بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب القسمة"
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع: في بيان أنواع القسمة, وفي بيان شرعية كل نوع, وفي بيان معنى القسمة لغة وشرعا, وفي بيان شرائط القسمة, وفي بيان صفات القسمة, وفي بيان حكم القسمة, وفي بيان ما يوجب نقض القسمة بعد وجودها. "أما" الأول: فالقسمة في الأملاك المشتركة نوعان: أحدهما قسمة الأعيان والثاني قسمة المنافع وقسمة كل واحد من النوعين مشروعة, أما قسمة الأعيان فقد عرفت شرعيتها بالسنة والإجماع. "أما" السنة: فما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم غنائم خيبر بين الغانمين, وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام الشرعية" "وأما" الإجماع: فإن الناس استعملوا القسمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير, فكانت شرعيته متوارثة, والمعقول يقتضيه توفيرا على كل واحد مصلحته بكمالها.
"فصل": وأما بيان معنى القسمة لغة وشرعا, أما في اللغة: فهي عبارة عن إفراز النصيب, وفي الشريعة: عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض, ومبادلة بعض ببعض؛ لأن ما من جزأين من العين المشتركة لا يتجزآن قبل القسمة, إلا وأحدهما ملك أحد الشريكين, والآخر ملك صاحبه غير عين, فكان نصف العين مملوكا لهذا, والنصف مملوكا لذاك على الشيوع, فإذا قسمت بينهما نصفين, والأجزاء المملوكة لكل واحد منهما شائعة غير معينة, فتجتمع بالقسمة في نصيبه دون نصيب صاحبه, فلا بد وأن يجتمع في نصيب كل واحد منهما أجزاء, بعضها مملوكة له, وبعضها مملوكة لصاحبه على الشيوع. فلو لم تقع القسمة مبادلة في بعض أجزاء المقسوم, لم يكن المقسوم كله ملكا للمقسوم عليه, بل يكون بعضه ملك صاحبه, فكانت القسمة منهما بالتراضي, أو بطلبها من القاضي رضا من كل واحد منهما بزوال ملكه عن نصف نصيبه بعوض وهو نصف نصيب صاحبه وهو تفسير المبادلة, فكانت القسمة في حق الأجزاء المملوكة له إفرازا وتمييزا, أو تعيينا لها في الملك وفي حق الأجزاء المملوكة لصاحبه معاوضة, وهي مبادلة بعض الأجزاء المجتمعة في نصيبه ببعض الأجزاء المجتمعة في نصيب صاحبه, فكانت إفراز بعض الأنصباء ومعاوضة البعض ضرورة, وهذا هو حقيقة القسمة المعقولة في الأملاك المشتركة, فكان معنى المعاوضة لازما في كل قسمة شرعية, إلا أنه أعطى لها حكم الإفراز في ذوات الأمثال في بعض الأحكام؛ لأن المأخوذ من العوض مثل المتروك من المعوض, فجعل كأنه يأخذ عين حقه بمنزلة المقرض, حتى كان لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه من غير رضا صاحبه, فجعل إفرازا حكما, وهذا المعنى لا يوجد في غير ذوات الأمثال فإن قيل: أليس أنه يجبر على القسمة والمعاوضات مما لا يجرى فيها الجبر كالبيع ونحوه ؟. "فالجواب" أن المعاوضة قد يجرى فيها الجبر, ألا ترى أن الغريم يجبر على قضاء الدين, وقضاء الدين لا يتحقق إلا بطريق المعاوضة على ما بينا في كتاب الوكالة دل أن الجبر لا ينفي المعاوضة فجاز أن يجبر على القسمة, وإن كانت معاوضة مع ما أن الجبر لا يجري في المعاوضات المطلقة, كالبيع ونحوه, والقسمة ليست بمعاوضة مطلقة, بل هي إفراز من وجه, ومعاوضة من وجه, فجاز أن يجري فيها الجبر؛ وعلى هذا الأصل تخرج قسمة المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة, أنها لا تجوز مجازفة كما لا يجوز بيعها مجازفة؛ لاعتبار معنى المبادلة, وذكر في الكتاب في كر حنطة مشترك بين

 

ج / 7 ص -18-         رجلين ثلاثون منه رديئة وعشرة منه جيدة قيمتها سواء فأرادا أن يقتسماه فيأخذ أحدهما ثلاثين والآخر عشرة أنه لا يجوز؛ لتمكن الربا فيه لتحقق معنى المعاوضة. ولو زاد صاحب الزيادة ثوبا أو شيئا آخر جاز؛ لأن الزيادة صارت مقابلة بالثوب, فزال معنى الربا وقال في زرع مشترك بين رجلين في أرض مملوكة لهما فأرادا قسمة الزرع دون الأرض, وقد سنبل الزرع: إنه لا تجوز قسمته؛ لأن قسمته بطريق المجازفة, ولا تجوز المعاوضة بطريق المجازفة في الأموال الربوية, وكذا لو أوصى بصوف على ظهر غنم لرجلين, أو أوصى باللبن في الضرع لهما, لم تجز قسمته قبل الجز والحلب؛ لأن الصوف واللبن من الأموال الربوية فلا يحتملان القسمة مجازفة, كما لا يحتملان البيع مجازفة, وكذا خيار العيب يدخل في نوعي القسمة كما يدخل في البيع, وخيار الرؤية والشرط يدخل في أحد النوعين دون الآخر, لا لانعدام معنى المبادلة, بل لمعنى آخر نذكره في موضعه ولو اشترى رجلان من رجل كر حنطة بمائة درهم فاقتسماه, فلكل واحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على خمسين درهما. ولو اشتريا دارا بمائة درهم فاقتسماها, ليس لواحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على خمسين, وإنما افترق النوعان في هذا الحكم, لا لاعتبار معنى الإفراز في أحدهما والمبادلة في الآخر, بل لمعنى آخر وهو أن المرابحة بيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شيء, وإنما يجوز البيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شيء فيما يحتمل الزيادة. وأما فيما لا يحتمل الزيادة فلا, كما إذا اشترى كرحنطة بكرحنطة لا يبيعه مرابحة على الكر كذا هنا بل أولى؛ لأن ذلك معاوضة مقصودة, والمعاوضة في القسمة ليست بمقصودة, وإذا كان كذلك يسقط اعتبار هذا الثمن شرعا في هذا الحكم؛ لأنه لا يحتمل الزيادة فكان له أن يبيعه مرابحة على أول ثمن يحتمل الزيادة, وهو الخمسون بخلاف قسمة الدار؛ لأن هناك يمكن البيع بالثمن الأول وهو ثمن القسمة وزيادة شيء بأن يبيع نصفه من شريكه بالنصف الذي في يده وربح درهم مثلا, كما إذا اشترى دارا بدار, أو اشترى كرحنطة بثوب, فأمكن بيعه مرابحة على الثمن الأول, وفي الجملة فلم يجز بيعه مرابحة على خمسين, إلا أنه إذا باعه مرابحة, أو باعه من بائعه بالنصف الذي في يده بربح ده يازده لا يجوز؛ لمعنى عرف في كتاب البيوع, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط جواز القسمة فأنواع: بعضها يرجع إلى القاسم, وبعضها يرجع إلى المقسوم, وبعضها يرجع إلى المقسوم له. "أما" الذي يرجع إلى القاسم فنوعان: نوع هو شرط الجواز ونوع: هو شرط الاستحباب أما شرائط الجواز فأنواع: منها العقل, فلا تجوز قسمة المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شرائط أهلية التصرفات الشرعية, فأما البلوغ فليس بشرط لجواز القسمة حتى تجوز قسمة الصبي الذي يعقل القسمة بإذن وليه, وكذلك الإسلام والذكورة والحرية ليست بشرط لجواز القسمة, فتجوز قسمة الذمي والمرأة والمكاتب والمأذون؛ لأن هؤلاء من أهل البيع فكانوا من أهل القسمة, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" الملك والولاية, فلا تجوز القسمة بدونهما أما الملك فالمعني به: أن يكون القاسم مالكا فيقسم الشركاء بالتراضي. وأما الولاية فنوعان: ولاية قضاء, وولاية قرابة, إلا أن شرط ولاية القضاء الطلب, فيقسم القاضي وأمينه على الصغير والكبير, والذكر والأنثى, والمسلم والذمي, والحر والعبد, والمأذون والمكاتب, عند طلب الشركاء كلهم أو بعضهم على ما نذكره ولا يشترط ذلك في ولاية القرابة, فيقسم الأب ووصيه, والجد ووصيه, على الصغير والمعتوه, من غير طلب أحد, والأصل فيه أن كل من له ولاية البيع فله ولاية القسمة, ومن لا فلا, ولهؤلاء ولاية البيع فكانت لهم ولاية القسمة, وكذا القاضي له ولاية بيع مال الصغير والكبير في الجملة, فكان له ولاية القسمة في الجملة. "وأما" وصي الأم ووصي الأخ والعم فيقسم المنقول دون العقار؛ لأن له ولاية بيع المنقول دون العقار, وفي وصي المكاتب إذا مات عن وفاء أنه هل يقسم؟ فيه روايتان, وهذا كله يقرر ما قلنا: إن معنى المبادلة لازم في القسمة, حيث جعل سبيله سبيل البيع في الولاية, ولا يقسم وصي الميت على الموصى له؛ لانعدام ولايته عليه, وكذا لا يقسم الورثة عليه؛ لانعدام ولايتهم عليه؛ لأن الموصى له كواحد من الورثة, ولا يقسم بعض الورثة على بعض؛ لانعدام الولاية فلا يقسمون على الموصى له, ولو اقتسموا وهو غائب نقضت قسمتهم, لكن هذا إذا كانت القسمة بالتراضي, فإن

 

