بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 7 ص -2-            كتاب آداب القاضي
الكلام في هذا الكتاب في مواضع, في بيان فرضية نصب القاضي, وفي بيان من يصلح للقضاء, وفي بيان من يفترض عليه قبول تقليد القضاء, وفي بيان شرائط جواز القضاء, وفي بيان آداب القضاء, وفي بيان ما ينفذ من القضايا, وما ينقض منها؛ إذا رفع إلى قاض آخر, وفي بيان ما يحله القاضي وما لا يحله, وفي بيان حكم خطأ القاضي في القضاء, وفي بيان ما يخرج به القاضي عن القضاء. "أما" الأول فنصب القاضي فرض؛ لأنه ينصب لإقامة أمر مفروض, وهو القضاء قال الله سبحانه وتعالى:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وقال تبارك وتعالى لنبينا المكرم عليه أفضل الصلاة والسلام: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} والقضاء هو: الحكم بين الناس بالحق, والحكم بما أنزل الله عز وجل, فكان نصب القاضي؛ لإقامة الفرض, فكان فرضا ضرورة؛ ولأن نصب الإمام الأعظم فرض, بلا خلاف بين أهل الحق, ولا عبرة بخلاف بعض القدرية؛ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك, ولمساس الحاجة إليه؛ لتقيد الأحكام, وإنصاف المظلوم من الظالم, وقطع المنازعات التي هي مادة الفساد, وغير ذلك من المصالح التي لا تقوم إلا بإمام, لما علم في أصول الكلام, ومعلوم أنه لا يمكنه القيام بما نصب له بنفسه, فيحتاج إلى نائب يقوم مقامه في ذلك وهو القاضي؛ ولهذا "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الآفاق قضاة, فبعث سيدنا معاذا رضي الله عنه إلى اليمن, وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة, فكان نصب القاضي من ضرورات نصب الإمام, فكان فرضا", وقد سماه محمد فريضة محكمة؛ لأنه لا يحتمل النسخ؛ لكونه من الأحكام التي عرف وجوبها بالعقل, والحكم العقلي لا يحتمل الانتساخ, والله تعالى أعلم.

 

ج / 7 ص -3-            "فصل": وأما بيان من يصلح للقضاء فنقول: الصلاحية للقضاء لها شرائط "منها": العقل, "ومنها" البلوغ, "ومنها": الإسلام, "ومنها": الحرية, "ومنها": البصر "ومنها": النطق, "ومنها": السلامة عن حد القذف؛ لما قلنا في الشهادة, فلا يجوز تقليد المجنون والصبي, والكافر والعبد, والأعمى والأخرس, والمحدود في القذف؛ لأن القضاء من باب الولاية, بل هو أعظم الولايات, وهؤلاء ليست لهم أهلية أدنى الولايات وهي الشهادة فلأن لا يكون لهم أهلية أعلاها أولى, وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة, إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك, وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة. "وأما" العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام: فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز, بل شرط الندب والاستحباب, وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام؛ وسائر الأحكام؛ مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك شرط جواز التقليد, كما قالوا في الإمام الأعظم. وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره, بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء, فكذا في القاضي, لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح, بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به, وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة, وقاضيان في النار, رجل علم علما فقضى بما علم؛ فهو في الجنة, ورجل علم فقضى بغير ما علم؛ فهو في النار, ورجل جهل فقضى بالجهل؛ فهو في النار" إلا أنه لو قلد جاز عندنا؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق, بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء, فكان تقليده جائزا في نفسه, فاسدا لمعنى في غيره, والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا, مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع, وهو كالبيع الفاسد, أنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم, كذا هذا, وكذا العدالة عندنا, ليست بشرط لجواز التقليد, لكنها شرط الكمال, فيجوز تقليد الفاسق وتنفذ قضاياه؛ إذا لم يجاوز فيها حد الشرع. وعند الشافعي رحمه الله شرط الجواز, فلا يصلح الفاسق قاضيا عنده, بناء على أن الفاسق ليس من أهل الشهادة عنده, فلا يكون من أهل القضاء, وعندنا هو من أهل الشهادة, فيكون من أهل القضاء, لكن لا ينبغي أن يقلد الفاسق؛ لأن القضاء أمانة عظيمة, وهي أمانة الأموال, والأبضاع والنفوس, فلا يقوم بوفائها إلا من كمل ورعه, وتم تقواه, إلا أنه مع هذا لو قلد؛ جاز التقليد في نفسه وصار قاضيا؛ لأن الفساد لمعنى في غيره, فلا يمنع جواز تقليده القضاء في نفسه؛ لما مر. "وأما" ترك الطلب: فليس بشرط؛ لجواز التقليد بالإجماع, فيجوز تقليد الطالب بلا خلاف؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق, لكن لا ينبغي أن يقلد؛ لأن الطالب يكون متهما. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنا لا نولي أمرنا هذا من كان له طالبا" وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من سأل القضاء وكل إلى نفسه, ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده" وهذا إشارة إلى أن الطالب, لا يوفق لإصابة الحق, والمجبر عليه يوفق. وأما شرائط الفضيلة والكمال: فهو أن يكون القاضي عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام, قد بلغ في علمه ذلك حد الاجتهاد, عالما بمعاشرة الناس ومعاملتهم, عدلا ورعا, عفيفا عن التهمة, صائن النفس عن الطمع؛ لأن القضاء: هو الحكم بين الناس بالحق, فإذا كان المقلد بهذه الصفات, فالظاهر أنه لا يقضي إلا بالحق, ثم ما ذكرنا أنه شرط جواز التقليد, فهو شرط جواز التحكيم؛ لأن التحكيم مشروع, قال الله تعالى عز شأنه: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فكان الحكم من الحكمين بمنزلة حكم القاضي المقلد, إلا أنهما يفترقان في أشياء مخصوصة. "منها": أن الحكم في الحدود والقصاص لا يصح. "ومنها": أنه ليس بلازم ما لم يتصل به الحكم, حتى لو رجع أحد المتحاكمين قبل الحكم؛ يصح رجوعه, وإذا حكم صار لازما. "ومنها": أنه إذا حكم في فصل مجتهد فيه, ثم رفع حكمه إلى القاضي, ورأيه يخالف رأي الحاكم المحكم, له أن يفسخ حكمه, والفرق بين هذه الجملة يعرف في موضعه, إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما بيان من يفترض عليه قبول تقليد القضاء, فنقول: إذا عرض القضاء على من يصلح له من أهل البلد, ينظر إن كان في البلد عدد يصلحون للقضاء, لا يفترض عليه القبول, بل هو في سعة من القبول والترك. "أما" جواز القبول؛ فلأن الأنبياء والمرسلين, صلوات الله عليهم أجمعين قضوا بين الأمم بأنفسهم, وقلدوا غيرهم وأمروا بذلك, فقد بعث

 

ج / 7 ص -4-            رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا, وبعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة قاضيا, وقلد النبي عليه الصلاة والسلام كثيرا من أصحابه رضي الله تعالى عنهم الأعمال, وبعثهم إليها, وكذا الخلفاء الراشدون قضوا بأنفسهم, وقلدوا غيرهم, فقلد سيدنا عمر رضي الله عنه شريحا القضاء, وقرره سيدنا عثمان, وسيدنا علي رضي الله عنهما. "وأما" جواز الترك؛ فلما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه: "إياك والإمارة" وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تتأمرن على اثنين" وروي أن أبا حنيفة رضي الله عنه عرض عليه القضاء, فأبى حتى ضرب على ذلك ولم يقبل, وكذا لم يقبله كثير من صالحي الأمة, وهذا معنى ما ذكر في الكتاب, دخل فيه قوم صالحون وترك الدخول فيه قوم صالحون, ثم إذا جاز الترك والقبول في هذا الوجه, اختلفوا في أن القبول أفضل أم الترك قال بعضهم: الترك أفضل, وقال بعضهم: القبول أفضل, احتج الفريق الأول بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من جعل على القضاء فقد ذبح بغير سكين" وهذا يجري مجرى الزجر عن تقلد القضاء, احتج الفريق الآخر بصنع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وصنع الخلفاء الراشدين؛ لأن لنا فيهم قدوة؛ ولأن القضاء بالحق إذا أراد به وجه الله سبحانه وتعالى؛ يكون عبادة خالصة بل هو من أفضل العبادات, قال النبي المكرم عليه أفضل التحية: "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة". والحديث محمول على القاضي الجاهل, أو العالم الفاسق, أو الطالب الذي لا يأمن على نفسه الرشوة, فيخاف أن يميل إليها, توفيقا بين الدلائل, هذا إذا كان في البلد عدد يصلحون للقضاء, فأما إذا كان لم يصلح له إلا رجل واحد؛ فإنه يفترض عليه القبول؛ إذا عرض عليه؛ لأنه إذا لم يصلح له غيره تعين هو لإقامة هذه العبادة, فصار فرض عين عليه, إلا أنه لا بد من التقليد, فإذا قلد افترض عليه القبول على وجه لو امتنع من القبول يأثم, كما في سائر فروض الأعيان, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط القضاء فأنواع: بعضها يرجع إلى القاضي, وبعضها يرجع إلى نفس القضاء, وبعضها يرجع إلى المقضي له, وبعضها يرجع إلى المقضي عليه. "أما" الذي يرجع إلى القاضي فما ذكرنا من شرائط جواز تقليد القضاء؛ لأن من لا يصلح قاضيا؛ لا يجوز قضاؤه ضرورة."وأما" الذي يرجع إلى نفس القضاء, فأنواع: منها أن يكون بحق, وهو الثابت عند الله عز وجل من حكم الحادثة, إما قطعا بأن قام عليه دليل قطعي, وهو النص المفسر من الكتاب الكريم, أو الخبر المشهور والمتواتر, والإجماع, وإما ظاهرا؛ بأن قام عليه دليل ظاهر, يوجب علم غالب الرأي, وأكثر الظن, من ظواهر الكتاب الكريم والمتواتر والمشهور, وخبر الواحد, والقياس الشرعي, وذلك في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله والتي لا رواية في جوابها عن السلف, بأن لم تكن واقعة, حتى لو قضى بما قام الدليل القطعي على خلافه لم يجز؛ لأنه قضاء بالباطل قطعا, وكذا لو قضى في موضع الخلاف, بما كان خارجا عن أقاويل الفقهاء كلهم, لم يجز؛ لأن الحق لا يعدو أقاويلهم, فالقضاء بما هو خارج عنها كلها يكون قضاء باطلا قطعا. وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نص ظاهر, يخالفه من الكتاب الكريم والسنة لم يجز قضاؤه؛ لأن القياس في مقابلة النص باطل, سواء كان النص قطعيا أو ظاهرا. وأما فيما لا نص فيه يخالفه, ولا إجماع النقول, لا يخلو "إما" أن كان القاضي من أهل الاجتهاد. "وإما" أن لم يكن من أهل الاجتهاد, فإن كان من أهل الاجتهاد, وأفضى رأيه إلى شيء يجب عليه العمل به, وإن خالف رأي غيره ممن هو من أهل الاجتهاد والرأي, ولا يجوز له أن يتبع رأي غيره؛ لأن ما أدى إليه اجتهاده هو الحق عند الله عز وجل ظاهرا, فكان غيره باطلا ظاهرا,؛ لأن الحق في المجتهدات واحد, والمجتهد يخطئ ويصيب عند أهل السنة والجماعة في العقليات والشرعيات جميعا, ولو أفضى رأيه إلى شيء. وهناك مجتهد آخر أفقه منه له رأي آخر, فأراد أن يعمل برأيه, من غير النظر فيه, وترجح رأيه بكونه أفقه منه, هل يسعه ذلك؟ ذكر في كتاب الحدود, أن عند أبي حنيفة يسعه ذلك, وعندهما لا يسعه إلا أن يعمل برأي نفسه, وذكر في بعض الروايات هذا الاختلاف على العكس, فقال: على قول أبي حنيفة: لا يسعه, وعلى قولهما: يسعه, وهذا يرجع إلى أن كون أحد المجتهدين أفقه, من غير النظر في رأيه, هل يصلح مرجحا؟ من قال: يصلح مرجحا, قال: يسعه, ومن قال

