بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 6 ص -221-       "كتاب الدعوى"
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان ركن الدعوى وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حد المدعي

"فصل": وأما الصدقة إذا قال داري هذه في المساكين صدقة تصدق بثمنها, وإن تصدق بعينها جاز؛ لأن الناذر بالنذر يتقرب إلى الله تعالى بالمنذور به, ومعنى القربة يحصل بالتصدق بثمن الدار وبل أولى, ولو تصدق بعين الدار جاز؛ لأنه أدى المنصوص عليه, ولو قال: داري هذه صدقة موقوفة على المساكين, تصدق بالسكنى والغلة عند أبي حنيفة؛ لأن المنذور به صدقة موقوفة, والوقف حبس الأصل وتصدق بالفرع, ولو قال: مالي في المساكين صدقة, تصدق بكل مال تجب فيه الزكاة استحسانا, والقياس أن يتصدق بالكل لأن اسم المال ينطلق على الكل. "وجه" الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى, ثم إيجاب الصدقة المتعلقة باسم الله من الله تعالى في قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة ونحو ذلك تصرف إلى بعض الأموال دون الكل, فكذا إيجاب العبد, ولو قال: ما أملكه فهو صدقة, تصدق بجميع ماله, ويقال له: أمسك قدر ما تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب مالا, فإذا اكتسبت مالا تصدقت بمثل ما أمسكت لنفسك؛ لأنه أضاف الصدقة إلى المملوك, وجميع ماله مملوك له فيتصدق بالجميع, إلا أنه يقال له: أمسك قدر النفقة, لأنه لو تصدق بالكل على غيره لاحتاج إلى أن يتصدق غيره عليه, وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" والله عز وجل أعلم.

 

ج / 6 ص -222-       والمدعى عليه وفي بيان حكم الدعوى وما يتصل به وفي بيان حجة المدعي والمدعى عليه وفي بيان علائق اليمين وفي بيان ما تندفع به الخصومة عن المدعى عليه ويخرج عن كونه خصما وفي بيان حكم تعارض الدعوتين مع تعارض البينتين وحكم تعارض الدعوى لا غير وفي بيان حكم الملك والحق الثابت في المحل "أما" ركن الدعوى فهو قول الرجل لي على فلان أو قبل فلان كذا أو قضيت حق فلان أو أبرأني عن حقه ونحو ذلك فإذا قال ذلك فقد تم الركن.

"فصل": وأما الشرائط المصححة للدعوى فأنواع منها عقل المدعي والمدعى عليه فلا تصح دعوى المجنون والصبي الذي لا يعقل وكذا لا تصح الدعوى عليهما حتى لا يلزم الجواب ولا تسمع البينة لأنهما مبنيان على الدعوى الصحيحة ومنها أن يكون المدعى معلوما لتعذر الشهادة والقضاء بالمجهول والعلم بالمدعى إنما يحصل بأحد أمرين إما الإشارة وإما التسمية وجملة الكلام فيه أن المدعى لا يخلو إما أن يكون عينا وإما أن يكون دينا فإن كان عينا فلا يخلو إما إن كان محتملا للنقل أو لم يكن محتملا للنقل فإن كان محتملا للنقل فلا بد من إحضاره لتمكن الإشارة إليه عند الدعوى والشهادة فيصير معلوما بها إلا إذا تعذر نقله كحجر الرحى ونحوه فإن شاء القاضي استحضره وإن شاء بعث إليه أمينا وإن لم يكن محتملا للنقل وهو العقار فلا بد من بيان حده ليكون معلوما لأن العقار لا يصير معلوما إلا بالتحديد. ثم لا خلاف في أنه لا يكتفى فيه بذكر حد واحد وكذا بذكر حدين عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف وهل تقع الكفاية بذكر ثلاثة حدود قال علماؤنا الثلاثة رضي الله عنهم نعم وقال زفر رضي الله عنه لا وهي مسألة كتاب الشروط وكذا لا بد من بيان موضع المحدود وبلده ليصير معلوما هذا إذا كان المدعى عينا فإن كان دينا فلا بد من بيان جنسه ونوعه وقدره وصفته لأن الدين لا يصير معلوما إلا ببيان هذه الأشياء ومنها أن يذكر المدعي في دعوى العقار أنه في يد المدعى عليه لأن الدعوى لا بد وأن تكون على خصم والمدعى عليه إنما يصير خصما إذا كان بيده فلا بد وأن يذكر أنه في يده ليصير خصما فإذا ذكر وأنكر المدعى عليه ولا بينة للمدعي فإنه يحلف من غير الحاجة إلى إقامة البينة من المدعي على أنه في يد المدعى عليه ولو كان له بينة لا تسمع حتى يقيم البينة على أنه في يد هذا المدعى عليه ووجه الفرق أن من الجائز أن يكون صاحب اليد غيره واصطلحا على ذلك فلو سمع القاضي بينته لكان قضاء على الغائب وهذا المعنى هنا متعذر لأنه لا قضاء هنا أصلا لأن المدعى عليه لا يخلو إما أن يحلف وإما أن ينكل فإن حلف فالأمر فيه ظاهر وإن نكل فكذا لأن القاضي لا يقضي بشيء وإنما يأمره بأن يخرج من الدار ويخلي بينها وبين المدعي ومنها أن يذكر أنه يطالبه به لأن حق الإنسان إنما يجب إيفاؤه بطلبه ومنها أن يكون بلسانه عينا إذا لم يكن به عذر إلا إذا رضي المدعى عليه بلسان غيره عند أبي حنيفة وعندهما ليس بشرط حتى لو وكل المدعي بالخصومة من غير عذر ولم يرض به المدعى عليه لا تصح دعواه عنده حتى لا يلزم الجواب ولا تسمع منه البينة وعندهما تصح حتى يلزم وتسمع لما علم في كتاب الوكالة. ومنها مجلس الحكم فلا تسمع الدعوى إلا بين يدي القاضي كما لا تسمع الشهادة إلا بين يديه ومنها حضرة الخصم فلا تسمع الدعوى والبينة إلا على خصم حاضر إلا إذا التمس المدعي بذلك كتابا حكميا للقضاء به فيجيبه القاضي إليه فيكتب إلى القاضي الذي الغائب في بلده بما سمعه من الدعوى والشهادة ليقضي عليه وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله حضرة المدعى عليه ليست بشرط لسماع الدعوى والبينة والقضاء فيجوز القضاء على الغائب عنده وعندنا لا يجوز وجه قول الشافعي رحمه الله أنه ظهر صدق المدعي في دعواه على الغائب بالبينة فيجوز القضاء ببينته قياسا على الحاضر ودلالة الوصف أن دعوى المدعي وإن كان خبرا يحتمل الصدق والكذب لكن يرجح جانب صدقه على جانب الكذب في خبره بالبينة فيظهر صدقه في دعواه كما إذا كان المدعى عليه حاضرا يحققه أن المدعى عليه لا يخلو إما أن يكون مقرا وإما أن يكون منكرا فإن كان مقرا فكان المدعي صادقا في دعواه فلا حاجة إلى القضاء وإن كان منكرا فظهر صدقه بالبينة فكان القضاء بالبينة قضاء بحجة مظهرة للحق فجاز. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لسيدنا علي رضي الله عنه "لا تقض لأحد الخصمين ما لم تسمع كلام الآخر" نهاه عليه الصلاة والسلام عن القضاء
 

 

ج / 6 ص -223-       لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر والقضاء بالحق للمدعي حال غيبة المدعى عليه قضاء لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر فكان منهيا عنه ولأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق قال الله تبارك وتعالى جل شأنه {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وقال عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص "اقض بين هذين قال أقضي وأنت حاضر بيننا؟ فقال عليه الصلاة والسلام اقض بينهما بالحق" والحق اسم للكائن الثابت. ولا ثبوت مع احتمال العدم واحتمال العدم ثابت في البينة لاحتمال الكذب فلم يكن الحكم بالبينة حكما بالحق فكان ينبغي أن لا يجوز الحكم بها أصلا إلا أنها جعلت حجة لضرورة فصل الخصومات والمنازعات ولم يظهر حالة الغيبة وقد خرج الجواب عن كلامه ثم إنما لا يجوز القضاء عندنا على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضر فإن كان يجوز لأنه يكون قضاء على الحاضر حقيقة ومعنى والخصم الحاضر الوكيل والوصي والوارث ومن كان بينه وبين الغائب اتصال فيما وقع فيه الدعوى لأن الوكيل والوصي نائبان عنه بصريح النيابة والوارث نائب عنه شرعا وحضرة النائب كحضرة المنوب عنه فلا يكون قضاء على الغائب معنى. وكذا إذا كان بين الحاضر والغائب اتصال فيما وقع فيه الدعوى بأن كان ذلك سببا لثبوت حق الغائب لأن الحاضر يصير مدعى عليه فيما هو حقه ومن ضرورة ثبوت حقه ثبوت حق الغائب فكان الكل حق الحاضر لأن كل ما كان من ضرورات الشيء كان ملحقا به فيكون قضاء على الحاضر حتى أن من ادعى على آخر أنه أخوه ولم يدع ميراثا ولا نفقة لا تسمع دعواه لأنه دعوى على الغائب لأنه يريد إثبات نسبه من أب المدعى عليه وأمه وهما غائبان وليس عنهما خصم حاضر لأنه لم توجد الإنابة ولا حق يقضي به على الوارث ليكون ثبوت النسب من الغائب من ضروراته تبعا له فلا تسمع دعواه أصلا ولو ادعى عليه ميراثا أو نفقة عند الحاجة تسمع دعواه وتقبل بينته لأنه دعوى حق مستحق على الحاضر وهو المال ولا يمكنه إثباته إلا بإثبات نسبه من الغائب فينصب خصما عن الغائب ضرورة ثبوت الحق المستحق تبعا له ولهذا لو أقر بالنسب من غير دعوى المال لا يصح إقراره بخلاف ما لو ادعى على رجل أنه أبوه أو ابنه أنه يصح من غير دعوى المال الحاضر لأنه ليس فيه حمل نسب الغير على الغير فكان دعوى على الحاضر ألا ترى أنه لو أقر به يصح إقراره بخلاف الإقرار بالأخوة وعلى هذا تخرج المسائل المخمسة وتوابعها على ما نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. ومنها عدم التناقض في الدعوى وهو أن لا يسبق منه ما يناقض دعواه لاستحالة وجود الشيء مع ما يناقضه وينافيه حتى لو أقر بعين في يده لرجل فأمر القاضي بدفعها إليه ثم ادعى أنه كان اشتراها منه قبل ذلك لا تسمع دعواه لأن إقراره بالملك لغيره للحال يمنع الشراء منه قبل ذلك لأن الشراء يوجب الملك للمشتري فكان مناقضا للإقرار والإقرار يناقضه فلا يصح وكذا لو لم يقر ونكل عن اليمين فقضي عليه بنكوله ثم ادعى أنه كان اشتراه منه قبل ذلك لا تسمع دعواه ولا تقبل بينته في ظاهر الرواية لأن النكول بمنزلة الإقرار وروي عن أبي يوسف أنه تسمع دعواه وتقبل بينته هذا إذا ادعى أنه اشتراه منه قبل الإقرار والنكول فأما إذا ادعى أنه اشتراه منه بعد ذلك تسمع دعواه بلا خلاف لأن الإقرار بالملك لفلان لا يمنع الشراء منه بعد ذلك لانعدام التناقض لاختلاف الزمان ولو قال هذا لفلان اشتريته منه تسمع منه موصولا قال ذلك أو مفصولا لأنه لم يسبق منه ما يناقض الدعوى بل سبق منه ما يقررها لأن سابقة الملك لفلان شرط تحقق الشراء منه. ولو قال هذا العبد لفلان اشتريته منه موصولا فالقياس أن لا تصح دعواه وفي الاستحسان تصح ولو قال ذلك مفصولا لا تصح قياسا واستحسانا وجه القياس أن قوله هو لفلان إقرار منه بكونه ملكا لفلان في الحال فهذا يناقض دعوى الشراء لأن الشراء يوجب كونه ملكا للمشتري فلا يصح كما إذا قال مفصولا وجه الاستحسان أن قوله هو لفلان اشتريته منه موصولا معناه في متعارف الناس وعاداتهم أنه كان لفلان فاشتريته منه قال الله عز وجل {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أي إذ كنتم قليلا إذ لم يكونوا قليلا وقت نزول الآية الشريفة فيحمل عليه تصحيحا له ولا عادة جرت بذلك في المفصول فحمل على حقيقته وهو بحقيقته مناقضة فلا تسمع هذا إذا بين أنه اشتراه قبل الإقرار فإن بين أنه اشتراه بعده تسمع دعواه لانعدام التناقض

 

ج / 6 ص -224-       على ما بينا. وكذلك لو لم يبين وادعى الشراء مبهما بثمن معلوم تسمع لأنه لما لم يذكر الوقت يحمل على الحال تصحيحا له هذا إذا قال هذا الشيء لفلان ولم يقل لا حق لي فيه فإن قال لا حق لي فيه ثم ادعى الشراء بعد ذلك لا تسمع دعواه لأن قوله لا حق لي فيه لتأكيد البراءة إلا إذا تبين أنه اشتراه بعد الإقرار فتسمع لما قلنا ولو ادعى على رجل دينا فقال المدعى عليه لم يكن لك علي شيء قط فأقام المدعي البينة وقضى القاضي بذلك ثم أقام المدعى عليه البينة أنه كان قد قضاه إياه تسمع دعواه وتقبل بينته لجواز أنه لم يكن عليه شيء وإنما قضاه إياه لدفع الدعوى الباطلة. ولو قال لم يكن لك علي شيء ولا أعرفك فأقام المدعي البينة وقضى القاضي ببينته ثم أقام المدعى عليه البينة أنه كان قضاه لا تسمع دعواه ولا تقبل بينته لأن قوله لا أعرفك يناقض دعوى القضاء لأن الظاهر أنه لا يقضي إلا بعد معرفته إياه فكان في دعوى القضاء مناقضا فلا تسمع ولو ادعى على رجل أنه اشترى منه عبدا بعينه والعبد في يد البائع فأنكر البائع البيع فأقام المشتري البينة وقضى القاضي به ثم وجد به عيبا فأراد أن يرده على البائع فأقام البائع البينة على أن المشتري كان أبرأه عن كل عيب لم تسمع دعواه ولا تقبل بينته لأن إنكار البيع يناقض دعوى الإبراء عن العيب لأن الإبراء يقتضي وجود البيع فكان مناقضا في دعوى الإبراء فلا تسمع وعلى هذا مسائل والأصل في هذا الباب أنه إذا سبق من المدعي ما يناقض دعواه يمنع صحة الدعوى إلا في النسب والعتق فإن التناقض فيهما غير معتبر بأن قال لمجهول النسب هو ابني من الزنا ثم قال هو ابني من النكاح تسمع دعواه وكذا مجهول النسب إذا أقر بالرق لرجل ثم ادعى أنه حر الأصل تسمع دعواه حتى تقبل بينته لأن بيان النسب مبني على أمر خفي وهو العلوق منه إذ هو مما يغلب خفاؤه على الناس فالتناقض في مثله غير معتبر كما إذا اختلعت امرأة زوجها على مال ثم ادعت أنه كان طلقها ثلاثا قبل الخلع وأقامت البينة على ذلك تسمع دعواها وتقبل بينتها لما قلنا كذا هذا وكذا الرق والحرية ومنها أن يكون المدعى مما يحتمل للثبوت لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة تكون دعوى كاذبة حتى لو قال لمن لا يولد مثله لمثله هذا ابني لا تسمع دعواه لاستحالة أن يكون الأكبر سنا ابنا لمن هو أصغر سنا منه وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير هذا ابني والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان حد المدعي والمدعى عليه فقد اختلفت عبارات المشايخ في تحديدهما قال بعضهم المدعي من إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها والمدعى عليه من إذا ترك الجواب يجبر عليه وقال بعضهم المدعي من يلتمس قبل غيره لنفسه عينا أو دينا أو حقا والمدعى عليه من يدفع ذلك عن نفسه وقال بعضهم ينظر إلى المتخاصمين أيهما كان منكرا فالآخر يكون مدعيا وقال بعضهم المدعي من يخبر عما في يد غيره لنفسه والمدعى عليه من يخبر عما في يد نفسه لنفسه فينفصلان بذلك عن الشاهد والمقر والشاهد من يخبر عما في يد غيره لغيره والمقر من يخبر عما في يد نفسه لغيره.

 

ج / 6 ص -225-       يحتمل التحليف فإن سكت عن الجواب يأتي حكمه إن شاء الله تعالى في الفصل الذي يليه.

"فصل": وأما حجة المدعي والمدعى عليه فالبينة حجة المدعي واليمين حجة المدعى عليه لقوله عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" جعل عليه الصلاة والسلام البينة حجة المدعي واليمين حجة المدعى عليه والمعقول كذلك لأن المدعي يدعي أمرا خفيا فيحتاج إلى إظهاره وللبينة قوة الإظهار لأنها كلام من ليس بخصم فجعلت حجة المدعي واليمين. وإن كانت مؤكدة بذكر اسم الله عز وجل لكنها كلام الخصم فلا تصلح حجة مظهرة للحق وتصلح حجة المدعى عليه لأنه متمسك بالظاهر وهو ظاهر اليد فحاجته إلى استمرار حكم الظاهر واليمين وإن كانت كلام الخصم فهي كاف للاستمرار فكان جعل البينة حجة المدعي وجعل اليمين حجة المدعى عليه وضع الشيء في موضعه وهو حد الحكمة. وعلى هذا يخرج القضاء بشاهد واحد ويمين من المدعي أنه لا يجوز عندنا خلافا للشافعي رحمه الله احتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه قضى بشاهد ويمين" ولأن الشهادة إنما كانت حجة المدعي لكونها مرجحة جنسية الصدق على جنسية الكذب في دعواها الرجحان فكما يقع بالشهادة يقع باليمين فكانت اليمين في كونها حجة مثل البينة فكان ينبغي أن يكتفي بها إلا أنه ضم إليها الشهادة نفيا للتهمة "ولنا" الحديث المشهور والمعقول. ووجه الاستدلال به من وجهين أحدهما أن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب اليمين على المدعى عليه ولو جعلت حجة المدعي لا تبقى واجبة على المدعى عليه وهو خلاف النص والثاني أنه عليه الصلاة والسلام جعل كل جنس اليمين حجة المدعى عليه لأنه عليه الصلاة والسلام ذكر اليمين فاللام التعريف فيقتضي استغراق كل الجنس فلو جعلت حجة المدعي لا يكون كل جنس اليمين حجة المدعى عليه بل يكون من الأيمان ما ليس بحجة له وهو يمين المدعي وهذا خلاف النص وأما الحديث فقد طعن فيه يحيى بن معين وقال لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء بشاهد ويمين وكذا روي عن الزهري لما سئل عن اليمين مع الشاهد فقال بدعة وأول من قضى بهما معاوية رضي الله عنه وكذا ذكر ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح أنه قال كان القضاء الأول أن لا يقبل إلا شاهدان وأول من قضى باليمين مع الشاهد عبد الملك بن مروان مع ما أنه ورد مورد الآحاد ومخالفا للمشهور فلا يقبل وإن ثبت أنه قضى بشاهد ويمين أما ليس فيه أنه فيه قضى وقد روي عن بعض الصحابة أنه قضى بشاهد ويمين في الأمان وعندنا يجوز القضاء في بعض أحكام الأمان بشاهد واحد إذا كان عدلا بأن شهد أنه أمن هذا الكافر تقبل شهادته حتى لا يقتل لكن يسترق واليمين من باب ما يحتاط فيه فحمل على هذا توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض وبهذا يتبين بطلان مذهب الشافعي رحمه الله في رده اليمين إلى المدعي عند نكول المدعى عليه لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما جعل اليمين حجة إلا في جانب المدعى عليه فالرد إلى المدعي يكون وضع الشيء في غير موضعه. وهذا حد الظلم وعلى هذا يخرج مسألة الخارج مع ذي اليد إذا أقاما البينة أنه لا تقبل بينة ذي اليد لأنها جعلت حجة للمدعي وذو اليد ليس بمدع بل هو مدعى عليه فلا تكون البينة حجة له فالتحقت بينته بالعدم فخلت بينة المدعي عن المعارض فيعمل بها وقد تخرج المسألة على أصل آخر نذكره في موضعه إن شاء الله وإذا عرفت أن البينة حجة المدعي واليمين حجة المدعى عليه فلا بد من معرفة علائقهما وعلائق البينة قد مر ذكرها في كتاب الشهادات. ونذكر هنا علائق اليمين فنقول وبالله التوفيق الكلام في اليمين في مواضع في بيان أن اليمين واجبة وفي بيان شرائط الوجوب وفي بيان الوجوب وفي بيان كيفية الوجوب وفي بيان حكم أدائه وفي بيان حكم الامتناع عن تحصيل الواجب أما دليل الوجوب فالحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وعلى كلمة إيجاب. وأما شرائط الوجوب فأنواع منها الإنكار لأنها وجبت للحاجة إلى دفع التهمة وهي تهمة الكذب في الإنكار فإذا كان مقرا لا حاجة لأن الإنسان لا يتهم في الإقرار على نفسه ثم الإنكار نوعان نص ودلالة أما النص فهو صريح الإنكار وأما الدلالة فهو السكوت عن جواب المدعي عن غير آفة لأن الدعوى أوجبت الجواب عليه والجواب نوعان إقرار وإنكار فلا بد من حمل السكوت على

 

ج / 6 ص -226-       أحدهما والحمل على الإنكار أولى لأن العاقل المتدين لا يسكت عن إظهار الحق المستحق لغيره مع قدرته عليه وقد يسكت عن إظهار الحق لنفسه مع قدرته عليه فكان حمل السكوت على الإنكار أولى فكان السكوت إنكارا دلالة ولو لم يسكت المدعى عليه ولم يقر ولكنه قال لا أقر ولا أنكر وأصر على ذلك اختلف المشايخ فيه قال بعضهم هذا إنكار. وقال بعضهم هذا إقرار والأول أشبه لأن قوله لا أنكر إخبار عن السكوت عن الجواب والسكوت إنكار على ما مر ومنها الطلب من المدعي لأنها وجبت على المدعى عليه حقا للمدعي وحق الإنسان قبل غيره واجب الإيفاء عند طلبه, ومنها عدم البينة الحاضرة عند أبي حنيفة وعندهما ليس بشرط حتى لو قال المدعي لي بينة حاضرة ثم أراد أن يحلف المدعى عليه ليس له ذلك عنده وعندهما له ذلك وجه قولهما أن اليمين حجة المدعي كالبينة ولهذا لا تجب إلا عند طلبه فكان له ولاية استيفاء أيهما شاء ولأبي حنيفة أن البينة في كونها حجة المدعي كالأصل لكونها كلام غير الخصم واليمين كالخلف عليها لكونها كلام الخصم فلهذا لو أقام البينة ثم أراد استحلاف المدعى عليه ليس له ذلك والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف ومنها أن لا يكون المدعى حقا لله عز وجل خالصا فلا يجوز الاستحلاف في الحدود الخالصة حقا لله عز وجل كحد الزنا والسرقة والشرب لأن الاستحلاف لأجل النكول ولا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لأنه بذل عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إقرار فيه شبهة العدم والحدود لا تحتمل البذل ولا تثبت بدليل فيه شبهة لهذا لا تثبت بشهادة النساء والشهادة على الشهادة إلا أن في السرقة يحلف على أخذ المال وكذا لا يمين في اللعان لأنه جار مجرى الحد وأما حد القذف فيجري فيه الاستحلاف في ظاهر الرواية لأنه ليس من الحدود المتمحضة حقا لله تعالى بل يشوبه حق العبد فأشبه التعزير. وفي التعزير يحلف كذا هذا ويجري الاستحلاف في القصاص في النفس والطرف لأن القصاص خالص حق العبد ومنها أن يكون المدعى محتملا للإقرار به شرعا بأن كان لو أقر به لصح إقراره به فإن لم يكن لم يجر فيه الاستحلاف حتى أن من ادعى على رجل أنه أخوه ولم يدع في يده ميراثا فأنكر لا يحلف لأنه لو أقر له بالأخوة لم يجز إقراره لكونه إقرارا على غيره وهو أبوه ولو ادعى أنه أخوه وأن في يده مالا من تركة أبيه وهو مستحق لنصفه بإرثه من أبيه فأنكر يحلف لأجل الميراث لا للأخوة لأنه لو أقر أنه أخوه صح إقراره في حق الإرث حتى يؤمر بتسليم نصف الميراث إليه ولم يصح في حق النسب حتى لا يقضى بأنه أخوه وعلى هذا عبد في يد رجل ادعاه رجلان فأقر به لأحدهما وسلم القاضي العبد إليه فقال الآخر لا بينة لي وطلب من القاضي تحليف المقر لا يحلفه في عين العبد لأنه لو أقر به لكان إقراره باطلا فإذا أنكر لا يحلف إلا أن يقول الذي لم يقر له أنك أتلفت علي العبد بإقرارك به لغيري فاضمن قيمته لي يحلف المقر بالله تعالى ما عليه رد قيمة ذلك العبد على هذا المدعي ولا رد شيء منها لأنه لو أقر بإتلافه لصح وضمن القيمة فإذا أنكر يستحلفه ولو ادعى رجل أنه زوجه ابنته الصغيرة وأنكر الأب لا يحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لطريقين أحدهما أنه لو أقر به لا يصح إقراره به عنده فإذا أنكر لا يستحلف والثاني أن الاستحلاف لا يجري في النكاح وعندهما يجري لكن عند أبي يوسف يحلف على السبب وعند محمد على الحاصل والحكم على ما نذكره في موضعه هذا إذا كانت صغيرة عند الدعوى فإن كانت كبيرة وادعى أن أباها زوجها إياه في صغرها لا يحلف عند أبي حنيفة لما قلنا من الطريقين وعندهما لا يحلف أيضا لأحد طريقين وهو أنه لو أقر عليها في الحال لا يصح إقراره ولكن تحلف المرأة عندهما لأنها لو أقرت لصح إقرارها وعندهما الاستحلاف يجري فيه لكن عند أبي يوسف تحلف على السبب بالله عز وجل ما تعلم أن أباها زوجها وهي صغيرة إلا عند التعرض فتحلف على الحكم كما قال محمد ولو ادعت امرأة على رجل أنه زوجها عبده فأنكر المولى لا يحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لطريقين أحدهما أنه لو أقر عليه لا يصح إقراره والثاني أنه لا استحلاف في النكاح عنده وعندهما لا يحلف أيضا لكن لطريق واحد وهو أنه لو أقر عليه لا يصح إقراره ولو ادعى رجل على رجل أنه زوجه أمته لا يحلف المولى عند أبي حنيفة وعندهما يحلف لطريق واحد وهو أن

 

ج / 6 ص -227-       الاستحلاف لا يجري في النكاح عنده وعندهما يجري ومنها أن يكون المدعى مما يحتمل البذل عند أبي حنيفة مع كونه محتملا للإقرار وعندهما أن يكون مما يحتمل الإقرار سواء احتمل البذل أو لا وعلى هذا يخرج اختلافهم في الأشياء السبعة أنها لا يجري فيها الاستحلاف عند أبي حنيفة وهي النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والنسب والرق والولاء والاستيلاد أما النكاح فهو أن يدعي رجل على امرأة أنها امرأته أو تدعي امرأة على رجل أنه زوجها ولا بينة للمدعي وطلب يمين المنكر وأما الرجعة فهو أن يقول الزوج للمطلقة بعد انقضاء عدتها قد كنت راجعتك وأنكرت المرأة وعجز الزوج عن إقامة البينة فطلب يمينها وأما الفيء في الإيلاء فهو أن يكون الرجل آلى من امرأته ومضت أربعة أشهر فقال قد كنت فئت إليك بالجماع فلم تبيني فقالت لم تفئ إلي ولا بينة للزوج فطلب يمينها وأما النسب فنحو أن يدعي على رجل أنه أبوه أو ابنه فأنكر الرجل ولا بينة له وطلب يمينه وأما الرق فهو أن يدعي على رجل أنه عبده فأنكر وقال أنه حر الأصل لم يجر عليه رق أبدا ولا بينة للمدعي فطلب يمينه وأما الولاء فإنه يدعي على امرأة أنه أعتق أباها وأن أباها مات وولاؤه بينهما نصفان فأنكرت أن يكون أعتقه وأن يكون ولاؤه ثابتا منه ولا بينة للمدعي فطلب يمينها على ما أنكرت من الولاء وأما الاستيلاد فهو أن تدعي أمة على مولاها فتقول أنا أم ولد لمولاي وهذا ولدي فأنكر المولى لا يجري الاستحلاف في هذه المواضع السبعة عند أبي حنيفة وعندهما يجري والدعوى من الجانبين تتصور في الفصول الستة وفي الاستيلاد لا يتصور إلا من جانب واحد وهو جانب الأمة فأما جانب المولى فلا تتصور الدعوى لأنه لو ادعى لثبت بنفس الدعوى وهذا بناء على ما ذكرنا أن النكول بذل عنه وهذه الأشياء لا تحتمل البذل وعندهما إقرار فيه شبهة وهذه الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة وجه قولهما أن نكول المدعى عليه دليل كونه كاذبا في إنكاره لأنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين الصادقة فكان النكول إقرارا دلالة إلا أنه دلالة قاصرة فيها شبهة العدم وهذه الأشياء تثبت بدليل قاصر فيه شبهة العدم ألا ترى أنها تثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين "ولأبي حنيفة" أن النكول يحتمل الإقرار لما قلتم ويحتمل البذل لأن العاقل الدين كما يتحرج عن اليمين الكاذبة يتحرج عن التغيير والطعن باليمين ببذل المدعي إلا أن حمله على البذل أولى لأنا لو جعلناه إقرارا لكذبناه لما فيه من الإنكار ولو جعلناه بذلا لم نكذبه لأنه يصير في التقدير كأنه قال ليس هذا لك ولكني لا أمنعك عنه ولا أنازعك فيه فيحصل المقصود من غير حاجة إلى التكذيب وإذا ثبت أن النكول بذل وهذه الأشياء لا تحتمل البذل فلا تحتمل النكول فلا تحتمل التحليف لأنه إنما يستحلف المدعي لينكل المدعى عليه فيقضي عليه فإذا لم يحتمل النكول لا يحتمل التحليف.

