بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 6 ص -207-       "كتاب الوديعة"
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع: في بيان ركن العقد, وفي بيان شرائط الركن, وفي بيان حكم العقد, وفي بيان حال المعقود عليه, وفي بيان ما يوجب تغير حاله."أما" ركنه: فهو الإيجاب والقبول, وهو: أن يقول لغيره: أودعتك هذا الشيء, أو احفظ هذا الشيء لي, أو خذ هذا الشيء وديعة عندك, وما يجري مجراه, ويقبله الآخر, فإذا وجد ذلك؛ فقد تم عقد الوديعة.

"فصل": وأما شرائط الركن فأنواع: "منها" عقل المودع, فلا يصح الإيداع من المجنون, والصبي, الذي لا يعقل؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات الشرعية. "وأما" بلوغه: فليس بشرط عندنا, حتى يصح الإيداع من الصبي المأذون؛ لأن ذلك مما يحتاج إليه التاجر؛ فكان من توابع التجارة, فيملكه الصبي المأذون, كما يملك التجارة وعند الشافعي رحمه الله لا يملك التجارة, فلا يملك توابعها على ما نذكر في كتاب المأذون. وكذا حريته ليست بشرط فيملك العبد المأذون الإيداع لما قلنا في الصبي المأذون, "ومنها" عقل المودع فلا يصح قبول الوديعة من المجنون, والصبي الذي لا يعقل؛ لأن حكم هذا العقد هو لزوم الحفظ, ومن لا عقل له لا يكون من أهل الحفظ. "وأما" بلوغه: فليس بشرط حتى يصح قبول الوديعة من الصبي المأذون؛ لأنه من أهل الحفظ؛ ألا ترى أنه أذن له الولي ولو لم يكن من أهل الحفظ لكان الإذن له سفها. "وأما" الصبي المحجور عليه, فلا يصح قبول الوديعة منه؛ لأنه لا يحفظ المال عادة ألا ترى أنه منع منه ماله؟ ولو قبل الوديعة فاستهلكها؛ فإن كانت الوديعة عبدا أو أمة؛ يضمن بالإجماع, وإن كانت سواهما فإن قبلها بإذن الولي فكذلك, وإن قبلها بغير إذنه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف يضمن. "وجه" قوله أن إيداعه لو صح فاستهلك الوديعة؛ يوجب الضمان, وإن لم يصح؛ جعل كأنه لم يكن, فصار الحال بعد العقد كالحال قبله. ولو استهلكها قبل العقد؛ لوجب عليه الضمان إذا كانت الوديعة عبدا أو أمة. "وجه" قولهما: أن إيداع الصبي المحجور إهلاك للمال معنى, فكان فعل الصبي إهلاك مال قائم صورة لا معنى, فلا يكون مضمونا عليه, ودلالة ما قلنا: أنه لما وضع المال في يده, فقد وضع في يد من لا يحفظه عادة, ولا يلزمه الحفظ شرعا, ولا شك أنه لا يجب عليه حفظ الوديعة شرعا؛ لأن الصبي ليس من أهل وجوب الشرائع عليه, والدليل على أنه لا يحفظ الوديعة عادة؛ أنه منع عنه ماله ولو كان يحفظ المال عادة لدفع إليه, قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}, وبهذا فارق المأذون؛ لأنه يحفظ المال عادة, ألا ترى أنه دفع إليه ماله. ولو لم يوجد منه الحفظ عادة؛ لكان الدفع إليه سفها, بخلاف ما إذا كانت الوديعة عبدا أو أمة؛ لأن هناك لا يجب عليه ضمان المال أيضا؛ وإنما يجب عليه ضمان الدم؛ لأن الضمان الواجب بقتل العبد ضمان الآدمي, لا ضمان المال, والعبد من حيث إنه آدمي قائم من كل وجه قبل الإيداع وبعده, فهو الفرق وكذلك حرية المودع ليست بشرط لصحة العقد, حتى يصح القبول من العبد المحجور, فلا يصح منه القبول؛ لأنه لا يحفظ المال عادة. ولو قبلها فاستهلكها, فإن كانت عبدا أو أمة يؤمر المولى بالدفع, أو الفداء وإن كانت سواهما, فإن قبلها بإذن وليه؛ يضمن بالإجماع وإن قبلها بغير إذن وليه؛ لا يؤاخذ به في الحال عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يؤاخذ به في الحال, والكلام في الطرفين على حسب ما ذكرنا في الصبي المحجور.

"فصل":وأما بيان حكم العقد  فحكمه لزوم الحفظ للمالك لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ ومن جانب المودع التزام الحفظ وهو من أهل الالتزام فيلزمه لقوله: عليه الصلاة والسلام "المسلمون عند شروطهم" والكلام في الحفظ في موضعين: أحدهما فيما يحفظ به والثاني: فيما فيه يحفظ. "أما" الأول, فالاستحفاظ لا يخلو من أن يكون مطلقا أو مقيدا, فإن كان مطلقا؛ فللمودع أن يحفظ بيد نفسه, ومن هو في عياله, وهو الذي يسكن معه, ويمونه, فيكفيه.

