بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع
"كتاب الشرب"
الكلام في هذا الكتاب في مواضع في بيان معنى
الشرب لغة وشرعا وفي بيان أنواع المياه وفي
بيان حكم كل نوع منها أما الأول: فالشرب في
اللغة عبارة عن الحظ والنصيب من الماء قال
الله تعالى عز شأنه قال
{هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وفي الآية الكريمة دلالة على جواز قسمة الشرب بالأيام؛ لأن الله
سبحانه وتعالى عز اسمه أخبر عن نبيه سيدنا
صالح عليه الصلاة والسلام قبل ذلك ولم يعقبه
بالفسخ فصارت شريعة لنا مبتدأة, وبها استدل
محمد رحمه الله في كتاب الشرب لجواز قسمة
الشرب بالأيام وفي عرف الشرع عبارة عن حق
الشرب والسقي وأما بيان. أنواع المياه فنقول:
المياه أربعة أنواع: الأول: الماء الذي يكون
في الأواني والظروف والثاني الماء الذي يكون
في الآبار والحياض والعيون والثالث ماء
الأنهار الصغار التي تكون لأقوام مخصوصين
والرابع: ماء الأنهار العظام كجيحون وسيحون
ودجلة والفرات ونحوها أما بيان حكم كل نوع
منها على القسمة أما الأول فهو مملوك لصاحبه
لا حق لأحد فيه؛ لأن الماء وإن كان مباحا في
الأصل لكن المباح يملك بالاستيلاء إذا لم يكن
مملوكا لغيره كما إذا استولى على الحطب
والحشيش والصيد فيجوز بيعه كما يجوز بيع هذه
الأشياء. وكذا السقاءون يبيعون المياه
المحروزة في الظروف, به جرت العادة في الأمصار
وفي سائر الأعصار من غير نكير فلم يحل لأحد أن
يأخذ منه فيشرب من غير إذنه. ولو خاف الهلاك
على نفسه من العطش فسأله فمنعه فإن لم يكن
عنده فضل فليس له أن يقاتله أصلا؛ لأن هذا دفع
الهلاك عن نفسه بإهلاك غيره لا بقصد إهلاكه
وهذا لا يجوز وإن كان عنده فضل ماء عن حاجته
فللممنوع أن يقاتله ليأخذ منه الفضل لكن بما
دون السلاح, كما إذا أصابته مخمصة وعند صاحبه
فضل طعام فسأله فمنعه وهو لا يجد غيره. وأما
الثاني: الماء الذي يكون في الحياض والآبار
والعيون فليس بمملوك لصاحب بل هو مباح في
نفسه, سواء كان في أرض مباحة أو مملوكة لكن له
حق خاص فيه لأن الماء في الأصل خلق مباحا لقول
النبي – عليه
ج / 6 ص -189-
الصلاة
والسلام "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار" والشركة العامة تقتضي الإباحة إلا أنه إذا جعل في إناء وأحرزه به
فقد استولى عليه وهو غير مملوك لأحد فيصير
مملوكا للمستولي كما في سائر المباحات الغير
المملوكة, وإذا لم يوجد ذلك بقي على أصل
الإباحة الثابتة بالشرع فلا يجوز بيعه؛ لأن
محل البيع هو المال المملوك وليس له أن يمنع
الناس من الشفة وهو الشرب بأنفسهم وسقي دوابهم
منه؛ لأنه مباح لهم. وقد روي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن منع نبع البئر وهو فضل
مائها الذي يخرج منها, فلهم أن يسقوا منها
لشفاههم ودوابهم فأما لزروعهم وأشجارهم فله أن
يمنع ذلك لما في الإطلاق من إبطال حقه أصلا
إلا إذا كان ذلك في أرض مملوكة فلصاحبها أن
يمنعهم عن الدخول في أرضه إذا لم يضطروا إليه
بأن وجدوا غيره؛ لأن الدخول إضرار به من غير
ضرورة فله أن يدفع الضرر عن نفسه وإن لم يجدوا
غيره واضطروا وخافوا الهلاك يقال له: إما أن
تأذن بالدخول, وإما أن تعطي بنفسك فإن لم
