بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الشهادة"
 الكلام في هذا الكتاب في مواضع في بيان ركن الشهادة, وفي بيان شرائط الركن, وفي بيان ما يلزم الشاهد بتحمل الشهادة, وفي بيان حكم الشهادة أما ركن الشهادة, فقول الشاهد: "أشهد بكذا وكذا" وفي متعارف الناس في حقوق العباد: هو الإخبار عن كون ما في يد غيره لغيره, فكل من أخبر بأن ما في يد غيره لغيره, فهو شاهد, وبه ينفصل عن المقر والمدعي والمدعى عليه, على ما ذكرنا في كتاب الدعوى.

"فصل": وأما الشرائط في الأصل فنوعان: نوع هو شرط تحمل الشهادة, ونوع هو شرط أداء الشهادة. "أما" الأول فثلاثة: أحدها أن يكون عاقلا وقت التحمل, فلا يصح التحمل من المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن تحمل الشهادة عبارة عن فهم الحادثة وضبطها, ولا يحصل ذلك إلا بآلة الفهم والضبط, وهي العقل.
والثاني أن يكون بصيرا وقت التحمل عندنا, فلا يصح التحمل من الأعمى, وعند الشافعي رحمه الله البصر ليس بشرط لصحة التحمل ولا لصحة الأداء؛ لأن الحاجة إلى البصر عند التحمل لحصول العلم بالمشهود به وذلك يحصل بالسماع, وللأعمى سماع صحيح فيصح تحمله للشهادة, ويقدر على الأداء بعد التحمل. "ولنا" أن الشرط هو السماع من الخصم؛ لأن الشهادة تقع له ولا يعرف كونه خصما إلا بالرؤية؛ لأن النغمات يشبه بعضها بعضا. "وأما" البلوغ والحرية والإسلام والعدالة فليست من شرائط التحمل, بل من شرائط الأداء حتى لو كان وقت التحمل صبيا عاقلا, أو عبدا, أو كافرا, أو فاسقا, ثم بلغ الصبي, وعتق العبد, وأسلم الكافر, وتاب الفاسق فشهدوا عند القاضي, تقبل شهادتهم, وكذا العبد إذا تحمل الشهادة لمولاه, ثم عتق فشهد له, تقبل. وكذا المرأة إذا تحملت الشهادة لزوجها ثم بانت منه فشهدت له, تقبل شهادتها؛ لأن تحملها الشهادة للمولى والزوج صحيح, وقد صارا من أهل الأداء بالعتق والبينونة, فتقبل شهادتهما, ولو شهد الفاسق فردت شهادته لتهمة الفسق, أو شهد أحد الزوجين لصاحبه فردت شهادته لتهمة الزوجية, ثم شهدوا في تلك الحادثة بعد التوبة والبينونة, لا تقبل. ولو شهد العبد أو الصبي العاقل أو الكافر على مسلم في حادثة فردت شهادته, ثم أسلم الكافر وعتق العبد وبلغ الصبي فشهدوا في تلك الحادثة بعينها, تقبل "ووجه" الفرق أن الفاسق والزوج لهما شهادة في الجملة, وقد وردت فإذا شهدوا بعد التوبة وزوال الزوجية في تلك الحادثة, فقد أعاد تلك الشهادة وهي مردودة, والشهادة المردودة لا تحتمل القبول بخلاف الكافر والعبد والصبي؛ لأنه لا شهادة للكافر على المسلم أصلا, وكذا الصبي والعبد لا شهادة لهما أصلا, فإذا أسلم الكافر وعتق العبد وبلغ الصبي, فقد حدثت لهم بالإسلام والعتق والبلوغ شهادة, وهي غير المردودة فقبلت فهو الفرق والثالث: أن يكون التحمل بمعاينة المشهود به بنفسه لا بغيره, إلا في أشياء مخصوصة يصح التحمل فيها بالتسامع من الناس, لقوله عليه الصلاة والسلام للشاهد "إذا علمت مثل الشمس فاشهد, وإلا فدع" ولا يعلم مثل الشمس إلا بالمعاينة بنفسه فلا تطلق الشهادة بالتسامع إلا في أشياء مخصوصة, وهي النكاح والنسب والموت, فله تحمل الشهادة فيها بالتسامع من الناس, وإن لم يعاين بنفسه؛ لأن مبنى هذه الأشياء على الاشتهار فقامت الشهرة فيها مقام المعاينة. وكذا إذا شهد العرس والزفاف يجوز له أن يشهد بالنكاح؛ لأنه دليل النكاح, وكذا في الموت إذا شهد جنازة رجل أو دفنه, حل له أن يشهد بموته واختلفوا في تفسير التسامع, فعند محمد رحمه الله هو أن يشتهر ذلك ويستفيض وتتواتر به الأخبار عنده من غير تواطؤ؛ لأن الثابت بالتواتر والمحسوس بحس البصر والسمع سواء, فكانت الشهادة بالتسامع شهادة عن معاينة, فعلى هذا إذا أخبره بذلك رجلان, أو رجل وامرأتان لا يحل له الشهادة ما لم يدخل في حد التواتر وذكر أحمد بن عمرو بن مهران الخصاف أنه إذا أخبره رجلان عدلان, أو رجل

 

ج / 6 ص -267-       وامرأتان أن هذا ابن فلان أو امرأة فلان, يحل له الشهادة بذلك استدلالا بحكم الحاكم وشهادته, فإنه يحكم بشهادة شاهدين من غير معاينة منه بل بخبرهما, ويجوز له أن يشهد بذلك بعد العزل, كذا هذا ولو أخبره رجل أو امرأة بموت إنسان حل للسامع أن يشهد بموته فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين الموت وبين النكاح والنسب, ووجه الفرق: أن مبنى هذه الأشياء وإن كان على الاشتهار, إلا أن الشهرة في الموت أسرع منه في النكاح والنسب, لذلك شرط العدد في النكاح والنسب, لا في الموت, لكن ينبغي أن يشهد في كل ذلك على البتات والقطع دون التفصيل والتقييد, بأن يقول: "إني لم أعاين ذلك ولكن سمعت من فلان كذا وكذا" حتى لو شهد كذلك لا تقبل. وأما الولاء فالشهادة فيه بالتسامع غير مقبولة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله الأول, ثم رجع وقال تقبل, وذكر الطحاوي رحمه الله قول محمد مع أبي يوسف الآخر, ووجهه أن الولاء لحمة كلحمة النسب, ثم الشهادة بالتسامع في النسب مقبولة, كذا في الولاء, ألا ترى أنا كما نشهد أن سيدنا عمر كان ابن الخطاب رضي الله عنه نشهد أن نافعا كان مولى ابن سيدنا عمر رضي الله عنهما, والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن جواز الشهادة بالتسامع في النسب لما أن مبنى النسب على الاشتهار, فقامت الشهرة فيه مقام السماع بنفسه, وليس مبنى الولاء على الاشتهار فلا بد من معاينة الإعتاق, حتى لو اشتهر اشتهار نافع لابن سيدنا عمر رضي الله عنهما حلت الشهادة بالتسامع. وأما الشهادة بالتسامع في الوقف فلم يذكره في ظاهر الرواية, إلا أن مشايخنا ألحقوه بالموت؛ لأن مبنى الوقف على الاشتهار أيضا كالموت فكان ملحقا به, وكذا تجوز الشهادة بالتسامع في القضاء والولاية: أن هذا قاضي بلد كذا ووالي بلد كذا, وإن لم يعاين المنشور؛ لأن مبنى القضاء والولاية على الشهرة, فقامت الشهرة فيها مقام المعاينة, ثم تحمل الشهادة كما يحصل بمعاينة المشهود به بنفسه يحصل بمعاينة دليله, بأن يرى ثوبا أو دابة أو دارا في يد إنسان يستعمله استعمال الملاك من غير منازع حتى لو خاصمه غيره فيه يحل له أن يشهد بالملك لصاحب اليد؛ لأن اليد المتصرفة في المال من غير منازع دليل الملك فيه, بل لا دليل بشاهد في الأموال أقوى منها وزاد أبو يوسف فقال: لا تحل له الشهادة حتى يقع في قلبه أيضا أنه له, وينبغي أن يكون هذا قولهم جميعا: أنه لا تجوز للرائي الشهادة بالملك لصاحب اليد حتى يراه في يده, يستعمله استعمال الملاك من غير منازع, وحتى يقع في قلبه أنه له, وذكر في الجامع الصغير, وقال: "كل شيء في يد إنسان سوى العبد والأمة يسعك أن تشهد أنه له" استثنى العبد والأمة فيقتضي أن لا تحل له الشهادة بالملك لصاحب اليد فيهما إلا إذا أقرا بأنفسهما, وإنما أراد به العبد الذي يكون له في نفسه يد, بأن كان كبيرا يعبر عن نفسه. وكذا الأمة؛ لأن الكبير في يد نفسه ظاهر, إذ الأصل هو الحرية في بني آدم, والرق عارض فكانت يده إلى نفسه أقرب من يد غيره فلم تصلح يد غيره دليل الملك فيه بخلاف الجمادات والبهائم؛ لأنه لا يد لها, فبقيت يد صاحب اليد دليلا على الملك؛ ولأن الحر قد يخدم كأنه عبد عادة, وهذا أمر ظاهر في متعارف الناس وعاداتهم فتعارض الظاهران فلم تصلح اليد دليلا فيه أما إذا كان صغيرا لا يعبر عن نفسه, كان حكمه حكم الثوب والبهيمة؛ لأنه لا يكون له في نفسه يد فيلحق بالعروض والبهائم فتحل للرائي الشهادة بالملك فيه لصاحب اليد, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما شرائط أداء الشهادة فأنواع: بعضها يرجع إلى الشاهد, وبعضها يرجع إلى نفس الشهادة, وبعضها يرجع إلى مكان الشهادة. وبعضها يرجع إلى المشهود به, أما الذي يرجع إلى الشاهد فأنواع: بعضها يعم الشهادات كلها, وبعضها يخص البعض دون البعض, أما الشرائط العامة فمنها العقل؛ لأن من لا يعقل لا يعرف الشهادة فكيف يقدر على أدائها, ومنها البلوغ فلا تقبل شهادة الصبي العاقل؛ لأنه لا يقدر على الأداء إلا بالتحفظ, والتحفظ بالتذكر, والتذكر بالتفكر, ولا يوجد من الصبي عادة؛ ولأن الشهادة فيها معنى الولاية. والصبي مولى عليه؛ ولأنه لو كان له شهادة للزمته الإجابة عند الدعوة للآية الكريمة وهو قوله تعالى "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" أي دعوا للأداء فلا يلزمه إجماعا, ومنها الحرية فلا تقبل شهادة العبد, وقوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} والشهادة شيء فلا يقدر على أدائها بظاهر الآية الكريمة؛ ولأن الشهادة تجري مجرى الولايات والتمليكات أما معنى

 