 

ج / 6 ص -208-       طعامه, وشرابه, وكسوته, كائنا من كان قريبا, أو أجنبيا, من ولده, وامرأته, وخدمه, وأجيره, لا الذي استأجره بالدراهم والدنانير, وبيده من ليس في عياله ممن يحفظ ماله بنفسه عادة, كشريكه المفاوض, والعنان, وعبده المأذون, وعبده المعزول عن بيته. هذا عندنا, وقال الشافعي رحمه الله: ليس له أن يحفظ إلا بيد نفسه, إلا أن يستعين بغيره من غير أن يغيب عن عينه, حتى لو فعل يدخل في ضمانه. "وجه" قوله أن العقد تناوله دون غيره, فلا يملك الإيداع من غيره كما لا يملك الإيداع سائر الأجانب. "ولنا": أن الملتزم بالعقد هو الحفظ والإنسان لا يلتزم بحفظ مال غيره عادة؛ إلا بما يحفظ به مال نفسه, وإنه يحفظ مال نفسه بيده مرة وبيد هؤلاء أخرى, فله أن يحفظ الوديعة بيدهم أيضا, فكان الحفظ بأيديهم داخلا تحت العقد, دلالة, وكذا له أن يرد الوديعة على أيديهم, حتى لو هلكت قبل الوصول إلى المالك, لا ضمان عليه؛ لأن يدهم يد المودع معنى, فما دام في أيديهم؛ كان محفوظا بحفظه, وليس له أن يدفع الوديعة إلى غيرهم, إلا لعذر, حتى لو دفع, تدخل في ضمانه؛ لأن المالك ما رضي بيده, ألا يرى أنه لا يرضى مال نفسه بيده, فإذا دفع؛ فقد صار مخالفا, فتدخل الوديعة في ضمانه إلا إذا كان عن عذر, بأن وقع في داره حريق, أو كان في السفينة, فخاف الغرق؛ فدفعه إلى غيره؛ لأن الدفع إليه في هذه الحالة تعين طريقا للحفظ, فكان الدفع بإذن المالك دلالة فلا يضمن, فلو أراد السفر؛ فليس له أن يودع؛ لأن السفر ليس بعذر. ولو أودعها عند من ليس له أن يودعه, فضاعت في يد الثاني فالضمان على الأول, لا على الثاني عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف, ومحمد: المالك بالخيار, إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني, فإن ضمن الأول لا يرجع بالضمان على الثاني, وإن ضمن الثاني يرجع به على الأول. "وجه قولهما": أنه وجد من كل واحد منهما سبب وجوب الضمان, أما الأول؛ فلأنه دفع مال الغير إلى غيره بغير إذنه. وأما الثاني: فلأنه قبض مال الغير بغير إذنه, وكل واحد منهما سبب لوجوب الضمان, فيخير المالك إن شاء ضمن الأول, وإن شاء ضمن الثاني, كمودع الغاصب مع الغاصب, غير أنه إن ضمن الأول؛ لا يرجع بالضمان على الثاني لأنه ملك الوديعة بأداء الضمان فتبين أنه أودع ماله نفسه إياه فهذا مودع هلكت الوديعة في يده فلا شيء عليه وإن ضمن الثاني, يرجع بالضمان على الأول؛ لأن الأول غره بالإيداع, فيلزمه ضمان الغرور, كأنه كفل عنه بما يلزمه من العهدة في هذا العقد, إذ ضمان الغرور ضمان كفالة, لما علم. "وجه" قول أبي حنيفة: أن يد المودع الثاني ليست بيد مانعة, بل هي يد حفظ وصيانة الوديعة عن أسباب الهلاك, فلا يصلح أن يكون سببا لوجوب الضمان؛ لأنه من باب الإحسان إلى المالك, قال الله تعالى جل شأنه {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}. وكان ينبغي أن لا يجب الضمان على الأول أيضا؛ لأن الإيداع منه مباشرة سبب الصيانة والحفظ له, فكان محسنا فيه, إلا أنه صار مخصوصا عن النص, فبقي المودع الثاني على ظاهره. ولو أودع غيره وادعى أنه فعل عن عذر, لا يصدق على ذلك إلا ببينة عند أبي يوسف, وهو قياس قول أبي حنيفة رحمه الله كذا ذكر الشيخ القدوري رحمه الله ؛ لأن الدفع إلى غيره سبب لوجوب الضمان في الأصل, فدعوى الضرورة دعوى أمر عارض, يريد به دفع الضمان عن نفسه, فلا يصدق إلا بحجة, هذا إذا هلكت الوديعة في يد المودع الثاني؛ فأما إذا استهلكها, فالمالك بالخيار, إن شاء ضمن الأول, وإن شاء ضمن الثاني بالإجماع, غير أنه إن ضمن الأول, يرجع بالضمان على الثاني, وإن ضمن الثاني؛ لا يرجع بالضمان على الأول؛ لأن سبب وجوب الضمان وجد من الثاني حقيقة, وهو الاستهلاك لوقوعه إعجازا للمالك عن الانتفاع بماله على طريق القهر, ولم يوجد من الأول إلا الدفع إلى الثاني على طريق الاستحفاظ دون الإعجاز, إلا أنه ألحق ذلك بالإعجاز شرعا في حق اختيار التضمين صورة؛ لأنه باشر سبب الإعجاز, فكان الضمان في الحقيقة على الثاني؛ لأن إقرار الضمان عليه, لذلك لم يرجع الأول على الثاني, ولم يرجع الثاني على الأول, بخلاف مودع الغاصب إذا هلك المغصوب في يده إن المالك يتخير بين أن يضمن الغاصب, أو يضمن المودع, فإن ضمن الغاصب لا يرجع بالضمان على المودع, وإن ضمن المودع يرجع به على الغاصب, وقد تقدم الفرق, وعلى هذا إذا أودع رجل من رجلين مالا, فإن كان محتملا للقسمة اقتسماه, وحفظ كل واحد منهما نصفه؛ لأنه لما أودعه من رجلين, فقد استحفظهما جميعا, فلا بد وأن تكون الوديعة في حفظهما جميعا, ولا تتحقق إلا بالقسمة ليكون النصف في يد هذا, والنصف في يد ذاك