يعطهم ومنعهم من الدخول لهم أن يقاتلوه
بالسلاح ليأخذوا قدر ما يندفع به الهلاك عنهم
والأصل فيه ما روي أن قوما وردوا ماء فسألوا
أهله أن يدلوهم على البئر فأبوا وسألوهم أن
يعطوهم دلوا فأبوا فقالوا لهم: إن أعناقنا
وأعناق مطايانا كادت تقطع فأبوا فذكروا ذلك
لسيدنا عمر رضي الله عنه فقال: هلا وضعتم فيهم
السلاح بخلاف الماء المحرز في الأواني والطعام
حالة المخمصة؛ لأن الماء هناك مملوك لصاحبه
وكذا الطعام فلا بد من مراعاة حرمة الملك
لحرمة القتال بالسلاح, ولا ملك هناك بل هو على
الإباحة الأصلية على ما بينا, فإذا منعه أحد
ما له حق أخذه قاتله بالسلاح كما إذا منعه
ماله المملوك وأما الثالث: الماء الذي يكون في
الأنهار التي تكون لأقوام مخصوصين فيتعلق به
أحكام بعضها يرجع إلى نفس الماء, وبعضها يرجع
إلى الشرب, وبعضها يرجع إلى النهر. أما الذي
يرجع إلى نفس الماء فهو أنه غير مملوك لأحد
لما ذكرنا أن الماء خلق مباح الأصل بالنص
وإنما يأخذ حكم الملك بالإحراز بالأواني فلا
يجوز بيعه لعدم الملك. ولو قال: اسقني يوما من
نهرك على أن أسقيك يوما من نهر كذا لا يجوز؛
لأن هذا مبادلة الماء بالماء فيكون بيعا أو
إجارة الشرب بالشرب, وكل ذلك لا يجوز, ولا
تجوز إجارته؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة لا
تمليك العين بمنافعها ليست بمملوكة, ولو
استأجر حوضا أو بئرا ليسقي منه ماء لا يجوز؛
لأن هذا استئجار الماء, وكذا لو استأجر النهر
ليصيد منه السمك؛ لأن هذا استئجار السمك, وكذا
لو استأجر أجمة ليحتطب؛ لأن هذا استئجار لحطب
والأعيان لا تحتمل الإجارة. وليس لصاحب النهر
أن يمنع من الشفة وهو شرب الناس والدواب, وله
أن يمنع من سقي الزرع والأشجار؛ لأن له فيه
حقا خاصا وفي إطلاق السقي إبطال حقه؛ لأن كل
واحد يتبادر إليه فيسقي منه زرعه وأشجاره
فيبطل حقه أصلا. ولو أذن بالسقي والنهر خاص له
جاز, لأنه أبطل حق نفسه. وأما الذي يرجع إلى
الشرب: فهو أنه لا يجوز بيعه منفردا بأن باع
شرب يوم أو أكثر؛ لأنه عبارة عن حق الشرب
والسقي والحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع
والشراء. ولو اشترى به دارا وعبدا وقبضهما
لزمه رد الدار والعبد؛ لأنه مقبوض بحكم عقد
فاسد فكان واجب الرد كما في سائر البياعات
الفاسدة ولا شيء على البائع بما انتفع به من
الشرب. ولو باع الأرض مع الشرب جاز تبعا
للأرض, ويجوز أن يجعل الشيء تبعا لغيره وإن
كان لا يجعله مقصودا بنفسه كأطراف الحيوان,
ولا يدخل الشرب في بيع الأرض إلا بالتسمية
صريحا أو بذكر ما يدل عليه بأن يقول: بعتها
بحقوقها أو بمرافقها أو كل قليل وكثير هو لها
داخل فيها وخارج عنها من حقوقها فإن لم يذكر
شيئا من ذلك لا يدخل؛ لأن اسم الأرض بصيغته
وحروفه لا يدل على الشرب ولا تجوز إجارته
مفردا؛ لأن الحقوق لا تحتمل الإجارة على
الانفراد كما لا تحتمل البيع وكذا لو جعله
أجرة في إجارة الدار والعبد ونحو ذلك لا يجوز؛
لأن الأجرة في باب الإجارة كالثمن في باب
البيع وإنه لا يصلح ثمنا في البياعات فلا يصلح
أجرة في الإجارات. ولو انتفع بالدار والعبد
لزمه أجر مثله؛ لأنه استوفى منفعة المعقود
عليه عقدا فاسدا فيلزمه أجرة المثل كما في
سائر الإجارات الفاسدة. ولو استأجر الأرض مع