ج / 7 ص -19-         كانت بقضاء القاضي تنفذ ولا تنقض؛ لما نذكره في موضعه, إن شاء الله تعالى.
وأما شرائط الاستحباب فأنواع: "منها" أن يكون عدلا أمينا عالما بالقسمة؛ لأنه لو كان غير عدل خائنا, أو جاهلا بأمور القسمة يخاف منه الجور في القسمة لا يجوز. "ومنها" أن يكون منصوب القاضي؛ لأن قسمة غيره لا تنفذ على الصغير والغائب؛ ولأنه أجمع لشرائط الأمانة, والأفضل أن يرزقه من بيت المال؛ ليقسم للناس من غير أجر عليهم؛ لأن ذلك أرفق بالمسلمين, فإن لم يمكنه أن يرزقه من بيت المال يقسم لهم بأجر عليهم, ولكن ينبغي للقاضي أن يقدر له أجرة معلومة كي لا يتحكم على الناس, ولو أراد الناس أن يستأجروا قساما آخر غير الذي نصبه القاضي لا يمنعهم القاضي عن ذلك, ولا يجبرهم على أن يستأجروا قساما؛ لأنه لو فعل ذلك لعله لا يرضى إلا بأجرة كثيرة فيتضرر الناس, وكذا لا يترك القسامين يشتركون في القسم؛ لما قلنا. "ومنها" المبالغة في تعديل الأنصباء, والتسوية بين السهام بأقصى الإمكان؛ لئلا يدخل قصور في سهم, وينبغي أن لا يدع حقا بين شريكين غير مقسوم من الطريق والمسيل والشرب, إلا إذا لم يمكن, وينبغي أن لا يضم نصيب بعض الشركاء إلى بعض إلا إذا رضوا بالضم؛ لأنه يحتاج إلى القسمة ثانيا, وينبغي أن لا يدخل في قسمة الدار ونحوها الدراهم, إلا إذا كان لا يمكن القسمة إلا كذلك؛ لأن محل القسمة الملك المشترك, ولا شركة في الدراهم فلا يدخلها في القسمة إلا عند الضرورة, والله سبحانه وتعالى الموفق. "ومنها" أن يقرع بينهم بعد الفراغ من القسمة, ويشترط عليهم قبول من خرج سهمه أولا فله هذا السهم من هذا الجانب من الدار, ومن خرج سهمه بعده فله السهم الذي يليه هكذا, ثم يقرع بينهم؛ لا لأن القرعة يتعلق بها حكم؛ بل لتطييب النفوس؛ ولورود السنة بها؛ ولأن ذلك أنفى للتهمة فكان سنة, والله سبحانه وتعالى أعلم وإذا قسم بأجرة فأجرة القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة رحمه الله, وعندهما رحمهما الله على قدر الأنصباء. "وجه" قولهما أن أجرة القسمة من مؤنات الملك فيتقدر بقدره كالنفقة. "وجه" قول أبي حنيفة عليه الرحمة أن الأجرة بمقابلة العمل, وعمله في حق الكل على السواء فكانت الأجرة عليهم على السواء؛ وهذا لأن عمله تمييز الأنصباء, والتمييز عمل واحد؛ لأن تمييز القليل من الكثير, هو بعينه تمييز الكثير من القليل, والتفاوت في شيء واحد محال, وإذا لم يتفاوت العمل لا تتفاوت الأجرة بخلاف النفقة؛ لأنها بمقابلة الملك, والملك يتفاوت فهو الفرق, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقسوم له فأنواع: "منها" أن لا يلحقه ضرر في أحد نوعي القسمة دون النوع الآخر, وبيان ذلك أن القسمة نوعان: قسمة جبر: وهي التي يتولاها القاضي, وقسمة رضا: وهي التي يفعلها الشركاء بالتراضي, وكل واحد منهما على نوعين: قسمة تفريق, وقسمة جمع. "أما" قسمة التفريق فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الذي تصادفه القسمة لا يخلو من أحد وجهين: "إما" أن يكون مما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين أصلا بل لهما فيه منفعة. "وإما" أن يكون مما في تبعيضه مضرة, فإن كان مما لا مضرة في تبعيضه أصلا بل فيه منفعة للشريكين, كالمكيل والموزون والعددي المتقارب, فتجوز قسمة التفريق فيها قسمة جبر, كما تجوز فيها قسمة الرضا؛ لتحقق ما شرع له القسمة, وهو تكميل منافع الملك. وإن كان مما في تبعيضه ضرر فلا يخلو من أحد وجهين: "إما" أن يكون فيه ضرر بكل واحد منهما. "وإما" أن يكون فيه ضرر بأحدهما نفع في حق الآخر, فإن كان في تبعيضه ضرر بكل واحد منهما فلا تجوز قسمة الجبر فيه, وذلك نحو اللؤلؤة الواحدة والياقوتة والزمردة والثوب الواحد والسرج والقوس والمصحف الكريم, والقباء والجبة والخيمة والحائط والحمام والبيت الصغير والحانوت الصغير والرحى والفرس والجمل والبقرة والشاة؛ لأن القسمة في هذه الأشياء قسمة إضرار بالشريكين جميعا, والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار, وكذلك النهر والقناة والعين والبئر؛ لما قلنا فإن كان مع ذلك أرض؛ قسمت الأرض وتركت البئر والقناة على الشركة. "فأما" إذا كانت أنهار الأرضين متفرقة أو عيونا أو آبارا؛ قسمت الآبار والعيون؛ لأنه لا ضرر في القسمة, وكذا الباب والساحة والخشبة إذا كان في قطعهما ضرر فإن كانت الخشبة كبيرة يمكن تعديل القسمة فيها من غير ضرر؛ جازت, وتجوز قسمة الرضا في هذه الأشياء بأن يقتسماها بأنفسهما بتراضيهما؛ لأنهما يملكان الإضرار بأنفسهما مع ما أن ذلك لا يخلو عن نوع نفع, وما لا تجري

 

ج / 7 ص -20-         فيه القسمة لا يجبر واحد منهما على بيع حصته من صاحبه عند عامة العلماء, وقال مالك رحمه الله: إذا اختصما فيه؛ باع القاضي وقسم الثمن بينهما. والصحيح قول العامة؛ لأن الجبر على إزالة الملك غير مشروع, وعلى هذا طريق بين رجلين طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر فإن كان يستقيم لكل واحد منهما طريق نافذ بعد القسمة يجبر على القسمة؛ لأن القسمة تقع تحصيلا لما شرعت له وهو تكميل منافع الملك فيجبر عليها, وإن كان لا يستقيم لا يجبر على القسمة؛ لأنها قسمة إضرار بالشريكين فلا يليها القاضي إلا إذا كان لكل واحد منهما في نصيبه من الدار مفتح من وجه آخر فيقسم أيضا؛ لأن القسمة في هذه الصورة لا تقع إضرارا, ولو اقتسما بأنفسهما جازت لتراضيهما بالضرر, وكذلك المسيل المشترك إذا طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر. وإن كان بحال لو قسم يصيب كل واحد منهما بعد القسمة قدر ما يسيل ماؤه, أو كان له موضع آخر يمكنه التسييل فيه يقسم وإن لم يمكن لم يقسم؛ لما ذكرنا في الطريق, وعلى هذا إذا طلب أحدهما مفتح الدار من غير رفع الطريق, وأبى الآخر إلا برفع الطريق أنه إن كان لكل واحد منهما مفتح آخر يفتحه في نصيبه؛ قسم بينهما بغير رفع الطريق؛ لأن ما هو المطلوب من القسمة وهو تكميل منافع الملك في هذه القسمة أوفر وإن لم يكن رفع بينهما طريقا وقسم الباقي؛ لأنه إذا لم يكن بينهما مفتح كانت القسمة بغير طريق تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها, فكانت إضرارا بهما وهذا لا يجوز إلا إذا اقتسما بأنفسهما بغير طريق فيجوز لما قلنا, ولو اختلفا في سعة الطريق وضيقه جعل الطريق على قدر عرض باب الدار وطوله على أدنى ما يكفيها؛ لأن الطريق وضع للاستطراق, والباب هو الموضوع مدخلا إلى أدنى ما يكفي للاستطراق فيحكم فيه, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا إذا بنى رجلان في أرض رجل بإذنه, وطلب أحدهما قسمة البناء وأبى الآخر, وصاحب الأرض غائب؛ لم تقسم؛ لأن الأرض المبني عليها بينهما شائع بالإعارة أو بالإجارة, فلو قسم البناء بينهما لكان لكل واحد منهما سبيل في بعض نصيب صاحبه وفيه ضرر, فلا يجبر على القسمة, ولو اقتسما بالتراضي جازت, وكذا لو هدمها وكانت الآلة بينهما, وعلى هذا زرع بين رجلين في أرض مملوكة لهما؛ طلب أحدهما قسمة الزرع دون الأرض, فإن كان الزرع قد بلغ وسنبل لا يقسم؛ لما ذكرنا من قبل, ولو طلبا جميعا لا يقسم أيضا؛ لأن المانع هو الربا وحرمة الربا لا تحتمل الارتفاع بالرضا, وإن كان الزرع بقلا فطلب أحدهما لا يقسم أيضا؛ لأن الأرض مملوكة لهما على الشركة فلو قسم؛ لكان كل واحد منهما بسبيل من القطع وفيه ضرر ولا جبر على الضرر. ولو اقتسما بأنفسهما وشرطا القطع جازت؛ لأنهما رضيا بالضرر, ولو شرطا الترك لم يجز؛ لأن رقبة الأرض مشتركة بينهما فكان شرط الترك منهما في القسمة شرطا لانتفاع كل واحد منهما بملك شريكه, ومثل هذا الشرط مفسد للبيع فكان مفسدا للقسمة؛ لأن فيها معنى البيع, وكذلك لو لم تكن الأرض مملوكة لهما, وكانت في أيديهما بالإعارة أو بالإجارة, والزرع بقل لا تقسم؛ لما ذكرنا, ولو اقتسما بأنفسهما جازت بشرط القطع, ولا تجوز بشرط الترك كالبيع على ذكرنا, وكذلك طلع بين رجلين طلب أحدهما قسمة الطلع دون النخل والأرض لم يقسم؛ لما ذكرنا في الزرع, ولو اقتسما بالتراضي فإن شرطا القطع جاز, وإن شرطا الترك لم يجز؛ لما ذكرنا في الزرع. ولو تركه بعد القسمة بإذن صاحبه فأدرك وقلع فالفضل له طيب؛ لأنه وإن حصل في ملك مشترك لكنه حصل بإذن شريكه فلا يكون خبيثا, وإن لم يأذن له يتصدق بالفضل؛ لتمكن الخبث فيه فكان سبيله التصدق, هذا إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بكل واحد من الشريكين, فأما إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بأحدهما دون الآخر, كالدار المشتركة بين رجلين ولأحدهما فيها شقص قليل فإن طلب صاحب الكثير القسمة قسمتا إجماعا؛ لأن القسمة في حقه مفيدة؛ لوقوعها محصلة لما شرعت له من تكميل منافع الملك, وفي حق صاحب القليل تقع منعا له من الانتفاع بنصيبه إذ لا يقدر صاحب القليل على الانتفاع بنصيبه إلا بالانتفاع بنصيب صاحب الكثير؛ لقلة نصيبه فكانت القسمة في حقه منعا له من الانتفاع بنصيب شريكه فجازت, وإن طلب صاحب القليل القسمة فقد ذكر الحاكم الجليل في مختصره أنه يقسم, وذكر القدوري رحمه الله أنه لا يقسم. "وجه" ما ذكره الحاكم أنه لا ضرر في هذه القسمة في حق صاحب الكثير, بل له فيه منفعة فكان في الإباء متعنتا فلا يعتبر إباؤه, وصاحب القليل قد 

 

