بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع "كتاب العارية"
الكلام في هذا الكتاب
يقع في مواضع: في بيان ركن العارية, وفي بيان
شرائط الركن, وفي بيان حكم العقد, وفي بيان ما
يملكه المستعير من التصرف في المستعار وما لا
يملكه, وفي بيان صفة الحكم, وفي بيان حال
المستعار, وفي بيان ما يوجب تغير حاله أما
ركنها: فهو الإيجاب من المعير, وأما القبول من
المستعير فليس بركن عند أصحابنا الثلاثة
استحسانا, والقياس أن يكون ركنا وهو قول زفر,
كما في الهبة, حتى أن من حلف لا يعير فلانا
فأعاره ولم يقبل يحنث كما إذا حلف لا يهب
فلانا شيئا فوهبه ولم يقبل, وهي مسألة كتاب
الهبة والإيجاب هو أن يقول: أعرتك هذا الشيء,
أو منحتك هذا الثوب أو هذه الدار, أو أطعمتك
هذه الأرض أو هذه الأرض لك طعمة, أو أخدمتك
هذا العبد أو هذا العبد لك خدمة, أو حملتك على
هذه الدابة إذا لم ينو به الهبة أو داري سكنى
أو داري لك عمرى سكنى أما لفظ الإعارة فصريح
في بابها. وأما المنحة فهي اسم للعطية التي
ينتفع الإنسان بها زمانا ثم يردها على صاحبها,
وهو معنى العارية, قال النبي عليه الصلاة
والسلام: "المنحة مردودة ومنحة الأرض زراعتها"
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ازرعها أو
امنحها أخاك" وكذا الإطعام المضاف إلى الأرض,
هو إطعام منافعها التي تحصل منها بالزراعة من
غير عوض عرفا وعادة, وهو معنى العارية. وأما
إخدام العبد إياه فجعل خدمته بغير عوض, وهو
تفسير العارية, وكذا قوله: داري لك سكنى أو
عمري سكنى, هو جعل سكنى الدار له من غير عوض,
وسكنى الدار منفعتها المطلوبة منها عادة, فقد
أتى بمعنى الإعارة, وأما قوله: حملتك على هذه
الدابة, فإنه يحتمل الإعارة والهبة, فأي ذلك
نوى فهو على ما نوى؛ لأنه نوى ما يحتمل لفظه,
وعند الإطلاق ينصرف إلى العارية؛ لأنها أدنى
فكان الحمل عليها أولى. ولو قال: داري لك رقبى
أو حبس, فهو عارية عند أبي حنيفة ومحمد, وعند
أبي يوسف هبة, وقوله رقبى أو حبس باطل وهي
مسألة كتاب الهبة.
"فصل": وأما الشرائط التي يصير الركن بها إعارة شرعا فأنواع: منها العقل, فلا تصح الإعارة من المجنون والصبي
الذي لا يعقل. وأما البلوغ فليس بشرط عندنا
حتى تصح الإعارة من الصبي المأذون؛ لأنها من
توابع التجارة, وأنه يملك التجارة فيملك ما هو
من توابعها, وعند الشافعي لا يملك, وهي مسألة
كتاب المأذون, وكذا الحرية ليست بشرط فيملكها
العبد المأذون؛ لأنها من توابع التجارة فيملك
بملك ذلك, ومنها القبض من المستعير؛ لأن
الإعارة عقد تبرع فلا يفيد الحكم بنفسه بدون
القبض كالهبة, ومنها أن يكون المستعار مما
يمكن الانتفاع بدون استهلاكه, فإن لم يكن لا
تصح إعارته؛ لأن حكم العقد ثبت في المنفعة لا
في العين, إلا إذا كانت ملحقة بالمنفعة على ما
نذكره في موضعه.