"فصل": وأما بيان كيفية اليمين فالكلام فيه يتعلق بموضعين "أحدهما" في بيان صفة التحليف نفسه أنه كيف يحلف والثاني في بيان صفة المحلوف عليه أنه على ماذا يحلف "أما الأول" فالأمر لا يخلو إما أن كان الحالف مسلما وإما أن كان كافرا فإن كان مسلما فيحلفه القاضي بالله تعالى إن شاء من غير تغليظ لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف يزيد بن ركانة أو ركانة بن عبد يزيد بالله عز وجل ما أردت بالبتة ثلاثا" وإن شاء غلظ لأن الشرع ورد بتغليظ اليمين في الجملة فإنه روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف ابن صوريا الأعور وغلظ فقال عليه الصلاة والسلام الذي أنزل التوراة على سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام أن حد الزنا في كتابكم هذا". وقال مشايخنا ينظر إلى حال الحالف إن كان ممن لا يخاف منه الاجتراء على الله تعالى باليمين الكاذبة يكتفي فيه بالله عز وجل من غير تغليظ وإن كان ممن يخاف منه ذلك تغلظ لأن من العوام من لا يبالي عن الحلف بالله عز وجل كاذبا فإذا غلظ عليه اليمين يمتنع وقال بعضهم إن كان المال المدعى يسيرا يكتفي فيه بالله عز وجل وإن كان كثيرا يغلظ وصفة التغليظ أن يقول والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ونحو ذلك مما يعد تغليظا في اليمين. وإن كان الحالف كافرا فإنه يحلف بالله عز وجل أيضا ذميا كان أو مشركا لأن المشركين لا ينكرون الصانع قال الله تبارك وتعالى جل شأنه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ

 

ج / 6 ص -228-       خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فيعظمون اسم الله تعالى عز شأنه ويعتقدون حرمة الإله إلا الدهرية والزنادقة وأهل الإباحة. وهؤلاء أقوام لم يتجاسروا على إظهار نحلتهم في عصر من الأعصار إلى يومنا هذا ونرجو من فضل الله عز وجل على أمة حبيبه صلى الله عليه وسلم أن لا يقدرهم على إظهار ما انتحلوه إلى انقضاء الدنيا وإن رأى القاضي ما يكون تغليظا في دينه فعل لما روينا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلظ على ابن صوريا" دل أن كل ذلك سائغ فيغلظ على اليهودي بالله تعالى عز وجل الذي أنزل التوراة على سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وعلى النصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وعلى المجوسي بالله الذي خلق النار ولا يحلف على الإشارة إلى مصحف معين بأن يقول بالله الذي أنزل هذا الإنجيل أو هذه التوراة لأنه قد ثبت تحريف بعضها فلا يؤمن أن تقع الإشارة إلى المحرف فيكون التحليف به تعظيما لما ليس بكلام الله عز وجل ولا يبعث هؤلاء إلى بيوت عبادتهم من البيعة والكنيسة وبيت النار لأن فيه تعظيم هذه المواضع وكذا لا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان ولا مكان عندنا وقال الشافعي رحمه الله إن كان بالمدينة يحلف عند المنبر وإن كان بمكة يحلف عند الميزاب ويحلف بعد العصر والصحيح قولنا لما روينا من الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" مطلقا عن الزمان والمكان وروي أنه اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار إلى مروان بن الحكم فقضى على زيد ابن ثابت باليمين عند المنبر فقال له زيد أحلف له مكاني فقال له مروان لا والله إلا عند مقاطع الحقوق فجعل زيد يحلف أن حقه لحق وأبى أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب من ذلك ولو كان ذلك لازما لما احتمل أن يأباه زيد بن ثابت ولأن تخصيص التحليف بمكان وزمان تعظيم غير اسم الله تبارك وتعالى وفيه معنى الإشراك في التعظيم والله عز وجل أعلم. "وأما" بيان صفة المحلوف عليه أنه على ماذا يحلف فنقول الدعوى لا تخلو إما إن كانت مطلقة عن سبب وإما إن كانت مقيدة بسبب فإن كانت مطلقة عن سبب بأن ادعى عبدا أو جارية أو أرضا وأنكر المدعى عليه فلا خلاف في أنه يحلف على الحكم وهو ما وقع فيه الدعوى فيقال بالله ما هذا العبد أو الجارية أو الأرض لفلان هذا ولا شيء منه وإن كانت مقيدة بسبب بأن ادعى أنه أقرضه ألفا أو غصبه ألفا أو أودعه ألفا وأنكر المدعى عليه فقد اختلف أبو يوسف ومحمد في أنه يحلف على السبب أو على الحكم قال أبو يوسف يحلف على السبب بالله ما استقرضت منه ألفا أو ما غصبته ألفا أو ما أودعني ألفا إلا أن يعرض المدعى عليه ولا يصرح فيقول قد يستقرض الإنسان وقد يغصب وقد يودع ولا يكون عليه لما أنه أبرأه عن ذلك أو رد الوديعة وأنا لا أبين ذلك لئلا يلزمني شيء فحينئذ يحلف على الحكم وقال محمد يحلف على الحكم من الابتداء بالله ما له عليك هذه الألف التي ادعى. "وجه" قول محمد أن التحليف على السبب تحليف على ما لا يمكنه الحلف عليه عسى لجواز أنه وجد منه السبب ثم ارتفع بالإبراء أو بالرد فلا يمكنه الحلف على نفي السبب ويمكنه الحلف على نفي الحكم على كل حال فكان التحليف على الحكم أولى "وجه" قول أبي يوسف ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف اليهود بالله" وفي باب القسامة على السبب فقال عليه الصلاة والسلام: "بالله ما قتلتموه ولا علمتم له قاتلا" فيجب الاقتداء به ولأن الداخل تحت الحلف ما هو الداخل تحت الدعوى والداخل تحت الدعوى في هذه الصورة مقصودا هو السبب فيحلف عليه فبعد ذلك إن أمكنه الحلف على السبب حلف عليه وإن لم يمكنه وعرض فحينئذ يحلف على الحكم وعلى هذا الخلاف دعوى الشراء إذا أنكر المدعى عليه فعند أبي يوسف يحلف على السبب بالله عز وجل ما بعته هذا الشيء إلا أن يعرض الخصم والتعريض في هذا أن يقول قد يبيع الرجل الشيء ثم يعود إليه بهبة أو فسخ أو إقالة أو رد بعيب أو خيار شرط أو خيار رؤية وأنا لا أبين ذلك كي لا يلزمني شيء فحينئذ يحلف على الحكم بالله تعالى ما بينكما بيع قائم أو شراء قائم بهذا السبب الذي يدعي وهكذا يحلف على قول محمد وعلى هذا دعوى الطلاق بأن ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها ثلاثا أو خالعها على كذا وأنكر الزوج ذلك يحلف على السبب عند أبي يوسف بالله عز وجل ما طلقها ثلاثا أو ما خالعها إلا أن يعرض الزوج فيقول الإنسان قد يخالع

 

ج / 6 ص -229-       امرأته ثم تعود إليه وقد يطلقها ثلاثا ثم تعود إليه بعد زوج آخر فحينئذ يحلف بالله عز وجل ما هي حرام عليك بثلاث تطليقات أو بالله عز وجل ما هي مطلقة منك ثلاثا أو ما هي حرام عليك بالخلع أو ما هي بائن منك ونحو ذلك من العبارات. وهكذا يحلف على قول محمد وعلى هذا دعوى العتاق في الأمة بأن ادعت أمة على مولاها أنه أعتقها وهو منكر عند أبي يوسف يحلف المولى على السبب بالله عز وجل ما أعتقها إلا أن يعرض لأنه يتصور النقض في هذا والعود إليه بأن ارتدت المرأة ولحقت بدار الحرب ثم سباها أو سباها غيره فاشتراها فحينئذ يحلف كما قاله محمد ولو كان الذي يدعي العتق هو العبد فيحلف على السبب بلا خلاف بالله عز وجل ما أعتقه في الرق القائم للحال في ملكه لانعدام تصور التعريض لأن العبد المسلم لا يحتمل السبي بعد العتق حتى لو كان العبد لم يعرف مسلما أو كان كافرا يحلف عند محمد على الحكم لاحتمال العود إلى الرق لأن الذمي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب ثم سبي يسترق بخلاف المسلم فإنه يجبر على الإسلام ويقتل إن أبى ولا يسترق وعلى هذا دعوى النكاح وهو تفريع على قولهما لأن أبا حنيفة لا يرى الاستحلاف فيه فيقول الدعوى لا تخلو إما أن تكون من الرجل أو من المرأة فإن كانت من الرجل وأنكرت المرأة النكاح فعند أبي يوسف يحلف على السبب إلا أن يعرض لاحتمال الطلاق والفرقة بسبب ما فحينئذ يحلف على الحكم بالله عز وجل ما بينكما نكاح قائم كما هو قول محمد. وأما عند أبي حنيفة لو قال الزوج أنا أريد أن أتزوج أختها أو أربعا سواها فإن القاضي لا يمكنه من ذلك لأنه إقرار لهذه المرأة أنها امرأته فيقول له إن كنت تريد ذلك فطلق هذه ثم تزوج أختها أو أربعا سواها وإن كان دعوى النكاح من المرأة على رجل فأنكر فعند أبي يوسف يحلف على السبب إلا أن يعرض فيحلف على الحكم كما قاله محمد فأما عند أبي حنيفة لو قالت المرأة إني أريد أن أتزوج فإن القاضي لا يمكنها من ذلك لأنها قد أقرت أن لها زوجا فلا يمكنها من التزوج بزوج آخر فإن قالت ما الخلاص عن هذا وقد بقيت في عهدته أبد الدهر وليست لي بينة وهذه تسمى عهدة أبي حنيفة فإنه يقول القاضي للزوج طلقها فإن أبى أجبره القاضي عليه فإن قال الزوج لو طلقتها للزمني المهر فلا أفعل ذلك يقول له القاضي قل لها إن كنت امرأتي فأنت طالق فتطلق لو كانت امرأتك وإن لم تكن فلا ولا يلزمك شيء لأن المهر لا يلزم بالشك فإن أبى يجبره على ذلك فإذا فعل تخلص عن تلك العهدة ولو كانت الدعوى على إجارة الدار أو عبد أو دابة أو معاملة مزارعة فعند أبي يوسف يحلف على السبب إلا إذا عرض. وعند محمد يحلف على الحكم على كل حال وعند أبي حنيفة ما كان صحيحا وهو الإجارة يحلف وما كان فاسدا وهو المعاملة والمزارعة لا يحلف أصلا لأن الحلف بناء على الدعوى الصحيحة ولم تصح عنده ولو كانت الدعوى في القتل الخطإ بأن ادعى على رجل أنه قتل أباه خطأ وأنه وجبت الدية فأنكر المدعى عليه يحلف على السبب عند أبي يوسف بالله ما قتلت إلا إذا عرض وعند محمد على الحكم بالله ليس عليك الدية ولا على عاقلتك وإنما يحلف على هذا الوجه لاختلاف المشايخ في الدية في فصله الخطإ أنها تجب على العاقلة ابتداء أو تجب على القاتل ثم تتحمل عنه العاقلة فإن حلف برئ وإن نكل يقضي عليه بالدية في ماله على ما نذكر إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما حكم أدائه فهو انقطاع الخصومة للحال لا مطلقا بل موقتا إلى غاية إحضار البينة عند عامة العلماء. وقال بعضهم حكمه انقطاع الخصومة على الإطلاق وحتى لو أقام المدعي البينة بعد يمين المدعى عليه قبلت بينته عند العامة وعند بعضهم لا تقبل لأنه لو أقام البينة لا تبقى له ولاية الاستحلاف فكذا إذا استحلف لا يبقى له ولاية إقامة البينة والجامع أن حقه في أحدهما فلا يملك الجمع بينهما والصحيح قول العامة لأن البينة هي الأصل في الحجة لأنها كلام الأجنبي فأما اليمين فكالخلف عن البينة لأنها كلام الخصم صير إليها للضرورة فإذا جاء الأصل انتهى حكم الخلف فكأنه لم يوجد أصلا ولو قال المدعي للمدعى عليه احلف وأنت بريء من هذا الحق الذي ادعيته أو أنت بريء من هذا الحق ثم أقام البينة قبلت بينته لأن قوله أنت بريء يحتمل البراءة للحال أي بريء عن دعواه وخصومته للحال ويحتمل البراءة عن الحق فلا يجعل إبراء عن الحق بالشك والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 6 ص -230-       "فصل": وأما حكم الامتناع عن تحصيله فالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فإن كان ذلك في دعوى المال يقضى عليه بالمال عندنا لكن ينبغي للقاضي أن يقول له إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات فإن حلفت وإلا قضيت عليك لجواز أن يكون المدعى عليه ممن لا يرى القضاء بالنكول أو يكون عنده أن القاضي لا يرى القضاء بالنكول أو لحقه حشمة القضاة ومهابة المجلس في المرة الأولى فكان الاحتياط أن يقول له ذلك فإن نكل عن اليمين بعد العرض عليه ثلاثا فإن القاضي يقضي عليه عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يقضي بالنكول ولكن يرد اليمين إلى المدعي فيحلف فيأخذ حقه احتج الشافعي رحمه الله بقول النبي عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" جعل البينة حجة المدعي واليمين حجة المدعى عليه ولم يذكر عليه الصلاة والسلام النكول فلو كان حجة المدعي لذكره والمعقول أنه يحتمل أنه نكل لكونه كاذبا في الإنكار. فاحترز عن اليمين الكاذبة ويحتمل أنه نكل مع كونه صادقا في الإنكار تورعا عن اليمين الصادقة فلا يكون حجة القضاء مع الشك والاحتمال لكن يرد اليمين إلى المدعي ليحلف فيقضي له لأنه ترجح جنبه الصدق في دعواه بيمينه وقد ورد الشرع برد اليمين إلى المدعي فإنه روي أن سيدنا عثمان رضي الله عنه ادعى على المقداد مالا بين يدي سيدنا عمر رضي الله عنه فأنكر المقداد وتوجهت عليه اليمين فرد اليمين على سيدنا عثمان وسيدنا عمر جوز ذلك. "ولنا" ما روي أن شريحا قضى على رجل بالنكول فقال المدعى عليه أنا أحلف فقال شريح مضى قضائي وكان لا تخفى قضاياه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا منهم على جواز القضاء بالنكول ولأنه ظهر صدق المدعي في دعواه عند نكول المدعى عليه فيقضي له كما لو أقام البينة ودلالة الوصف أن المانع من ظهور الصدق في خبره إنكاره المدعى عليه وقد عارضه النكول لأنه كان صادقا في إنكاره لما نكل فزال المانع للتعارض فظهر صدقه في دعواه وقوله يحتمل أنه نكل تورعا عن اليمين الصادقة قلنا هذا احتمال نادر لأن اليمين الصادقة مشروعة فالظاهر أن الإنسان لا يرضى بفوات حقه تحرزا عن مباشرة أمر مشروع ومثل هذا الاحتمال ساقط الاعتبار شرعا ألا يرى أن البينة حجة القضاء بالإجماع وإن كانت محتملة في الجملة لأنها خبر من ليس بمعصوم عن الكذب لكن لما كان الظاهر هو الصدق سقط اعتبار احتمال الكذب كذا هذا وأما الحديث فنقول البينة حجة المدعي وهذا لا ينفي أن يكون غيرها حجة وقوله لو كان حجة لذكره قلنا يحتمل أنه لم يذكره لما قلتم ويحتمل أنه لم يذكره نصا مع كونه حجة تسليطا للمجتهدين على الاجتهاد ليعرف كونه حجة بالرأي والاستنباط فلا يكون حجة مع الاحتمال. وأما رد اليمين على المدعي فليس بمشروع لما قلنا من قبل وأما حديث المقداد فلا حجة فيه لأن فيه ذكر الرد من غير نكول المدعى عليه وهو خارج عن أقاويل الكل فكان مؤولا عند الكل ثم تأويله أن المقداد رضي الله عنه ادعى الإيفاء فأنكر سيدنا عثمان رضي الله عنه فتوجهت اليمين عليه ونحن به نقول هذا إذا نكل عن اليمين في دعوى المال فإن كان النكول في دعوى القصاص فنقول لا يخلو إما أن تكون الدعوى في القصاص في النفس وإما أن تكون فيما دون النفس فإن كان في النفس فعند أبي حنيفة لا يقضى فيه لا بالقصاص ولا بالمال لكنه يحبس حتى يقر أو يحلف أبدا وإن كان الدعوى في القصاص في الطرف فإنه يقضي بالقصاص في العمد وبالدية في الخطإ وعندهما لا يقضى بالقصاص في النفس والطرف جميعا ولكن يقضي بالأرش والدية فيهما جميعا بناء على أن النكول بذل عند أبي حنيفة رحمه الله والطرف يحتمل البذل والإباحة في الجملة فإن من وقعت في يده أكلة والعياذ بالله تعالى فأمر غيره بقطعها يباح له قطعها صيانة للنفس وبه تبين أن الطرف يسلك مسلك الأموال لأنه خلق وقاية للنفس كالمال فأما النفس فلا تحتمل البذل والإباحة بحال وكذا المباح له القطع إذا قطع لا ضمان عليه والمباح له القتل إذا قتل يضمن فكان الطرف جاريا مجرى المال بخلاف النفس فأمكن القضاء بالنكول في الطرف دون النفس فكان القياس أن لا يستحلف في النفس عنده كما لا يستحلف في الأشياء السبعة لأن الاستحلاف للتوسل إلى المقصود المدعي وهو إحياء حقه بالقضاء بالنكول ولا يقضي فيها بالنكول أصلا عنده فكان ينبغي أن لا يستحلف إلا أنه استحسن في الاستحلاف فيها لأن

 

ج / 6 ص -231-       الشرع ورد به في القسامة وجعله حقا مقصودا في نفسه تعظيما لأمر الدم وتفخيما لشأنه لكون اليمين الكاذبة مهلكة فصار بالنكول مانعا حقا مستحقا عليه مقصودا فيحبس حتى يقر أو يحلف بخلاف الأشياء السبعة فإن الاستحلاف فيها للتوسل إلى استيفاء المقصود بالنكول وأنه لا يقع وسيلة إلى هذا المقصود وعندهما النكول إقرار فيه شبهة العدم لأنه إقرار بطريق السكوت وأنه محتمل والقصاص يدرأ بالشبهات وإذا سقط القصاص للشبهة يجب المال بخلاف شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة أنها لا تقبل في باب القصاص أصلا لأن التعذر هناك من جهة من له القصاص وهو عدم الإتيان بحجة مظهرة للحق وهي شهادة شهود أصول مذكور والتعذر هنا من جهة من عليه القصاص وهو عدم التنصيص على الإقرار والأصل أن القصاص إذا بطل من جهة من له القصاص لا تجب الدية وإذا بطل من جهة من عليه تجب الدية وأما في دعوى السرقة إذا حلف على المال ونكل يقضى بالمال لا بالقطع لأن النكول حجة في الأموال دون الحدود الخالصة وأما في حد القذف إذا استحلف على ظاهر الرواية فكل يقضي بالحد في ظاهر الأقاويل لأنه بمنزلة القصاص في الطرف عند أبي حنيفة وعندهما بمنزلة التعزير وقال بعضهم هو بمنزلة سائر الحدود لا يقضى فيه بشيء ولا يحلف لأنه حد وقيل يحلف ويقضى فيه بالتعزير دون الحد كما في السرقة يحلف ويقضى بالمال دون القطع والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان ما تندفع به الخصومة عن المدعى عليه ويخرج عن كونه خصما للمدعي فنقول وبالله التوفيق أنه يخرج عن كونه خصما للمدعي بكون يده غير يد المالك وذلك يعرف بالبينة أو بالإقرار أو بعلم القاضي نحو ما إذا ادعى على رجل دارا أو ثوبا أو دابة فقال الذي في يده هو ملك فلان الغائب أودعنيه وجملة الكلام فيه أن المدعي لا يخلو إما أن يدعي عليه ملكا مطلقا ولم يدع عليه فعلا أو يدعي عليه فعلا فإن ادعى ملكا مطلقا ولم يدع عليه فعلا فقال الذي في يده أودعنيها فلان الغائب أو رهنها أو آجرها أو أعارها أو غصبتها أو سرقتها أو أخذتها أو انتزعتها أو ضلت منه فوجدتها وأقام البينة على ذلك تندفع عنه الخصومة عند عامة العلماء. وقال ابن أبي ليلى تندفع عنه الخصومة أقام البينة أو لم يقم وقال ابن شبرمة لا تندفع عنه الخصومة أقام البينة أو لم يقم هذا إذا لم يكن الرجل معروفا بالافتعال والاحتيال فإن كان تندفع عنه الخصومة عند أبي حنيفة ومحمد أيضا وعند أبي يوسف لا تندفع وهي المسألة المعروفة بالمخمسة والحجج تعرف في الجامع وكذلك لو ادعى لنفسه والفعل على غير ذي اليد بأن قال هذا ملكي غصبه مني فلان لأنه لم يدع على ذي اليد فعلا فصار في حق ذي اليد دعوى مطلقة فكان على الخلاف الذي ذكرنا فأما إذا ادعى فعلا على ذي اليد بأن قال هذه داري أو دابتي أو ثوبي أودعتكها أو غصبتنيها أو سرقتها أو استأجرتها أو ارتهنتها مني وقال الذي في يديه إنها لفلان الغائب أودعنيها أو غصبتها منه ونحو ذلك وأقام البينة على ذلك لا تندفع عنه الخصومة ووجه الفرق أن ذا اليد في دعوى الملك المطلق إنما يكون خصما بيده ألا ترى أنه لو لم يكن المدعي في يده لم يكن خصما فإذا أقام البينة على أن اليد لغيره كان الخصم ذلك الغير وهو غائب فأما في دعوى الفعل فإنما يكون خصما بفعله لا بيده ألا ترى أن الخصومة متوجهة عليه بدون يده وإذا كان خصما بفعله بالبينة لا يتبين أن الفعل منه لم يكن فبقي خصما ولو ادعى فعلا لم يسم فاعله بأن قال غصبت مني أو أخذت مني فأقام ذو اليد البينة على الإيداع تندفع الخصومة لأنه ادعى الفعل على مجهول وأنه باطل فالتحق بالعدم فبقي دعوى ملك مطلق فتندفع الخصومة لأنه ادعى الفعل على مجهول وأنه باطل فالتحق بالعدم فبقي دعوى ملك مطلق فتندفع الخصومة. ولو قال سرق مني فالقياس أن تندفع الخصومة كما في الغصب والأخذ وهو قول محمد وزفر وفي الاستحسان لا تندفع فرقا بين الغصب والأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ووجه الفرق يعرف في الجامع ولو قال المدعي هذه الدار كانت لفلان فاشتريتها منه وقال الذي في يده أودعني فلان الذي ادعيت الشراء من جهته أو سرقتها منه أو غصبتها تندفع عنه الخصومة من غير إقامة البينة على ذلك لأنه ثبت كون يده يد غيره بتصادقهما أما المدعى عليه فظاهر وأما المدعي فبدعواه الشراء منه لأن الشراء منه لا يصح بدون

 

ج / 6 ص -232-       اليد وكذا لو أقام الذي في يديه البينة على إقرار المدعي بذلك لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا إقراره لاندفعت الخصومة كذا هذا وكذلك إذا علم القاضي بذلك لأن العلم المستفاد له في زمان القضاء فوق الإقرار لكونه حجة متعدية إلى الناس كافة بمنزلة البينة وكون الإقرار حجة مقتصرة على المقر خاصة ثم لما اندفعت الخصومة بإقرار المدعي فبعلم القاضي أولى ولو قال الذي في يديه ابتعته من فلان الغائب لا تندفع الخصومة لأنه ادعى الملك واليد لنفسه وهذا مقر بكونه خصما فكيف تندفع الخصومة ولو أقام المدعي البينة أنه ابتاعه من عبد الله وقال الذي في يديه أودعنيه عبد الله ذلك تندفع الخصومة من غير بينة لأنهما تصادقا على الوصول إليه من يد عبد الله فأثبتا اليد له وهو غائب وعلى هذا الأصل مسائل كثيرة في الجامع والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم تعارض الدعوتين مع تعارض البينتين فالكلام فيه يقع في موضعين أحدهما في بيان حكم تعارض الدعوتين مع تعارض البينتين القائمتين على أصل الملك والثاني في بيان حكم تعارض البينتين القائمتين على قدر الملك أما الأول فالأصل أن البينتين إذا تعارضتا في أصل الملك من حيث الظاهر فإن أمكن ترجيح إحداهما على الأخرى يعمل بالراجح لأن البينة حجة من حجج الشرع والراجح ملحق بالمتيقن في أحكام الشرع وإن تعذر الترجيح فإن أمكن العمل بكل واحدة منهما من كل وجه وجب العمل به وإن تعذر العمل بهما من كل وجه وأمكن العمل بهما من وجه وجب العمل بهما لأن العمل بالدليلين واجب بقدر الإمكان وإن تعذر العمل بهما أصلا سقط اعتبارهما والتحقا بالعدم إذ لا حجة مع المعارضة كما لا حجة مع المناقضة. وجملة الكلام في هذا الفصل أن الدعوى ثلاثة أنواع: دعوى الملك ودعوى اليد ودعوى الحق, وزاد محمد مسائل الدعوى على دعوى الملك واليد والنسب "أما" دعوى الملك فلا تخلو إما أن تكون من الخارج على ذي اليد وإما أن تكون من الخارجين على ذي اليد "وإما" أن تكون من صاحبي اليد أحدهما على الآخر فإن كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد دعوى الملك وأقاما البينة فلا يخلو إما أن قامت البينتان على ملك مطلق عن الوقت وإما أن قامتا على ملك مؤقت وإما أن قامت إحداهما على ملك مطلق والأخرى على ملك مؤقت وكل ذلك لا يخلو إما أن كانت بسبب وإما أن كانت بغير سبب فإن قامتا على ملك مطلق عن الوقت فبينة الخارج أولى عندنا وعند الشافعي رحمه الله بينة ذي اليد أولى "وجه" قوله أن البينتين تعارضتا من حيث الظاهر وترجحت بينة ذي اليد باليد فكان العمل بها أولى ولهذا عمل ببينته في دعوى النكاح. "ولنا" أن البينة حجة المدعي لقوله عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي" وذو اليد ليس بمدع فلا تكون البينة حجته والدليل على أنه ليس بمدع ما ذكرنا من تحديد المدعي أنه اسم لمن يخبر عما في يد غيره لنفسه والموصوف بهذه الصفة هو الخارج لا ذو اليد لأنه يخبر عما في يد نفسه لنفسه فلم يكن مدعيا فالتحقت ببينته بالعدم فبقيت بينة الخارج بلا معارض فوجب العمل بها ولأن بينة الخارج أظهرت له سبق الملك فكان القضاء بها أولى كما إذا وقتت البينتان نصا ووقتت بينة الخارج دلالة ودلالة الوصف أنها أظهرت له سبق اليد لأنهم شهدوا له بالملك المطلق. ولا تحل لهم الشهادة بالملك المطلق إلا بعلمهم به ولا يحصل العلم بالملك إلا بعد العلم بدليل الملك ولا دليل على الملك المطلق سوى اليد فإذا شهدوا للخارج فقد أثبتوا كون المال في يده وكون المال في يد ذي اليد ظاهرا ثابت للحال فكانت يد الخارج سابقة على يده فكان ملكه سابقا ضرورة وإذا ثبت سبق الملك للخارج يقضي ببينته لأنه لما ثبت له الملك واليد في هذه العين في زمان سابق ولم يعرف لثالث فيها يد وملك علم أنها انتقلت من يده إليه فوجب إعادة يده ورد المال إليه حتى يقيم صاحب اليد الآخر الحجة أنه بأي طريق انتقل إليه كما إذا عاين القاضي كون المال في يد إنسان ويدعيه لنفسه ثم رآه في يد غيره فإنه يأمره بالرد إليه إذا أدعاه ذلك الرجل إلى أن يبين سببا صالحا للانتقال إليه وكذا إذا أقر المدعى عليه أن هذا المال كان في يد المدعي فإنه يؤمر بالرد إليه إلى أن يبين بالحجة طريقا صالحا للانتقال إليه كذلك هذا وصار كما إذا أرخا نصا وتاريخ أحدهما أسبق لأن هذا تاريخ من حيث المعنى بخلاف النتاج لأن هناك لم يثبت

 