ج / 6 ص -268-       الولاية فإن فيه تنفيذ القول على الغير, وإنه من باب الولاء وأما معنى التمليك فإن الحاكم يملك الحكم بالشهادة, فكأن الشاهد ملكه الحكم, والعبد لا ولاية له على غيره ولا يملك فلا شهادة له,؛ ولأنه لو كان له شهادة لكان يجب عليه الإجابة إذا دعي لأدائها للآية الكريمة, ولا يجب لقيام حق المولى, وكذا لا تقبل شهادة المدبر والمكاتب وأم الولد؛ لأنهم عبيد, وكذا معتق البعض عند أبي حنيفة, وعندهما تقبل شهادته؛ لأنه بمنزلة المكاتب عنده, وعندهما بمنزلة حر عليه دين, ومنها بصر الشاهد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلا تقبل شهادة الأعمى عندهما, سواء كان بصيرا وقت التحمل أو لا, وعند أبي يوسف ليس بشرط حتى تقبل شهادته إذا كان بصيرا وقت التحمل, وهذا إذا كان المدعى شيئا لا يحتاج إلى الإشارة إليه وقت الأداء, فأما إذا كان شيئا يحتاج إلى الإشارة إليه وقت الأداء لا تقبل شهادته إجماعا وجه قول أبي يوسف: أن اشتراط البصر ليس لعينه بل لحصول العلم بالمشهود به, وذا يحصل إذا كان بصيرا وقت التحمل وجه قولهما: أنه لا بد من معرفة المشهود له, والإشارة إليه عند الشهادة فإذا كان أعمى عند الأداء لا يعرف المشهود له من غيره, فلا يقدر على أداء الشهادة ومنها النطق فلا تقبل شهادة الأخرس؛ لأن مراعاة لفظة الشهادة شرط صحة أدائها, ولا عبارة للأخرس أصلا فلا شهادة له. ومنها العدالة, لقبول الشهادة على الإطلاق فإنها لا تقبل على الإطلاق دونها, لقوله تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والشاهد المرضي هو الشاهد العدل, والكلام في العدالة في مواضع في بيان ماهية العدالة أنها ما هي في عرف الشرع, وفي بيان صفة العدالة المشروطة, وفي بيان أنها شرط أصل القبول وجودا, أم شرط القبول على الإطلاق وجودا ووجوبا أما الأول, فقد اختلفت عبارات مشايخنا رحمهم الله في ماهية العدالة المتعارفة, قال بعضهم: من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج فهو عدل؛ لأن أكثر أنواع الفساد والشر يرجع إلى هذين العضوين, وقال بعضهم: من لم يعرف عليه جريمة في دينه فهو عدل, وقال بعضهم: "من غلبت حسناته سيئاته فهو عدل" وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا رأيتم الرجل يعتاد الصلاة في المساجد فاشهدوا له بالإيمان" وروي "من صلى إلى قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان" وقال بعضهم: "من يجتنب الكبائر وأدى الفرائض وغلبت حسناته سيئاته فهو عدل" وهو اختيار أستاذ أستاذي الإمام فخر الدين علي البزدوي رضي الله تعالى عنه.
واختلف في ماهية الكبائر والصغائر, قال بعضهم: "ما فيه حد في كتاب الله عز وجل فهو كبيرة, وما لا حد فيه فهو صغيرة", وهذا ليس بسديد, فإن شرب الخمر وأكل الربا كبيرتان ولا حد فيهما في كتاب الله تعالى وقال بعضهم: "ما يوجب الحد فهو كبيرة, وما لا يوجبه فهو صغيرة" وهذا يبطل أيضا بأكل الربا فإنه كبيرة ولا يوجب الحد, وكذا يبطل أيضا بأشياء أخر, هي كبائر ولا توجب الحد, نحو عقوق الوالدين والفرار من الزحف ونحوها وقال بعضهم: كلما جاء مقرونا بوعيد فهو كبيرة, نحو قتل النفس المحرمة, وقذف المحصنات, والزنا, والربا, وأكل مال اليتيم, والفرار من الزحف, وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وقيل له: إن عبد الله ابن سيدنا عمر رضي الله عنهما قال الكبائر سبع, فقال هي إلى سبعين أقرب, ولكن لا كبيرة مع توبة, ولا صغيرة مع إصرار وروي عن الحسن عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "ما تقولون في الزنا والسرقة وشرب الخمر, قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: عليه الصلاة والسلام هن فواحش وفيهن عقوبة, ثم قال: عليه الصلاة والسلام ألا أنبئكم بأكبر الكبائر, فقالوا: بلى يا رسول الله, فقال عليه الصلاة والسلام:
الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان عليه الصلاة والسلام متكئا فجلس ثم قال: ألا وقول الزور, ألا وقول الزور, ألا وقول الزور". فإذا عرفت تفسير العدالة في عرف الشرع فلا عدالة لشارب الخمر؛ لأن شربه كبيرة فتسقط به العدالة ومن مشايخنا من قال: إذا كان الرجل صالحا في أموره تغلب حسناته سيئاته, ولا يعرف بالكذب, ولا بشيء من الكبائر غير أنه يشرب الخمر أحيانا لصحة البدن والتقوي, لا للتلهي يكون عدلا, وعامة مشايخنا على أنه لا يكون عدلا؛ لأن شرب الخمر كبيرة محضة, وإن كان للتقوي ومن شرب النبيذ لا تسقط عدالته بنفس الشرب؛ لأن شربه للتقوي دون التلهي حلال, وأما السكر منه, فإن كان وقع منه مرة, وهو لا يدري أو وقع سهوا, لا تسقط عدالته, وإن كان يعتاد السكر منه تسقط

 

ج / 6 ص -269-       عدالته؛ لأن السكر منه حرام, ولا عدالة لمن يحضر مجلس الشرب ويجلس بينهم, وإن كان لا يشرب؛ لأن حضوره مجلس الفسق فسق. ولا عدالة للنائح والنائحة؛ لأن فعلهما محظور, وأما المغني فإن كان يجتمع الناس عليه للفسق بصوته, فلا عدالة له وإن كان هو لا يشرب؛ لأنه رأس الفسقة, وإن كان يفعل ذلك مع نفسه لدفع الوحشة, لا تسقط عدالته؛ لأن ذلك مما لا بأس به؛ لأن السماع مما يرقق القلوب لكن لا يحل الفسق به. وأما الذي يضرب شيئا من الملاهي فإنه ينظر إن لم يكن مستشنعا كالقصب والدف ونحوه لا بأس به, ولا تسقط عدالته, وإن كان مستشنعا كالعود ونحوه سقطت عدالته؛ لأنه لا يحل بوجه من الوجوه. والذي يلعب بالحمام فإن كان لا يطيرها لا تسقط عدالته, وإن كان يطيرها تسقط عدالته؛ لأنه يطلع على عورات النساء, ويشغله ذلك عن الصلاة والطاعات, ومن يلعب بالنرد فلا عدالة له, وكذلك من يلعب بالشطرنج ويعتاده فلا عدالة له, وإن أباحه بعض الناس لتشحيذ الخاطر وتعلم أمر الحرب؛ لأنه حرام عندنا لكونه لعبا قال عليه الصلاة والسلام "كل لعب حرام إلا ملاعبة الرجل أهله وتأديبه فرسه ورميه عن قوسه" وكذلك إذا اعتاد ذلك يشغله عن الصلاة والطاعات, فإن كان يفعله أحيانا ولا يقامر به لا تسقط عدالته.
ولا عدالة لمن يدخل الحمام بغير مئزر؛ لأن ستر العورة فريضة, ومن ترك الصلاة بالجماعات استخفافا بها وهوانا بتركها فلا عدالة له؛ لأن الجماعة واجبة, وإن كان تركها عن تأويل بأن كان الإمام غير مرضي عنده, لا تسقط عدالته, ولا عدالة لمن يفجر بالنساء, أو يعمل بعمل قوم لوط, ولا للسارق وقاطع الطريق والمتلصص وقاذف المحصنات وقاتل النفس المحرمة وآكل الربا ونحوه؛ لأن هؤلاء من رءوس الكبائر. ولا عدالة للمخنث؛ لأن فعله وعمله كبيرة, ولا عدالة لمن لم يبال من أين يكتسب الدراهم, من أي وجه كان؛ لأن من هذا حاله لا يؤمن منه أن يشهد زورا طمعا في المال, والمعروف بالكذب لا عدالة له, ولا تقبل شهادته أبدا وإن تاب؛ لأن من صار معروفا بالكذب واشتهر به لا يعرف صدقه في توبته بخلاف الفاسق إذا تاب عن سائر أنواع الفسق تقبل شهادته, وكذا من وقع في الكذب سهوا وابتلي به مرة ثم تاب؛ لأنه قل ما يخلو مسلم عن ذلك فلو منع القبول لانسد باب الشهادة. وأما الأقلف فتقبل شهادته إذا كان عدلا, ولم يكن تركه الختان رغبة عن السنة لعمومات الشهادة؛ ولأن إسلامه إذا كان في حال الكبر فيجوز أنه خاف على نفسه التلف, فإن لم يخف ولم يختتن تاركا للسنة لم تقبل شهادته, كالفاسق والذي يرتكب المعاصي: أن شهادته لا تجوز, وإن كنا لا نستيقن كونه فاسقا في تلك الحال.
وتقبل شهادة ولد الزنا كان عدلا لعمومات الشهادة؛ لأن زنا الوالدين لا يقدح في عدالته لقوله سبحانه وتعالى
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وما روي عنه عليه الصلاة والسلام "ولد الزنا أسوأ الثلاثة" فذا في ولد معين والله تعالى أعلم. وتقبل شهادة الخصي لعمومات الشهادة, وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قبل شهادة علقمة الخصي, ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر من الصحابة؛ ولأن الخصاء لا يقدح في العدالة فلا يمنع قبول الشهادة. وأما شهادة صاحب الهوى إذا كان عدلا في هواه ودينه, نظر في ذلك, إن كان هوى يكفره لا تقبل شهادته؛ لأن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة, وإن كان لا يكفره فإن كان صاحب العصبية وصاحب الدعوة إلى هواه, أو كان فيه مجانة لا تقبل أيضا؛ لأن صاحب العصبية والدعوة لا يبالي من الكذب والتزوير لترويج هواه, فكان فاسقا فيه, وكذا إذا كان فيه مجانة؛ لأن الماجن لا يبالي من الكذب, فإن لم يكن كذلك وهو عدل في هواه تقبل؛ لأن هواه يزجره عن الكذب. إلا صنف من الرافضة يسمون بالخطابية, فإنهم لا شهادة لهم؛ لأن من نحلتهم أنه تحل الشهادة لمن يوافقهم على من يخالفهم, وقيل من نحلتهم أن من ادعى أمرا من الأمور وحلف عليه كان صادقا في دعواه فيشهدون له, فإن كان هذا مذهبهم فلا تخلو شهادتهم عن الكذب. وكذا لا عدالة لأهل الإلهام؛ لأنهم يحكمون بالإلهام, فيشهدون لمن يقع في قلوبهم أنه صادق في دعواه, ومعلوم أن ذلك لا يخلو عن الكذب. ولا عدالة لمن يظهر شتيمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأن شتيمة واحد من آحاد المسلمين مسقطة للعدالة, فشتيمتهم أولى. ولا عدالة لصاحب المعصية لقوله: عليه الصلاة والسلام "ليس منا من مات على المعصية" وقال: عليه الصلاة والسلام "من مات على المعصية فهو كحمار نزع

 

