بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب اللقيط"
الكلام في اللقيط في مواضع في تفسير اللقيط لغة وعرفا, وفي بيان حاله, وفي بيان ما يتعلق به من الأحكام. أما في اللغة: فهو فعيل من اللقط وهو اللقاء بمعنى المفعول, وهو الملقوط وهو الملقى أو الأخذ والرفع بمعنى الملقوط وهو المأخوذ والمرفوع عادة لما أنه يؤخذ فيرفع وأما في العرف فنقول هو اسم للطفل المفقود وهو الملقى أو الطفل المأخوذ والمرفوع عادة فكان تسميته لقيطا باسم العاقبة؛ لأنه يلقط عادة أي: يؤخذ ويرفع وتسمية الشيء باسم عاقبته أمر شائع في اللغة قال الله تعالى جل شأنه {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} وقال الله تعالى جل شأنه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} سمى العنب خمرا والحي الذي يحتمل الموت ميتا باسم العاقبة كذا هذا.

 

ج / 6 ص -198-       حرين والمتولد من الحرين يكون حرا وإنما حدث الرق في البعض شرعا بعارض الاستيلاء بسبب عارض وهو الكفر الباعث على الحراب فيجب العمل بالأصل حتى يقوم الدليل على العارض فرتب عليه أحكام الأحرار من أهلية الشهادة والإعتاق والتدبير والكتابة واستحقاق الحد على قاذفه وغير ذلك من الأحكام المختصة بالأحرار إلا أنه لا يحد قاذف أمة, لأن إحصان المقذوف شرط انعقاد علة توجب على القاذف ولم يعرف إحصانها لانعقاد القذف عليه لوجوب الحد على القاذف ولو ادعى الملتقط أو غيره أنه عبده لا يسمع منه إلا ببينة؛ لأن حريته ثابتة من حيث الظاهر فلا يقدر على إبطال هذا الظاهر إلا بدليل. ولو بلغ فأقر أنه عبد فلان نظر في ذلك إن كان لم يجر عليه شيء من أحكام الأحرار بعد من قبول شهادته وضرب قاذفه الحد ونحوه صح إقراره؛ لأنه لم تعرف حريته إلا بظاهر الحال فإذا أقر بالرق فالظاهر أنه لا يقر على نفسه بالرق كاذبا فصح إقراره إلا أنه لا يعتبر في إبطال ما يفعله من التصرفات من الهبة والكفالة والإعتاق والنكاح ونحوها من التصرفات التي لا يملكها العبد حتى لا تنفسخ, وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: ينفسخ. "وجه" قوله أنه لما أقر بالرق فقد ظهر أنه كان رقيقا وقت التصرف فلم يصح تصرفه كما إذا قامت البينة على رقه, ولنا أن هذا إقرار تضمن إبطال حق الغير؛ لأن حريته ثابتة من حيث الظاهر فلا يصدق في حق ذلك الغير لما عرف أن الإقرار تصرف على نفس المقر فإذا تضمن إبطال حقه حق الغير كان دعوى أو شهادة على غيره من ذلك الوجه فيصدق على نفسه لا على غيره, كمن أقر بحرية عبد إنسان ثم اشتراه عتق عليه ولا يرجع بالثمن على البائع لما قلنا كذا هذا. والاستدلال بالبينة غير سديد؛ لأن الشاهد غير متهم في شهادته على غيره, فأما المقر في إقراره على غيره فمتهم فهو الفرق, وإن كان قد أجري عليه شيء من ذلك لا يصح إقراره؛ لأنه إذا أجري عليه شيء من أحكام الأحرار فقد ظهرت حريته عند الناس كافة فظهر أنه حر الأصل فلا يملك إبطالها بالإقرار بالرق وأما حاله في الإسلام والكفر فإن وجده مسلم في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم يكون مسلما حتى لو مات يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين, وإن وجده ذمي في بيعة أو كنيسة أو في قرية ليس فيها مسلم يكون ذميا تحكيما للظاهر كما إذا وجده مسلم في بيعة أو كنيسة أو في قرية من قرى أهل الذمة يكون ذميا. ولو وجده ذمي في مصر من أمصار المسلمين أوفي قرية من قراهم يكون مسلما كذا ذكر في كتاب اللقيط من الأصل واعتبر المكان. وروى ابن سماعة عن محمد أنه اعتبر حال الواجد من كونه مسلما أو ذميا, وفي كتاب الدعوى اعتبر الإسلام إلى أيهما نسب إلى الواجد أو إلى المكان, والصحيح رواية هذا الكتاب؛ لأن الموجود في مكان هو في أيدي أهل الإسلام وتصرفهم في أيديهم, واللقيط الذي هو في يد المسلم وتصرفه يكون مسلما ظاهرا, والموجود في المكان الذي هو في أيدي أهل الذمة وتصرفهم في أيديهم واللقيط الذي هو في يد الذمي وتصرفه يكون ذميا ظاهرا, فكان اعتبار المكان أولى فإن وجده مسلم في مصر من أمصار المسلمين فبلغ كافرا يجبر على الإسلام ولكن لا يقتل؛ لأنه لم يعرف إسلامه حقيقة وإنما حكم به تبعا للدار فلم تتحقق ردته فلا يقتل وأما حاله في النسب فهو أنه مجهول النسب حتى لو ادعى إنسان نسبة الملتقط أو عتقه تصح دعوته ويثبت النسب منه لما علم في كتاب الدعوى. وأما الأحكام المتعلقة به فأنواع منها أن التقاطه أمر مندوب إليه لما روي أن رجلا أتى سيدنا عليا رضي الله عنه بلقيط فقال: هو حر ولأن أكون وليت من أمره مثل الذي وليت أنت كان أحب إلي من كذا وكذا, عد جملة من أعمال الخير فقد رغب في الالتقاط وبالغ في الترغيب فيه حيث فضله على جملة من أعمال الخير على المبالغة في الندب إليه. ولأنه نفس لا حافظ لها بل هي في مضيعة فكان التقاطها إحياء لها معنى وقد قال الله تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} ومنها أن الملتقط أولى بإمساكه من غيره حتى لا يكون لغيره أن يأخذه منه؛ لأنه هو الذي أحياه بالتقاطه ومن أحيا أرضا ميتة فهي له على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه مباح الأخذ سبقت يد الملتقط إليه والمباح مباح من سبق على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها أن نفقته من بيت المال؛ لأن ولاءه له وقد قال عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" ولو كان معه مال مشدود عليه فهو له؛ لأن الظاهر أنه ماله فيكون له