 

ج / 7 ص -5-            لا يصلح, قال: يسعه. "وجه" قول من لا يرى الترجيح بكونه أفقه, أن الترجيح يكون بالدليل, وكونه أفقه ليس من جنس الدليل, فلا يقع به الترجيح, وهذا لا يصلح دليل الحكم بنفسه. "وجه" قول من يرى به الترجيح, أن هذا من جنس الدليل؛ لأن كونه أفقه, يدل على أن اجتهاده إقرار إلى الصواب, فكان من جنس الدليل فيصلح للترجيح, إن لم يصلح دليل الحكم بنفسه, وأبدا يكون الترجيح بما لا يصلح دليل الحكم بنفسه, ولهذا قيل: في حده زيادة لا يسقط بها التعارض حقيقة؛ لما علم في أصول الفقه, ولهذا أوجب أبو حنيفة رحمه الله تقليد الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورجحه على القياس؛ لما أن قوله أقرب إلى إصابة الحق من قول القائس كذا هذا, وإن أشكل عليه حكم الحادثة استعمل رأيه في ذلك وعمل به, والأفضل أن يشاور أهل الفقه في ذلك, فإن اختلفوا في حكم الحادثة نظر في ذلك, فأخذ بما يؤدي إلى الحق ظاهرا, وإن اتفقوا على رأي يخالف رأيه عمل برأي نفسه أيضا؛ لأن المجتهد مأمور بالعمل بما يؤدي إليه اجتهاده, فحرم عليه تقليد غيره, لكن لا ينبغي أن يعجل بالقضاء, ما لم يقض حق التأمل والاجتهاد, وينكشف له وجه الحق, فإذا ظهر له الحق باجتهاده, قضى بما يؤدي إليه اجتهاده, ولا يكونن خائفا في اجتهاده, بعد ما بذل مجهوده لإصابة الحق, فلا يقولن: إني أرى, وإني أخاف؛ لأن الخوف والشك والظن, يمنع من إصابة الحق, ويمنع من الاجتهاد, فينبغي أن يكون جريئا جسورا على الاجتهاد, بعد أن لم يقصر في طلب الحق, حتى لو قضى مجازفا لم يصح قضاؤه, فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى, وإن كان من أهل الاجتهاد, إلا أنه إذا كان لا يدري   يحمل على أنه قضى برأيه, ويحكم بالصحة حملا لأمر المسلم على الصحة والسداد ما أمكن, والله سبحانه وتعالى أعلم, هذا إذا كان القاضي من أهل الاجتهاد.فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فإن عرف أقاويل أصحابنا, وحفظها على الاختلاف والاتفاق عمل بقول من يعتقد قوله حقا على التقليد, وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا, وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد؟ من أصحابنا من قال: يسعه أن يأخذ بقوله, ونرجو أن لا يكون عليه شيء؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه, وليس هناك سواه من أهل الفقه مست الضرورة إلى الأخذ بقوله, قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ولو قضى بمذهب خصمه, وهو يعلم ذلك لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده, فلا ينفذ كما لو كان مجتهدا, فترك رأي نفسه, وقضى برأي مجتهد يرى رأيه باطلا فإنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه قضى بما هو باطل في اجتهاده كذا هذا. ولو نسي القاضي مذهبه فقضى بشيء, على ظن أنه مذهب نفسه, ثم تبين أنه مذهب خصمه؟ ذكر في شرح الطحاوي: أن له أن يبطله, ولم يذكر الخلاف؛ لأنه إذا لم يكن مجتهدا تبين أنه قضى بما لا يعتقده حقا, فتبين أنه وقع باطلا, كما لو قضى وهو يعلم أن ذلك مذهب خصمه, وذكر في أدب القاضي: أنه يصح قضاؤه عند أبي حنيفة, وعندهما لا يصح, لهما أن القاضي مقصر؛ لأنه يمكنه حفظ مذهب نفسه, وإذا لم يحفظ فقد قصر, والمقصر غير معذور, ولأبي حنيفة: أن النسيان غالب خصوصا عند تزاحم الحوادث فكان معذورا, هذا إذا لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد, فأما إذا كان من أهل الاجتهاد, ينبغي أن يصح قضاؤه في الحكم, بالإجماع, ولا يكون لقاض آخر أن يبطله؛ لأنه لا يصدق على النسيان, بل يحمل على أنه اجتهد, فأدى اجتهاده إلى مذهب خصمه فقضى به, فيكون قضاؤه باجتهاده فيصح. وإن قضى في حادثة وهي محل الاجتهاد برأيه, ثم رفعت إليه ثانيا فتحول رأيه يعمل بالرأي الثاني, ولا يوجب هذا نقض الحكم بالرأي الأول؛ لأن القضاء بالرأي الأول؛ قضاء مجمع على جوازه؛ لاتفاق أهل الاجتهاد على أن للقاضي أن يقضي في محل الاجتهاد؛ وبما يؤدي إليه اجتهاده, فكان هذا قضاء متفقا على صحته, ولا اتفاق على صحة هذا الرأي الثاني, فلا يجوز نقض المجمع عليه بالمختلف, ولهذا لا يجوز لقاض آخر أن يبطل هذا الاجتهاد كذا هذا, وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قضى في حادثة, ثم قضى فيها بخلاف تلك القضية, فسئل فقال: تلك كما قضينا وهذه كما نقضي, ولو رفعت إليه ثالثا, فتحول رأيه إلى الأول يعمل به, ولا يبطل قضاؤه بالرأي الثاني, بالعمل بالرأي الأول, كما لا يبطل قضاؤه الأول, بالعمل بالرأي الثاني لما قلنا. ولو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق ألبتة, ومن رأيه أنه بائن, فأمضى رأيه فيما بينه وبين امرأته, وعزم على

 

