بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الغصب"
جمع محمد رحمه الله في كتاب الغصب بين مسائل الغصب وبين مسائل الإتلاف, وبدأ بمسائل الغصب, فنبدأ بما بدأ به

 

ج / 7 ص -143-       فنقول وبالله التوفيق: معرفة مسائل الغصب في الأصل مبنية على معرفة حد الغصب, وعلى معرفة حكم اختلاف الغاصب والمغصوب منه. "أما" حد الغصب فقد اختلف العلماء فيه قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: هو إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال وقال محمد رحمه الله: الفعل في المال ليس بشرط؛ لكونه غصبا وقال الشافعي رحمه الله: هو إثبات اليد على مال الغير بغير إذنه, والإزالة ليست بشرط. "أما" الكلام مع الشافعي رحمه الله فهو احتج لتمهيد أصله بقوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} جعل الغصب مصدر الأخذ, فدل أن الغصب والأخذ واحد, والأخذ: إثبات اليد, إلا أن الإثبات إذا كان بإذن المالك يسمى: إيداعا وإعارة وإبضاعا في عرف الشرع, وإذا كان بغير إذن المالك يسمى في متعارف الشرع: غصبا, ولأن الغصب إنما جعل سببا لوجوب الضمان بوصف كونه تعديا, فإذا وقع الإثبات بغير إذن المالك وقع تعديا, فيكون سببا لوجوب الضمان بوصف كونه تعديا, والدليل عليه: أن غاصب الغاصب ضامن, وإن لم يوجد منه إزالة يد المالك لزوالها بغصب الغاصب الأول, وإزالة الزائل محال, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ولنا" الاستدلال بضمان الغصب من وجهين: أحدهما: أن المالك استحق إزالة يد الغاصب عن الضمان, فلا بد وأن يكون الغصب منه إزالة يد المالك؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يشرع الاعتداء إلا بالمثل بقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} والثاني: أن ضمان الغصب لا يخلو إما أن يكون ضمان زجر, وإما أن يكون ضمان جبر, ولا سبيل إلى الأول؛ لأنه يجب على من ليس من أهل الزجر, ولأن الانزجار لا يحصل به, فدل أنه: ضمان جبر, والجبر يستدعي الفوات, فدل أنه لا بد من التفويت لتحقق الغصب, ولا حجة له في الآية؛ لأن الله تعالى فسر أخذ الملك تلك السفينة بغصبه إياها, كأنه قال سبحانه وتعالى: وكان وراءهم ملك يغصب كل سفينة وهذا لا يدل على أن كل أخذ غصب, بل هي حجة عليه؛ لأن غصب ذلك الملك كان إثبات اليد على السفينة مع إزالة أيدي المساكين عنها, فدل على أن الغصب إثبات على وجه يتضمن الإزالة. "وأما" قوله: الغصب إنما أوجب الضمان لكونه تعديا فمسلم, لكن التعدي في الإزالة لا في الإثبات؛ لأن وقوعه تعديا بوقوعه ضارا بالمالك, وذلك بإخراجه من أن يكون منتفعا به في حق المالك, وإعجازه عن الانتفاع به, وهو تفسير تفويت اليد وإزالتها. "فأما" مجرد الإثبات فلا ضرر فيه, فلم يكن الإثبات تعديا, وعلى هذا الأصل يخرج زوائد الغصب أنها ليست بمضمونة, سواء كانت منفصلة كالولد واللبن والثمرة, أو متصلة كالسمن والجمال؛ لأنها لم تكن في يد المالك وقت غصب الأم, فلم توجد إزالة يده عنها, فلم يوجد الغصب. وعند محمد مضمونة؛ لأن الغصب عنده: إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه, وقد وجد الغصب, وهل تصير مضمونة عندنا بالبيع والتسليم والمنع أو الاستهلاك أو الاستخدام جبرا. "أما" المنفصلة: فلا خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم في أنها تصير مضمونة بها. "وأما" المتصلة: فذكر في الأصل أنها تصير مضمونة بالبيع والتسليم, ولم يذكر الخلاف, وصورة المسألة: إذا غصب جارية قيمتها ألف درهم, فازدادت في بدنها خيرا حتى صارت قيمتها ألفي درهم فباعها, وسلمها إلى المشتري فهلكت في يده, فالمالك بالخيار إن شاء ضمن المشتري قيمتها ألفي درهم, وإن شاء ضمن البائع, فإن اختار تضمين المشتري ضمنه قيمتها يوم القبض ألفي درهم, وإن اختار تضمين البائع ضمنه بالبيع والتسليم قيمتها ألفي درهم أيضا, كذا ذكر في الأصل, ولم يذكر الخلاف. وحكى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله الخلاف: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله إن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم القبض ألفي درهم, وإن شاء ضمن الغاصب قيمتها يوم الغصب ألف درهم, وليس له أن يضمنه زيادة بالبيع والتسليم وكذا ذكره الحاكم الشهيد في المنتقى, وحكى الخلاف, وهكذا ذكر الطحاوي في مختصره, إلا أنه ذكر الاستهلاك مطلقا, فقال: إلا أن يستهلكها, وفسره الجصاص في شرحه مختصر الطحاوي فقال: إلا أن يكون عبدا أو جارية فيقتل, وهذا هو الصحيح, أن المغصوب إذا كان عبدا أو جارية فقتله الغاصب خطأ يكون المالك بالخيار, إن شاء ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب, وإن شاء ضمن عاقلة القاتل قيمته وقت القتل زائدة في ثلاث سنين. "وجه" قولهما أن البيع والتسليم غصب؛ لأنه تفويت إمكان الأخذ؛ لأن المالك