الشرب جاز تبعا للأرض كما في البيع على ما
ذكرنا ولو استأجر أرضا ولم يذكر الشرب والمسيل
أصلا فالقياس أن لا يكون الشرب والمسيل كما في
البيع وفي الاستحسان كانا له ويدخلا تحت
ج / 6 ص -190-
إجارة
الأرض من غير تسمية نصا لوجودها دلالة؛ لأن
الإجارة تمليك المنفعة بعوض ولا يمكن الانتفاع
بالأرض بدون الشرب فيصير الشرب مذكورا بذكر
الأرض دلالة بخلاف البيع لأن البيع تمليك
العين والعين تحتمل الملك بدونه, ولا تجوز
هبته والتصدق به؛ لأن كل واحد منهما تمليك
والحقوق المفردة لا تحتمل التمليك, ولا يجوز
الصلح عليه بأن صالح من دعوى على شرب سواء كان
دعوى المال أو الحق من القصاص في النفس وما
دونه؛ لأن الصلح في معنى البيع إلا أنه يسقط
القصاص ويكون الصلح كأنه على العفو لما ذكرنا
في كتاب الصلح, ولأن صورة الصلح أورثت شبهة
والقصاص لا يستوفى مع الشبهات وتجب على القاتل
والجارح الدية وأرش الجناية. ولا تصح تسميته
في باب النكاح بأن تزوج امرأة عليه وعلى الزوج
مهر المثل؛ لأن النكاح تصرف تمليك وأنه لا
يحتمل التمليك, وإذا لم تصح التسمية يجب العوض
الأصلي وهو مهر المثل. ولا تصح تسميته في
الخلع بأن اختلعت المرأة من نفسها عليه وعليها
رد المأخوذ من المهر؛ لأن تسميته في معرض
التمليك إن لم يصح فهو مال لكونه مرغوبا فيه
فمن حيث إنه لم يحتمل التمليك لم يصلح بدل
الخلع, ومن حيث هو مال مرغوب فيه في نفسه لم
يبطل ذلك أصلا فيظهر في وجوب رد المأخوذ, وهذا
أصلي في باب الخلع محفوظ أنه شيء تعذر تسليم
البدل المذكور وهو مال مرغوب في نفسه يجب
عليها رد المأخوذ من المهر ومورثه؛ لأن الإرث
لا يقف على الملك لا محالة بل يثبت في حق
المال كما يثبت في الملك كخيار العيب ونحو
ذلك. ويوصي به حتى لو أوصى لرجل أن يسقي أرضه
مدة معلومة من شربه جازت الوصية وتعتبر من
الثلث؛ لأن الوصية وإن كان تمليكا لكنها تمليك
بعد الموت, ألا ترى أن الموصى له لا يملك
الموصى به في الحال وإنما يملك بعد الموت
فأشبه الميراث فإذا احتمل الإرث احتمل الوصية
التي هي أخت الميراث, وإذا مات الموصى له تبطل
الوصية حتى لا تصير ميراثا لورثة الموصى له؛
لأن الشرب ليس بعين مال بل هو حق مالي وشبه
الخدمة ثم الوصية بالخدمة تبطل بموت الموصى له
ولا تصير ميراثا, فكذلك الوصية بالشرب. ولو
أوصى أن يتصدق بالشرب على المساكين لم يصح؛
لأنه لما لم يحتمل التمليك بالتصدق استوى فيه
الحال والإضافة إلى ما بعد الموت بالوصية
ويسقي كل واحد من الشركاء على قدر شربه ولو
اختلفا في قدر الشرب ولا بينة لأحدهم تحكم
الأراضي فيكون الشرب بينهم على قدر أراضيهم
ولا يعتبر عدد الرءوس بخلاف الجماعة إذا
اختلفوا في طريق مشترك بينهم أنه لا تحكم فيه
بقعة الدار بل يعتبر فيه عدد الرءوس وإنما كان
كذلك لاختلاف المقصود إذ المقصود من الشرب
السقي, والسقي يختلف باختلاف الأراضي,
والمقصود من الطريق هو المرور وإنه لا يختلف
باختلاف الدور. ولو كان الأعلى منهم لا يشرب
ما لم يسكر النهر عن الأسفل بأن كانت أرضه
ربوة لم يكن له ذلك ولكن يشرب بحصته؛ لأن في
سكر النهر حتى يشرب الأعلى منع الأسفل من
الشرب وهذا لا يجوز, إلا إذا تراضيا على أن
يسكر كل في نوبته فيجوز. ولو أراد أحد الشركاء
