بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الأراضي"
الكلام في موضعين في بيان أنواع الأراضي وفي بيان حكم كل نوع منها. "أما" الأول: فالأراضي في الأصل نوعان: أرض مملوكة, وأرض مباحة غير مملوكة, والمملوكة نوعان: عامرة وخراب, والمباحة نوعان أيضا: نوع هو من

 

ج / 6 ص -193-       مرافق البلدة محتطبا لهم ومرعى لمواشيهم ونوع ليس من مرافقها وهو المسمى بالموات. "أما" بيان حكم كل نوع منها. "أما" الأراضي المملوكة العامرة: فليس لأحد أن يتصرف فيها من غير إذن صاحبها؛ لأن عصمة الملك تمنع من ذلك, وكذلك الأرض الخراب الذي انقطع ماؤها ومضى على ذلك سنون لأن الملك فيها قائم وإن طال الزمان حتى يجوز بيعها وهبتها وإجارتها وتصير ميراثا إذا مات صاحبها إلا أنها إذا كانت خرابا فلا خراج عليها إذ ليس على الخراب خراج إلا إذا عطلها صاحبها مع التمكن من الاستنماء فعليه الخراج وهذا إذا عرف صاحبها فإن لم يعرف فحكمها حكم اللقطة يعرف في كتابه إن شاء الله تعالى. وأما الكلأ الذي ينبت في أرض مملوكة فهو مباح غير مملوك إلا إذا قطعه صاحب الأرض وأخرج فيملكه, هذا جواب ظاهر الرواية عن أصحابنا رضي الله عنهم. وقال بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: أنه إذا سقاه وقام عليه ملكه والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن الأصل فيه هو الإباحة لقوله عليه الصلاة والسلام "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار والكلأ" اسم لحشيش ينبت من غير صنع العبد, والشركة العامة هي الإباحة إلا إذا قطعه وأحرزه لأنه استولى على مال مباح غير مملوك فيملكه كالماء المحرز في الأواني والظروف وسائر المباحات التي هي غير مملوكة لأحد, والنار اسم لجوهر مضيء دائم الحركة علوا فليس لمن أوقدها أن يمنع غيره من الاصطلاء بها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أثبت الشركة فيها فأما الجمر: فليس بنار وهو مملوك لصاحبه فله حق المنع كسائر أملاكه. ولو أراد أحد أن يدخل ملكه لاحتشاش الكلإ فإذا كان يجده في موضع آخر له أن يمنعه من الدخول, وإن كان لا يجده فيقال لصاحب الأرض: إما أن تأذن له بالدخول وإما أن تحش بنفسك فتدفعه إليه كالماء الذي في الآبار والعيون والحياض التي في الأراضي المملوكة على ما ذكرنا في كتاب الشرب. ولو دخل إنسان أرضه بغير إذنه واحتش ليس لصاحبه أن يسترده؛ لأنه مباح سبقت يده إليه, وكذا لا يجوز بيعه؛ لأن محل البيع مال مملوك وإن لم يثبت على ملك أحد, ولا تجوز إجارته؛ لأن الأعيان لا تحتمل الإجارة على ما ذكرنا في كتاب الشرب, والجواب في الكلإ في البيع والإجارة والهبة والنكاح والخلع والصلح والوصية كالجواب في الشرب؛ لأن كل واحد منها غير مملوك وقد ذكرنا ذلك كله في الشرب. وكذلك المروج المملوكة في حكم الكلإ على هذا, وكذلك الآجام المملوكة في حكم السمك, لأن السمك أيضا مباح الأصل لقوله تعالى عز شأنه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} وقوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث فلا يصير مملوكا إلا بالأخذ والاستيلاء لما بينا. ولو حظر السمك في حظيرة فإن كان مما يمكن أخذه بغير صيد يملكه بنفس الحظر لوجود الاستيلاء وإثبات اليد عليه, ولهذا لو باعه