ج / 6 ص -270-       بدينه" فكانت المعصية معصية مسقطة للعدالة, والأصل في هذا الفصل أن من ارتكب جريمة فإن كانت من الكبائر سقطت عدالته, إلا أن يتوب, فإن لم تكن من الكبائر فإن أصر عليها واعتاد ذلك فكذلك؛ لأن الصغيرة بالإصرار عليها تصير كبيرة قال عليه الصلاة والسلام "لا صغيرة مع الإصرار, ولا كبيرة مع الاستغفار" وإن لم يصر عليها لا تسقط عدالته, إذا غلبت حسناته سيئاته. وأما بيان صفة العدالة المشروطة فقد اختلف أصحابنا رحمهم الله قال أبو حنيفة: رضي الله عنه الشرط هو العدالة الظاهرة, فأما العدالة الحقيقية, وهي الثابتة بالسؤال عن حال الشهود بالتعديل والتزكية, فليست بشرط. وقال أبو يوسف ومحمد رحمه الله: إنها شرط, ولقب المسألة أن القضاء بظاهر العدالة جائز عنده, وعندهما لا يجوز, وجملة الكلام فيه أنه لا خلاف في أنه إذا طعن الخصم في الشاهد أنه لا يكتفي بظاهر العدالة, بل يسأل القاضي عن حال الشهود, وكذا لا خلاف في أنه يسأل عن حالهم في الحدود والقصاص, ولا يكتفي بالعدالة الظاهرة, سواء طعن الخصم فيهم أو لم يطعن, واختلفوا فيما سوى الحدود والقصاص إذا لم يطعن الخصم قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يسأل, وقالا يسأل. عن مشايخنا من قال: هذا الاختلاف اختلاف زمان لا اختلاف حقيقة؛ لأن زمن أبي حنيفة رحمه الله كان من أهل خير وصلاح؛ لأنه زمن التابعين, وقد شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام بالخيرية بقوله "خير القرون قرني الذي أنا فيه, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب" الحديث, فكان الغالب في أهل زمانه الصلاح والسداد, فوقعت الغنية عن السؤال عن حالهم في السر, ثم تغير الزمان وظهر الفساد في قرنهما فوقعت الحاجة إلى السؤال عن العدالة, فكان اختلاف جوابهم لاختلاف الزمان, فلا يكون اختلافا حقيقة, ومنهم من حقق الخلاف "وجه" قولهما أن العدالة الظاهرة تصلح للدفع لا للإثبات لثبوتها باستصحاب الحال دون الدليل, والحاجة ههنا إلى الإثبات وهو إيجاب القضاء, والظاهر لا يصلح حجة له فلا بد من إثبات العدالة بدليلها, ولأبي حنيفة ظاهر قوله عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي عدلا, وصف الله سبحانه وتعالى مؤمني هذه الأمة بالوساطة, وهي العدالة, وقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه عدول بعضهم على بعض, فصارت العدالة أصلا في المؤمنين, وزوالها بعارض,؛ ولأن العدالة الحقيقية مما لا يمكن الوصول إليها فتعلق الحكم بالظاهر, وقد ظهرت عدالتهم قبل السؤال عن حالهم فيجب الاكتفاء به, إلا أن يطعن الخصم؛ لأنه إذا طعن الخصم وهو صادق في الطعن فيقع التعارض بين الظاهرين, فلا بد من الترجيح بالسؤال, والسؤال في الحدود والقصاص طريق لدرئها, والحدود يحتال فيها للدرء, ولو طعن المشهود عليه في حرية الشاهدين وقال: إنهما رقيقان, وقالا: نحن حران, فالقول قوله حتى تقوم لهما البينة على حريتهما؛ لأن الأصل في بني آدم وإن كان هو الحرية لكونهم أولاد آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام وهما حران لكن الثابت بحكم استصحاب الحال لا يصلح للإلزام على الخصم, ولا بد من إثباتها بالدلائل, والأصل فيه أن الناس كلهم أحرار إلا في أربعة: الشهادات والحدود والقصاص والعقل, هذا إذا كانا مجهولي النسب لم تعرف حريتهما ولم تكن ظاهرة مشهورة, بأن كانا من الهند أو الترك أو غيرهم ممن لا تعرف حريته أو كانا عربيين, فأما إذا لم يكونا ممن يجري عليه الرق, فالقول قولهما ولا يثبت رقهما إلا بالبينة. وأما بيان أن العدالة شرط قبول أصل الشهادة وجودا, أم شرط القبول مطلقا وجوبا ووجودا, فقد اختلف فيه, قال أصحابنا رحمهم الله: إنها شرط القبول للشهادة وجودا على الإطلاق ووجوبا لا شرط أصل القبول حتى يثبت القبول بدونه, وقال الشافعي عليه الرحمة: إنها شرط أصل القبول لا يثبت القبول أصلا دونها, حتى إن القاضي لو تحرى الصدق في شهادة الفاسق يجوز له قبول شهادته, ولا يجوز القبول من غير تحر بالإجماع. وكذا لا يجب عليه القبول بالإجماع, وله أن يقبل شهادة العدل من غير تحر, وإذا شهد يجب عليه القبول, وهذا هو الفصل بين شهادة العدل وبين شهادة الفاسق عندنا, وعند الشافعي عليه الرحمة لا يجوز للقاضي أن يقضي بشهادة الفاسق أصلا, وكذا ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين عندنا, وعنده لا ينعقد. "وجه" قول الشافعي رحمه الله أن مبنى قبول الشهادات على الصدق, ولا يظهر الصدق إلا بالعدالة؛ لأن خبر من ليس بمعصوم عن الكذب يحتمل الصدق

 

ج / 6 ص -271-       والكذب, ولا يقع الترجيح إلا بالعدالة, واحتج في انعقاد النكاح بقوله عليه الصلاة والسلام "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". "ولنا" عمومات قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله عليه الصلاة والسلام "لا نكاح إلا بشهود" والفاسق شاهد لقوله سبحانه وتعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قسم الشهود إلى مرضيين وغير مرضيين, فيدل على كون غير المرضي وهو الفاسق شاهدا؛ ولأن حضرة الشهود في باب النكاح لدفع تهمة الزنا لا للحاجة إلى شهادتهم عند الجحود والإنكار؛ لأن النكاح يشتهر بعد وقوعه فيمكن دفع الجحود والإنكار بالشهادة بالتسامع, والتهمة تندفع بحضرة الفاسق فينعقد النكاح بحضرتهم. وأما قوله: "الركن في الشهادة هو صدق الشاهد" فنعم, لكن الصدق لا يقف على العدالة لا محالة, فإن من الفسقة من لا يبالي بارتكابه أنواعا من الفسق, ويستنكف عن الكذب, والكلام في فاسق تحرى القاضي الصدق في شهادته فغلب على ظنه صدقه ولو لم يكن كذلك لا يجوز القضاء بشهادته عندنا. وأما الحديث فقد روي عن بعض نقلة الحديث أنه قال: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يثبت, فلا حجة له فيه بل هو حجة عليه؛ لأنه ليس فيه جعل العدالة صفة للشاهد؛ لأنه لو كان كذلك لقال: لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين, بل هذا إضافة الشاهدين إلى العدل, وهو كلمة التوحيد فكأنه قال عليه الصلاة والسلام لا نكاح إلا بولي مقابلي كلمة العدل, وهي كلمة الإسلام, والفاسق مسلم فينعقد النكاح بحضرته ومنها أن لا يكون محدودا في قذف عندنا وهو شرط الأداء, وعند الشافعي رحمه الله ليس بشرط, واحتج بعمومات الشهادة من غير فصل؛ لأن المانع هو الفسق بالقذف, وقد زال بالتوبة. "ولنا" قوله تعالى جل وعلا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} "الآية" نهى سبحانه وتعالى عن قبول شهادة الرامي على التأبيد, فيتناول زمان ما بعد التوبة, وبه تبين أن المحدود في القذف مخصوص من عمومات الشهادة عملا بالنصوص كلها صيانة لها عن التناقض, وكذلك الذمي إذا قذف مسلما فحد حد القذف لا تقبل شهادته على أهل الذمة, فإن أسلم جازت شهادته عليهم وعلى المسلمين. وبمثله العبد المسلم إذا قذف حرا ثم حد حد القذف, ثم عتق لا تقبل شهادته أبدا, وإن أعتق "ووجه" الفرق أن إقامة الحد توجب بطلان شهادة كانت للقاذف قبل الإقامة والثابت للذمي قبل إقامة الحد شهادته على أهل الذمة, لا على أهل الإسلام, فتبطل تلك الشهادة بإقامة الحد, فإذا أسلم فقد حدثت له بالإسلام شهادة غير مردودة, وهي شهادة على أهل الإسلام,؛ لأنها لم تكن له لتبطل بالحد فتقبل هذه الشهادة, ثم من ضرورة قبول شهادته على أهل الإسلام قبول شهادته على أهل الذمة بخلاف العبد؛ لأن العبد من أهل الشهادة, وإن لم تكن له شهادة مقبولة؛ لأن له عدالة الإسلام, والحد أبطل ذلك على التأبيد, ولو ضرب الذمي بعض الحد فأسلم, ثم ضرب الباقي تقبل شهادته؛ لأن المبطل للشهادة إقامة الحد في حالة الإسلام, ولم توجد؛ لأن الحد اسم للكل فلا يكون البعض حدا؛ لأن الحد لا يتجزأ, وهذا جواب ظاهر الرواية. وذكر الفقيه أبو الليث عليه الرحمة روايتين أخريين فقال في رواية "لا تقبل شهادته", وفي رواية: تقبل شهادته, ولو ضرب سوطا واحدا في الإسلام؛ لأن السياط المتقدمة توقف كونها حدا على وجود السوط الأخير, وقد وجد كمال الحد في حالة الإسلام, وفي رواية اعتبر الأكثر: إن وجد أكثر الحد في حال الإسلام تبطل شهادته وإلا, فلا؛ لأن للأكثر حكم الكل في الشرع, والصحيح جواب ظاهر الرواية, لما ذكرنا أن الحد اسم للكل, وعند ضرب السوط الأخير تبين أن السياط كلها كانت حدا, ولم يوجد الكل في حال الإسلام, بل البعض فلا ترد به الشهادة الحادثة بالإسلام, هذا إذا شهد بعد إقامة الحد وبعد التوبة, فأما إذا شهد بعد التوبة قبل إقامة الحد, فتقبل شهادته بالإجماع, ولو شهد بعد إقامة الحد قبل التوبة لا تقبل شهادته بالإجماع, ولو شهد قبل التوبة وقبل إقامة الحد فهي مسألة شهادة الفاسق وقد مرت. وأما النكاح بحضرة المحدودين في القذف فينعقد بالإجماع, أما عند الشافعي رحمه الله ؛ فلأن له شهادة أداء, فكانت له شهادة سماعا, وأما عندنا؛ فلأن حضرة الشهود لدى النكاح ليست لدفع الجحود والإنكار لاندفاع الحاجة بالشهادة بالتسامع, بل لرفع ريبة الزنا والتهمة به, وذا يجعل بحضرة المحدودين في القذف, فينعقد النكاح بحضرتهم, ولا تقبل شهادتهم للنهي عن القبول, والانعقاد ينفصل

 