 

ج / 6 ص -209-       والمحل محتمل للقسمة فيقتسمان نصفين. ولو سلم أحدهما النصف إلى صاحبه فضاعت, فمن المسلم نصف الوديعة عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف, ومحمد: لا يضمن القابض شيئا بالإجماع ولو كانت الوديعة مما لا يحتمل القسمة, فلكل واحد منهما أن يسلم الكل إلى صاحبه, وإذا فعل فضاعت لا ضمان عليه بالإجماع, وجه قولهما: أن المالك لما استحفظها, فقد رضي بيد كل واحد منهما على كل الوديعة, كما إذا لم تكن الوديعة محتملة للقسمة: "وجه" قول أبي حنيفة: أن المالك استحفظ كل واحد منهما في بعض الوديعة لا في كلها, فكان راضيا بثبوت يد كل واحد منهما على البعض دون الكل, وهذا لما ذكرنا, أنه لما استحفظها جميعا, فلا بد أن يكون المال في حفظهما جميعا, ولا يمكن أن يكون كله في يد كل واحد منهما؛ للاستحالة فيقسم ليكون النصف في يد أحدهما, والنصف في يد الآخر, فإذا كان المحل محتملا للقسمة؛ ولم يكن راضيا يكون في يد أحدهما, فإذا فعل فقد خالفه, فدخل في ضمانه, فإذا ضاع ضمن, بخلاف ما إذا لم يكن محتملا للقسمة؛ لأنه إذا لم يحتمل تعذر أن يكون كله في حفظ كل واحد منهما, على التوزيع في زمان واحد, فكان راضيا بكونه في يد كل واحد منهما, في زمانين على التهايؤ فلم يصر مخالفا بالدفع, فهو الفرق. وعلى هذا الخلاف الذي ذكرنا: المرتهنان والوكيلان بالشراء, إذا كان المرهون والمشترى مما يحتمل القسمة, فسلمه أحدهما إلى صاحبه, وأما الثاني: وهو الكلام فيما فيه تحفظ الوديعة, فإن كان العقد؛ مطلقا فله أن يحفظها فيما يحفظ فيه مال نفسه من داره وحانوته وكيسه وصندوقه؛ لأنه ما التزم حفظها إلا فيما يحفظ فيه مال نفسه, وليس له أن يحفظ في حرز غيره؛ لأن حرز غيره في يد ذلك الغير, ولا يملك الحفظ بيده فلا يملكه بما في يده أيضا, إلا إذا استأجر حرزا لنفسه, فله أن يحفظ فيه؛ لأن الحرز في يده فما في الحرز يكون في يده أيضا فكان حافظا بيد نفسه فملك ذلك, وله أن يحفظ الحضر والسفر بأن يسافر بها عند أبي حنيفة سواء كان للوديعة حمل ومؤنة, أو لم يكن, وعند أبي يوسف ومحمد, إن كان لها حمل ومؤنة؛ لا يملك المسافرة بها, وإن لم يكن يملك وعند الشافعي رحمه الله لا يملك كيف ما كان أما الكلام مع الشافعي, رحمه الله فوجه قوله: أن المسافرة الوديعة تضييع المال؛ لأن المفازة مضيعة, قال النبي عليه أفضل التحية "المسافر وماله على قلب إلا ما وقى الله" فكان التحويل إليها تضييعا فلا يملكه المودع. "ولنا" أن الأمر بالحفظ صدر مطلقا عن تعيين المكان, فلا يجوز التعيين إلا بدليل, قوله: المفازة مضيعة قلنا: ممنوع أو نقول إذا كان الطريق مخوفا أما إذا كان آمنا فلا, والكلام فيما إذا كان الطريق آمنا, والحديث محمول على ابتداء الإسلام, حين كانت الغلبة للكفرة, وكانت الطريق مخوفة, ونحن به نقول. وأما الكلام مع أصحابنا رضي الله عنهم فوجه قولهما: أن في المسافرة بماله حمل ومؤنة ضررا, بالمالك لجواز أن يموت المودع في السفر, فيحتاج إلى الاسترداد من موضع لا يمكنه ذلك, إلا بحمل ومؤنة عظيمة فيتضرر به, ولا كذلك إذا لم يكن لها حمل ومؤنة, ولأبي حنيفة على نحو ما ذكرنا مع الشافعي رحمه الله: أن الأمر بالحفظ لا يتعرض لمكان دون مكان, ولا يجوز تقييد المطلق من غير دليل؛ قولهما فيه ضرر, قلنا: هذا النوع من الضرر ليس بغالب, فلا يجب دفعه, على أنه إن كان, فهو الذي أضر بنفسه حيث أطلق الأمر, ومن لم ينظر لنفسه لا ينظر له, هذا إذا كان العقد مطلقا عن شرط في الفصلين جميعا, فأما إذا شرط فيه شرطا نظر فيه, إن كان شرطا يمكن اعتباره ويفيد؛ اعتبر, وإلا فلا, بيان ذلك؛ إذا أمره بالحفظ وشرط عليه أن يمسكها بيده ليلا ونهارا ولا يضعها؛ فالشرط باطل حتى لو وضعها في بيته, أو فيما يحرز فيه ماله عادة, فضاعت؛ لا ضمان عليه؛ لأن إمساك الوديعة بيده, بحيث لا يضعها أصلا غير مقدور له عادة, فكان شرطا لا يمكن مراعاته فيلغى ولو أمره بالحفظ ونهاه أن يدفعها إلى امرأته, أو عبده, أو ولده الذي هو في عياله؛ أو من يحفظ مال نفسه بيده عادة, نظر فيه إن كان لا يجد بدا من الدفع إليه؛ له أن يدفع؛ لأنه إذا لم يجد بدا من الدفع إليه كان النهي عن الدفع إليه نهيا عن الحفظ فكان سفها فلا يصح نهيه وإن كان يجد بدا من الدفع إليه ليس له أن يدفع. ولو دفع يدخل في ضمانه؛ لأنه إذا فكان له منه بد في الدفع إليه, أمكن اعتبار الشرط وهو مفيد؛ لأن الأيدي في الحفظ متفاوتة, والأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن. ولو قال: لا تخرجها من الكوفة, فخرج بها تدخل في ضمانه؛ لأنه شرط يمكن اعتباره وهو مفيد؛