 

ج / 6 ص -199-       كثيابه التي عليه. وكذا إذا وجد مشدودا على دابة فالدابة له لما قلنا وتكون النفقة من ماله لأن الإنفاق من بيت المال للضرورة ولا ضرورة إذا كان له مال, وليس على الملتقط أن ينفق عليه من مال نفسه لانعدام السبب الموجب للنفقة عليه ولو أنفق عليه من مال نفسه فإن فعل بإذن القاضي له أن يرجع عليه وإن فعل بغير إذنه لا يرجع عليه؛ لأنه يكون متطوعا فيه ومنها أن عقله لبيت المال؛ لأن عاقلته بيت المال فيكون عقله له لقوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" ومنها أن ولاءه لبيت المال لما قلنا ومنها أن له أن يوالي من شاء إذا بلغ إلا إذا عقل عنه بيت المال فليس له أن يوالي أحدا؛ لأن العقد يلزم بالعقل على ما نذكر في كتاب الديات إن شاء الله تعالى لما علم في الولاء ومنها أن وليه السلطان, له الولاية في ماله ونفسه لقوله عليه الصلاة والسلام "السلطان ولي من لا ولي له" وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الله ورسوله ولي من لا ولي له والخال وارث من لا وارث له والسلطان نائب الله ورسوله" فيزوج اللقيط ويتصرف في ماله, وليس للملتقط أن يفعل شيئا من ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه لانعدام سببها وهو القرابة والسلطنة إلا أنه يجوز له أن يقبض الهبة له ويسلمه في صناعة ويؤاجره؛ لأن ذلك ليس من باب الولاية عليه بل من باب إصلاح حاله وإيصال المنفعة المحضة إليه من غير ضرر فأشبه إطعامه وغسل ثيابه ومنها أن نسبه من المدعي يحتمل الثبوت شرعا؛ لأنه مجهول النسب على ما يأتي في كتاب الدعوى, حتى لو ادعى الملتقط أو غيره أنه ابنه تسمع دعواه من غير بينة, وبينته نسبه منه والقياس أن لا تسمع إلا ببينة. وجه القياس ظاهر؛ لأنه يدعي أمرا جائز الوجود والعدم فلا بد لترجيح أحد الجانبين على الآخر من مرجح وذلك بالبينة ولم توجد. وجه الاستحسان: أنه عامل أخبر بأمر محتمل الثبوت وكل من أخبر عن أمر والمخبر به محتمل الثبوت يجب تصديقه تحسينا للظن بالمخبر, هو الأصل إلا إذا كان في تصديقه ضرر بالغير وههنا في التصديق وإثبات النسب نظر من الجانبين جانب اللقيط بشرف النسب والتربية والصيانة عن أسباب الهلاك وغير ذلك, وجانب المدعي بولد يستعين به على مصالحه الدينية والدنيوية, وتصديق المدعي في دعوى ما ينتفع به ولا يتضرر به غيره بل ينتفع به لا يقف على البينة, وسواء كان المدعي مسلما أو ذميا أو عبدا حتى لو ادعى نسبه ذمي تصح دعوته حتى يثبت نسبه منه لكنه يكون مسلما؛ لأنه ادعى شيئين يتصور انفصال أحدهما عن الآخر في الجملة وهو نسب الولد وكونه كافرا ويمكن تصديقه في أحدهما لكونه نفعا للقيط وهو كونه ابنا له ولا يمكن تصديقه في الآخر لكونه ضررا به وهو كونه كافرا فيصدق فيما فيه منفعة فيثبت نسب الولد منه ولا يصدق فيما يضره فلا يحكم بكفره, وليس من ضرورة كون الولد منه أن يكون