ج / 6 ص -272-       عن القبول في الجملة وأما المحدود في الزنا والسرقة والشرب فتقبل شهادته بالإجماع إذا تاب؛ لأنه صار عدلا, والقياس أن تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب لولا النص الخاص بعدم القبول على التأبيد. ومنها أن لا يجر الشاهد إلى نفسه مغنما, ولا يدفع عن نفسه مغرما بشهادته لقوله عليه الصلاة والسلام "لا شهادة لجار المغنم ولا لدافع المغرم"؛ ولأن شهادته إذا تضمنت معنى النفع والدفع فقد صار متهما, ولا شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه إذا جر النفع إلى نفسه بشهادته لم تقع شهادته لله تعالى عز وجل, بل لنفسه, فلا تقبل وعلى هذا تخرج شهادة الوالد, وإن علا لولده وإن سفل, وعكسه أنها غير مقبولة؛ لأن الوالدين والمولودين ينتفع البعض بمال البعض عادة, فيتحقق معنى جر النفع, والتهمة, والشهادة لنفسه فلا تقبل, وذكر الخصاف رحمه الله في أدب القاضي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تقبل شهادة الوالد لولده, ولا الولد لوالده, ولا السيد لعبده, ولا العبد لسيده, ولا الزوجة لزوجها, ولا الزوج لزوجته". وأما سائر القرابات, كالأخ والعم والخال ونحوهم فتقبل شهادة بعضهم لبعض؛ لأن هؤلاء ليس لبعضهم تسلط في مال البعض, عرفا وعادة فالتحقوا بالأجانب, وكذا تقبل شهادة الوالد من الرضاع لولده من الرضاع, وشهادة الولد من الرضاع لوالده من الرضاع؛ لأن العادة ما جرت بانتفاع هؤلاء بعضهم بمال البعض فكانوا كالأجانب, ولا تقبل شهادة المولى لعبده, ولا شهادة العبد لمولاه لما قلنا. وأما شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلا تقبل عندنا, وعند الشافعي رحمه الله تقبل, واحتج بعمومات الشهادة من غير تخصيص, نحو قوله تعالى جل وعلا {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله عز شأنه {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله عظمت كبرياؤه {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} من غير فصل بين عدل وعدل, ومرضي ومرضي. "ولنا" ما روينا من النصوص من قوله عليه الصلاة والسلام "لا شهادة لجار المغنم", ولا شهادة للمتهم, وأحد الزوجين بشهادته للزوج الآخر يجر المغنم إلى نفسه,؛ لأنه ينتفع بمال صاحبه عادة, فكان شاهدا لنفسه, لما روينا من حديث الخصاف رحمه الله وأما العمومات فنقول بموجبها لكن لما قلتم إن أحد الزوجين في الشهادة لصاحبه عدل ومرضي, بل هو مائل ومتهم لما قلنا, لا يكون شاهدا فلا تتناوله العمومات, وكذا لا تقبل شهادة الأجير له في الحادثة التي استأجره فيها لما فيه من تهمة جر النفع إلى نفسه, ولا تقبل شهادة أحد الشريكين لصاحبه في مال الشركة, ولو شهد رجلان لرجلين على الميت بدين ألف درهم, ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين ألف درهم, فشهادة الفريقين باطلة عند أبي حنيفة عليه الرحمة وأبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله جائزة, وعلى هذا الخلاف لو شهدا أن الميت أوصى لهما بالثلث, وشهد المشهود لهما أن الميت أوصى للشاهدين بالثلث, ولو شهدا أن الميت غصبهما دارا أو عبدا وشهد المشهود لهما للشاهدين بدين ألف درهم, فشهادة الفريقين جائزة بالإجماع, لمحمد رحمه الله أن كل فريق يشهد لغيره لا لنفسه, فلا يكون متهما في شهادته, ولهما أن ما يأخذه كل فريق, فالفريق الآخر يشاركه فيه, فكان كل فريق شاهدا لنفسه بخلاف ما إذا اختلف جنس المشهود به؛ لأن ثمة معنى الشركة لا يتحقق. ومنها أن لا يكون خصما لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين"؛ ولأنه إذا كان خصما فشهادته تقع لنفسه فلا تقبل, وعلى هذا تخرج شهادة الوصي للميت واليتيم الذي في حجره؛ لأنه خصم فيه, وكذا شهادة الوكيل لموكله لما قلنا ومنها أن يكون عالما بالمشهود به وقت الأداء, ذاكرا له عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليس بشرط حتى إنه لو رأى اسمه وخطه وخاتمه في الكتاب, لكنه لا يذكر الشهادة, لا يحل له أن يشهد, ولو شهد وعلم القاضي به لا تقبل شهادته عنده, وعندهما له أن يشهد, ولو شهد تقبل شهادته "وجه" قولهما أنه لما رأى اسمه وخطه وخاتمه على الصك, دل أنه تحمل الشهادة, وهي معلومة في الصك, فيحل له أداؤها, وإذا أداها تقبل,؛ ولأن النسيان أمر جبل عليه الإنسان خصوصا عند طول المدة بالشيء؛ لأن طول المدة ينسي, فلو شرط تذكر الحادثة لأداء الشهادة لانسد باب الشهادة فيؤدي إلى تضييع الحقوق, وهذا لا يجوز. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى جل شأنه {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقوله عليه الصلاة والسلام لشاهد "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا

 

ج / 6 ص -273-       فدع", ولا اعتماد على الخط والختم؛ لأن الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم ويجري فيه الاحتيال والتزوير مع ما أن الخط للتذكر فخط لا يذكر, وجوده وعدمه بمنزلة واحدة, وعلى هذا الخلاف إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يذكره وديوانه تحت ختمه أنه لا يعمل به عنده, وعندهما يعمل إذا كان تحت ختمه, وعلى هذا الخلاف إذا عزل القاضي, ثم استقضى بعدما عزل, فأراد أن يعمل بشيء مما يرى في ديوانه الأول, ولم يذكر ذلك, ليس له ذلك عنده, وعندهما له ذلك, والله تعالى أعلم. "وأما" الشرائط التي ترجع إلى نفس الشهادة, فأنواع: منها لفظ الشهادة, فلا تقبل بغيرها من الألفاظ, كلفظ الإخبار والإعلام ونحوهما, وإن كان يؤدي معنى الشهادة تعبدا غير معقول المعنى. ومنها أن تكون موافقة للدعوى فيما يشترط فيه الدعوى فإن خالفتها لا تقبل إلا إذا وفق المدعي بين الدعوى وبين الشهادة عند إمكان التوفيق؛ لأن الشهادة إذا خالفت الدعوى فيما يشترط فيه الدعوى, وتعذر التوفيق انفردت عن الدعوى, والشهادة المنفردة عن الدعوى فيما يشترط فيه الدعوى غير مقبولة, وبيان ذلك في مسائل: إذا ادعى ملكا بسبب, ثم أقام البينة على ملك مطلق لا تقبل, وبمثله لو ادعى ملكا مطلقا ثم أقام البينة على الملك بسبب تقبل. "ووجه" الفرق أن الملك المطلق أعم من الملك بسبب؛ لأنه يظهر من الأصل حتى تستحق به الزوائد, والملك بسبب يقتصر على وقت وجود السبب, فكان الملك المطلق أعم, فصار المدعي بإقامة البينة على الملك المطلق مكذبا شهوده في بعض ما شهدوا به. والتوفيق متعذر؛ لأن الملك من الأصل ينافي الملك الحادث بسبب لاستحالة ثبوتهما معا في محل واحد, بخلاف ما إذا ادعى الملك المطلق ثم أقام البينة على الملك بسبب؛ لأن الملك بسبب أخص من الملك المطلق على ما بينا فقد شهدوا بأقل مما ادعى, فلم يصر المدعي مكذبا شهوده, بل صدقهم فيما شهدوا به, وادعى زيادة شيء لا شهادة لهم عليه, وصار كما لو ادعى ألفا وخمسمائة فشهد الشهود على ألف أنه تقبل البينة على الألف لما, قلنا كذا هذا, ولو ادعى الملك بسبب معين, ثم أقام البينة على الملك بسبب آخر: بأن ادعى دارا في يد رجل أنه ورثها من أبيه, ثم أقام البينة على الملك: أنه اشتراها من صاحب اليد أو وهبها له أو تصدق بها عليه وقبض, أو ادعى الشراء أو الهبة أو الصدقة, ثم أقام البينة على الإرث لا تقبل بينته؛ لأن الشهادة خالفت الدعوى لاختلاف البينتين صورة ومعنى, أما الصورة فلا شك فيها. وأما المعنى؛ فلأن حكم البينتين يختلف فلا يقبل إلا إذا وفق بين الدعوى والشهادة, فقال: كنت اشتريت منه لكنه جحدني الشراء وعجزت عن إثباته فاستوهبت منه فوهب مني, وقبضت, وأعاد البينة, تقبل؛ لأنه وفق فقد زالت المخالفة وظهر أنه لم يكذب شهوده, ويصير هذا في الحقيقة ابتداء. ولهذا يجب عليه إعادة البينة لتقع الشهادة عند الدعوى, وكذا إذا وفق فقال: ورثته من أبي إلا أنه جحد إرثي فاشتريت منه, أو وهب لي فإنها تقبل لزوال التناقض والاختلاف بين الدعوى والشهادة, ولو ادعى الشراء بعد هذا وأقام البينة على الشراء بألف درهم لا تقبل؛ لأن البدل قد اختلف, واختلاف البدل يوجب اختلاف العقد, فقد قامت البينة على عقد آخر غير ما ادعاه المدعي, فلا تقبل إلا إذا وفق المدعي, فقال: اشتريت بالعبد إلا أنه جحدني الشراء به فاشتريته بعد ذلك بألف درهم, فتقبل لزوال المخالفة, وهذا إذا كان دعوى التوفيق في مجلس آخر بأن قام عن مجلس الحكم ثم جاء وادعى التوفيق. فأما إذا لم يقم عن مجلس الحكم فدعوى التوفيق غير مسموعة, ولو ادعى أنه له ثم أقام البينة على أنه لفلان وكله بالخصومة فيه, تقبل بينته, وبمثله لو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه, ثم أقام البينة على أنه له لا تقبل, ووجه الفرق أن قوله أولا: إنه لي لا ينفي قوله: إنه لفلان وكلني بالخصومة فيه لجواز أن يكون له بحق الخصومة والمطالبة, ولغيره بحق الملك, فكان التوفيق ممكنا فقبلت البينة بخلاف الفصل الثاني؛ لأن قوله هو لفلان وكلني بالخصومة فيه, ينفي قوله بعد ذلك هو لي؛ لأنه صرح بأن الملك فيه لفلان, وأنه وكيل بالخصومة فيه بقوله: إنه لفلان وكلني بالخصومة فيه, فكان قوله بعد ذلك: "هو لي" إقرارا منه بالملك لنفسه فكان مناقضا فلا تقبل, ولو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم أقام البينة على أنه لفلان آخر وكلني بالخصومة فيه, لا تقبل؛ لأن قوله أولا: إنه لفلان

 