 

ج / 6 ص -210-       لأن الحفظ في المصر أكمل من الحفظ في السفر؛ إذ السفر موضع الخطر؛ إلا إذا خاف التلف عليها؛ فاضطر إلى الخروج بها, فخرج لا تدخل في ضمانه؛ لأن الخروج في هذه الحالة طريق متعين للحفظ, كما إذا وقع في داره حريق؛ أو كان في سفينة فخاف الغرق, فدفعها إلى غيره. ولو قال له: احفظ الوديعة في دارك هذه, فحفظها في دار له أخرى, فإن كانت الداران في الحرز سواء أو كانت الثانية أحرز, لا تدخل في ضمانه؛ لأن التقييد غير مفيد, وإن كانت الأولى أحرز من الثانية دخلت في ضمانه؛ لأن التقييد به عند تفاوت الحرز مفيد, وكذلك لو أمره أن يضعها في داره في هذه القرية, ونهاه عن أن يضعها في داره في قرية أخرى فهو على هذا التفصيل. ولو قال له أخبأها في هذا البيت, وأشار إلى بيت معين في داره فخبأها في بيت آخر في تلك الدار لا تدخل في ضمانه؛ لأن البيتين من دار واحدة, لا يختلفان في الحرز عادة, بخلاف الدارين, فلا يكون التعيين مفيدا, حتى لو تفاوتا بأن كان الأول أحرز من الثاني, تدخل في ضمانه, والأصل المحفوظ في هذا الباب ما ذكرنا, أن كل شرط يمكن مراعاته, ويفيد فهو معتبر, وكل شرط لا يمكن مراعاته, ولا يفيد فهو هدر, وهذا عندنا, وعند الشافعي, رحمه الله تجب مراعاة الشروط في المواضع كلها حتى أن المأمور بالحفظ في بيت معين لا يملك الحفظ في بيت آخر من دار واحدة؛ وجه قوله أن الأصل اعتبار تصرف العاقل على الوجه الذي أوقعه فلا يترك هذا الأصل إلا لضرورة ولم توجد, وصار كالدارين, والجواب: نعم, إذا تعلقت به عاقبة حميدة, فأما إذا خرج مخرج السفه والعبث فلا؛ لأن التعيين عند انعدام التفاوت في الحرز يجري مجرى العبث, كما إذا قال: احفظ بيمينك, ولا تحفظ بشمالك, أو احفظ في هذه الزاوية من البيت, ولا تحفظ في الزاوية الأخرى, فلا يصح التعيين؛ لانعدام الفائدة حتى لو تفاوتا في الحرز يصح, بخلاف الدارين, والأصل في الدارين اختلاف الحرز, فكان التعيين مفيدا حتى لو لم يختلف, فالجواب فيها كالجواب في البيتين على ما مر.