ج / 7 ص -21-         رضي بالضرر حيث طلب القسمة فيجبر على القسمة, كما إذا لم يكن في تبعيضه ضرر بأحدهما أصلا بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك تقع القسمة إضرارا بكل واحد منهما ولم يوجد الرضا بالضرر, والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار فهو الفرق. "وجه" ما ذكره القدوري رحمه الله أن صاحب القليل متعنت في طلب القسمة؛ لكون القسمة ضررا محضا في حقه فلا يعتبر طلبه, وقسمة الجبر لم تشرع بدون الطلب, ولو اقتسما بأنفسهما جازت؛ لما ذكرنا أن صاحب القليل قد رضي بالضرر بنفسه ولا ضرر فيه لصاحب الكثير أصلا فجازت قسمتها. وعلى هذا دار بين شريكين قسمت بينهما, فأصاب أحدهما موضع بغير طريق شرط له في القسمة, فإن كان له فيما أصابه مفتح إلى الطريق جازت القسمة؛ لأنه لا مضرة له فيها إذ يمكنه الانتفاع بنصيبه بفتح طريق آخر, وإن لم يكن له فيما أصابه مفتح أصلا فإن ذكر الحقوق في القسمة؛ فله حق الاختيار في نصيب صاحبه؛ لأن الطريق من الحقوق فصار مذكورا بذكر الحقوق, وإن لم يذكر لم تجز القسمة؛ لأنها قسمة إضرار في حق أحد الشريكين, وكذلك إذا قسمت بغير مسيل شرط لأحدهما, ووقع المسيل في نصيب الآخر؛ فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الطريق, ولو اقتسما على أن لا طريق له, ولا مسيل جازت؛ لأنه رضي بالضرر, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا الأصل تخرج قسمة الجمع أنه لا يجبر عليها في جنسين؛ لأنها في الأجناس المختلفة تقع إضرارا في حق أحدهما فلا يجبر عليها على ما سنذكر إن شاء الله تعالى الذي ذكرنا قسمة التفريق. وأما قسمة الجمع: فهي أن يجمع نصيب كل واحد من الشريكين في عين على حدة, وأنها جائزة في جنس واحد ولا تجوز في جنسين؛ لأنها عند اتحاد الجنس تقع وسيلة إلى ما شرعت له وهو تكميل منافع الملك وعند اختلاف الجنس تقع تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها إذا عرفت هذا, فنقول: لا خلاف في الأمثال المتساوية, وهي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة من جنس واحد تقسم قسمة جمع؛ لأنه يمكن استيفاء ما شرعت له القسمة فيها من غير ضرر؛ لانعدام التفاوت, وكذلك تبر الذهب وتبر النحاس وتبر الحديد؛ لما قلنا, وكذلك الثياب إذا كانت من جنس واحد كالهروية, وكذلك الإبل والبقر والغنم؛ لأن التفاوت عند اتحاد الجنس والمطلوب لا يتفاحش بل يقل. والتفاوت القليل ملحق بالعدم أو يجبر بالقيمة فيمكن تعديل القسمة فيه, وكذلك اللآلئ المنفردة, وكذا اليواقيت المنفردة؛ لما قلنا, وكذا لا خلاف في أنه لا يقسم في جنسين من المكيل والموزون والمزروع والعددي قسمة جمع, كالحنطة والشعير والقطن والحديد والجوز واللوز والثياب البردية والمروية, وكذلك اللآلئ واليواقيت, وكذا الخيل والإبل والبقر والغنم, وكذا إذا كان من كل جنس فرد كبرذون وجمل وبقرة وشاة وثوب وقباء وجبة وقميص ووسادة وبساط؛ لأن هذه الأشياء لو قسمت على الجمع كان لا يخلو من أحد الوجهين: إما أن تقسم باعتبار أعيانها, وإما أن تقسم باعتبار قيمتها بإن يضم إلى بعضها دراهم أو دنانير لا سبيل إلى الأول؛ لأن فيه ضررا بأحدهما لكثرة التفاوت عند اختلاف الجنس, والقاضي لا يملك الجبر على الضرر, ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن ذلك قسمة في غير محلها؛ لأن محلها الملك المشترك ولم يوجد في الدراهم. ولو اقتسما بأنفسهما أو تراضيا على ذلك جازت القسمة, حتى لو اقتسما ثوبين مختلفي القيمة وزاد مع الأوكس دراهم مسماة جاز, وكذا في سائر المواضع, ويكون ذلك قسمة الرضا لا قسمة القضاء, وكذا الأواني سواء اختلفت أصولها أو اتحدت؛ لأنها بالصناعة أخذت حكم جنسين, حتى جاز بيع الأواني الصغار واحدا باثنين. وأما الرقيق فلا يقسم عند أبي حنيفة رحمه الله قسمة جمع, وعندهما يقسم. "وجه" قولهما أن الرقيق على اختلاف أوصافها وقيمتها جنس واحد فاحتمل القسمة كسائر الحيوانات من الإبل والبقر والغنم, وما فيها من التفاوت يمكن تعديله بالقيمة. "وجه" قول أبي حنيفة أنه لم يوجد شرط جواز القسمة, وجواز التصرف بدون شرط جوازه محال, وبيان ذلك على نحو ما ذكرنا أنا لو قسمناها رقا باعتبار أعيانها فقد أضررنا بأحدهما لتفاحش التفاوت بين عبد وعبد في المعاني المطلوبة من هذا الجنس, فكانا في حكم جنسين مختلفين, ومن شرط جواز هذه القسمة أن لا تتضمن ضررا بالمقسوم عليه, ولو قسمناها باعتبار القيمة لوقعت القسمة في غير محلها؛ لأن محلها الملك المشترك ولا شركة في القيمة, والمحلية من شرائط صحة التصرف فصح ما ذكرنا, ولو اقتسما بأنفسهما جاز

 

ج / 7 ص -22-         لتراضيهما بالضرر, وكذا لو كان مع الرقيق غيره قسم. كذا ذكره في كتاب القسمة؛ لأنه إن كان لا يحتمل القسمة مقصودا فيجعل تبعا لما يحتملها فيقسم بطريق التبعية, كالشرب والطريق أنه لا يجوز بيعهما مقصودا, ثم يدخلان في البيع تبعا للنهر والأرض, كذا هذا, وذكر الجصاص أن المذكور في الأصل محمول على قسمة الرضا. وأما قسمة القضاء فلا تجوز, وإن كان مع غيره؛ لأن غير المقسوم ليس تبعا للمقسوم بل هو أصل بنفسه بخلاف الشرب والطريق, وكذلك الدور عند أبي حنيفة لا تقسم قسمة جمع حتى لو كان بين رجلين داران تقسم كل واحدة على حدتها, سواء كانتا منفصلتين أو متلاصقتين, وعندهما ينظر القاضي في ذلك إن كان الأعدل في الجمع جمع, وإن كان الأعدل في التفريق فرق, وكذا لو كان بينهما أرضان أو كرمان فهو على الاختلاف. وأما البيتان فيقسمان قسمة جمع إجماعا متصلين كانا أو منفصلين, وكذا المنزلان المتصلان. وأما المنفصلان في دار واحدة فعلى الخلاف. وجه قولهما أن الدور كلها جنس واحد, والتفاوت الذي بين الدارين يمكن تعديله بالقيمة فيفوض إلى رأي القاضي إن رأى الأعدل في التفريق فرق, وإن رأى الأعدل في الجمع جمع ولأبي حنيفة رحمه الله على نحو ما ذكرنا في الرقيق أن القسمة فيها باعتبار أعيانها, ويقع ضرر التفاوت متفاحشا بين دار ودار؛ لاختلاف الدور في أنفسها واختلافها باختلاف البناء والبقاع, فكانا في حكم جنسين مختلفين, والقسمة فيها باعتبار القيمة تقع تصرفا في غير محله فلا يصح, ولو اقتسما بأنفسهما أو بالقاضي بتراضيهما جاز؛ لما مر, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما دار وضيعة أو دار وحانوت فلا تجمع بالإجماع, بل يقسم كل واحدة على حدة؛ لاختلاف الجنس, ومنها الطلب في أحد نوعي القسمة وهو قسمة الجبر حتى أنه لو لم يوجد الطلب من أحد الشركاء أصلا لم تجز القسمة؛ لأن القسمة من القاضي تصرف في ملك الغير والتصرف في ملك الغير من غير إذنه محظور في الأصل, إلا أنه عند طلب البعض يرتفع الحظر؛ لأنه إذا طلب علم أنه له في استيفاء هذه الشركة ضررا, إذ لو كان الطلب لتكميل المنفعة لطلب صاحبه, وكان عليه أن يمتنع من الإضرار ديانة, فإذا أبى القسمة, علم أنه لا يمتنع فيدفع القاضي ضرره بالقسمة, فكانت القسمة في هذه الصورة من باب دفع الضرر, والقاضي نصب له, ونظيره الشفعة, فإن الشفيع يتملك الدار على المشتري بالشفعة من غير رضا دفعا لضرره؛ لأنه لما طلب الشفعة علم أنه يتضرر بجواره فالشرع دفع ضرره عنه بإثبات حق التمليك بالشفعة جبرا عليه, كذا هذا. "ومنها" الرضا في أحد نوعي القسمة, وهو رضا الشركاء فيما يقسمونه بأنفسهم إذا كانوا من أهل الرضا, أو رضا من يقوم مقامهم, إذا لم يكونوا من أهل الرضا فإن لم يوجد لا يصح, حتى لو كان في الورثة صغير لا وصي له, أو كبير غائب, فاقتسموا؛ فالقسمة باطلة؛ لما ذكرنا أن القسمة فيها معنى البيع, وقسمة الرضا أشبه بالبيع, ثم لا يملكون البيع إلا بالتراضي, فكذا القسمة, إلا إذا لم يكونوا من أهل الرضا كالصبيان والمجانين فيقسم الولي أو الوصي إذا كان في القسمة منفعة لهم؛ لأنهما يملكان البيع فيملكان القسمة, وكذا إذا كان فيهم صغير وله ولي, أو وصي, يقتسمون برضا الولي أو الوصي, فإن لم يكن نصب القاضي عن الصغير وصيا, واقتسموا برضاه فإن أبى ترافعوا إلى القاضي, حتى يقسم بينهم, ومنها حضرة الشركاء أو من يقوم مقامهم في نوعي القسمة, حتى لو كان فيهم كبير غائب لا تجوز القسمة أصلا ولا يقسم القاضي أيضا إذا لم يكن عنه خصم حاضر ولكنه لو قسم لا تنقص قسمته؛ لأنه صادف محل الاجتهاد فلا ينقض. ومنها البينة في قسمة القضاء في الإقرار بميراث الإقرار عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليست بشرط ويقسم بإقرارهم فنقول جملة الكلام في بيان هذين الشرطين: إن جماعة إذا جاءوا إلى القاضي, وهم عقلاء بالغون أصحاء في أيديهم مال, فأقروا أنه ملكهم, وطلبوا القسمة من القاضي فهذا لا يخلو في الأصل من أحد وجهين:. "إما" أن يقروا بالملك مطلقا عن ذكر سبب, وإما أن يقروا بالملك بسبب ادعوا انتقال الملك به من أحد, وكل وجه على وجهين: "إما" أن يكون المال الذي في أيديهم منقولا, وإما أن يكون عقارا, فإن أقروا بالملك مطلقا عن سبب الانتقال قسم بإقرارهم, ويذكر في الإشهاد في كتاب الصك أني قسمت بإقرارهم ولم أقض فيه على أحد. ولا يطلب منهم البينة على أصل الملك منقولا

