بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع "كتاب الإباق"
الكلام في هذا الكتاب في مواضع في تفسير
الآبق, وفي بيان حاله, وفي بيان ما يصنع به,
وفي بيان حكم ماله "أما" الأول فالآبق اسم
لرقيق يهرب من مولاه وأما حاله فحال اللقطة
قبل الأخذ وبعده وقد ذكرنا تفاصيله في كتاب
اللقطة.
"فصل": وأما بيان ما يصنع به
فنقول وبالله التوفيق: إذا أخذ الآبق لصاحبه
فإن شاء الآخذ أمسكه على صاحبه حتى يجيء
فيأخذه, وإن شاء ذهب به إلى صاحبه فرده عليه
فإن أمسكه فجاء إنسان وادعى أنه عبده فإن أقام
البينة دفعه إليه وأخذ منه كفيلا إن شاء لجواز
أن يجيء آخر فيدعيه ويقيم البينة فله أن
يستوثق بكفيل وإن لم يكن له بينة ولكن أقر
العبد بذلك دفعه إليه أيضا؛ لأنه ادعى شيئا لا
ينازعه فيه أحد فيكون له ويأخذ منه كفيلا إن
شاء لما قلنا وما أنفق عليه فإن كان بإذن
القاضي يرجع به على صاحبه وإلا فلا؛ لأنه يكون
متطوعا فإن طالت المدة ولم يجئ له طالب باعه
القاضي وأخذ ثمنه يحفظه على صاحبه؛ لأن ذلك
حفظ له معنى, فإن باعه وأخذ ثمنه ثم جاء إنسان
وأقام البينة أنه عبده دفع الثمن إليه وليس له
أن ينقض البيع؛ لأن البيع من القاضي صدر عن
ولاية شرعية؛ لأنه من باب حفظ ماله إذ لو لم
يبع لأتت النفقة على جميع قيمته فيضيع المال
فكان بيعه حفظا له من حيث المعنى والقاضي يملك
مال الغائب؛ ولهذا يبيع ما يتسارع إليه
الفساد. ولو زعم المدعي أنه قد كان دبره أو
كاتبه لم يصدق في نقض البيع لما قلنا وينفق
القاضي عليه في مدة حبسه إياه من بيت المال ثم
إذا جاء صاحبه أخذه من صاحبه أو من ثمنه إن
باعه؛ لأن الإنفاق عليه إحياء ماله فيكون عليه
وإذا جاء بالآبق له أن يمسكه بالجعل؛ لأنه إذا
جاء به فقد استحق الجعل على مالكه فكان له حق
حبسه بالجعل كما يحبس المبيع لاستيفاء الثمن.
ولو هلك في حال الحبس لا ضمان عليه لكن يسقط
الجعل كما لا ضمان على البائع بهلاك المبيع
المحبوس بالثمن, لكن يسقط الثمن عن المشتري.
ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الرقيق في
قول أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف يقبل في
العبد ولا يقبل في الجارية وهذه المسألة في
كتاب القاضي في بيان شرائط قبول كتاب القاضي
إلى القاضي.
ج / 6 ص -204-
ابن
مسعود فجاء رجل فقال قدم فلان بإباق من القوم
فقال القوم: لقد أصاب أجرا فقال عبد الله رضي
الله عنه: وجعلا إن شاء من كل رأس درهما. ولم
ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا؛ ولأن
جعل الآبق طريق صيانة عن الضياع؛ لأنه لا
يتوصل إليه بالطلب عادة إذ ليس له مقام معلوم
يطلب هناك فلو لم يأخذه لضاع ولا يؤخذ لصاحبه
ويتحمل مؤنة الأخذ والرد عليه مجانا بلا عوض
عادة وإذا علم أن له عليه جعلا يحمل مشقة
الأخذ والرد طمعا في الجعل فتحصل الصيانة عن
الضياع فكان استحقاق الجعل طريق صيانة الآبق
عن الضياع وصيانة المال عن الضياع واجب فكان
المالك شارطا للأجر عند الأخذ والرد دلالة
بخلاف الضالة؛ لأن الدابة إذا ضلت فإنها ترعى
في المراعي المألوفة فيمكن الوصول إليها
بالطلب عادة فلا تضيع دون الأخذ فلا حاجة إلى
الصيانة بالجعل, فإن أخذه أحد كان في الأخذ
والرد محتسبا فلا يستحق الأجر فهو الفرق وأما
سبب استحقاق الجعل فهو الأخذ لصاحبه؛ لأنه
طريق الصيانة على المالك وهو معنى التسبب.