ج / 6 ص -215-
صح من
غير أجل؛ لأن بيان الأجل للتحرز عن الجهالة
المفضية إلى المنازعة, والجهالة في باب
العارية لا تفضي إلى المنازعة؛ لأنها عقد جائز
غير لازم, ولهذا المعنى لا يملك الإجارة؛
لأنها عقد لازم والإعارة عقد غير لازم, فلو
ملك الإجارة لكان فيه إثبات صفة اللزوم بما
ليس بلازم, أو سلب صفة اللزوم عن اللازم, وكل
ذلك باطل, وقوله: المنافع منعدمة عند العقد
قلنا: نعم, لكن هذا لا يمنع جواز العقد كما في
الإجارة, وهذا لأن العقد الوارد على المنفعة
عندنا عقد مضاف إلى حين وجود المنفعة, فلا
ينعقد في حق الحكم إلا عند وجود المنفعة شيئا
فشيئا على حسب حدوثها, فلم يكن بيع المعدوم
ولا بيع ما ليس عند الإنسان, وعلى هذا تخرج
إعارة الدراهم والدنانير أنها تكون قرضا لا
إعارة؛ لأن الإعارة لما كانت تمليك المنفعة أو
إباحة المنفعة على اختلاف الأصلين, ولا يمكن
الانتفاع إلا باستهلاكها, ولا سبيل إلى ذلك
إلا بالتصرف في العين لا في المنفعة, ولا يمكن
تصحيحا إعارة حقيقية, فتصحح قرضا مجازا لوجود
معنى الإعارة فيه, حتى لو استعار حليا ليتجمل
به صح؛ لأنه يمكن الانتفاع به من غير استهلاك
بالتجمل, فأمكن العمل بالحقيقة, فلا ضرورة إلى
الحمل على المجاز, وكذا إعارة كل ما لا يمكن
الانتفاع به إلا باستهلاكه كالمكيلات
والموزونات, يكون قرضا لا إعارة لما ذكرنا أن
محل حكم الإعارة المنفعة لا بالعين, إلا إذا
كان ملحقا بالمنفعة عرفا وعادة, كما إذا منح
إنسانا شاة أو ناقة لينتفع بلبنها ووبرها مدة
ثم يردها على صاحبها؛ لأن ذلك معدود من
المنافع عرفا وعادة, فكان له حكم المنفعة, وقد
روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"هل من أحد يمنح من إبله ناقة أهل بيت لا در
لهم" وهذا يجري مجرى الترغيب, كمن منح منحة
ورق أو منحة لبس كان له بعدل رقبة, وكذا لو
منح جديا أو عناقا كان عارية؛ لأنه يعرض أن
ينتفع بلبنه وصوفه ويتصل بهذا الفصل بيان ما
يملكه المستعير من التصرف في المستعار وما لا
يملكه فنقول وبالله التوفيق: جملة الكلام فيه
أن عقد الإعارة لا يخلو من أحد وجهين: إما إن
كان مطلقا, وإما إن كان مقيدا, فإن كان مطلقا
بأن أعار دابته إنسانا ولم يسم مكانا ولا
زمانا ولا الركوب ولا الحمل, فله أن يستعملها
في أي مكان وزمان شاء. وله أن يركب أو يحمل؛
لأن الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه, وقد
ملكه منافع العارية مطلقا, فكان له أن
يستوفيها على الوجه الذي ملكها, إلا أنه لا
يحمل عليها ما يعلم أن مثلها لا يطيق بمثل هذا
الحمل, ولا يستعملها ليلا ونهارا ما لا يستعمل
مثلها من الدواب لذلك عادة, حتى لو فعل فعطبت
يضمن؛ لأن العقد وإن خرج مخرج الإطلاق, لكن
المطلق يتقيد بالعرف والعادة دلالة, كما يتقيد
نصا, وله أن يعير العارية عندنا سواء كانت
العارية مما يتفاوت في استيفاء المنفعة أو لا؛
لأن إطلاق العقد يقتضي ثبوت الملك للمستعير,
فكان هو في التمليك من غيره على الوجه الذي
ملكه متصرفا في ملك نفسه, إلا أنه لا يملك
الإجارة لما قلنا, فإن آجر وسلم إلى المستأجر
ضمن؛ لأنه دفع مال الغير إليه بغير إذنه فصار
غاصبا, فإن شاء ضمنه وإن شاء ضمن المستأجر؛
لأنه قبض مال الغير بغير إذنه كالمشتري من