 

ج / 7 ص -23-         كان المال أو عقارا, إذا لم يكن فيهم كبير غائب؛ لأنه وجد دليل الملك وهو اليد والإقرار من غير منازع, ولا دعوى انتقال الملك من أحد إليه, فإن كان فيهم كبير غائب لم يقسم؛ لما ذكرنا أن حضرة الشركاء أو من يقوم مقامهم شرط ولم يوجد؛ لأن الخصوم في هذا الموضع لا يصلحون خصما عن الغائب, وإن أقروا بالملك بسبب الميراث بأن قالوا: هو بيننا ميراث عن فلان فإن كان المال منقولا؛ قسم بينهم بإقرارهم بالإجماع, ولا تطلب منهم البينة, وإن كان فيهم كبير غائب بعد أن كان الحاضران اثنين كبيرين أو أحدهما صغير قد نصب عنه وصي, وإن كان المال عقارا فلا يقسم عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يقيموا البينة على موت فلان وعلى عدد الورثة, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقسم بينهم بإقرارهم, ويشهد على ذلك في الصك. "وجه" قولهما أن محل قسمة الملك المشترك وقد وجد لوجود دليل الملك وهو اليد والإقرار بالإرث من غير منازع فصادفت القسمة محلها فيقسم, ويكتب أنه قسم بإقرارهم كما في المنقول؛ ولأن البينة إنما تقام على منكر, والكل مقرون فعلى من تقام البينة؟ "وجه" قول أبي حنيفة أن هذه قسمة صادفت حق الميت بالإبطال فلا تصح إلا ببينة كدعوى الاستحقاق على الميت, وبيان ذلك أن الدار قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت, بدليل أن الزوائد الحادثة قبل القسمة تحدث على ملكه, حتى لو كانت التركة شجرة فأثمرت كان الثمر له حتى تقضى منه ديونه, وتنفذ منه وصاياه, فكانت القسمة تصرفا على ملكه بالإبطال فلا يجوز إلا ببينة بخلاف المنقول؛ لأن القسمة ليس قطعا لحق الميت بل هي حفظ حق الميت؛ لأن المنقول محتاج إلى الحفظ والقسمة نوع حفظ له. وأما العقار فمستغن عن الحفظ, فبقيت قسمته قطعا لحقه فلا يملك إلا ببينة. وأما قولهما لا منكر ههنا فعلى من تقام البينة؟ "قلنا": تقام على بعض الورثة من البعض, وإن كانوا مقرين وذلك جائز كالأب أو الوصي إذا أقرا على الصغير لا يصح إقراره إلا بالبينة ولا منكر ههنا, كذا هذا. هذا إذا أقروا بالملك بسبب الإرث, فإن أقروا به بسبب الشراء من فلان الغائب فإن كان المال منقولا قسم بينهم بإقرارهم بلا خلاف, وإن كان عقارا ذكر في ظاهر الرواية أنه يقسم بإقرارهم ولا تطلب منهم البينة على الشراء من فلان, وفرق بين الشراء وبين الميراث, وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقسم إلا بالبينة كالميراث. "وجه" هذه الرواية أنهم لما أقروا أنهم ملكوه بالشراء من فلان فقد أقروا بالملك له, وادعوا الانتقال إليهم من جهته, فإقرارهم مسلم ودعواهم ممنوعة ومحتاجة إلى الدليل وهو البينة. "وجه" ظاهر الرواية وهو الفرق بين الشراء وبين الميراث أن امتناع القسمة في المواريث بنفس الإقرار لما يتضمن من إبطال حق الميت, وذلك منعدم في باب البيع إذ لا حق باق للبائع في المبيع بعد البيع والتسليم؛ فصادفت محلها فصحت, هذا إذا لم يكن في الورثة كبير غائب أو صغير حاضر, فإن كان فأقروا بالميراث فلا يشكل, عند أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقسم بإقرارهم؛ لأنه لا يقسم بين الكبار الحضور فكيف يقسم ههنا؟ وأما عندهم فينظر إن كانت الدار في يد الكبار الحضور يقسم بينهم؛ لما بينا, ويضع حصة الغائب على يد عدل يحفظه؛ لأن بعض الورثة خصم من البعض, وينصب عن الصغير وصيا وإن كانت الدار في يد الغائب الكبير أو في يد الحاضر الصغير أو في أيديهما منها شيء؛ لا يقسم, حتى تقوم البينة على الميراث وعدد الورثة بالإجماع. لأنه إذا كان في يده من الدار شيء فالحاجة إلى استحقاق ذلك من يده, فلا يصح إلا ببينة هذا إذا لم تقم البينة على ميراث العقار, فأما إذا قامت البينة عليه وطلبوا القسمة فإنه ينظر: إن كان الحاضر اثنين فصاعدا والغائب واحدا أو أكثر وفيهم صغير حاضر؛ فإنه يقسم ويعزل نصيب كل كبير وصغير, فيوكل وكيلا يحفظه, بخلاف الملك المطلق إذا حضر شريكان وشريك غائب؛ أنه لا يقسم. "ووجه" الفرق ما ذكرنا أن قسمة العقار تصرف على الميت وقضاء عليه بقطع حقه عن التركة, وكل واحد من الورثة قائم مقام الميت فيما له وعليه؛ ولهذا يرد كل واحد منهم بالعيب, ويرد عليه فإذا كان الحاضر اثنين فصاعدا أمكن أن يجعل أحدهما خصما عن الميت في القضاء عليه, والآخر مقضيا له فتصح القسمة, وإن كان الحاضر واحدا والباقون غيبا لم يقسم؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هو خصما عن الميت حتى تسمع البينة عليه؛ لاستحالة كون الشخص الواحد في زمان واحد بجهة واحدة مقضيا له وعليه, وإن كان مع الحاضر وارث

 

ج / 7 ص -24-         صغير نصب القاضي عنه وصيا وقسم؛ لأن القسمة ههنا ممكنة؛ لوجود متقاسمين حاضرين, وإذا قسم المنقول بين الورثة بإقرارهم أو العقار بالبينة عند أبي حنيفة رحمه الله وفيهم كبير غائب فعزل نصيبه ووضعه على يدي عدل, ثم حضر الغائب فإن أقر, كما أقروا أولئك, فقد مضى الأمر, وإن أنكر ترد القسمة في المنقول بالإجماع. وكذلك في العقار عند أبي يوسف ومحمد, وعند أبي حنيفة عليه الرحمة في العقار لا ترد القسمة؛ لأن القسمة المبنية على البينة قد تقدمت على الغائب فلا يعتبر إنكاره, ولو كانت الدار ميراثا وفيه وصية بالثلث وبعض الورثة غائب, فطلب الموصى له بالثلث القسمة بعد ما أقام البينة على الميراث والثلث قسم؛ لأن الموصى له بمنزلة واحدة من الورثة, فإذا كان معه وارث حاضر فكأنه حضر اثنان من الورثة, ولو كان كذلك؛ قسم وإن كان الباقون غيبا, كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها أن يكون المقسوم عليه مالكا للمقسوم وقت القسمة, وهو أن يكون له فيه ملك فإن لم يكن, لم تجز القسمة؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقسوم فواحد وهو أن يكون المقسوم مملوكا للمقسوم له وقت القسمة, فإن لم يكن لا تجوز القسمة؛ لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء, ومبادلة البعض, وكل ذلك لا يصح إلا في المملوك, وعلى هذا إذا استحقت العين المقسومة تبطل القسمة في الظاهر, وفي الحقيقة تبين أنها لم تصح, ولو استحق شيء منها تبطل في القدر المستحق, ثم قد تستأنف القسمة وقد لا تستأنف, ويثبت الخيار وقد لا يثبت. وبيان هذه الجملة: أنه إذا ورد الاستحقاق على المقسوم لا يخلو الأمر فيه من أحد وجهين: إما أن ورد على كله, وإما أن ورد على جزء, فإن ورد على كل المقسوم تبطل القسمة, وفي الحقيقة لم تصح من الأصل؛ لانعدام شرط الصحة وهو الملك المشترك فتستأنف القسمة, وإن ورد على جزء من المقسوم لا يخلو من أحد وجهين أيضا: إما أن ورد على جزء شائع منه وإما أن ورد على جزء معين من أحد النصيبين, فإن ورد على جزء شائع لا يخلو من أحد وجهين: أيضا إما أن ورد على جزء شائع من النصيبين جميعا, وإما أن ورد على جزء شائع من أحد النصيبين دون الآخر, فإن ورد الآخر على جزء شائع من النصيبين جميعا. كالدار المشتركة بين رجلين نصفين, اقتسماها فأخذ أحدهما ثلثا من مقدمها, وأخذ الآخر ثلثين من مؤخرها, وقيمتها سواء بأن كانت قيمة كل واحد منهما ستمائة درهم مثلا فاستحق نصف الدار فاستأنف القسمة بالإجماع؛ لأنه بالاستحقاق تبين أن نصف الدار شائعا ملك المستحق, فتبين أن القسمة لم تصح في النصف الشائع, وذلك غير معلوم فبطلت القسمة أصلا, وإن استحق نصف نصيب صاحب المقدم شائعا تستأنف القسمة أيضا عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه ظهر أن المستحق شريكهما في الدار فظهر أن قسمتهما لم تصح دونه, فتستأنف القسمة, كما إذا ورد الاستحقاق على نصف الدار شائعا. وعند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة له الخيار إن شاء أمسك ما في يده ورجع بباقي حصته وهو مثل ما استحق في نصيب الآخر, وإن شاء فسخ القسمة؛ لأن بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح في القدر المستحق لا فيما وراءه؛ لأن المانع من الصحة انعدام الملك, وذلك في القدر المستحق لا في ما وراءه, وليس من ضرورة انعدام الصحة في القدر المستحق انعدامها في الباقي. لأن معنى القسمة وهو الإفراز والمبادلة لم ينعدم باستحقاق هذا القدر في الباقي فلا تبطل القسمة في الباقي, بخلاف ما إذا استحق نصف الدار شائعا؛ لأن هناك وإن ورد الاستحقاق على النصف فأوجب بطلان القسمة فيه مقصودا, لكن من ضرورته بطلان القسمة في الباقي؛ لانعدام معنى القسمة في الباقي أصلا, وههنا لم ينعدم فلا تبطل, لكن يثبت الخيار إن شاء رجع بباقي حصته في نصيب شريكه وذلك مثل نصف المستحق؛ لأن القدر المستحق من النصيبين جميعا, فيرجع عليه بذلك وهو ربع نصيبه إن شاء, وإن شاء فسخ القسمة؛ لاختلاف معناها ولدخول عيب الشركة, إذ الشركة في الأعيان المجتمعة عيب, والعيب يثبت الخيار, وذكر الطحاوي رحمه الله الخلاف في المسألة بين أبي حنيفة وصاحبيه, ولو كان صاحب المقدم باع نصف ما في يده واستحق النصف الباقي فإنه يرجع على صاحبه بربع ما في يده عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف يغرم نصف قيمة ما باع لشريكه ويضمه إلى ما في يد شريكه ويقتسمان نصفين. "وجه" قول أبي يوسف ما بينا أن بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح أصلا