أن ينصب على النهر المشترك رحى أو دالية أو
سانية نظر فيه فإن كان لا يضر بالشرب والنهر
وكان موضع البناء أرض صاحبه وإلا فلا؛ لأن
رقبة النهر وموضع البناء ملك بين الجماعة على
الشركة, وحق الكل متعلق بالماء ولا سبيل إلى
التصرف في الملك المشترك والحق المشترك إلا
برضا الشركاء وأما الذي يرجع إلى النهر:
فالأصل فيه أن النهر الخاص لجماعة لا يملك
أحدهم التصرف فيه من غير رضا الباقين سواء أضر
بهم التصرف أو لا؛ لأن رقبة النهر مملوكة لهم,
وحرمة التصرف في المملوك لا تقف على الإضرار
بالمالك حتى لو أراد واحد من الشركاء أن يحفر
نهرا صغيرا من النهر المشترك فيسوق الماء إلى
أرض أحياها ليس لها منه شرب ليس له ذلك إلا
برضاهم لأن الحفر تصرف في محل مملوك على
الشركة من غير رضاهم فيمنع عنه. وكذلك لو كان
هذا النهر يأخذ الماء من النهر العظيم فأراد
واحد أن يزيد فيها كوة من غير رضا الشركاء ليس
له ذلك. وإن كان ذلك لا يضرهم؛ لأن ذلك تصرفهم
في النهر بإجراء زيادة ماء فيه من غير رضاهم
فيمنع عنه. ولو أراد أن ينصب عليه رحى فإن كان
موضع البناء مملوكا له والماء يدير الرحى على
سيبه له ذلك, وإن كان موضع البناء مشتركا أو
تقع الحاجة إلى تعريج الماء ثم الإعادة ليس له
ذلك لما فيه من الضرر بالشركاء بتأخير
ج / 6 ص -191-
وصول
حقهم إليهم بالتعريج, كما إذا حفر نهرا في
أرضه وأراد أن يعرج الماء إليه ثم يعيده إلى
النهر, وكذلك لو أراد أحدهم أن ينصب دالية أو
سانية فهو على هذا التفصيل, وليس لأحدهم أن
يضع قنطرة على هذا النهر من غير رضاهم؛ لأن
القنطرة تصرف في حافتي النهر وفي هواه, وكل
ذلك مشترك ولو كان النهر بين شريكين له خمس
كوى من النهر الأعظم ولأحد الشريكين أرض في
أعلى النهر وللآخر أرض في أسفله فأراد صاحب
الأعلى أن يسد شيئا من تلك الكوى لما يدخل من
الضرر في أرضه ليس له ذلك إلا برضا شريكه؛
لأنه يتضرر به شريكه فلا يجوز له دفع الضرر عن
نفسه بإضرار غيره. وإن أراد أن يتهايآ حتى يسد
في حصته ما شاء لم يكن له ذلك إلا برضا الشريك
لما قلنا, وإن تراضيا على ذلك زمانا ثم بدا
لصاحب الأسفل أن ينقض فله ذلك؛ لأن المراضاة
على ما لا يحتمل التمليك تكون مهايأة وإنها
غير لازمة ولو كان النهر بين رجلين له كوى
فأضاف رجل أجنبي إليها كوة وحفر نهرا منه إلى
أرضه برضا منهما ومضى على ذلك زمان ثم بدا
لأحدهما أن ينقض فله ذلك؛ لأن العارية لا تكون
لازمة, وكذلك لو مات لورثتهما أن ينقضوا ذلك
لما قلنا ولو كان نهر بين جماعة يأخذ الماء من
النهر الأعظم ولكل رجل نهر من هذا النهر فمنهم
من له كوتان ومنهم من له ثلاث كوى فقال صاحب
الأسفل لصاحب الأعلى: إنكم تأخذون أكثر من
نصيبكم؛ لأن دفعة الماء وكثرته في أول النهر
ولا يأتينا إلا وهو قليل فأرادوا المهايأة
أياما معلومة فليس لهم ذلك, ويترك الماء
والنهر على حاله؛ لأن ملكهم في رقبة النهر لا
في نفس الماء. ولو أراد واحد منهم أن يوسع كوة
نهره لم يكن له ذلك؛ لأنه يدخل فيها الماء
زائدا على حقه فلا يملك ذلك. ولو حفر في أسفل
النهر جاز. ولو زاد في عرضه لا يجوز؛ لأن
الكوى من حقوق النهر فيملكه بملك النهر بخلاف
الزيادة في العرض, ولو كان نهر يأخذ الماء من
