلا في العقد وجب أجر المثل بالغا ما بلغ. "وجه" قول أبي يوسف: أن الأصل ما قاله محمد وهو: وجوب أجر المثل بدلا عن المنافع قيمة لها؛ لأنه هو المثل بالقدر الممكن لكن مقدرا بالمسمى؛ لأنه كما يجب اعتبار المماثلة في البدل في عقد المعاوضة بالقدر الممكن يجب اعتبار التسمية بالقدر الممكن؛ لأن اعتبار تصرف العاقل واجب ما أمكن, وأمكن ذلك بتقدير أجر المثل بالمسمى؛ لأن المستأجر ما رضي بالزيادة على المسمى, والآجر ما رضي بالنقصان عنه فكان اعتبار المسمى في تقدير أجر المثل به عملا بالدليلين ورعاية للجانبين بالقدر الممكن فكان أولى بخلاف ما إذا لم يكن البدل مسمى في العقد؛ لأن البدل إذا لم يكن مسمى أصلا لا حاجة إلى اعتبار التسمية فوجب اعتبار أجر المثل فهو الفرق.

"فصل": وأما المعاني التي هي عذر في فسخ المزارعة فأنواع بعضها يرجع إلى صاحب الأرض, وبعضها يرجع إلى المزارع. "أما" الأول الذي يرجع إلى صاحب الأرض فهو الدين الفادح الذي لا قضاء له إلا من ثمن هذه الأرض تباع في الدين, ويفسخ العقد بهذا العذر إذا أمكن الفسخ بأن كان قبل الزراعة أو بعدها إذا أدرك الزرع, وبلغ مبلغ الحصاد؛ لأنه لا يمكنه المضي في العقد إلا بضرر يلحقه فلا يلزمه تحمل الضرر فيبيع القاضي الأرض بدينه أولا ثم يفسخ المزارعة ولا تنفسخ بنفس العذر, وإن لم يمكن الفسخ بأن كان الزرع لم يدرك ولم يبلغ مبلغ الحصاد لا يباع في الدين ولا يفسخ إلى أن يدرك الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق العامل, وفي الانتظار إلى وقت الإدراك تأخير حق صاحب الدين

 

ج / 6 ص -184-       وفيه رعاية الجانبين فكان أولى ويطلق من الحبس إن كان محبوسا إلى غاية الإدراك؛ لأن الحبس جزاء الظلم وهو المطل وإنه غير مماطل قبل الإدراك؛ لكونه ممنوعا عن بيع الأرض شرعا, والممنوع معذور فإذا أدرك الزرع يرد إلى الحبس ثانيا؛ ليبيع أرضه ويؤدي دينه بنفسه, وإلا فيبيع القاضي عليه. "وأما" الثاني الذي يرجع إلى المزارع فنحو المرض لأنه معجز عن العمل, والسفر لأنه يحتاج إليه, وترك حرفة إلى حرفة لأن من الحرف ما لا يغني من جوع فيحتاج إلى الانتقال إلى غيره, ومانع يمنعه من العمل على ما عرف في كتاب الإجارة.

"فصل": وأما الذي ينفسخ به عقد المزارعة بعد وجوده فأنواع: "منها": الفسخ وهو نوعان: صريح, ودلالة فالصريح: أن يكون بلفظ الفسخ والإقالة؛ لأن المزارعة مشتملة على الإجارة والشركة, وكل واحد منهما قابل لصريح الفسخ والإقالة. وأما الدلالة فنوعان: الأول: امتناع صاحب البذر عن المضي في العقد بأن قال: لا أريد مزارعة الأرض ينفسخ العقد؛ لما ذكرنا أن العقد غير لازم في حقه فكان بسبيل من الامتناع عن المضي فيه من غير عذر, ويكون ذلك فسخا منه دلالة. والثاني: حجر المولى على العبد المأذون بعد ما دفع الأرض والبذر مزارعة, وبيان ذلك: أن العبد المأذون إذا دفع الأرض والبذر مزارعة فحجره المولى قبل المزارعة ينفسخ العقد حتى يملك منع المزارع عن المزارعة لأن العقد لم يقع لازما من جهة العبد لأنه صاحب بذر فيملك المولى منعه عن الزراعة بالحجر كما كان يملك العبد منعه قبل الحجر. ولو كان البذر من جهة المزارع لا ينفسخ العقد حتى لا يملك المولى ولا العبد منع المزارع عن المزارعة؛ لأن العقد لازم من قبل صاحب البذر؛ ولهذا لا يملك العبد منعه عن الزراعة قبل الحجر فلا يملك المولى منعه بالحجر أيضا هذا إذا دفع الأرض مزارعة, فأما إذا أخذها مزارعة, فإن كان البذر من قبله انفسخ العقد؛ لأنه إذا حجر عليه فقد عجز عن العمل, وإنه يوجب انفساخ العقد لفوات المعقود عليه, وإن كان البذر والأرض من قبل صاحب البذر لا ينفسخ العقد بالحجر؛ لأنه بالحجر لم يعجز عن العمل إلا أن للمولى منعه عن العمل؛ لما فيه من إتلاف ملكه وهو البذر فله أن يفسخ ما لا ينفسخ بالحجر هذا إذا حجر على العبد المأذون, فأما إذا لم يحجر عليه ولكن نهاه عن الزراعة أو فسخ العقد بعد الزراعة أو نهى قبل ذلك إلا أنه لم يحجر عليه فالنهي باطل, وكذلك نهي الأب الصبي المأذون قبل عقد المزارعة أو بعده لا يصح؛ لأن النهي عن الزراعة والفسخ بعدها من باب تخصيص الإذن بالتجارة, والإذن بالتجارة مما لا يحتمل التخصيص. "ومنها": انقضاء مدة المزارعة؛ لأنها إذا انقضت فقد انتهى العقد وهو معنى الانفساخ "ومنها": موت صاحب الأرض سواء مات قبل الزراعة أو بعدها وسواء أدرك الزرع أو وهو بقل؛ لأن العقد أفاد الحكم له دون وارثه؛ لأنه عاقد لنفسه, والأصل أن من عقد لنفسه بطريق الأصالة فحكم تصرفه يقع له لا لغيره إلا لضرورة "ومنها": موت المزارع سواء مات قبل الزراعة أو بعدها بلغ الزرع حد الحصاد أو لم يبلغ لما ذكرنا.