جاز وإن كان لا يمكن أخذه إلا بصيد لا يملكه صاحب الحظيرة؛ لأنه ما استولى عليه ولا يملك المباح إلا بالاستيلاء, ولهذا لو باعه لا يجوز بيعه وعلى هذا سائر المباحات كالطير إذا باضت أو فرخت في أرض إنسان أنه يكون مباحا ويكون للآخذ لا لصاحب الأرض سواء كان صاحب الأرض اتخذ له وكرا أم لا. وقال المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله: إنه إن كان اتخذ له ملكا له يسترده من الآخذ وهذا غير سديد لقوله عليه الصلاة والسلام لمن أخذه ولأن الملك في المباح إنما يثبت بالاستيلاء عليه والآخذ هو المستولي دون صاحب الأرض وإن اتخذ له وكرا, وكذلك صيد التجأ إلى أرض رجل أو داره فهو للآخذ لما قلنا. ولو رد صاحب الدار باب الدار عليه بعد الدخول يملكه إن أمكنه أخذه بغير صيد لوجود الاستيلاء منه, وكذلك لو نصب شبكة فتعقل بها صيد تعقلا لا خلاص له فهو لناصب الشبكة سواء كانت الشبكة له أو لغيره, كمن أرسل بازي إنسان بغير إذنه فأخذ صيدا أو أغرى كلبا لإنسان على صيد فأخذه فكان للمرسل والمغري لا لصاحبه, ولو نصب فسطاطا فجاء صيد فتعقل به فهو للآخذ. "ووجه" الفرق أن نصب الشبكة وضع لتعقل الصيد ومباشر السبب الموضوع للشيء اكتساب له. "فأما" نصب الفسطاط: فما وضع لذلك بل لغرض آخر فتوقف الملك فيه على الاستيلاء

 

ج / 6 ص -194-       والأخذ حقيقة ولو حفر حفيرة فوقع فيها صيد فإن كان حفرها لاجتماع الماء فيها فهو للآخذ؛ لأنه بمنزلة الاصطياد وإن كان حفرها للاصطياد بها فهو له بمنزلة الشبكة. "وأما" الآجام المملوكة في حكم القصب والحطب فليس لأحد أن يحتطب من أجمة رجل إلا بإذنه؛ لأن الحطب والقصب مملوكان لصاحب الأجمة ينبتان على ملكه وإن لم يوجد منه الإنبات أصلا, بخلاف الكلإ في المروج المملوكة؛ لأن منفعة الأجمة هي القصب والحطب فكان ذلك مقصودا من ملك الأجمة فيملك بملكها. "فأما" الكلأ فغير مقصود من المرج المملوك بل المقصود هو الزراعة. ولو أن بقارا رعى بقرا في أجمة مملوكة لإنسان فليس له ذلك وهو ضامن لما رعى وأفسد من القصب لما ذكرنا أن منفعة الأجمة القصب والحطب وهما مملوكان لصاحب الأجمة, وإتلاف مال مملوك لصاحبه يوجب الضمان بخلاف الكلإ في المروج؛ لأنه يثبت على الإباحة دون الملك على ما بينا والدليل على التفرقة بينهما أنه يجوز له دفع القصب معاملة ولا يجوز دفع الكلإ معاملة, والأصل المحفوظ فيه أن القصب والحطب يملكان بملك الأرض والكلأ لا. "وأما" ما لا ينبت عادة إلا بصنع العبد كالقتة والقصيل وما بقي من حصاد الزرع ونحو ذلك في أرض مملوكة يكون مملوكا ولصاحب الأرض أن يمنع غيره, ويجوز بيعه ونحو ذلك لأن الإنبات يعد اكتسابا له فيملكه, ولأن الأصل أن يكون من المملوك مملوكا إلا أن الإباحة في بعض الأشياء تثبت على مخالفة الأصل بالشرع والشرع ورد بها في أشياء مخصوصة فيقتصر عليها. "وأما" أرض الموات فالكلام فيها في مواضع في تفسير الأرض الموات, وفي بيان ما يملك الإمام من التصرف في الموات, وفي بيان ما يثبت به الملك في الموات, وما يثبت به الحق فيه دون الملك, وفي بيان حكمه إذا ملك. "أما" الأول: فالأرض الموات هي أرض خارج البلد لم تكن ملكا لأحد ولا حقا له خاصا فلا يكون داخل البلد موات أصلا, وكذا ما كان خارج البلدة من مرافقها محتطبا بها لأهلها أو مرعى لهم لا يكون مواتا حتى لا يملك الإمام إقطاعها؛ لأن ما كان من مرافق أهل البلدة فهو حق أهل البلدة كفناء دارهم وفي الإقطاع إبطال حقهم. وكذلك أرض الملح والقار والنفط ونحوها مما لا يستغني عنها المسلمون لا تكون أرض موات حتى لا يجوز للإمام أن يقطعها لأحد؛ لأنها حق لعامة المسلمين وفي الإقطاع إبطال حقهم وهذا لا يجوز وهل يشترط أن يكون بعيدا من العمران؟ شرطه الطحاوي رحمه الله فإنه قال: وما قرب من العامر فليس بموات. وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله أن أرض الموات بقعة لو وقف على أدناها من العامر رجل فنادى بأعلى صوته لم يسمعه من العامر وفي ظاهر الرواية ليس بشرط, حتى إن بحرا من البلدة جزر ماؤه أو أجمة عظيمة لم تكن ملكا لأحد تكون أرض موات في ظاهر الرواية, وعلى قياس رواية أبي يوسف وقول الطحاوي لا تكون, والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن الموات اسم لما لا ينتفع به, فإذا لم يكن ملكا لأحد ولا حقا خاصا لم يكن منتفعا به كان بعيدا عن البلدة أو قريبا منها. "وأما" بيان ما يملك الإمام من التصرف في الموات: فالإمام يملك إقطاع الموات من مصالح المسلمين لما يرجع ذلك إلى عمارة البلاد, التصرف فيما يتعلق بمصالح المسلمين للإمام ككري الأنهار العظام وإصلاح قناطرها ونحوه. ولو أقطع الإمام الموات إنسانا فتركه ولم يعمره لا يتعرض له إلى ثلاث سنين فإذا مضى ثلاث سنين فقد ظل مواتا كما كان وله أن يقطعه غيره لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق" ولأن الثلاث سنين مدة لإبلاء الأعذار فإذا أمسكها ثلاث سنين ولم يعمرها دل على أنه لا يريد عمارتها بل تعطيلها فبطل حقه وتعود إلى حالها مواتا, وكان للإمام أن يعطيها غيره. "وأما" بيان ما يثبت به الملك في الموات وما لا يثبت ويثبت به الحق فالملك في الموات يثبت بالإحياء بإذن الإمام عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى يثبت بنفس الإحياء وإذن الإمام ليس بشرط. "وجه" قولهما قوله عليه الصلاة والسلام "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم فيه حق" أثبت الملك للمحيي من غير شريطة إذن الإمام ولأنه مباح استولى عليه فيملكه بدون إذن الإمام كما لو أخذ صيدا أو حش كلأ, وقوله عليه الصلاة والسلام ليس لعرق ظالم فيه

 

ج / 6 ص -195-       حق روي منونا ومضافا, فالمنون هو أن تنبت عروق أشجار إنسان في أرض غيره بغير إذنه فلصاحب الأرض قلعها حشيشا. ولأبي حنيفة عليه الرحمة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه فإذا لم يأذن فلم تطب نفسه به فلا يكون له" ولأن الموات غنيمة فلا بد للاختصاص به من إذن الإمام كسائر الغنائم, والدليل عليه أن غنيمة اسم لما أصيب من أهل الحرب بإيجاف الخيل والركاب, والموات كذلك؛ لأن الأرض كلها كانت تحت أيدي أهل الحرب استولى عليها المسلمون عنوة وقهرا فكانت كلها غنائم فلا يختص بعض المسلمين بشيء منها من غير إذن الإمام كسائر الغنائم بخلاف الصيد والحطب والحشيش؛ لأنها لم تكن في يد أهل الحرب فجاز أن تملك بنفس الاستيلاء وإثبات اليد عليها. "وأما" الحديث فيحتمل أنه يصير به شرعا ويحتمل أنه أذن جماعة بإحياء الموات بذلك النظم, ونحن نقول بموجبه فلا يكون حجة