ج / 7 ص -6-            أنها قد حرمت عليه, ثم تحول رأيه إلى أنها تطليقة واحدة, يملك الرجعة؛ فإنه يعمل برأيه الأول في حق هذه المرأة, وتحرم عليه, وإنما يعمل برأيه الثاني في المستقبل, في حقها وفي حق غيرها؛ لأن الأول رأي أمضاه بالاجتهاد, وما أمضي بالاجتهاد؛ لا ينقض باجتهاد مثله, وكذلك لو كان رأيه أنها واحدة, يملك الرجعة, فعزم على أنها منكوحة, ثم تحول رأيه إلى أنه بائن, فإنه يعمل برأيه الأول, ولا تحرم عليه؛ لما قلنا. ولو لم يكن عزم على الحرمة, في الفصل الأول حتى تحول رأيه إلى الحل, لا تحرم عليه, وكذا في الفصل الثاني, لو لم يكن عزم على الحل, حتى تحول رأيه إلى الحرمة, تحرم عليه؛ لأن نفس الاجتهاد محل النقض, ما لم يتصل به الإمضاء, واتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء, واتصال القضاء يمنع من النقض, فكذا اتصال الإمضاء. وكذلك الرجل إذا لم يكن فقيها, فاستفتى: فقيها فأفتاه بحلال أو حرام, ولو لم يكن عزم على ذلك, حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه, فأخذ بقوله وأمضاه في منكوحته, لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه, ويرجع إلى ما أفتاه به الأول؛ لأن العمل بما أمضى واجب, لا يجوز نقضه مجتهدا كان أو مقلدا؛ لأن المقلد متعبد بالتقليد, كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد, ثم لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه, فكذا لا يجوز ذلك للمقلد. ثم ما ذكرنا من نفاذ قضاء القاضي في محل الاجتهاد, بما يؤدي إليه اجتهاده؛ إذا لم يكن المقضي عليه, والمقضي له من أهل الرأي والاجتهاد, أو كانا من أهل الرأي والاجتهاد, ولكن لم يخالف رأيهما رأي القاضي, فأما إذا كانا من أهل الاجتهاد, وخالف رأيهما رأي القاضي, فجملة الكلام فيه: أن قضاء القاضي ينفذ على المقضي عليه في محل الاجتهاد, سواء كان المقضي عليه, عاميا مقلدا أو فقيها مجتهدا, يخالف رأيه رأي القاضي بلا خلاف, أما إذا كان مقلدا فظاهر؛ لأن العامي يلزمه تقليد المفتي, فتقليد القاضي أولى, وكذا إذا كان مجتهدا؛ لأن القضاء في محل الاجتهاد, بما يؤدي إليه اجتهاد القاضي, قضاء مجمع على صحته على ما مر, ولا معنى للصحة إلا النفاذ على المقضي عليه, وصورة المسألة إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ألبتة ورأى الزوج أنه واحدة, يملك الرجعة ورأى القاضي أنه بائن, فرافعته المرأة إلى القاضي, فقضى بالبينونة ينفذ قضاؤه بالاتفاق؛ لما قلنا وأما قضاؤه للمقضي له بما يخالف رأيه, هل ينفذ؟ قال أبو يوسف: لا ينفذ, وقال محمد: ينفذ, وصورة المسألة: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ألبتة, ورأى الزوج أنه بائن, ورأى القاضي أنه واحدة, يملك الرجعة, فرافعته إلى القاضي؛ فقضى بتطليقة واحدة يملك الرجعة؛ لا يحل له المقام معها عند أبي يوسف, وعند محمد يحل له. "وجه" قول محمد ما ذكرنا: أن هذا قضاء وقع الاتفاق على جوازه, لوقوعه في فصل مجتهد فيه, فينفذ على المقضي عليه والمقضي له؛ لأن القضاء له تعلق بهما جميعا, ألا ترى أنه لا يصح إلا بمطالبة المقضي له, ولأبي يوسف: أن صحة القضاء إنفاذه في محل الاجتهاد, يظهر أثره في حق المقضي عليه, لا في حق المقضي له؛ لأن المقضي عليه مجبور في القضاء عليه. فأما المقضي له فمختار في القضاء له, فلو اتبع رأي القاضي, إنما يتبعه تقليدا, وكونه مجتهدا يمنع من التقليد, فيجب العمل برأي نفسه, وعلى هذا كل تحليل أو تحريم, أو إعتاق أو أخذ مال؛ إذا قضى القاضي بما يخالف رأي المقضي عليه أو له, فهو على ما ذكرنا من الاتفاق والاختلاف, وكذلك المقلد إذا أفتاه إنسان في حادثة, ثم رفعت إلى القاضي, فقضى بخلاف رأي المفتي, فإنه يأخذ بقضاء القاضي, ويترك رأي المفتي؛ لأن رأي المفتي يصير متروكا بقضاء القاضي, فما ظنك بالمقلد؟ ولم يذكر القدوري رحمه الله الخلاف في هذا الفصل, وذكره شيخنا رحمه الله وسننظر فيه فيما يأتي إن شاء الله تعالى, وعلى هذا يخرج القضاء بالبينة؛ لأن البينة العادلة مظهرة للمدعي, فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق, وعلى هذا يخرج القضاء بالإقرار؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذبا, هذا هو, الظاهر, فكان القضاء به قضاء بالحق, وكذا القضاء بالنكول عندنا, فيما يقضى فيه بالنكول؛ لأن النكول على أصل أصحابنا بذل, أو إقرار, وكل ذلك دليل صدق المدعي في دعواه؛ لما علم, فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق. وعلى هذا يخرج قضاء القاضي بعلم نفسه, في الجملة, فنقول: تفصيل الكلام فيه أنه لا يخلو إما أن قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه, وهو الموضع الذي قلد قضاءه, وإما أن قضى بعلم استفاده قبل زمان القضاء, وفي غير مكانه, وإما أن قضى بعلم استفاده بعد زمان القضاء, في غير مكانه, فإن قضى بعلم استفاده في زمن القضاء, وفي مكانه, بأن سمع رجلا أقر لرجل بمال, أو سمعه يطلق امرأته, أو يعتق عبده, أو يقذف

 

ج / 7 ص -7-            رجلا, أو رآه يقتل إنسانا, وهو قاض في البلد الذي قلد قضاءها, جاز قضاؤه عندنا, ولا يجوز قضاؤه به في الحدود الخالصة, بلا خلاف بين أصحابنا, إلا أن في السرقة يقضي بالمال لا بالقطع, وللشافعي فيه قولان, في قول: لا يجوز له أن يقضي به في الكل, وفي قول: يجوز في الكل. "وجه" قوله الأول, أن القاضي مأمور بالقضاء بالبينة, ولو جاز له القضاء بعلمه, لم يبق مأمورا بالقضاء بالبينة, وهذا المعنى لا يفصل بين الحدود وغيرها. "وجه" قوله الثاني, أن المقصود من البينة العلم بحكم الحادثة, وقد علم, وهذا لا يوجب الفصل بين الحدود وغيرها؛ لأن علمه لا يختلف. "ولنا" أنه جاز له القضاء بالبينة, فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى؛ وهذا لأن المقصود من البينة ليس عينها, بل حصول العلم بحكم الحادثة, وعلمه الحاصل بالمعاينة, أقوى من علمه الحاصل بالشهادة؛ لأن الحاصل بالشهادة علم غالب الرأي وأكثر الظن, والحاصل بالحس والمشاهدة علم القطع واليقين, فكان هذا أقوى, فكان القضاء به أولى, إلا أنه لا يقضي به في الحدود الخالصة؛ لأن الحدود يحتاط في درئها, وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم نفسه؛ ولأن الحجة في وضع الشيء, هي البينة التي تتكلم بها, ومعنى البينة وإن وجد, فقد فاتت صورتها, وفوات الصورة يورث شبهة, والحدود تدرأ بالشبهات, بخلاف القصاص فإنه حق العبد, وحقوق العباد لا يحتاط في إسقاطها, وكذا حد القذف؛ لأن فيه حق العبد, وكلاهما لا يسقطان بشبهة فوات الصورة, هذا إذا قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه, فأما إذا قضى بعلم, استفاده في غير زمن القضاء ومكانه, أو في زمان القضاء في غير مكانه, وذلك قبل أن يصل إلى البلد, الذي ولي قضاءه, فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة أصلا, وعندهما يجوز فيما سوى الحدود الخالصة, فأما في الحدود الخالصة فلا يجوز. وجه قولهما أنه لما جاز له أن يقضي بالعلم المستفاد في زمن القضاء, جاز له أن يقضي بالعلم المستفاد قبل زمن القضاء؛ لأن العلم في الحالين على حد واحد, إلا أن ههنا استدام العلم, الذي كان له قبل القضاء, بتجدد أمثاله, وهناك حدث له علم لم يكن, وهما سواء في المعنى, إلا أنه لم يقض به في الحدود الخالصة؛ لتمكن الشبهة فيه باعتبار التهمة, والشبهة تؤثر في الحدود الخالصة, ولا تؤثر في حقوق العباد على ما مر, ولأبي حنيفة الفرق بين العلمين, وهو أن العلم الحادث له في زمن القضاء علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء, فأشبه البينة القائمة فيه, والعلم الحاصل في غير زمان القضاء علم في وقت هو غير مكلف فيه بالقضاء, فأشبه البينة القائمة فيه؛ وهذا لأن الأصل في صحة القضاء هو البينة, إلا أن غيرها قد يلحق بها؛ إذا كان في معناها, والعلم الحادث في زمان القضاء في معنى البينة يكون حادثا في وقت هو مكلف بالقضاء, فكان في معنى البينة, والحاصل قبل زمان القضاء, أو قبل الوصول إلى مكانه, حاصل في وقت هو غير مكلف بالقضاء, فلم يكن في معنى البينة, فلم يجز القضاء به, فهو الفرق بين العلمين. وعلى هذا يخرج القضاء بكتاب القاضي, فنقول: لقبول الكتاب من القاضي شرائط, منها: البينة على أنه كتابه, فتشهد الشهود على أن هذا كتاب فلان القاضي, ويذكروا اسمه ونسبه؛ لأنه لا يعرف أنه كتابه بدونه, ومنها: أن يكون الكتاب مختوما, ويشهدوا على أن هذا ختمه؛ لصيانته عن الخلل فيه, ومنها: أن يشهدوا بما في الكتاب, بأن يقولوا: إنه قرأه عليهم مع الشهادة بالختم, وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا بالكتاب والخاتم تقبل, وإن لم يشهدوا بما في الكتاب, وكذا إذا شهدوا بالكتاب وبما في جوفه تقبل, وإن لم يشهدوا بالخاتم, بأن قالوا: لم يشهدنا على الخاتم, أو لم يكن الكتاب مختوما أصلا, لأبي يوسف: أن المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المكتوب إليه, بأن هذا كتاب فلان القاضي, وهذا يحصل بما ذكرنا. ولهما أن العلم بأنه كتاب فلان, لا يحصل إلا بالعلم بما فيه, ولا بد من الشهادة بما فيه؛ لتكون شهادتهم على علم بالمشهود به, ومنها أن يكون بين القاضي المكتوب إليه, وبين القاضي الكاتب مسيرة سفر, فإن كان دونه لم تقبل؛ لأن القضاء بكتاب القاضي أمر جوز لحاجة الناس بطريق الرخصة؛ لأنه قضاء بالشهادة القائمة على غائب, من غير أن يكون عند خصم حاضر, لكن جوز للضرورة, ولا ضرورة فيما دون مسيرة السفر, ومنها أن يكون في الدين والعين التي لا حاجة إلى الإشارة إليها عند الدعوى والشهادة, كالدور والعقار. وأما في الأعيان التي تقع الحاجة إلى الإشارة إليها, كالمنقول من الحيوان والعروض, لا تقبل, عند أبي حنيفة, ومحمد رحمهما الله

 

