بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب المعاملة"
 وقد يسمى كتاب المساقاة, والكلام في هذا الكتاب في المواضع التي ذكرناها في المزارعة, أما معنى المعاملة لغة: فهو مفاعلة من العمل, وفي عرف الشرع عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج مع سائر شرائط الجواز. وأما شرعيتها: فقد اختلف العلماء فيها قال أبو حنيفة عليه الرحمة: إنها غير مشروعة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله والشافعي رحمه الله: مشروعة, واحتجوا بحديث خيبر أنه عليه الصلاة والسلام دفع نخيلهم معاملة, ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا استئجار ببعض الخارج, وأنه منهي عنه على ما ذكرنا في كتاب المزارعة, وقد مر الجواب عن الاستدلال بحديث خيبر فلا نعيده. "وأما" ركنها: فهو الإيجاب والقبول على نحو ما ذكرنا فيما تقدم من غير تفاوت. وأما الشرائط المصححة لها على قول من يجيزها فما ذكرنا في كتاب المزارعة "منها" أن يكون العاقدان عاقلين فلا يجوز عقد من لا يعقل فأما البلوغ: فليس بشرط, وكذا الحرية على نحو ما مر في كتاب المزارعة. "ومنها" أن لا يكونا مرتدين في قول أبي حنيفة على قياس قول من أجاز المعاملة حتى لو كان أحدهما مرتدا وقفت المعاملة, ثم إن كان المرتد هو الدافع فإن أسلم فالخارج بينهما على الشرط وإن قتل أو مات أو لحق فالخارج كله للدافع؛ لأنه نماء ملكه وللآخر أجر المثل إذا عمل, وعندهما الخارج بين العامل المسلم وبين ورثة الدافع على الشرط في الحالين كما إذا كانا مسلمين, وإن كان المرتد هو العامل فإن أسلم فالخارج بينهما على الشرط. وإن قتل أو مات على الردة أو لحق فالخارج بين الدافع المسلم وبين ورثة العامل المرتد على الشرط بالإجماع لما مر في المزارعة, هذا إذا كانت المعاملة بين مسلم ومرتد فأما إذا كانت بين مسلمين ثم ارتدا أو ارتد أحدهما فالخارج على الشرط لما مر في كتاب المزارعة, ويجوز معاملة المرتدة دفعا واحدا

 

ج / 6 ص -186-       بالإجماع. "ومنها" أن يكون المدفوع من الشجر الذي فيه ثمرة معاملة فيما يزيد ثمره بالعمل, فإن كان المدفوع نخلا فيه طلع أو بسر قد احمر أو اخضر إلا أنه لم يتناه عظمه جازت المعاملة وإن كان قد تناهى عظمه إلا أنه لم يرطب فالمعاملة فاسدة؛ لأنه إذا تناهى عظمه لا يؤثر فيه العمل بالزيادة عادة فلم يوجد العمل المشروط عليه فلا يستحق الخارج بل يكون كله لصاحب النخل "ومنها" أن يكون الخارج لهما, فلو شرطا أن يكون لأحدهما فسدت لما علم. "ومنها" أن تكون حصة كل واحد منهما من بعض الخارج مشاعا معلوم القدر لما علم. "ومنها" أن يكون محل العمل وهو الشجر معلوما, وبيان هذه الجملة في كتاب المزارعة "ومنها" التسليم إلى العامل وهو التخلية حتى لو شرطا العمل عليهما فسدت لانعدام التخلية فأما بيان المدة فليس بشرط لجواز المعاملة استحسانا, ويقع على أول ثمرة تخرج في أول السنة بخلاف المزارعة, والقياس أن يكون شرطا؛ لأن ترك البيان يؤدي إلى الجهالة كما في المزارعة إلا أنه ترك القياس لتعامل الناس ذلك من غير بيان المدة ولم يوجد ذلك في المزارعة حتى إنه لو وجد التعامل به في موضع يجوز من غير بيان المدة, وبه كان يفتي محمد بن سلمة على ما مر في المزارعة, ولو دفع أرضا ليزرع فيها الرطاب أو دفع أرضا فيها أصول رطبة نابتة ولم يسم المدة فإن كان شيئا ليس لابتداء نباته ولا لانتهاء جذه وقت معلوم فالمعاملة فاسدة, وإن كان وقت جذه معلوما يجوز ويقع على الجذة الأولى كما في الشجرة المثمرة.

