بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب اللقطة"
الكلام في اللقطة في مواضع في بيان أنواعها, وفي بيان أحوالها, وفي بيان ما يصنع بها أما الأول فنوعان: من غير الحيوان وهو المال الساقط لا يعرف مالكه, ونوع من الحيوان وهو الضالة من الإبل والبقر والغنم من البهائم إلا أنه يسمى لقطة من اللقط وهو الأخذ والرفع؛ لأنه يلقط عادة أي يؤخذ ويرفع على ما ذكرنا في كتاب اللقيط.

"فصل": وأما بيان أحوالها منها في الأصل حالان: حال ما قبل الأخذ, وحال ما بعده أما قبل الأخذ: فلها أحوال مختلفة قد يكون مندوب الأخذ, وقد يكون مباح الأخذ, وقد يكون حرام الأخذ أما حالة الندب: فهو أن يخاف عليها الضيعة لو تركها فأخذها لصاحبها أفضل من تركها؛ لأنه إذا خاف عليها الضيعة كان أخذها لصاحبها إحياء لمال المسلم معنى فكان مستحبا والله تعالى أعلم وأما حالة الإباحة: فهو أن لا يخاف عليها الضيعة فيأخذها لصاحبها, وهذا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله إذا خاف عليها يجب أخذها وإن لم يخف يستحب أخذها, وزعم أن الترك عند خوف الضيعة يكون تضييعا لها والتضييع حرام فكان الأخذ واجبا, وهذا غير سديد؛ لأن الترك لا يكون تضييعا بل هو امتناع من حفظ غير ملزم والامتناع من حفظ غير ملزم لا يكون تضييعا كالامتناع عن قبول الوديعة. وأما حالة الحرمة: فهو أن يأخذها لنفسه لا لصاحبها لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يأوي الضالة إلا ضال" والمراد أن يضمها إلى نفسه لأجل نفسه لا لأجل صاحبها بالرد عليه؛ لأن الضم إلى نفسه لأجل صاحبها ليس بحرام ولأنه أخذ مال الغير بغير إذنه لنفسه فيكون بمعنى الغصب, وكذا لقطة البهيمة من الإبل والبقر والغنم عندنا, وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز التقاطها أصلا واحتج بما روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل فقال "ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر دعها حتى يلقاها ربها" نهى عن التعرض لها وأمر بترك الأخذ فدل على حرمة الأخذ. "ولنا" ما روي أن رجلا وجد بعيرا بالحرة فعرفه ثم ذكره لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فأمره أن يعرفه فقال الرجل لسيدنا عمر قد شغلني عن ضيعتي فقال سيدنا عمر أرسله حيث وجدته ولأن الأخذ حال خوف الضيعة إحياء لمال المسلم فيكون مستحبا وحال عدم الخوف ضرب إحراز فيكون مباحا على ما ذكرنا. وأما الحديث فلا حجة له فيه لأن المراد منه أن يكون صاحبه قريبا منه ألا ترى أنه قال عليه الصلاة والسلام "حتى يلقاها ربها" وإنما يقال ذلك إذا كان قريبا أو كان رجاء اللقاء ثابتا, ونحن به نقول ولا كلام فيه, والدليل عليه أنه لما سأله عن ضالة الغنم قال "خذها فإنها لك أو لأخيك أو للذئب" دعاه إلى الأخذ ونبه على المعنى وهو خوف الضيعة وأنه موجود في الإبل والنص الوارد فيها أولى أن يكون واردا في الإبل وسائر البهائم دلالة إلا أنه عليه الصلاة والسلام فصل بينهما في الجواب من حيث الصورة لهجوم الذئب على الغنم إذا لم يلقها ربها عادة بعيدا كان أو قريبا وكذلك الإبل؛ لأنها تذب عن نفسها عادة هذا الذي

 

 