ج / 6 ص -274-       وكلني بالخصومة فيه, كما ينفي قوله: "إنه لي" ينفي قوله: "إنه لفلان آخر وكلني بالخصومة فيه" فلا تقبل إلا إذا وفق فقال: "إن الموكل الأول باع من الموكل الثاني ثم وكلني الثاني بالخصومة" فيقبل لزوال المناقضة, ولو ادعى في ذي القعدة أنه اشترى منه هذه الدار في شهر رمضان بألف ونقده الثمن, ثم أقام البينة على أنه تصدق بالدار على المدعي في شعبان, لا تقبل بينته؛ لأن دعوى التصدق في شعبان تنافي الشراء في شهر رمضان لاستحالة شراء الإنسان ملك نفسه, والتوفيق غير ممكن فلا تقبل. وإن أقام البينة على التصدق في شوال, ووفق فقال: "جحدني الشراء ثم تصدق بها علي" تقبل ولو ادعى دارا في يدي رجل أنها له وأقام البينة على أنها كانت في يد المدعي بالأمس لا تقبل, وعن أبي يوسف أنها تقبل ويؤمر بالرد إليه, ولو أقام صاحب اليد البينة على أنها كانت ملكا للمدعي تقبل بالإجماع "وجه" قول أبي يوسف رحمه الله أن البينة لما قامت على أنها ما كانت في يده, فالأصل في الثابت بقاؤه, ولهذا قبلت البينة على ملك كان؛ ولأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة, ولو ثبت بالمعاينة أو بالإقرار أنه كان في يده بالأمس يؤمر بالرد إليه كذا هذا "وجه" ظاهر الرواية أن الشهادة قامت على يد كانت, فلا يثبت الكون للحال إلا بحكم استصحاب الحال, وأنه لا يصلح للإلزام,؛ ولأن اليد قد تكون محقة, وقد تكون مبطلة, وقد تكون يد ملك, وقد تكون يد أمانة, فكانت محتملة, والمحتمل لا يصلح حجة, بخلاف الملك والمعاينة, وبخلاف الإقرار؛ لأنه حجة بنفسه, والبينة ليست بحجة بنفسها بل بقضاء القاضي, ولا وجه للقضاء بالمحتمل, ولو أقام البينة أنها كانت في يده بالأمس فأخذها هذا منه, أو غصبها أو أودعه أو أعاره تقبل, ويقضي للخارج؛ لأنه علم بالبينة أنه تلقى اليد من جهة الخارج فيؤمر بالرد إليه, وعلى هذا يخرج ما إذا ادعى دارا في يد رجل أنه ورثها من أبيه وأقام البينة على أنها كانت لأبيه, فنقول هذا لا يخلو من أربعة أوجه, إما أن شهدوا أن الدار كانت لأبيه ولم يقولوا مات وتركها ميراثا له, وإما أن قالوا إنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا له, وإما أن قالوا إنها كانت في يد أبيه يوم الموت, وإما أن أثبتوا من أبيه فعلا فيها عند موته أما الوجه الأول فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله "لا تقبل الشهادة" وعلى قول أبي يوسف "تقبل", وكذا لو شهدوا أنها كانت لأبيه مات قبلها لا تقبل, قالوا: يجب أن يكون هذا على قولهما, أما على قول أبي يوسف على ما روي عنه في الأمالي "ينبغي أن تقبل", "وجه" قوله أن الملك متى ثبت لأبيه بشهادتهم, فالأصل فيما ثبت يبقى إلى أن يوجد المزيل فصار كما لو شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت أيضا "وجه" قولهما أن الشهادة خالفت الدعوى؛ لأن المدعي ادعى ملكا كائنا, والشهادة وقعت بملك كان لا بملك كائن, فكانت الشهادة مخالفة للدعوى فلا يقبل قوله ما ثبت يبقى, قلنا: نعم لكن لا حكما لدليل الثبوت؛ لأن دليل الثبوت لا يتعرض للبقاء, وإنما البقاء بحكم استصحاب الحال, وإنه لا يصلح حجة للاستحقاق, ولو شهدوا أنها كانت لجده فعندهما لا يقضي بها ما لم يشهدوا بالميراث بأن يقولوا: "مات جده وتركها لأبيه ثم مات أبوه وتركها ميراثا له" وعند أبي يوسف ينظر: إن علم أن الجد مات قبل الأب يقضي بها له, وإن علم أن الأب مات قبل الجد أو لم يعلم لم يقض بها, ولو شهدوا أنها لأبيه لا يقضي بها له, منهم من قال هذا على الاتفاق, ومنهم من قال هو على الخلاف الذي ذكرناه, وهو الصحيح, فإنه روي عن أبي يوسف أنها تقبل وأما الوجه الثاني وهو ما إذا شهدوا أنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا له, فلا شك أن هذه الشهادة مقبولة؛ لأنهم شهدوا بالملك الموروث عند الموت والترك ميراثا له, وهو تفسير الملك الموروث وأما الوجه الثالث وهو ما إذا شهدوا أنها كانت في يده يوم الموت, فالشهادة مقبولة؛ لأن مطلق اليد من الأصل يحمل على يد المالك فكانت الشهادة بيد قائمة عند الموت شهادة بملك قائم عند الموت, فإذا مات فقد ترك فثبت الملك له في المتروك, إذ هو تفسير الملك الموروث؛ ولأن يده إن كانت يد ملك كان الملك ثابتا للمورث عند الموت, وإن كانت يد أمانة انتقلت يد ملك إذا مات مجهلا؛ لأن التجهيل عند الموت سبب لوجوب الضمان, ووجوب الضمان سبب لثبوت الملك في المضمون عندنا وأما الوجه الرابع, وهو ما إذا ثبت ليد المشهود من الأب فعلا في العين عند الموت, فهذا على وجهين: إما أن يكون ذلك فعلا هو دليل اليد, وإما أن يكون فعلا ليس هو دليل اليد, والفعل

 

ج / 6 ص -275-       الذي هو دليل اليد هو فعل لا يتصور وجوده بدون النقل في النقليات, كاللبس والحمل, أو فعل يوجد للنقل عادة, كالركوب في الدواب, أو فعلا يوجد في الغالب من الملاك فيما لا يقبل النقل لا من غيرهم كالسكنى في الدور, والفعل الذي ليس بدليل اليد هو فعل ثبت في النقليات من غير نقل, ولا يكون حصوله للنقل عادة كالجلوس على البساط, أو فعل ليس بفعل للملاك غالبا فيما لا يقبل, كالنوم والجلوس في الدار وأشباه ذلك فإن كان فعلا هو دليل اليد تقبل الشهادة القائمة على ثبوته عند موت الأب,؛ لأن الشهادة القائمة على ما هو دليل اليد عند الموت قائمة على اليد عند الموت, وإن كان فعلا ليس بدليل اليد لا تقبل الشهادة؛ لأنه لم يوجد دليل اليد التي هي دلالة الملك؛ وعلى هذا يخرج ما إذا أقام المدعي البينة أن أباه مات في هذه الدار: أنها لا تقبل؛ لأنه لم توجد الشهادة على اليد الدالة على الملك, ولا على فعل دال على اليد, ولا على فعل هو فعل الملاك غالبا؛ لأن الدار قد يموت فيها المالك, وقد يموت فيها غير المالك من الزوار والضيف ونحوه, ولو شهدوا أنه مات وهو لابس هذا القميص, أو لابس هذا الخاتم تقبل؛ لأن لبس القميص والخاتم فعل لا يتصور بدون النقل, فكان دليلا على اليد عند الموت أطلق محمد رحمه الله في الجامع الجواب في الخاتم, ومنهم من حمل جواب الكتاب على ما إذا كان الخاتم في خنصره أو بنصره يوم الموت, وزعم أنه إذا كان فيما سواهما من الأصابع لا تقبل الشهادة؛ لأن استعمال الملاك في الخاتم هذا عادة فكانت الشهادة القائمة عليه قائمة على اليد, فأما جعله فيما سواهما من الأصابع من الملاك فهو ليس بمعتاد فلا يكون ذلك استعمال الخاتم, فلا يكون دليل اليد, ولهذا قالوا لو جعل المودع الخاتم في خنصره أو بنصره فضاع من يده يضمن لما أنه استعمله, ولو جعله فيما سواهما الأصابع فضاع لا يضمن لما أن ذلك حفظ وليس باستعمال, والصحيح إطلاق جواب الكتاب؛ لأن فعله كيف ما كان لا يتصور بدون النقل فكان دليلا على اليد, ولو شهدوا أنه مات وهو جالس على هذا البساط, أو على هذا الفراش أو نائم عليه, لا تقبل؛ لأن هذه الأفعال تتصور من غير نقل ولا تفعل للنقل عادة, فلم يكن دليل اليد, فإن قيل أليس أنه لو تنازع اثنان في بساط, أحدهما جالس عليه, والآخر متعلق به أنه يكون بينهما نصفين, وهذا دليل ثبوت يديهما عليه قيل له: إنما قضى به بينهما نصفين لدعواهما أنه في يديهما لا لثبوت اليد؛ لأن الجلوس عليه والتعلق به, كل واحد منهما يتحقق بدون النقل, ولا يوجد أن النقل غالبا على ما بينا, فلا يكون دليل اليد, ولو شهدوا أنه مات وهو راكب على هذه الدابة تقبل, ويقضي بالدابة للوارث؛ لأن الركوب وإن كان يتهيأ بدون نقل الدابة, إلا أنه لا يفعل عادة إلا للنقل, فكان دليل اليد, ولو شهدوا أنه مات وهو ساكن هذه الدار تقبل, ويقضي للوارث "وروي" عن أبي يوسف أنه لا تقبل ولا يقضي, "ووجهه" أن فعل السكنى في الدار كما يوجد من الملاك يوجد من غيرهم فلا يصلح دليلا على اليد, والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن السكنى فعل يوجد في الغالب من الملاك لا من غيرهم هذا هو المعتاد فيما بين الناس فيحمل المطلق عليه, ولو شهدوا أنه مات وهذا الثوب موضوع على رأسه, ولم يشهدوا أنه كان حاملا له لا تقبل, ولا يستحق المدعي بهذا شيئا؛ لأنه يحتمل أنه وضعه بنفسه, أو وضعه غيره, ويحتمل أنه وقع عليه من غير صنع أحد بأن هبت ريح به فألقته على رأسه فوقع الشك في النقل منه, فلا يثبت النقل منه بالشك, فلا تثبت اليد بالشك, ثم نقول إذا شهد الشهود أنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا للورثة, فلا يخلو إما أن قالوا: "هذا وارثه لا وارث له غيره", وإما أن قالوا: "هو وارثه لا نعلم أن له وارثا غيره", وإما أن قالوا: "هو وارثه", ولم يقولوا لا وارث له غيره, ولا قالوا: "لا نعلم له وارثا غيره" فأما الوجه الأول وهو ما إذا قالوا: "هو وارثه لا وارث له غيره" فإنه تقبل شهادتهم استحسانا, والقياس أن لا تقبل؛ لأنها كشهادة على ما لا علم للشاهد به لاحتمال أن يكون له وارث لا يعلمه, وقد قال عليه السلام للشاهد "إذا علمت مثل الشمس فاشهد, وإلا فدع" "وجه" الاستحسان أن قولهم لا وارث له غيره معناه في متعارف الناس وعاداتهم: لا نعلم له وارثا غيره, أو لا وارث له غيره في علمنا, ولو نص على ذلك لقبلت شهادتهم, فكذا هذا والله سبحانه أعلم "وأما" الوجه الثاني وهو ما إذا قالوا: "هو وارثه لا نعلم له وارثا غيره"

 