"فصل": وأما الشرائط المفسدة للمعاملة فأنواع: دخل بعضها في الشرائط المصححة للعقد؛ لأن ما كان وجوده شرطا للصحة كان انعدامه شرطا للإفساد. "منها" شرط كون الخارج كله لأحدهما "ومنها" شرط أن يكون لأحدهما قفزان مسماة "ومنها" شرط العمل على صاحب الأرض. "ومنها" شرط الحمل والحفظ بعد القسمة على العامل لما ذكرنا في كتاب المزارعة. "ومنها" شرط الجذاذ والقطاف على العامل بلا خلاف؛ لأنه ليس من المعاملة في شيء ولانعدام التعامل به أيضا فكان من باب مؤنة الملك, والملك مشترك بينهما فكانت مؤنته عليهما على قدر ملكيهما. "ومنها" شرط عمل تبقى منفعته بعد انقضاء مدة المعاملة نحو السرقنة ونصب العرائش وغرس الأشجار وتقليب الأرض وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يقتضيه العقد ولا هو من ضرورات المعقود عليه ومقاصده. "ومنها" شركة العامل فيما يعمل فيه؛ لأن العامل أجير رب الأرض, واستئجار الإنسان للعمل في شيء هو فيه شريك المستأجر لا يجوز حتى إن النخل لو كان بين رجلين فدفعه أحدهما إلى صاحبه معاملة مدة معلومة على أن الخارج بينهما أثلاث ثلثاه للشريك العامل وثلثه للشريك الساكت فالمعاملة فاسدة والخارج بينهما على قدر الملك ولا أجر للعامل على شريكه لما مر أن في المعاملة معنى الإجارة, ولا يجوز الاستئجار لعمل فيه الأجير شريك المستأجر وإذا عمل لا يستحق الأجر على شريكه لما عرف في الإجارات ولا يشبه هذا المزارعة؛ لأن الأرض إذا كانت مشتركة بين اثنين دفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة على أن يزرعها ببذره. وله ثلثا الخارج أنه تجوز المزارعة؛ لأن هناك لم يتحقق الاستئجار للعمل في شيء الأجير فيه شريك المستأجر لانعدام الشركة في البذر وهنا تحقق لثبوت الشركة في النخل فهو الفرق, ولا يتصدق واحد منهما بشيء من الخارج؛ لأنه خالص ماله لكونه نماء ملكه, ولو شرطا أن يكون الخارج لهما على قدر ملكيهما جازت المعاملة؛ لأن استحقاق كل واحد منهما أعني من الشريكين لكونه نماء ملكه لا بالعمل بل العامل منهما معين لصاحبه في العمل من غير عوض فلم يتحقق الاستئجار. ولو أمر الشريك الساكت الشريك العامل أن يشتري ما يلقح به النخل فاشتراه رجع عليه بنصف ثمنه؛ لأنه اشترى مالا متقوما على الشركة بأمره فيرجع عليه, وسواء كان العامل في عقد المعاملة واحدا أو أكثر حتى لو دفع رجل نخله إلى رجلين معاملة بالنصف أو بالثلث جاز وسواء سوى بينهما في الاستحقاق أو جعل لأحدهما فضلا؛ لأن كل واحد منهما أجير صاحب الأرض فكان استحقاق كل واحد منهما بالشرط فيتقدر بقدر الشرط. ولو شرط لأحد العاملين مائة درهم على رب الأرض والآخر ثلث الخارج ولرب الأرض الثلثان جاز؛ لأن الواجب لكل واحد منهما أجرة مشروطة فيجب على حسب ما يقتضيه الشرط ولو