 

ج / 7 ص -25-         وأن البيع كان فاسدا فيضمن نصف قيمة ما باع شريكه, ثم يقتسمان الباقي نصفين. "وجه" قولهما ما ذكرنا في المسألة المقدمة, إلا أن هنا لا يثبت خيار الفسخ؛ لمانع وهو البيع فيرجع على صاحبه بربع ما في يده, ولو استحق نصف معين من أحد النصيبين لا تبطل القسمة بالإجماع؛ لما ذكرنا في المسائل المتقدمة بل أولى؛ لأن الاستحقاق ههنا ورد على جزء معين, فلا يظهر أن المستحق كان شريكا لهما فلا تبطل القسمة لكن يثبت الخيار, والمستحق عليه إن شاء نقض القسمة؛ لأن الاستحقاق أوجب انتقاض المعقود عليه, والانتقاض في الأعيان المجتمعة عيب, فيثبت الخيار, وإن شاء رجع على صاحبه بربع ما في يده؛ لما بينا أن القدر المستحق من النصيبين جميعا, ولو استحق كل ما في يده لرجع عليه بالنصف فإذا استحق النصف يرجع بالربع, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا مائة شاة بين رجلين اقتسماها, فأخذ أحدهما أربعين تساوي خمسمائة درهم, وأخذ الآخر ستين تساوي خمسمائة درهم فاستحقت شاة من الأربعين تساوي عشرة دراهم لم تبطل القسمة بالإجماع؛ لأنه تبين أن القسمة صادفت المملوك فيما وراء القدر المستحق, والمستحق معين فلا تظهر الشركة هنا أصلا, فلا تبطل القسمة, ولكن يرجع على شريكه بحقه وهو خمسة دراهم؛ لأن المستحق من النصيبين جميعا عشرة دراهم, والله سبحانه وتعالى أعلم. كر حنطة بين رجلين نصفان عشرة منه طعام جيد, وثلاثون رديء فاقتسماه, فأخذ أحدهما عشرة أقفزة جيدة وثوبا, وأخذ الآخر ثلاثين رديئا, حتى جازت القسمة فاستحق من الثلاثين عشرة أقفزة, يرجع على صاحبه بنصف الثوب استحسانا, والقياس ما ذكره في الزيادات أنه يرجع عليه بثلث الثوب وثلث الطعام الجيد. ووجهه أن الاستحقاق ورد على عشرة شائعة في الثلاثين, فكان المستحق في الحقيقة من كل عشرة ثلثها, وذلك يوجب الرجوع بثلث الطعام الجيد. وجه الاستحسان أن طريق جواز هذه القسمة أن تكون العشرة بمقابلة العشرة, والعشرون بمقابلة الثوب, فإذا استحق منه عشرة, وأنه بمقابلة نصف الثوب؛ فيرجع عليه بنصف الثوب, وقوله: للمستحق عشرة شائعة في الثلاثين لا العشرة المعينة وهي التي من حصة الثوب فنعم. هذا هو الحقيقة, إلا أنا لو عملنا بهذه الحقيقة؛ لاحتجنا إلى نقض القسمة وإعادتها, ولو صرفنا الاستحقاق إلى عشرة هي من حصة الثوب لم نحتج إلى ذلك, وتصرف العاقل تجب صيانته عن النقض والإبطال ما أمكن, وذلك فيما قلناه. وعلى هذا أرض بين رجلين نصفين قسمت, ثم استحق أحد النصيبين وقد بنى صاحبه فيه بناء أو غرس غرسا فنقض البناء وقلع الغرس؛ لم يرجع المستحق عليه على صاحبه بشيء من قيمة البناء والغرس, والأصل فيه أن كل قسمة وقعت بإجبار القاضي أو باختيار الشريكين, على الوجه الذي يجبرهما القاضي, ولو ترافعا إليه ثم استحق أحد النصيبين وقد بنى صاحبه فيه بناء أو غرس غرسا فنقض وقلع؛ لا يرجع بشيء من ذلك على صاحبه؛ لأن صاحبه مجبور على القسمة من جهة القاضي فيكون مضافا إلى القاضي, أما إذا وقعت القسمة بإجبار القاضي فلا شك فيه, وكذا إذا اقتسما بأنفسهما؛ لأن ذلك قسمة جبر من حيث المعنى؛ لدخولهما تحت جبر القاضي عند المرافعة إليه, وإذا كان مجبورا عليه فلم يوجد منه ضمان السلامة؛ فلا يؤاخذ بضمان الاستحقاق, إذ هو ضمان السلامة. ونظير هذا الشفيع إذا أخذ العقار من المشتري بالشفعة, وبنى فيه أو غرس, ثم استحق وقلع البناء لا يرجع بقيمة البناء على المشتري؛ لأنه ما ملكه باختياره بل أخذ منه جبرا, وكذلك قال محمد في الجارية المأسورة إذا اشتراها رجل من أهل الحرب, ثم أخذها المالك القديم فاستولدها, ثم استحقها رجل: لا يرجع بقيمة الولد على الذي أخذها من يده؛ لأنه لم يأخذها منه باختياره بل كرها وجبرا, وكذلك الأب إذا وطئ جارية ابنه فأعلقها, ثم استحقها رجل؛ لا يرجع بقيمة الولد على الابن؛ لأنه تملكها من غير اختيار الابن, وقال أبو يوسف: إذا غصب جارية فأبقت من يده فأدى ضمانها, ثم عادت الجارية فاستولدها الغاصب, ثم استحقت له أن يرجع بقيمة الولد على المولى؛ لأنه كان مختارا في أخذ القيمة من الغاصب, فكان ضامنا السلامة فيرجع عليه بحكم الضمان. وعلى هذا داران أو أرضان بين رجلين اقتسما, فأخذ كل واحد منهما إحداهما وبنى فيها, ثم استحقت رجع بنصف قيمة البناء عند أبي حنيفة؛ لأن القاضي لا يجبر على قسمة الجمع في الدور والعقارات عنده, فإذا اقتسما بأنفسهما كانت القسمة منهما مبادلة,

 

ج / 7 ص -26-         فأشبهت البيع فكان كل واحد منهما ضامنا سلامة النصف لصاحبه, فإذا لم يسلم يرجع عليه بحكم الضمان كما في البيع. وأما عندهما فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يرجع؛ لأن القاضي يجبر على هذه القسمة عندهما, فأشبه استحقاق النصف من دار واحدة, وقال بعضهم: يرجع. وعليه اعتمد القدوري عليه الرحمة وهو الصحيح؛ لأن القاضي إنما يجبر على قسمة الجمع ههنا عندهما إذا رأى الجمع أعدل, ولا يعرف ذلك من رأي القاضي إذا فعلا بأنفسهما, ولو كانتا جاريتين فأخذ كل واحد منهما جارية فاستولدها, ثم استحقت رجع على شريكه بالنصف عند أبي حنيفة؛ لأن القاضي لا يجبر على قسمة الرقيق عنده, فإذا اقتسما بتراضيهما أشبه البيع على ما ذكرنا. وأما عندهما فينبغي أن لا يرجع, كذا ذكره القدوري عليه الرحمة وفرق بين الرقيق وبين الدور وبينهما فرق؛ لأن القاضي هناك لا يجبر على الجمع عينا ولكنه يراعي الأعدل في ذلك من التفريق والجمع, وههنا يجبر على الجمع؛ لتعذر التفريق فلم يوجد ضمان السلامة من صاحبه فلا يرجع عليه, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا الأصل إذا اقتسم قوم دارا, وفيها كنيف شارع على الطريق أو ظله, فإن كان على طريق العامة؛ لا يحسب ذرع الكنيف والظل من ذرع الدار؛ لأن رقبة الأرض ليست بمملوكة لأحد, بل هي حق العامة, وإن كان على طريق غير نافذ يحسب ذلك من ذرع الدار؛ لأن له في السكة مسلكا فأشبه علو البيت, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما صفات القسمة فأنواع: منها أن تكون عادلة غير جائرة وهي أن تقع تعديلا للأنصباء من غير زيادة على القدر المستحق من النصيب ولا نقصان عنه؛ لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء, ومبادلة البعض, ومبنى المبادلات على المراضاة, فإذا وقعت جائرة؛ لم يوجد التراضي, ولا إفراز نصيبه بكماله؛ لبقاء الشركة في البعض فلم تجز وتعاد. وعلى هذا إذا ظهر الغلط في القسمة المبادلة بالبينة أو بالإقرار تستأنف؛ لأنه ظهر أنه لم يستوف حقه, فظهر أن معنى القسمة لم يتحقق بكماله, ولو ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن كان المدعي أقر باستيفاء حقه, وإما أن كان لم يقر بذلك, فإن كان قد أقر باستيفاء حقه لا يسمع منه دعوى الغلط؛ لكونه مناقضا في دعواه؛ لأن الإقرار باستيفاء الحق إقرار بوصول حقه إليه بكماله, ودعوى الغلط إخبار أنه لم يصل إليه حقه بكماله فيتناقض, وإن كان لم يقر باستيفاء حقه؛ لا تعاد القسمة بمجرد الدعوى؛ لأن القسمة قد صحت من حيث الظاهر فلا يجوز نقضها إلا بحجة, فإن أقام البينة أعيدت القسمة؛ لما قلنا, وإن لم تقم له بينة وأنكر شريكه, فأراد استحلافه حلفه على ما ادعى من الغلط؛ لأنه يدعي عليه حقا هو جائز الوجود. والعدم, وهو ينكر فيحلف, وبيان ذلك: دار بين رجلين اقتسما, واستوفى كل واحد منهما حقه ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة لا تعاد القسمة, ولكن يسأل البينة على الغلط, فإن أقام البينة وإلا فيحلف شريكه إن شاء؛ لما قلنا فإن حلف أحد الشريكين ونكل الآخر, فإن كان الشركاء ثلاثة يجمع بين نصيب المدعي وبين نصيب الناكل, فيقسم بينهما على قدر نصيبهما؛ لأن نكوله دليل كون المدعي صادقا في دعواه في حقه, فكان حجة في حقه لا في حق الشريك الحالف, فلم تصح القسمة في حقهما فتعاد في قدر نصيبهما, وكذلك لو ادعى الغلط بعد القسمة والقبض في المكيلات والموزونات والمذروعات. ولو كان بين رجلين داران اقتسماهما, فأخذ كل واحد منهما دارا, ثم ادعى أحدهما الغلط في القسمة وأقام البينة على ذلك, فالقسمة باطلة عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما لا تبطل ولكن يقضى للمدعي بذلك الذرع من الدار الأخرى, وبنوا هذه المسألة على بيع ذراع من دار أنه لا يجوز عنده, وعندهما جائز. ووجه البناء أن قسمة الجمع في الدور بالتراضي جائزة بلا خلاف, ومعنى المبادلة وإن كان لازما في نوعي القسمة لكن هذا النوع بالمبادلات أشبه, وإذا تحققت المبادلة صح البناء, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو اقتسما دارا بينهما, فأخذ كل واحد منهما طائفة, ثم ادعى أحدهما بيتا في يد صاحبه أنه وقع في قسمته, وأقام بينة؛ سمعت بينته, وإن أقاما جميعا البينة؛ أخذت بينة المدعي؛ لأنه خارج وإن كان قبل الإشهاد والقبض تحالفا وترادا, وكذا لو اختلفا في الحدود فادعى كل واحد منهما حدا في يد صاحبه أنه أصابه وأقام البينة؛ قضي لكل واحد منهما بالحد الذي في يد صاحبه؛ لأن كل