الغاصب, إلا أنه إذا ضمن المستعير لا يرجع
بالضمان على المستأجر؛ لأنه ملكه بأداء الضمان
فتبين أنه آجر ملك نفسه وإن ضمن المستأجر, فإن
كان عالما بكونها عارية في يده لا يرجع على
المستعير وإن لم يكن عالما بذلك يرجع عليه؛
لأنه إذا لم يعلم به فقد صار مغرورا من جهة
المستعير فيرجع عليه بضمان الغرور, وهو ضمان
الكفالة في الحقيقة. وإذا كان عالما لم يصر
مغرورا من جهته فلا يرجع عليه وهل يملك
الإيداع؟ اختلف المشايخ فيه قال مشايخ العراق:
يملك, وهو قول بعض مشايخنا؛ لأنه يملك الإعارة
فالإيداع أولى؛ لأنها دون الإعارة وقال بعضهم:
لا يملك استدلالا بمسألة مذكورة في الجامع
الصغير, وهي أن المستعير إذا رد العارية على
يد أجنبي ضمن, ومعلوم أن الرد على يده إيداع
إياه, ولو ملك الإيداع لما ضمن وإن كان مقيدا,
فيراعى فيه القيد ما أمكن؛ لأن أصل اعتبار
تصرف العاقل على الوجه الذي تصرف, إلا إذا لم
يكن اعتباره لعدم الفائدة ونحو ذلك, فلغا
الوصف؛ لأن ذلك يجري مجرى العبث, ثم إنما
يراعى القيد فيما دخل لا فيما لم يدخل؛ لأن
المطلق إذا قيد ببعض الأوصاف يبقى مطلقا فيما
وراءه, فيراعى عند الإطلاق فيما وراءه بيان
هذه الجملة في مسائل: إذا أعار إنسانا دابة
على أن يركبها المستعير بنفسه ليس له أن
يعيرها من غيره, وكذلك إذا أعاره ثوبا
ج / 6 ص -216-
على أن
يلبسه بنفسه, لما ذكرنا أن الأصل في المقيد
اعتبار القيد فيه إلا إذا تعذر اعتباره,
واعتبار هذا القيد ممكن؛ لأنه مقيد لتفاوت
الناس في استعمال الدواب والثياب ركوبا ولبسا,
فلزم اعتبار القيد فيه, فإن فعل حتى هلك ضمن
لأنه خالف, وإن ركب بنفسه وأردف غيره فعطبت
فإن كانت الدابة؛ مما تطيق حملهما جميعا يضمن
نصف قيمة الدابة لأنه لم يخالف إلا في قدر
النصف, وإن كانت الدابة مما لا تطيق حملهما
ضمن جميع قيمتها؛ لأنه استهلكها, ولو أعاره
دارا ليسكنها بنفسه فله أن يسكنها غيره؛ لأن
المملوك بالعقد السكنى, والناس لا يتفاوتون
فيه عادة فلم يكن التقييد بسكناه مفيدا فيلغو,
إلا إذا كان الذي يسكنها إياه حدادا أو قصارا
ونحوهما ممن يوهن عليه البناء, فليس له أن
يسكنها إياه, ولا أن يعمل بنفسه ذلك؛ لأن
المعير لا يرضى به عادة, والمطلق يتقيد بالعرف
والعادة كما في الإجارة, ولو أعاره دابة على
أن يحمل عليها عشرة مخاتيم شعير, فليس له أن
يحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة؛ لأن الحنطة أثقل
من الشعير, فكان اعتبار القيد مفيدا فيعتبر,
ولو أعارها على أن يحمل عليها عشرة مخاتيم
حنطة فله أن يحمل عليها عشرة مخاتيم شعيرا أو
دخنا أو أرزا أو غير ذلك مما يكون مثل الحنطة
أو أخف منها استحسانا والقياس أن لا يكون له
ذلك, حتى أنها لو عطبت لا يضمن استحسانا,
والقياس أن يضمن وهو قول زفر؛ لأنه خالف,
وجواب الاستحسان أن هذا وإن كان خلافا صورة
فليس بخلاف معنى؛ لأن المالك يكون راضيا به
دلالة فلم يكن التقييد بالحنطة مفيدا, وصار
كما لو شرط عليه أن يحمل عليها عشرة مخاتيم من
حنطة نفسه فحمل عليها عشرة مخاتيم من حنطة
غيره, فإنه لا يكون مخالفا حتى لا يضمن, كذا
هذا, ولو قال: على أن يحمل عليها عشرة مخاتيم
حنطة له أن يحمل عليها حطبا أو تبنا أو آجرا
أو حديدا أو حجارة سواء كان مثلها في الوزن أو