"فصل": وأما بيان حال الوديعة فحالها أنها في يد المودع أمانة؛ لأن المودع مؤتمن, فكانت الوديعة أمانة في يده, ويتعلق بكونها أمانة أحكام: منها: وجوب الرد عند طلب المالك, لقوله تعالى جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. حتى لو حبسها بعد الطلب فضاعت ضمن هذا إذا كانت الوديعة لرجل واحد, فأما إذا كانت مشاعا لرجلين, فجاء أحدهما, وطلب حصته لا يجب عليه الرد؛ بأن أودع رجلان رجلا وديعة, دراهم, أو دنانير وثيابا, وغاب ثم جاءه أحدهما, وطلب بعضها, وأبى المستودع ذلك, لم يأمر القاضي بدفع شيء إليه ما لم يحضر الغائب عند أبي حنيفة, وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم ذلك, ويدفع إليه حصته, ولا يكون ذلك قسمة جائزة على الغائب بلا خلاف؛ حتى لو هلك الباقي في يد المودع, ثم جاء الغائب له أن يشارك صاحبه في المقبوض عندهم جميعا ولو هلك المقبوض في يد القابض ثم جاء الغائب فليس للقابض أن يشارك صاحبه في الباقي. وجه قولهما؛ أن الآخذ بأخذ حصته متصرف في ملك نفسه, فكان له ذلك من غير حضرة الغائب, كما إذا كان لرجلين دين مشترك على رجل, فجاء أحدهما وطلب حصته من الدين؛ فإنه يدفع إليه حصته لما قلنا كذا هذا. "وجه" قول أبي حنيفة: أن المودع لو دفع شيئا إلى الشريك الحاضر, لا يخلو إما أن يدفع إليه من النصيبين جميعا, وإما أن يدفع إليه من نصيبه خاصة, لا وجه إلى الأول؛ لأن دفع نصيب الغائب إليه ممتنع شرعا. ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن نصيبه شائع في كل الألف؛ لكون الألف مشتركة بينهما, ولا تتميز إلا بالقسمة, والقسمة على الغائب غير جائزة؛ ولو سلمنا ذلك حتى قالا: إذا جاء الغائب وقد هلك الباقي, له أن يشارك القابض في المقبوض. ولو نفذت القسمة لما شاركه فيه؛ لتميز حقه عن حق صاحبه بالقسمة, والقياس على الدين المشترك غير سديد؛ لأن الغريم يدفع نصيب أحد الشريكين, بدفع مال نفسه لا مال شريكه الغائب, وهنا يدفع مال الغائب بغير إذنه, فلا يستقيم القياس. ولو كان في يده ألف درهم فجاءه رجلان وادعى كل واحد منهما أنه أودعه إياها, فقال المودع أودعها أحدكما ولست أدري أيكما هو, فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين: إما أن اصطلح المتداعيان على أن يأخذا الألف وتكون بينهما. وأما إن لم يصطلحا, وادعى كل واحد منهما أن الألف له خاصة لا لصاحبه, فإن اصطلحا على ذلك فلهما ذلك, وليس للمودع أن يمتنع عن تسليم الألف إليهما؛ لأنه أقر أن الألف لأحدهما وإذا اصطلحا على أنها تكون بينهما, لا يمنعان عن ذلك, وليس لهما أن يستحلفا

 

ج / 6 ص -211-       المودع بعد الصلح, وإن لم يصطلحا وادعى كل واحد منهما أن الألف له, لا يدفع إلى أحدهما شيئا؛ لجهالة المقر له الوديعة, ولكل واحد منهما أن يستحلف المودع فإن استحلفه كل واحد منهما, فالأمر لا يخلو, إما أن يحلف لكل واحد منهما, وإما أن ينكل لكل واحد منهما, وإما أن يحلف لأحدهما وينكل للآخر, فإن حلف لهما فقد انقطعت خصومتهما للحال إلى وقت إقامة البينة, كما في سائر الأحكام, وهل يملكان الاصطلاح على أخذ الألف بينهما بعد الاستحلاف, فهو على الاختلاف, والمعروف بين, أبي حنيفة, وأبي يوسف, وبين محمد, على قولهما لا يملكان وعلى قول محمد يملكان وهي مسألة