 

ج / 7 ص -27-         واحد منهما عما في يد صاحبه خارج, وإن قامت لأحدهما بينة يقضى ببينته, وإن لم تقم لهما بينة تحالفا وهل ينفسخ العقد بنفس التالف أم يحتاج فيه إلى فسخ القاضي؟ اختلف المشايخ فيه على ما عرف في البيوع. ولو اقتسم رجلان أقرحة, فأخذ أحدهما قراحين, والآخر أربعة, ثم ادعى صاحب القراحين أن أحد الأقرحة الأربعة أصابه في قسمته, وأقام البينة قضي له به؛ لما قلنا, وكذلك هذا في أثواب اقتسماها, فأخذ كل واحد بعضهما, ثم ادعى أحدهما أن أحد الأثواب الذي في يد صاحبه أصابه في قسمته, وأقام البينة قضي له به, ولو ادعى كل واحد منهما على صاحبه ثوبا مما في يده أنه أصابه في قسمته, وأقام البينة قضي لكل واحد منهما بما في يد الآخر؛ لأن كل واحد منهما عما في يد صاحبه خارج. ولو اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمسة وخمسين, وأصاب الآخر خمسة وأربعين, ثم ادعى صاحب الأوكس الغلط في القسمة أو الخطأ في التقويم؛ لم تقبل منه إلا ببينة. ولو قال: أخطأنا في العدد, وأصاب كل واحد منا خمسين وهذه الخمسة في قسمته وأنكر الآخر تحالفا, وإن أقام كل واحد منهما البينة ردت القسمة. ولو قال أحدهما لصاحبه: أخذت أنت إحدى وخمسين غلطا, وأخذت أنا تسعة وأربعين, وقال الآخر: ما أخذت إلا خمسين. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر لاستيفاء الزيادة على حقه, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا الأصل تخرج قسمة عرصة الدار بالذراع أنه يحسب في القسمة كل ذراعين من العلو بذراع من السفل عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف يحسب ذراع من السفل بذراع من العلو, وعند محمد يحسب على القيمة دون الذرع. زعم كل واحد منهم أن التعديل فيما يقوله, والخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة وبين أبي يوسف مبني على الخلاف في مسألة أخرى, وهي أن صاحب العلو ليس له أن يبني على العلو من غير رضا صاحب السفل, وإن لم يضر بصاحب السفل من حيث الظاهر عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف له أن يبني إن لم يضر البناء به. ووجه البناء أن صاحب العلو إذا لم يملك البناء على علوه عند أبي حنيفة رحمه الله كان للعلو منفعة واحدة وهي منفعة السكنى فحسب, وللسفل منفعتان: منفعة السكنى, ومنفعة البناء عليه, وكذا السفل كما يصلح للسكنى يصلح لجعل الدواب فيه, فأما العلو فلا يصلح إلا للسكنى خاصة, فكان للسفل منفعتان وللعلو منفعة واحدة, فكانت القسمة عنده على الثلث والثلثين, وعند أبي يوسف لما ملك صاحب العلو أن يبني على علوه كانت له منفعتان أيضا, فاستوى العلو والسفل في المنفعة, فوجب التعديل بالسوية بينهما في الذرع. وأما محمد فإنما اعتبر القيمة؛ لأن أحوال البلاد وأهلها في ذلك مختلفة, فمنهم من يختار السفل على العلو ومنهم من يختار العلو على السفل, فكان التعديل في اعتبار القيمة, والعمل في المسألة على قول محمد رحمه الله وهو اختيار الطحاوي رحمه الله ويحتمل أن أبا حنيفة إنما فضل السفل على العلو بناء على عادة أهل الكوفة من اختيارهم السفل على العلو, وأبو يوسف إنما سوى بينهما على عادة أهل بغداد؛ لاستواء العلو والسفل عندهم, فأخرج كل واحد منهما الفتوى على عادة أهل زمانه, ومحمد بنى الفتوى على المعلوم من اختلاف العادات باختلاف البلدان فكان الخلاف بينهم من حيث الصورة لا من حيث المعنى, والله سبحانه وتعالى أعلم. وبيان ذلك في سفل بين رجلين وعلو من بيت آخر بينهما, أرادا قسمتهما يقسم البناء على القيمة بلا خلاف. وأما العرصة فتقسم بالذرع عند أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد بالقيمة, ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف فيما بينهما في كيفية القسمة بالذرع, فعند أبي حنيفة ذراع بذراعين على الثلث والثلثين, وعند أبي يوسف ذراع بذراع. ولو كان بينهما بيت تام علو وسفل, وعلو من بيت آخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من العلو والسفل بثلاثة أذرع من العلو أرباعا عنده؛ لما ذكرنا من الأصل فكانت القسمة أرباعا, وعند أبي يوسف ذراع من السفل والعلو بذراعين من العلو؛ لاستواء السفل والعلو عنده, فكانت القسمة أثلاثا. ولو كان بينهما بيت تام سفل وعلو, وسفل آخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من السفل والعلو بذراع ونصف من السفل, وذراع من سفل البيت بذراع من السفل الآخر, وذراع من علوه بنصف ذراع من السفل الآخر, وعند أبي يوسف ذراع من التام بذراعين من السفل, والله تعالى أعلم. وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا اقتسما دارا وفضلا بعضها على بعض بالدراهم أو الدنانير

 

ج / 7 ص -28-         لفضل قيمة البناء والموضع أن القسمة جائزة؛ لأنها وقعت عادلة من حيث المعنى؛ لأن الدار قد يفضل بعضها على بعض بالبناء والموضع, فكان ذلك تفصيلا من حيث الصورة تعديلا من حيث المعنى, ولو لم يسميا قيمة فضل البناء وقت القسمة جازت القسمة استحسانا, وتجب قيمة فضل البناء, وإن لم يسمياها في القسمة, والقياس أن لا تجوز القسمة؛ لأن هذه قسمة بعض الدار دون بعض؛ لأن العرصة مع البناء بمنزلة شيء واحد, وقسمة البناء بالقيمة فإذا وجدت القسمة مجهولة فوقعت القسمة للعرصة دون البناء؛ بقيت وإنها غير جائزة. وجه الاستحسان أن قسمة العرصة قد صحت بوقوعها في محلها وهو الملك ولا صحة لها إلا بقسمة البناء, وذلك بالقيمة, فتجب على صاحب الفضل قيمة فضل البناء, وإن لم يسم ضرورة صحة القسمة, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا الأصل تخرج أيضا قسمة الجمع في الأجناس المختلفة أنها غير جائزة جبرا بالإجماع؛ لتعذر تعديل الأنصباء إلا بالقيمة, وإنها ليست محل القسمة على ما مر, ولا يجوز في الرقيق والدور عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها في حكم الأجناس المختلفة, ولا تقع القسمة فيها عادلة أو جائرة, ولا تقسم الأولاد في بطون الغنم؛ لتعذر التعديل, وعلى هذا يخرج رد المقسوم بالعيب في نوعي القسمة؛ لأنه إذا ظهر به عيب فقد ظهر أنها وقعت جائرة لا عادلة, فكان له حق الرد بالعيب كما في البيع, ولو امتنع الرد بالعيب؛ لوجود المانع منه يرجع بالنقصان كما في البيع, إلا أن في البيع يرجع بتمام النقصان وفي القسمة يرجع بالنصف؛ لأن النقصان في القسمة يرجع بالنصيبين جميعا فيرجع بنصف النقصان من نصيب شريكه. وأما الرد بخيار الرؤية والشرط فيثبت في قسمة الرضا؛ لأن القسمة فيها معنى المبادلة, وهذا النوع أشبه بالمبادلات؛ لوجود المراضاة من الجانبين فيثبت فيه خيار الرؤية كما في البيع, ولا يثبت في قسمة القضاء لا لخلوها عن المبادلة بل لعدم الفائدة؛ لأنه لو ردها بخيار الرؤية والشرط؛ لأجبره القاضي ثانيا فلا يفيد, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولا تجب الشفعة في القسمة؛ لأن حق الشفعة يتبع المبادلة المحضة؛ لثبوتها على مخالفة القياس, والقسمة مبادلة من وجه فلا تحتمل الشفعة؛ ولأنها لو وجبت لا يخلو إما أن تجب للشريك أو للجار, لا سبيل إلى الأول؛ لأن الشفعة تجب لغير البائع والمشتري, ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن الشريك أولى من الجار, والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها الوجوب عند الطلب, حتى يجبر على القسمة فيما ينتفع كل واحد من الشريكين بقسمته, وكذا فيما ينتفع بها أحدهما ويستضر الآخر عند طلب المنتفع بالإجماع, وعند طلب المستضر اختلاف روايتي الحاكم, والقدوري رحمهما الله وقد ذكرناه, والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها اللزوم بعد تمامها في النوعين جميعا, حتى لا يحتمل الرجوع عنها إذا تمت. وأما قبل التمام فكذلك في أحد نوعي القسمة, وهو قسمة القضاء دون النوع الآخر, وهو قسمة الشركاء, بيان ذلك: أن الدار إذا كانت مشتركة بين قوم فقسمها القاضي أو الشركاء بالتراضي فخرجت السهام كلها بالقرعة؛ لا يجوز لهم الرجوع, وكذا إذا خرج الكل إلا سهم واحد؛ لأن ذلك خروج السهام كلها؛ لكون ذلك السهم متعينا بمن بقي من الشركاء, وإن خرج بعض السهام دون البعض فكذلك في قسمة القضاء؛ لأنه لو رجع أحدهم لأجبره القاضي على القسمة ثانيا فلا يفيد رجوعه. وأما في قسمة التراضي فيجوز الرجوع؛ لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها, وكل عاقد بسبيل من الرجوع عن العقد قبل تمامه كما في البيع ونحوه, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان حكم القسمة فنقول وبالله التوفيق: حكم القسمة ثبوت اختصاص بالمقسوم عينا تصرفا فيه فيملك المقسوم له في المقسوم جميع التصرفات المختصة بالملك, حتى لو وقع في نصيب أحد الشريكين ساحة لا بناء فيها, ووقع البناء في نصيب الآخر فلصاحب الساحة أن يبني في ساحته, وله أن يرفع بناءه, وليس لصاحب البناء أن يمنعه, وإن كان يفسد عليه الريح والشمس؛ لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا يمنع عنه, وكذا له أن يبني في ساحته مخرجا أو تنورا أو حماما أو رحى؛ لما قلنا, وكذا له أن يقعد في بنائه حدادا, أو قصارا, وإن كان يتأذى به جاره؛ لما قلنا, وله أن يفتح بابا أو كوة؛ لما ذكرنا ألا ترى أن له أن يرفع الجدار أصلا ففتح الباب والكوة أولى, وله أن يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة أو كرباسا, وإن كان يهي بذلك حائط جاره, ولو طلب جاره تحويل ذلك؛ لم يجبر على التحويل, ولو سقط الحائط من ذلك