كافرا ألا ترى أنه يحكم بإسلامه وبإسلام أمه وإن كان الأب كافرا هذا إذا أقر الذمي أنه ابنه ولا بينة له فإن أقام البينة على ذلك ثبت نسب الولد منه ويكون على دينه بخلاف الإقرار. ووجه الفرق بين الإقرار وبين الشهادة أنه متهم في إقراره بما يتضمنه إقراره وهو كون الولد على دينه ولا تهمة في الشهادة لما مر. ولو ادعى عبد أنه ابنه صحت دعوته وثبت نسبه منه لكنه يكون حرا لما ذكرنا في دعوى الذمي؛ لأنه ادعى شيئين أحدهما نفع اللقيط والآخر مضرة وهو الرق فيصدق فيما ينفعه لا فيما يضره على ما ذكرنا في دعوى الذمي ولو ادعاه رجلان أنه ابنهما ولا بينة لهما فإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا فالمسلم أولى؛ لأنه أنفع للقيط, وكذلك إذا كان أحدهما حرا والآخر عبدا فالحر أولى؛ لأنه أنفع له, وإن كانا مسلمين حرين فإن وصف أحدهما علامة في جسده فالواصف أولى به عندنا, وعند الشافعي رحمه الله يرجع إلى القائف فيؤخذ بقوله. والصحيح قولنا؛ لأن الدعوتين متى تعارضتا يجب العمل بالراجح منهما وقد ترجح أحدهما بالعلامة؛ لأنه إذا رضي العلامة ولم يصف الآخر دل على أن يده عليه سابقة فلا بد لزوالها من دليل, والدليل على جواز العمل بالعلامة قوله تعالى عز شأنه خبرا عن أهل تلك المرأة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} حكى الله تعالى عن الحكم بالعلامة عن الأمم السالفة في كتابه العزيز ولم يغير عليهم, والحكيم إذا حكى عن منكر غيره فصار الحكم بالعلامة شريعة لنا مبتدأة, وكذا عند اختلاف الزوجين في متاع البيت يميز ذلك بالعلامة كذا ههنا, وإن لم

 

ج / 6 ص -200-       يصف أحدهما العلامة يحكم بكونه ابنا لهما إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فإن أقام أحدهما البينة فهو أولى به, وإن أقاما جميعا البينة يحكم بكونه ابنا لهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر. وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه في مثل هذا أنه قال: إنه ابنهما يرثهما ويرثانه وهو للثاني منهما فإن ادعاه أكثر من رجلين فأقام البينة روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تسمع من خمسة وقال أبو يوسف من اثنين ولا تسمع من أكثر من ذلك. وقال محمد: تسمع من ثلاثة ولا تسمع من أكثر من ذلك هذا إذا كان المدعي رجلا فإن كانت امرأة فادعته أنه ابنها فإن صدقها زوجها أو شهدت لها القابلة أو قامت البينة صحت دعوتها وإلا فلا؛ لأن فيه حمل نسب الغير على الغير وإنه لا يجوز لما نذكره في كتاب الإقرار. ولو ادعاه امرأتان وأقامت إحداهما البينة فهي أولى به وإن أقامتا جميعا فهو ابنهما عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف لا يكون لواحدة منهما, وعن محمد روايتان في رواية أبي حفص يجعل ابنهما, وفي رواية أبي سليمان لا يجعل ابن واحدة منهما والله سبحانه وتعالى أعلم.