الصلح بعد الحلف, وقد مرت في كتاب الصلح. وإن نكل لهما يقضى بالألف بينهما نصفين, ويضمن ألفا أخرى بينهما, فيحصل لكل واحد منهما ألف كاملة لأن كل واحد منهما يدعي أن كل الألف له فإذا نكل له والنكول بذل أو إقرار, فكأنه بذل لكل واحد منهما ألفا, أو أقر لكل واحد منهما بألف, فيقضى عليه بينهما بألف, ويضمن أيضا ألفا أخرى, تكون بينهما؛ ليحصل لكل واحد منهما ألف كاملة, لو حلف لأحدهما ونكل للآخر, قضى بالألف للذي نكل له, ولا شيء للذي حلف له؛ لأن النكول حجة من نكل له لا حجة من حلف له, ومنها وجوب الأداء إلى المالك؛ لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها, وأهلها مالكها. حتى لو ردها إلى منزل المالك, فجعلها فيه, أو دفعها إلى من هو في عيال المالك, دخلت في ضمانه, حتى لو ضاعت؛ يضمن, بخلاف العارية, فإن المستعير لو جاء بمتاع العارية وألقاها في دار المعير, أو جاء بالدابة فأدخلها في إصطبله كان ردا صحيحا؛ لأن ظاهر النص الذي تلونا أن لا يصح, إلا أنها صارت مخصوصة عن عموم الآيات, فبقيت الوديعة على ظاهره؛ ولأن القياس في الموضعين ما ذكرنا من لزوم الرد إلى المالك, إلا أنا استحسنا في العارية للعادة الجارية فيها بردها إلى بيت المالك, أو بدفعها إلى من في عياله, حتى لو كانت العارية شيئا نفيسا, كعقد جوهر ونحو ذلك؛ لا يصح الرد؛ لانعدام جريان العادة بذلك في الأشياء النفيسة, ولم تجر به العادة في مال الوديعة, فتبقى على أصل القياس؛ ولأن مبنى الإيداع على الستر والإغفاء عادة, فإن الإنسان إنما يودع مال غيره سرا عن الناس, لما يتعلق به من المصلحة, فلو رده على غير المالك لانكشف. إذ السر إذا جاوز اثنين يفشو, فيفوت المعنى المجعول له الإيداع, بخلاف العارية؛ لأن مبناها على الإعلان, والإظهار؛ لأنها شرعت لحاجة المستعير إلى استعمالها في حوائجه, ولا يمكنه الاستعمال سرا عن الناس عادة, والرد إلى غير المالك لا يفوت ما شرعت له العارية, فهو الفرق, ومنها: أنه إذا ضاعت في يد المودع بغير صنعه, لا يضمن, لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس على المستعير غير المغل الضمان ولا على المستودع غير المغل الضمان"؛ ولأن يده يد المالك, فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك, وكذلك إذا دخلها نقص؛ لأن النقصان هلاك بعض الوديعة, وهلاك الكل لا يوجب الضمان, فهلاك البعض أولى ومنها أن المودع مع المودع إذا اختلفا, فقال المودع: هلكت أو؛ قال: رددتها إليك وقال المالك: بل استهلكتها فالقول قول المودع؛ لأن المالك يدعي على الأمين أمرا عارضا, وهو التعدي, والمودع مستصحب لحال الأمانة, فكان متمسكا بالأصل, فكان القول قوله, لكن مع اليمين؛ لأن التهمة قائمة, فيستحلف دفعا للتهمة, وكذلك إذا قال: المودع استهلكت من غير إذني وقال المودع: بل استهلكتها أنت, أو غيرك بأمرك, أن القول قول المودع؛ لما قلنا ولو قال: إنها قد ضاعت, ثم قال بعد ذلك: بل كنت رددتها إليك, لكنى أوهمت لم يصدق, وهو ضامن؛ لأنه نفى الرد بدعوى الهلاك, ونفى الهلاك بدعوى الرد, فصار نافيا ما أثبته مثبتا ما نفاه, وهذا تناقض, فلا تسمع منه دعوى الضياع والرد؛ لأن المناقض لا قول له؛ ولأنه لما ادعى دعوتين وأكذب نفسه في كل واحدة منهما فقد ذهبت أمانته, فلا يقبل قوله.