 

ج / 7 ص -29-         لا يضمن؛ لأنه لا صنع منه في ملك الغير, والأصل أن لا يمنع الإنسان من التصرف في ملك نفسه إلا أن الكف عما يؤذي الجار أحسن. قال الله تبارك وتعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله تعالى {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} خصه سبحانه وتعالى بالأمر بالإحسان إليه, فلئن لا يحسن إليه فلا أقل من أن يكف عنه أذاه. وعلى هذا دار بين رجلين, ولرجل فيها طريق فأرادا أن يقتسماها, ليس لصاحب الطريق منعهما عن القسمة؛ لأنهما بالقسمة متصرفان في ملك أنفسهما فلا يمنعان عنه, فيقتسمان ما وراء الطريق, ويتركان الطريق على حاله على سعة عرض باب الدار؛ لما ذكرنا من قبل. ولو باعوا الدار والطريق فإن كانت رقبة الطريق مشتركة بينهم؛ قسموا ممر الطريق بينهم أثلاثا, وإن كانت الرقبة لشريكي الدار ولصاحب الطريق حق المرور, حكى القدوري عن الكرخي رحمهما الله أن لا شيء لصاحب الطريق من الثمن, ويكون الثمن كله للشريكين, وروى محمد أن كل واحد من الشريكين يضرب بحقه من المنفعة, ويضرب صاحب الطريق بحق المرور, وطريق معرفة ذلك أن ينظر إلى قيمة العرصة بغير طريق, وينظر إلى قيمتها وفيها طريق, فيكون لصاحب الطريق فضل ما بينهما, ولكل واحد من الشريكين نصف قيمة المنفعة إذا كان فيها طريق. "وجه" ما حكي عن الكرخي رحمه الله أن حق المرور لا يحتمل البيع مقصودا بل يحتمله تبعا للرقبة, ألا ترى أنه لو باعه وحده لم يجز, فإذا بيع الطريق بإذنه فقد أسقط حقه أصلا فلا يقابله ثمن. "وجه" ما روي عن محمد أن حق المرور لا يحتمل البيع مقصودا بل يحتمله تبعا للرقبة, وههنا ما بيع مقصودا بل تبعا للرقبة فيقابله الثمن, لكن ثمن الحق لا ثمن الملك على ما ذكرنا. وكذلك دار بين رجلين فيها مسيل الماء, فأرادا أن يقتسماها ليس لصاحب المسيل منعهما من القسمة؛ لما قلنا, بل يقسم الدار ويترك المسيل على حاله كما في الطريق, وكذلك لو كان في الدار منزل لرجل وطريقه في الدار, فأرادا أن يقتسما الدار لا يمنعان من القسمة, ولكن يتركان طريق المنزل على حاله على سعة عرض باب الدار, لا على سعة باب المنزل على ما ذكرنا, ولو أراد صاحب المنزل أن يفتح إلى هذا الطريق بابا آخر له ذلك؛ لأنه متصرف في ملك نفسه, ألا ترى أن له أن يرفع الحائط كله فهذا أولى, ولو اشترى صاحب المنزل دارا من وراء المنزل وفتح بابه إلى المنزل, فإن كان ساكن الدار والمنزل واحدا فله أن يمر من الدار إلى المنزل, ومن المنزل إلى الطريق الذي في الدار الأولى؛ لأن له حق المرور في هذا الطريق, وإن كان ساكن الدار غير ساكن المنزل فليس لساكن الدار أن يمر في الطريق الذي في الدار الأولى؛ لأنه لا حق له في هذا الطريق فيمنع من المرور فيه. دار بين رجلين في سكة غير نافذة اقتسماها, وأخذ كل واحد منهما طائفة منها, فأراد كل واحد منهما أن يفتح بابا أو كوة إلى السكة له ذلك, ولا يسع لأهل السكة منعهما؛ لأن كل واحد منهما متصرف في ملك نفسه فيملكه, ألا ترى أن له رفع الحائط أصلا فالباب والكوة أولى. وعلى هذا حائط بين قسيمين ولأحد القسيمين عليه جذوع الحائط الآخر فإن شرطوا قطع الجذوع في القسمة قطعه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عند شروطهم". وإن لم يشترطوا ترك على حالها؛ لأن الترك وإن كان ضررا لكنهم لما لم يشترطوا القطع في القسمة فقد التزم الضرر وكذلك لو كان وقع على هذا الحائط درجة أو أسطوانة جمع عليها جذوع؛ لما قلنا, وكذلك روشنا وقع لصاحب العلو شرفا على نصيب الآخر لم يكن لصاحب السفل أن يقلع الروشن من غير شرط القلع لما قلنا, ولو كان لأحدهما أطراف خشب على حائط صاحبه, فإن كان مما يمكن أن يجعل عليها سقف لم يكلف قلعها, وإن كان لا يمكن كلف القلع؛ لأنه إذا أمكن أن يجعل عليها سقف أمكنه الانتفاع به فيلتحق بالحقوق, فأشبه الروشن وإذا لم يمكن تعذر إلحاقها بالحقوق فبقي شاغلا هو لصاحبه بغير حق, فيكلف قطعها, ولو كان لأحدهما شجرة أغصانها مظلة على نصيب الآخر فهل تقطع؟ ذكر ابن سماعة رحمه الله أنه لا تقطع؛ لأن في القطع ضررا لصاحبها, وذكر ابن رستم رحمه الله أنه تقطع كما يقطع أطراف الخشب الذي لا يمكن تسقيفها, ولو اختلف أهل طريق في الطريق, وادعى كل واحد منهم أنه له؛ فهو بينهم بالتسوية على عدد الرءوس, لا على ذرعان الدور والمنازل؛ لأنهم استووا في اليد؛ لاستوائهم في المرور فيه إلا أن يقوم لأحدهم بينة فيسقط اعتبار اليد بالبينة. دار لرجل وفيها طريق بينه وبين

 

ج / 7 ص -30-         رجل فمات صاحب الدار, فاقتسمت الورثة الدار بينهم, وتركوا الطريق كان الطريق بينه وبين الرجل نصفين لا على عدد الرءوس, حتى لو باعوا الدار يقسم الثمن بين الورثة وبينه نصفين لا على عدد الرءوس؛ لأن الورثة قاموا مقام المورث, وقد كان الطريق بينهما نصفين فكذا بينه وبينهم, ولو لم يعرف أن الدار ميراث بينهم وجحدوا ذلك فالطريق بينهم بالسوية على عدد الرءوس؛ لاستوائهم في اليد على ما مر, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يوجب نقض القسمة بعد وجودها فنقول وبالله التوفيق: الذي يوجب نقض القسمة بعد وجودها أنواع: "منها" ظهور دين على الميت؛ إذا طلب الغرماء ديونهم ولا مال للميت سواه, ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم, وبيان ذلك: أن الورثة إذا اقتسموا التركة ثم ظهر على الميت دين فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون للميت مال آخر سواه, وإما أن لم يكن, فإن لم يكن له مال سواه, ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم؛ تنقض القسمة سواء كان الدين محيطا بالتركة أو لم يكن؛ لأن الدين مقدم على الإرث قليلا كان أو كثيرا, قال الله تبارك وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. قدم سبحانه وتعالى الدين على الوصية من غير فصل بين القليل والكثير؛ لأن الدين إذا كان محيطا بالتركة؛ تبين أنه لا ملك للورثة فيها إلا من حيث الصورة بل هي ملك للميت يتعلق بها بحق الغرماء, وقيام ملك الغير في المحل يمنع صحة القسمة, فقيام الملك والحق أولى. وإذا لم يكن محيطا بالتركة فملك الميت وحق الغرماء وهو حق الاستيفاء ثابت في قدر الدين من التركة على الشيوع, فيمنع جواز القسمة فإن لم يكن للميت مال آخر سواه يجعل الدين فيه, وتمضي القسمة؛ لأن القسمة تصان عن النقض ما أمكن, وقد أمكن صيانتها بجعل الدين فيه, وكذا الورثة إذا قضوا الدين من مال أنفسهم لا تنقض؛ لأن حق الورثة كان متعلقا بصورة التركة, وحق الغرماء بمعناها وهو المالية, فإذا قضوا الدين من مال أنفسهم فقد استخلصوا التركة لأنفسهم صورة ومعنى, فتبين أنهم في الحقيقة اقتسموا مال أنفسهم صورة ومعنى, فتبين أنها وقعت صحيحة فلا تنقض, وكذلك إذا أبرأه الغرماء من ديونهم لا تنقض القسمة؛ لأن النقض لحقهم وقد أسقطوه بالإبراء, وكذلك إذا ظهر لبعض المقتسمين دين على الميت, بأن ادعى دينا على الميت وأقام البينة عليه؛ فله أن ينقض القسمة؛ لما قلنا, ولا تكون قسمته إبراء من الدين؛ لأن حق الغريم يتعلق بمعنى التركة وهو ماليتها لا بالصورة, ولهذا كان للورثة حق الاستخلاص, وإذا كان كذلك فلا يكون إقدامه على القسمة إقرارا منه؛ لأنه لا دين له على الميت فلم يكن مناقضا في دعواه فسمعت. "ومنها" ظهور الوصية حتى لو اقتسموا ثم ظهر ثم موصى له بالثلث؛ نقضت قسمتهم؛ لأن الموصى له شريك الورثة, ألا ترى أنه لو هلك من التركة شيء قبل القسمة يهلك من الورثة والموصى له جميعا, والباقي على الشركة بينهم, ولو اقتسموا وثمة وارث آخر غائب تنقض, فكذا هذا, وهذا إذا كانت القسمة بالتراضي, فإن كانت بقضاء القاضي لا تنقض؛ لأن الموصى له وإن كان كواحد من الورثة, لكن القاضي إذا قسم عند غيبة أحد الورثة لا تنقض قسمته؛ لأن القسمة في هذا الموضوع محل الاجتهاد, وقضاء القاضي إذا صادف محل الاجتهاد ينفذ ولا ينقض. "ومنها" ظهور الوارث حتى لو اقتسموا ثم ظهر أن ثمة وارث آخر؛ نقضت قسمتهم, ولو كانت القسمة بقضاء القاضي لا تنقض؛ لما ذكرنا, ولو ادعى وارث وصية لابن له صغير بعد القسمة لا تصح دعواه, حتى لا تسمع منه البينة؛ لكونه مناقضا في الدعوى إذ لا تصح قسمتهم الميراث وثم موصى له, فكان إقدامه على القسمة إقرارا منه بانعدام الوصية, فكان دعوى وجود الوصية مناقضة فلا تسمع, ولكن لا يبطل حق الصغير بقسمة الأب؛ لأنه لا يملك إبطال حقه, وكذلك لو ادعى بعض الورثة أن أخا له من أبيه وأمه ورث أباه معهم, وأنه مات بعد موت الأب وورثه هذا المدعي, وجحد الباقون ذلك, فأقام المدعي البينة لا تقبل بينته؛ لأنه هنا قضي في دعواه؛ لدلالة إقراره بانعدام وارث آخر بإقدامه على القسمة, وكذلك كل ميراث يدعيه أو شراء أو هبة أو صدقة أو وصية بعد القسمة؛ للتناقض بدلالة الإقدام على القسمة, والله تعالى أعلم. دار بين رجلين أقر أحدهما ببيت منها لرجل, وأنكر الآخر يصح إقراره؛ لأن إقرار الإنسان حجة على نفسه؛ لأن هذا الإقرار لم يوجب تعلق الحق بالعين لحق الشريك الآخر بل هو موقوف, وإذا لم يتعلق بالعين