 

ج / 7 ص -144-       كان متمكنا من أخذه منه قبل البيع والتسليم, وبعد البيع والتسليم لم يبق متمكنا, وتفويت إمكان الأخذ تفويت اليد معنى, فكان غصبا موجبا للضمان, وهذا لأن تفويت يد المالك إنما كان غصبا موجبا للضمان؛ لكونه إخراج المال من أن يكون منتفعا به في حق المالك, وإعجازه عن الانتفاع بماله, وهذا يحصل بتفويت إمكان الأخذ فيوجب الضمان, ولهذا يجب الضمان على غاصب الغاصب ومودع الغاصب والمشتري من الغاصب, كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الأصل مضمون بالغصب الأول, فلا يقع البيع والتسليم غصبا له؛ لأن غصب المغصوب لا يتصور, والزيادة المتصلة لا يتصور إفرادها بالغصب لتصير مغصوبة بالبيع والتسليم, بخلاف الزيادة المنفصلة فإن إفرادها بالغصب بدون الأصل متصور, فلم تكن مغصوبة بالغصب الأول لانعدامها, فجاز أن تصير مغصوبة بالبيع والتسليم, فهذا الفرق بين الزيادتين, وبخلاف القتل؛ لأن قتل المغصوب متصور؛ لأن محل القتل غير محل الغصب, فمحل القتل هو الحياة, ومحل الغصب هو مالية العين, فتحقق الغصب لا يمنع تحقق القتل, إلا أن المضمون واحد, والمستحق للضمان واحد, فيخير, ولأن الأصل مضمون بالغصب السابق لا شك فيه, فيصير مملوكا للغاصب من ذلك الوقت بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله. "وأما" الزيادة المتصلة: فالزيادة حصلت على ملك الغاصب؛ لأنها نماء ملكه فتكون ملكه, فكان البيع والتسليم والمنع والاستخدام والاستهلاك في غير بني آدم تصرفا في ملك نفسه, فلا يكون مضمونا عليه, كما لو تصرف في سائر أملاكه بخلاف الزيادة المنفصلة؛ لأنا أثبتنا الملك بطريق الاستناد فالمستند يظهر من وجه ويقتصر على الحال من وجه, فيعمل بشبهة الظهور في الزوائد المتصلة وبشبهة الاقتصار في المنفصلة, إذ لا يكون العمل به على العكس ليكون عملا بالشبهين بقدر الإمكان. "وأما" على طريق الظهور المحض فتخريجهما مشكل والله تعالى الموفق, بخلاف القتل؛ لأن العبد إنما يضمن بالقتل من حيث إنه آدمي لا من حيث إنه مال, والغاصب إنما ملكه بالضمان من وقت الغصب من حيث إنه مال لا من حيث إنه آدمي؛ لأنه من حيث إنه آدمي لا يحتمل التملك, فلم يكن هو بالقتل متصرفا في ملك نفسه, لهذا افترقا والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم على أصلها: إذا اختار المالك تضمين البائع, هل يثبت له الخيار بين أن يضمنه ألفي درهم وقت البيع, وبين أن يضمنه ألف درهم وقت الغصب, قال بعض مشايخنا: يثبت, وهذا غير سديد؛ لأن التخيير بين القليل والكثير عند اتحاد الذمة من باب السفه, بخلاف التخيير بين البائع والمشتري عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هناك الذمة مختلفة, فمن الجائز أن يكون أحدهما مليا والآخر مفلسا, فكان التخيير مفيدا وبخلاف القتل؛ لأن ضمان القتل ضمان الدم وأنه مؤجل إلى ثلاث سنين, وضمان الغصب ضمان المال وأنه حال, فكان التخيير مفيدا, ثم إذا ضمن المالك الغاصب قيمة المغصوب وقت الغصب أو وقت البيع والتسليم جاز البيع؛ لأنه تبين أنه باع ملك نفسه والثمن له؛ لأنه بدل ملكه وإن ضمن المشتري قيمته وقت القبض بطل البيع ورجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأنه تبين أنه أخذه بغير حق. وليس له أن يرجع على البائع بالضمان, ولو غصب من إنسان شيئا, فجاء آخر وغصبه منه فهلك في يده, فالمالك بالخيار, إن شاء ضمن الأول, وإن شاء ضمن الثاني أما تضمين الأول فلوجود فعل الغصب منه: وهو تفويت يد المالك. وأما تضمينه الثاني؛ فلأنه فوت يد الغاصب الأول, ويده يد المالك من وجه؛ لأنه يحفظ ماله ويتمكن من رده على المالك ويستقر بهما الضمان في ذمته, فكانت منفعة يده عائدة إلى المالك, فأشبهت يد المودع, وقد وجد من كل واحد منهما سبب وجوب الضمان, إلا أن المضمون واحد فخيرنا المالك لتعين المستحق, فإن اختار أن يضمن الأول رجع بالضمان على الثاني؛ لأنه ملك المغصوب من وقت غصبه, فتبين أن الثاني غصب ملكه, وإن اختار تضمين الثاني لا يرجع على أحد؛ لأنه ضمن بفعل نفسه وهو تفويت يد المالك من وجه على ما بينا, وكذلك إن استهلكه الغاصب الثاني, ومتى اختار تضمين أحدهما, هل يبرأ الآخر عن الضمان بنفس الاختيار؟ ذكر في الجامع أنه يبرأ, حتى لو أراد تضمينه بعد ذلك لم يكن له ذلك. وروى ابن سماعة رحمه الله في نوادره عن محمد أنه لا يبرأ ما لم يرض من اختار تضمينه أو يقضي به عليه. "وجه" رواية النوادر أن عند وجود الرضا أو القضاء بالضمان صار المغصوب ملكا للذي ضمنه؛ لأنه باعه منه, فلا يملك