ج / 7 ص -8-            وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله ثم رجع وقال: تقبل في العبد خاصة إذا أبق, وأخذ في بلد, فأقام صاحبه البينة عند قاضي بلده أن عبده أخذه فلان في بلد كذا, فشهد الشهود على الملك, أو على صفة العبد وحليته, فإنه يكتب إلى قاضي البلد الذي العبد فيه, أنه قد شهد الشهود عندي, أن عبدا صفته وحليته كذا وكذا ملك فلان, أخذه فلان بن فلان. ينسب كل واحد منهما إلى أبيه وإلى جده, على رسم كتاب القاضي إلى القاضي, وإذا وصل إلى القاضي المكتوب إليه, وعلم أنه كتابه بشهادة الشهود, يسلم العبد إليه, ويختم في عنقه, ويأخذ منه كفيلا, ثم يبعث به إلى القاضي الكاتب, حتى يشهد الشهود عليه عنده بعينه على الإشارة إليه, ثم يكتب القاضي الكاتب له, كتابا آخر إلى ذلك القاضي المكتوب إليه أول مرة, فإذا علم أنه كتابه قبله وقضى, وسلم العبد إلى الذي جاء بالكتاب, وأبرأ كفيله, ولا يقبل في الجارية بالإجماع. وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الحاجة إلى قبول كتاب القاضي في العبد متحققة؛ لعموم البلوى به, فلو لم يقبل؛ لضاق الأمر على الناس؛ ولضاعت أموالهم, ولا حاجة إليه في الأمة؛ لأنها لا تهرب عادة لعجزها, وضعف بنيتها وقلبها, ولهما أن الشهادة لا تقبل إلا على معلوم؛ للآية الكريمة {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} والمنقول لا يصير معلوما إلا بالإشارة إليه, والإشارة إلى الغائب محال, فلم تصح شهادة الشهود, ولا دعوى المدعي؛ لجهالة المدعي فلا يقبل الكتاب فيه, ولهذا لم يقبل في الجارية, وفي سائر المنقولات بخلاف العقار؛ لأنه يصير معلوما بالتحديد وبخلاف الدين؛ لأن الدين يصير معلوما بالوصف, وهذا الذي ذكرنا مذهب أصحابنا رضي الله عنهم وقال ابن أبي ليلى رحمه الله: يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الكل, وقضاة زماننا يعملون بمذهبه؛ لحاجة الناس, وينبغي للقاضي المرسل إليه, أن لا يفك الكتاب إلا بمحضر من الخصم؛ ليكون أبعد من التهمة, ومنها: أن لا يكون في الحدود والقصاص؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي, بمنزلة الشهادة على الشهادة, وأنه لا تقبل فيهما, كذا هذا. ومنها: أن يكون اسم المكتوب له وعليه, واسم أبيه وجده وفخذه مكتوبا في الكتاب, حتى لو نسبه إلى أبيه ولم يذكر اسم جده, أو نسبه إلى قبيلة, كبني تميم ونحوه لا يقبل؛ لأن التعريف لا يحصل به, إلا وأن يكون شيئا ظاهرا مشهورا, أشهر من القبيلة فيقبل؛ لحصول التعريف, ومنها: ذكر الحدود في الدور والعقار؛ لأن التعريف في المحدود لا يصح إلا بذكر الحد, ولو ذكر في الكتاب ثلاثة حدود, يقبل عند أصحابنا الثلاثة. وعند زفر رحمه الله لا يقبل ما لم يشهدوا على الحدود الأربعة, ولو شهدوا على حدين لا تقبل بالإجماع, وإذا كانت الدار مشهورة كدار الأمير وغيره, لا تقبل عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما تقبل وهذه من مسائل الشروط, ومنها: أن يكون القاضي الكاتب على قضائه, عند وصول كتابه إلى القاضي المكتوب إليه, حتى لو مات أو عزل قبل الوصول إليه لم يعمل به, ولو مات بعد وصول الكتاب إليه جاز له أن يقضي به, ومنها: أن يكون القاضي المكتوب إليه على قضائه, حتى لو مات أو عزل قبل وصول الكتاب إليه, ثم وصل إلى القاضي الذي ولي مكانه, لم يعمل به؛ لأنه لم يكتب إليه, والله تعالى أعلم, ومنها: أن يكون القاضي الكاتب من أهل العدل. فإن كان من أهل البغي, لم يعمل به قاضي أهل العدل, بل يرده كبتا وغيظا لهم, ومنها: أن يكون لله سبحانه وتعالى خالصا؛ لأن القضاء عبادة, والعبادة إخلاص العمل بكليته لله عز وجل, فلا يجوز قضاؤه لنفسه, ولا لمن لا تقبل شهادته له؛ لأن القضاء له قضاء لنفسه من وجه, فلم يخلص لله سبحانه وتعالى, وكذا إذا قضى في حادثة برشوة, لا ينفذ قضاؤه في تلك الحادثة, وإن قضى بالحق الثابت عند الله جلا وعلا من حكم الحادثة؛ لأنه إذا أخذ على القضاء رشوة؛ فقد قضى لنفسه لا لله عز اسمه, فلم يصح. "وأما" الذي يرجع إلى المقضي له فأنواع, منها: أن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي, فإن كان ممن لا تقبل شهادته له لا يجوز قضاء القاضي له؛ لما قلنا والله تعالى الموفق ومنها: أن يكون حاضرا وقت القضاء, فإن كان غائبا لم يجز القضاء له, إلا إذا كان عنه خصم حاضر؛ لأن القضاء على الغائب كما لا يجوز, فالقضاء للغائب أيضا لا يجوز, ومنها: طلب القضاء من القاضي في حقوق العباد؛ لأن القضاء وسيلة إلى حقه, فكان حقه وحق الإنسان لا يستوفى إلا بطلبه. "وأما" الذي يرجع إلى المقضي عليه فحضرته حتى لا يجوز القضاء على الغائب, إذا لم يكن عنه خصم حاضر, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله ليس

 

ج / 7 ص -9-            بشرط, والمسألة ذكرت في كتاب الدعوى, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما آداب القضاء فكثيرة, والأصل فيها كتاب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري, رحمه الله سماه محمد رحمه الله كتاب السياسة, وفيه: أما بعد, فإن القضاء فريضة محكمة, وسنة متبعة, فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له, آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك, حتى لا يطمع شريف في حيفك, ولا ييأس ضعيف من عدلك وفي رواية: ولا يخاف ضعيف جورك البينة على المدعي واليمين على من أنكر, الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا, ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك, وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق, فإن الحق قديم لا يبطل, ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل, الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك, مما لم يبلغك في القرآن العظيم والسنة, ثم اعرف الأمثال والأشباه, وقس الأمور عند ذلك, فاعمد إلى أحبها, وأقربها إلى الله تبارك وتعالى, وأشبهها بالحق, اجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه, فإذا أحضر بينة أخذ بحقه, وإلا وجب القضاء عليه وفي رواية: وإن عجز عنها استحللت عليه القضاء فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى, المسلمون عدول بعضهم على بعض, إلا محدودا في قذف, أو ظنينا في ولاء أو قرابة, أو مجربا عليه شهادة زور, فإن الله تعالى تولى منكم السر وفي رواية السرائر ودرأ عنكم بالبينات, إياك والغضب والقلق, والضجر والتأذي بالناس؛ للخصوم في مواطن الحق, الذي يوجب الله سبحانه وتعالى به الأجر, ويحسن به الذخر, وأن من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه في الحق يكفه الله تعالى فيما بينه وبين الناس, ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه؛ شانه الله عز وجل, فإنه سبحانه وتعالى لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا, فما ظنك بثواب عن الله سبحانه وتعالى, من عاجل رزقه وخزائن رحمته, والسلام. ومنها: أن يكون القاضي فهما عند الخصومة, فيجعل فهمه وسمعه وقلبه إلى كلام الخصمين؛ لقول سيدنا عمر رضي الله عنه في كتاب السياسة: فافهم إذا أولي إليك؛ ولأن من الجائز أن يكون الحق مع أحد الخصمين, فإذا لم يفهم القاضي كلامهما؛ يضيع الحق, وذلك قوله رضي الله عنه: فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له, ومنها: أن لا يكون قلقا وقت القضاء؛ لقول سيدنا عمر رضي الله عنه: إياك والقلق. وهذا ندب إلى السكون والتثبيت, ومنها: أن لا يكون ضجرا عند القضاء؛ إذا اجتمع عليه الأمور فضاق صدره؛ لقوله رضي الله عنه: إياك والضجر ومنها أن لا يكون غضبان وقت القضاء؛ لقول سيدنا عمر رضي الله عنه: إياك والغضب وقال صلى الله عليه وسلم "لا يقضي القاضي وهو غضبان"؛ ولأنه يدهشه عن التأمل, ومنها: أن لا يكون جائعا ولا عطشان ولا ممتلئا؛ لأن هذه العوارض من القلق, والضجر والغضب, والجوع والعطش والامتلاء, مما يشغله عن الحق, ومنها: أن لا يقضي وهو يمشي على الأرض, أو يسير على الدابة؛ لأن المشي والسير يشغلانه عن النظر والتأمل في كلام الخصمين, ولا بأس بأن يقضي وهو متكئ؛ لأن الاتكاء لا يقدح في التأمل والنظر. ومنها: أن يسوي بين الخصمين في الجلوس, فيجلسهما بين يديه لا عن يمينه ولا عن يساره؛ لأنه لو فعل ذلك؛ فقد قرب أحدهما في مجلسه, وكذا لا يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره؛ لأن لليمين فضلا على اليسار, وقد روي أن عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما اختصما في حادثة إلى زيد بن ثابت, فألقى لسيدنا عمر رضي الله عنه وسادة, فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: هذا أول جورك, وجلس بين يديه ومنها: أن يسوي بينهما في النظر, والنطق والخلوة, فلا ينطلق بوجهه إلى أحدهما, ولا يسار أحدهما, ولا يومئ إلى أحدهما بشيء دون خصمه, ولا يرفع صوته على أحدهما ولا يكلم أحدهما بلسان لا يعرفه الآخر, ولا يخلو بأحد في منزله, ولا يضيف أحدهما, فيعدل بين الخصمين في هذا كله؛ لما في ترك العدل فيه من كسر قلب الآخر, ويتهم القاضي به أيضا. ومنها: أن لا يقبل الهدية من أحدهما, إلا إذا كان لا يلحقه به تهمة. وجملة الكلام فيه: أن المهدي لا يخلو إما أن يكون رجلا كان يهدي إليه قبل تقليد القضاء, وإما أن كان لا يهدي إليه, فإن كان لا يهدي إليه, فإما إن كان قريبا له أو أجنبيا, فإن كان قريبا له ينظر إن كان له خصومة في الحال, فإنه لا يقبل؛ لأنه يلحقه التهمة, وإن كان لا خصومة له في الحال يقبل؛ لأنه لا تهمة فيه, وإن كان أجنبيا

 