ج / 6 ص -276-       تقبل شهادتهم عند عامة العلماء رضي الله عنهم. وقال ابن أبي ليلى رحمه الله لا تقبل حتى يقولوا: "لا وارث له غيره"؛ لأنهم لو لم يقولوا: "لا وارث له غيره" احتمل أن يكون له وارث غيره لا يعلمونه, والصحيح قول العامة؛ لأن الشاهد إنما تحل له الشهادة بما في علمه, ونفي وارث آخر ليس في علمه, فلا تحل له الشهادة به, إلا على اعتبار ما في علمه على ما ذكرنا ولو قالوا: "لا نعلم له وارثا غيره في هذا المصر, أو في أرض كذا" تقبل عند أبي حنيفة, وعندهما لا تقبل "وجه" قولهما أن قولهم: "لا نعلم له وارثا غيره في هذا المصر" لا ينفي وارثا غيره لجواز أن يكون له وارث آخر في مصر آخر, ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو كان له وارث آخر في موضع آخر لعلموه؛ لأن وارث الإنسان لا يخفى على أهل بلده عادة, فكان التخصيص والتعميم فيه سواء, ثم إذا شهدوا أنه وارثه لا وارث له غيره, أو شهدوا أنه وارثه لا نعلم له وارثا غيره, أو لا نعلم له وارثا غيره في هذا المصر على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه يدفع كل التركة إليه, سواء كان الوارث ممن لا يحتمل الحجب, كالابن والأب والأم ونحوهم, أو يحتمله, كالأخ والأخت والجد ونحوهم؛ لأنه تعين وارثا له فيدفع إليه جميع الميراث إلا إذا كان زوجا أو زوجة فلا يعطى إلا أكثر نصيبه, فلا يعطى الزوج إلا النصف, ولا تعطى المرأة إلا الربع؛ لأنهما لا يستحقان من الميراث أكثر من ذلك؛ لأنه لا يرد عليهما, وفي هذين الموضعين لا يؤخذ من الوارث كفيل بالإجماع وأما الوجه الثالث وهو ما إذا شهدوا أنه وارثه ولم يقولوا: "لا وارث له غيره", ولا قالوا: "لا نعلم له وارثا غيره" فإنه ينظر إن كان ممن يحتمل الحجب لا يدفع إليه شيء لجواز أن يكون ثمة حاجب, فإن كان لا يعطى, وإن لم يكن يعطى بالشك, وإن كان ممن لا يحتمل الحجب يدفع إليه جميع المال إلا الزوج والزوجة, فإنه لا يدفع إليهما إلا نصيبهما, وهو أكثر النصيبين, عند محمد رحمه الله للزوج النصف وللمرأة الربع, وعند أبي يوسف رحمه الله أقل النصيبين, للزوج الربع وللمرأة الثمن في ظاهر الرواية عنه "وجه" قول محمد رحمه الله أن النقصان عن أكثر النصيبين باعتبار المزاحمة, وفي وجود المزاحم شك, فلا يثبت النقصان بالشك, ولأبي يوسف رحمه الله أن الأقل ثابت بيقين, وفي الزيادة شك فلا تثبت الزيادة بالشك وروي عنه رواية أخرى أن للزوج الربع وللمرأة ربع الثمن لجواز أن يكون له أربع نسوة فيكون لها ربع الثمن؛ لأنه ثابت بيقين وفي الزيادة شك, وروى عنه أصحاب الإملاء وللزوج الخمس, وللمرأة ربع التسع, أما الزوج؛ فلأن من الجائز أن يكون للمرأة أبوان وبنتان وزوج, أصل المسألة من اثني عشر, للأبوين السدسان: أربعة, وللبنتين الثلثان: ثمانية, وللزوج الربع: ثلاثة, فعالت بثلاثة أسهم فصارت الفريضة من خمسة عشر, وثلاثة من خمسة عشر: خمسها فذلك للزوج. وأما المرأة؛ فلأن من الجائز أن يكون للميت أبوان وبنتان وزوجة, أصل المسألة من أربعة وعشرين, للأبوين السدسان: ثمانية, وللبنتين الثلثان: ستة عشر, وللزوجة الثمن: ثلاثة, فعالت بثلاثة أسهم فصارت الفريضة سبعة وعشرين, وثلاثة من سبعة وعشرين: تسعها, ثم من الجائز أن يكون معها ثلاثة أخرى فيكن أربع زوجات, فيكون لها ربع التسع, وثلاثة على أربعة لا تستقيم, فتضرب أربعة في تسعة, ويكون ستة وثلاثين سهما, تسعها: أربعة, فلها من ذلك سهم, وهو ربع التسع, وهو سهم من ستة وثلاثين سهما, ثم في هذا الوجه الثالث إذا كان الوارث ممن لا يحتمل الحجب ودفع المال إليه هل يؤخذ منه كفيل؟ قال أبو حنيفة عليه الرحمة: "لا يؤخذ", وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: "يؤخذ" "وجه" قولهما أن أخذ الكفيل لصيانة الحق, والحاجة مست إلى الصيانة لاحتمال ظهور وارث آخر فيؤخذ الكفيل نظرا للوارث, كما في رد الآبق واللقطة إلى صاحبها, ولأبي حنيفة رحمه الله إن حق الحاضر للحال ثابت بيقين, وفي ثبوت الحق لوارث آخر شك؛ لأنه قد يظهر وارث آخر, وقد لا يظهر, فلا يجوز تعطيل الحق الثابت بيقين لحق مشكوك فيه مع ما أن المكفول له مجهول, والكفالة للمجهول غير صحيحة, وإنما أخذ الكفيل بتسليم الآبق واللقطة, فقد قيل: إنه قولهما لما أن في المسألة روايتين فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يؤخذ الكفيل على أنا سلمنا فتلك كفالة لمعلوم لا لمجهول؛ لأن الراد إنما يأخذ الكفيل لنفسه كي لا يلزمه الضمان فلم تكن كفالة لمجهول وذكر أبو حنيفة رحمه الله هذه المسألة في الجامع الصغير

 

ج / 6 ص -277-       وقال هذا شيء احتاط به بعض القضاة, وهو ظلم, أرأيت لو لم يجد كفيلا كنت أمنعه حقه دلت تسميته أخذ الكفيل ظلما على أن مذهبه: أن ليس كل مجتهد مصيبا, إذ الصواب لا يحتمل أن يكون ظلما فدلت المسألة على براءة ساحته عن لوث الاعتزال بحمد الله ومنه. وأما الذي يرجع إلى المشهود به, فمنها أن تكون الشهادة بمعلوم, فإن كانت بمجهول لم تقبل؛ لأن علم القاضي بالمشهود به شرط صحة قضائه, فما لم يعلم لا يمكنه القضاء به, وعلى هذا يخرج ما إذا شهد رجلان عند القاضي: أن فلانا وارث هذا الميت لا وارث له غيره أنه لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بمجهول لجهالة الوارث أسباب الوراثة واختلاف أحكامها, فلا بد أن يقولوا: "ابنه ووارثه لا يعلمون له وارثا غيره", أو "أخوه لأبيه وأمه لا يعلمون له وارثا غيره", وقوله: "لا يعلمون له وارثا غيره" لئلا يتلوم القاضي لا؛ لأنه من الشهادة عند محمد رحمه الله لجنس هذه المسائل باب في الزيادات يعرف ثمة إن شاء الله تعالى. ومنها أن يكون المشهود به معلوما للشاهد عند أداء الشهادة حتى لو ظن, لا تحل له الشهادة وإن رأى خطه وختمه وأخبره الناس بما يتذكر بنفسه, وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما إن رأى خطه وختمه له أن يشهد نحو ما تقدم من الخلاف والحجج من الجانبين وأما الذي يخص المكان فواحد, وهو مجلس القاضي؛ لأن الشهادة لا تصير حجة ملزمة إلا بقضاء القاضي فتختص بمجلس القضاء, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الشرائط التي تخص بعض الشهادات دون البعض فأنواع أيضا "منها" الدعوى في الشهادة القائمة على حقوق العباد من المدعي بنفسه أو نائبه؛ لأن الشهادة في هذا الباب شرعت لتحقيق قول المدعي ولا يتحقق قوله إلا بدعواه إما بنفسه وإما بنائبه. وأما حقوق الله تبارك وتعالى فلا يشترط فيها الدعوى كأسباب الحرمات من الطلاق وغيره, وأسباب الحدود الخالصة حق لله تعالى, إلا أنه شرطت الدعوى في باب السرقة؛ لأن كون المسروق ملكا لغير السارق شرط تحقق كون الفعل سرقة شرعا, ولا يظهر ذلك إلا بالدعوى فشرطت الدعوى لهذا, واختلف في عتق العبد: أنه حق للعبد فتشترط فيه الدعوى, أو حق لله تعالى فلا تشترط فيه الدعوى, مع الاتفاق على أن عتق الأمة حق لله تعالى, لما علم من الخلاف في كتاب العتاق, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال لقوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وقوله سبحانه وتعالى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}؛ ولأن الواجب على الشاهد إقامة الشهادة لله عز وجل الآية وهو قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}, وقوله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ولا تقع الشهادة لله إلا وأن تكون خالصة صافية عن جر النفع. ومعلوم أن في الشهادة منفعة للشاهد من حيث التصديق؛ لأن من صدق قوله يتلذذ به, فلو قبل قول الفرد لم تخل شهادته عن جر النفع إلى نفسه, فلا يخلص لله عز وجل, فشرط العدد في الشهادة ليكون كل واحد مضافا إلى قول صاحبه, فتصفو الشهادة لله عز شأنه ؛ ولأنه إذا كان فردا يخاف عليه السهو والنسيان؛ لأن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة, فشرط العدد في الشهادة ليذكر البعض البعض عند اعتراض السهو والغفلة, كما قال الله تعالى في إقامة امرأتين مقام رجل في الشهادة {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ثم الشرط عدد المثنى في عموم الشهادات القائمة على ما يطلع عليه الرجال, إلا في الشهادة بالزنا فإنه يشترط فيها عدد الأربعة لقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}, وقوله تعالى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. ولأن الشهادة في هذا الباب أحد نوعي الحجة, فتعتبر بالنوع الآخر وهو الإقرار, ثم عدد الأقارير الأربعة شرط ظهور الزنا عندنا فكذا عدد الشهود الأربعة بخلاف سائر الحدود, فإنه لا يشترط العدد في الإقرار لظهورها, فكذا في الشهادة؛ ولأن عدد الأربعة في الزنا ثبت نصا بخلاف القياس؛ لأن خبر من ليس بمعصوم من الكذب لا يخلو عن احتمال الكذب, وعدد الأربعة في احتمال الكذب, مثل عدد المثنى ما لم يدخل في حد التواتر, لكنا عرفناه شرطا بنص خاص معدولا به عن القياس فبقي سائر الأبواب على أصل القياس وأما فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والعيوب الباطنة في النساء فالعدد فيه ليس

 

ج / 6 ص -278-       بشرط عندنا, فتقبل فيه شهادة امرأة واحدة والثنتان أحوط, وعند مالك والشافعي رحمهما الله أن العدد فيه شرط, إلا أن عند مالك رحمه الله يكتفى فيه بامرأتين, وعند الشافعي رحمه الله لا بد من الأربع, وجه قول مالك أن شهادة الرجال لما سقط اعتبارها في هذا الباب لمكان الضرورة وجب الاكتفاء بعددهم من النساء, ووجه قول الشافعي رحمه الله أن الشرع أقام كل امرأتين في باب الشهادة مقام رجل واحد, ثم لا يكتفى بأقل من رجلين, فلا يكتفى بأقل من أربع نسوة. "ولنا" أن شرط العدد في الشهادة في الأصل ثبت تعبدا غير معقول المعنى؛ لأن خبر من ليس بمعصوم عن الكذب لا يفيد العلم قطعا ويقينا, وإنما يفيده غالب الرأي وأكثر الظن, وهذا ثبت بخبر الواحد العدل, ولهذا لم يشترط العدد في رواية الأخبار إلا أنا عرفنا العدد فيها شرطا بالنص, والنص ورد بالعدد في شهادة النساء في حالة مخصوصة, وهي أن يكون معهن رجل بقوله تعالى عز شأنه: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}, فبقيت حالة الانفراد عن الرجال على أصل القياس وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل شهادة القابلة على الولادة, ولو شهد رجل واحد بالولادة يقبل؛ لأنه لما قبل شهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى, والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها اتفاق الشهادتين فيما يشترط فيه العدد فإن اختلفا لم تقبل؛ لأن اختلافهما يوجب اختلاف الدعوى والشهادة,؛ ولأن عند اختلاف الشهادتين لم يوجد إلا أحد شطري الشهادة, ولا يكتفى به فيما يشترط فيه العدد, ثم نقول: الاختلاف قد يكون في جنس المشهود به, وقد يكون في قدره, وقد يكون في الزمان, وقد يكون في المكان, وغير ذلك, أما اختلافهما في الجنس فقد يكون في العقد, وقد يكون في المال, أما في العقد فهو أن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو بالهبة أو غير ذلك, فلا تقبل لاختلاف العقدين صورة ومعنى, فقد شهد كل واحد منهما بعقد غير ما شهد به الآخر, وليس على أحدهما شهادة شاهدين وأما في المال فهو أن يشهد أحدهما بمكيل والآخر بموزون, فلا تقبل؛ لأنهما جنسان مختلفان وليس على أحدهما شهادة شاهدين. وأما اختلاف الشهادة في قدر المشهود به, فنحو ما إذا ادعى رجل على رجل ألفي درهم, وأقام شاهدين شهد أحدهما بألفين والآخر بألف, لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله أصلا, وعندهما تقبل على الألف ولو كان المدعي يدعي ألفا وخمسمائة, فشهد أحدهما بألف وخمسمائة والآخر بألف, تقبل على الألف بالإجماع, وجه قولهما: أن الشهادة لم تخالف الدعوى في قدر الألف بل وافقتها بقدرها, إلا أن المدعي يدعي زيادة مال لا شهادة لهم عليه, فيثبت قدر ما وقع الاتفاق عليه, كما إذا ادعى ألفا وخمسمائة فشهد أحدهما بذلك والآخر بألف تقبل على الألف لما قلنا كذا هذا ولأبي حنيفة رحمه الله أن شطر الشهادة خالف الدعوى؛ لأن المدعي يدعي ألفين, وأنه اسم وضع دلالة على عدد معلوم, والاسم الموضوع دلالة على عدد لا يقع على ما دون ذلك العدد كسائر أسماء الأعداد, كالبرك لألف من الإبل والهنيدة لمائة منها ونحو ذلك, فلم تكن الألف المفردة مدعى, فلم تكن الشهادة شاهدة على ما دخل تحت الدعوى فانفردت الشهادة عن الدعوى فيما يشترط فيه الدعوى, فلا تقبل, بخلاف ما إذا ادعى ألفا وخمسمائة فشهد أحدهما بذلك والآخر بألف أنه يقبل على الألف؛ لأن الألف والخمسمائة اسم لعددين, ألا ترى أنه يعطف أحدهما على الآخر فيقال: ألف وخمسمائة فكان كل واحد منهما بانفراده داخلا تحت الدعوى, فالشهادة القائمة عليهما تكون قائمة على كل واحد منهما مقصودا, فإذا شهد أحدهما بألف فقد شهد بأحد العددين الداخلين تحت الدعوى, فكانت الشهادة موافقة للدعوى في عدد الألف فيقضى به للمدعي؛ لقيام الحجة عليه بخلاف الألف والألفين ؛ لأنه اسم لعدد واحد لا تصح على ما دونه بحال, فلم تكن الألف المفردة داخلة تحت الدعوى, فكانت الشهادة القائمة عليها شهادة على ما لم يدخل تحت الدعوى, فلا تقبل فهو الفرق بينهما ولو ادعى ألفا فشهد أحدهما بالألف والآخر بألفين لا تقبل على الألف بالإجماع؛ لأن المدعي كذب أحد شاهديه في بعض ما شهد به فأوجب ذلك تهمة في الباقي, فلا تقبل إلا إذا وفق فقال: كان لي عليه ألفان إلا أنه كان قد قضاني ألفا, ولم يعلم به الشاهد فيقبل, وكذا لو ادعى ألفا فشهد أحدهما بها والآخر بألف وخمسمائة لا تقبل لما قلنا, إلا إذا وفق فقال: كان لي عليه ألف وخمسمائة, إلا أنه قضاني خمسمائة ولم يعلم بها الشاهد فتقبل؛ لأنه إذا وفق فقد زال الاختلاف المانع من القبول