"فصل": وأما شرائط الاستحقاق فأنواع
"منها": الرد على المالك؛ لأن الصيانة تحصل
عنده وهو معنى الشرط أن توجد العلة عند وجوده,
حتى لو أخذه فمات أو أبق من يده قبل الرد لا
يستحق الجعل ولو أخذه فأبق من يده فأخذه غيره
فرده على المالك فالجعل للثاني ولا شيء للأول
لأنه لما أبق من يده فقد انفسخ ذلك السبب أو
بقي ذلك سببا محضا لانعدام شرطه وهو الرد على
المالك وقد وجد السبب والشرط من الثاني فكان
الأول صاحب سبب محض والسبب المحض لا حكم له,
والثاني صاحب علة فيكون الجعل له. ولو كان
الراد واحدا والآبق اثنين فله جعلان لوجود سبب
الاستحقاق وشرطه في كل واحد منهما. ولو كان
الراد اثنين والآبق واحدا فلهما جعل واحد
بينهما نصفان لاشتراكهما في مباشرة السبب
والشرط. ولو كان الراد واحدا والآبق واحدا
والمالك اثنين فعليهما جعل واحد على قدر
ملكيهما. ولو جاء بالآبق فوجد المالك قد مات
فله الجعل في تركته لوجود الرد على المالك من
حيث المعنى بالرد على التركة, ثم إن كان عليه
دين محيط بماله فهو أحق بالعبد حتى يعطى الجعل
لما ذكرنا. وإن لم يكن له مال سوى العبد يقدم
الجعل على سائر الديون فيباع العبد ويبدأ
بالجعل من ثمنه ثم يقسم الباقي بين الغرماء؛
لأنه كان أحق بحبسه من بين سائر الغرماء
لاستيفاء الجعل, فكان أحق بثمنه بقدر الجعل
كالمرتهن, هذا إذا جاء به أجنبي فوجد المالك
قد مات فأما إذا جاء به وارث الميت فوجد مورثه
قد مات فله الجعل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله إذا كان المالك حيا وقت الأخذ وعند أبي
يوسف لا جعل له وإن كان حيا وقت الأخذ إذا مات
قبل الوصول إليه. "وجه" قوله أنه فات شرط
الاستحقاق وهو الرد على المالك؛ لأنه رد على
نفسه. "وجه" قولهما إن المجيء به من مسيرة
ثلاثة أيام مثلا في حال حياة المالك على قصد
الرد رد على المالك فيستحق الجعل كما إذا وجده
حيا, ولهذا لو كان الراد أجنبيا استحق الجعل
لما قلنا كذا هذا. ولو جاء به فأعتقه مولاه
قبل أن يرده عليه أو باعه منه فله الجعل لما
ذكرنا أن المجيء به على قصد الرد على المالك
رد عليه ويجب الجعل برد الآبق المرهون لوجود
سبب الوجوب وشرطه وهو الرد على المالك, إلا
أنه يجب على المرتهن؛ لأن منفعة الصيانة رجعت
إليه ألا ترى أنه لو ضاع يسقط دينه بقدر قيمته
فإذا كانت المنفعة له كانت المضرة عليه لقوله
عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وسواء
كان الراد بالغا أو صبيا حرا أو عبدا؛ لأن
الصبي من أهل استحقاق الأجر بالعمل وكذا العبد
إلا أن الجعل لمولاه؛ لأنه ليس من أهل ملك
المال والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" أن
لا يكون الراد على المالك في عيال المالك حتى
لو كان في عياله لا جعل له سواء كان وارثا أو
أجنبيا؛ لأنه إذا كان في عياله كان الرد منه
بمنزلة رد المالك؛ ولأنه إذا كان في عياله كان
في الرد عليه عاملا لنفسه؛ لأن منفعة الرد
تعود إليه ومن عمل لنفسه لا يستحق الأجر على
غيره. والأصل أن الراد إذا كان في عيال المالك
لا جعل له كائنا ما كان وإن لم يكن في عياله
فله الجعل كائنا ما كان إلا الابن يرد آبق
أبيه والزوج يرد آبق زوجته أنه لا جعل لهما
وإن لم يكونا في عيالهما؛ لأن الابن وإن لم
يكن في عيال أبيه فالرد منه يجري مجرى الخدمة؛
لأبيه, والابن لا يستحق الأجر بخدمة أبيه؛
لأنها
ج / 6 ص -205-
مستحقة
عليه, ولهذا لو استأجر ابنه لخدمته لا يستحق
الأجر بخلاف الأب مع ما أن الأولاد في العادات
يحفظون أموال الآباء لطمع الانتفاع بها بطريق
الإرث فكان رادا عبد نفسه معنى إذ كان بالرد
عاملا لنفسه فلا يستحق الأجر, وكذلك الزوج إذا
رد عبد زوجته فقد رد عبد نفسه معنى؛ لأنه
ينتفع بما لها عادة وكذلك لا تقبل شهادة كل