ج / 6 ص -201-       ذكرنا حال ما قبل الأخذ وأما حال ما بعده فلها بعد الأخذ حالان في حال هي أمانة وفي حال هي مضمونة. أما حالة الأمانة: فهي أن يأخذها لصاحبها لأنه أخذها على سبيل الأمانة فكانت يده يد أمانة كيد المودع وأما حالة الضمان: فهي أن يأخذها لنفسه لأن المأخوذ لنفسه مغصوب وهذا لا خلاف فيه وإنما الخلاف في شيء آخر وهو أن جهة الأمانة إنما تعرف من جهة الضمان إما بالتصديق أو بالإشهاد عند أبي حنيفة وعندهما بالتصديق أو باليمين حتى لو هلكت فجاء صاحبها وصدقه في الأخذ له لا يجب عليه الضمان بالإجماع, وإن لم يشهد؛ لأن جهة الأمانة قد ثبتت بتصديقه وإن كذبه في ذلك فكذا عند أبي يوسف ومحمد أشهد أو لم يشهد ويكون القول قول الملتقط مع يمينه, وأما عند أبي حنيفة فإن أشهد فلا ضمان عليه؛ لأنه بالإشهاد ظهر أن الأخذ كان لصاحبه فظهر أن يده يد أمانة وإن لم يشهد يجب عليه الضمان ولو أقر الملتقط أنه أخذها لنفسه يجب عليه الضمان؛ لأنه أقر بالغصب والمغصوب مضمون على الغاصب. وجه قولهما أن الظاهر أنه أخذه لا لنفسه لأن الشرع إنما مكنه من الأخذ بهذه الجهة فكان إقدامه على الأخذ دليلا على أنه أخذ بالوجه المشروع فكان الظاهر شاهدا له فكان القول قوله ولكن مع الحلف؛ لأن القول قول الأمين مع اليمين, ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان أحدهما أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب لوجوب الضمان في الأصل إلا أنه إذا كان الأخذ على سبيل الأمانة بأن أخذه لصاحبه فيخرج من أن يكون سببا وذلك إنما يعرف بالإشهاد فإذا لم يشهد لم يعرف كون الأخذ لصاحبه فبقي الأخذ سببا في حق وجوب الضمان على الأصل. والثاني: أن الأصل أن عمل كل إنسان له لا لغيره بقوله سبحانه وتعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وقوله تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فكان أخذه اللقطة في الأصل لنفسه لا لصاحبها وأخذ مال الغير بغير إذنه لنفسه سبب لوجوب الضمان؛ لأنه غصب وإنما يعرف الأخذ لصاحبها بالإشهاد فإذا لم يوجد تعين أن الأخذ لنفسه فيجب عليه الضمان. ولو أخذ اللقطة ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه لا ضمان عليه في ظاهر الرواية وكذا نص عليه محمد في الموطأ, وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: هذا الجواب فيما إذا رفعها ولم يبرح عن ذلك المكان حتى وضعها في موضعها فأما إذا ذهب بها عن ذلك المكان ثم ردها إلى مكانها يضمن وجواب ظاهر الرواية مطلق عن هذا التفصيل مستغن عن هذا التأويل. وقال الشافعي رحمه الله: يضمن ذهب عن ذلك المكان أو لم يذهب وجه قوله أنه لما أخذها من مكانها فقد التزم حفظها بمنزلة قبول الوديعة فإذا ردها إلى مكانها فقد ضيعها بترك الحفظ الملتزم فأشبه الوديعة إذا ألقاها المودع على قارعة الطريق حتى ضاعت. "ولنا" أنه أخذها محتسبا متبرعا ليحفظها على صاحبها فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع من الأصل فصار كأنه لم يأخذها أصلا وبه تبين أنه لم يلزم الحفظ وإنما تبرع به وقد رده بالرد إلى مكانها فارتد وجعل كأن لم يكن, هذا إذا كان أخذها لصاحبها ثم ردها إلى مكانها فضاعت وصدقه صاحبها فيه أو كذبه لكن الملتقط قد كان أشهد على ذلك فإن كان لم يشهد يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة وعندهما لا يجب أشهد أو لم يشهد ويكون القول قوله مع يمينه أنه أخذها لصاحبها على ما ذكرنا ثم تفسير الإشهاد على اللقطة أن يقول الملتقط بمسمع من الناس إني التقطت لقطة أو عندي لقطة فأي الناس أنشدها فدلوه علي أو يقول: عندي شيء فمن رأيتموه يسأل شيئا فدلوه علي. فإذا قال ذلك ثم جاء صاحبها فقال الملتقط قد هلكت كان القول قوله ولا ضمان عليه بالإجماع, وإن كان عنده عشر لقطات؛ لأن اسم الشيء واللقطة منكر إن كان يقع على شيء واحد ولقطة واحدة لغة لكن في مثل هذا الموضع يراد بها كل الجنس في العرف والعادة لا فرد من الجنس إذ المقصود من التعريف إيصال الحق إلى المستحق ومطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف والمعتاد فكان هذا إشهادا على الكل بدلالة العرف والعادة. ولو أقر أنه كان أخذها لنفسه لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك لأنه ظهر أنه أخذها غصبا فكان الواجب عليه الرد إلى المالك لقوله عليه الصلاة والسلام "على اليد ما أخذت حتى ترده" فإذا عجز عن رد العين يجب عليه بدلها كما في الغصب, وكذلك إذا أخذ الضالة ثم أرسلها إلى مكانها الذي أخذها منه فحكمها حكم اللقطة؛ لأن هذا أحد نوعي اللقطة وقد روينا في هذا الباب عن سيدنا عمر رضي