ج / 6 ص -233-       سبق الخارج لانعدام تصور السبق والتأخير فيه لأن النتاج مما لا يحتمل التكرار فيطلب الترجيح من وجه آخر فتترجح بينة صاحب اليد باليد وهنا بخلافه هذا إذا قامت البينتان على ملك مطلق عن الوقت من غير سبب. فأما إذا قامتا على ملك موقت من غير سبب فإن استوى الوقتان يقضي للخارج لأنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض فبقي دعوى ملك مطلق وإن كان أحدهما أسبق من الآخر يقضى للأسبق وقتا أيهما كان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى وروى ابن سماعة عن محمد أنه رجع عن هذا القول عند رجوعه من الرقة وقال لا تقبل من صاحب اليد بينة على وقت وغيره إلا في النتاج والصحيح جواب ظاهر الرواية لأن بينة صاحب الوقت الأسبق أظهرت الملك له في وقت لا ينازعه فيه أحد فيدفع المدعي إلى أن يثبت بالدليل سببا للانتقال عنه إلى غيره وإن أقامت إحداهما على ملك مطلق والأخرى على ملك موقت من غير سبب لا عبرة للوقت عندهما ويقضي للخارج وعند أبي يوسف يقضى لصاحب الوقت أيهما كان وروي عن أبي حنيفة رحمه الله مثله "وجه" قول أبي يوسف أن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت خاص لا يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين بل تحتمل المعارضة وعدمها لأن الملك المطلق لا يتعارض للوقت فلا تثبت المعارضة بالشك ولهذا لو ادعى كل واحد من الخارجين على ثالث وأقام كل واحد منهما البينة أنه اشتراه من رجل واحد ووقتت بينة أحدهما وأطلقت الأخرى أنه يقضي لصاحب الوقت كذا هذا ولهما أن الملك احتمل السبق والتأخير لأن الملك المطلق يحتمل التأخير والسبق لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقتت بينته كان وقتها أسبق فوقع الاحتمال في سبق الملك الموقت فسقط اعتبار الوقت فبقي دعوى مطلق الملك فيقضى للخارج بخلاف الخارجين إذا ادعيا الشراء من رجل واحد لأن البائع إذا كان واحدا فقد اتفقا على تلقي الملك منه ببيعه وأنه أمر حادث وقد ظهر بالتاريخ أن شراء صاحب الوقت أسبق ولا تاريخ مع الآخر وشراؤه أمر حادث ولا يعلم تاريخه فكان صاحب التاريخ أولى هذا إذا قامت البينتان من الخارج وذي اليد على ملك مطلق أو موقت من غير سبب.
فأما إذا كان في دعوى ذلك بسبب فإن كان السبب هو الإرث فكذلك الجواب حتى لو قامت البينتان على ملك مطلق بسبب الإرث بأن أقام كل واحد منهما البينة على أنه ملكه مات أبوه وتركه ميراثا له يقضى للخارج بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله وكذلك إن قامتا على ملك موقت واستوى الوقتان لأنه سقط اعتبار الوقتين للتعارض فبقي دعوى مطلق الملك وإن كان أحدهما أسبق من الآخر يقضى لأسبقهما وقتا أيهما كان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد الأول وفي قول محمد الآخر يقضى للخارج لأن دعوى الإرث دعوى ملك الميت فكل واحدة من البينتين أظهرت ملك الميت لكن قام الوارث مقام الميت في ملك الميت فكأن الوارثين ادعيا ملكا مطلقا أو موقتا من غير سبب وهناك الجواب هكذا في الفصول كلها من الاتفاق والاختلاف إلا في فصل واحد وهو ما إذا قامت إحدى البينتين على ملك مطلق والأخرى على ملك موقت فإن هنا يقضى للخارج بالاتفاق ولا عبرة للوقت كما لا عبرة له في دعوى المورثين وهذا على أصل أبي حنيفة ومحمد يطرد على أصل أبي يوسف فيشكل وإن كان السبب هو الشراء بأن ادعى الخارج أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف درهم ونقده الثمن وادعى صاحب اليد أنه اشتراها من الخارج ونقده الثمن وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك فإن أقاما البينة على الشراء من غير وقت ولا قبض لا تقبل البينتان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ولا يجب لواحد منهما على صاحبه شيء ويترك المدعي في يد ذي اليد وعند محمد يقضى بالبينتين ويؤمر بتسليم المدعي إلى الخارج. "وجه" قول محمد أن التوفيق بين الدليلين واجب بقدر الإمكان وأمكن التوفيق هنا بين البينتين بتصحيح العقدين بأن يجعل كأن صاحب اليد اشتراه أولا من الخارج وقبضه ثم اشتراه الخارج من صاحب اليد ولم يقبضه حتى باعه من صاحب اليد فيوجد العقدان على الصحة لكن بتقدير تاريخ وقبض وفي هذا التقدير تصحيح العقدين فوجب القول به ولا وجه للقول بالعكس من ذلك بأن يجعل كأن الخارج اشترى أولا من صاحب اليد ولم يقبضه حتى باعه من صاحب اليد لأن

 

ج / 6 ص -234-       في هذا التقدير إفساد العقد الأخير لأنه بيع العقار المبيع قبل القبض وأنه غير جائز عنده فتعين تصحيح العقدين بالتقدير الذي قلنا وإذا صح العقدان يبقى المشترى في يد صاحب اليد فيؤمر بالتسليم إلى الخارج. "وجه" قول أبي يوسف وأبي حنيفة أن كل مشتر يكون مقرا بكون البيع ملكا للبائع فكان دعوى الشراء من كل واحد منهما إقرارا بملك المبيع لصاحبه فكان البينتان قائمتين على إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه وبين موجبي الإقرارين تناف فتعذر العمل بالبينتين أصلا وإن وقتت البينتان ووقت الخارج أسبق فإذا لم يذكروا قبضا يقضي بالدار لصاحب اليد عندهما وعند محمد يقضى للخارج لأن وقت الخارج إذا كان أسبق جعل كأنه اشترى الدار أولا ولم يقبضها حتى باعها من صاحب اليد عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد يقضى للخارج لأن وقت الخارج إذا كان أسبق جعل كأنه اشترى الدار أولا ولم يقبضها حتى باعها من صاحب اليد وبيع العقار قبل القبض لا يجوز عند محمد وإذا لم يجز بقي على ملك الخارج وعندهما ذلك جائز فصح البيعان ولو ذكروا القبض جاز البيعان ويقضى بالدار لصاحب اليد بالإجماع لأن بيع العقار بعد القبض جائز بلا خلاف فيجوز البيعان. "وأما" إذا كان وقت صاحب اليد أسبق ولم يذكروا قبضا يقضى بها للخارج لأنه إذا كان وقته أسبق يجعل سابقا في الشراء كأنه اشترى من الخارج وقبض ثم اشترى منه الخارج ولم يقبض فيؤمر بالدفع إليه وكذلك إن ذكروا قبضا لأنه يقدر كأنه اشترى من صاحب اليد أولا وقبض ثم اشترى الخارج منه وقبض ثم عادت إلى يد صاحب اليد بوجه آخر. وإن كان السبب هو النتاج وهو الولادة في الملك فنقول لا يخلو إما أن قامت البينتان على النتاج مطلقتين عن الوقت وإما أن وقتا وقتا فإن لم يوقتا وقتا يقضى لصاحب اليد لأن البينة القائمة على النتاج قائمة على أولية الملك وقد استوت البينتان في إظهار الأولية فتترجح بينة صاحب اليد باليد فيقضى ببينته وقد روي عن جابر رضي الله عنه "أن رجلا ادعى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نتاج ناقة في يد رجل وأقام البينة عليه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقة لصاحب اليد" وهذا ظاهر مذهب أصحابنا وقال عيسى بن أبان من أصحابنا: إنه لا يقضى لصاحب اليد بل تتهاتر البينتان ويترك المدعى في يد صاحب اليد قضاء ترك وهذا خلاف مذهب أصحابنا فإنه نص على لفظة القضاء والترك في يد صاحب اليد لا يكون قضاء حقيقة وكذا في الحديث الذي رويناه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قضى بذلك لصاحب اليد وكذلك في دعوى النتاج من الخارجين على ثالث يقضى بينهما نصفين ولا يترك في يد صاحب اليد دل أن ما ذكره خلاف مذهب أصحابنا. ولو أقام أحدهما البينة على النتاج والآخر على الملك المطلق عن النتاج فبينة النتاج أولى لما قلنا إنها قامت على أولية الملك لصاحبه فلا تثبت لغيره إلا بالتلقي منه وأما إن وقتت البينتان فإن اتفق الوقتان فكذلك السقوط اعتبارهما للتعارض فبقي دعوى الملك المطلق وإن اختلفا بحكم سن الدابة فتقضى لصاحب الوقت الذي وافقه السن لأنه ظهر أن البينة الأخرى كاذبة بيقين هذا إذا علم سنها فأما إذا أشكل سقط اعتبار التاريخ لأنه يحتمل أن يكون سنها موافقا لهذا الوقت ويحتمل أن يكون موافقا لذلك الوقت ويحتمل أن يكون مخالفا لهما جميعا فيسقط اعتبارهما كأنهما سكتا عن التاريخ أصلا وإن خالف سنها الوقتين جميعا سقط الوقت كذا ذكره في ظاهر الرواية لأنه ظهر بطلان التوقيت فكأنهما لم يوقتا فبقيت البينتان قائمتين على مطلق الملك من غير توقيت وذكر الحاكم في مختصره أن في رواية أبي الليث تتهاتر البينتان قال وهو الصحيح. "ووجهه" أن سن الدابة إذا خالف الوقتين فقد تيقنا بكذب البينتين فالتحقتا بالعدم فيترك المدعي في يد صاحب اليد كما كان والجواب أن مخالفة السن الوقتين يوجب كذب الوقتين لا كذب البينتين أصلا ورأسا. وكذلك لو اختلفا في جارية فقال الخارج إنها ولدت في ملكي من أمتي هذه وقال صاحب اليد كذلك يقضى لصاحب اليد لما قلنا وكذلك لو اختلفا في الصوف والمرعزى وأقام كل واحد منهما البينة أنه له جزه في ملكه يقضى لصاحب اليد وكذلك لو اختلفا في الغزل وأقام كل واحد منهما البينة أنه له غزله

 

ج / 6 ص -235-       من قطن هو له يقضى لصاحب اليد والأصل أن المنازعة إذا وقعت في سبب ملك لا يحتمل التكرار كان بمنزلة النتاج فيقضى لصاحب اليد فإذا وقعت في سبب ملك يحتمل التكرار لا يكون في معنى النتاج ويقضى للخارج. وإن أشكل الأمر في الملك أنه يحتمل التكرار أو لا يقضى للخارج أيضا فعلى هذا إذا اختلفا في اللبن فأقام كل واحد منهما البينة أنه له حلب في يده وفي ملكه يقضى لصاحب اليد لأن اللبن الواحد لا يحتمل الحلب مرتين فكان في معنى النتاج وكذلك لو ادعى كل واحد منهما أن الشاة التي حلب منها اللبن نتجت عنده يقضى لصاحب اليد بالشاة واللبن جميعا وكذلك لو اختلفا في جبن وأقام كل واحد منهما البينة أنه له صنعه في ملكه يقضى لصاحب اليد لأن اللبن الواحد لا يحتمل أن يصنع جبنا مرتين فكان بمنزلة النتاج ولو اختلفا في الأرض والنخل وادعى كل واحد منهما أنه أرضه غرس النخل فيها يقضى بها للخارج لأن هذا ليس في معنى النتاج لأن النتاج سبب لملك الولد والغرس ليس بسبب لملك الأرض وكذا الغرس مما يحتمل التكرار فلم يكن في معنى النتاج وكذلك لو اختلفا في الحبوب النابتة والقطن الثابت ادعى كل واحد منهما أنه له زرعه في أرضه فإنه يقضى بالأرض والحب والقطن للخارج وكذلك لو اختلفا في البناء ادعى كل واحد منهما أنه بني على أرضه لما قلنا ولو اختلفا في حلي مصوغ ادعى كل واحد منهما أنه صاغه في ملكه يقضى للخارج لأن الصياغة تحتمل التكرار فلم تكن في معنى النتاج ولو اختلفا في ثوب خز أو شعر وأقام كل واحد منهما البينة أنه له نسجه في ملكه فإن علم أن ذلك لا ينسج إلا مرة واحدة يقضى لصاحب اليد لأنه بمنزلة النتاج وإن علم أنه ينسج مرتين يقضى للخارج وكذا إن كان مشكلا وكذلك لو اختلفا في سيف مطبوع وادعى كل واحد منهما أنه طبع في ملكه يرجع في هذا إلى أهل العلم بذلك ولو اختلفا في جارية وأقام كل واحد منهما البينة أن أمها أمته وأنها ولدت هذه في ملكه يقضى بالجارية وبأمها للخارج لأن هذا ليس دعوى النتاج بل هو دعوى الملك المطلق وهو ملك الأم والبينة بينة الخارج في الملك المطلق فيقضى بالأم للخارج ثم يملك الولد بملك الأم وكذلك لو اختلفا في الشاة مع الصوف وأقام كل واحد منهما البينة أن هذه الشاة مملوكة له وأن هذا صوف هذه الشاة يقضى بالشاة والصوف للخارج لما قلنا شاتان إحداهما بيضاء والأخرى سوداء وهما في يد رجل فأقام الخارج البينة على أن الشاة البيضاء شاته ولدتها السوداء في ملكه وأقام صاحب اليد البينة على أن السوداء شاته ولدتها البيضاء في ملكه يقضى لكل واحد منهما بالشاة التي شهدت شهوده أنها ولدت في ملكه فيقضى للخارج بالبيضاء ولصاحب اليد بالسوداء لأن بينة الخارج قامت على النتاج في البيضاء وبينة ذي اليد قامت فيها على ملك مطلق فبينة النتاج أولى كذا بينة ذي اليد قامت على النتاج في السوداء وبينة الخارج فيها قامت على ملك مطلق فبينة النتاج أولى ولو اختلفا في اللبن الذي صنع منه الجبن فأقام كل واحد منهما البينة أن اللبن الذي صنع منه الجبن في ملكه فيقضى للخارج لأن البينة القائمة على ملك اللبن قائمة على ملك مطلق لا على أولية الملك فبينة الخارج أولى في دعوى الملك المطلق ولو ادعى عبدا في يد إنسان أنه اشتراه من فلان وأنه ولد في ملك الذي اشتراه منه وأقام ذو اليد البينة أنه اشتراه من رجل آخر وأنه ولد في ملكه يقضى لصاحب اليد لأن دعوى الولادة في ملك بائعه بمنزلة دعوى الولادة في ملكه لأنه تلقى الملك من جهته وهناك يقضى له كذا هذا وكذلك لو ادعى ميراثا أو هبة أو صدقة أو وصية وأنه ولد في ملك المورث والواهب والموصي فإنه يقضى لصاحب اليد لما قلنا ولو ادعى الخارج مع ذي اليد كل واحد منهما النتاج فقضى لصاحب اليد ثم جاء رجل وادعى النتاج وأقام البينة عليه يقضى له إلا أن يعيد صاحب اليد البينة على النتاج فيكون هو أولى لأن القضاء على المدعي الأول لا يكون قضاء على المدعي الثاني فلم يكن الثاني مقضيا عليه فتسمع البينة منه فرق بين الملك وبين العتق أن القضاء بالعتق على شخص واحد يكون قضاء على الناس كافة والقضاء بالملك على شخص واحد لا يكون قضاء على غيره وإن كانت بينة النتاج توجب الملك بصفة الأولية وأنه لا يحتمل التكرار كالعتق "ووجه" الفرق أن العتق حق الله تعالى ألا ترى أن العبد لا يقدر على إبطاله حتى لا يجوز استرقاق الحر برضاه ولو كان

 

ج / 6 ص -236-       حق العبد لقدر على إبطاله كالرق وإذا كان حق الله تعالى فالناس في إثبات حقوقه خصوم عنه بطريق النيابة لكونهم عبيده فكان حضرة الواحد كحضرة الكل والقضاء على الواحد قضاء على الكل لاستوائهم في العبودية كالورثة لما قاموا مقام الميت في إثبات حقوقه والدفع عنه لكونهم خلفاءه فقام الواحد منهم مقام الكل لاستوائهم في الخلافة بخلاف الملك فإنه خالص حق العبد فالحاضر فيه لا ينتصب خصما عن الغائب إلا بالإنابة حقيقة أو بثبوت النيابة عنه شرعا واتصال بين الحاضر والغائب فيما وقع فيه الدعوى على ما عرف ولم يوجد شيء من ذلك فالقضاء على غيره يكون قضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر وهذا لا يجوز ولو شهد الشهود أن هذه الحنطة من زرع حصد من أرض هذا الرجل لم يكن لصاحب الأرض أن يأخذها لأنه يحتمل أن يكون البذر لغيره وملك الزرع يتبع ملك البذر لا ملك الأرض ألا ترى أن الأرض المغصوبة إذا زرعها الغاصب من بذر نفسه كانت الحنطة له ولو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع هذا أو هذا التمر من نخل هذا يقضى له لأن ملك الحنطة والتمر يتبع ملك الزرع والنخل ولو قالوا هذه الحنطة من زرع كان من أرضه لم يقض له لأنهم لو شهدوا أنه حصد من أرضه لم يقض له فهذا أولى ولو شهدوا أن هذا اللبن وهذا الصوف حلاب شاته وصوف شاته لم يقض له لجواز أن تكون الشاة له وحلابها وصوفها لغيره بأن أوصى بذلك لغيره هذا الذي ذكرنا كله في دعوى الخارج الملك فأما دعوى الخارجين على ذي اليد الملك. فنقول لا تخلو في الأصل من أحد وجهين إما أن يدعي كل واحد منهما قدر ما يدعي الآخر وإما أن يدعي أكثر مما يدعي الآخر فإن ادعى كل واحد منهما قدر ما يدعي الآخر فهو على التفصيل الذي ذكرنا أيضا وهو أن البينتين إما أن قامتا على ملك مطلق عن الوقت وإما أن قامتا على ملك موقت وإما أن قامت إحداهما على ملك مطلق والأخرى على ملك موقت وكل ذلك بسبب أو بغير سبب فإن قامت البينتان على ملك مطلق من غير سبب فإنه يقضى بالمدعى بينهما نصفين عند أصحابنا وللشافعي رحمه الله قولان في قول تتهاتر البينتان ويترك المدعى في يد صاحب اليد وفي قول يقرع بينهما فيقضى لمن خرجت له القرعة منهما وجه قول الشافعي رحمه الله أن العمل بالبينتين متعذر لتناف بين موجبهما لاستحالة كون العين الواحدة مملوكة لاثنين على الكمال في زمان واحد فيبطلان جميعا إذ ليس العمل بإحداهما أولى من العمل بالأخرى لاستوائهما في القوة أو ترجح إحداهما بالقرعة لورود الشرع بالقرعة في الجملة. "ولنا" أن البينة دليل من أدلة الشرع والعمل بالدليلين واجب بالقدر الممكن فإن أمكن العمل بهما من كل وجه يعمل بهما من كل وجه وإن لم يمكن العمل بهما من كل وجه يعمل بهما من وجه كما في سائر دلائل الشرع من ظواهر الكتاب والسنن المشهورة وأخبار الآحاد والأقيسة الشرعية إذا تعارضت وهنا إن تعذر العمل بالبينتين بإظهار الملك في كل المحل أمكن العمل بهما بإظهار الملك في النصف فيقضى لكل واحد منهما بالنصف. ولو قامتا على ملك موقت من غير سبب فإن استوى الوقتان فكذلك الجواب لأنه إذا لم يثبت سبق أحدهما بحكم التعارض سقط التاريخ والتحق بالعدم فبقي دعوى الملك المطلق. وإن كان وقت أحدهما أسبق من الآخر فالأسبق أولى بالإجماع ولا يجيء هنا خلاف محمد رحمه الله لأن البينة من الخارج مسموعة بلا خلاف والبينتان قامتا من الخارجين فكانتا مسموعتين ثم ترجح إحداهما بالتاريخ لأنها أثبتت الملك في وقت لا تعارضها فيه الأخرى فيؤمر بالدفع إليه إلى أن يقوم الدليل على أنه بأي طريق انتقل إليه الملك. وإن أرخت إحداهما وأطلقت الأخرى من غير سبب يقضى بينهما نصفين عند أبي حنيفة ولا عبرة للتاريخ وعند أبي يوسف يقضى لصاحب الوقت وعند محمد يقضى لصاحب الإطلاق وجه قول محمد أن البينة القائمة على الملك المطلق أقوى لأن الملك المطلق ملكه من الأصل حكما ألا ترى أنه يظهر في الزوائد وتستحق به الأولاد والأكساب وهذا حكم ظهور الملك من الأصل ولا يستحق ذلك بالملك الموقت فكانت البينة القائمة عليه أقوى فكان القضاء بها أولى. "وجه" قول أبي يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن البينة المؤرخة تظهر الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة المطلقة عن التاريخ

 

ج / 6 ص -237-       بيقين بل تحتمل المعارضة وعدمها فلا تثبت المعارضة بالشك فتثبت بينة صاحب التاريخ بلا معارض فكان صاحب التاريخ أولى. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ما مر أيضا أن الملك الموقت يحتمل أن يكون سابقا ويحتمل أن يكون متأخرا لاحتمال أن صاحب الإطلاق لو أرخ لكان تاريخه أقدم يثبت السبق مع الاحتمال فسقط اعتبار التاريخ فبقي دعوى الملك المطلق هذا إذا قامت البينتان من الخارجين على ذي اليد على الملك من غير سبب. فإن كان ذلك بسبب فنقول لا يخلو إما أن ادعيا الملك بسبب واحد من الإرث أو الشراء أو النتاج ونحوها وإما أن ادعياه بسببين فإن ادعيا الملك بسبب واحد فإن كان السبب هو الإرث فإن لم توقت البينتان فهو بينهما نصفان لما ذكرنا أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته وإنما الوارث يخلفه ويقوم مقامه في ملكه ألا ترى أنه يجهز من التركة ويقضى منها ديونه ويرد الوارث بالعيب ويرد عليه فكان المورثين حضرا وادعيا ملكا مطلقا عن الوقت وإن وقتا وقتا فإن كان وقتهما واحدا فكذلك لما مر وإن كان أحد الوقتين أسبق يقضى لمن هو أسبق وقتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يقضى بينهما نصفين ولا عبرة للتاريخ عنده في الميراث لما مر أن الموروث ملك الميت والوارث قام مقامه فلم يكن الموت تاريخا لملك الوارث فسقط التاريخ لملكه والتحق بالعدم فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ فيستويان فيه وعن محمد أنهما إن لم يؤرخا ملك الميتين فكذلك فأما إذا أرخا ملك الميتين فيقضى لأسبقهما تاريخا ذكره في نوادر هشام. وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان بل الوارث بإقامة البينة يظهر الملك للمورث لا لنفسه فيصير كأنه حضر المورثان وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة وتاريخ أحدهما أسبق ولو كان كذلك لقضي لأسبقهما وقتا لإثباته الملك في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر كذا هذا ولو وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى يقضى بينهما نصفين بالإجماع أما عند محمد فإن التاريخ في باب الميراث ساقط فالتحق بالعدم وأما عندهما فيصير كأن المورثين الخارجين حضرا وادعيا ملكا فأرخه أحدهما ولم يؤرخه الآخر وهناك كان المدعى بينهما نصفين فكذا هنا لأنهما ادعيا تلقي الملك من رجلين ولا عبرة فيه بالتاريخ وإن كان السبب هو الشراء فنقول لا تخلو إما أن تكون الدار في يد ثالث وإما أن تكون في يد أحدهما وكل ذلك لا يخلو إما أن ادعيا الشراء من واحد وإما إن ادعياه من اثنين فإن كانت في يد ثالث وادعيا الشراء من واحد فإن كان صاحب اليد وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم ونقد الثمن مطلقا عن التاريخ وذكر القبض يقضى بينهما نصفين عندنا وللشافعي فيه قولان في قول تتهاتر البينتان وفي قول يقرع بينهما فيقضى لمن خرجت له القرعة وهي مسألة التهاتر وقد تقدمت. وإذا قضي بالدار بينهما نصفين يكون لهما الخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن وإن شاء نقض لأن غرض كل واحد منهما من الشراء الوصول إلى جميع المبيع ولم يحصل فأوجب ذلك خللا في الرضا فلذلك أثبت لهما الخيار فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار رجع على البائع بنصف الثمن لأنه لم يحصل له إلا نصف المبيع وإن اختار الرد رجع كل واحد منهما بجميع الثمن لأنه انفسخ البيع فإن اختار أحدهما الرد والآخر الأخذ فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما فليس له أن يأخذ إلا النصف بنصف الثمن لأن حكم القاضي بذلك أوجب انفساخ العقد في حق كل واحد منهما في النصف فلا يعود إلا بالتحديد كما إذا قضى القاضي بالدار المشفوعة للشفيعين ثم سلم أحدهما الشفعة لا يكون لصاحبه إلا نصف الدار فأما إذا اختار أحدهما ترك الخصومة قبل تخيير القاضي فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن لأن المستحق بالعقد كل البيع والامتناع بحكم المزاحمة فإذا انقطعت فقد زال المانع كأحد الشفيعين إذا سلم الشفعة قبل قضاء القاضي بالدار المشفوعة يقضى لصاحبه بالكل وكذلك إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل آخر سوى صاحب اليد وأقام البينة على ذلك يقضى بالدار بينهما نصفين عندنا وثبت الخيار لكل واحد منهما والكلام في توابع الخيار على نحو ما بينا غير أن هناك الشهادة القائمة على الشراء من صاحب اليد وهو البائع تقبل من غير ذكر الملك له والشهادة القائمة على الشراء من غير صاحب اليد لا تقبل إلا بذكر الملك للبائع لأن المبيع في الفصل الأول في يد البائع

 

ج / 6 ص -238-       بيقين بل تحتمل المعارضة وعدمها فلا تثبت المعارضة بالشك فتثبت بينة صاحب التاريخ بلا معارض فكان صاحب التاريخ أولى. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ما مر أيضا أن الملك الموقت يحتمل أن يكون سابقا ويحتمل أن يكون متأخرا لاحتمال أن صاحب الإطلاق لو أرخ لكان تاريخه أقدم يثبت السبق مع الاحتمال فسقط اعتبار التاريخ فبقي دعوى الملك المطلق هذا إذا قامت البينتان من الخارجين على ذي اليد على الملك من غير سبب. فإن كان ذلك بسبب فنقول لا يخلو إما أن ادعيا الملك بسبب واحد من الإرث أو الشراء أو النتاج ونحوها وإما أن ادعياه بسببين فإن ادعيا الملك بسبب واحد فإن كان السبب هو الإرث فإن لم توقت البينتان فهو بينهما نصفان لما ذكرنا أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته وإنما الوارث يخلفه ويقوم مقامه في ملكه ألا ترى أنه يجهز من التركة ويقضى منها ديونه ويرد الوارث بالعيب ويرد عليه فكان المورثين حضرا وادعيا ملكا مطلقا عن الوقت وإن وقتا وقتا فإن كان وقتهما واحدا فكذلك لما مر وإن كان أحد الوقتين أسبق يقضى لمن هو أسبق وقتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يقضى بينهما نصفين ولا عبرة للتاريخ عنده في الميراث لما مر أن الموروث ملك الميت والوارث قام مقامه فلم يكن الموت تاريخا لملك الوارث فسقط التاريخ لملكه والتحق بالعدم فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ فيستويان فيه وعن محمد أنهما إن لم يؤرخا ملك الميتين فكذلك فأما إذا أرخا ملك الميتين فيقضى لأسبقهما تاريخا ذكره في نوادر هشام. وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان بل الوارث بإقامة البينة يظهر الملك للمورث لا لنفسه فيصير كأنه حضر المورثان وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة وتاريخ أحدهما أسبق ولو كان كذلك لقضي لأسبقهما وقتا لإثباته الملك في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر كذا هذا ولو وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى يقضى بينهما نصفين بالإجماع أما عند محمد فإن التاريخ في باب الميراث ساقط فالتحق بالعدم وأما عندهما فيصير كأن المورثين الخارجين حضرا وادعيا ملكا فأرخه أحدهما ولم يؤرخه الآخر وهناك كان المدعى بينهما نصفين فكذا هنا لأنهما ادعيا تلقي الملك من رجلين ولا عبرة فيه بالتاريخ وإن كان السبب هو الشراء فنقول لا تخلو إما أن تكون الدار في يد ثالث وإما أن تكون في يد أحدهما وكل ذلك لا يخلو إما أن ادعيا الشراء من واحد وإما إن ادعياه من اثنين فإن كانت في يد ثالث وادعيا الشراء من واحد فإن كان صاحب اليد وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم ونقد الثمن مطلقا عن التاريخ وذكر القبض يقضى بينهما نصفين عندنا وللشافعي فيه قولان في قول تتهاتر البينتان وفي قول يقرع بينهما فيقضى لمن خرجت له القرعة وهي مسألة التهاتر وقد تقدمت. وإذا قضي بالدار بينهما نصفين يكون لهما الخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن وإن شاء نقض لأن غرض كل واحد منهما من الشراء الوصول إلى جميع المبيع ولم يحصل فأوجب ذلك خللا في الرضا فلذلك أثبت لهما الخيار فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار رجع على البائع بنصف الثمن لأنه لم يحصل له إلا نصف المبيع وإن اختار الرد رجع كل واحد منهما بجميع الثمن لأنه انفسخ البيع فإن اختار أحدهما الرد والآخر الأخذ فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما فليس له أن يأخذ إلا النصف بنصف الثمن لأن حكم القاضي بذلك أوجب انفساخ العقد في حق كل واحد منهما في النصف فلا يعود إلا بالتحديد كما إذا قضى القاضي بالدار المشفوعة للشفيعين ثم سلم أحدهما الشفعة لا يكون لصاحبه إلا نصف الدار فأما إذا اختار أحدهما ترك الخصومة قبل تخيير القاضي فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن لأن المستحق بالعقد كل البيع والامتناع بحكم المزاحمة فإذا انقطعت فقد زال المانع كأحد الشفيعين إذا سلم الشفعة قبل قضاء القاضي بالدار المشفوعة يقضى لصاحبه بالكل وكذلك إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل آخر سوى صاحب اليد وأقام البينة على ذلك يقضى بالدار بينهما نصفين عندنا وثبت الخيار لكل واحد منهما والكلام في توابع الخيار على نحو ما بينا غير أن هناك الشهادة القائمة على الشراء من صاحب اليد وهو البائع تقبل من غير ذكر الملك له والشهادة القائمة على الشراء من غير صاحب اليد لا تقبل إلا بذكر الملك للبائع لأن المبيع في الفصل الأول في يد البائع