ج / 7 ص -10-         لا يقبل, سواء كان له خصومة في الحال, أو لا؛ لأنه إن كان له خصومة في الحال, كان بمعنى الرشوة, وإن لم يكن؛ فربما يكون له خصومة في الحال يأتي بعد ذلك, فلا يقبل ولو قبل يكون لبيت المال, هذا إذا كان الرجل لا يهدي إليه قبل تقليد القضاء, فأما إذا كان يهدي إليه, فإن كان له في الحال خصومة لا تقبل؛ لأنه يتهم فيه. وإن كان لا خصومة له في الحال, ينظر إن كان أهدى مثل ما كان يهدي أو أقل يقبل؛ لأنه لا تهمة فيه, وإن كان أكثر من ذلك يرد الزيادة عليه, وإن قبل كان لبيت المال, وإن لم يقبل للحال حتى انقضت الخصومة ثم قبلها, لا بأس به, ومنها: أن لا يجيب الدعوة الخاصة, بأن كانوا خمسة أو عشرة؛ لأنه لا يخلو من التهمة, إلا إذا كان صاحب الدعوة ممن كان يتخذ له الدعوة قبل القضاء, أو كان بينه وبين القاضي قرابة, فلا بأس بأن يحضر إذا لم يكن له خصومة؛ لانعدام التهمة, فإن عرف القاضي له خصومة لم يحضرها. وأما الدعوة العامة: فإن كانت بدعة, كدعوة المباراة ونحوها؛ لا يحل له أن يحضرها لأنه لا يحل لغير القاضي إجابتها فالقاضي أولى, وإن كانت سنة كوليمة العرس والختان, فإنه يجيبها؛ لأنه إجابة السنة, ولا تهمة فيه. ومنها: أن لا يلقن أحد الخصمين حجته؛ لأن فيه مكسرة قلب الآخر؛ ولأن فيه إعانة أحد الخصمين, فيوجب التهمة, غير أنه إن تكلم أحدهما, أسكت الآخر؛ ليفهم كلامه ومنها: أن لا يلقن الشاهد, بل يتركه يشهد بما عنده, فإن أوجب الشرع قبوله قبله, وإلا رده, وهذا قول أبي حنيفة ومحمد, وهو قول أبي يوسف الأول, ثم رجع وقال: لا بأس بتلقين الشاهد بأن يقول: أتشهد بكذا وكذا وجه قوله أن من الجائز أن الشاهد يلحقه الحصر؛ لمهابة مجلس القضاء, فيعجزه عن إقامة الحجة, فكان التلقين تقويما لحجة ثابتة فلا بأس به, ولهما أن القاضي يتهم بتلقين الشاهد فيتحرج عنه ومنها: أن لا يعبث بالشهود؛ لأن ذلك يشوش عليهم عقولهم فلا يمكنهم أداء الشهادة على وجهها, وإذا اتهم الشهود فلا بأس بأن يفرقهم عند أداء الشهادة, فيسألهم أين كان ومتى كان؟ فإن اختلفوا اختلافا يوجب رد الشهادة؛ ردها وإلا فلا, ويشهد القاضي الجنازة؛ لأن ذلك حق الميت على المسلمين, فلم يكن متهما في أداء سنة فيحضرها, إلا إذا اجتمعت الجنائز على وجه: لو حضرها كلها لشغله ذلك عن أمور المسلمين فلا بأس أن لا يشهد؛ لأن القضاء فرض عين, وصلاة الجنازة فرض كفاية, فكان إقامة فرض العين عند تعذر الجمع بينهما أولى. ويعود المريض أيضا؛ لأن ذلك حق المسلمين على المسلمين, فلا يلحقه التهمة بإقامته ويسلم على الخصوم إذا دخلوا المحكمة؛ لأن السلام من سنة الإسلام وكان شريح يسلم على الخصوم لكن لا يخص أحد الخصمين بالتسليم عليه دون الآخر, وهذا قبل جلوسه في مجلس الحكم, فأما إذا جلس لا يسلم عليهم, ولا هم يسلمون عليه, أما هو فلا يسلم عليهم؛ لأن السنة أن يسلم القائم على القاعد, لا القاعد على القائم, وهو قاعد وهم قيام. وأما هم فلا يسلمون عليه؛ لأنهم لو سلموا عليه لا يلزمه الرد؛ لأنه اشتغل بأمر هو أهم وأعظم من رد السلام, فلا يلزمه الاشتغال كذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في رجل يقرأ القرآن, فدخل عليه آخر: أنه لا ينبغي له أن يسلم عليه, ولو سلم عليه لا يلزمه الجواب, وكذا المدرس إذا جلس للتدريس لا ينبغي لأحد أن يسلم عليه, ولو سلم لا يلزمه الرد؛ لما قلنا, بخلاف الأمير إذا جلس فدخل عليه الناس, إنهم يسلمون عليه وهو السنة, وإن كان سلاطين زماننا يكرهون التسليم عليهم وهو خطأ منهم؛ لأنهم جلسوا للزيارة, ومن سنة الزائر التسليم على من دخل عليه. وأما القاضي فإنما جلس للعبادة لا للزيارة, فلا يسن التسليم عليه, ولا يلزمه الجواب إن سلموا, لكن لو أجاب جاز. ومنها: أن يسأل القاضي عن حال الشهود, فيما سوى الحدود والقصاص, وإن لم يطعن الخصم, وهو من آداب القاضي عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بظاهر العدالة, وإن كان جائزا عنده فلا شك أن القضاء بالعدالة الحقيقية أفضل. وأما عندهما فهو من واجبات القضاء, وكذا إذا طعن الخصم عنده في غير الحدود والقصاص, وفي الحدود والقصاص طعن أو لم يطعن, ثم القضاة من السلف كانوا يسألون بأنفسهم عن حال الشهود من أهل محلتهم, وأهل سوقهم, وإن كان الشاهد سوقيا ممن هو أتقى الناس, وأورعهم, وأعظمهم أمانة, وأعرفهم بأحوال الناس ظاهرا أو باطنا, والقضاة في زماننا نصبوا للعدل, تيسيرا للأمر عليهم؛ لما يتعذر على القاضي طلب المعدل في كل شاهد, فاستحسنوا نصب العدل. ثم نقول: للتعديل شرائط: بعضها يرجع إلى نفس العدل, وبعضها يرجع إلى فعل

 

ج / 7 ص -11-         التعديل. أما الأول فأنواع: منها العقل, ومنها البلوغ؛ ومنها الإسلام, فلا يجوز تعديل المجنون والصبي والكافر؛ لأن التزكية كانت تجري مجرى الشهادة, فهؤلاء ليسوا من أهل الشهادة, فلا يكونون من أهل التزكية, وإن كانت من باب الإخبار عن الديانات فخبرهم في الديانات غير مقبول؛ لأنه لا بد فيه من العدالة, ولا عدالة لهؤلاء, ومنها العدالة؛ لأن من لا يكون عدلا في نفسه كيف يعدل غيره؟ وأما العدد فليس بشرط الجواز عند أبي حنيفة وأبي يوسف لكنه شرط الفضيلة والكمال, وعند محمد شرط الجواز. وجه قوله أن التزكية في معنى الشهادة؛ لأنه خبر عن أمر غاب عن علم القاضي, وهذا معنى الشهادة, فيشترط لها نصاب الشهادة, ولهما أن التزكية ليست بشهادة, بدليل أنه لا يشترط فيه لفظ الشهادة, فلا يلزم فيها العدد, على أن شرط العدد في الشهادات ثبت نصا غير معقول المعنى فيما يشترط فيه لفظ الشهادة, فلا يلزم مراعاة العدد فيما وراءه, وعلى هذا الخلاف: العدد في الترجمان, وحامل المنشور, أنه ليس بشرط عندهما, وعنده شرط, وعلى هذا الخلاف: حرية المعدل, وبصره, وسلامته عن حد القذف, أنه ليس بشرط عندهما, فتصح تزكية الأعمى, والعبد, والمحدود في القذف, وعند محمد شرط, فلا تصح تزكيتهم؛ لأن التزكية شهادة عنده, فيشترط له ما يشترط لسائر الشهادات, وعندهما ليست بشهادة, فلا يراعى فيها شرائط الشهادة؛ لما قلنا. وأما الذكورة فليست بشرط لجواز التزكية, فتجوز تزكية المرأة إذا كانت امرأة تخرج لحوائجها, وتخالط الناس فتعرف أحوالهم, وهذا ظاهر الرواية على أصلها؛ لأن هذا من باب الإخبار عن الديانات, وهي من أهله. وأما عند محمد فتقبل تزكيتها فيما تقبل شهادتها, فتصح تزكيتها فيما يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين, وتجوز تزكية الولد للوالد, والوالد للولد, وكل ذي رحم محرم منه؛ لأنه لا حق للعدل في التعديل, إنما هو حق المدعي فلا يوجب تهمة فيه, وهذا يشكل على أصل محمد؛ لأنه يجري التعديل مجرى الشهادة, وشهادة الوالد لولده وعكسه لا تقبل, ومنها أن لا يكون المزكى مشهودا عليه, فإن كان لم تعتبر تزكيته, ويجب السؤال, وهذا تفريع على مذهب أبي يوسف ومحمد, فيما سوى الحدود والقصاص, بناء على أن المسألة ما وجبت حقا للمشهود عليه عندهما, وإنما وجبت حقا للشرع. وحق الشرع لا يتأدى بتعديله؛ لأن في زعم المدعي والشهود أنه كاذب في إنكاره, فلا يصح تعديله, وعند أبي حنيفة السؤال فيما سوى الحدود والقصاص حق المشهود عليه, وحق الإنسان لا يطلب إلا بطلبه, فما لم يطعن لا يتحقق الطلب, فلا تجب المسألة وذكر في كتاب التزكية أن المشهود عليه إذا قال للشاهد: هو عدل لا يكتفى به ما لم ينضم إليه آخر, على قول محمد, فصار عن محمد روايتان: في رواية: لا تعتبر أصلا وفي رواية: يقبل تعديله إذا انضم إليه غيره. وأما الثاني الذي يرجع إلى فعل التعديل فهو أن يقول المعدل في التعديل: هو عدل جائز الشهادة, حتى لو قال: هو عدل, ولم يقل: جائز الشهادة لا يقبل تعديله؛ لجواز أن يكون الإنسان عدلا في نفسه, ولا تجوز شهادته, كالمحدود في القذف إذا تاب وصلح, والعبد الصالح, وكذلك إذا قال في الرد: هو ليس بعدل لا يرد ما لم يقل: هو غير جائز الشهادة؛ لأن غير العدل وهو الفاسق تجوز شهادته إذا تحرى القاضي الصدق في شهادته, ولو قضى به القاضي ينفذ, ومنها أن يسأل المعدل في السر أولا, فإن وجده عدلا يعدله في العلانية أيضا, ويجمع بين المزكى والشهود, وبين المدعي, والمدعى عليه, في تعديل العلانية, وإن لم يجده عدلا يقول للمدعي: زد في شهودك ولا يكشف عن حال المجروح سترا على المسلم, ولا يكتفي بتعديل السر خوفا من الاحتيال والتزوير, بأن يسمي غير العدل باسم العدل, فكان الأدب هو التزكية في العلانية, بعد التزكية في السر. ولو اختلف المعدلان فعدله أحدهما, وجرحه الآخر, سأل القاضي غيرهما فإن عدله آخر أخذ بالتزكية, وإن جرحه آخر أخذ بالجرح؛ لأن خبر الاثنين أولى من خبر الواحد بالقبول؛ لأنه حجة مطلقة, وإن انضم إلى كل واحد منهما رجل آخر فعدله اثنان وجرحه اثنان عمل بالجرح؛ لأن الجارح يعتمد حقيقة الحال, والمعدل يبني الأمر على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أن يظهر الصلاح, ويكتم الفسق, فكان قبول قول الجارح أولى كذلك لو جرحه اثنان وعدله ثلاثة, أو أربعة, أو أكثر يعمل بقول الجارح؛ لأن الترجيح لا يقع بكثرة العدد في باب الشهادة. ومنها أن يجلس معه جماعة من أهل الفقه, يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله

 

ج / 7 ص -12-         من الأحكام, وقد ندب الله سبحانه رسوله عليه الصلاة والسلام إلى المشاورة بقوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} مع انفتاح باب الوحي, فغيره أولى وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه". وروي أنه عليه الصلاة والسلام "كان يقول لسيدنا أبي بكر, وسيدنا عمر: رضي الله تعالى عنهما قولا, "فإني فيما لم يوح إلي مثلكما"؛ ولأن المشاورة في طلب الحق من باب المجاهدة في الله عز وجل فيكون سببا للوصول إلى سبيل الرشاد, قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. وينبغي أن يجلس معه من يوثق بدينه وأمانته؛ لئلا يضن بما عنده من الحق والصواب, بل يهديه إلى ذلك إذا رفع إليه, ولا ينبغي أن يشاورهم بحضرة الناس؛ لأن ذلك يذهب بمهابة المجلس, والناس يتهمونه بالجهل, ولكن يقيم الناس عن المجلس, ثم يشاورهم, أو يكتب في رقعة فيدفع إليهم, أو يكلمهم بلغة لا يفهمها الخصمان, هذا إذا كان القاضي لا يدخله حصر بإجلاسهم عنده, ولا يعجز عن الكلام بين أيديهم, فإن كان لا يجلسهم, فإن أشكل عليه شيء من أحكام الحوادث؛ بعث إليهم وسألهم, ومنه أن يكون له جلواز وهو المسمى بصاحب المجلس في عرف ديارنا يقوم على رأس القاضي؛ لتهذيب المجلس, وبيده سوط يؤدب به المنافق, وينذر به المؤمن, وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسك بيده سوطا, ينذر به المؤمن, ويؤدب به المنافق". وكان سيدنا أبو بكر يمسك سوطا, وسيدنا عمر رضي الله عنه اتخذ درة ومنها أن يكون له أعوان, يستحضرون الخصوم, ويقومون بين يديه إجلالا له؛ ليكون مجلسا مهيبا, ويذعن المتمرد للحق, وهذا في زماننا, فأما في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فما كان تقع الحاجة إلى أمثال ذلك؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى الأمراء والقضاة بعين التبجيل والتعظيم, ويخافونهم وينقادون للحق بدون ذلك فقد روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يقضي في المسجد, فإذا فرغ استلقى على قفاه وتوسد بالحصى, وما كان ينقص ذلك من حرمته. وروي أنه لبس قميصا, فازدادت أكمامه عن أصابعه؛ فدعا بالشفرة فقطعهما, وكان لا يكفهما أياما, وكانت الأطراف متعلقة منها, والناس يهابونه غاية المهابة. فأما اليوم فقد فسد الزمان, وتغير الناس؛ فهان العلم وأهله, فوقعت الحاجة إلى هذه التكليفات؛ للتوسل إلى إحياء الحق, وإنصاف المظلوم من الظالم ومنها أن يكون له ترجمان؛ لجواز أن يحضر مجلس القضاء من لا يعرف القاضي لغته, من المدعي, والمدعى عليه, والشهود, والكلام في عدد الترجمان وصفاته على الاتفاق والاختلاف, كالكلام في عدد المزكى وصفاته كما تقدم, والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها أن يتخذ كاتبا؛ لأنه يحتاج إلى محافظة الدعاوى والبينات والإقرارات لا يمكنه حفظها, فلا بد من الكتابة, وقد يشق عليه أن يكتب بنفسه فيحتاج إلى كاتب يستعين به, وينبغي أن يكون عفيفا صالحا من أهل الشهادة, وله معرفة بالفقه, أما العفة والصلاح؛ فلأن هذا من باب الأمانة, والأمانة لا يؤديها إلا العفيف الصالح. وأما أهلية الشهادة؛ فلأن القاضي قد يحتاج إلى شهادته. وأما معرفته بالفقه؛ فلأنه يحتاج إلى الاختصار والحذف من كلام الخصمين, والنقل من لغة, ولا يقدر على ذلك إلا من له معرفة بالفقه, فإن لم يكن فقيها كتب كلام الخصمين كما سمعه, ولا يتصرف فيه بالزيادة والنقصان؛ لئلا يوجب حقا لم يجب, ولا يسقط حقا واجبا؛ لأن تصرف غير الفقيه بتفسير الكلام لا يخلو عن ذلك. وينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى ما يكتب وما يصنع, فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط, ثم في عرف بلادنا يقدم كتابة الدعوى على الدعوى, فيكتب دعوى المدعي, ويترك موضع التاريخ بياضا؛ لجواز أن تتخلف الدعوى عن وقت الكتابة, ويترك موضع الجواب أيضا بياضا؛ لأنه لا يدري أن المدعى عليه يقر أو ينكر, ويكتب أسماء الشهود إن كان للمدعي شهود ويترك بين كل شاهدين بياضا؛ ليكتب القاضي التاريخ, وجواب الخصم, وشهادة الشهود بنفسه, ثم يطوي الكاتب الكتاب ويختمه, ثم يكتب على ظهره: خصومة فلان بن فلان مع فلان بن فلان, في شهر كذا, في سنة كذا, ويجعله في قمطرة, وينبغي أن يجعل لخصومات كل شهر قمطرا على حدة؛ ليكون أبصر بذلك, ثم يكتب القاضي في ذلك الشهر أسماء الشهود بنفسه على بطاقة, أو يستكتب الكتاب بين يديه, فيبعثها إلى المعدل سرا وهي المسماة بالمستورة في عرف ديارنا والأفضل أن

 

ج / 7 ص -13-         يبعث على يدي عدلين, وإن بعث على يدي عدل فهو على الاختلاف الذي ذكرنا, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" أن يقدم الخصوم على مراتبهم في الحضور الأول فالأول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "المباح لمن سبق إليه" وإن اشتبه عليه حالهم؛ استعمل القرعة, فقدم من خرجت قرعته, إلا الغرباء إذا خاصموا بعض أهل المصر إليه, أو خاصم بعضهم بعضا, أو خاصمهم بعض أهل المصر, فإنه يقدمهم في الخصومة على أهل المصر؛ لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: قدم الغريب, فإنك إذا لم ترفع به رأسا ذهب وضاع حقه, فتكون أنت الذي ضيعته ندب رضي الله عنه إلى تقديم الغريب, ونبه على المعنى؛ لأنه لا يمكنه الانتظار, فكان تأخيره في الخصومة تضييعا لحقه, إلا إذا كانوا كثيرا, بحيث يشتغل القاضي عن أهل المصر فيخلطهم بأهل المصر؛ لأن تقديمهم يضر بأهل المصر, وكذا تقديم صاحب الشهود على غيره؛ لأن إكرام الشهود واجب. قال عليه الصلاة والسلام: "أكرموا الشهود, فإن الله يحي بهم الحقوق" وليس من الإكرام حبسهم على باب القاضي, وهذا إذا كان واحدا, فإن كانوا كثيرا أقرع بينهم وينبغي أن يقدم الرجال على حدة, والنساء على حدة؛ لما في الخلط من خوف الفتنة, ولو رأى أن يجعل لهن يوما على حدة؛ لكثرة الخصوم فعل؛ لأن إفرادهن بيوم أستر لهن ومنها أن لا يتعب نفسه في طول الجلوس؛ لأنه يحتاج إلى النظر في الحجج, وبطول الجلوس يختل النظر فيها, فلا ينبغي أن يفعل ذلك, ويكفي الجلوس طرفي النهار, وقدر ما لا يفتر عن النظر في الحجج, وإذا تقدم إليه الخصمان هل يسأل المدعي عن دعواه؟ ذكر في أدب القاضي أنه يسأل, وذكر في الزيادات أنه لا يسأل وكذا إذا ادعى دعوى صحيحة هل يسأل المدعى عليه عن دعوى خصمه؟ ذكر في آداب القاضي أنه يسأل, وذكر في الزيادات أنه لا يسأل, حتى يقول له المدعي: سله عن جواب دعواي. وجه ما ذكر في الزيادات أن السؤال عن الدعوى إنشاء الخصومة, والقاضي لا ينشئ الخصومة وجه ما ذكر في الكتاب أن من الجائز أن أحد الخصمين يلحقه مهابة مجلس القضاء؛ فيعجز عن البيان دون سؤال القاضي, فيسأل عن دعواه ومنها أن المدعي إذا أقام البينة, فادعى المدعى عليه الدفع وقال: لي بينة حاضرة أمهله زمانا؛ لقول سيدنا عمر رضي الله عنه في كتاب السياسة: اجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه وأراد به مدعي الدفع, ألا ترى أنه قال: وإن عجز استحللت عليه القضاء؛ ولأنه لو لم يمهله, وقضى ببينة المدعي, ربما يحتاج إلى نقض قضائه؛ لجواز أن يأتي بالدفع مؤخرا, فهو من صيانة القضاء عن النقض, ثم ذلك مفوض إلى رأي القاضي, إن شاء أخر إلى آخر المجلس, وإن شاء إلى الغد, وإن شاء إلى بعد الغد, ولا يزيد عليه؛ لأن الحق قد توجه عليه, فلا يسعه التأخير أكثر من ذلك, وإن أدى ببينة غائبة لا يلتفت إليه, بل يقضي للمدعي. ومنها أن يجلس للقضاء في أشهر المجالس؛ ليكون أرفق بالناس, وهل يقضي في المسجد؟ قال أصحابنا رحمهم الله: يقضي وقال الشافعي رحمه الله: لا يقضي, بل يقضي في بيته. وجه قوله أن القاضي يأتيه المشرك, والحائض, والنفساء, والجنب, ويجري بين الخصمين كلام اللغو والرفث والكذب؛ لأن أحدهما كاذب, وتنزيه المسجد عن هذا كله واجب. "ولنا" الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقضي في المسجد, وكذا الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون رضي الله عنهم كانوا يجلسون في المسجد للقضاء, والاقتداء بهم واجب, ولا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح إن طمع منهم ذلك, قال الله تبارك وتعالى {والصلح خير} فكان الرد إلى الصلح ردا إلى الخير, وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن فندب رضي الله عنه القضاة إلى رد الخصوم إلى الصلح, ونبه على المعنى وهو حصول المقصود من غير ضغينة, ولا يزيد على مرة أو مرتين فإن اصطلحا, وإلا قضى بينهما بما يوجب الشرع, وإن لم يطمع منهم الصلح لا يردهم إليه, بل ينفذ القضية فيهم؛ لأنه لا فائدة في الرد. وهل للقاضي أن يأخذ الرزق؟ فإن كان فقيرا له أن يأخذ؛ لأنه يعمل للمسلمين فلا بد له من الكفاية, ولا كفاية له, فكانت كفايته في بيت المال, إلا أن يكون له ذلك أجرة عمله, وينبغي للإمام أن يوسع عليه وعلى عياله كي لا يطمع في أموال الناس. وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث 