 

ج / 6 ص -202-       الله عنه أنه قال لواجد البعير الضال: "أرسله حيث وجدته" وهذا يدل على انتفاء وجوب الضمان.

"فصل": وأما بيان ما يصنع بها فنقول وبالله التوفيق: إذا أخذ اللقطة فإنه يعرفها لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "عرفها حولا" حين سئل عن اللقطة. وروي أن رجلا جاء إلى عبد الله ابن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: إني وجدت لقطة فما تأمرني فيها فقال: عرفها سنة وروينا عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه أمر بتعريف البعير الضال. ثم نقول: الكلام في التعريف في موضعين: أحدهما في مدة التعريف والثاني في بيان مكان التعريف أما مدة التعريف: فيختلف قدر المدة لاختلاف قدر اللقطة إن كان شيئا له قيمة تبلغ عشرة دراهم فصاعدا يعرفه حولا, وإن كان شيئا قيمته أقل من عشرة يعرفه أياما على قدر ما يرى. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال التعريف على خطر المال إن كان مائة ونحوها عرفها سنة, وإن كان عشرة ونحوها عرفها شهرا, وإن كان ثلاثة ونحوها عرفها جمعة أو قال عشرة, وإن كان درهما ونحوه عرفه ثلاثة أيام, وإن كان دانقا ونحوه عرفه يوما, وإن كان تمرة أو كسرة تصدق بها وإنما تكمل مدة التعريف إذا كان مما لا يتسارع إليه الفساد فإن خاف الفساد لم تكمل ويتصدق بها وأما مكان التعريف فالأسواق وأبواب المساجد؛ لأنها مجمع الناس وممرهم فكان التعريف فيها أسرع إلى تشهير الخبر, ثم إذا عرفها فإن جاء صاحبها وتقام البينة أنها ملكه أخذها لقوله عليه الصلاة والسلام "من وجد عين ماله فهو أحق به وإن لم يقم البينة" ولكنه ذكر العلامة بأن وصف عفاصها ووكاءها ووزنها وعددها يحل للملتقط أن يدفع إليه وإن شاء أخذ منه كفيلا؛ لأن الدفع بالعلامة مما قد ورد به الشرع في الجملة كما في اللقيط إلا أن هناك يجبر على الدفع وهنا لا يجبر. لأن هناك يجبر على الدفع بمجرد الدعوى فمع العلامة أولى, وهنا لا عبرة بمجرد الدعوى بالإجماع فجاز أن لا يجبر على الدفع مع العلامة ولكن يحل له الدفع, وله أن يأخذ كفيلا لجواز مجيء آخر فيدعيها ويقيم البينة, ثم إذا عرفها ولم يحضر صاحبها مدة التعريف فهو بالخيار إن شاء أمسكها إلى أن يحضر صاحبها, وإن شاء تصدق بها على الفقراء ولو أراد أن ينتفع بها فإن كان غنيا لا يجوز أن ينتفع بها عندنا. وعند الشافعي رحمه الله إذا عرفها حولا ولم يحضر صاحبها كان له أن ينتفع بها وإن كان غنيا, وتكون قرضا عليه, واحتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن اللقطة "عرفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" وهذا إطلاق الانتفاع للملتقط من غير السؤال عن حاله أنه فقير أو غني, بل إن الحكم لا يختلف. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تحل اللقط فمن التقط شيئا فليعرفه سنة فإن جاءه صاحبها فليردها عليه وإن لم يأت فليتصدق" والاستدلال به من وجهين أحدهما أنه نفى الحل مطلقا, وحالة الفقر غير مرادة بالإجماع فتعين حالة الغنى والثاني أنه أمر بالتصدق ومصرف الصدقة الفقير دون الغني وأن الانتفاع بمال المسلم بغير إذنه لا يجوز إلا لضرورة ولا ضرورة إذا كان غنيا. وأما الحديث: فلا حجة له فيه لأن قوله عليه الصلاة والسلام فشأنك بها إرشاد إلى الاشتغال بالحفظ؛ لأن ذلك كان شأنه المعهود باللقط إلى هذه الغاية أو يحمله على هذا توفيقا بين الحديثين صيانة لهما عن التناقض وإذا تصدق بها على الفقراء فإذا جاء صاحبها كان له الخيار إن شاء أمضى الصدقة وله ثوابها, وإن شاء ضمن الملتقط أو الفقير إن وجده؛ لأن التصدق كان موقوفا على إجازته وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه كما في غاصب الغاصب وإن كان فقيرا فإن شاء تصدق بها على الفقراء وإن شاء أنفقها على نفسه, فإذا جاء صاحبها خيره بين الأجر وبين أن يضمنها له على ما ذكرنا, وكذلك إذا كان غنيا جاز له أن يتصدق بها على أبيه وابنه وزوجته إذا كانوا فقراء, وكل جواب عرفته في لقطة الحل فهو الجواب في لقطة الحرم يصنع بها ما يصنع بلقط الحل من التعريف وغيره وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله لقطة الحرم تعرف أبدا ولا يجوز الانتفاع بها بحال واحتج بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في صفة مكة "ولا تحل لقطتها إلا لمنشد" أي لمعرف فالمنشد المعرف والناشد الطالب وهو المالك, ومعنى الحديث أنه لا تحل لقطة الحرم إلا للتعريف. "ولنا" ما ذكرنا من الدلائل من غير فصل بين لقطة الحل والحرم ولا حجة له في الحديث؛ لأنا نقول بموجبه: إنه لا يحل التقاطها إلا