 

ج / 6 ص -239-       حنيفة رحمه الله أن وقوع الإشكال في السن يوجب سقوط اعتبار حكم السبق فبطل تحكيمه فبقي الحكم للوقت فالأسبق أولى وهذا يشكل بالخارج مع ذي اليد وإن خالف الوقتين جميعا فهو على ما ذكرنا في الخارج مع ذي اليد وإن أقام أحدهما البينة على النتاج والآخر على ملك مطلق فبينة النتاج أولى لما مر هذا إذا ادعى الخارجان الملك من واحد أو اثنين بسببين متفقين من الميراث والشراء والنتاج فإن كان بسببين مختلفين فنقول لا يخلو إما أن كان من اثنين وإما أن كان من واحد فإن كان من اثنين يعمل بكل واحد من السببين بأن ادعى أحدهما أنه اشترى هذه الدابة من فلان وادعى الآخر أن فلانا آخر وهبها له وقبضها منه قضي بينهما نصفين لأنهما ادعيا تلقي الملك من البائع والواهب فقاما مقامهما كأنهما حضرا وادعيا وأقاما البينة على ملك مرسل. وكذا لو ادعى ثالث ميراثا عن أبيه فإنه يقسم بينهم أثلاثا ولو ادعى رابع وصدقه يقسم بينهم أرباعا لما قلنا وإن كان ذلك من واحد ينظر إلى السببين فإن كان أحدهما أقوى يعمل به لأن العمل بالراجح واجب وإن استويا في القوة يعمل بهما بقدر الإمكان على ما هو سبيل دلائل الشرع بيان ذلك إذا أقام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار من فلان ونقده الثمن وقبض الدار وأقام الآخر البينة أن فلانا ذاك وهبها له وقبضها يقضى لصاحب الشراء لأنه يفيد الحكم بنفسه. والهبة لا تفيد الحكم إلا بالقبض فكان الشراء أولى "وكذلك" الشراء مع الصدقة والقبض لما قلنا وكذلك الشراء مع الرهن والقبض لأن الشراء يفيد ملك الرقبة والرهن يفيد ملك اليد وملك الرقبة أقوى ولو اجتمعت البينتان مع القبض يقضى بينهما نصفين لاستواء السببين "وقيل" هذا فيما لا يحتمل القسمة كالدابة والعبد ونحوهما "فأما فيما" يحتمل القسمة كالدار ونحوها فلا يقضى لهما بشيء على أصل أبي حنيفة رحمه الله في الهبة من رجلين لحصول معنى الشيوع "وقيل" لا فرق بين ما يحتمل القسمة وبين ما لا يحتملها هنا لأن هذا في معنى الشيوع الطارئ لقيام البينة على الكل وأنه لا يمنع الجواز "وكذلك" لو اجتمعت الصدقة مع القبض أو الهبة والصدقة مع القبض يقضى بينهما نصفين لاستواء السببين لكن هذا إذا لم يكن المدعى في يد أحدهما فإن كان يقضى لصاحب اليد بالإجماع لما مر. "ولو اجتمع" الرهن والهبة أو الرهن والصدقة فالقياس أن تكون الهبة أولى "وكذا" الصدقة لأن كل واحد منهما يفيد ملك الرقبة والرهن يفيد ملك اليد والحبس وملك الرقبة أقوى وفي الاستحسان الرهن أولى لأن المرهون عندنا مضمون بقدر الدين فأما الموهوب فليس بمضمون أصلا فكان الرهن أقوى "ولو اجتمع" النكاحان بأن ادعت امرأتان وأقامت كل واحدة منهما البينة على أنه تزوجها عليه يقضى بينهما نصفين لاستواء السببين "ولو اجتمع" النكاح مع الهبة أو الصدقة أو الرهن فالنكاح أولى لأنه عقد يفيد الحكم بنفسه فكان أقوى ولو اجتمع الشراء والنكاح فهو بينهما نصفان عند أبي يوسف وللمرأة نصف نصف القيمة على الزوج وعند محمد الشراء أولى وللمرأة القيمة على الزوج. "وجه" قول محمد أن الشراء أقوى من النكاح بدليل أنه لا يصح البيع بدون تسمية الثمن ويصح النكاح بدون تسمية المهر وكذا لا تصح التسمية بدون الملك في البيع وتصح في باب النكاح كما لو تزوج على جارية غيره دل أن الشراء أقوى من النكاح "وجه" قول أبي يوسف أن النكاح مثل الشراء فإن كل واحد منهما معاوضة يفيد الحكم بنفسه هذا إذا ادعى كل واحد منهما قدر ما يدعي الآخر فأما إذا ادعى أحدهما أكثر مما يدعي الآخر بأن ادعى أحدهما كل الدار والآخر نصفها وأقاما البينة على ذلك فإنه يقضى لمدعي الكل بثلاثة أرباع الدار ولمدعي النصف بربعها عند أبي حنيفة وعندهما يقضى لمدعي الكل بثلثي الدار ولمدعي النصف بثلثها وإنما اختلف جوابهم لاختلافهم في طريق القسمة فتقسم عنده بطريق المنازعة وهما قسما بطريق العدل والمضاربة "وتفسير" القسمة بطريق المنازعة أن ينظر إلى القدر الذي وقع التنازع فيه فيجعل الجزء الذي خلا عن المنازعة سالما لمدعيه "وتفسير" القسمة على طريق العدل والمضاربة أن تجمع السهام كلها في العين فتقسم بين الكل بالحصص فيضرب كل بسهمه كما في الميراث والديون المشتركة المتزاحمة والوصايا فلما كانت القسمة عند أبي حنيفة على طريق المنازعة تجب مراعاة محل النزاع فهنا يدعي أحدهما

 

ج / 6 ص -240-       كل الدار والآخر لا ينازعه إلا في النصف فبقي النصف الآخر خاليا عن المنازعة فيسلم لمدعي الكل لأنه يدعي شيئا لا ينازعه فيه غيره ومن ادعى شيئا لا ينازعه فيه غيره يسلم له والنصف الآخر استوت فيه منازعتهما فيقضي بينهما نصفين فكانت القسمة أرباعا ثلاثة أرباع الدار لمدعي الكل وربعها لمدعي النصف ولما كانت القسمة عندهما على طريق المضاربة يقسم الثمن على مبلغ السهام فيضرب كل واحد بسهمه فهنا أحدهما يدعي كل الدار والآخر يدعي نصفها فيجعل أخسهما سهما فجعل نصف الدار بينهما. وإذا جعل نصف الدار بينهما صار الكل سهمين فمدعي الكل يدعي سهمين ومدعي النصف يدعي سهما واحدا فيعطى هذا سهما وذاك سهمين فكانت الدار بينهما أثلاثا ثلثاها لمدعي الكل وثلثها لمدعي النصف والصحيح قسمة أبي حنيفة عليه الرحمة لأن الحاجة إلى القسمة لضرورة الدعوى والمنازعة ووقوع التعارض في الحجة ولا منازعة لمدعي الكل إلا في النصف فلا يتحقق التعارض إلا فيه فيسلم له ما وراءه لقيام الحجة عليه وخلوها عن المعارض فكان ما قاله أبو حنيفة عملا بالدليل بالقدر الممكن وأنه واجب هذا إذا كانت الدار في يد ثالث فإن كانت في أيديهما فبينة مدعي الكل أولى لأنه خارج لأنه يدعي على صاحبه النصف الذي في يده ومدعي النصف لا يدعي شيئا هو في يد صاحبه لأنه لا يدعي إلا النصف والنصف في يده فكان مدعي الكل خارجا ومدعي النصف صاحب يد فكانت بينة الخارج أولى فيقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه ويترك النصف الذي في يده على حاله هذا إذا ادعى الخارجان شيئا في يد ثالث فأنكر الذي في يده فأقام البينة فإن لم يقم لهما بينة وطلبا بيمين المنكر يحلف لكل واحد منهما فإن نكل لهما جميعا يقضى لهما بالنكول لأن النكول حجة عندنا فإن حلف لأحدهما ونكل للآخر يقضى للذي نكل لوجود الحجة في حقه وإن حلف لكل واحد منهما يترك المدعى في يده قضاء ترك لا قضاء استحقاق حتى لو قامت لهما بينة بعد ذلك تقبل بينتهما ويقضى لهما بخلاف ما إذا أقاما البينة وقضي بينهما نصفين ثم أقام صاحب اليد البينة على أنه ملكه أنه لا تقبل بينته وكذا إذا أقام أحد المدعيين البينة على النصف الذي استحقه صاحبه بعد ما قضي بينهما نصفين لا تسمع بينته. "ووجه" الفرق أن بالترك في يد المدعى عليه لم يكن كل واحد من المدعيين مقضيا عليه حقيقة فتسمع منهما البينة "فأما" صاحب اليد فقد صار مقضيا عليه حقيقة وكذا كل واحد من المدعيين بعد ما قضي بينهما نصفين صار مقضيا عليه في النصف والبينة من المقضي عليه غير مسموعة إلا إذا ادعى التلقي من جهة المستحق أو ادعى النتاج وكذا لو ادعى بائع المقضي عليه أو بائع بائعه هكذا وأقام البينة لا تسمع دعواه ولا تقبل بينته لأن القضاء عليه قضاء على الباعة كلهم في حق بطلان الدعوى إن لم يكن قضاء عليهم في حق ولاية الرجوع بالثمن إلا إذا قضى القاضي لهذا المشتري بالرجوع على بائعه بالثمن فيرجع هذا البائع على بائعه أيضا هكذا فرق بين هذا وبين الحرية الأصلية أن القضاء بالحرية قضاء على الناس كلهم في حق بطلان الدعوى وثبوت ولاية الرجوع بالثمن على الباعة "ووجه" الفرق بين الملك والعتق على نحو ما ذكرنا من قبل هذا إذا أنكر الذي في يده فإن أقر به لأحدهما "فنقول" هذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن كان قبل إقامة البينة وإما أن كان بعد إقامة البينة فإن أقر قبل إقامة البينة جاز إقراره ودفع إلى المقر له لأن المدعي في يده وملكه من حيث الظاهر فيملك التصرف فيه بالإقرار وغيره وإن أقر بعد إقامة البينة قبل التزكية لم يجز إقراره لأنه تضمن إبطال حق الغير وهو البينة فكان إقرارا على غيره فلا يصح في حق ذلك الغير ولكن يؤمر بالدفع إلى المقر له لأن إقراره في حق نفسه صحيح وكذا البينة قد لا تتصل بها التزكية فيؤمر بالدفع إلى المقر له في الحال فإذا زكيت البينتان يقضى بينهما نصفين لأنه تبين أن المدعى كان بينهما نصفين فظهر أن إقراره كان إبطالا لحق الغير فلم يصح فالتحق بالعدم. وإن أقر بعد إقامة البينة وبعد التزكية يقضى بينهما لما قلنا إن إقراره لم يصح فكان ملحقا بالعدم هذا كله إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد أو من الخارجين على ذي اليد فأما إذا كانت من صاحبي اليد أحدهما على الآخر بأن كان المدعى في أيديهما فإن أقام أحدهما البينة أنه يقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه والنصف الذي كان في يده ترك في يده وهو معنى قضاء الترك

 

ج / 6 ص -241-       ولو أقام كل واحد منهما البينة أنه له يقضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه لأن كل واحد منهما في ذلك النصف خارج ولو لم تقم لأحدهما بينة يترك في أيديهما قضاء ترك حتى لو قامت لأحدهما بعد ذلك بينة تقبل لأنه لم يصر مقضيا عليه حقيقة هذا إذا لم توقت البينتان فإن وقتا فإن اتفق الوقتان فكذلك وإن اختلفا فالأسبق أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله "وأما" عند محمد فلا عبرة للوقت في بينة صاحب اليد فيكون بينهما نصفين وإن وقت إحداهما دون الأخرى يكون بينهما عند أبي حنيفة ومحمد والوقت ساقط وعند أبي يوسف هو لصاحب الوقت وقد مرت الحجج قبل هذا والله تعالى أعلم. "وأما" حكم تعارض البينتين القائمتين على قدر الملك. فالأصل فيه أن البينة المظهرة للزيادة أولى كما إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن فقال البائع بعتك هذا العبد بألفي درهم وقال المشتري اشتريته منك بألف درهم وأقاما البينة فإنه يقضى ببينة البائع لأنها تظهر زيادة ألف وكذا لو اختلفا في قدر المبيع فقال البائع بعتك هذا العبد بألف وقال المشتري اشتريت منك هذا العبد وهذه الجارية بألف وأقاما البينة يقضى ببينة المشتري لأنها تظهر زيادة وكذا لو اختلف الزوجان في قدر المهر فقال الزوج تزوجتك على ألف وقالت المرأة على ألفين وأقاما البينة يقضى ببينة المرأة لأنها تظهر فضلا ثم إنما كانت بينة الزيادة أولى لأنه لا معارض لها في قدر الزيادة فيجب العمل بها في ذلك القدر لخلوها عن المعارض ولا يمكن إلا بالعمل في الباقي فيجب العمل بها في الباقي ضرورة وجوب العمل بها في الزيادة ولا يلزم على هذا الأصل ما إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر ثمن الدار المشفوعة فقال الشفيع اشتريتها بألف. وقال المشتري بألفين وأقاما البينة أنه يقضى ببينة الشفيع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن كانت بينة المشتري تظهر الزيادة لأن البينة إنما تقبل من المدعي لأنها جعلت حجة المدعي في الأصل والمدعي هناك هو الشفيع لوجود حد المدعي فيه وهو أن يكون مخيرا في الخصومة بحيث لو تركها يترك ولا يجبر عليها فأما المشتري فمجبور على الخصومة ألا ترى لو تركها لا يترك بل يجبر عليها فكان هو مدعى عليه والبينة حجة المدعي لا حجة المدعى عليه في الأصل لذلك قضي ببينة الشفيع لا ببينة المشتري بخلاف ما إذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن لأن هناك البائع هو المدعي لأن المخير في الخصومة إن شاء خاصم وإن شاء لا وفيما إذا اختلفا في قدر المبيع المدعي هو المشتري ألا ترى لو ترك الخصومة يترك وكذا في باب النكاح المدعي في الحقيقة هو المرأة لما قلنا فهو الفرق. ووجه آخر من الفرق ذكرناه في كتاب الشفعة وعلى هذا يخرج اختلاف المتبايعين في أجل الثمن في أصل الأجل أو في قدره وأقاما البينة أن البينة بينة المشتري لأنها تظهر الزيادة وكذا لو اختلفا في مضيه وأقاما البينة فالبينة بينة المشتري أنه لم يمض لأنها تظهر زيادة وعلى هذا يخرج اختلافهما في المسلم فيه في قدره أو جنسه أو صفته مع اتفاقهما على رأس المال وأقاما البينة بعد تفرقهما أن البينة بينة رب السلم ويقضى بسلم واحد بالإجماع لأنهما اتفقا على أن المسلم إليه لم يقبض إلا رأس مال واحد وإن اختلفا قبل التفرق فكذلك ويقضى بسلم واحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد تقبل البينتان جميعا ويقضى بسلمين. "وجه" قول محمد أن كل واحد من البينتين قامت على عقد على حدة لاختلاف البدلين فيعمل بهما جميعا ويقضى بسلمين إذ لا تنافي بينهما ولهما أنهما اتفقا على عقد واحد وإنما اختلفا في قدر المعقود عليه قدرا أو جنسا أو صفة وبينة رب السلم تظهر زيادة فكانت أقوى ولو اختلفا في رأس المال في قدره أو جنسه أو صفته مع اتفاقهما على المسلم فيه فالبينة بينة المسلم إليه عندهما وعنده تقبل البينتان جميعا ويقضى بسلمين والحجج على نحو ما ذكرنا هذا إذا تصادقا أن رأس المال كان دينا فإن تصادقا أنه عين واختلفا في المسلم فيه فإن كان رأس المال عينا واحدة يقضى بسلم واحد كما إذا قال رب السلم أسلمت إليك هذا الثوب في كر حنطة وقال المسلم إليه في كر شعير فالبينة بينة رب السلم لأن رأس المال إذا كان عينا واحدة لا يمكن أن يجعل عقدين فيجعل عقدا واحدا وبينة رب السلم تظهر زيادة فكانت أولى بالقبول وإذا كان عينين بأن قال رب السلم أسلمت إليك هذا الفرس في كر حنطة وقال المسلم إليه هذا الثوب في كر شعير يقضى بسلمين بالإجماع لأنه يمكن أن يجعل عقدين فيجعل سلمين هذا كله

 

ج / 6 ص -242-       إذا كانت الدعوى دعوى الملك فأما دعوى اليد بأن تنازع رجلان في شيء يدعيه كل واحد منهما أنه في يده فعلى كل واحد منهما البينة على اليد لقوله عليه الصلاة والسلام "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" ولأن الملك واليد كل واحد منهما مقصود في نفسه فتقع الحاجة إلى إثبات كل واحد منهما بالبينة فإن أقاما جميعا البينة يقضى بكونه في أيديهما لاستوائهما في الحجة وإن أقام أحدهما البينة صار صاحب يد وصار مدعى عليه وإن لم تقم لأحدهما بينة فعلى كل واحد منهما اليمين لقوله عليه الصلاة والسلام "واليمين على من أنكر" وكل واحد منهما ينكر دعوى صاحب اليد فيحلف هذا كله إذا قامت البينتان على الملك أو على اليد. فأما إذا قامت إحدى البينتين على الملك والأخرى على اليد فبينة الملك أولى نحو ما إذا أقام الخارج البينة على أن الدار له منذ سنتين وأقام ذو اليد البينة على أنها في يده منذ ثلاث سنين يقضى بها للخارج لأن البينة القائمة على الملك أقوى لأن اليد قد تكون محقة وقد تكون مبطلة كيد الغصب والسرقة واليد المحقة قد تكون يد ملك وقد تكون يد إعارة وإجارة فكانت محتملة فلا تصلح بينتها معارضة لبينة الملك. "وأما" دعوى النسب. فالكلام في النسب في الأصل في ثلاثة مواضع في بيان ما يثبت به النسب وفي بيان ما يظهر به النسب وفي بيان صفة النسب الثابت أما ما يثبت به النسب فالكلام فيه في موضعين أحدهما في بيان ما يثبت به نسب الولد من الرجل والثاني في بيان ما يثبت به نسبه من المرأة أما الأول فنسب الولد من الرجل لا يثبت إلا بالفراش وهو أن تصير المرأة فراشا له لقوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وقوله عليه الصلاة والسلام الولد للفراش أي لصاحب الفراش إلا أنه أضمر المضاف فيه اختصارا كما في قوله عز وجل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ونحوه والمراد من الفراش هو المرأة فإنها تسمى فراش الرجل وإزاره ولحافه وفي التفسير في قوله عز شأنه {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أنها نساء أهل الجنة فسميت المرأة فراشا لما أنها تفرش وتبسط بالوطء عادة ودلالة الحديث من وجوه ثلاثة: أحدها: أن النبي عليه الصلاة والسلام أخرج الكلام مخرج القسمة فجعل الولد لصاحب الفراش والحجر للزاني فاقتضى أن لا يكون الولد لمن لا فراش له كما لا يكون الحجر لمن لا زنا منه إذ القسمة تنفي الشركة والثاني أنه عليه الصلاة والسلام جعل الولد لصاحب الفراش ونفاه عن الزاني بقوله عليه الصلاة والسلام وللعاهر الحجر لأن مثل هذا الكلام يستعمل في النفي والثالث أنه جعل كل جنس الولد لصاحب الفراش فلو ثبت نسب ولد لمن ليس بصاحب الفراش لم يكن كل جنس الولد لصاحب الفراش وهذا خلاف النص فعلى هذا إذا زنى رجل بامرأة فجاءت بولد فادعاه الزاني لم يثبت نسبه منه لانعدام الفراش وأما المرأة فيثبت نسبه منها لأن الحكم في جانبها يتبع الولادة على ما نذكر إن شاء الله تعالى وقد وجدت وكذلك لو ادعى رجل عبدا صبيا في يد رجل أنه ابنه من الزنا لم يثبت منه كذبه المولى فيه أو صدقه لما قلنا ولو هلك الولد بوجه من الوجوه عتق عليه لأنه أقر أنه مخلوق من مائه وإن ملك أمه لم تصر أم ولد له لأن أمومية الولد تتبع ثبات النسب ولم يثبت وكذلك لو كان هذا العبد لأب المدعي أو عمه لما ذكرنا ولو كان لابن المدعي فقال هو ابني من الزنا يثبت نسبه منه وهو مخطئ في قوله من الزنا لأنه يصير متملكا الجارية عندنا قبيل الاستيلاد أو مقارنا له ولا يتحقق الوطء زنا مع ثبوت الملك ولو كان المدعي غير الأب فقال هو ابني منها ولم يقل من الزنا فإن صدقه المولى ثبت نسبه منه ويكون عبدا لمولى الأم وإن كذبه لا يثبت النسب للحال وإذا ملكه المدعي يثبت النسب ويعتق عليه لأن الإقرار بالبنوة مطلقا عن الجهة محمول على جهة مصححة للنسب وهي الفراش إلا أنه لم يظهر نفاذه للحال لقيام ملك المولى فإذا ملكه زال المانع وكذلك لو قال هو ابني من نكاح فاسد أو شراء فاسد وادعى شبهة بوجه من الوجوه أو قال أحلها لي الله إن صدقه المولى يثبت النسب وإن كذبه لم يثبت النسب ما دام عبدا فإذا ملكه يثبت النسب ويعتق عليه لأن العقد الفاسد ملحق بالصحيح في ثبات النسب وكذلك الشبهة فيه ملحقة بالحقيقة فكان هذا إقرارا بالنسب بجهة مصححة للنسب شرعا إلا أنه امتنع ظهوره للحال لحق المولى فإذا زال ظهر وعتق لأنه ملك ابنه وإن ملك أمها كانت أم ولد له لأنه وجد سبب أمومية الولد وهو ثبوت النسب بناء على وجود سبب الثبوت وهو الإقرار بالنسب بجهة

 

ج / 6 ص -243-       مصححة له شرعا إلا أنها توقفت على شرطها وهو الملك وقد وجد بخلاف الفصل الأول لأن هناك لم يوجد سبب أمومية الولد أصلا لانعدام سبب ثبوت النسب وهو الإقرار بجهة مصححة شرعا وعلى هذا إذا تصادق الزوجان على أن الولد من الزنا من فلان لا يثبت النسب منه ويثبت من الزوج لأن الفراش له وعلى هذا إذا ادعى رجل صبيا في يد امرأة فقال هو ابني من الزنا وقالت المرأة هو من النكاح لا يثبت نسبه من الرجل ولا من المرأة لأن الرجل أقر أنه ابنه من الزنا والزنا لا يوجب النسب والمرأة تدعي النكاح والنكاح لا بد له من حجة وكذلك لو كان الأمر على العكس بأن ادعى الرجل أنه ابنه من النكاح وادعت المرأة أنه من الزنا لما قلنا ولو قال الرجل بعد ذلك في الفصل الأول هو من النكاح أو قالت المرأة بعد ذلك في الفصل الثاني هو من النكاح يثبت النسب وإن كان ذلك منهما تناقضا لأن التناقض ساقط الاعتبار شرعا في باب النسب كما هو ساقط الاعتبار شرعا في باب العتق لما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الثاني فنسب الولد من المرأة يثبت بالولادة سواء كان بالنكاح أو بالسفاح لأن اعتبار الفراش إنما عرفناه بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" أي لمالك الفراش ولا فراش للمرأة لأنها مملوكة وليست بمالكة فبقي الحكم في جانبها متعلقا بالولادة وإذا عرفت أن نسب الولد من الرجل لا يثبت إلا إذا صارت المرأة فراشا له فلا بد من معرفة ما تصير به المرأة فراشا وكيفية عمله في ذلك فنقول وبالله التوفيق المرأة تصير فراشا بأحد أمرين أحدهما عقد النكاح والثاني ملك اليمين إلا أن عقد النكاح يوجب الفراش بنفسه لكونه عقدا موضوعا لحصول الولد شرعا قال النبي عليه الصلاة والسلام "تناكحوا توالدوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط" وكذا الناس يقدمون على النكاح لغرض التوالد عادة فكان النكاح سببا مفضيا إلى حصول الولد فكان سببا لثبات النسب بنفسه ويستوي فيه النكاح الصحيح والفاسد إذا اتصل به الوطء لأن النكاح الفاسد ينعقد في حق الحكم عند بعض مشايخنا لوجود ركن العقد من أهله في محله والفاسد ما فاته شرط من شرائط الصحة. وهذا لا يمنع انعقاده في حق الحكم كالبيع الفاسد إلا أنه يمنع من الوطء لغيره وهذا لا يمنع ثبات النسب كالوطء في حالة الحيض والنفاس وسواء كانت المنكوحة حرة أو أمة لأن المقصود من فراش الزوجية لا يختلف وأما ملك اليمين ففي أم الولد يوجب الفراش بنفسه أيضا لأنه ملك يقصد به حصول الولد عادة كملك النكاح فكان مفضيا إلى حصول الولد كملك النكاح إلا أنه أضعف منه لأنه لا يقصد به ذلك مثل ما يقصد بملك النكاح وكذا يحتمل النقل إلى غيره بالتزويج وينتفي بمجرد النفي من غير لعان بخلاف ملك النكاح وأما في الأمة فلا يوجب الفراش بنفسه بالإجماع حتى لا تصير الأمة فراشا بنفس الملك بلا خلاف وهل تصير فراشا بالوطء اختلف فيه قال أصحابنا رضي الله تعالى عنهم لا تصير فراشا إلا بقرينة الدعوة وقال الشافعي عليه الرحمة تصير فراشا بنفس الوطء من غير دعوة وعبارة مشايخنا رحمهم الله في هذا الباب أن الفراش ثلاثة فراش قوي وفراش ضعيف وفراش وسط فالقوي فراش المنكوحة حتى يثبت النسب من غير دعوة ولا ينتفي إلا باللعان والوسط فراش أم الولد حتى يثبت النسب من غير دعوة وينتفي بمجرد النفي من غير لعان والضعيف فراش الأمة حتى لا يثبت النسب فيه إلا بالدعوة عندنا خلافا للشافعي "وجه" قوله أن ثبات النسب منه لحصول الولد من مائه وهذا يحصل بالوطء من غير دعوة لأن الوطء سبب لحصول الولد قصد منه ذلك أو لا. "ولنا" أن وطء الأمة لا يقصد به حصول الولد عادة لأنها لا تشترى للوطء عادة بل للاستخدام والاسترباح ولو وطئت فلا يقصد به حصول الولد عادة لأن الولد لا يحصل إلا بترك العزل والظاهر في الإماء هو العزل والعزل بدون رضاهن مشروع فلا يكون وطؤها سببا لحصول الولد إلا بقرينة الدعوة ولأنه لما ادعى علما بقرينة الدعوة أنه وطئها ولم يعزل عنها والوطء من غير عزل سبب لحصول الولد فيثبت النسب حتى لو كان المولى وطئها وحصنها ولم يعزل عنها لا يحل له النفي فيما بينه وبين الله تعالى عز شأنه بل تلزمه الدعوى والإقرار به لأنه إذا كان كذلك فالظاهر أنه ولده فلا يحل له نفيه فيما بينه وبين الله تعالى بلا خلاف بين أصحابنا رضي الله تعالى عنهم واختلفوا فيما إذا وطئها

 