 

ج / 7 ص -145-       الرجوع بعد تمليكه, كما لو باعه من الأول, فأما قبل وجود الرضا أو القضاء بالضمان صار المغصوب ملكا للذي ضمنه؛ لأنه باعه منه, فلا يملك الرجوع بعد تمليكه, كما لو باعه من الأول, فأما قبل وجود الرضا أو القضاء, فلم يوجد منه التمليك من أحدهما, فله أن يملكه من أيهما شاء. "وجه" رواية الجامع ما ذكرنا أنه باختياره تضمين الغاصب الآخر أظهر أنه راض بأخذ الأول, وإنه بمنزلة المودع, وباختيار تضمين الأول أظهر أن الثاني ما أتلف عليه شيئا؛ لأنه لم يفوت يده والله سبحانه وتعالى أعلم ولو باع الغاصب المغصوب من الثاني فهلك في يده, يتخير المالك فيضمن أيهما شاء, فإن ضمن الغاصب جاز بيعه والثمن له لما ذكرنا. وإن ضمن المشتري بطل البيع ولا يرجع بالضمان على البائع, ولكنه يرجع بالثمن عليه لما ذكرنا, وكذلك لو استهلكه المشتري, ولو كان المغصوب عبدا فأعتقه المشتري من الغاصب, ثم أجاز المالك البيع, نفذ إعتاقه استحسانا, وعند محمد وزفر رحمهما الله لا ينفذ قياسا, ولا خلاف في أنه لو باعه المشتري, ثم أجاز المالك البيع الأول أنه لا ينفذ البيع الثاني. "وجه" القياس ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ولا ملك للمشتري في العبد"؛ لأنه ملك المغصوب منه, فلا ينعقد إعتاقه فيه فينفذ عليه عند الإجازة, ولهذا لم ينفذ بيعه. "وجه" الاستحسان أن إعتاق المشتري صادف ملكا على التوقف فينعقد على التوقف, كالمشتري من الوارث عبدا من التركة المستغرقة بالدين إذا أعتقه, ثم أبرأ الغرماء الميت عن ديونهم, والدليل على أن الإعتاق صادف ملكا على التوقف: أن سبب الملك انعقد على التوقف وهو البيع المطلق الخالي عن الشرط ممن هو من أهل البيع في محل قابل, إلا أنه لم ينفذ دفعا للضرر عن المالك, ولا ضرر عليه في التوقف فيتوقف, وإذا توقف سبب الملك يتوقف الملك فيتوقف الإعتاق, بخلاف البيع فإنه يعتمد شروطا أخر, ألا ترى أنه لا يجوز بيع المنقول قبل القبض مع قيام الملك لمعنى الغرر, وفي توقيف نفاذ البيع الأول تحقيق معنى الغرر, ولو أودع الغاصب المغصوب فهلك في يد المودع يتخير المالك في التضمين, فإن ضمن الغاصب لا يرجع بالضمان على أحد؛ لأنه تبين أنه أودع ملك نفسه. وإن ضمن المودع يرجع على الغاصب؛ لأنه غره بالإيداع فيرجع عليه بضمان الغرر, وهو ضمان الالتزام في الحقيقة, ولو استهلكه المودع فالجواب على القلب من الأول أنه إن ضمن الغاصب فالغاصب يرجع بالضمان على المودع؛ لأنه تبين أنه استهلك ماله, وإن ضمن المودع لم يرجع على الغاصب؛ لأنه ضمن بفعل نفسه, فلا يرجع على أحد, ولو آجر الغاصب المغصوب أو رهنه من إنسان فهلك في يده يتخير المالك, فإن ضمن الغاصب لا يرجع على المستأجر والمرتهن؛ لأنه تبين أنه آجر ورهن ملك نفسه, إلا أن في