"فصل": وأما بيان حكم المزارعة المنفسخة فنقول: وبالله التوفيق: لا يخلو من وجهين: إما أن انفسخت قبل الزراعة أو بعدها, فإن انفسخت قبل الزراعة لا شيء للعامل, وإن كرب الأرض وحفر الأنهار وسوى المسنيات بأي طريق انفسخ سواء انفسخ بصريح الفسخ أو بدليله أو بانقضاء المدة أو بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الفسخ يظهر أثره في المستقبل بانتهاء حكمه لا في الماضي فلا يتبين أن العقد لم يكن صحيحا, والواجب في العقد الصحيح المسمى وهو بعض الخارج ولم يوجد فلا شيء, وقيل: هذا جواب الحكم, فأما فيما بينه وبين الله تعالى عليه أن يرضي العامل فيما إذا امتنع عن المضي في العقد قبل الزراعة, ولا يحل له الامتناع شرعا فإنه يشبه التغرير وإنه حرام, وإن انفسخت بعد الزراعة, فإن كان الزرع قد أدرك وبلغ الحصاد فالحصاد والخارج بينهما على الشرط, وإن كان لم يدرك فكذا الجواب في صريح الفسخ ودليله وانقضاء المدة؛ لأن الزرع بينهما على الشرط, والعمل فيما بقي إلى وقت الحصاد عليهما وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض لصاحب الأرض. "أما" الزرع بينهما على الشرط فلما مر أن انفساخ العقد يظهر أثره في المستقبل لا في الماضي فبقي الزرع بينهما على ما كان قبل الانفساخ. "وأما" العمل فيما بقي إلى وقت الحصاد

 

ج / 6 ص -185-       عليهما؛ لأنه عمل في مال مشترك لم يشترط العمل فيه على أحدهما فيكون عليهما وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض لصاحب الأرض لأن العقد قد انفسخ, وفي القلع ضرر بالمزارع, وفي الترك بغير أجر ضرر بصاحب الأرض فكان الترك بأجر المثل نظرا من الجانبين بخلاف ما إذا مات صاحب الأرض, والزرع بقل أن العمل يكون على المزارع خاصة؛ لأن هناك انفسخ العقد حقيقة لوجود سبب الفسخ وهو الموت إلا أنا بقيناه تقديرا دفعا للضرر عن المزارع؛ لأنه لو انفسخ لثبت لصاحب الأرض حق القلع وفيه ضرر بالمزارع فجعل هذا عذرا في بقاء العقد تقديرا, فإذا بقي العقد كان العمل على المزارع خاصة كما كان قبل الموت, وهذا لا يتضح فإن اتفق أحدهما من غير إذن صاحبه ومن غير أمر القاضي فهو متطوع. ولو أراد صاحب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك؛ لأن فيه ضررا بالمزارع. ولو أراد المزارع أن يأخذه بقلا فصاحب الأرض بين خيارات ثلاث: إن شاء قلع الزرع فيكون بينهما, وإن شاء أعطى المزارع قيمة نصيبه من الزرع, وإن شاء أنفق هو على الزرع من ماله ثم يرجع على المزارع بحصته؛ لأن فيه رعاية الجانبين. "وأما" في موت أحد المتعاقدين أما إذا مات رب الأرض بعد ما دفع الأرض مزارعة ثلاث سنين ونبت الزرع وصار بقلا تترك الأرض في يدي المزارع إلى وقت الحصاد, ويقسم على الشرط المذكور؛ لأن في الترك إلى وقت الحصاد نظرا من الجانبين, وفي القلع إضرارا بأحدهما وهو المزارع, ويكون العمل على المزارع خاصة لبقاء العقد تقديرا في هذه السنة في هذا الزرع, وإن مات المزارع والزرع بقل فقال ورثته: نحن نعمل على شرط المزارعة وأبى ذلك صاحب الأرض فالأمر إلى ورثة المزارع؛ لأن في القلع ضررا بالورثة ولا ضرر بصاحب الأرض في الترك إلى وقت الإدراك, وإذا ترك لا أجر للورثة فيما يعملون؛ لأنهم يعملون على حكم عقد أبيهم تقديرا فكأنه يعمل أبوهم, وإن أراد الورثة قلع الزرع لم يجبروا على العمل؛ لأن العقد ينفسخ حقيقة إلا أنا بقيناه باختيارهم نظرا لهم, فإن امتنعوا عن العمل بقي الزرع مشتركا, فإما أن يقسم بينهم بالحصص أو يعطيهم صاحب الأرض قدر حصتهم من الزرع البقل أو ينفق من مال نفسه إلى وقت الحصاد ثم يرجع عليهم بحصتهم؛ لأن فيه رعاية الجانبين والله تعالى أعلم.