"فصل": وأما بيان ما يغير حال المعقود عليه من الأمانة إلى الضمان, فأنواع: منها ترك الحفظ؛ لأنه بالعقد التزم حفظ الوديعة على وجه لو ترك حفظها حتى هلكت يضمن بدلها, وذلك بطريق الكفالة, ولهذا لو رأى إنسانا يسرق الوديعة, وهو قادر على منعه ضمن؛ لترك الحفظ الملتزم بالعقد, وهو معنى قول مشايخنا إن المودع يؤخذ بضمان العقد, ومنها ترك الحفظ للمالك؛ بأن خالفه في الوديعة بأن كانت الوديعة ثوبا فلبسه, أو دابة فركبها, أو عبدا فاستعمله, أو أودعها من ليس في

 

ج / 6 ص -212-       عياله, ولا هو ممن يحفظ ماله بيده عادة؛ لأن الملتزم بالعقد هو الحفظ للمالك, فإذا حفظ لنفسه, فقد ترك الحفظ للمالك, فدخلت في ضمانه, وحكى عن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه منع دخول العين في ضمانه في المناظرة حين قدم بخارى, وسئل عن هذه المسألة وهذا خلاف إطلاق الكتاب؛ فإنه قال: يبرأ عن الضمان والبراءة عن الضمان بعد الدخول في الضمان تكون. وكذلك المودع مع المودع إذا اختلفا فقال المودع: هلكت الوديعة أو رددتها إليك وقال المالك: استهلكتها, إن كان قبل الخلاف فالقول قول, المودع, وإن كان بعده فالقول قول المالك, ونحو ذلك مما يدل على دخول الوديعة في ضمانه بالخلاف, وإن خالف في الوديعة, ثم عاد الوفاق, يبرأ عن الضمان عند علمائنا الثلاثة, وعند زفر, والشافعي لا يبرأ عن الضمان, وجه قولهما: أن الوديعة لما دخلت في ضمان المودع بالخلاف؛ فقد ارتفع العقد, فلا يعود إلا بالتجديد, ولم يوجد؛ فصار كما لو جحد الوديعة, ثم أقر بها, وكذلك المستعير, والمستأجر, إذا خالفا, ثم عاد إلى الوفاق, لا يبرآن عن الضمان لما قلنا كذا هذا, ولنا: إنه بعد الخلاف مودع والمودع إذا هلكت الوديعة من غير صنعه لا ضمان عليه, كما قبل الخلاف ودلالة أنه بعد الخلاف مودع أن المودع من يحفظ مال غيره له بأمره وهو بعد الخلاف والاشتغال بالحفظ حافظ مال المالك له بأمره؛ لأن الأمر تناول ما بعد الخلاف قوله: الوديعة دخلت في ضمان المودع؛ فيرتفع العقد, قلنا: معنى الدخول في ضمان المودع, إنه انعقد, سبب وجوب الضمان موقوفا وجوبه على وجود شرطه, وهو الهلاك في حالة الخلاف, لكن هذا لم يوجب ارتفاع العقد أليس أن من وكل إنسانا يبيع عبده بألفي درهم؛ فباعه بألف, وسلمه إلى المشتري دخل العبد في ضمانه؟ لانعقاد سبب وجوب الضمان, وهو تسليم مال الغير إلى غيره من غير إذنه ومع ذلك بقي العقد, حتى لو أخذه كان له بيعه بألفين كذا هذا على أنا إن سلمنا أن العقد انفسخ, لكن في قدر ما فات من حقه وحكمه: وهو الحفظ الملتزم للمالك في زمان الخلاف, لا فيما بقي في المستقبل, كما إذا استحفظه بأجر كل شهر, بكذا, وترك الحفظ في بعض الشهر, ثم اشتغل به في الباقي, بقي العقد في الباقي, يستحق الأجرة بقدره والجامع بينهما؛ أن الارتفاع لضرورة فوات حكم العقد؛ فلا يظهر إلا في قدر الفائت, بخلاف الإجارة, والإعارة؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة وهي تمليك منافع مقدرة بالمكان, أو الزمان فإذا بلغ المكان المذكور: فقد انتهى العقد؛ لانتهاء حكمه, فلا يعود إلا بالتجديد وكذا الإعارة؛ لأنها تمليك المنفعة عندنا, إلا أنها تمليك المنفعة بغير عوض, والإجارة تمليك المنفعة بعوض وأما حكم عقد الوديعة: فلزوم الحفظ للمالك مطلقا أو شهرا, وزمان ما بعد الخلاف داخل في المطلق والوقت؛ فلا ينقضي بالخلاف, بل يتقرر, فهو الفرق ومنها جحود الوديعة في وجه المالك عند طلبه, حتى لو قامت البينة على الإيداع, أو نكل المودع عن اليمين, أو أقر به, دخلت في ضمانه؛ لأن العقد لما ظهر بالحجة؛ فقد ظهر ارتفاعه بالجحود, أو عنده؛ لأن المالك لما طلب منه الوديعة, فقد عزله عن الحفظ, والمودع لما جحد الوديعة حال حضرة المالك, فقد عزل نفسه عن الحفظ؛ فانفسخ العقد, فبقي مال الغير في يده بغير إذنه؛ فيكون مضمونا عليه, فإذا هلك تقرر الضمان ولو جحد, الوديعة, ثم أقام البينة على هلاكها, فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما إن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود, أو قبل الجحود, أو مطلقا؛ فإن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود, أو مطلقا لا ينتفع ببينته؛ لأن العقد ارتفع بالجحود, أو عنده؛ فدخلت العين في ضمانه, والهلاك بعد ذلك يقرر الضمان, لا أن يسقطه؛ وإن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود, تسمع بينته ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك قبل الجحود لما ثبت بالبينة؛ فقد ظهر انتهاء العقد قبل الجحود, فلا يرتفع بالجحود, فظهر أن الوديعة هلكت من غير صنعه, فلا يضمن. ولو ادعى الهلاك قبل الجحود ولا بينة له, وطلب اليمين من المودع, حلفه القاضي بالله تعالى ما يعلم أنها هلكت قبل جحوده؛ لأنه الأصل في باب الاستحلاف, أن الذي يستحلف عليه لو كان أمرا, لو أقر به الحالف للزمه, فإذا أنكر يستحلف وهنا كذلك؛ لأن المالك لو أقر بالهلاك قبل الجحود لقبل منه, ويسقط الضمان عن المودع فإذا أنكر يستحلف, لكن على العلم؛ لأنه يستحلف على فعل غيره, هذا إذا جحد حال حضرة المالك, فإن جحد عند غير المالك حال غيبته قال أبو يوسف: لا يضمن وقال زفر رحمه الله: يضمن في الحالين جميعا وجه قول زفر: أن ما هو سبب وجوب الضمان لا يختلف بالحضرة, والغيبة كسائر الأسباب, وجه قول

 