مع الاحتمال نظير قوله عليه الصلاة والسلام "من قتل قتيلا فله سلبه" حتى لم يصح الاحتجاج به في إيجاب السلب للقاتل على ما ذكر في كتاب السير, أو يحمل ذلك على حال الإذن توفيقا بين الدلائل, ويملك الذمي بالإحياء كما يملك المسلم لعموم الحديث. ولو حجر الأرض الموات لا يملكها بالإجماع؛ لأن الموات يملك بالإحياء؛ لأنه عبارة عن وضع أحجار أو خط حولها يريد أن يحجر غيره عن الاستيلاء عليها, وشيء من ذلك ليس بإحياء فلا يملكها ولكن صار أحق بها من غيره حتى لم يكن لغيره أن يزعجه؛ لأنه سبقت يده إليه والسبق من أسباب الترجيح في الجملة قال النبي عليه الصلاة والسلام "مني مباح من سبق" وعلى هذا المسافر إذا نزل بأرض مباحة أو رباط صار أحق بها ولم يكن لمن يجيء بعده أن يزعجه عنها. وإذا صار أحق بها فلا يقطعها الإمام غيره إلا إذا عطلها المتحجر ثلاث سنين ولم يعمرها. "وأما" بيان حكم أرض الموات إذا ملكت فيختص بها حكمان أحدهما: حكم الحريم, والثاني: الوظيفة من العشر والخراج, أما الأول: فالكلام فيه في موضعين أحدهما: في أصل الحريم, والثاني: في قدره. "أما" أصله: فلا خلاف في أن من حفر بئرا في أرض الموات يكون لها حريم حتى لو أراد أحد أن يحفر في حريمه له أن يمنعه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل للبئر حريما, وكذلك العين لها حريم بالإجماع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جعل لكل أرض حريما. "وأما" النهر: فقد ذكرنا الكلام فيه. "وأما" تقديره: فحريم العين خمسمائة ذراع بالإجماع وبه نطقت السنة وهو قوله عليه الصلاة والسلام للعين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعا بالإجماع نطقت به السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام وحريم بئر العطن أربعون ذراعا وأما حريم بئر الناضح فقد اختلف فيه عند أبي حنيفة رحمه الله أربعون ذراعا, وعندهما ستون ذراعا, احتجا بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه قال وحريم بئر الناضح ستون ذراعا". "وجه" قول: أبي حنيفة أن الملك في الموات يثبت بالإحياء بإذن الإمام أو بغير إذنه ولم يوجد منه إحياء الحريم, وكذا إذن الإمام يتناول الحريم مقصودا إلا أن دخول الحريم لحاجة البئر إليه, وحاجة الناضح تندفع بأربعين ذراعا من كل جانب كحاجة العطن فبقي الزيادة على ذلك على حكم الموات, والحديث يحتمل أنه قال عليه الصلاة والسلام ذلك في بئر خاص, وللإمام ولاية ذلك. "وأما" حريم النهر: فقد اختلف أبو يوسف ومحمد في تقديره فعند أبي يوسف قدر نصف بطن النهر من كل جانب النصف من هذا الجانب والنصف من ذلك الجانب, وعند محمد قدر جميع بطن النهر من كل جانب قدر جميعه. "وأما" النهر إذا حفر في أرض الموات فمنهم من ذكر الخلاف فيه بين أبي حنيفة وصاحبيه, والصحيح أن له حريما بلا خلاف لما قلنا. "وأما" الثاني: حكم الوظيفة فإن أحياها مسلم قال أبو يوسف إن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية, وإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجية. وقال محمد: إن أحياها بماء العشر فهي عشرية, وإن أحياها بماء الخراج فهي خراجية, وإن أحياها ذمي فهي خراجية كيف ما كان بالإجماع وهي من مسائل كتاب العشر والخراج والله تعالى عز شأنه أعلم.