ج / 6 ص -244-       وحصنها ولكن عزل عنها أو لم يعزل عنها ولكنه لم يحصنها قال أبو حنيفة رضي الله عنه يحل له النفي وقال أبو يوسف رحمه الله أحب إلي أن يدعو إذا كان وطئها ولم يعزل عنها وإن لم يحصنها وقال محمد عليه الرحمة أحب إلي أن يعتق ولدها ويستمتع بأمه إلى أن يقرب موته فيعتقها وجه قول أبي يوسف أنه إذا وطئها ولم يعزل عنها احتمل كون الولد منه فلا يحل له النفي بالشك والاحتمال وجه قول أبي حنيفة أنه إذا لم يحصنها احتمل كونه من غيره فلا يلزمه الإقرار به بالشك لأن غير الثابت بيقين لا يثبت بالشك كما أن الثابت بيقين لا يزول بالشك وجه قول محمد أنه إذا احتمل كونه من غيره لا يلزمه الإقرار به كما قاله أبو حنيفة رحمه الله ولما احتمل كونه منه لا يجوز له النفي أيضا كما قاله أبو يوسف لكن يسلك فيه مسلك الاحتياط فيعتق الولد صيانة عن استرقاق الحر عسى ويستمتع بأمه لأن الاستمتاع بالأمة وأم الولد مباح ويعتقها عند موته صيانة عن استرقاق الحرة بعد موته عسى ويستوي في فراش الملك ملك كل المحل وبعضه وملك الذات وملك اليد في ثبوت النسب وبيان ذلك في مسائل إذا حملت الجارية في ملك رجلين فجاءت بولد فادعاه أحدهما يثبت نسب الولد منه لأن ما له من الملك أوجب النسب بقدره إلا أن النسب لا يتجزأ فمتى ثبت في البعض يتعدى إلى الكل وتصير الجارية أم ولد له وعليه نصف قيمتها لشريكه ونصف العقر ولا يضمن قيمة الولد وهي من مسائل كتاب العتق ولو ادعياه جميعا معا فهو ابنهما والجارية أم ولد لهما وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله هو ابن أحدهما ويتعين بقول القائف وجه قوله أن خلق ولد واحد من ماء فحلين مستحيل عادة ما أجرى الله سبحانه وتعالى العادة بذلك إلا في الكلاب على ما قيل فلا يكون الولد إلا من أحدهما ويعرف ذلك بقول القائف فإن الشرع ورد بقبول قول القائف في النسب فإنه روي "أن قائفا مر بأسامة وزيد وهما تحت قطيفة واحدة قد غطى وجوههما وأرجلهما بادية فقال إن هذه الأقدام يشبه بعضها بعضا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بذلك حتى كادت تبرق أسارير وجهه عليه الصلاة والسلام" فقد اعتبر عليه الصلاة والسلام قول القائف حيث لم يرد عليه بل قرره بإظهار الفرح. "ولنا" إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي أنه وقعت هذه الحادثة في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه فكتب إلى شريح لبسا فلبس عليهما ولو بينا لبين لهما هو ابنهما يرثهما ويرثانه وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا لأن سبب استحقاق النسب بأصل الملك وقد وجد لكل واحد منهما فيثبت بقدر الملك حصة للنسب ثم يتعدى لضرورة عدم التجزي فيثبت نسبه من كل واحد منهما على الكمال وأما فرح النبي عليه الصلاة والسلام وترك الرد والنكر فاحتمل أنه لم يكن لاعتباره قول القائف حجة بل لوجه آخر وهو أن الكفار كانوا يطعنون في نسب أسامة رضي الله عنه وكانوا يعتقدون القيافة فلما قال القائف ذلك فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم لظهور بطلان قولهم بما هو حجة عندهم فكان فرحه في الحقيقة بزوال الطعن بما هو دليل الزوال عندهم والمحتمل لا يصلح حجة وكذلك لو كانت الجارية بين ثلاثة أو أربعة أو خمسة فادعوه جميعا معا فهو ابنهم جميعا ثابت نسبه منهم والجارية أم ولد لهم عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف لا يثبت من أكثر من اثنين وقال محمد لا يثبت من أكثر من ثلاثة وجه قول أبي يوسف أن القياس يأبى ثبوت النسب من أكثر من رجل واحد لما ذكرنا للشافعي إلا أنا تركنا القياس في رجلين بأثر سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فبقي حكم الزيادة مردودا إلى أصل القياس وجه قول محمد أن الحمل الواحد يجوز أن يكون ثلاثة أولاد وكل واحد منهم يجوز أن يخلق من ماء على حدة وقد جاء عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه أثبت النسب من ثلاثة فأما الزيادة على الثلاثة في بطن واحد فنادر غاية الندرة فالشرع الوارد في الاثنين يكون واردا في الثلاثة ولأبي حنيفة أن الموجب لثبات النسب لا يفصل بين عدد الاثنين والخمسة فالفصل بين عدد وعدد يكون تحكما من غير دليل وسواء كانت الأنصباء متفقة أو مختلفة بأن كان لأحدهم السدس وللآخر الربع وللآخر الثلث وللآخر ما بقي فالولد ابنهم جميعا فحكم النسب لا يختلف لأن سبب ثبات النسب هو أصل الملك لا صفة المالك والله سبحانه وتعالى أعلم وأما حكم الاستيلاد فيثبت في نصيب كل

 

ج / 6 ص -245-       واحد بقدر حصته من الملك فلا يتعدى إلى نصيب غيره. ولو كانت الجارية بين الأب والابن فجاءت بولد فادعياه جميعا معا فالأب أولى عند علمائنا الثلاثة وعند زفر رحمه الله يثبت النسب منهما جميعا وجه قوله أنهما استويا في سبب الاستحقاق وهو أصل الملك فيستويان في الاستحقاق. "ولنا" أن الترجيح لجانب الأب لأن نصف الجارية ملكه حقيقة وله حق تمليك النصف الآخر وليس للابن إلا ملك النصف فكان الأب أولى ويتملك نصيب الابن من الجارية بالقيمة ضرورة ثبوت الاستيلاد في نصيبه لأنه لا يتجزأ فلا يتصور ثبوته في البعض دون البعض كما في الجارية المشتركة بين الأجنبيين ويضمن كل واحد منهما للآخر نصف العقر لأن الوطء من كل واحد منهما في قدر نصيب شريكه حصل في غير الملك كما في الأجنبيين يضمن كل واحد منهما نصف العقر للآخر ثم يكون النصف بالنصف قصاصا كما في الأجانب وهذا بخلاف حالة الانفراد فإن أمة لرجل إذا جاءت بولد فادعاه أبوه ثبت نسبه منه ولا عقر عليه عند أصحابنا الثلاثة لأن هناك صار متملكا الجارية ضرورة صحة الاستيلاد سابقا عليه أو مقارنا له لانعدام حقيقة الملك فجعل الوطء في الملك وههنا الاستيلاد صحيح بدون التملك لقيام حقيقة الملك في النصف فلا حاجة إلى التملك لصحة الاستيلاد وأنه صحيح بدونه وإنما يثبت ضرورة ثبوت الاستيلاد في نصيبه لأنه يحتمل التجزؤ على ما ذكرنا هو الفرق وكذلك الجد عند عدم الأب لأنه بمنزلة الأب عند عدمه ولو كان بين الجد والحافد جارية فجاءت بولد فادعياه معا والأب حي يثبت النسب منهما جميعا لأن الجد حال قيام الأب بمنزلة الأجنبي ولو ادعى الولد أحد المالكين وأب المالك الآخر فالمالك أولى لأن له حقيقة الملك ولأب المالك الآخر حق التملك فكان المالك الحقيقي أولى هذا كله إذا كان الشريكان المدعيان حرين مسلمين فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فالحر أولى لأن إثبات النسب منه أنفع حيث يصل هو إلى حقيقة الحرية وأمه إلى حق الحرية وكذلك لو كان أحدهما حرا والآخر عبدا مكاتبا فالحر أولى لأن الولد يصل إلى حقيقة الحرية ولو كان أحدهما مكاتبا والآخر عبدا فالمكاتب أولى لأنه حر يدا فكان أنفع للولد ولو كانا عبدين يثبت النسب منهما جميعا لكن هل يشترط فيه تصديق المولى فيه روايتان ومنهم من وفق بين الروايتين فحمل شرط التصديق على ما إذا كان العبد محجورا وحمل الأخرى على ما إذا كان مأذونا عملا بهما جميعا ولو كان أحدهما مسلما والآخر ذميا فالمسلم أولى استحسانا والقياس أن يثبت نسبه منهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة وزفر وجه القياس أن النسب حكم الملك وقد استويا في الملك فيستويان في حكمه كما في سائر الأحكام المتعلقة بالملك وجه الاستحسان أن إثبات النسب من المسلم أنفع للصبي لأنه يحكم بإسلامه تبعا له وكذلك لو كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا فالقياس أن يثبت النسب منهما لاستوائهما في الملك وفي الاستحسان الكتابي أولى لأنه أقرب إلى الإسلام من المجوسي فكان أنفع للصبي ولو كان أحدهما عبدا مسلما أو مكاتبا مسلما والآخر حرا كافرا فالحر أولى لأن هذا أنفع للصبي لأنه يمكنه أن يكتسب الإسلام بنفسه إذا عقل ولا يمكنه اكتساب الحرية بحال ولو كان أحدهما ذميا والآخر مرتدا فهو ابن المرتد لأن ولد المرتد على حكم الإسلام ألا ترى أنه إذا بلغ كافرا يجبر على الإسلام وإذا أجبر عليه فالظاهر أنه يسلم فكان هذا أنفع للصبي هذا كله إذا خرجت دعوة الشريكين معا فأما إذا سبقت دعوة أحدهما في هذه الفصول كلها كائنا من كان فهو أولى لأن النسب إذا ثبت من إنسان في زمان لا يحتمل الثبوت من غيره بعد ذلك الزمان هذا إذا حملت الجارية في ملكهما فجاءت بولد فادعاه أحدهما أو ادعياه جميعا فأما إذا كان العلوق قبل الشراء بأن اشترياها وهي حامل فجاءت بولد فادعاه أحدهما فأما حكم نسب الولد وصيرورة الجارية أم ولد له وضمان نصف قيمة الأم موسرا كان أو معسرا فلا يختلف ويختلف حكم العقر والولد فلا يجب العقر هنا ويجب هناك لأن الإقرار بالنسب هنا لا يكون إقرارا بالوطء لتيقننا بعدم العلوق في الملك بخلاف الأول والولد يكون بمنزلة عبد بين شريكين أعتقه أحدهما لأن ابتداء العلوق لم يكن في ملكه فلم يجز إسناد الدعوى إلى حالة العلوق إلا أنه ادعى نسب ولد بعضه على ملكه ودعوى الملك بمنزلة إنشاء الإعتاق ولو أعتق هذا

 

ج / 6 ص -246-       الولد يضمن نصيب شريكه منه إن كان موسرا ولم يضمن إن كان معسرا كذا هذا بخلاف ما إذا علقت الجارية في ملكها لأن هناك استندت الدعوة إلى حال العلوق فسقط الضمان وهنا لا تستند فلا بد من إفراد الولد بالضمان والولاء بينهما وإن ادعياه فهو ابنهما ولا عقر لواحد منهما على صاحبه كما في الأول ولا يفترقان إلا في الولاء فإن ثبت هنا لا يثبت هناك لأن الدعوة ثمة دعوة الاستيلاد فيعلق الولد حرا والدعوة هنا دعوة تحرير وأنه يوجب استحقاق الولاء قال عليه الصلاة والسلام "الولاء لمن أعتق".
ولو كانت الجارية المشتراة زوجة أحدهما فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر يثبت نسبه من الزوج من غير دعوة لأنها إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر فقد تيقنا أن علوق الولد كان من النكاح وعقد النكاح يوجب الفراش بنفسه ويضمن نصف قيمة الجارية لأنها صارت أم ولد له فصار متملكا نصيب شريكه بالقيمة ولا يضمن قيمة الولد لأنه عتق عليه من غير صنعه ولو اشترى أخوان جارية حاملا فجاءت بولد فادعاه أحدهما يثبت نسبه منه وعليه نصف قيمة الولد لأن دعوته دعوة تحرير فإذا ادعاه فقد حرره والتحرير إتلاف نصيب شريكه فيضمن نصف قيمته ولا يعتق الولد على عمه بالقرابة لأن الدعوة من أخيه إعتاق حقيقة فيضاف العتق إليه لا إلى القرابة هذا إذا ولدت الجارية المشتركة ولدا فادعاه أحد الشريكين أو ادعياه جميعا فأما إذا ولدت ولدين فادعى كل واحد منهما ولدا على حدة فنقول هذا في الأصل لا يخلو إما أن ولدتهما في بطن واحد وإما أن ولدتهما في بطنين مختلفين والدعوتان إما أن خرجتا جميعا معا وإما أن سبقت إحداهما الأخرى فإن ولدت الجارية الولدين في بطن واحد فإن خرجت الدعوتان جميعا معا ثبت نسب الولدين منهما جميعا لأن دعوة أحد التوأمين دعوة الآخر لاستحالة الفصل بينهما في النسب لعلوقهما من ماء واحد فكانت دعوة أحدهما دعوة الآخر ضرورة وإن سبق أحدهما بالدعوة ثبت نسب الولدين منه لأنه ثبت نسب المدعى ومن ضرورته ثبوت نسب الآخر وعتقا جميعا لعلوقهما حري الأصل وصارت الجارية أم ولد له وغرم نصف العقر ونصف قيمة الجارية والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا ولدتهما في بطن واحد فأما إذا ولدتهما في بطنين مختلفين فإن خرجت الدعوتان جميعا معا ثبت نسب الأكبر من مدعي الأكبر بلا شك وصارت الجارية أم ولد له وغرم نصف قيمة الجارية ونصف العقر لمدعي الأصغر وهل يثبت نسب الولد الأصغر من مدعي الأصغر فالقياس أن لا يثبت إلا بتصديق مدعي الأكبر وفي الاستحسان يثبت وجه القياس أن الجارية صارت أم ولد لمدعي الأكبر لثبوت نسب الأكبر منه فمدعي الأصغر يدعي ولد أم ولد الغير ومن ادعى ولد أم ولد الغير لا يثبت نسبه منه إلا بتصديقه ولم يوجد وجه الاستحسان أن مدعي الأكبر غير مدعي الأصغر حيث أخر الدعوة إلى دعوته فصار مدعي الأصغر بتأخير دعوة الأكبر مغرورا من جهته وولد المغرور ثابت النسب حر بالقيمة وعلى مدعي الأصغر العقر لمدعي الأكبر لكن نصف العقر أو كله ففيه اختلاف الروايتين والتوفيق بينهما ممكن لأن رواية نصف العقر على مدعي الأصغر جواب حاصل ما عليه من العقر بعد القصاص وهو النصف ورواية الكل بيان ما عليه قبله لأن مدعي الأكبر قد غرم نصف العقر لمدعي الأصغر فالنصف بالنصف يلتقيان قصاصا فلا يبقى على مدعي الأصغر بعد المقاصة إلا النصف فأمكن التوفيق بين الروايتين من هذا الوجه وعلى مدعي الأصغر قيمة الولد الأصغر لأنه ولد المغرور وولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإذا على مدعي الأصغر نصف العقر وكل قيمة الولد وعلى مدعي الأكبر نصف قيمة الجارية لصيرورتها أم ولد له فيصير نصف قيمة الجارية الذي على مدعي الأكبر قصاصا بنصف العقر وقيمة الولد الذي على مدعي الأصغر ويترادان الفضل هذا إذا خرجت الدعوتان جميعا معا فادعى أحدهما الأكبر والآخر الأصغر فأما إذا سبق أحدهما بالدعوة فإن ادعى السابق الأكبر أولا فقد ثبت نسب الأكبر منه وعتق وصارت الجارية أم ولد له وغرم لشريكه نصف قيمة الجارية ونصف العقر بعد ذلك إذا ادعى الآخر الأصغر فقد ادعى ولد أم ولد الغير فلا بد من التصديق لثبات النسب فإن صدقه ثبت النسب ويكون على حكم أمه وإن كذبه لا يثبت النسب هذا إذا ادعى السابق بالدعوة الأكبر

 

ج / 6 ص -247-       أولا فأما إذا ادعى الأصغر أولا ثبت نسب الأصغر منه وعتق وصارت الجارية أم ولد له وضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه الآخر والأكبر بعد رقيق بينهما لأنه ولد جارية مملوكة بينهما لم يدعه أحد فإذا ادعاه الشريك الآخر بعد ذلك صار كعبد بين اثنين أعتقه أحدهما عتق نصيبه وثبت نسبه منه والشريك الآخر بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه إن كان موسرا وإن كان معسرا فله خيار الإعتاق والاستسعاء لا غير وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إن كان موسرا فله تضمين الموسر لا غير وإن كان معسرا فله الاستسعاء على ما علم في كتاب العتاق ولو قال أحدهما الأكبر ابني والأصغر ابن شريكي ثبت نسب الأكبر منه وصارت الجارية أم ولد له وضمن نصف قيمة الجارية ونصف العقر لشريكه والأصغر ولد أم ولده أقر بنسبه لشريكه فإن صدقه شريكه ثبت نسبه منه ولا يعتق وإن كذبه لا يثبت النسب وكذلك لو قدم وأخر بأن قال الأصغر ابني والأكبر ابن شريكي ثبت نسب الأصغر منه ونسب الأكبر موقوف على تصديق شريكه ولو قال أحدهما الأصغر ابني والأكبر ابن شريكي أو قدم وأخر فقال الأكبر ابن شريكي والأصغر ابني ثبت نسب الأصغر منه وعتق وصارت الجارية أم ولد له وعتق وضمن لشريكه نصف قيمة الجارية ونصف العقر ونسب الأكبر موقوف على تصديق شريكه فإن صدقه ثبت النسب منه ويغرم لمدعي الأصغر نصف قيمة الأكبر وإن كذبه صار كعبد بين شريكين شهد أحدهما على صاحبه بالإعتاق وكذبه صاحبه لما علم في كتاب العتاق. ولو ولدت جارية في يد إنسان ثلاثة أولاد فادعى أحدهم فنقول لا يخلو إما إن ولدوا في بطن واحد وإما إن ولدوا في بطون مختلفة ولا يخلو إما إن ادعى أحدهم بعينه وإما إن ادعى أحدهم بغير عينه فإن ولدوا في بطن واحد فادعى أحدهم بغير عينه فقال أحد هؤلاء ابني أو عين واحدا منهم فقال هذا ابني عتقوا وثبت نسب الكل منه لأن من ضرورة ثبوت نسب أحدهم ثبوت نسب الباقين لأنهم توأم علقوا من ماء واحد فلا يفصل بين البعض والبعض في النسب وإذا ثبت نسبهم صارت الجارية أم ولد له هذا إذا ولدوا في بطن واحد وأما إذا ولدوا في بطون مختلفة فقال الأكبر ولدي ثبت نسبه منه وصارت الجارية أم ولد له وهل يثبت نسب الأوسط والأصغر القياس أن يثبت وهو قول زفر رحمه الله ويكون حكمهما حكم الأم وفي الاستحسان لا يثبت وجه القياس ظاهر لأنه لما ثبت نسب الأكبر فقد صارت الجارية أم ولد له فكان الأوسط والأصغر ولد أم الولد وولد أم الولد يثبت نسبه من مولاها من غير دعوة ما لم يوجد النفي منه ولم يوجد وجه الاستحسان أن النفي فيه وإن لم يوجد نصا فقد وجد دلالة وهو الإقدام على تخصيص أحدهم بالدعوة فإن ذلك دليل نفي البواقي إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتخصيص البعض مع استواء الكل في استحقاق الدعوة معنى هذا إذا ادعى الأكبر فأما إذا ادعى الأوسط فهو حر ثابت النسب منه وصارت الجارية أم ولد له والأكبر رقيق لأنه ولد على ملكه ولم يدعه أحد وهل يثبت نسب الأصغر فهو على ما ذكرنا من القياس والاستحسان هذا إذا ادعى الأوسط فأما إذا ادعى الأصغر فهو حر ثابت النسب والجارية أم ولد له والأكبر والأوسط رقيقان لما ذكرنا هذا إذا ادعى أحدهم بعينه فأما إذا ادعى بغير عينه فقال أحد هؤلاء ابني فإن بين فالحكم فيه ما ذكرنا وإن مات قبل البيان عتقت الجارية بلا شك لأنه لما ادعى نسب أحدهم فقد أقر أن الجارية أم ولد له وأم الولد تعتق بموت السيد وأما حكم الأولاد في العتق فقد ذكرنا الاختلاف فيه بين أبي حنيفة وصاحبيه رضوان الله تعالى عليهم في كتاب العتاق عبد صغير بين اثنين أعتقه أحدهما ثم ادعاه الآخر ثبت نسبه منه عند أبي حنيفة رحمه الله ونصف ولائه للآخر وعندهما لا يثبت نسبه بناء على أن الإعتاق يتجزأ عنده فيبقى نصيب المدعي على ملكه فتصح دعوته فيه وعندهما لا يتجزأ ويعتق الكل فلم يبق للمدعي فيه ملك فلم تصح دعوته وإن كان العبد كبيرا فكذلك عنده لما ذكرنا أنه يبقى الملك له في نصيبه وعندهما إن صدقه العبد ثبت النسب وإلا فلا لأنه عتق كله بإعتاق البعض فلا بد من تصديقه ويخرج على الأصل الذي ذكرنا دعوة العبد المأذون ولد جارية من أكسابه أنها تصح ويثبت نسب الولد منه لأن ملك اليد ثابت له وأنه كاف لثبات

 

ج / 6 ص -248-       النسب ولو ادعى المضارب ولد جارية المضاربة لم تصح دعوته إذا لم يكن في المضارب ربح لأنه لا بد لثبات النسب من ملك ولا ملك للمضارب أصلا لا ملك الذات ولا ملك اليد إذا لم يكن في المضاربة ربح ولو ادعى ولدا من جارية لمولاه ليس من تجارته وادعى أن مولاها أحلها له أو زوجها منه لا يثبت نسبه منه إلا بتصديق المولى لأنه أجنبي عن ملك المولى لانعدام الملك له فيه أصلا فالتحق بسائر الأجانب إلا في الحد فإن كذبه المولى ثم عتق فملك الجارية بوجه من الوجوه نفذت دعوته لأنه أقر بجهة مصححة للنسب لكن توقف نفاذه لحق المولى وقد زال. ولو تزوج المأذون حرة أو أمة فوطئها ثبت النسب منه سواء كان النكاح بإذن المولى أو لا لأن النسب ثبت بالنكاح صحيحا كان أو فاسدا وعلى هذا دعوة المكاتب ولد جارية من أكسابه صحيحة لأن ملك اليد والتصرف ثابت له كالمأذون وإذا ثبت نسب الولد منه لم يجز بيع الولد ولا بيع الجارية أما الولد فلأنه مكاتب عليه ولا يجوز بيع المكاتب وأما الأم فلأنه له فيها حق ملك ينقلب ذلك الحق حقيقة عند الأداء فمنع من بيعها والعبد المسلم والذمي سواء في دعوى النسب وكذا المكاتب المسلم والذمي لأن الكفر لا ينافي النسب ويستوي في دعوته الاستيلاد وجود الملك وعدمه عند الدعوة بعد أن كان العلوق في الملك فإن كان العلوق في غير الملك كانت دعوته دعوة تحرير فيشترط قيام الملك عند الدعوة فإن كان في ملكه يصح وإن كان في ملك غيره لا يصح إلا بشرط التصديق أو البينة فنقول جملة الكلام فيه أن الدعوة نوعان دعوة الاستيلاد ودعوة تحرير فدعوة الاستيلاد هي أن يكون علوق المدعى في ملك المدعي وهذه الدعوة تستند إلى وقت العلوق وتتضمن الإقرار بالوطء فيتبين أنه علق حرا ودعوة التحرير هو أن يكون علوق المدعى في غير ملك المدعي وهذه الدعوة تقتصر على الحال ولا تتضمن الإقرار بالوطء لعدم الملك وقت العلوق وبيان هذه الجملة في مسائل إذا ولدت جارية في ملك رجل لستة أشهر فصاعدا فلم يدع الولد حتى باع الأم والولد ثم ادعى الولد صحت دعوته ويثبت النسب منه وعتق وظهر أن الجارية أم ولد له ويبطل البيع في الجارية وفي ولدها وهذا استحسان وفي القياس أن لا تصح دعوته ولا يثبت النسب لعدم الملك وقت الدعوة وجه الاستحسان أن قيام الملك وقت الدعوة ليس بشرط لصحة هذه الدعوة بل الشرط أن يكون علوق الولد في الملك لأن هذه الدعوة تستند إلى وقت العلوق فإذا كان علوق الولد في ملك المدعي فقد ثبت له حق استحقاق النسب وأنه لا يحتمل البطلان كما لا يحتمل حقيقة النسب فلم يبطل البيع وصحت دعوته وظهر أن الجارية كانت أم ولد فلم يصح بيعها وبيع ولدها فيردها وولدها ويرد الثمن ولو لم يدعه البائع حتى خرج عن ملك المشتري بوجه من الوجوه ينظر إن كان ذلك يحتمل الفسخ يفسخ وإن لم يحتمله لا يفسخ إلا لضرورة فنقول بيانه إذا كان المشتري باع الولد أو وهبه أو رهنه أو آجره أو كاتبه فادعاه البائع نقض ذلك وثبت النسب لأن هذه التصرفات مما يحتمل الفسخ والنقض وكذلك لو كان المشتري باع الأم أو كاتبها أو رهنها أو آجرها أو زوجها لما قلنا ولو كان أعتقها أو أعتق الولد لم تصح دعوة البائع لأن العتق بعد ثبوته لا يحتمل البطلان إلا لضرورة لأنه يعقبه أثر لا يحتمل البطلان وهو الولاء وكذلك لو مات الولد أو قتل لأن الميت مستغن عن النسب وكذلك لو كان المشتري باع الولد فأعتقه المشتري أو دبره أو مات عبده لم تصح دعوة البائع لما قلنا ولو كان المشتري أعتق الأم أو دبرها دون الولد صحت دعوته في الولد ولم تصح في الأم وفسخ البيع في الولد ولا يفسخ في الأم لأن المانع من الفسخ خص الأم ولا تصير الجارية أم ولد له لأن أمومية الولد ليست من لوازم ثبات النسب بل تنفصل عنه في الجملة كمن استولد جارية الغير بالنكاح يثبت نسب الولد منه ولا تصير الجارية أم ولد له للحال إلا أن يملكها بوجه من الوجوه وإذا فسخ البيع في الولد يرد البائع من الثمن حصة الولد فيقسم الثمن على قدر قيمتهما فتعتبر قيمة الأم يوم العقد وقيمة الولد يوم الولادة لأنه إنما صار ولدا بالولادة فتعتبر قيمته يومئذ فيسقط قدر قيمة الأم ويرد قدر قيمة الولد ولو كانت قطعت يد الولد عند المشتري وأخذ أرشها ثم ادعاه البائع ثبت نسبه وسلم الأرش للمشتري لأن هذه دعوة الاستيلاد وأنها تستند إلى

 

ج / 6 ص -249-       وقت العلوق ومن شأن المستند أن يثبت للحال أولا ثم يستند فيستدعي قيام المحل للحال لاستحالة ثبوت الحكم في الهالك واليد المقطوعة هالكة فلا يمكن تصحيح الدعوة فيها بطريق الاستناد ويسقط عن البائع من الثمن حصة الولد لأنه سلم البدل للمشتري وهو الأرش ولو ماتت الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته وثبت النسب لأن محل النسب قائم وهو الولد وأمومية الولد ليست من لوازم ثبوت النسب لما تقدم فثبت نسب الولد وإن لم تصر الجارية أم ولد له وهل يرد جميع الثمن عند أبي حنيفة نعم وعندهما لا يرد إلا قدر قيمة الولد فتعتبر القيمتان ويقسم الثمن على قدر قيمتهما فما أصاب قيمة الأم يسقط وما أصاب قيمة الولد يرد لأنه ظهر أن الجارية أم ولده ومن باع أم ولده ثم هلكت عند المشتري لا تكون مضمونة عليه عنده وعندهما تكون مضمونة عليه ولقب المسألة أن أم الولد غير متقومة من حيث إنها مال عنده وعندهما متقومة وهي من مسائل العتاق وعلى هذا إذا باعها والحمل غير ظاهر فولدت في يد المشتري لأقل من ستة أشهر فادعاه البائع وعلى هذا إذا حملت الجارية في ملكه فباعها وهي حامل فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر فادعاه البائع هذا إذا ولدت ولدا "فأما" إذا ولدت ولدين في بطن واحد فادعى البائع فإن ادعاهما ثبت نسب الولدين منه وهذا ظاهر وكذا إذا ادعى أحدهما صحت دعوته ولزمه الولدان جميعا لما مر أن التوأمين لا يحتملان الفصل في النسب لانخلاقهما من ماء واحد فإن ولدت أحدهما لأقل من ستة والآخر لأكثر من ستة أشهر فادعى أحدهما ثبت نسبهما ويجعل كأنهما ولدتهما جميعا عند البائع لأقل من ستة أشهر لأنهما كانا جميعا في البطن وقت البيع ولو ولدتهما عند البائع فباع أحد الولدين مع الأم ثم ادعى الولد الذي عنده ثبت نسبه ونسب الولد المبيع أيضا سواء كان المشتري ادعاه أو أعتقه لما ذكرنا أنهما لا يحتملان الفصل في ثبات النسب فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر وكذلك لو ولدتهما عند المشتري فأعتق أحدهما ثم ادعى البائع الآخر ثبت نسبهما جميعا وينتقض العتق ضرورة فرقا بين الولد وبين الأم أنه لو كان أعتق الأم فادعى البائع الولد لا ينتقض العتق في الأم وينتقض في الولد لأن العتق لا يحتمل الفسخ مقصودا وإنما يحتمله للضرورة وفي الولد ضرورة عدم الاحتمال للانفصال في النسب ولا ضرورة في الأم لما ذكرنا أن أمومية الولد تنفصل عن إثبات النسب في الجملة ولو قطعت يد أحد الولدين ثم ادعاهما البائع ثبت نسبهما وكان الأرش للمشتري لا للبائع إلا أن يقيم البائع البينة على الدعوة قبل البيع فتكون له لما ذكرنا أن ما ثبت بطريق الاستناد ثبت في الحال ثم يستند فيستدعي قيام المحل للحال واليد المقطوعة هالكة فلا يظهر أثر الدعوة فيها ولو قتل أحدهما ثم ادعاهما البائع ثبت نسبهما وكانت قيمة المقتول لورثة المقتول لا للمشتري فرقا بين القتل والقطع "ووجه" الفرق أن محل حكم الدعوة مقصودا هو النفس وإنما يظهر في الأطراف تبعا للنفس وبالقطع انقطعت التبعية فلا يظهر حكم الدعوة فيها فسلم الأرش للمشتري ونفس كل واحد من التوأمين أصل في حكم الدعوة فمتى صحت في أحدهما تصح في الآخر وإن كان مقتولا ضرورة أنه لا يتصور الفصل بينهما في النسب ومتى صحت الدعوة استندت إلى وقت العلوق لأنها دعوة الاستيلاد فتبين أنهما علقا حرين فكان ينبغي أن تجب الدية لورثة المقتول لا القيمة إلا أنه وجبت القيمة لأن صحة هذه الدعوة بطريق الاستناد والمستند يكون ظاهرا من وجه مقتصرا على الحال من وجه فعملنا بالشبهين فأوجبنا القيمة عملا بشبه الاقتصاد وجعلنا الواجب لورثة المقتول عملا بشبه الظهور عملا بالدليلين بقدر الإمكان وكذلك لو أعتق المشتري أحدهما ثم قتل وترك ميراثا فأخذ ديته وميراثه بالولاء ثم ادعى البائع الولدين فإنه يقضى بالحي وأمه للبائع ويثبت نسب الولد المقتول منه ويأخذ الدية والميراث من المشتري لما قلنا هذا إذا ولدت في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فإن ولدت لستة أشهر فصاعدا لم تصح دعوة البائع إلا أن يصدقه المشتري لأنا لم نتيقن بالعلوق في الملك فلم يمكن تصحيح هذه الدعوة دعوة استيلاد فتصحح دعوة تحرير ويشترط لصحة هذه الدعوة قيام الملك للمدعي وقت الدعوة ولم يوجد فلا تصح إلا إذا صدقه المشتري فتصح لأنه أقر بنسب عبد غيره وقد صدقه الغير في ذلك فثبت نسبه ويكون عبدا لمولاه ولو