النهر الأعظم بين قوم فخافوا أن ينبثق فأرادوا
أن يحصنوه فامتنع بعضهم عن ذلك فإن كان ضررا
عاما يجبرون على أن يحصنوه بالحصص, وإن لم يكن
فيه ضرر عام لا يجبرون عليه؛ لأن الانتفاع
متعذر عند عموم الضرر, فكان الجبر على التحصيص
من باب دفع الضرر عن الجماعة فجاز وإذا لم يكن
الضرر عاما يمكن الانتفاع بالنهر فكان الجبر
بالتحصيص جبرا عليه لزيادة الانتفاع بالنهر
وهذا لا يجوز ولو كان نهر لرجل ملاصق لأرض رجل
فاختلف صاحب الأرض والنهر في مسناة فالمسناة
لصاحب الأرض عند أبي حنيفة رحمه الله له أن
يغرس فيها طينه ولكن ليس له أن يهدمها. وعند
أبي يوسف ومحمد المسناة لصاحب النهر حريما
لنهره وله أن يغرس فيها ويلقي طينه ويجتاز
فيها, وإن لم يكن ملاصقا بل كان بين النهر
والأرض حائل من حائط ونحوه كانت المسناة لصاحب
النهر بالإجماع, وبعض مشايخنا بنوا هذا
الاختلاف على أن النهر هل له حريم أم لا؟ بأن
حفر رجل نهرا في أرض موات بإذن الإمام عند أبي
حنيفة لا حريم له, وعندهما له حريم. "ووجه"
البناء عليه أنه لما لم يكن للنهر حريم عند
أبي حنيفة كان الظاهر شاهدا لصاحب الأرض فكان
القول قوله, ولما كان له حريم عندهما كان
الظاهر شاهدا لصاحب النهر فيكون القول قوله
وبعضهم لم يصححوا البناء. وقالوا: لا خلاف أن
للنهر حريما في أرض الموات؛ لأن للبئر والعين
حريما بما فيها بالإجماع, وقد روى عليه الصلاة
والسلام أنه جعل لهما حريما لحاجتهما إلى
الحفر لتعذر الانتفاع بها بدون الحفر؛ لأن
حاجة النهر إلى الحريم كحاجة البئر والعين بل
أشد فكان جعل الشرع للبئر والعين حريما جعلا
للنهر من طريق الأولى, دل أن البناء على هذا
الأصل غير صحيح فكان هذا خلافا مبتدأ. "وجه"
قولهما أنه لما كان للنهر حريم بالاتفاق كان
الظاهر شاهدا لصاحب النهر فيجب العمل بالظاهر
حتى يقوم الدليل بخلافه, ولهذا كان القول قول
صاحب البئر والعين عند الاختلاف كذا هذا,
ولأبي حنيفة أن المسناة إذا كانت مستوية
بالأرض فالظاهر أنها ملك صاحب الأرض, إذ لو
كانت حريما للنهر لكانت مرتفعة لكونها ملقى
طينه فكان الظاهر شاهدا لصاحب الأرض إلا أنه
لا يملك هدمها لتعلق حق صاحب النهر بها, وفي
الهدم إبطاله. ويجوز أن يمنع الإنسان من
التصرف في ملكه لتعلق حق الغير كحائط لإنسان
عليه جذوع لغيره فأراد هدم الحائط يمنع منه
كذا هذا, ثم كري النهر المشترك على أصحاب
النهر وليس على أصحاب الشفة في الكري
ج / 6 ص -192-
شيء؛
لأن هذا من حقوق الملك ولا ملك لأهل الشفة في
رقبة النهر بل لهم حق شرب الماء والسقي للدواب
فقط واختلف في كيفية الكري عليهم قال أبو
حنيفة: عليهم أن يكروا من أعلاه وإذا جاوزوا
أرض رجل دفع عنه وكان الكري على من بقي وقال
أبو يوسف ومحمد الكري عليهم جميعا من أوله إلى
آخره بحصص الشرب والأراضي حتى إن النهر لو كان
بين عشرة أنفس أراضيهم عليه لأخر كري فوهة
النهر إلى أن يجاوز شرب أولهم بينهم على عشرة
أسهم على كل واحد منهم العشر فإذا جاوزوا شرب
الأول سقط عنه الكري. وكان على الباقين على
تسعة أسهم فإذا جاوزوا شرب الثاني سقط عنه
الكري وكان على الباقين على ثمانية أسهم هكذا,
وهذا عند أبي حنيفة. "وأما" عندهما فالكري
بينهم على عشرة أسهم من أعلى النهر إلى أسفله.