أخف؛ لأن ذلك أشق على الدابة أو أنكى لظهرها
أو أعقر, ولو فعل حتى عطبت ضمن, ولو قال: على
أن يحمل عليها مائة من قطن فحمل عليها مثله من
الحديد وزنا فعطبت يضمن؛ لأن القطن ينبسط على
ظهر الدابة, فكان ضرورته أقل من الحديد؛ لأنه
يكون في موضع واحد, فكان ضرورة بالدابة أكثر
والرضا بأدنى الضررين لا يكون رضا بأعلاهما,
فكان التقييد مفيدا فيلزم اعتباره, ولو قال:
على أن يحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل
عليها من الحنطة زيادة على المسمى في القدر
فعطبت نظر في ذلك, فإن كانت الزيادة مما لا
تطيق الدابة حملها, يضمن جميع قيمتها؛ لأن حمل
ما لا تطيق الدابة إتلاف للدابة, وإن كانت
الدابة مما تطيق حملها يضمن من قيمتها قدر
الزيادة, حتى لو قال: على أن يحمل عليها عشرة
مخاتيم حنطة فحمل عليها أحد عشر مختوما فعطبت
يضمن جزءا من أحد عشر جزءا من قيمتها؛ لأنه لم
يتلف منها إلا هذا القدر, ولو قيدها بالمكان,
بأن قال: على أن تستعملها في مكان كذا في
المصر يتقيد به, وله أن يستعملها في أي وقت
شاء بأي شيء شاء؛ لأن التقييد لم يوجد إلا
بالمكان فبقي مطلقا فيما وراءه, لكنه لا يملك
أن يجاوز ذلك المكان, حتى لو جاوزه دخل في
ضمانه, ولو أعادها إلى المكان المأذون لا يبرأ
عن الضمان, حتى لو هلكت من قبل التسليم إلى
المالك يضمن, وهذا قول أبي حنيفة عليه الرحمة
الآخر, وكان يقول أولا: يبرأ عن الضمان
كالمودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق ثم رجع,
ووجه الفرق بين العارية الوديعة قد ذكرناه في
كتاب الوديعة وكذلك لو قيدها بالزمان بأن قال:
على أن يستعملها يوما يبقى مطلقا فيما وراءه,
لكنه يتقيد بالزمان, حتى لو مضى اليوم ولم
يردها على المالك حتى هلكت يضمن, لما قلنا
وكذلك لو قيدها بالحمل وكذلك لو قيدها
بالاستعمال, بأن قال: على أن يستعملها حتى لو
أمسكها ولم يستعملها حتى هلكت يضمن؛ لأن
الإمساك منه خلاف فيوجب الضمان, ولو اختلف
المعير أو المستعير في الأيام أو المكان أو
فيما يحمل عليها, فالقول قول المعير؛ لأن
المستعير يستفيد ملك الانتفاع من المعير, فكان
القول في المقدار والتعيين قوله, لكن مع
اليمين دفعا للتهمة.
"فصل": وأما صفة الحكم
فهي أن الملك الثابت للمستعير ملك غير لازم؛
لأنه ملك لا يقابله عوض, فلا يكون لازما
كالملك الثابت بالهبة, فكان للمعير أن يرجع في
العارية سواء أطلق العارية أو وقت لها وقتا,
وعلى هذا إذا استعار من آخر أرضا ليبني عليها
أو ليغرس فيها, ثم بدا للمالك أن يخرجه فله
ذلك سواء كانت العارية مطلقة أو موقتة, لما
قلنا غير أنها إن
ج / 6 ص -217-
كانت
مطلقة له أن يجبر المستعير على قلع الغرس ونقض
البناء؛ لأن في الترك ضررا بالمعير؛ لأنه لا
نهاية له, وإذا قلع ونقض لا يضمن المعير شيئا
من قيمة الغرس والبناء؛ لأنه لو وجب عليه
الضمان لوجب بسبب الغرور, ولا غرور من جهته,
حيث أطلق العقد ولم يوقت فيه وقتا فأخرجه قبل
الوقت, بل هو الذي غرر نفسه حيث حمل المطلق
على الأبد, وإن كانت موقتة فأخرجه قبل الوقت
لم يكن له أن يخرجه, ولا يجبر على النقض
والقلع. والمستعير بالخيار إن شاء ضمن صاحب
الأرض قيمة غرسه وبنائه قائما سليما وترك ذلك
عليه؛ لأنه لما وقت للعارية وقتا ثم أخرجه قبل