 

ج / 6 ص -187-       شرطا لصاحب النخل الثلث ولأحد العاملين الثلثين وللآخر أجر مائة درهم على العامل الذي شرط له الثلثان فهو فاسد ولا يشبه هذا المزارعة إن من دفع الأرض مزارعة على أن لرب الأرض الثلث وللزارع الثلثان على أن يعمل فلان معه بثلث الخارج أن المزارعة جائزة بين رب الأرض والمزارع فاسدة في حق الثالث؛ لأن المعاملة استئجار العامل, والأجرة تجب على المستأجر دون الأجير بمقابلة العمل. والعمل للمستأجر فكانت الأجرة عليه فإذا اشترطها على الأجير فقد استأجره ليعمل له على أن تكون الأجرة على غيره ولا سبيل إليه ففسد العقد, وهذا هو الموجب للفساد في حق الثالث في باب المزارعة لا أنه صح فيما بين صاحب الأرض والمزارع؛ لأنه جعل بمنزلة عقدين ففساد أحدهما لا يوجب فساد الآخر وهذا مع هذا التكلف غير واضح ويتضح إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما حكم المعاملة الصحيحة عند مجيزها فأنواع "منها" أن كل ما كان من عمل المعاملة مما يحتاج إليه الشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان من السقي وإصلاح النهر والحفظ والتلقيح للنخل فعلى العامل؛ لأنها من توابع المعقود عليه فيتناوله العقد, وكلما كان من باب النفقة على الشجر والكرم والأرض من السرقين وتقليب الأرض التي فيها الكرم والشجر والرطاب ونصب العرائش ونحو ذلك فعليهما على قدر حقيهما؛ لأن العقد لم يتناوله لا مقصودا ولا ضرورة. وكذلك الجذاذ والقطاف؛ لأن ذلك يكون بعد انتهاء العمل فلا يكون من حكم عقد المعاملة. "ومنها" أن يكون الخارج بينهما على الشرط لما مر "ومنها" أنه إذا لم يخرج الشجر شيئا فلا شيء لواحد منهما بخلاف المزارعة الفاسدة لما مر من الفرق في كتاب المزارعة. "ومنها" أن هذا العقد لازم من الجانبين حتى لا يملك أحدهما الامتناع والفسخ من غير رضا صاحبه إلا من عذر بخلاف المزارعة فإنها غير لازمة في جانب صاحب البذر, وقد مر الفرق. "ومنها" ولاية جبر العامل على العمل إلا من عذر على ما قدمناه. "ومنها" جواز الزيادة على الشرط والحط عنه وانعدام الجواز, والأصل فيه ما مر في كتاب المزارعة أن كل موضع احتمل إنشاء العقد احتمل الزيادة وإلا فلا, والحط جائز في الموضعين أصله بالزيادة في الثمن والمثمن, فإذا دفع نخلا بالنصف معاملة فخرج الثمر فإن لم يتناه عظمه جازت الزيادة منهما أيهما كان؛ لأن الإنشاء للعقد في هذه الحالة جائز فكانت الزيادة جائزة. ولو تناهى عظم البسر جازت الزيادة من العامل لرب الأرض شيئا ولا تجوز الزيادة من رب الأرض للعامل شيئا؛ لأن هذه زيادة في الأجرة؛ لأن العامل أجير والمحل لا يحتمل الزيادة, ألا ترى أنه لا يحتمل الإنشاء, والأول حط من الأجرة واحتمال الإنشاء ليس بشرط لصحة الحط. "ومنها" أن العامل لا يملك أن يدفع إلى غيره معاملة إلا إذا قال له رب الأرض اعمل فيه برأيك؛ لأن الدفع إلى غيره إثبات الشركة في مال غيره بغير إذنه فلا يصح, وإذا قال له اعمل فيه برأيك فقد أذن له فصح ولو لم يقل له اعمل برأيك فيه فدفع العامل إلى رجل آخر معاملة فعمل فيه فأخرج فهو لصاحب النخل ولا أجر للعامل الأول؛ ولأن استحقاقه بالشرط وهو شرط العمل ولم يوجد منه العمل بنفسه ولا بغيره أيضا؛ لأن عقده معه لم يصح فلم يكن عمله مضافا إليه وله على العامل الأول أجر مثل عمله يوم عمل؛ لأنه عمل له بأمره فاستحق أجر المثل. ولو هلك الثمر في يد العامل الأخير منا غير عمله وهو في رءوس النخل فلا ضمان على واحد منهما لانعدام الغصب من واحد منهما وهو تفويت يد المالك. ولو هلك من عمله في أمر خالف فيه أمر العامل الأول فالضمان لصاحب النخل على العامل الآخر دون الأول؛ لأن الخلاف قطع نسبة عمله إليه فبقي متلفا على المالك ماله فكان الضمان عليه. ولو هلك في يده من عمله في أمر لم يخالف فيه أمر العامل الأول فلصاحب النخل أن يضمن أيهما شاء؛ لأنه إذا لم يوجد منه بخلاف بقي عمله مضافا إليه كأنه عمل لنفسه فكان له أن يضمنه وله أن يضمن الثاني؛ لأنه في معنى غاصب الغاصب, فإن اختار تضمين الأول لم يرجع على الآخر بشيء؛ لأنه عمل بأمر الأول فلو رجع عليه لرجع هو عليه أيضا فلا يفيد, وإن اختار تضمين الآخر يرجع على الأول لأنه غره في هذا العقد فيرجع عليه بضمان الغرور وهو ضمان السلامة هذا إذا لم يقل له اعمل فيه برأيك فأما إذا قال وشرط النصف فدفعه إلى رجل آخر بثلث