 

ج / 6 ص -279-       ولو ادعى على رجل أنه باع عبده بألفي درهم وهو ينكر, فشهد شاهد بألفين وآخر بألف, أو ادعى أنه باعه بألف وخمسمائة, فشهد أحدهما بألف وخمسمائة, والآخر بألف لا تقبل بالإجماع؛ لأن الشاهدين اختلفا في البدل, واختلاف البدلين يوجب اختلاف العقدين, فصار كل واحد منهما شاهدا بعقد غير عقد صاحبه, وليس على أحدهما شهادة شاهدين فلا تقبل ولا يثبت العقد, وكذا لو كان المشتري مدعيا والبائع مدعى عليه لما قلنا, فإن كان هذا في الإجارة ينظر إن كانت الدعوى من المؤاجر في مدة الإجارة لا تقبل؛ لأن هذا يكون دعوى العقد, وليس على أحد العاقدين شهادة شاهدين فلا تقبل كما في باب البيع, وإن كانت الدعوى بعد انقضاء مدة الإجارة فهذا دعوى المال لا دعوى العقد, فكان حكمه حكم سائر الديون, وقد ذكرناه على الاتفاق والاختلاف, هذا إذا كانت الدعوى من المؤاجر, فإن كانت من المستأجر لا تقبل, سواء كانت الدعوى في المدة, أو بعد انقضائها؛ لأن هذا دعوى العقد, ولو كان هذا في النكاح, فإن كانت الدعوى من المرأة, فهذا دعوى المال عند أبي حنيفة عليه الرحمة حتى أنها لو ادعت على رجل أنه تزوجها على ألف وخمسمائة, فشهد لها شاهدان أحدهما بألف وخمسمائة والآخر بألف تقبل, والنكاح جائز بألف درهم, وعندهما لا تقبل ولا يجوز النكاح؛ لأن هذا دعوى العقد, ولو كانت الدعوى من الرجل, والمرأة تنكر لا تقبل بالإجماع؛ لأن هذا دعوى العقد, ولو كانت الدعوى في الخلع أو في الطلاق على مال, أو في العتاق, أو في الصلح عن دم العمد على مال, فإن كانت الدعوى من الزوج أو من المولى أو ولي القصاص تقبل؛ لأن هذا دعوى المال, وإن كانت الدعوى من المرأة أو العبد أو القاتل لا تقبل؛ لأن هذا دعوى العقد, ولو كان هذا في الكتابة, فإن كانت الدعوى من المكاتب لا تقبل؛ لأن هذا دعوى العقد, فلا تقبل ولا تصح الكتابة, وإن كانت من المولى فلا تصح؛ لأن للمكاتب أن يعجز نفسه متى شاء. "وأما" اختلاف الشهادة في الزمان والمكان, فإنه ينظر إن كان ذلك في الأقارير لا يمنع القبول, وإن كان في الأفاعيل من القتل والقطع والغصب وإنشاء البيع, والطلاق والعتاق والنكاح ونحوها يمنع القبول, ووجه الفرق: أن الإقرار مما يحتمل التكرار, فيمكن التوفيق بين الشهادتين لسماعه عن الإقرار في زمانين أو مكانين, فلا يتحقق الاختلاف بين الشهادتين, بخلاف القتل والقطع وإنشاء البيع وغيره من العقود والفسوخ؛ لأن هذا لا يحتمل التكرار, فاختلاف الزمان والمكان فيها يوجب اختلاف الشهادتين فيمنع القبول, وبالله التوفيق. ولو ادعى رجل على رجل قرض ألف درهم, فشهد شاهدان أحدهما على القرض والآخر على القرض والقضاء, يقضي بشهادتهما على القرض ولا يقضي بالقضاء في ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقضي بشهادتهما بالقرض أيضا؛ لأنهما وإن اجتمعا على الشهادة بالقرض لكن الذي شهد بالقضاء فسخ شهادته بالقرض, فبقي على القرض شاهد واحد فلا يقضي بالشهادة, والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن الشهادتين اختلفتا في القضاء لا في القرض, بل اتفقا على القرض فيقضى به, وقوله: شاهد القضاء فسخ شهادته بالقرض قلنا: ممنوع بل قرر شهادته على القرض؛ لأن قضاء القرض بعد القرض يكون."وأما" الذي يرجع إلى المكان فواحد وهو مجلس القضاء ومنها الذكورة في الشهادة بالحدود والقصاص فلا تقبل فيها شهادة النساء؛ لما روي عن الزهري رحمه الله أنه قال: مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده رضوان الله تعالى عليهما أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص,؛ ولأن الحدود والقصاص مبناهما على الدرء والإسقاط بالشبهات, وشهادة النساء لا تخلو عن شبهة؛ لأنهن جبلن على السهو والغفلة ونقصان العقل والدين, فيورث ذلك شبهة بخلاف سائر الأحكام؛ لأنها تجب مع الشبهة؛ ولأن جواز شهادة النساء على البدل من شهادة الرجال, والإبدال في باب الحدود غير مقبول, كالكفالات والوكالات. وأما الشهادة على الأموال فالذكورة ليست فيها بشرط, والأنوثة ليست بمانعة بالإجماع, فتقبل فيها شهادة النساء مع الرجال لقول الله تبارك وتعالى في باب المداينة {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. واختلف في اشتراطها في الشهادة بالحقوق التي ليست بمال, كالنكاح والطلاق والنسب, قال أصحابنا رضي الله عنهم: "ليست بشرط" وقال الشافعي: رضي الله عنه "شرط" "وجه"

 

ج / 6 ص -280-       قول الشافعي رحمه الله أن شهادة النساء حجة ضرورة؛ لأنها جعلت حجة في باب الديانات عند عدم الرجال, ولا ضرورة في الحقوق التي ليست بمال لاندفاع الحاجة فيها بشهادة الرجال, ولهذا لم تجعل حجة في باب الحدود والقصاص. وكذا لم تجعل حجة بانفرادهن فيما لا يطلع عليه الرجال, "ولنا" قوله تبارك وتعالى {وَاسْتَشْهِدُوا} الآية, جعل الله سبحانه وتعالى لرجل وامرأتين شهادة على الإطلاق؛ لأنه سبحانه وتعالى جعلهم من الشهداء, والشاهد المطلق من له شهادة على الإطلاق, فاقتضى أن يكون لهم شهادة في سائر الأحكام, إلا ما قيد بدليل. وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة النساء مع الرجال في النكاح والفرقة, ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر من الصحابة فكان إجماعا منهم على الجواز؛ ولأن شهادة رجل وامرأتين في إظهار المشهود به مثل شهادة رجلين, لرجحان جانب الصدق فيها على جانب الكذب بالعدالة, لا أنها لم تجعل حجة فيما يدرأ بالشبهات لنوع قصور وشبهة فيها لما ذكرنا, وهذه الحقوق تثبت بدليل فيه شبهة. "وأما" قوله بأنها ضرورة فلا تسلم, فإنها مع القدرة على شهادة الرجال في باب الأموال مقبولة, فدل أنها شهادة مطلقة لا ضرورة, وبه تبين أن نقصان الأنوثة يصير مجبورا بالعدد فكانت شهادة مطلقة, واختلف في اشتراطها في الشهادة على الإحصان, قال علماؤنا الثلاثة رضي الله عنهم: "ليست بشرط" وقال زفر: شرط حتى يظهر الإحصان بشهادة رجل وامرأتين, عندنا وعنده لا يظهر "وجه" قول زفر رحمه الله أن الذكورة شرط في علة العقوبات بالإجماع, حتى لا يظهر بشهادة رجل وامرأتين, والإحصان من جملة أوصاف العلة؛ لأن علة وجوب الرجم ليس هو الزنا المطلق, بل الزنا لموصوف بالتغليظ, ولا يتغلظ إلا بالإحصان, فكان الإحصان من جملة العلة فلا يثبت بشهادة النساء, ولهذا لو أقر بالإحصان جاز رجوعه, كما أنه لو أقر بالزنا رجع, وكذا الشهادة القائمة على الإحصان من غير دعوى كالشهادة القائمة على الزنا. "ولنا" قوله عز وجل {فَاسْتَشْهِدُوا} الآية, ودلالتها على نحو ما تقدم مع الشافعي رحمه الله. وأما قوله: "من جملة العلة الإحصان", قلنا: "لا ممنوع, بل هو شرط العلة" فيصير الزنا عنده علة, والحكم يضاف إلى العلة لا إلى الشرط لما عرف في أصول الفقه. وأما الرجوع عنه بعد الإقرار فلا نسلم أنه لا يصح الرجوع في قول أبي يوسف رحمه الله, ولا يصح في قول زفر رحمه الله, وهذا حجة على زفر, ولا رواية فيه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله, فلنا أن نمنع, وعدم اشتراط الدعوى يدل على أنه حق الله سبحانه وتعالى لا على أنه تضاف إليه العقوبة, ألا ترى أن الدعوى ليست بشرط في عتق الأمة إجماعا, ولا في عتق العبد عند أبي يوسف ومحمد, وإن كان لا يتقرر تعلق عقوبة به ونحن نسلم أن الإحصان حق الله تعالى في هذا الوقت, على ما عرف في الخلافيات. ومنها إسلام الشاهد إذا كان المشهود عليه مسلما, حتى لا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأن الشهادة فيها معنى الولاية, وهو تنفيذ القول على الغير, ولا ولاية للكافر, فلا شهادة له عليه, وتقبل شهادة المسلم على الكافر؛ لأنه من أهل أن يثبت له الولاية على المسلم فعلى الكافر أولى "وأما" إذا كان المشهود عليه كافرا, فإسلام الشاهد, هل هو شرط لقبول شهادته عليه؟ فقد اختلف فيه, قال أصحابنا: رضي الله عنهم "ليس بشرط" حتى تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض, سواء اتفقت مللهم أو اختلفت بعد أن كانوا عدولا في دينهم, وقال الشافعي رحمه الله: شرط حتى لا تقبل شهادتهم أصلا. واحتج بقوله سبحانه وتعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} نفى الله سبحانه وتعالى أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل, وفي قبول شهادة بعضهم على بعض إثبات السبيل للكافرين على المؤمنين؛ لأنه يجب على القاضي القضاء بشهادتهم, وإنه منفي؛ ولأن العدالة شرط قبول الشهادة, والفسق مانع, والكفر رأس الفسق, فكان أولى بالمنع من القبول. "ولنا" قول النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك الحديث "فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين", وللمسلم على المسلم شهادة, فكذا للذمي على الذمي, فظاهره يقتضي أن يكون للذمي على المسلم شهادة كالمسلم, إلا أن ذلك صار مخصوصا من عموم النص,؛ ولأن الحاجة مست إلى صيانة حقوق أهل الذمة. ولا تحصل الصيانة إلا وأن يكون لبعضهم على بعض شهادة, ولا شك أن الحاجة