 

ج / 6 ص -203-       للتعريف وهذا حال كل لقطة إلا أنه خص عليه الصلاة والسلام لقطة الحرم بذلك, لما لا يوجد صاحبها عادة فتبين أن ذا لا يسقط التعريف وكذلك حكم الضالة في جميع ما وصفنا, وتنفرد بحكم آخر وهو النفقة فإن أنفق عليها بأمر القاضي يكون دينا على مالكها وإن أنفق بغير إذنه يكون متطوعا فينبغي أن يرفع الأمر إلى القاضي ينظر في ذلك فإن كانت بهيمة يحتمل الانتفاع بها بطريق الإجارة أمره بأن يؤاجرها وينفق عليها من أجرتها نظرا للمالك, وإن كانت مما لا يحتمل الانتفاع بها بطريق الإجارة وخشي أن لو أنفق عليها أن تستغرق النفقة قيمتها أمره ببيعها وحفظ ثمنها مقامها في حكم الهلاك وإن رأى الأصلح أن لا يبيعها بل ينفق عليها أمره بأن ينفق عليها لكن نفقة لا تزيد على قيمتها ويكون ذلك دينا على صاحبها حتى إذا حضر يأخذ منه النفقة, وله أن يحبس اللقطة بالنفقة كما يحبس المبيع بالثمن, وإن أبى أن يؤدي النفقة باعها القاضي ودفع إليه قدر ما أنفق والله سبحانه وتعالى أعلم.