ج / 6 ص -213-       أبي يوسف أن الجحود سبب للضمان من حيث إنه يرفع العقد بالعزل على ما بينا. ولا يصح العزل حالة الغيبة, فلا يرتفع العقد؛ ولأن الجحود عند غير المالك حال غيبته معدود من باب الحفظ والصيانة عرفا, وعادة؛ لأن مبنى الإيداع على الستر, والإخفاء, فكان الجحود عند غير المالك حال غيبته حفظا معنى, فكيف يكون سببا لوجوب الضمان؟ ومنها الإتلاف حقيقة أو معنى وهو إعجاز المالك عن الانتفاع الوديعة؛ لأن إتلاف مال الغير بغير إذنه سبب لوجوب الضمان حتى لو طلب الوديعة, فمنعها المودع مع القدرة على الدفع, والتسليم إليه, حتى هلكت, يضمن؛ لأنه لما حبسها عنه؛ عجز عن الانتفاع بها للحال؛ فدخلت في ضمانه, فإذا هلكت تقرر العجز؛ فيجب الضمان ولو أمر غيره بالإتلاف, وادعى؛ أنه كان بإذن المالك, لا يصدق إلا ببينة؛ لأن الإتلاف سبب لوجوب الضمان في الأصل, وقوله: كان بإذن المالك دعوى أمر عارض, فلا تقبل إلا بحجة. وكذلك المودع إذا خلط الوديعة بماله خلطا لا يتميز, يضمن؛ لأنه إذا كان لا يتميز, فقد عجز المالك من الانتفاع الوديعة؛ فكان الخلط منه إتلافا؛ فيضمن, ويصير ملكا بالضمان وإن مات كان ذلك لجميع الغرماء, والمودع أسوة الغرماء فيه, ولو اختلطت بماله بنفسها من غير صنعه؛ لا يضمن وهو شريك لصاحبها أما عدم وجوب الضمان؛ فلانعدام الإتلاف منه, بل تلفت بنفسها؛ لانعدام الفعل من جهته؛ وأما كونه شريكا لصاحبها؛ فلوجوده معنى الشركة؛ وهو اختلاط الملكين ولو أودعه رجلان, كل واحد منهما ألف درهم, فخلط المودع المالين خلطا لا يتميز؛ فلا سبيل لهما على أخذ الدراهم؛ يضمن المودع لكل واحد منهما ألفا ويكون المخلوط له وهذا قول أبي حنيفة؛ وقال أبو يوسف ومحمد: هما بالخيار إن شاءا اقتسما المخلوط نصفين, وإن شاءا ضمنا المودع ألفين, وعلى هذا الخلاف سائر المكيلات, والموزونات, إذا خلط الجنس بالجنس خلطا لا يتميز, كالحنطة بالحنطة, والشعير بالشعير, والدهن بالدهن. وجه قولهما أن الوديعة قائمة بعينها, لكن عجز المالك عن الوصول إليها بعارض الخلط, فإن شاءا اقتسما؛ لاعتبار جهة القيام, وإن شاءا ضمنا, لاعتبار جهة العجز؛ وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه لما خلطهما خلطا لا يتميز, فقد عجز كل واحد منهما عن الانتفاع بالمخلوط؛ فكان الخلط منه إتلاف الوديعة عن كل واحد منهما؛ فيضمن؛ ولهذا يثبت اختيار التضمين عندهما واختيار التضمين لا يثبت إلا بوجود الإتلاف, دل أن الخلط منه وقع إتلافا ولو أودعه رجل حنطة, وآخر شعيرا, فخلطهما, فهو ضامن لكل واحد منهما مثل حقه عند أبي حنيفة؛ لأن الخلط إتلاف؛ وعندهما لهما أن يأخذا العين, ويبيعاها, ويقتسما الثمن على قيمة الحنطة مخلوطا بالشعير, وعلى قيمة الشعير غير مخلوط بالحنطة؛ لأن قيمة الحنطة تنقص بخلط الشعير؛ وهو يستحق الثمن لقيام الحق في العين وهو مستحق العين, بخلاف قيمة الشعير؛ لأن قيمة الشعير تزداد بالخلط بالحنطة, وتلك الزيادة ملك الغير, فلا يستحقها صاحب الشعير. ولو أنفق المودع بعض الوديعة؛ ضمن قدر ما أنفق, ولا يضمن الباقي؛ لأنه لم يوجد منه إلا إتلاف قدر ما أنفق؛ ولو رد مثله فخلطه بالباقي يضمن الكل؛ لوجود إتلاف الكل منه: النصف بالإتلاف, والنصف الباقي بالخلط؛ لكون الخلط إتلافا على بينا ولو أخذ بعض دراهم الوديعة؛ لينفقها فلم ينفقها, ثم ردها إلى موضعها بعد أيام؛ فضاعت لا ضمان عليه عندنا, وعند الشافعي رحمه الله يضمن وجه قوله, أنه أخذها على وجه التعدي؛ فيضمن كما لو انتفع بها. "ولنا" أن نفس الأخذ ليس بإتلاف, ونية الإتلاف ليست بإتلاف؛ فلا توجب الضمان والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى عز شأنه عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يفعلوا" ظاهر الحديث: يقتضي أن يكون ما حدثت به النفس عفوا على العموم, إلا ما خص بدليل وعلى هذا الخلاف إذا أودعه كيسا مسدودا؛ فحله المستودع, أو صندوقا مقفلا, ففتح القفل؛ ولم يأخذ منه شيئا, حتى ضاع أو مات المودع؛ فإن كانت الوديعة قائمة بعينها ترد على صاحبها؛ لأن هذا عين ماله, ومن وجد عين ماله؛ فهو أحق به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت لا تعرف بعينها, فهي دين في تركته يحاص الغرماء؛ لأنه لما مات مجهلا للوديعة, فقد أتلفها معنى, لخروجها من أن يكون منتفعا بها في حق المالك بالتجهيل, وهو تفسير الإتلاف. ولو قالت الورثة: إنها هلكت أو ردت على المالك لا, يصدقون على ذلك؛ لأن الموت مجهلا سبب لوجوب الضمان؛ لكونه إتلافا, فكان

 

ج / 6 ص -214-       دعوى الهلاك, والرد دعوى أمر عارض فلا يقبل إلا بحجة, ويحاص المودع الغرماء؛ لأنه دين الاستهلاك على ما ذكرنا؛ فيساوي دين الصحة والله سبحانه وتعالى أعلم.