 

ج / 6 ص -250-       ادعى المشتري نسبه بعد تصديقه البائع لم يصح لما مر أن النسب متى ثبت لإنسان في زمان لا يتصور ثبوته من غيره بعد ذلك هذا كله إذا كانت الدعوى من البائع فإن كانت من المشتري وقد ولدت لأقل من ستة أشهر صحت دعوته وثبت النسب لأن هذه دعوة تحرير لا دعوة استيلاد لتيقننا أن العلوق لم يكن في الملك فيستدعي قيام الملك وقت الدعوة وقد وجد فلو ادعاه البائع بعد ذلك لا تسمع دعوته لما مر أن إثبات نسب ولد واحد من اثنين على التعاقب يمتنع ولو ادعاه البائع والمشتري معا فدعوة البائع أولى لأن دعوته دعوة استيلاد لوقوع العلوق في الملك وأنها تستند إلى وقت العلوق ودعوة المشتري دعوة تحرير لوقوع العلوق في غير الملك بيقين وأنها تقتصر على الحال والمستند أولى لأنه سابق في المعنى والأسبق أولى كرجلين ادعيا تلقي الملك من واحد وتاريخ أحدهما أسبق كان الأسبق أولى كذا هذا وعلى هذا إذا ولدت أمة رجل ولدا في ملكه لستة أشهر فصاعدا فادعاه أبوه ثبت نسبه منه سواء ادعى شبهة أو لا صدقه الابن في ذلك أو كذبه لأن الإقرار بنسب الولد إقرار بوطء الجارية والأب إذا وطئ جارية ابنه من غير نكاح يصير متملكا إياها لحاجته إلى نسب ولد يحيا به ذكره ولا يثبت النسب إلا بالملك وللأب ولاية تملك مال ابنه عند حاجته إليه ألا ترى أنه يتملك ماله عند حاجته إلى الإنفاق على نفسه كذا هذا إلا أن هناك يتملك بغير عوض وهنا بعوض وهو قيمة الجارية لتفاوت بين الحاجتين إذ الحاجة هناك إلى إبقاء النفس والحاجة هنا إلى إبقاء الذكر والاسم والتملك بغير عوض أقوى من التملك بعوض لأن ما قابله عوض كان تملكا صورة لا معنى وقد دفع الشارع كل حاجة بما يناسبها فدفع حاجة استيفاء المهجة بالتملك بغير بدل وحاجة استيفاء الذكر بالتملك ببدل رعاية للجانبين جانب الابن وجانب الأب وتصديق الابن ليس بشرط فسواء صدقه الابن في الدعوى والإقرار أو كذبه يثبت النسب فرقا بين هذا وبين المولى إذا ادعى ولد أمة مكاتبه أنه لا يثبت نسبه منه إلا بتصديق المكاتب "ووجه" الفرق ظاهر لأنه لا ولاية للمولى على مال المكاتب فكان أجنبيا عنه فوقعت الحاجة إلى تصديقه وللأب ولاية على مال ابنه فلا يحتاج إلى تصديقه لصحة هذه الدعوة لكن من شرط صحة هذه الدعوة كون الجارية في ملك الابن من وقت العلوق إلى وقت الدعوة حتى لو اشتراها الابن فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فادعاه الأب لا تصح دعوته لانعدام الملك وقت العلوق وكذا لو باعها فجاءت بولد في يد المشتري لأقل من ستة أشهر فادعاه الأب لم تصح لانعدام الملك وقت الدعوة وكذا لو كان العلوق في ملكه وولدت في ملكه وخرجت عن ملكه فيما بينهما لانقطاع الملك فيما بينهما ثم إنما كان قيام الملك للابن في الجارية من وقت العلوق إلى وقت الدعوة شرطا لصحة هذه الدعوة لأن الملك يثبت مستندا إلى زمان العلوق ولا يثبت الملك إلا بالتملك ولا تملك إلا بولاية التملك لأن تملك مال الإنسان عليه كرها وتنفيذ التصرف عليه جبرا لا يكون إلا بالولاية فلا بد من قيام الولاية فإذا لم تكن الجارية في ملكه من وقت العلوق إلى وقت الدعوة لم تتم الولاية فلا يستند الملك وكذلك الأب لو كان كافرا أو عبدا فادعى لا تصح دعوته لأن الكفر والرق ينفيان الولاية ولو كان كافرا فأسلم أو عبدا فأعتق فادعى نظر في ذلك إن ولدت بعد الإسلام أو الإعتاق لأقل من ستة أشهر لم تصح دعوته لانعدام ولاية التملك وقت العلوق وإن ولدت لستة فصاعدا صحت دعوته ويثبت النسب لقيام الولاية ولو كان معتوها فأفاق صحت دعوته استحسانا والقياس أن لا تصح لأن الجنون مناف للولاية بمنزلة الكفر والرق "وجه" الاستحسان أن الجنون أمر عارض كالإغماء وكل عارض على أصل إذا زال يلتحق بالعدم من الأصل كأنه لم يكن كما لو أغمي عليه ثم أفاق ولو كان مرتدا فادعى ولد جارية ابنه فدعوته موقوفة عند أبي حنيفة لتوقف ولايته وعندهما صحيحة لنفاذ ولايته بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده وعندهما نافذة وإذا ثبت الولد من الأب فنقول صارت الجارية أم ولد ولا عقر عليه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وعند زفر والشافعي رحمهما الله يجب عليه العقر "وجه" قولهما أن الملك ثبت شرطا لصحة الاستيلاد والاستيلاد إيلاج منزل معلق فكان الفعل قبل الإنزال خاليا عن الملك فيوجب العقر ولهذا يوجب نصف العقر في الجارية المشتركة بين الأجنبيين إذا جاءت بولد فادعاه أحدهما لأن

 

ج / 6 ص -251-       الوطء في نصيب شريكه حصل في غير الملك فيوجب نصف العقر. "ولنا" أن الإيلاج المنزل المعلق من أوله إلى آخره إيلاج واحد فكان من أوله إلى آخره استيلادا فلا بد وأن يتقدمه الملك أو يقارنه على جارية مملوكة لنفسه فلا عقر بخلاف الجارية المشتركة؛ لأن ثمة لم يكن نصيب الشريك شرطا لصحة الاستيلاد وثبات النسب؛ لأن نصف الجارية ملكه وقيام أصل الملك يكفي لذلك وإنما يثبت حكما للثابت في نصيبه قضية للنسب ضرورة أنه لا يتجزأ وحكم الشيء لا يسبقه بل يتعقبه فوطء المدعي صادف نصيبه ونصيب شريكه ولا ملك له في نصيب شريكه والوطء في غير الملك يوجب الحد إلا أنه سقط للشبهة فوجب العقر وهنا التملك ثبت شرطا لثبوت النسب وصحة الاستيلاد وشرط الشيء يكون سابقا عليه أو مقارنا له فالوطء صادف ملك نفسه فلا يوجب العقر ولا يضمن قيمة الولد أيضا؛ لأنه علق حرا وإن كانت الجارية مملوكة لا ولاء عليه؛ لأن ذلك حكم الإعتاق فيستدعي تقدم الرق ولم يوجد ودعوة الجد أبي الأب ولد جارية ابن الابن بمنزلة دعوة الأب عند انعدامه أو عند انعدام ولايته "فأما" عند قيام ولايته فلا حتى لو كان الجد نصرانيا وحافده مثله والأب مسلم لم تصح دعوة الجد لقيام ولاية الأب وإن كان الأب ميتا أو كان كافرا أو عبدا تصح دعوة الجد لانقطاع ولاية الأب وكذا إذا كان الأب معتوها من وقت العلوق إلى وقت الدعوة صحت دعوة الجد لما قلنا فإن أفاق ثم ادعى الجد لم تصح دعوته؛ لأنه لما أفاق فقد التحق العارض بالعدم من الأصل فعادت ولاية الأب فسقطت ولاية الجد ولو كان الأب مرتدا فدعوة الجد موقوفة عند أبي حنيفة رحمه الله فإن قتل على الردة أو مات صحت دعوة الجد وإن أسلم لم تصح لتوقف ولايته عنده كتوقف تصرفاته وعندهما لا تصح دعوة الجد؛ لأن تصرفاته عندهما نافذة فكانت ولايته قائمة هذا إذا وطئ الأب جارية الابن من غير نكاح "فأما" إذا وطئها بالنكاح ثبت النسب من غير دعوة سواء وطئها بنكاح صحيح أو فاسد؛ لأن النكاح يوجب الفراش بنفسه صحيحا كان أو فاسدا ولا يتملك الجارية؛ لأنه وطئها على ملك الابن بعقد النكاح وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز هذا النكاح لما علم في كتاب النكاح ويعتق الولد على أخيه بالقرابة؛ لأن النسب إنما يثبت بعقد النكاح لا بملك اليمين فبقيت الجارية على ملك الابن وقد ملك الابن أخاه فيعتق عليه فإن ملك الأب الجارية بوجه من الوجوه صارت أم ولد له لوجود سبب أمومية الولد وهو ثبات النسب إلا أنه توقف حكمه على وجود الملك فإذا ملكها صارت أم ولد له هذا كله إذا ادعى الأب ولد جارية ابنه فأما إذا ادعى ولد أم ولده أو مدبرته بأن جاءت بولد فنفاه الابن حتى انتفى نسبه منه ثم ادعاه الأب لم يثبت نسبه منه في ظاهر الرواية وعليه نصف العقر وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه فرق بين ولد أم الولد وبين ولد المدبرة فقال لا يثبت نسب ولد أم الولد ويثبت نسب ولد المدبرة من الأب وعليه قيمة الولد والعقر والولاء للابن "وجه" هذه الرواية أن إثبات النسب لا يقف على ملك الجارية لا محالة فإن نسب ولدا لأمة المنكوحة يثبت من الزوج والأمة ملك المولى "وأما" القيمة؛ فلأنه ولد ثابت النسب علق حرا فأشبه ولد المغرور فيكون حرا بالقيمة والولاء للابن؛ لأنه استحقه بالتدبير وأنه لا يحتمل الفسخ بعد الاستحقاق بخلاف ولد أم الولد؛ لأن أم الولد فراش لمولاها فكان الولد مولودا على فراش الابن والمولود على فراش إنسان لا يثبت نسبه من غيره وإن انتفى عنه بالنفي كما في اللعان والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن النسب لا يثبت إلا بالملك وأم الولد والمدبرة لا يحتملان التملك ويضمن العقر؛ لأنه إذا لم يتملكها فقد حصل الوطء في غير الملك وقد سقط الحد للشبهة فيجب العقر هذا إذا لم يصدقه الابن في الدعوى بعدما نفاه فإن صدقه ثبت النسب بالإجماع؛ لأن نسب ولد جارية الأجنبي يثبت من المدعي بتصديقه في النسب فنسب ولد جارية الابن أولى ويعتق على الابن؛ لأن أخاه ملكه وولاؤه له؛ لأن الولاء لمن أعتق ولو ادعى ولد مكاتبة ابنه لم يثبت نسبه منه؛ لأن النسب لا يثبت بدون الملك والمكاتبة لا تحتمل التملك فلا تصح دعوته إلا إذا عجزت فتنفذ دعوته؛ لأنها إذا عجزت فقد عادت قنا وجعل المعارض كالعدم من الأصل فصار كما لو ادعى قبل الكتابة والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 6 ص -252-       "فصل" وأما بيان ما يظهر به النسب فالنسب يظهر بالدعوة مرة وبالبينة أخرى أما ظهور النسب بالدعوة فيستدعي شرائط صحة الدعوة والإقرار بالنسب وسنذكره في كتاب الإقرار إلا أنه قد يظهر بنفس الدعوة وقد لا يظهر إلا بشريطة التصديق فنقول جملة الكلام فيه أن المدعى نسبه إما أن يكون في يد نفسه وإما أن لا يكون فإن كان في يد نفسه لا يثبت نسبه من المدعي إلا إذا صدقه؛ لأنه إذا كان في يد نفسه فإقراره يتضمن إبطال يده فلا تبطل إلا برضاه وإن لم يكن في يد نفسه فإما أن يكون مملوكا وإما أن لم يكن فإن كان مملوكا يثبت نسبه بنفس الدعوة إذا كان في ملك المدعي وقت الدعوة وإن كان في ملك غيره عند الدعوة فإن كان علوقه في ملك المدعي ثبت نسبه بنفس الدعوة أيضا. وإن لم يكن علوقه في ملكه لا يثبت نسبه إلا بتصديق المالك على ما ذكرنا وإن لم يكن مملوكا فإما إن لم يكن في يد أحد لا في يد غيره ولا في يد نفسه كالصبي المنبوذ وإما إن كان في يد أحد كاللقيط فإن لم يكن في يد أحد ثبت نسبه بنفس الدعوة استحسانا والقياس أن لا يثبت "وجه" القياس أنه ادعى أمرا جائز الوجود والعدم فلا بد لترجيح أحد الجانبين من مرجح ولم يوجد فلم تصح الدعوة. "وجه" الاستحسان أنه عاقل أخبر بما هو محتمل الثبوت وكل عاقل أخبر بما يحتمل الثبوت يجب تصديقه تحسينا للظن به وهو الأصل إلا إذا كان في تصديقه ضرر بالغير وهنا في التصديق نظر من الجانبين جانب اللقيط بالوصول إلى شرف النسب والحضانة والتربية وجانب المدعي بولد يستعين به على مصالحه الدينية والدنيوية وتصديق العاقل في دعوى ما ينتفع به ولا يتضرر غيره به واجب ولو ادعاه رجلان ثبت نسبه منهما عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يثبت إلا من أحدهما ويتعين بقبول القافة على ما ذكرنا ولو ادعاه أكثر من رجلين فعند أبي حنيفة رحمه الله يثبت نسبه من خمسة وعند أبي يوسف رحمه الله من اثنين وعند محمد رحمه الله من ثلاثة. وقد مرت المسألة ولو ادعته امرأتان صحت دعوتهما عند أبي حنيفة وعندهما لا تصح وسنذكر الحجج من بعد إن شاء الله تعالى هذا إذا لم يكن في يد أحد فإن كان وهو اللقيط ثبت نسبه من الملتقط بنفس الدعوة استحسانا والقياس أن لا يثبت إلا بالبينة وقد ذكرنا وجههما فيما تقدم وكذا من الخارج صدقه الملتقط في ذلك أو لا استحسانا والقياس أن لا يثبت إذا كذبه. "وجه" القياس أن هذا إقرار تضمن إبطال يد الملتقط؛ لأن يده عليه ثابتة حقيقة وشرعا حتى لو أراد غيره أن ينزعه من يده جبرا ليحفظه ليس له ذلك والإقرار إذا تضمن إبطال الغير لا يصح وجه الاستحسان أن يد المدعي أنفع للصبي من يد الملتقط؛ لأنه يقوم بحضانته وتربيته ويتشرف بالنسب فكان المدعي به أولى وسواء كان المدعي مسلما أو ذميا استحسانا والقياس أن لا تصح دعوة الذمي "ووجهه" أنا لو صححنا دعوته وأثبتنا نسب الولد منه للزمنا استتباعه في دينه وهذا يضر فلا تصح دعوته وجه الاستحسان أنه ادعى أمرين ينفصل أحدهما عن الآخر في الجملة وهو النسب والتبعية في الدين إذ ليس من ضرورة كون الولد منه أن يكون على دينه ألا يرى أنه لو أسلمت أمه يحكم بإسلامه وإن كان أبوه كافرا فيصدق فيما ينفعه ولا يصدق فيما يضره ويكون مسلما. وذكر في النوادر أن من التقط لقيطا فادعاه نصراني فهو ابنه ثم إن كان عليه زي المسلمين فهو مسلم وإن كان عليه زي الشرك بأن يكون في رقبته صليب ونحو ذلك فهو على دين النصارى هذا إذا أقر الذمي أنه ابنه فإن أقام البينة على ذلك فإن كان الشهود من أهل الذمة لا تقبل شهادتهم في استتباع الولد في دينه؛ لأن هذه شهادة تضمنت إبطال يد المسلم وهو الملتقط فكانت شهادة على المسلم فلا تقبل وإن كانوا من المسلمين تقبل ويكون الولد على دينه فرقا بين الإقرار وبين البينة وذلك أنه متهم في إقراره ولا تهمة في الشهادة وسواء كان المدعي حرا أو عبدا؛ لأنه ادعى شيئين أحدهما يحتمل الفصل على الآخر وهو النسب والرق فيصدق فيما ينفعه ولا يصدق فيما يضره ولو ادعاه الخارج والملتقط معا فالملتقط أولى لاستوائهما في الدعوة ونفع الصبي فترجح باليد فإن سبقت دعوة الملتقط لا تسمع دعوة الخارج؛ لأنه ثبت نسبه منه فلا يتصور ثبوته من غيره بعد ذلك إلا أن يقيم البينة؛ لأن الدعوة لا تعارض البينة. ولو ادعاه خارجان فإن كان

 

ج / 6 ص -253-       أحدهما مسلما والآخر ذميا فالمسلم أولى؛ لأنه يتبعه في الإسلام فكان أنفع للصبي وكذا إذا ادعته مسلمة وذمية فالمسلمة أولى ولو شهد للذمي مسلمان وللمسلم ذميان فهو للمسلم؛ لأن الحجتين وإن تعارضتا فإسلام المدعي كاف للترجيح ولو كان أحدهما حرا والآخر عبدا فالحر أولى؛ لأنه أنفع للقيط وإن كانا حرين مسلمين فإن ذكر أحدهما علامة في بدن اللقيط ولم يذكر الآخر فوافقت دعوته العلامة فصاحبها أولى لرجحان دعواه بالعلامة؛ لأن الشرع ورد بالترجيح بالعلامة في الجملة قال الله تبارك وتعالى في قصة سيدنا يوسف عليه أفضل التحية {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} جعل قد القميص من خلف دليل مراودتها إياه لما أن ذلك علامة جذبها إياه إلى نفسها والقد من قدام علامة دفعها إياه عن نفسها وكذلك قال أصحابنا في لؤلئي ودباغ في حانوت واحد هو في أيديهما فيه لؤلؤ وإهاب فتنازعا أنه فيهما يقضى باللؤلؤ للؤلئي وبالإهاب للدباغ؛ لأن الظاهر يشهد باللؤلؤ للؤلئي وبالإهاب للدباغ. وكذلك قالوا في الزوجين اختلفا في متاع البيت أن ما يكون للرجال يجعل في يد الزوج وما يكون للنساء يجعل في يدها ونحو ذلك من المسائل بناء على ظاهر الحال وغالب الأمر كذا هذا فإن ادعى أحدهما علامات في هذا اللقيط فوافق البعض وخالف البعض ذكر الكرخي رحمه الله أنه يثبت نسبه منهما؛ لأنه وقع التعارض في العلامات فسقط الترجيح بها كأن سكت عن ذكر العلامة رأسا وإن لم يذكر أحدهما علامة أصلا ولكن لأحدهما بينة فإنه يقضى له؛ لأن الدعوة لا تعارض البينة وإن لم يكن لأحدهما بينة ثبت نسبه منهما جميعا وهذا عندنا لاستوائهما في الدعوة وعند الشافعي رحمه الله لا يثبت نسبه إلا من أحدهما ويتعين بقول القافة على ما ذكرنا والكلام مع الشافعي رحمه الله تقدم ولو كان المدعي أكثر من رجلين فهو على الخلاف الذي ذكرناه في الجارية المشتركة. ولو قال أحد المدعيين هو ابني وهو غلام فإذا هو جارية لم يصدق؛ لأنه ظهر كذبه بيقين ولو قال أحدهما هو ابني وقال الآخر هو ابنتي فإذا هو خنثى يحكم مباله فإن كان يبول من مبال الرجال فهو ابن مدعي البنوة وإن كان يبول من مبال النساء فهي ابنة مدعي البنتية وإن كان يبول منهما جميعا يعتبر السبق فإن استويا في السبق فهو مشكل عند أبي حنيفة وعندهما تعتبر كثرة البول فإن استويا في ذلك فهو مشكل؛ لأن هذا حكم الخنثى وينبغي أن يثبت نسبه منهما جميعا ولو قال الملتقط هو ابني من زوجتي هذه فصدقته فهو ابنهما حرة كانت أو أمة غير أنها إن كانت حرة كان الابن حرا بالإجماع وإن كانت أمة كان ملكا لمولى الأمة عند أبي يوسف وعند محمد يكون حرا وجه قول محمد أن نسبه وإن ثبت من الأمة لكن في جعله تبعا لها في الرق مضرة بالصبي وفي جعله حرا منفعة له فيتبعها فيما ينفعه ولا يتبعها فيما يضره كالذمي إذا ادعى نسب لقيط ثبت نسبه منه لكن لا يتبعه فيما يضره وهو دينه لما قلنا كذا هذا وجه قول أبي يوسف أن الأصل أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فكان من ضرورة ثبوت النسب منها أن يكون رقيقا والرق وإن كان يضره فهو ضرر يلحقه ضرورة غيره فلا يعتبر. ولو ادعته امرأة أنه ابنها وهي حرة أو أمة ذكر في الأصل أنها لا تصدق على ذلك حتى تقيم البينة أنها ولدته وإن أقامت امرأة واحدة على الولادة قبلت إذا كانت حرة عدلة أطلق الجواب في الأصل ولم يفصل بين ما إذا كان لها زوج أم لا منهم من حمل هذا الجواب على ما إذا كان لها زوج؛ لأنه إذا كان لها زوج كان في تصحيح دعوتها حمل النسب على الغير فلا تصح إلا بالبينة أو بتصديق الزوج فأما إذا لم يكن لها زوج فلا يتحقق معنى التحميل فيصح من غير بينة ومنهم من حقق جواب الكتاب وأجرى رواية الأصل على إطلاقها وفرق بين الرجل والمرأة فقال يثبت نسبه من الرجل بنفس الدعوة ولا يثبت نسبه منها إلا ببينة ووجه الفرق أن النسب في جانب الرجال يثبت بالفراش وفي جانب النساء يثبت بالولادة ولا تثبت الولادة إلا بدليل وأدنى الدلائل عليها شهادة القابلة ولو ادعته امرأتان فهو ابنهما عند أبي حنيفة وكذا إذا كن خمسا عنده وعندهما لا يثبت نسب الولد من المرأتين أصلا وجه قولهما أن النسب في جانب النساء يثبت بالولادة وولادة ولد

 

ج / 6 ص -254-       واحد من امرأتين لا يتصور فلا يتصور ثبوت النسب منهما بخلاف الرجال؛ لأن النسب في جانبهم يثبت بالفراش ولأبي حنيفة أن سبب ظهور النسب هو الدعوة وقد وجدت من كل واحدة منهما وما قالا إن الحكم في جانبهن متعلق بالولادة فنعم لكن في موضع أمكن وهنا لا يمكن فتعلق بالدعوة وقد ادعياه جميعا فيثبت نسبه منهما وعلى هذا لو ادعاه رجل وامرأتان يثبت نسبه من الكل عنده وعندهما يثبت من الرجل لا غير. ولو ادعاه رجلان وامرأتان كل رجل يدعي أنه ابنه من هذه المرأة والمرأة صدقته فهو ابن الرجلين والمرأتين عند أبي حنيفة وعندهما ابن الرجلين لا غير وأما ظهور النسب بالبينة فنقول وبالله التوفيق البينة يظهر بها النسب مرة ويتأكد ظهوره أخرى فكل نسب يجوز ثبوته من المدعي إذا لم يحتمل الظهور بالدعوة أصلا لا بنفسها ولا بقرينة التصديق بأن كان فيه حمل النسب على الغير ونحو ذلك يظهر بالبينة وكذا ما احتمل الظهور بالدعوة لكن بقرينة التصديق إذا انعدم التصديق وظهر أيضا بالبينة وكل نسب يحتمل الظهور بنفس الدعوة يتأكد ظهوره بالبينة كما إذا ادعى اللقيط رجل الملتقط أو غيره وثبت نسبه من المدعي ثم ادعاه رجل آخر وأقام البينة يقضى له؛ لأن النسب وإن ظهر بنفس الدعوة لكنه غير مؤكد فاحتمل البطلان بالبينة وكذا لو ادعاه رجلان معا ثم أقام أحدهما البينة فصاحب البينة أولى لما قلنا وإذا تعارضت البينتان في النسب فالأصل فيه ما ذكرنا في تعارض البينتين على الملك أنه إن أمكن ترجيح إحداهما على الأخرى يعمل بالراجح وإن تعذر الترجيح يعمل بهما إلا أن هناك إذا تعذر الترجيح يعمل بكل واحدة منهما من وجه بقدر الإمكان وهنا يعمل بكل واحدة منهما من كل وجه ويثبت النسب من كل واحد من المدعيين لإمكان إثبات النسب لولد واحد من اثنين على الكمال واستحالة كون الشيء الواحد مملوكا لاثنين على الكمال في زمان واحد إذا عرفنا هذا فنقول جملة الكلام فيه أن تعارض البينتين إما أن يكون بين الخارج وبين ذي اليد وإما أن يكون بين الخارجين وبين ذي اليد فإن كان بين الخارج وذي اليد فبينة ذي اليد أولى؛ لأنهما استويا في البينة فيرجح صاحب اليد باليد وإن كان بين الخارجين وبين ذي اليد فإن أمكن ترجيح أحدهما بوجه من الوجوه من الإسلام والحرية والعلامة واليد وقوة الفراش وغير ذلك من أسباب الترجيح يعمل بالراجح وإن استويا يعمل بهما ويثبت النسب منهما. وعلى هذا إذا ادعى أحدهما أن اللقيط ابنه وادعى الآخر أنه عبده يقضى للذي ادعى أنه ابنه؛ لأنه يدعي الحرية والآخر يدعي الرق فبينة الحرية أقوى وكذلك لو أقام أحدهما البينة أنه ابنه من هذه الحرة وأقام الآخر البينة أنه ابنه من هذه الأمة فهو ابن الحر والحرة لما قلنا ولو أقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه من امرأة حرة فهو ابن الرجلين وابن المرأتين على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ابن الرجلين لا غير لما مر ولو ادعاه رجلان ووقتت بينة كل واحد منهما فإن استوى الوقتان ثبت النسب منهما لاستواء البينتين ولو كان وقت إحداهما أسبق يحكم سن الصبي فيعمل عليه؛ لأنه حكم عدل فإن أشكل سنه فعلى قياس قول أبي حنيفة يقضى لأسبقهما وقتا وعندهما يقضى لهما وجه قولهما أنه إذا أشكل السن سقط اعتبار التاريخ أصلا كأنهما سكتا عنه ولأبي حنيفة رحمه الله أنه إذا أشكل السن لم يصلح حكما فبقي الحكم للتاريخ فيرجح الأسبق ولو ادعى رجل أن اللقيط ابنه وأقام البينة وادعت المرأة أنه ابنها وأقامت البينة فهو بينهما لعدم التنافي بين ثبوت نسبه منهما كما إذا ادعاه رجلان بل أولى وعلى هذا غلام قد احتلم ادعى على رجل وامرأة أنه ابنهما وأقام البينة وادعى رجل آخر وامرأته أن الغلام ابنهما وأقاما البينة ثبت نسب الغلام من الأب والأم الذي ادعاه الغلام أنه ابنهما ويبطل النسب الذي أنكره الغلام؛ لأن البينتين تعارضتا وترجحت بينة الغلام بيده إذ هو في يد نفسه كالخارجين إذا أقاما البينة ولأحدهما يد كان صاحب اليد أولى كذا هنا وكذلك لو كان الغلام نصرانيا فأقام بينة من المسلمين على رجل نصراني وامرأة نصرانية وادعاه مسلم ومسلمة فبينة الغلام أولى ولا تترجح بينة المدعي المسلم؛ لأنه لا يد له وإن كان مسلما وإن كان بينة الغلام من النصارى يقضى بالغلام للمسلم والمسلمة؛ لأن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة فالتحقت بالعدم فبقي مجرد الدعوة فلا تعارض البينة ويجبر الغلام على الإسلام. غلام في

 