الوقت فقد غره, فصار كفيلا عنه فيما يلزمه من
العهدة, إذ ضمان الغرور كفالة فكان له أن يرجع
عليه بالضمان, ويملك صاحب الأرض البناء والغرس
بأداء الضمان؛ لأن هذا حكم المضمونات أنها
تملك بأداء الضمان, وإن شاء أخذ غرسه وبناءه
ولا شيء على صاحب الأرض ثم إنما يثبت خيار
القلع والنقض للمستعير إذا لم يكن القلع أو
النقض مضرا بالأرض, فإن كان مضرا بها فالخيار
للمالك؛ لأن الأرض أصل والبناء والغرس تابع
لها, فكان المالك صاحب أصل والمستعير صاحب
تبع, فكان إثبات الخيار لصاحب الأصل أولى إن
شاء أمسك الغرس والبناء بالقيمة وإن شاء رضي
بالقلع والنقض هذا إذا استعار أرضا للغرس أو
البناء, فأما إذا استعار أرضا للزراعة فزرعها,
ثم أراد صاحب الأرض أن يأخذها, لم يكن له ذلك
حتى يحصد الزرع, بل يترك في يده إلى وقت
الحصاد بأجر المثل استحسانا في القياس أن يكون
له ذلك كما في البناء والغرس ووجه الفرق
للاستحسان أن النظر من الجانبين ورعاية الحقين
واجب عند الإمكان, وذلك ممكن في الزرع؛ لأن
إدراك الزرع له وقت معلوم, فيمكن النظر من
الجانبين جانب المستعير لا شك فيه, وجانب
المالك بالترك إلى وقت الحصاد بالأجر, ولا
يمكن في الغرس والبناء؛ لأنه ليس لذلك وقت
معلوم, فكان مراعاة صاحب الأصل أولى, وقالوا
في باب الإجارة: إذا انقضت المدة والزرع بقل
لم يستحصد أنه يترك في يد المستأجر إلى وقت
الحصاد بأجر المثل, كما في العارية لما قلنا,
بخلاف باب الغصب؛ لأن الترك للنظر, والغاصب
جان فلا يستحق النظر بل يجبر على القلع
"فصل": وأما بيان حال المستعار:
فحاله أنه أمانة في يد المستعير في حال
الاستعمال بالإجماع, فأما في غير حال
الاستعمال فكذلك عندنا, وعند الشافعي رحمه
الله مضمون, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم استعار من صفوان درعا يوم
حنين, فقال صفوان: أغصبا يا محمد, فقال عليه
الصلاة والسلام: بل عارية مضمونة" ولأن العين
مضمونة الرد حال قيامها, فكانت مضمونة القيمة
حال هلاكها كالمغصوب, وهذا لأن العين اسم
للصورة, والمعنى وبالهلاك إن عجز عن رد الصورة
لم يعجز عن رد المعنى؛ لأن قيمة الشيء معناه,
فيجب عليه رده بمعناه كما في الغصب, ولأنه قبض
مال الغير لنفسه, فيكون مضمونا عليه كالمقبوض
على سوم الشراء. "ولنا" أنه لم يوجد من
المستعير سبب وجوب الضمان, فلا يجب عليه
الضمان كالوديعة والإجارة, وإنما قلنا ذلك لأن
الضمان لا يجب على المرء بدون فعله, وفعله
الموجود منه ظاهرا هو العقد والقبض, وكل واحد
منهما لا يصلح سببا لوجوب الضمان أما العقد؛
فلأنه عقد تبرع بالمنفعة تمليكا أو إباحة على
اختلاف الأصلين. وأما القبض, فلوجهين: أحدهما
أن قبض مال الغير بغير إذنه لا يصلح سببا
لوجوب الضمان, فبالإذن أولى, وهذا لأن قبض مال
الغير بغير إذنه هو إثبات اليد على مال الغير
وحفظه وصيانته عن الهلاك وهذا إحسان في حق
المالك قال الله تبارك وتعالى جل شأنه:
{هَلْ
جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ}
وقال تبارك وتعالى
{مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} دل أن
قبض مال الغير بغير إذنه لا يصلح سببا لوجوب
الضمان, فمع الإذن أولى والثاني: أن القبض
المأذون فيه لا يكون تعديا؛ لأنه لا يفوت يد
المالك ولا ضمان إلا على المتعدي, قال الله