 

ج / 7 ص -14-         عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة, وولاه أمرها, رزقه أربعمائة درهم في كل عام". وروي أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجروا لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه كل يوم درهما وثلثا أو ثلثين من بيت المال, وكذا روي أنه كان لسيدنا عمر رضي الله عنه مثل ذلك من بيت المال, وكان لسيدنا علي رضي الله عنه كل يوم قصعة من ثريد, ورزق سيدنا عمر رضي الله عنه شريحا, وروي أن سيدنا عليا فرض له خمسمائة درهم في كل شهر وإن كان غنيا اختلفوا فيه قال بعضهم: لا يحل له أن يأخذ؛ لأن الأخذ بحكم الحاجة, ولا حاجة له إلى ذلك, وقال بعضهم: يحل له الأخذ, والأفضل له أن يأخذ. أما الحل؛ فلما بينا أنه عامل للمسلمين, فكانت كفايته عليهم لا من طريق الأجر وأما الأفضلية؛ فلأنه وإن لم يكن محتاجا إلى ذلك فربما يجيء بعده قاض محتاج, وقد صار ذلك سنة ورسما, فتمتنع السلاطين عن إبطال رزق القضاة إليهم خصوصا سلاطين زماننا فكان الامتناع من الأخذ شحا بحق الغير, فكان الأفضل هو الأخذ, وليس للقاضي أن يستخلف إلا إذا أذن له الإمام بذلك؛ لأنه يتصرف بالتفويض فيتقدر بقدر ما فوض إليه كالوكيل, ولو استخلف تتوقف قضايا خليفته على إجازته بمنزلة الوكيل الخاص, إذا وكل غيره فتصرف, ولو كان الإمام أذن له بذلك كان له ذلك, كالوكيل العام وفي آداب القضاء وما ندب القاضي إلى فعله كثرة لها كتاب مفرد هناك, إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما بيان ما ينفذ من القضايا, وما ينقض منها إذا رفع إلى قاض آخر فنقول وبالله التوفيق: قضاء القاضي الأول لا يخلو إما أن وقع في فصل فيه نص مفسر من الكتاب العزيز, والسنة المتواترة, والإجماع, وإما أن وقع في فصل مجتهد فيه من ظواهر النصوص والقياس, فإن وقع في فصل فيه نص مفسر من الكتاب, أو الخبر المتواتر, أو الإجماع, فإن وافق قضاؤه ذلك نفذ ولا يحل له النقض؛ لأنه وقع صحيحا قطعا, وإن خالف شيئا من ذلك يرده؛ لأنه وقع باطلا قطعا. وإن وقع في فصل مجتهد فيه فلا يخلو إما أن كان مجمعا على كونه مجتهدا فيه, وإما أن كان مختلفا في كونه مجتهدا فيه, فإن كان ذلك مجمعا على كونه محل الاجتهاد, فإما أن كان المجتهد فيه هو المقضي به, وإما أن كان نفس القضاء, فإن كان المجتهد فيه هو المقضي به, فرفع قضاؤه إلى قاض آخر؛ لم يرده الثاني, بل ينفذه؛ لكونه قضاء مجمعا على صحته؛ لما علم أن الناس على اختلافهم في المسألة اتفقوا على أن للقاضي أن يقضي بأي الأقوال الذي مال إليه اجتهاده, فكان قضاؤه مجمعا على صحته, فلو نقضه إنما ينقضه بقوله. وفي صحته اختلاف بين الناس فلا يجوز نقض ما صح بالاتفاق بقول مختلف في صحته؛ ولأنه ليس مع الثاني دليل قطعي بل اجتهادي, وصحة قضاء القاضي الأول ثبت بدليل قطعي, وهو إجماعهم على جواز القضاء بأي وجه اتضح له, فلا يجوز نقض ما مضى بدليل قاطع بما فيه شبهة؛ ولأن الضرورة توجب القول بلزوم القضاء المبني على الاجتهاد, وأن لا يجوز نقضه؛ لأنه لو جاز نقضه يرفعه إلى قاض آخر يرى خلاف رأي الأول فينقضه, ثم يرفعه المدعي إلى قاض آخر يرى خلاف رأي القاضي الثاني فينقض نقضه, ويقضي كما قضى الأول فيؤدي إلى أن لا تندفع الخصومة والمنازعة أبدا, والمنازعة سبب الفساد, وما أدى إلى الفساد فساد. فإن كان رده القاضي الثاني فرفعه إلى قاض ثالث نفذ قضاء القاضي الأول, وأبطل قضاء القاضي الثاني؛ لأن قضاء الأول صحيح, وقضاء الثاني بالرد باطل, هذا إذا كان القاضي الأول قاضي أهل العدل, فإن كان قاضي أهل البغي فرفعت قضاياه إلى قاضي أهل العدل, بأن ظهر أهل العدل على المصر الذي كان في يد الخوارج فرفعت إلى قاضي أهل العدل قضايا قاضيهم, لم ينفذ شيئا منها, بل ينقضها كلها وإن كانوا من أهل القضاء والشهادة في الجملة كبتا وغيظا لهم؛ لينزجروا عن البغي, وإن كان نفس القضاء مجتهدا فيه أنه يجوز أم لا كما لو قضى بالحجر على الحر أو قضى على الغائب؟ أنه يجوز للقاضي الثاني أن ينقض قضاء الأول إذا مال اجتهاده إلى خلاف اجتهاده الأول؛ لأن قضاءه هنا لم يجز بقول الكل, بل بقول البعض دون البعض فلم يكن جوازه متفقا عليه فكان محتملا للنقض بمثله. بخلاف الفصل الأول؛ لأن جواز القضاء هناك ثبت بقول الكل, فكان متفقا عليه فلا يحتمل النقض بقول البعض؛ ولأن المسألة إذا كانت مختلفا فيها, فالقاضي بالقضاء يقطع أحد الاختلافين, ويجعله متفقا عليه في الحكم بالقضاء المتفق على جوازه, وإذا كان نفس القضاء مختلفا فيه يرفع الخلاف بالخلاف, هذا إذا كان القضاء في محل أجمعوا على كونه

 

ج / 7 ص -15-         محل الاجتهاد, فأما إذا كان في محل اختلفوا أنه محل الاجتهاد أم لا, كبيع أم الولد هل ينفذ فيه قضاء القاضي أم لا؟ فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ينفذ؛ لأنه محل الاجتهاد عندهما؛ لاختلاف الصحابة في جواز بيعهما, وعند محمد لا ينفذ؛ لوقوع الاتفاق بعد ذلك من الصحابة وغيرهم, على أنه لا يجوز بيعها, فخرج عن محل الاجتهاد. وهذا يرجع إلى أن الإجماع المتأخر هل يرفع الخلاف المتقدم؟ عندهما لا يرفع, وعنده يرفع, فكان هذا الفصل مختلفا في كونه مجتهدا فيه, فينظر إن كان من رأي القاضي الثاني أنه يجتهد فيه, ينفذ قضاءه, ولا يرده؛ لما ذكرنا في سائر المجتهدات المتفق عليها وإن كان من رأيه أنه خرج عن حد الاجتهاد, وصار متفقا عليه, لا ينفذ, بل يرده؛ لأن عنده أن قضاء الأول وقع مخالفا للإجماع؛ فكان باطلا, ومن مشايخنا من فصل في المجتهدات تفصيلا آخر فقال: إن كان الاجتهاد شنيعا مستنكرا جاز للقاضي الثاني أن ينقض قضاء الأول, وهذا فيه نظر؛ لأنه إذا صح كونه محل الاجتهاد فلا معنى للفصل بين مجتهد ومجتهد؛ لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بينهما, فينبغي أن لا يجوز للثاني نقض قضاء الأول؛ لأن قضاءه صادف محل الاجتهاد.