ج / 6 ص -255-       يد إنسان ادعى صاحب اليد أنه ابنه وولدته أمته هذه في ملكه وأقام البينة على ذلك وادعى خارج أن الغلام ابنه ولدته الأمة في ملكه وأقام البينة فإن كان الغلام صغيرا لا يتكلم يقضى به لصاحب اليد لاستوائهما في البينة فيرجح صاحب اليد باليد كما في النكاح وإن كان كبيرا يتكلم فقال أنا ابن الآخر يقضى بالأمة والغلام للخارج؛ لأن الغلام إذا كان كبيرا يتكلم في يد نفسه فالبينة التي يدعيها الغلام أولى وكذلك لو كان الغلام ولد حرة وهما في يد رجل فأقام صاحب اليد البينة على أنه ولد على فراشه والغلام يتكلم ويدعي ذلك وأقام الخارج البينة على ملكه يقضى بالمرأة وبالولد للذي هما في يده لما قلنا وإن كان الذي في يده من أهل الذمة والمرأة ذمية وأقام شهودا مسلمين يقضى بالمرأة والولد للذي هما في يده؛ لأن شهادة المسلمين حجة مطلقة ولو أقام الخارج البينة على أنه تزوجها في وقت كذا وأقام الذي في يده البينة على وقت دونه يقضى للخارج؛ لأنه إذا ثبت سبق أحد النكاحين كان المتأخر منهما فاسدا فالبينة القائمة على النكاح الصحيح أقوى فكانت أولى وعلى هذا غلام قد احتلم ادعى أنه ابن فلان ولدته أمته فلانة على فراشه وذلك الرجل يقول هو عبدي ولد أمتي التي زوجتها عبدي فلانا فولدت هذا الغلام منه والعبد حي يدعي ذلك فهو ابن العبد؛ لأنه تعارض الفراشان فراش النكاح وفراش الملك وفراش النكاح أقوى؛ لأنه لا ينتفي إلا باللعان وفراش الملك ينتفي بمجرد النفي فكان فراش النكاح أقوى فكان أولى. ولو ادعى الغلام أنه ابن العبد من هذه الأمة فأقر العبد بذلك وقامت عليه البينة وادعى المولى أنه ابنه فهو ابن العبد لما قلنا ويعتق؛ لأنه ادعى نسبه والإقرار بالنسب يتضمن الإقرار بالحرية فإن لم يعمل في النسب يعمل في الحرية وكذلك لو مات الرجل وترك مالا فأقام الغلام البينة أنه ابن الميت من أمته وأقام الآخر البينة أنه عبده ولدته أمته من زوجها فلان والزوج عبده أيضا والعبد حي يدعي ذلك يقضى له بالنسب؛ لأنه يدعي فراش النكاح وأنه أقوى فإن كان العبد ميتا ثبت نسب الغلام من الحر وورث منه؛ لأن بينة الغلام خلت عن المعارض لانعدام الدعوة من العبد فيجب العمل بها والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما صفة النسب الثابت فالنسب في جانب النساء إذا ثبت يلزم حتى لا يحتمل النفي أصلا؛ لأنه في جانبهن يثبت بالولادة ولا مرد لها "وأما" في جانب الرجال فنوعان نوع يحتمل النفي ونوع لا يحتمله أما ما يحتمل النفي فنوعان "نوع" ينتفي بنفس النفي من غير لعان ونوع لا ينتفي بنفس النفي بل بواسطة اللعان "أما الذي" ينتفي بنفس النفي فهو نسب ولد أم الولد؛ لأن فراش أم الولد ضعيف؛ لأنه غير لازم حتى احتمل النقل إلى غيره بالتزويج فاحتمل الانتفاء بنفس النفي من غير الحاجة إلى اللعان "وأما" الذي لا ينتفي بمجرد النفي فهو نسب ولد زوجة يجري بينهما اللعان وهو أن يكون الزوجان حرين مسلمين عاقلين بالغين غير محدودين في القذف على ما ذكرنا في كتاب اللعان؛ لأن فراش النكاح لازم لا يحتمل النقل فكان قويا فلا يحتمل الانتفاء بنفس النفي ما لم ينضم إليه اللعان. ولهذا إذا كان العلوق بنكاح فاسد أو شبهة نكاح لا ينتفي نسب الولد بالنفي؛ لأن الانتفاء بواسطة اللعان ولا لعان في النكاح الفاسد لانعدام الزوجية حقيقة لما علم في كتاب اللعان والله تعالى أعلم "وأما الذي" لا يحتمل النفي فهو نسب ولد زوجة لا يجري بينهما اللعان فإذا كان الزوجان ممن لا لعان بينهما لا ينتفي نسب الولد بالنفي وكذا النسب بعد الإقرار به لا يحتمل النفي؛ لأن النفي يكون إنكارا بعد الإقرار فلا يسمع إلا أن الإقرار نوعان نص ودلالة لما ذكرنا في كتاب اللعان.

"فصل": وأما حكم تعارض الدعوتين لا غير أما حكمه في النسب فقد مر ذكره في أثناء مسائل النسب وأما حكمه في الملك فالكلام فيه في موضعين "أحدهما" في حكم تعارض الدعوتين في أصل الملك والثاني في قدر الملك أما الأول فسبيل تعارض الدعوتين في أصل الملك ما هو سبيل تعارض البينتين فيه من طلب الترجيح والعمل بالراجح عند الإمكان وعند تعذر العمل بهما بقدر الإمكان تصحيحا للدعوتين بالقدر الممكن. وبيان ذلك في مسائل رجلان ادعيا دابة أحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فهي للراكب لأنه مستعمل للدابة فكانت في يده "وكذلك" إذا

 

ج / 6 ص -256-       كان لأحدهما عليه حمل وللآخر عليه كور معلق أو مخلاة معلقة فصاحب الحمل أولى لما قلنا ولو كانا جميعا راكبين لكن أحدهما في السرج والآخر رديفه فهي لهما في ظاهر الرواية "وروي" عن أبي يوسف رحمه الله أنها لراكب السرج لقوة يده "وجه" ظاهر الرواية أنهما جميعا استويا في أصل الاستعمال فكانت الدابة في أيديهما فكانت لهما. ولو كانا جميعا راكبين في السرج فهي لهما إجماعا لاستوائهما في الاستعمال ولو ادعيا عبدا صغيرا لا يعبر عن نفسه وهو في أيديهما فهو بينهما؛ لأنه إذا كان لا يعبر عن نفسه كان بمنزلة العروض والبهائم فتبقى اليد عليه ألا ترى أنه لو ادعى صبيا صغيرا مجهول النسب في يده أنه عبده ثم كبر الصبي فادعى الحرية فالقول قول صاحب اليد ولا تسمع دعوى الحرية إلا ببينة؛ لأنه كان في يده وقت الدعوة فلا تزول يده عنه إلا بدليل "وبمثله" لو ادعى غلاما كبيرا أنه عبده وقال الغلام أنا حر فالقول قول الغلام؛ لأنه ادعاه في حال هو في يد نفسه فكان القول قوله ولو ادعيا عبدا كبيرا فقال العبد أنا عبد لأحدهما فهو بينهما ولا يصدق العبد في ذلك وكذا إذا كان العبد في يد رجل فأقر أنه لرجل آخر فالقول قول صاحب اليد ولا يصدق العبد في إقراره أنه لغيره؛ لأن إقراره بالرق إقرار بسقوط يده عن نفسه فكان في يد صاحب اليد فلا يسمع قوله أنه لغيره؛ لأن العبد لا قول له ولو قال كنت عبد فلان فأعتقني وأنا حر فكذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وروي عن أبي يوسف أن القول قول العبد ويحكم بحريته؛ لأن العبد متمسك بالأصل إذ الحرية أصل في بني آدم فكان الظاهر شاهدا له فالصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأنه لما أقر أنه كان عبدا فقد أقر بزوال حكم الأصل وثبوت العارض وهو الرق منه فصار الرق فيه هو الأصل فكان الظاهر شاهدا له ولو ادعيا ثوبا وأحدهما لابسه والآخر متعلق بذيله فاللابس أولى؛ لأنه مستعمل للثوب "ولو ادعيا" بساطا وأحدهما جالس عليه والآخر متعلق به فهو بينهما ولا يكون الجالس بجلوسه والنوم عليه أولى لاستوائهما في اليد عليه "ولو ادعيا" دارا وأحدهما ساكن فيها فهي للساكن "وكذلك" لو كان أحدهما أحدث فيها شيئا من بناء أو حفر فهي لصاحب البناء والحفر؛ لأن سكنى الدار وإحداث البناء والحفر تصرف في الدار فكانت في يده ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن أحدهما داخل فيها والآخر خارج منها فهي بينهما "وكذا" إذا كانا جميعا فيها؛ لأن اليد على العقار لا تثبت بالكون فيه وإنما تثبت بالتصرف فيه ولو وجد خياط يخيط ثوبا في دار إنسان فاختلفا في الثوب فالقول لصاحب الدار؛ لأن الثوب وإن كان في يد الخياط صورة فهو في يد صاحب الدار معنى؛ لأن الخياط وما في يده في داره والدار في يده فما فيها يكون في يده "حمال" خرج من دار رجل وعلى عاتقه متاع فإن كان ذلك الحامل يعرف ببيع ذلك وحمله فهو له؛ لأن الظاهر شاهد له وإن كان يعرف بذلك فهو لصاحب الدار؛ لأن الظاهر شاهد له "وكذلك" حمال عليه كارة وهو في دار بزاز اختلفا في الكارة فإن كانت الكارة مما يحمل فيها فالقول قول الحمال؛ لأن الظاهر شاهد له وإن كانت مما لا يحمل فيها فالقول قول صاحب الدار؛ لأن الظاهر شاهد له رجل اصطاد طائرا في دار رجل فاختلفا فيه فإن اتفقا على أنه على أصل الإباحة لم يستول عليه قط فهو للصائد سواء اصطاده من الهواء أو من الشجر أو الحائط؛ لأنه الآخذ دون صاحب الدار إذ الصيد لا يصير مأخوذا بكونه على حائط أو شجرة وقد قال عليه الصلاة والسلام "الصيد لمن أخذه" وإن اختلفا فقال صاحب الدار اصطدته قبلك أو ورثته وأنكر الصائد فإنه ينظر إن أخذه من الهواء فهو له؛ لأنه الآخذ إذ لا يد لأحد على الهواء وإن أخذه من جداره أو شجره فهو لصاحب الدار؛ لأن الجدار والشجر في يده وكذلك إن اختلفا في أخذه من الهواء أو من الجدار فالقول قول صاحب الدار؛ لأن الأصل أن ما في دار إنسان يكون في يده هكذا روي عن أبي يوسف مسألة للصيد على هذا الفصل ولو ادعيا وأحدهما ساكن فيها فهي للساكن فيها وكذا لو كان أحدث فيها شيئا من بناء أو حفر فهي لصاحب البناء والحفر؛ لأن سكنى الدار وإحداث البناء والحفر تصرف في الدار فكانت في يده ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن أحدهما داخل فيها والآخر خارج منها فهي بينهما وكذا لو كانا جميعا فيها؛ لأن اليد على العقار لا تثبت بالكون فيها وإنما

 

ج / 6 ص -257-       تثبت بالتصرف فيها ولم يوجد ولو ادعيا حائطا من دارين ولأحدهما عليه جذوع فهو له؛ لأنه مستعمل للحائط ولو كان لكل واحد منهما جذوع فإن كانت ثلاثة أو أكثر فهي بينهما نصفان سواء استوت جذوع كل واحد منهما أو كانت لأحدهما أكثر بعد أن كان لكل واحد منهما ثلاثة جذوع؛ لأنهما استويا في استعمال الحائط فاستويا في ثبوت اليد عليه ولو أراد صاحب البيت أن يتبرع على الآخر بما زاد على الثلاثة ليس له ذلك لكن يقال له زد أنت أيضا إلى تمام عدد خشب صاحبك إن أطاق الحائط حملها وإلا فليس لك الزيادة ولا النزع ولو كان لأحدهما ثلاثة جذوع وللآخر جذع أو جذعان فالقياس أن يكون الحائط بينهما نصفين وفي الاستحسان لا يكون "وجه" القياس أن زيادة الاستعمال بكثرة الجذوع زيادة من جنس الحجة والزيادة من جنس الحجة لا يقع بها الترجيح ألا ترى أنه لو كان لأحدهما ثلاثة وللآخر أربعة كان الحائط بينهما نصفين وإن كان استعمال أحدهما أكثر دل أن المعتبر أصل الاستعمال لا قدره وقد استويا فيه "ووجه" الاستحسان أن يقال نعم لكن أصل الاستعمال لا يحصل بما دون الثلاثة؛ لأن الجدار لا يبنى له عادة وإنما يبنى لأكثر من ذلك إلا أن الأكثر مما لا نهاية له والثلاثة أقل الجمع الصحيح فقيد به فكان ما وراء موضع الجذوع لصاحب الكثير وأما موضع الجذع الواحد فكذلك على رواية كتاب الإقرار وإنما لصاحب القليل حق وضع الجذع لا أصل الملك وعلى رواية كتاب الدعوى له موضع الجذع من الحائط وما وراءه لصاحب الكثير "وجه" هذه الرواية أن صاحب القليل مستعمل لذلك القدر حقيقة فكان ذلك القدر في يده فيملكه "وجه" رواية الإقرار ما مر أن الاستعمال لا يحصل بالجذع والجذعين؛ لأن الحائط لا يبنى له عادة فلم يكن شيء من الحائط في يده فكان كله في يد صاحب الكثير إلا أنه ليس له دفع الجذوع وإن كان موضع الجذع مملوكا له لجواز أن يكون أصل الحائط مملوكا لإنسان ولآخر عليه حق الوضع بخلاف ما لو أقام البينة أن الحائط له؛ لأن له أن يدفع؛ لأن البينة حجة مطلقة فإذا أقامها تبين أن الوضع من الأصل كان بغير حق ولاية الدفع وليس له ذلك حال عدم البينة؛ لأنا إنما جعلنا الحائط له لظاهر اليد والظاهر يصلح للتقرير لا للتغيير فهو الفرق ولو كان الحائط متصلا ببناء إحدى الدارين اتصال التزاق وارتباط فهو لصاحب الاتصال؛ لأنه كالمتعلق به ولو كان لأحدهما اتصال التزاق وللآخر جذوع فصاحب الجذوع أولى؛ لأنه مستعمل للحائط ولا استعمال من صاحب الاتصال ولو كان لأحدهما اتصال التزاق وارتباط وللآخر اتصال تربيع فصاحب التربيع أولى؛ لأن اتصال التربيع أقوى من اتصال الالتزاق ولو كان لأحدهما اتصال تربيع وللآخر جذوع فالحائط لصاحب التربيع ولصاحب الجذوع حق وضع الجذوع لكن الكلام في صورة التربيع فنقول ذكر الطحاوي رحمه الله أن التربيع هو أن يكون أنصاف ألبان الحائط مداخلة حائط إحدى الدارين يبنى كذلك كالأزج والطاقات فكان بمعنى النتاج فكان صاحب الاتصال أولى وذكر الكرخي رحمه الله أن تفسير التربيع أن يكون طرفا هذا الحائط المدعى مداخلين حائط إحدى الدارين وهذا التفسير منقول عن أبي يوسف رحمه الله فيصير الحاصل أن المداخلة إذا كانت من جانبي الحائط كان صاحب الاتصال أولى بلا خلاف وإن كانت من جانب واحد فعلى قول الطحاوي رحمه الله صاحب الاتصال أولى وعلى قول الكرخي رحمه الله صاحب الجذوع أولى وجه قول الطحاوي ما ذكرنا أن ذلك بمعنى النتاج حيث حدث من بنائه كذلك فكان هو أولى وجه قول الكرخي أن المداخلة من الجانبين توجب الاتحاد وجعل الكل بناء واحدا فسقط حكم الاستعمال لضرورة الاتحاد فملك البعض يوجب ملك الكل ضرورة إلا أنه لا يجبر على الرفع بل يترك على حاله؛ لأن ذلك ليس من ضرورات ملك الأصل بل يحتمل الانفصال عنه في الجملة ألا ترى أن السقف الذي هو بين بيت العلو وبين بيت السفل هو ملك صاحب السفل ولصاحب العلو عليه حق القرار حتى لو أراد صاحب السفل رفع السقف منع منه شرعا كذا هذا جاز أن يكون الملك لصاحب الاتصال ولصاحب الجذوع حق وضع الجذع عليه بخلاف ما إذا أقام البينة

 

ج / 6 ص -258-       أنه يجبر على الرفع وقد تقدم وجه الفرق بينهما ثم فرع أبو يوسف على ما روي عنه من تفسير التربيع أنه إذا اشترى دارا ولرجل آخر دار بجنب تلك الدار وبينهما حائط وأقام الرجل البينة أنه له فأراد المشتري أن يرجع على البائع بحصته من الثمن إن كان متصلا ببناء حائط المدعي ليس له أن يرجع على البائع؛ لأنه إذا كان متصلا ببنائه لم يتناول البيع فلم يكن مبيعا فلا يكون للمشتري حق الرجوع وإن لم يكن متصلا ببناء المدعي وهو متصل ببناء الدار المبيعة فللمشتري أن يرجع على البائع بحصة الحائط من الثمن؛ لأنه إذا كان متصلا بحائط الدار المبيعة تناوله البيع فكان مبيعا فيثبت الرجوع عند الاستحقاق وإن كان متصلا بحائط الدار المبيعة وللآخر عليه جذوع لا يرجع وهذا يؤيد رواية الكرخي أن صاحب الجذوع أولى من صاحب الاتصال إذا كان من جانب واحد ولو كان اتصال تربيع واستحق المشتري الرجوع على البائع لا تنزع الجذوع بل تترك على حالها لما ذكرنا ولو كان لأحدهما عليه سترة أو بناء وصاحبه مقر بأن السترة والبناء له فالحائط لصاحب السترة؛ لأنه مستعمل الحائط بالسترة فكان في يده ولو لم يكن عليه سترة ولكن لأحدهما عليه مرادي هو القصب الموضوع على رأس الجدار فهو بينهما ولا يستحق بالمرادي والبوادي شيئا؛ لأن وضع المرادي على الحائط ليس بأمر مقصود؛ لأن الحائط لا يبنى له فكان ملحقا بالعدم فلا يتعلق به الاستحقاق ولو كان وجه الحائط إلى أحدهما وظهره إلى الآخر وكان أنصاف اللبن أو الطاقات إلى أحدهما فلا حكم لشيء من ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله والحائط بينهما وعندهما الحائط لمن إليه وجه البناء وأنصاف اللبن والطاقات وهذا إذا جعل الوجه وقت البناء حين ما بنى فأما إذا جعل بعد البناء بالنقش والتطين فلا عبرة بذلك إجماعا وعلى هذا الخلاف إذا ادعيا بابا مغلقا على حائط بين دارين والغلق إلى أحدهما فالباب لهما عنده وعندهما لمن إليه الغلق ولو كان للباب غلقان من الجانبين فهو لهما إجماعا وعلى هذا الخلاف خص بين دارين أو بين كرمين والقمط إلى أحدهما فالخص بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله ولا ينظر إلى القمط وعندهما الخص لمن إليه القمط وجه قولهما في هذه المسائل اعتبار العرف والعادة فإن الناس في العادات يجعلون وجه البناء وأنصاف اللبن والطاقات والغلق والقمط إلى صاحب الدار فيدل على أنه بناؤه فكان في يده ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا دليل اليد في الماضي لا وقت الدعوة واليد في الماضي لا تدل على اليد وقت الدعوة والحاجة في إثبات اليد وقت الدعوة ثم في كل موضع قضي بالملك لأحدهما لكون المدعى في يده تجب عليه اليمين لصاحبه إذا طلب فإن حلف برئ وإن نكل يقضى عليه بالنكول وعلى هذا إذا اختلفا في المرور في دار ولأحدهما باب من داره إلى تلك الدار فلصاحب الدار منع صاحب الباب عن المرور فيها حتى يقيم البينة أن له في داره طريقا ولا يستحق صاحب الباب بالباب شيئا؛ لأن فتح الباب إلى دار غيره قد يكون بحق لازم وقد يكون بغير حق أصلا وقد يكون بحق غير لازم وهو الإباحة فلا يصلح دليلا على حق المرور في الدار مع الاحتمال وكذا لو شهد الشهود أن صاحب الدار كان يمر فيها لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لاحتمال أن مروره فيها كان غصبا أو إباحة ولئن دلت على أنه كان لحق المرور لكن في الزمان الماضي؛ لأن الشهادة قامت عليه فلا يثبت بها الحق للحال ولو شهدوا أن له فيها طريقا فإن حدوا الطريق فسموا طوله وعرضه قبلت شهادتهم وكذلك إذا لم يحدوه كذا ذكر في الكتاب ومن أصحابنا رحمهم الله من حمل المسألة على ما إذا شهدوا على إقرار صاحب الدار بالطريق؛ لأن المشهود به مجهول وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة أما جهالة المقر به فلا تمنع صحة الإقرار ومنهم من أجرى جواب الكتاب على إطلاقه؛ لأن الطريق طوله معلوم وعرضه مقدار عرض الباب في متعارف الناس وعاداتهم فكانت هذه شهادة بمعلوم فتقبل وكذلك لو شهدوا أن أباه مات وترك طريقا في هذه الدار فهو على ما ذكرنا وعلى هذا إذا كان لرجل ميزاب في دار رجل فاختلفا في مسيل الماء فلصاحب الدار أن يمنعه عن التسييل حتى يقيم البينة أن له في هذه الدار مسيل ماء ولا يستحق صاحب الميزاب بنفس الميزاب شيئا لما ذكرنا وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله أن الميزاب إذا كان قديما فله حق التسييل وذكر محمد في كتاب الشرب في نهر في أرض رجل يسيل فيه الماء فاختلفا في ذلك فالقول قول صاحب الماء؛ لأنه إذا كان يسيل

 

ج / 6 ص -259-       فيه الماء كان النهر مشغولا بالماء فكان النهر مستعملا به فكان في يده بخلاف الميزاب فإن موضوع المسألة فيما إذا لم يكن في الميزاب ماء عند الاختلاف حتى لو كان فيه ماء كان حكمه حكم النهر والله سبحانه وتعالى أعلم ولو شهدوا أنهم رأوا الماء يسيل في الميزاب فليست هذه الشهادة بشيء؛ لأن التسييل قد يكون بغير حق وكذا الشهادة ما قامت بحق كائن على ما مر ولو شهدوا أن له حقا في الدار من حيث التسييل فإن بينوا أنه لماء المطر فهو لماء المطر وإن بينوا أنه مسيل ماء دائم للغسل والوضوء فهو كذلك وإن لم يبينوا تقبل شهادتهم أيضا ويكون القول قول صاحب الدار مع يمينه أنه للغسل والوضوء أو لماء المطر؛ لأن أصل الحق ثبت بشهادة الشهود وبقيت الصفة مجهولة فيتبين ببيان صاحب الدار لكن مع اليمين وإن لم يكن للمدعي بينة أصلا يستحلف صاحب الدار على ذلك فإن حلف برئ وإن نكل يقضى بالنكول كما في باب الأموال وعلى هذا يخرج اختلاف الزوجين في متاع البيت ولا بينة لأحدهما على ما ذكرنا في كتاب النكاح والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم تعارض الدعوتين في قدر الملك فهو كاختلاف المتبايعين في قدر الثمن أو المبيع فنقول جملة الكلام فيه أن المتبايعين إذا اختلفا فلا يخلو إما إن اختلفا في الثمن وإما إن اختلفا في المبيع فإن اختلفا في الثمن فلا يخلو إما إن اختلفا في قدر الثمن وإما إن اختلفا في جنسه وإما إن اختلفا في وقته وهو الأجل فإن اختلفا في قدره بأن قال البائع بعت منك هذا العبد بألفي درهم وقال المشتري اشتريت بألف فهذا لا يخلو إما إن كانت السلعة قائمة وإما إن كانت هالكة فإن كانت قائمة فإما إن كانت قائمة على حالها لم تتغير وإما إن تغيرت إلى الزيادة أو إلى النقصان. فإن كانت قائمة على حالها لم تتغير تحالفا وترادا سواء كان قبل القبض أو بعده أما قبل القبض؛ فلأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه من وجه؛ لأن البائع يدعي على المشتري زيادة ثمن وهو ينكر والمشتري يدعي على البائع تسليم المبيع إليه عند أداء الألف وهو ينكر فيتحالفان لقوله عليه الصلاة والسلام "واليمين على من أنكر". وأما بعد القبض فكان ينبغي أن لا يحلف البائع ويكون القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن المشتري لا يدعي على البائع شيئا لسلامة المبيع له والبائع يدعي على المشتري زيادة ثمن وهو ينكر فكان القول قوله مع يمينه إلا أنا عرفنا التحالف وهو الحلف من الجانبين بنص خاص وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" ويبدأ بيمين المشتري في ظاهر الرواية وهو قول محمد وأبي يوسف الآخر وفي قوله الأول يبدأ بيمين البائع ويقال إنه قول أبي حنيفة رحمه الله والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن اليمين وظيفة المنكر والمشتري أشد إنكارا من البائع؛ لأنه منكر في الحالين جميعا قبل القبض وبعده والبائع بعد القبض ليس بمنكر؛ لأن المشتري لا يدعي عليه شيئا فكان أشد إنكارا منه وقبل القبض إن كان منكرا لكن المشتري أسبق إنكارا منه؛ لأنه يطالب أولا بتسليم الثمن حتى يصير عينا وهو ينكر فكان أسبق إنكارا من البائع فيبدأ بيمينه فإن نكل لزمه دعوى البائع؛ لأن النكول بذل أو إقرار وإن حلف يحلف البائع ثم إذا تحالفا هل ينفسخ البيع بنفس التحالف أو يحتاج فيه إلى فسخ القاضي اختلف المشايخ رحمهم الله فيه قال بعضهم ينفسخ بنفس التحالف؛ لأنهما إذا تحالفا لم يكن في بقاء العقد فائدة فينفسخ وقال بعضهم لا ينفسخ إلا بفسخ القاضي عند طلبهما أو طلب أحدهما وهو الصحيح حتى لو أراد أحدهما إمضاء البيع بما يقوله صاحبه فله ذلك من غير تجديد العقد؛ لأن احتمال الفائدة ثابت لاحتمال التصديق من أحدهما لصاحبه والعقد المنعقد قد يبقى لفائدة محتملة الوجود والعدم؛ لأنه انعقد بيقين فلا يزول لاحتمال عدم الفائدة على الأصل المعهود في الثابت بيقين؛ لأنه لا يزول بالاحتمال فلا ينفسخ إلا بفسخ القاضي وله أن يفسخ لانعدام الفائدة للحال؛ ولأن المنازعة لا تندفع إلا بفسخ القاضي؛ لأنهما لما تحالفا صار الثمن مجهولا فيتنازعان فلا بد من قطع المنازعة ولا تنقطع إلا بالقضاء بالفسخ هذا إذا كانت السلعة قائمة بعينها من غير تغير فأما إذا كانت تغيرت ثم اختلفا في قدر الثمن فلا يخلو إما أن تغيرت إلى الزيادة وإما أن تغيرت إلى النقصان فإن كان التغيير إلى الزيادة فإن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل كالسمن والجمال منعت التحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه

 

ج / 6 ص -260-       الله لا تمنع ويرد المشتري العين بناء على أن هذه الزيادة تمنع الفسخ عندهما في عقود المعاوضات فتمنع التحالف وعنده لا تمنع الفسخ فلا تمنع التحالف وإن كانت الزيادة متصلة غير متولدة من الأصل كالصبغ في الثوب والبناء والغرس في الأرض فكذلك تمنع التحالف عندهما وعنده لا تمنع ويرد المشتري القيمة لمن هما عنده؛ لأن هذا النوع من الزيادة بمنزلة الهلاك وهلاك السلعة يمنع التحالف عندهما وعنده لا يمنع ويرد المشتري الزيادة وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل كالولد والأرش والعقر فهو على هذا الاختلاف وإن كانت الزيادة متصلة غير متولدة من الأصل كالموهوب في المكسوب لا تمنع التحالف إجماعا فيتحالفان ويرد المشتري العين؛ لأن هذه الزيادة لا تمنع الفسخ في عقود المعاوضات فلا تمنع التحالف وكذا هي ليست في معنى هلاك العين فلا تمنع التحالف وإذا تحالفا يرد المشتري المبيع دون الزيادة وكانت الزيادة له؛ لأنها حدثت على ملكه وتطيب له لعدم تمكن الحنث فيها هذا إذا تغيرت السلعة إلى الزيادة فأما إذا تغيرت إلى النقصان في يد المشتري فنذكر حكمه إن شاء الله تعالى هذا إذا كانت السلعة قائمة فأما إذا كانت هالكة فلا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والقول قول المشتري مع يمينه في مقدار الثمن فإن حلف لزمه ما أقر به وإن نكل لزمه دعوى صاحبه وعند محمد رحمه الله يتحالفان ويرد المشتري القيمة فإن اختلفا في مقدار القيمة على قوله كان القول قول المشتري مع يمينه في مقدار القيمة ولقب المسألة أن هلاك السلعة هل يمنع التحالف عندهما يمنع وعنده لا يمنع واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا" أثبت عليه الصلاة والسلام التحالف مطلقا عن شرط قيام السلعة ولا يقال ورد هنا نص خاص مقيد بحال قيام السلعة وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا"؛ لأن المذهب عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد لما في الحمل من ضرب النصوص بعضها في بعض بل يجري المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده فكان جريان التحالف حال قيام السلعة ثابتا بنصين وحال هلاكها ثابتا بنص واحد وهو النص المطلق ولا تنافي بينهما فيجب العمل بهما جميعا ولهما الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام "واليمين على من أنكر" فبقي التحالف وهو الحلف من الجانبين بعد قبض المعقود عليه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوجب جنس اليمين على جنس المنكرين فلو وجبت يمين لا على منكر لم يكن جنس اليمين على جنس المنكرين وهذا خلاف النص والمنكر بعد قبض المعقود عليه هو المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه زيادة ثمن وهو ينكر فأما الإنكار من قبل البائع؛ فلأن المشتري لا يدعي عليه شيئا فكان ينبغي أن لا يجب التحالف حال قيام السلعة أيضا إلا أنا عرفنا ذلك بنص خاص مقيد وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا" وهذا القيد ثابت في النص الآخر أيضا دلالة؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام وترادا والتراد لا يكون إلا حال قيام السلعة فبقي التحالف حال هلاك السلعة مثبتا بالخبر المشهور ويستوي هلاك كل السلعة وبعضها في المنع من التحالف أصلا عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف هلاك السلعة يمنع التحالف في قدر الهالك لا غير وعند محمد لا يمنع أصلا حتى لو اشترى عبدين فقبضهما ثم هلك أحدهما ثم اختلفا في مقدار الثمن فالقول قول المشتري عند أبي حنيفة ولا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الهالك شيئا فحينئذ يتحالفان وعند أبي يوسف لا يتحالفان على الهالك والقول قول المشتري في حصة الهالك ويتحالفان على القائم ويترادان وعند محمد يتحالفان عليهما ويرد قيمة الهالك أما محمد رحمه الله فقد مر على أصله؛ لأن هلاك كل السلعة عنده لا يمنع التحالف فهلاك البعض أولى وكذلك لأبي يوسف؛ لأن المانع من التحالف هو الهلاك فيتقدر المنع بقدره تقديرا للحكم بقدر العلة ولأبي حنيفة أن الحديث ينفي التحالف بعد قبض السلعة لما ذكرنا إلا أنا عرفنا ذلك بنص خاص والنص ورد في حال قيام كل السلعة فبقي التحالف حال هلاك بعضها منفيا بالحديث المشهور؛ ولأن قدر الثمن الذي يقابل القائم مجهول لا يعرف إلا بالحزر والظن فلا يجوز التحالف عليه إلا إذا شاء البائع أن يأخذ الحد ولا يأخذ من ثمن الهالك شيئا فحينئذ يتحالفان؛ لأنه رضي أن يكون الثمن كله بمقابلة القائم فيخرج الهالك