واحد منهما للآخر فلا يستحق الجعل. "وأما"
الأب إذا رد عبد ابنه فإن كان في عياله لا جعل
له؛ لأن الأجنبي الذي في عياله لا جعل له
فالقرابة أولى, وإن لم يكن في عياله فله
الجعل؛ لأن الأب لا يستخدم طبعا وشرعا وعقلا
ولهذا لو خدم بالأجر وجب الأجر فلا يمكن حمله
على الخدمة فيحمل على طلب الأجر, وكذا الآباء
لا يحفظون أموال الأولاد للانتفاع بها بطريق
الإرث لأن موتهم يتقدم موت الأولاد عادة فلم
يتحقق معنى الرد, والعمل لنفسه لذلك افترق
الأمران, وعلى هذا سائر ذوي الأرحام من الأخ
والعم والخال وغيرهم أن الراد إن كان في عيال
المالك لا جعل له لما قلنا, وإن لم يكن في
عياله فله الجعل, وعلى هذا الوصي إذا رد عبد
اليتيم لا جعل له؛ لأن اليتيم في عياله, وحفظ
ماله مستحق عليه فلا يستحق الجعل على الرد,
وكذا عبد الوصي إذا رد عبد اليتيم؛ لأن رد
عبده كرده. "ومنها" أن يكون المردود مرقوقا
مطلقا كالقن والمدبر وأم الولد حتى لو كان
مكاتبا لا جعل له؛ لأنه ليس بمرقوق على
الإطلاق بل هو فيما يرجع إلى مكاسبه حر, ولهذا
لم يتناوله مطلق اسم المملوك في قول الرجل "كل
مملوك لي حر" إلا بالنية بخلاف المدبر وأم
الولد؛ ولأن استحقاق الجعل معلول بالصيانة عن
الضياع ولا حاجة إلى الصيانة في المكاتب؛ لأنه
لا يهرب عادة؛ لأن العقد في جانبه غير لازم,
فلو لم يقدر على بدل الكتابة يعجز نفسه
بالإباء عن الكسب بخلاف المدبر وأم الولد؛
لأنهما يستخدمان عادة فلعلهما يكلفان ما لا
يطيقان فيحملهما ذلك على الهرب فتقع الحاجة
إلى الصيانة بالجعل كما في القن إلا أن الفرق
بينهما وبين القن أنه إذا جاء بالقن وقد مات
المولى قبل أن يصل إليه فله الجعل, وإن جاء
بالمدبر وأم الولد وقد مات المولى قبل الوصول
إليه لا جعل له. "ووجه" الفرق ظاهر؛ لأنهما
يعتقان بموت السيد فلم يوجد رد المرقوق أصلا
فلا يستحق الجعل بخلاف القن والله سبحانه
وتعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان من يستحق عليه:
فالمستحق عليه هو المالك إذا أبق من يده لأن
الجعل مؤنة الرد ومنفعة الرد عائدة إلى المالك
فكانت المؤنة عليه ليكون الخراج بالضمان ولو
أبق عبد الرهن من يد المرتهن فالجعل عليه؛ لأن
منفعة الرد تعود إليه باعتبار الحبس الذي هو
وسيلة إلى استيفاء الدين, فإن كان في قيمة
العبد فضل على الدين يجب بقدر الدين على
المرتهن والزيادة على الراهن والله عز وجل
أعلم.
"فصل": وأما بيان قدر المستحق
فينظر إن رده من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا فله
أربعون درهما لما روينا من حديث عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه وإن رده دون ذلك فبحسابه
وإن رده من أقصى المصر رضخ له على قدر عنائه
وتعبه؛ لأن الواجب بمقابلة العمل فيتقدر بقدره
إلا أن الزيادة على مدة السفر سقط اعتبارها
بالشرع فيبقى الواجب في المدة بمقابلة العمل
فيزداد بزيادته وينقص بنقصانه هذا إذا كانت
قيمة العبد أكثر من الجعل, فإن كانت مثل الجعل
أو أنقص منه ينقص من قيمته درهم عند أبي حنيفة
ومحمد. وقال أبو يوسف: له الجعل تاما, وإن
كانت قيمة العبد درهما واحدا واحتج بما روينا
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال من
كل رأس أربعين درهما اعتبر الرأس دون القيمة
"وجه" قولهما أن الواجب معلول بمعنى الصيانة
عن الضياع لما ذكرنا, ولا فائدة في هذه
الصيانة لو اعتبرنا الرأس دون القيمة؛ لأنه إن
كان يصان من وجه يضيع من وجه آخر فلا فرق بين
الضياع بترك الأخذ والإمساك وبين الضياع
بالجعل فلا بد أن ينقص من قيمته درهم ليكون
الصون بالأخذ مفيدا, والحديث محمول على ما إذا
كانت قيمة كل رأس أكثر من أربعين درهما توفيقا
بين الدلائل بقدر الإمكان والله عز وجل أعلم.
|