"وجه" قول أبي حنيفة أن الكري من حقوق الملك
والملك في الأعلى مشترك بين الكل من فوهة
النهر إلى شرب أولهم فكانت مؤنته على الكل
فأما بعده فلا ملك لصاحب الأعلى فيه إنما له
حق وهو حق تسييل الماء فيه فكانت مؤنته على
صاحب الملك لا على صاحب الحق ولهذا كانت مؤنة
الكري على أصحاب النهر ولا شيء على أهل الشفة؛
لأن الملك لأصحاب النهر ولأهل الشفة حق الشرب
وسقي دوابهم وكذا كل من كان له ميل على سطح
مملوك لغيره فكانت غرامته على صاحب السطح لا
عليه لما قلنا. "وأما" الأنهار العظام كسيحون
ودجلة والفرات ونحوها فلا ملك لأحد فيها ولا
في رقبة النهر وكذا ليس لأحد حق خاص فيها ولا
في الشرب بل هو حق لعامة المسلمين فلكل أحد أن
ينتفع بهذه الأنهار بالشفة والسقي وشق النهر
منها إلى أرضه بأن أحيا أرضا ميتة بإذن الإمام
له أن يشق إليها نهرا من هذه الأنهار وليس
للإمام ولا لأحد منعه إذا لم يضر بالنهر وكذا
له أن ينصب عليه رحى ودالية وسانية إذا لم يضر
بالنهر؛ لأن هذه الأنهار لم تدخل تحت يد أحد
فلا يثبت الاختصاص بها لأحد فكان الناس فيها
كلهم على السواء, فكان كل واحد بسبيل من
الانتفاع لكن بشريطة عدم الضرر بالنهر
كالانتفاع بطريق العامة وإن أضر بالنهر فلكل
واحد من المسلمين منعه لما بينا أنه حق لعامة
المسلمين. وإباحة التصرف في حقهم مشروطة
بانتفاء الضرر كالتصرف في الطريق الأعظم وسئل
أبو يوسف عن نهر مرو وهو نهر عظيم أحيا رجل
أرضا كانت مواتا فحفر لها نهرا فوق مرو من
موضع ليس يملكه أحد فساق الماء إليها من ذلك
النهر فقال أبو يوسف: إن كان يدخل على أهل مرو
ضرر في مائهم ليس له ذلك وإن كان لا يضرهم فله
ذلك وليس لهم أن يمنعوه لما قلنا وسئل أيضا
إذا كان لرجل من هذا النهر كوى معروفة هل له
أن يزيد فيها؟ فقال: إن زاد في ملكه وذلك لا
يضر بأهل النهر فله ذلك. ولو كان نهر خاص لقوم
يأخذ الماء من هذا النهر فأراد واحد منهم أن
يزيد كوة لم يكن له ذلك, وإن كان لا يضر
بالنهر. "ووجه" الفرق أن الزيادة في الفصل
الأول تصرف في حق مشترك بين العامة, وحرمة
التصرف في حقوق العامة لا تثبت إلا بشريطة
الضرر, والزيادة في الفصل الثاني تصرف في ملك
مشترك بأخذ زيادة الماء في النهر, والتصرف في
الملك المشترك لا تقف حرمته على الضرر بالمالك
هو الفرق. ولو جزر ماء هذه الأنهار عن أرض
فليس لمن يليها أن يضمها إلى أرض نفسه؛ لأنه
يحتمل أن يعود ماؤها إلى مكانه ولا يجد إليه
سبيلا فيحمل على جانب آخر فيضر, حتى لو أمن
العود أو كان بإزائها من الجانب الآخر أرض
موات لا يستضر أحد بحمل الماء عليه فله ذلك
ويملكه إذا أحياه بإذن الإمام أو بغير إذنه
على الاختلاف المعروف. ولو احتاجت هذه الأنهار
إلى الكري فعلى السلطان كراها من بيت المال
لأن منفعتها لعامة المسلمين فكانت مؤنتها من
بيت المال لقوله عليه الصلاة والسلام –
"الخراج بالضمان" وكذا لو خيف منها الغرق فعلى
السلطان إصلاح مسناتها من بيت المال لما قلنا
والله سبحانه وتعالى أعلم. |