 

ج / 6 ص -281-       إلى صيانة حقوقهم ماسة؛ لأنهم إنما قبلوا عقد الذمة لتكون دماؤهم كدمائنا, وأموالهم كأموالنا, والدليل على أن الصيانة لا تحصل إلا وأن يكون لبعضهم على بعض شهادة؛ لأن هذه المعاملات تكثر فيما بينهم, والمسلمون لا يحضرون معاقدتهم ليتحملوا حوادثهم, فلو لم يكن لبعضهم على بعض شهادة لضاعت حقوقهم عند الجحود والإنكار فدعت الحاجة إلى الصيانة بالشهادة. وأما الآية الكريمة فوجوب القضاء لا يثبت بالشهادة وإنما يثبت بالتقليد السابق, والشهادة شرط الوجوب, والحكم لا يثبت بالشرط, فلا يكون في قبول شهادة بعضهم على بعض إثبات السبيل للكافر على المؤمن, سواء اتفقت مللهم أو اختلفت, فتقبل شهادة النصراني على اليهودي, واليهودي على المجوسي, وقال ابن أبي ليلى: "إن اختلفت لا تقبل": وهذا غير سديد؛ لأن الكفر وإن اختلفت أنواعه صورة, فهو ملة واحدة حقيقة, فتقبل شهادة بعضهم على بعض كيف ما كان, بعد أن يكون الشاهد من أهل دار الإسلام, حتى لا تقبل شهادة المستأمن على الذمي؛ لأنه ليس من أهل دار الإسلام حقيقة, وإن كان فيها صورة؛ لأنه ما دخل دارنا للسكنى فيها بل ليقضي حوائجه, ثم يعود عن قريب, فلم يكن من أهل دار الإسلام, والذمي من أهل دار الإسلام, فاختلفت الداران فلم تقبل شهادة الذمي عليه بالنص الذي روينا, وصار حكم المستأمن مع الذمي في الشهادة كحكم الذمي مع المسلم, وشهادة المستأمن تقبل على المستأمن إن اتفقت دارهم ومللهم, وإن اختلفت لا تقبل. ومنها عدم التقادم في الشهادة على الحدود كلها إلا حد القذف, حتى لا تقبل الشهادة عليها إذا تقادم العهد, إلا على حد القذف, بخلاف الإقرار لما عرف في كتاب الحدود, والله تعالى أعلم. قيام الرائحة في الشهادة على شرب الخمر إذا لم يكن سكران, ولم يحقق أنه من مسيره لا يبقى الريح من المجيء به من مثلها عادة عندهما, وعند محمد ليس بشرط, وهي من مسائل الحدود وتذكر هنالك إن شاء الله تعالى. "ومنها" الأصالة في الشهادة على الحدود والقصاص, حتى لا تقبل فيها الشهادة بطريق النيابة, وهي الشهادة على الشهادة عندنا, كذا لا يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأنه في معنى الشهادة على الشهادة, وعند الشافعي رحمه الله ليس بشرط, حتى تقبل فيها الشهادة على الشهادة, وأجمعوا على أنها ليست بشرط في الأموال والحقوق المجردة عنها؛ فتقبل فيها الشهادة على الشهادة, وكتاب القاضي إلى القاضي, إلا في العبد الآبق عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف تقبل فيه أيضا على ما نذكر في كتاب أدب القاضي "وجه" قول الشافعي رحمه الله أن الفروع يؤدون الشهادة نيابة عن الأصول, فكانت شهادتهم شهادة الأصول معنى, وشهادة الأصول على الحدود والقصاص مقبولة. "ولنا" أن الحدود والقصاص مما تدرأ بالشبهات, والشهادة على الشهادة لا تخلو عن شبهة, ولهذا لا تقبل فيها شهادة النساء لتمكن الشبهة في شهادتهن بسبب السهو والغفلة, بل أولى؛ لأن الشبهة هنا تمكنت في مجلس, فكان فيها زيادة ليست في شهادة الأصول؛ ولأن الحدود لما كانت مبنية على الدرء أوجب ذلك اختصاصها بحجج مخصوصة, بل إيقاف إقامتها, ولهذا شرط عدد الأربعة في الشهادة على الزنا؛ لأن اطلاع أربعة من الرجال الأحرار على غيبوبة ذكره في فرجها, كما يغيب الميل في المكحلة نادر غاية الندرة, ثم نقول الكلام في الشهادة على الشهادة يقع في مواضع: في صورة تحمل الشهادة على الشهادة, وفي شرائط التحمل, وفي صورة أداء الشهادة على الشهادة, وفي شرائط الأداء أما صورة التحمل فلها عبارتان: مختصرة, ومطولة, أما اللفظ المختصر فهو أن يقول شاهد الأصل: "أشهد على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا", أو يقول: "أشهد أن لفلان على فلان كذا, فأشهد على شهادتي بذلك". وأما المطول فهو أن يقول شاهد الأصل: "أشهد أن لفلان على فلان كذا, أشهدك على شهادتي هذه وآمرك أن تشهد على شهادتي هذه فاشهد". وأما شرائط تحمل هذه الشهادات فما ذكرنا في عموم الشهادات وأما الذي يختص بها فأنواع: منها الإشهاد حتى لا يصح التحمل بنفس السماع دون الإشهاد, حتى لو قال: "أشهد أن لفلان على فلان كذا" فسمع إنسان لكن لم يقل: "اشهد أنت" لم يصح التحمل بخلاف سائر الشهادات, أنه يصح التحمل فيها بنفس معاينة الفعل وسماع الإقرار والإنشاء من غير إشهاد "ووجه" الفرق أن الفروع يشهدون نيابة عن الأصول فلا بد من الإنابة منهم, وذلك

 

ج / 6 ص -282-       بالإشهاد بخلاف سائر الشهادات؛ لأن تحمل الشاهد في سائرها بطريق الإحالة بنفسه لا بغيره, فيصح التحمل فيها بطريق المعاينة. ومنها الإشهاد على شهادته حتى لو قال: "أشهد بمثل ما شهدت", أو "كما شهدت", أو "على ما شهدت" لا يصح التحمل ما لم يقل "على شهادتي"؛ لأن معنى التحمل والإنابة لا يحصل إلا بالإشهاد على شهادته. ومنها عدد التحمل, وهو أن يتحمل من كل واحد من شاهدي الأصل اثنان, حتى لو تحمل من أحدهما واحد, وتحمل من الآخر واحد لا يصح التحمل؛ لأن الشهادة حق ثابت في ذمة الشاهد, والحقوق الثابتة في الذمم لا ينقلها إلى القاضي إلا شاهدان, ولو تحمل اثنان من أحدهما شهادته, ثم تحملا من الآخر شهادته جاز التحمل؛ لأنه اجتمع على التحمل من كل واحد منهما شاهدان, فأما الذكورة في تحمل هذه الشهادة فليست بشرط حتى يصح التحمل فيها من النساء. "وأما" صورة أداء هذه الشهادة فلها لفظان أيضا: مختصر, ومطول فالمختصر أن يقول: "شهد فلان عندي أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته بذلك فأنا أشهد على شهادته بذلك". وأما المطول فهو أن يقول: "شهد عندي فلان أن لفلان على فلان كذا, وأشهدني على شهادته بذلك, وأمرني أن أشهد على شهادته بذلك, وأنا أشهد الآن على شهادته بذلك", ولو لم يقل: "وأمرني أن أشهد على شهادته بذلك" جاز؛ لأن معنى التحمل والإنابة يتأدى بقوله: "أشهدني على شهادته" فكان قوله: "أمرني بذلك من باب التأكيد" وأما شرائطها فما ذكرناه كسائر الشهادات والذي يختص بهذه الشهادة أن يكون المشهود عليه ميتا, أو غائبا مسيرة سفر, أو مريضا لا يستطيع أن يحضر مجلس القضاء؛ لأن جواز هذه الشهادة للحاجة والضرورة, ولا تتحقق الضرورة إلا في هذه المواضع وأما الذكورة فليست بشرط لأداء هذه الشهادة فتقبل فيها شهادة النساء مع الرجال لقوله تبارك وتعالى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فظاهر النص يقتضي أن يكون للنساء مع الرجال شهادة على الإطلاق من غير فصل, إلا ما قيد بدليل؛ ولأن قضية القياس أن لا تشترط الذكورة والأصل في عموم الشهادات, إلا أن اشتراط الذكورة في شهادة الأصول على الحدود والقصاص ثبت بنص خاص, وهو حديث الزهري رحمه الله لتمكن شبهة في شهادتهن ليست في شهادة الرجال, واشتراط الأصالة في الشهادة لتمكن زيادة شبهة في شهادة الفروع ليست في شهادة الأصول, وهو الشبهة في الشهادتين على ما ذكرنا, فشرط ذلك احتيالا لدرء ما يندرئ بالشبهات, والأموال والحقوق مما ثبت بالشبهة فثبت على أصل القياس, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يلزم الشاهد بتحمل الشهادة فالذي يلزمه أداء الشهادة لله سبحانه وتعالى فيما سوى أسباب الحدود, لقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}, وقوله عز شأنه {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلا أن في الشهادة القائمة على حقوق العباد وأسبابها لا بد من طلب المشهود له لوجوب الأداء, فإذا طلب وجب عليه الأداء, حتى لو امتنع بعد الطلب يأثم لقوله تعالى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أي دعوا لأداء الشهادة؛ لأن الشهادة أمانة المشهود له في ذمة الشاهد. وقال سبحانه وتعالى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وقال تعالى جل شأنه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وأما في حقوق الله تبارك وتعالى, وفيما سوى أسباب الحدود, نحو طلاق امرأة وإعتاق عبد, والظهار والإيلاء ونحوها من أسباب الحرمات تلزمه الإقامة حسبة لله تبارك وتعالى عند الحاجة إلى الإقامة من غير طلب من أحد من العباد. وأما في أسباب الحدود من الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف فهو مخير بين أن يشهد حسبة لله تعالى, وبين أن يستر؛ لأن كل واحد منهما أمر مندوب إليه, قال الله تبارك وتعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}, وقال عليه الصلاة والسلام "من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وقد ندبه الشرع إلى كل واحد منهما, إن شاء اختار جهة الحسبة فأقامها لله تعالى, وإن شاء اختار جهة الستر فيستر على أخيه المسلم.
"فصل": وأما بيان حكم الشهادة فحكمها وجوب القضاء على القاضي؛ لأن الشهادة عند استجماع شرائطها مظهرة للحق, والقاضي مأمور بالقضاء بالحق, قال الله تبارك وتعالى
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}, وثبوت ما يترتب عليها من الأحكام.

"فصل": وأما بيان حكم الشهادة فحكمها وجوب القضاء على القاضي؛ لأن الشهادة عند استجماع شرائطها مظهرة للحق, والقاضي مأمور بالقضاء بالحق, قال الله تبارك وتعالى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}, وثبوت ما يترتب عليها من الأحكام.