تبارك وتعالى: {فَلا
عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}
بخلاف قبض الغصب, وأما الاستدلال بضمان الرد,
قلنا: إن وجب عليه رد العين حال قيامها, لم
يجب عليه رد القيمة حال هلاكها وقوله: قيمتها
معناها, قلنا: ممنوع, وهذا لأن القيمة هي
الدراهم والدنانير, والدراهم والدنانير عين
أخرى لها صورة ومعنى غير العين الأولى, فالعجز
عن رد أحد العينين لم يوجب رد العين الأخرى,
وفي باب الغصب لا يجب عليه ضمان القيمة بهذا
الطريق, بل بطريق آخر, وهو إتلاف المغصوب معنى
لما علم, وهنا لم يوجد, حتى لو وجد يجب الضمان
ج / 6 ص -218-
ثم
نقول: إنما وجب عليه ضمان الرد؛ لأن العقد متى
انتهى بانتهاء المدة أو بالطلب بقي العين في
يده كالمغصوب, والمغصوب مضمون الرد حال قيامه
ومضمون القيمة حال هلاكه, وعندنا إذا هلكت في
تلك الحالة ضمن وأما قوله: قبض مال الغير
لنفسه فنعم, لكن قبض مال الغير لنفسه بغير
إذنه لا يصلح سببا لوجوب الضمان لما ذكرنا,
فمع الإذن أولى. والمقبوض على سوم الشراء غير
مضمون بالقبض بل بالعقد بطريق التعاطي, بشرط
الخيار الثابت دلالة لما علم, ولا حجة له في
حديث صفوان؛ لأن الرواية قد اختلفت, فقد روي
"أنه هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأرسل إليه فأمنه, وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يريد حنينا, فقال: هل عندك شيء من
السلاح فقال: عارية أو غصبا فقال عليه الصلاة
والسلام:
عارية, فأعاره" ولم يذكر
فيه الضمان, والحادثة حادثة واحدة مرة واحدة,
فلا يكون الثابت إلا إحداهما فتعارضت
الروايتان فسقط الاحتجاج, مع ما أنه إن ثبت
فيحتمل ضمان الرد, وبه نقول, فلا يحمل على
ضمان الغير مع الاحتمال, يؤيد ما قلنا, ما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العارية مؤداة".
"فصل": وأما بيان ما يوجب تغير حالها
فالذي يغير حال المستعار من الأمانة إلى
الضمان, ما هو المغير حال الوديعة, وهو
الإتلاف حقيقة أو معنى بالمنع بعد الطلب أو
بعد انقضاء المدة, وبترك الحفظ, وبالخلاف, حتى
لو حبس العارية بعد انقضاء المدة أو بعد الطلب
قبل انقضاء المدة يضمن؛ لأنه واجب الرد في
هاتين الحالتين, لقوله عليه الصلاة والسلام:
"العارية مؤداة" وقوله عليه الصلاة والسلام:
"على اليد ما أخذت حتى ترده" ولأن حكم العقد
انتهى بانقضاء المدة أو الطلب, فصارت العين في
يده كالمغصوب, والمغصوب مضمون الرد حال قيامه,
ومضمون القيمة حال هلاكه, ولو رد العارية مع
عبده أو ابنه أو بعض من في عياله, أو مع عبد
المعير, أو ردها بنفسه إلى منزل المالك وجعلها
فيه, لا يضمن استحسانا, والقياس أن يضمن كما
في الوديعة, وقد ذكرنا الفرق بينهما في كتاب
الوديعة, وكذا إذا ترك الحفظ حتى ضاعت, وكذا
إذا خالف, إلا أن في باب الوديعة إذا خالف ثم
عاد إلى الوفاق يبرأ عن الضمان عند أصحابنا
الثلاثة رضي الله عنهم, وهنا لا يبرأ, وقد
تقدم الفرق في كتاب الوديعة, ولو تصرف
المستعير وادعى أن المالك قد أذن له بذلك,
وجحد المالك, فالقول قول المالك حتى يقوم
للمستعير على ذلك بينة؛ لأن التصرف منه سبب
لوجوب الضمان في الأصل, فدعوى الإذن منه دعوى
أمر عارض فلا تسمع إلا بدليل, والله سبحانه
وتعالى أعلم. |