"فصل": وأما بيان ما يحله القضاء, وما لا يحله, فالأصل أن قضاء القاضي بشاهدي الزور فيما له ولاية إنشائه في الجملة, يفيد الحل عند أبي حنيفة رحمه الله وقضاؤه بهما فيما ليس له ولاية إنشائه أصلا, لا يفيد الحل بالإجماع, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله والشافعي رحمه الله لا يفيد الحل فيهما جميعا, فنقول: جملة الكلام فيه أن القاضي إذا قضى بشاهدين, ثم ظهر أنهما شاهدا زور, فلا يخلو إما أن قضى بعقد أو بفسخ عقد, وإما أن قضى بملك مرسل, فإن قضى بعقد أو بفسخ عقد فقضاؤه يفيد الحل عنده, وعندهم لا يفيد, ولقب المسألة أن قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهود زور هل ينفذ ظاهرا وباطنا؟ فهو على الخلاف الذي ذكرنا. وإن قضى بملك مرسل, لا ينفذ قضاؤه باطنا بالإجماع, وبيان هذه الجملة في مسائل: إذا ادعى رجل على امرأته أنه تزوجها, فأنكرت, فأقام على ذلك شاهدي زور, فقضى القاضي بالنكاح بينهما وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما حل للرجل وطؤها, وحل لها التمكين عند أبي حنيفة, وعندهم لا يحل وكذا إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا وهو منكر فقضى القاضي بالفرقة بينهما, ثم تزوجها أحد الشاهدين؛ حل له وطؤها, وإن كان يعلم أنهما شهدا بزور عنده, وعندهم لا يحل, وعلى هذا الخلاف دعوى البيع والإعتاق. وفي الهبة عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان, وأجمعوا على أنه لو ادعى نكاح امرأة, وهي تنكر وتقول: أنا أخته من الرضاع, أو أنا في عدة من زوج آخر, فشهد بالنكاح شاهدان, وقضى القاضي بشهادتهما, والمرأة تعلم أنها كما أخبرت لا يحل لها التمكين, وأجمعوا أيضا على أنه لو ادعى رجل أن هذه جاريته, وهي تنكر, فأقام على ذلك شاهدين, وقضى القاضي بالجارية, أنه لا يحل له وطؤها إذا كان يعلم أنه كاذب في دعواه, ولا يحل لأحد الشاهدين أيضا أن يشتريها احتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض, وإنما أنا بشر, فمن قضيت له من مال أخيه شيئا بغير حق, فإنما أقطع له قطعة من النار" أخبر الشارع عليه الصلاة والسلام أن القضاء بما ليس للمدعي قضاء له بقطعة من النار, ولو نفذ قضاؤه باطنا لما كان القضاء به قضاء بقطعة من النار؛ ولأن القضاء إنما ينفذ بالحجة وهي الشهادة الصادقة وهذه كاذبة بيقين فلا ينفذ حقيقة؛ ولهذا لم ينفذ بالملك المرسل, وكذا إذا كانت المرأة محرمة بالعدة والردة, أو الرضاع أو القرابة, أو المصاهرة, كذا هذا, ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن قضاء القاضي بما يحتمل الإنشاء إنشاء له, فينفذ ظاهرا وباطنا, كما لو أنشأ صريحا. ودلالة الوصف أن القاضي مأمور بالقضاء بالحق, ولا يقع قضاؤه بالحق فيما يحتمل الإنشاء إلا بالحمل على الإنشاء؛ لأن البينة قد تكون صادقة, وقد تكون كاذبة, فيجعل إنشاء, والعقود والفسوخ مما تحتمل الإنشاء من القاضي, فإن للقاضي ولاية إنشائها في الجملة بخلاف الملك المرسل؛ لأن نفس الملك مما لا يحتمل الإنشاء؛ ولهذا لو أنشأ القاضي أو غيره صريحا لا يصح, وبخلاف ما إذا كانت المرأة محرمة بأسباب؛ لأن هناك ليس للقاضي ولاية الإنشاء, ألا ترى أنه لو أنشأ صريحا لا ينفذ وأما الحديث فقد

 

ج / 7 ص -16-         قيل: إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في أخوين اختصما إليه في مواريث درست بينهما, فقال إلى آخره ولم يكن لهما بينة إلا دعواهما, كذا ذكره أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها, والميراث ومطلق الملك سواء في الدعوى وبه نقول مع أنه ليس فيه ذكر السبب, والكلام في القضاء بسبب على أنا نقول بموجبه, لكن لم قلتم: إن القضاء بسبب قضاء له من مال آخر بغير حق؟ بل هو قضا له من مال نفسه, وبحق؛ لأن القضاء بسبب الملك صحيح عندنا, فقد قلنا بموجب الحديث, والحمد لله وحده.

"فصل": وأما بيان حكم خطأ القاضي في القضاء فنقول: الأصل أن القاضي إذا أخطأ في قضائه, بأن ظهر أن الشهود كانوا عبيدا أو محدودين في قذف, أنه لا يؤاخذ بالضمان؛ لأنه بالقضاء لم يعمل لنفسه بل لغيره, فكان بمنزلة الرسول فلا تلحقه العهدة, ثم ينظر إما أن كان المقضي به من حقوق العباد, وإما أن كان من حقوق الله عز وجل خالصا, كالقطع في السرقة, والرجم في زنا المحصن, فإن كان في حقوق العباد, فإن كان مالا وهو قائم رده على المقضي عليه؛ لأن قضاءه وقع باطلا, ورد عين المقضي به ممكن, فيلزمه رده؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام "على اليد ما أخذت حتى ترده". ولأنه عين مال المدعى عليه, "ومن وجد عين ماله فهو أحق به", وإن كان هالكا فالضمان على المقضي له؛ لأن القاضي عمل له فكان خطؤه عليه؛ ليكون الخراج بالضمان؛ ولأنه إذا عمل له فكان هو الذي فعل بنفسه, وإن كان حقا ليس بمال, كالطلاق والعتاق بطل؛ لأنه تبين أن قضاءه كان باطلا, وأنه أمر شرعي يحتمل الرد فيرد, بخلاف الحدود والمال الهالك؛ لأنه لا يحتمل الرد بنفسه فيرد بالضمان, هذا إذا كان المقضي به من حقوق العباد. وأما إذا كان من حق الله عز وجل خالصا فضمانه في بيت المال؛ لأنه عمل فيها لعامة المسلمين؛ لعود منفعتها إليهم وهو الزجر فكان خطؤه عليهم؛ لما قلنا فيؤدى من بيت مالهم, ولا يضمن القاضي؛ لما قلنا, ولا الجلاد أيضا؛ لأنه عمل بأمر القاضي, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يخرج به القاضي عن القضاء فنقول وبالله التوفيق: كل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج به القاضي عن القضاء, وما يخرج به الوكيل عن الوكالة أشياء ذكرناها في كتاب الوكالة لا يختلفان إلا في شيء واحد: وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل, والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته وولاته. "ووجه" الفرق أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفي خالص حقه أيضا, وقد بطلت أهلية الولاية فينعزل الوكيل, والقاضي لا يعمل بولاية الخليفة وفي حقه بل بولاية المسلمين وفي حقوقهم, وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عنهم؛ لهذا لم تلحقه العهدة, كالرسول في سائر العقود والوكيل في النكاح, وإذا كان رسولا كان فعله بمنزلة فعل عامة المسلمين, وولايتهم بعد موت الخليفة باقية, فيبقى القاضي على ولايته؛ وهذا بخلاف العزل, فإن الخليفة إذا عزل القاضي أو الوالي ينعزل بعزله, ولا ينعزل بموته؛ لأنه لا ينعزل بعزل الخليفة أيضا حقيقة, بل بعزل العامة؛ لما ذكرنا أن توليته بتولية العامة, والعامة ولوه الاستبدال دلالة؛ لتعلق مصلحتهم بذلك, فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضا, فهو الفرق بين العزل والموت. ولو استخلف القاضي بإذن الإمام, ثم مات القاضي لا ينعزل خليفته؛ لأنه نائب الإمام في الحقيقة, لا نائب القاضي, ولا ينعزل بموت الخليفة أيضا, كما لا ينعزل القاضي؛ لما قلنا, ولا يملك القاضي عزل خليفته؛ لأنه نائب الإمام, فلا ينعزل بعزله كالوكيل أنه لا يملك عزل الوكيل الثاني؛ لأن الثاني وكيل الموكل في الحقيقة لا وكيله, كذا ههنا, إلا إذا أذن له الخليفة أن يستبدل من شاء فيملك عزله, ويكون ذلك أيضا عزلا من الخليفة لا من القاضي؛ لأن القاضي كالوكيل إذا قال له الموكل: اعمل برأيك أنه يملك التوكيل والعزل, وإذا عزل كان العزل في الحقيقة من الموكل, كذا هذا. وعلم المعزول بالعزل شرط صحة العزل كما ذكر في الوكالة, وهل ينعزل بأخذ الرشوة في الحكم؟ عندنا لا ينعزل لكنه يستحق العزل فيعزله الإمام ويعزره, كذا ذكر في كتاب الحدود, وقال مشايخ العراق من أصحابنا: إنه ينعزل وقالوا: صحت الرواية عن أصحابنا رضي الله عنهم أنه ينعزل, واستدلوا بما ذكر في السير الكبير أنه يخرج من القضاء, لكن رواية مشايخنا: أنه لا يخرج من القضاء, وهذه الرواية أولى؛ لأن هذه الرواية مشتبهة, ورواية كتاب الحدود محكمة؛ لأنه ذكر أن الإمام يعزله ويعزره فكان فيما قلنا: حمل المحتمل على

 

ج / 7 ص -17-         المحكم, فكان عملا بالروايتين جميعا فكان أولى. وهذا عندنا, وقال الشافعي عليه الرحمة: ينعزل وهو قول المعتزلة, ولقب المسألة: أن القاضي إذا فسق هل ينعزل أو لا؟ فعندنا لا ينعزل, وعند الشافعي ينعزل, وبه قالت المعتزلة لكن بناء على أصلين مختلفين: فأصل المعتزلة أن الفسق يخرج صاحبه عن الإيمان فيبطل أهلية القضاء وأصل الشافعي رحمه الله أن العدالة شرط أهلية القضاء كما هي شرط أهلية الشهادة؛ لأن أهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة, وقد زالت بالفسق فتبطل الأهلية والأصل عندنا أن الكبيرة لا تخرج صاحبها من الإيمان, والعدالة ليس بشرط أهلية القضاء, كما ليست بشرط؛ الأهلية الشهادة على ما ذكرنا, والله سبحانه وتعالى أعلم.