 

ج / 7 ص -31-         لا يمنع جواز القسمة فتقسم الدار ويجبر على القسمة, ومتى قسمت فإن وقع البيت المقر به في نصيب المقر دفعه إلى المقر له؛ لأن الإقرار قد صح وتسليم عين المقر به ممكن, فيؤمر بالتسليم, وإن وقع في نصيب شريكه يدفع إليه قدر ذرع المقر به من نصيب نفسه, فيقسم ما أصابه بينه وبين المقر له, فيضرب المقر له بذرع البيت ويضرب المقر بنصف ذرع الدار بعد البيت, وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف عليهما الرحمة وقال محمد رحمه الله يضرب المقر بنصف ذرع الدار كما قالا, ولكن المقر له يضرب بنصف ذرع البيت لا بكله, حتى لو كان ذرع الدار مائة, وذرع البيت عشرة, فتقسم الدار بينهما نصفين, يكون للمقر له عشرة أذرع عندهما؛ لأنه جميع ذرع البيت والباقي وهو خمسة وأربعون للمقر؛ لأنه نصف ذرع الدار بعد ذرع البيت, وعند محمد رحمه الله يكون للمقر له خمسة أذرع, إذ هو نصف ذرع البيت المقر به. "وجه" قول محمد رحمه الله أن الإقرار صادف محلا معينا مشتركا بينه وبين غيره؛ لأن كل جزأين من الدار أحدهما له, والآخر لصاحبه على الشيوع فيبطل في نصيب صاحبه ويصح في نصيبه, وذلك يوجب للمقر له نصف ذرع البيت. "وجه" قولهما أن الإقرار بالمشترك لا يتعلق بالعين قبل القسمة بل هو موقوف, وإنما يتعلق بهما بعد القسمة, ألا ترى أنه لم يمنع صحة القسمة, ولو تعلق بالعين لمنع, فإذا قسمت الدار الآن يتعلق بالعين, فإن وقع المقر به في نصيب المقر يؤمر بالتسليم؛ لأنه قادر على تسليم العين وإن وقع في نصيب صاحبه فقد عجز عن تسليم عينه فيؤمر بتسليم بدله من نصيبه, وهو تمام ذرع المقر به, هذا إذا كان المقر به شيئا يحتمل القسمة, فإن كان مما لا يحتمل القسمة, كبيت من حمام مشتركة بينه وبين غيره أقر أنه لرجل وأنكر صاحبه فيصح إقراره, ولكن يجبر على قسمته؛ لأن قسمة الإضرار فيما لا يحتمل الجبر على ما ذكرناه في موضعه, ويلزمه نصف قيمة البيت؛ لأنه عجز عن تسليم العين والإقرار بعين معجوز التسليم يكون إقرارا ببدله تصحيحا لتصرفه, وصيانة لحق الغير بالقدر الممكن, كالإقرار بجذع في الدار, والله تعالى أعلم.

"فصل": هذا الذي ذكرنا قسمة الأعيان. "وأما" قسمة المنافع فهي المسماة بالمهايئات, والكلام فيها في مواضع في بيان أنواع المهايئات وما يجوز منها وما لا يجوز, وفي بيان محل المهايئات وفي بيان صفة المهايئات وفي بيان ما يملك كل واحد من الشريكين من التصرف بعد المهايئات وما لا يملك. "أما" الأول فالمهايئات نوعان: نوع يرجع إلى المكان ونوع يرجع إلى الزمان. "أما" النوع الأول فهو أن يتهايآ في دار واحدة على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة منها يسكنها وأنه جائز؛ لأن المهايئات قسمة فتعتبر بقسمة العين, وقسمة العين على هذا الوجه جائزة فكذا قسمة المنافع, وكذا لو تهايئا على أن يأخذ أحدهما السفل والآخر العلو جاز ذلك؛ لما قلنا, ولا يشترط بيان المدة في هذا النوع؛ لأن قسمة المنافع ليست بمبادلة المنفعة؛ لأن مبادلة المنفعة بجنسها غير جائزة عندنا, كإجازة السكنى بالسكنى والخدمة بالخدمة, وكذلك لو تهايئا في دارين وأخذ كل واحد منهما دارا يسكنها أو يستغلها فهو جائز بالإجماع "أما" عند أبي يوسف ومحمد فلا شك فيه؛ لأن قسمة الجمع في عين الدور جائزة, فكذا في المنافع. "وأما" أبو حنيفة رحمه الله فيحتاج إلى الفرق بين العين وبين المنفعة. "وجه" الفرق له أن الدور في حكم أجناس مختلفة؛ لتفاحش التفاوت بين دار ودار في نفسها وبنائها وموضعها, ولا تجوز قسمة الجمع في جنسين مختلفين على ما مر. "وأما" التفاوت في المنافع فقل ما يتفاحش بل يتقارب, فلم تلتحق منافع الدارين بالأجناس المختلفة فجازت القسمة, وكذلك لو تهايئا في عبدين على الخدمة جاز بالإجماع. "أما" عندهما؛ فلأن قسمة الجمع في أعيان الرقيق جائزة, وكذا في منافعها. "ووجه" الفرق لأبي حنيفة رحمه الله على نحو ما ذكرنا في الدارين ولو تهايئا في عبدين فأخذ كل واحد منهما عبدا يخدمه وشرط كل واحد منهما على نفسه طعام العبد الذي يخدمه؛ جاز استحسانا, والقياس أن لا يجوز. "ووجهه" أن طعام كل واحد من العبدين على الشريكين جميعا على المناصفة, فاشتراط كل الطعام من كل واحد منهما على نفسه يخرج مخرج معاوضة بعض الطعام بالبعض, وإنها غير جائزة للجهالة. "ووجه" الاستحسان أن هذا النوع من الجهالة لا يفضي إلى المنازعة؛ لأن مبنى الطعام على المسامحة في العرف والعادة دون المضايقة, بخلاف ما إذا شرط كل واحد منهما على نفسه كسوة

 

ج / 7 ص -32-         العبد الذي يخدمه أنه لا يجوز؛ لأنه يجري في الكسوة من المضايقة ما لا يجري في الطعام في العرف والعادة, فكانت الجهالة في الكسوة مفضية إلى المنازعة, مع ما إن الجهالة في الكسوة تتفاحش بخلاف الطعام؛ لذلك افترقا, والله تعالى أعلم. "وأما" التهايؤ في الدواب بأن أخذ أحدهما دابة ليركبها والآخر دابة أخرى من جنسها يستغلها, وشرط الاستغلال فغير جائز عند أبي حنيفة, وعندهما جائز. "وجه" قولهما ظاهر؛ لأن قسمة الجمع في أعيان الدواب من جنس واحد جائزة, فكذا قسمة المنافع, ولأبي حنيفة الفرق بين المنفعة وبين المنفعة أنه جوز قسمة الجمع في أعيانها ولم يجوز في منافعها. "ووجه" الفرق أنها باعتبار أعيانها جنس واحد لكنها في منفعة الركوب في حكم جنسين مختلفين, بدليل أن من استأجر دابة ليركبها لم يملك أن يؤاجرها للركوب, ولو فعل لضمن, فأشبه اختلاف جنس المنفعة اختلاف جنس العين, واختلاف جنس العين عنده مانع جواز قسمة الجمع, كذا في المنفعة, بخلاف المهايئات في الدارين والعبدين أنها جائزة؛ لأن هناك المنافع متقاربة غير متفاحشة, بدليل أن المستأجر فيها يملك الإجارة من غيره فلم يختلف جنس المنفعة فجازت المهايئات. "وأما" النوع الثاني وهو المهايئات بالزمان فهو أن يتهايآ في بيت صغير على أن يسكنه هذا يوما, وهذا يوما, أو في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما, وهذا جائز؛ لقوله تبارك وتعالى {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أخبر سبحانه وتعالى عن نبيه سيدنا صالح عليه الصلاة والسلام المهايئات في الشرب, ولم ينكره سبحانه وتعالى, والحكيم إذا حكى عن منكر غيره, فدل على جواز المهايئات بالزمان بظاهر النص, وثبت جواز النوع الآخر من طريق الدلالة؛ لأنها أشبه بالمقاسمة من النوع الأول؛ ولأن جواز المهايئات بالزمان لمكان حاجات الناس, وحاجتهم إلى المهايئات بالمكان أشد؛ لأن الأعيان كلها في احتمال المهايئات بالزمان شرع, سواء من الأعيان ما لا يحتمل المهايئات بالمكان كالعبد والبيت الصغير ونحوهما, فلما جازت تلك فلأن تجوز هذه أولى, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان محل المهايئات فنقول ولا قوة إلا بالله تعالى جل شأنه: إن محلها المنافع دون الأعيان؛ لأنها قسمة المنفعة دون العين, فكان محلها المنفعة دون العين, حتى أنهما لو تهايئا في نخل أو شجر بين شريكين على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها؛ لا يجوز, وكذلك إذا تهايئا في الغنم المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهم قطيعا وينتفع بألبانها لا يجوز؛ لما ذكرنا أن هذا عقد قسمة المنافع, والثمر واللبن عين مال فلا تدخل تحت عقد المهايئات, ولو تهايئا في الأراضي المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهما نصفها ويذرع جاز؛ لأن ذلك قسمة المنافع, وهو معنى المهايئات, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما صفة المهايئات فهي أنها عقد غير لازم, حتى لو طلب أحدهما قسمة العين بعد المهايئات قسم الحاكم بينهما, وفسخ المهايئات؛ لأنها كالخلف عن قسمة العين, وقسمة العين كالأصل فيما شرعت له القسمة؛ لأن القسمة شرعت لتكميل منافع الملك, وهذا المعنى في قسمة العين أكمل؛ ولهذا لو طلب أحدهما القسمة قبل المهايئات؛ أجبره الحاكم على القسمة؛ فكان عقدا جائزا فاحتمل الفسخ كسائر العقود الجائزة, ولا يبطل بموت أحد الشريكين, بخلاف الإجارة؛ لأنها لو بطلت لأعادها القاضي للحال ثانيا فلا يفيد.