 

ج / 6 ص -188-       الخارج فهو جائز لما ذكرنا, وما خرج من الثمر فنصفه لرب النخل والسدس للعامل الأول؛ لأن شرط الثلث يرجع إلى نصيبه خاصة؛ لأن العمل واجب عليه فبقي له السدس ضرورة وذكر محمد رحمه الله في الأصل أنه إذا لم يقل اعمل فيه برأيك وشرط له شيئا معلوما وشرط الأول للثاني مثل ذلك فهما فاسدان ولا ضمان على العامل الأول.

"فصل": وأما حكم المعاملة الفاسدة فأنواع ذكرناها في المزارعة منها: أنه لا يجبر العامل على العمل؛ لأن الجبر على العمل بحكم العقد ولم يصح, ومنها أن الخارج كله لصاحب الأرض؛ لأن استحقاق الخارج لكونه نماء ملكه واستحقاق العامل بالشرط ولم يصح فيكون لصاحب الملك, ولا يتصدق بشيء منه؛ لأنه حصل عن خالص ملكه, ومنها أن أجر المثل لا يجب في المعاملة الفاسدة ما لم يوجد العمل لما ذكرنا في المزارعة, ومنها أن وجوب أجر المثل فيها لا يقف على الخارج بل يجب وإن لم يخرج الشجر شيئا بخلاف المعاملة الصحيحة, وقد ذكرنا الفرق في كتاب المزارعة ومنها أن أجر المثل فيها يجب مقدرا بالمسمى لا يتجاوز عنه عند أبي يوسف وعند محمد يجب تاما وهذا الاختلاف فيما إذا كانت حصة كل واحد منهما مسماة في العقد فإن لم تكن مسماة في العقد يجب أجر المثل تاما بلا خلاف, وقد مرت المسألة في كتاب المزارعة

"فصل": وأما المعاني التي هي عذر في فسخها فما ذكرنا في كتاب المزارعة, ومن الأعذار التي في جانب العامل أن يكون سارقا معروفا بالسرقة فيخاف الثمر والسعف.