 

ج / 6 ص -261-       عن العقد كأنه ما وقع العقد عليه وإنما وقع على القيام فيتحالفان عليه وسواء كان هلاك المبيع حقيقة أو حكما بأن خرج عن ملك المشتري بسبب من الأسباب؛ لأن الهالك حكما يلحق بالهالك حقيقة وقد مر الاختلاف فيه وسواء خرج كله أو بعضه عند أبي حنيفة وأبي يوسف فخروج البعض في المنع من التحالف بمنزلة خروج الكل عندهما؛ لأن التحالف هنا يؤدي إلى تفريق الصفقة على البائع وهذا لا يجوز إلا أن يرضى البائع أن يأخذ القائم وحصة الخارج من الثمن بقول المشتري فحينئذ يتحالفان على القائم ويرد المشتري ما بقي في ملكه وعليه حصة الخارج بقوله وهذا عند أبي يوسف فأما عند أبي حنيفة فلا يتحالفان في الأحوال كلها وأما عند محمد فيتحالفان؛ لأن الحقيقي لا يمنع التحالف عنده فالحكمي أولى ثم هلاك الكل بأن خرج كله عن ملكه لا يمنع التحالف فهلاك البعض أولى وإذا تحالفا عنده فإن هلك كل المبيع بأن خرج كله عن ملكه يرد المشتري القيمة إن لم يكن مثليا والمثل إن كان مثليا وإن هلك بعضه بأن خرج البعض عن ملكه دون البعض ينظر إن كان المبيع مما في تبعيضه ضرر وفي تشقيصه عيب فالبائع بعد التحالف بالخيار إن شاء أخذ الباقي وقيمة الهالك وإن شاء ترك الباقي وأخذ قيمة الكل وإن كان المبيع مما لا ضرر في تبعيضه ولا عيب في تشقيصه فللبائع أن يأخذ الباقي ومثل الفائت إن كان مثليا وقيمته إن لم يكن مثليا ولو خرجت السلعة عن ملك المشتري ثم عادت إليه ثم اختلفا في مقدار الثمن نظر في ذلك إن كان العود فسخا بأن وجد به عيبا فرده بقضاء القاضي يتحالفان ويرد العين؛ لأن الفسخ رفع من الأصل فجعل كأنه لم يكن وإذا لم يكن العود فسخا بأن كان ملكا جديدا لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن العود إذا لم يكن فسخا لا يتبين أن الهلاك لم يكن والهلاك يمنع التحالف عندهما وعند محمد يتحالفان ويرد المشتري القيمة لا العين وكذلك لو لم يخرج المبيع عن ملكه لكنه صار بحال يمنع الرد بالعيب إما بالزيادة وإما بالنقصان أما حكم الزيادة فقد مر تفصيل الكلام فيه وأما حكم النقصان فيخرج على هذا الأصل؛ لأن النقصان من باب الهلاك فنقول إذا انتقض المبيع في يد المشتري ثم اختلفا في مقدار الثمن لم يتحالفا عندهما سواء كان النقصان بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي أو بفعل البائع؛ لأن نقصان المبيع هلاك جزء منه وهلاك الجزء في المنع من التحالف كهلاك الكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يتحالفان والقول قول المشتري إلا إذا كان النقصان بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري ورضي البائع أن يأخذ المبيع ناقصا ولا يأخذ لأجل النقصان شيئا فحينئذ يتحالفان ويترادان وعند محمد يتحالفان ثم البائع بعد التحالف بالخيار إن شاء أخذ المبيع ناقصا ولا يأخذ لأجل النقصان شيئا وإن شاء ترك وأخذ القيمة وقال بعضهم على قول محمد إن اختار أخذ العين يأخذ معها النقصان كالمقبوض بالبيع الفاسد وإن كان النقصان بفعل الأجنبي أو بفعل البائع يتحالفان ويرد المشتري القيمة عنده وعندهما لا يتحالفان والقول قول المشتري مع يمينه هذا إذا اختلفا في قدر الثمن. فأما إذا اختلفا في جنسه بأن قال أحدهما الثمن عين وقال الآخر هو دين فإن كان مدعي العين هو البائع بأن قال للمشتري بعت منك جاريتي بعبدك هذا وقال المشتري للبائع اشتريتها منك بألف درهم فإن كانت الجارية قائمة تحالفا وترادا لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" من غير فصل بين ما إذا كان الاختلاف في قدر الثمن أو في جنسه وإن كانت هالكة عند المشتري لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف والقول قول المشتري في الثمن مع يمينه وعند محمد يتحالفان وهي مسألة هلاك السلعة وقد مرت. وإن كان مدعي العين هو المشتري بأن قال اشتريت جاريتك بعبدي هذا وقال البائع بعتها منك بألف درهم أو بمائة دينار فإن كانت الجارية قائمة يتحالفان بالنص وإن كانت هالكة يتحالفان أيضا إجماعا ويرد المشتري القيمة إما على أصل محمد فظاهر؛ لأن هلاك السلعة عنده لا يمنع التحالف وإما على أصلهما؛ فلأن وجوب اليمين على المشتري ظاهر أيضا؛ لأن البائع يدعي عليه ثمن الجارية ألف درهم وهو ينكر وأما وجوب اليمين على البائع؛ فلأن المشتري يدعي عليه إلزام العين وهو ينكر فكان كل واحد منهما مدعيا من وجه منكرا من وجه فيتحالفان ولو كان البائع يدعي عينا والبعض دينا والمشتري يدعي

 

ج / 6 ص -262-       الكل دينا بأن قال البائع بعت منك جاريتي بعبدك هذا وبألف درهم وقال المشتري اشتريت جاريتك بألف درهم فإن كان المبيع وهو الجارية قائما تحالفا بالنص وإن كان هالكا فهو على الاختلاف. ولو كان الأمر على العكس من ذلك كأن يدعي البعض عينا والبعض دينا والبائع يدعي الكل دينا بأن قال المشتري اشتريت منك جاريتك بعبدي هذا وبألف درهم وقيمة العبد خمسمائة وقال البائع بعتك جاريتي هذه بألف درهم فإن كانت الجارية قائمة تحالفا وترادا بالنص وإن كانت هالكة يتحالفان أيضا إجماعا إلا أن عندهما تقسم الجارية على قيمة العبد وعلى ألف درهم فما كان بإزاء العين وهو العبد وذلك ثلث الجارية يرد المشتري القيمة وما كان بإزاء الدين وهو الألف وذلك ثلثا الجارية يرد ألف درهم ولا يرد القيمة وإنما كان كذلك؛ لأن المشتري لو كان يدعي كل الثمن عينا كانا يتحالفان ويرد المشتري القيمة على ما ذكرنا ولو كان كل الثمن دينا لكان القول قوله ولا يتحالفان على ما مر فإذا كان يدعي بعض الثمن عينا وبعضه دينا يرد القيمة بإزاء العين فالقول قوله بإزاء الدين اعتبارا للبعض بالكل وعند محمد يتحالفان ويرد المشتري جميع الثمن هذا إذا اختلفا في جنس الثمن. فأما إذا اختلفا في وقته وهو الأجل مع اتفاقهما على قدره وجنسه فنقول هذا لا يخلو من أربعة أوجه إما إن اختلفا في أصل الأجل وإما إن اختلفا في قدره وإما أن اختلفا في مضيه وإما أن اختلفا في قدره ومضيه جميعا فإن اختلفا في أصله لا يتحالفان والقول قول البائع مع يمينه؛ لأن الأجل أمر يستفاد من قبله وهو منكر لوجوده؛ ولأن الأصل في الثمن هو الحلول والتأجيل عارض فكان القول قول من يدعي الأصل. وإن اختلفا في قدره فالقول قوله أيضا لما قلنا وإن اختلفا في مضيه مع اتفاقهما على أصله وقدره فالقول قول المشتري أنه لم يمض؛ لأن الأجل صار حقا له بتصادقهما فكان القول فيه قوله وإن اختلفا في القدر والمضي جميعا فقال البائع الأجل شهر وقد مضى وقال المشتري شهران ولم يمضيا فالقول قول البائع في القدر والقول قول المشتري في المضي فيجعل الأجل شهرا لم يمض؛ لأن الظاهر يشهد للبائع في القدر وللمشتري في المضي على ما مر هذا إذا هلك المبيع كله أو بعضه حقيقة أو حكما فأما إذا هلك العاقدان أو أحدهما والمبيع قائم فاختلف ورثتهما أو الحي منهما وورثة الميت فإن كانت السلعة غير مقبوضة تحالفا وترادا؛ لأن للقبض شبها بالعقد فكان قبض المعقود عليه من الوارث بمنزلة ابتداء العقد منه فيجري بينهما التحالف إلا أن الوارث يحلف على العلم لا على البتات؛ لأنه يحلف على فعل الغير ولا علم له به. وإن كانت السلعة مقبوضة فلا تحالف عندهما والقول قول المشتري أو ورثته بعد موته وعند محمد يتحالفان والأصل أن هلاك العاقد بعد قبض المعقود عليه كهلاك المعقود عليه وهلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما فكذا هلاك العاقد وعند محمد ذلك لا يمنع من التحالف كذا هذا والصحيح قولهما؛ لأن الخبر المشهور يمنع من التحالف لكنا عرفناه بنص خاص حال قيام العاقدين؛ لأنه يوجب تحالف المتبايعين والمتبايع من وجد منه فعل البيع ولم يوجد من الوارث حقيقة فبقي التحالف بعد هلاكهما أو هلاك أحدهما منفيا بالخبر المشهور هذا إذا اختلفا في الثمن. أما إذا اختلفا في المبيع فنقول لا يخلو المبيع من أن يكون عينا أو دينا وهو المسلم فيه فإن كان عينا فاختلفا في جنسه أو في قدره بأن قال البائع بعت منك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري اشتريت منك هذه الجارية بألف درهم أو قال البائع بعت منك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري اشتريت منك هذا العبد مع هذه الجارية بألف درهم تحالفا وترادا لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا". وإن كان دينا وهو المسلم فيه فاختلفا فنقول اختلافهما في الأصل لا يخلو من ثلاثة أوجه "إما" إن اختلفا في المسلم فيه مع اتفاقهما على رأس المال "وإما" إن اختلفا في رأس المال مع اتفاقهما في المسلم فيه "وإما" إن اختلفا فيهما جميعا فإن اختلفا في المسلم فيه مع اتفاقهما على رأس المال "فإما" إن اختلفا في جنس المسلم فيه "وإما" إن اختلفا في قدره "وإما" إن اختلفا في صفته "وإما" إن اختلفا في مكان إيفائه "وإما" إن اختلفا في وقته وهو الأجل فإن اختلفا في جنسه أو قدره أو صفته تحالفا وترادا؛ لأن هذا اختلاف في المعقود عليه وأنه يوجب التحالف بالنص. والذي يبدأ باليمين هو المسلم إليه في قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف الأول وفي قوله الآخر وهو قول محمد هو رب السلم "وجه"

 

ج / 6 ص -263-       قولهما أن الابتداء باليمين من المشتري كما في بيع العين ورب السلم هو المشتري فكانت البداية به ولأبي حنيفة رحمه الله أن اليمين على المنكر والمنكر هو المسلم إليه ولا إنكار مع رب السلم فكان ينبغي أن لا يحلف أصلا إلا أن التحليف في جانبه ثبت بالنص وقد روي عن أبي يوسف أيضا أنه قال أيهما بدأ بالدعوى يستحلف الآخر؛ لأنه صار مدعى عليه وهو منكر وقال بعضهم التعيين إلى القاضي يبدأ بأيهما شاء وإن شاء أقرع بينهما فيبدأ بالذي خرجت قرعته ولو اختلفا في مكان إيفاء المسلم فيه فقال رب السلم شرطت عليك الإيفاء في مكان كذا وقال المسلم إليه بل شرطت لك الإيفاء في مكان كذا فالقول قول المسلم إليه ولا يتحالفان عند أبي حنيفة وعندهما يتحالفان بناء على أن مكان العقد لا يتعين مكان الإيفاء عنده حتى كان ترك بيان مكان الإيفاء مفسدا للسلم عنده فلم يدخل مكان الإيفاء في العقد بنفسه بل بالشرط والاختلاف فيما لا يدخل في العقد إلا بالشرط لا يوجب التحالف كالأجل وعندهما مكان العقد يتعين مكانا للإيفاء حتى لا يفسد السلم بترك بيان مكان الإيفاء عندهما فكان المكان داخلا في العقد من غير شرط فيوجب التحالف وإن اختلفا في وقت المسلم فيه وهو الأجل فنقول لا يخلو "إما" أن اختلفا في أصل الأجل. "وإما" أن اختلفا في قدره "وإما" أن اختلفا في مضيه "وإما" أن اختلفا في قدره ومضيه جميعا فإن اختلفا في أصل الأجل لم يتحالفا عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر تحالفا وترادا واحتج بإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا"؛ ولأن الاختلاف في أصل المسلم فيه كالاختلاف في صفته ألا ترى أنه لا صحة للسلم بدون الأجل كما لا صحة له بدون الوصف فصار الأجل وصفا للمعقود عليه شرعا فيوجب التحالف. "ولنا" أن الأجل ليس بمعقود عليه والاختلاف فيما ليس بمعقود عليه لا يوجب التحالف بخلاف الاختلاف في الصفة؛ لأن الصفة في الدين معقود عليه كالأجل والاختلاف في الأجل يوجب التحالف فكذا في الصفة وإذا لم يتحالفا فإن كان مدعي الأجل هو رب السلم فالقول قوله ويجوز السلم؛ لأنه يدعي صحة العقد والمسلم إليه يدعي الفساد والقول قول مدعي الصحة؛ ولأن المسلم إليه متعنت في إنكار الأجل؛ لأنه ينفعه والمتعنت لا قول له وإن كان هو المسلم إليه فالقول قوله عند أبي حنيفة ويجوز السلم استحسانا والقياس أن يكون القول قول رب السلم ويفسد السلم وهو قولهما "وجه" القياس أن الأجل أمر يستفاد من قبل رب السلم حقا عليه شرعا وإنه منكر ثبوته والقول قول المنكر في الشرع. "وجه" الاستحسان أن المسلم إليه بدعوى الأجل يدعي صحة العقد ورب السلم بالإنكار يدعي فساده فكان القول قول من يدعي الصحة؛ لأن الظاهر شاهد له إذ الظاهر من حال المسلم اجتناب المعصية ومباشرة العقد الفاسد معصية وإذا كان القول قوله في أصل الأجل كان القول قوله في مقدار الأجل أيضا وقال بعضهم القول قوله إلى شهر؛ لأنه أدنى الآجال فأما الزيادة على شهر فلا تثبت إلا بالبينة وإن اختلفا في قدره لم يتحالفا عندنا خلافا لزفر والقول قول رب السلم لما ذكرنا أن الأجل أمر يستفاد من قبله فيرجع في بيان القدر إليه وإن اختلفا في مضيه فالقول قول المسلم إليه وصورته إذا قال رب السلم كان الأجل شهرا وقد مضى وقال المسلم إليه كان شهرا ولم يمض وإن أخذت السلم الساعة كان القول قول المسلم إليه؛ لأنهما لما تصادقا على أصل الأجل وقدره فقد صار الأجل حقا للمسلم إليه فكان القول في المضي قوله وإن اختلفا في قدره ومضيه جميعا فالقول قول رب السلم في القدر وقول المسلم إليه في المعنى؛ لأن الظاهر يشهد لرب السلم في القدر وللمسلم إليه في المضي هذا إذا اختلفا في المسلم فيه مع اتفاقهما على رأس المال فأما إذا اختلفا في رأس المال مع اتفاقهما في المسلم فيه تحالفا وترادا أيضا سواء اختلفا في جنس رأس المال أو قدره أو صفته لما قلنا في الاختلاف في المسلم فيه إلا أن الذي يبدأ باليمين ههنا هو رب السلم في قولهم جميعا؛ لأنه المشتري وهو المنكر أيضا وإن اختلفا فيهما جميعا فكذلك تحالفا وترادا؛ لأنهما اختلفا في المبيع والثمن والاختلاف في أحدهما يوجب التحالف ففيهما أولى والقاضي يبدأ باليمين بأيهما شاء والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان حكم الملك والحق الثابت في المحل فنقول وبالله التوفيق حكم الملك ولاية التصرف للمالك في

 

ج / 6 ص -264-       المملوك باختياره ليس لأحد ولاية الجبر عليه إلا لضرورة ولا لأحد ولاية المنع عنه وإن كان يتضرر به إلا إذا تعلق به حق الغير فيمنع عن التصرف من غير رضا صاحب الحق وغير المالك لا يكون له التصرف في ملكه من غير إذنه ورضاه إلا لضرورة وكذلك حكم الحق الثابت في المحل إذا عرف هذا فنقول للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفا يتعدى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى فله أن يبني في ملكه مرحاضا أو حماما أو رحى أو تنورا وله أن يقعد في بنائه حدادا أو قصارا وله أن يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة أو ديماسا وإن كان يهن من ذلك البناء ويتأذى به جاره. وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه؛ لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل والمنع منه لعارض تعلق حق الغير فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجب للحديث قال عليه الصلاة والسلام "المؤمن من أمن جاره بوائقه" ولو فعل شيئا من ذلك حتى وهن البناء وسقط حائط الجار لا يضمن؛ لأنه لا صنع منه في ملك الغير وعلى هذا سفل لرجل وعليه علو لغيره انهدما لم يجبر صاحب السفل على بناء السفل؛ لأنه ملكه والإنسان لا يجبر على عمارة ملك نفسه ولكن يقال لصاحب العلو إن شئت فابن السفل من مال نفسك وضع عليه علوك ثم امنع صاحب السفل عن الانتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء مبنيا؛ لأن البناء. وإن كان تصرفا في ملك الغير لكن فيه ضرورة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلا بالتصرف في ملك غيره فصار مطلقا له شرعا وله حق الرجوع بقيمة البناء مبنيا؛ لأن البناء ملكه لحصوله بإذن الشرع وإطلاقه فله أن لا يمكنه من الانتفاع بملكه إلا ببدل يعدله وهو القيمة وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن في ظاهر الرواية يرجع بما أنفقه وكذا ذكر الخصاف أنه يرجع بما أنفق؛ لأنه لما لم يقدر على الانتفاع بالعلو إلا ببناء السفل ولا ضرر لصاحب السفل في بنائه بل فيه نفع صار مأذونا بالإنفاق من قبله دلالة فكان له حق الرجوع بما أنفق وهذا بخلاف البئر المشترك والدولاب المشترك والحمام المشترك ونحو ذلك إذا خربت فامتنع أحدهما عن العمارة أنه يجبر الآخر على العمارة؛ لأن هناك ضرورة؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به بواسطة القسمة؛ لأنه لا يحتمل القسمة والترك لذلك تعطيل الملك وفيه ضرر بهما فكان الذي أبى العمارة متعنتا محضا في الامتناع فيدفع تعنته بالجبر على العمارة هذا إذا انهدما بأنفسهما فأما إذا هدم صاحب السفل سفله حتى انهدم العلو يجبر على إعادته؛ لأنه أتلف حق صاحب العلو بإتلاف محله ويمكن جبره بالإعادة فتجب عليه إعادته. وعلى هذا حائط بين دارين انهدم ولهما عليه جذوع لم يجبر واحد منهما على بنائه لما قلنا ولكن إذا أبى أحدهما البناء يقال للآخر إن شئت فابن من مال نفسك وضع خشبك عليه وامنع صاحبك من الوضع حتى يرد عليك نصف قيمة البناء مبنيا أو نصف ما أنفقته على حسب ما ذكرنا في السفل والعلو وقيل إنما يرجع إذا لم يكن موضع الحائط عريضا ولا يمكن كل واحد منهما أن يبني حائطا على حدة في نصبه بعد القسمة "فأما" إذا كان عريضا يمكن قسمته وأن يبني كل واحد منهما في نصيبه حائطا يصلح لوضع الجذوع عليه فبناه كما كان بغير إذن صاحبه لا يكون له حق الرجوع على صاحبه بل يكون متبرعا؛ لأنه يبني ملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة فكان متبرعا فلا يرجع عليه بشيء ولو أراد أحدهما قسمة عرضة الحائط لم تقسم إلا عن تراض منهما بالقسمة؛ لأن لكل واحد منهما عليه حق وضع الخشب وفي القسمة جبرا إبطال حق الآخر من غير رضاه وهذا لا يجوز ويحتمل أن يقال هذا إذا لم يكن عريضا فإن كان يقسم قسمة جبر؛ لأنه لا يتضمن إبطال حق الغير ولو كانت الجذوع عليه لأحدهما فطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر فإن كان الطالب صاحب الجذوع يجبر الآخر على القسمة؛ لأنه في الانتفاع متعنت وإنما الحق لصاحب الجذوع وقد رضي بسقوط حقه وإن كان الطالب من لا جذع له لا يجبر صاحب الجذوع على القسمة؛ لأن فيه إبطال حقه في وضع الجذوع فلا يجوز من غير رضاه. ولو هدم الحائط أحدهما يجبر على إعادته لما ذكرنا أنه أتلف محل حق أحدهما فيجب جبره على الإعادة وعلى هذا سفل لرجل وعليه علو لغيره فأراد صاحب السفل أن يفتح بابا أو يثبت كوة أو يحفر طاقا أو يقد وتدا على الحائط أو يتصرف فيه تصرفا لم يكن قبل ذلك ليس له ذلك من غير رضا صاحب العلو سواء أضر ذلك بالعلو

 

ج / 6 ص -265-       بأن أوجب وهن الحائط أو لم يضر به عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما له ذلك إن لم يضر بالعلو ولو أراد صاحب السفل أن يحفر في سفله بئرا أو بالوعة أو سردابا فله ذلك من غير رضا صاحب العلو إجماعا وكذا إيقاد النار للطبخ أو للخبز وصب الماء للغسل أو للوضوء بالاتفاق وعلى هذا الاختلاف لو أراد صاحب العلو أن يحدث على علوه بناء أو يضع جذوعا لم يكن قبل ذلك أو يشرع فيه بابا أو كنيفا لم يكن قبله ليس له ذلك عند أبي حنيفة سواء أضر بالسفل أو لا وعندهما له أن يفعل ذلك ما لم يضر بالسفل وله إيقاد النار وصب الماء للوضوء والغسل إجماعا منهم من قال لا خلاف بينهم في الحقيقة وقولهما تفسير قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من حقق الخلاف. "وجه" قولهما أن صاحب السفل يتصرف في ملك نفسه فلا يمنع إلا لحق الغير وحق الغير لا يمنع من التصرف لعينه بل لما يتضرر به صاحب الحق ألا ترى أن الإنسان لا يمنع من الاستظلال بجدار غيره ومن الاصطلاء بنار غيره لانعدام تضرر المالك والخلاف هنا في تصرف لا يضر بصاحب العلو فلا يمنع عنه ولأبي حنيفة رحمه الله أن حرمة التصرف في ملك الغير وحقه لا يقف على الضرر بل هو حرام سواء تضرر به أم لا ألا ترى أن نقل المرآة والمبحار من دار المالك إلى موضع آخر حرام وإن كان لا يتضرر به المالك والدليل عليه أنه يباح التصرف في ملك الغير وحقه برضاه ولو كانت الحرمة لما يلحقه من الضرر لما أبيح؛ لأن الضرر لا ينعدم برضا المالك وصاحب الحق دل أن التصرف في ملك الغير وحقه حرام أضر بالمالك أو لا وهنا حق لصاحب العلو متعلق بالسفل فيحرم التصرف فيه إلا بإذنه ورضاه بخلاف ما ضربنا من المثال وهو الاستظلال بجدار غيره والاصطلاء بنار غيره؛ لأن ذلك ليس تصرفا في ملك الغير وحقه إذ لا أثر لذلك متصل بملك الغير وحقه وهنا بخلافه وعلى هذا إذا كان مسيل ماء في قناة فأراد صاحب القناة أن يجعله ميزابا أو كان ميزابا فأراد أن يجعله قناة ليس له ذلك وكذلك لو أراد أن يجعل ميزابا أطول من ميزابه أو أعرض أو أراد أن يسيل ماء سطح آخر في ذلك الميزاب لم يكن له ذلك؛ لأن صاحب الحق لا يملك التصرف زيادة على حقه وكذلك لو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطا ليسدوا مسيله أو أرادوا أن ينقلوا الميزاب عن موضعه أو يرفعوه أو يسفلوه لم يكن لهم ذلك؛ لأن ذلك تصرف في حق الغير بالإبطال والتغيير فلا يجوز من غير رضا صاحب الحق ولو بنى أصل الدار لتسييل ميزابه على ظهره فلهم ذلك؛ لأن مقصود صاحب الميزاب حاصل في الحالين. دار لرجل فيها طريق فأراد أهل الدار أن يبنوا في ساحة الدار ما يقطع طريقه ليس لهم ذلك؛ لأن فيه إبطال حق المرور وينبغي أن يتركوا في ساحة الدار عرض باب الدار؛ لأن عرض الطريق مقدر بعرض باب الدار ولو أراد رجل أن يشرع إلى الطريق جناحا أو ميزابا فنقول هذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين إما إن كانت السكة نافذة وإما إن كانت غير نافذة فإن كانت نافذة فإنه ينظر إن كان ذلك مما يضر بالمارين فلا يحل له أن يفعل ذلك في دينه لقوله عليه الصلاة والسلام "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام" ولو فعل ذلك فلكل واحد أن يقلع عليه ذلك وإن كان ذلك مما لا يضر بالمارين حل له الانتفاع به ما لم يتقدم إليه أحد بالرفع والنقض فإذا تقدم إليه واحد من عرض الناس لا يحل له الانتفاع به بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يحل له الانتفاع قبل التقدم وبعده وكذلك هذا الحكم في غرس الأشجار وبناء الدكاكين والجلوس للبيع والشراء على قارعة الطريق "وجه" قولهما ما ذكرنا أن حرمة التصرف في حق الغير ليس لعينه بل للتحرز عن الضرر ولا ضرار بالمارة فاستوى فيه حال ما قبل التقدم وبعده ولأبي حنيفة رحمه الله أن إشراع الجناح والميزاب إلى طريق العامة تصرف في حقهم؛ لأن هواء البقعة في حكم البقعة والبقعة حقهم فكذا هواؤها فكان الانتفاع بذلك تصرفا في حق الغير وقد مر أن التصرف في حق الغير بغير إذنه حرام سواء أضر به أو لا إلا أنه حل له الانتفاع بذلك قبل التقدم لوجود الإذن منهم دلالة وهي ترك التقدم بالنقض والتصرف في حق الإنسان بإذنه مباح فإذا وقعت المطالبة بصريح النقض بطلت الدلالة فبقي الانتفاع بالمبنى تصرفا في حق مشترك بين الكل من غير إذنهم ورضاهم فلا يحل هذا إذا كانت السكة نافذة فأما إذا كانت غير نافذة فإن كان له حق في التقديم فليس لأهل السكة حق المنع لتصرفه في حق نفسه وإن لم

 

ج / 6 ص -266-       يكن له حق في التقديم فلهم منعه سواء كان لهم في ذلك مضرة أو لا لما ذكرنا أن حرمة التصرف في حق الغير لا تقف على المضرة والله سبحانه وتعالى أعلم.