الرهن يسقط دين المرتهن على ما هو حكم هلاك الرهن, وإن ضمن المستأجر أو المرتهن يرجع على الغاصب بما ضمن, والمرتهن يرجع بدينه أيضا. أما رجوع المرتهن بالضمان, فلا شك فيه لصيرورته مغرورا. وأما رجوع المستأجر؛ فلأنه وإن استفاد ملك المنفعة لكن بعوض وهو الأجرة فيتحقق الغرور فأشبه المودع, ولو استهلكه المستأجر أو المرتهن يتخير المالك, إلا أنه إن ضمن الغاصب يرجع على المستأجر والمرتهن؛ لأنه تبين أنه آجر ملك نفسه ورهن ملك نفسه فاستهلكه المستأجر والمرتهن, وإن ضمن المستأجر أو المرتهن لم يرجع على أحد؛ لأنه ضمن بفعل نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أعاره الغاصب فهلك في يد المستعير يتخير المالك, وأيهما ضمن لا يرجع بالضمان على صاحبه أما الغاصب, فلا شك فيه؛ لأنه أعار ملك نفسه فهلك في يد المستعير. وأما المستعير فلأنه استفاد ملك المنفعة فلم يتحقق الغرور والله تعالى أعلم. وعلى هذا تخرج منافع الأعيان المنقولة المغصوبة أنها ليست بمضمونة عندنا, وعند الشافعي رحمه الله مضمونة, نحو ما إذا غصب عبدا أو دابة فأمسكه أياما ولم يستعمله, ثم رده على مالكه؛ لأنه لم يوجد تفويت يد المالك عن المنافع؛ لأنها أعراض تحدث شيئا فشيئا على حسب حدوث الزمان, فالمنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك, فلم يوجد تفويت يد المالك عنها, فلم يوجد الغصب, وعنده حد الغصب إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه. وقد وجد في المنافع والمنفعة مال بدليل أنه يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة, وتصلح مهرا في النكاح, فتحقق الغصب فيها, فيجب الضمان, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب دارا أو عقارا فانهدم شيء من

 

ج / 7 ص -146-       البناء, أو جاء سيل فذهب بالبناء والأشجار, أو غلب الماء على الأرض فبقيت تحت الماء أنه لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأبي يوسف الآخر, وعند محمد وهو قول أبي يوسف الأول يضمن, وهو قول الشافعي رحمه الله أما الشافعي فقد مر على أصله في تحديد الغصب أنه إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه, وهذا يوجد في العقار, كما يوجد في المنقول. وأما محمد رحمه الله تعالى فقد مر على أصله في حد الغصب أنه إزالة يد المالك عن ماله, والفعل في المال ليس بشرط, وقد وجد تفويت يد المالك عن العقار؛ لأن ذلك عبارة عن إخراج المال من أن يكون منتفعا به في حق المالك, أو إعجاز المالك عن الانتفاع به, وهذا كما يوجد في المنقول يوجد في العقار فيتحقق الغصب, والدليل عليه مسألة ذكرناها في الرجوع عن الشهادات وهي: أن من ادعى على آخر دارا فأنكر المدعى عليه فأقام المدعي شاهدين وقضى القاضي بشهادتهما, ثم رجعا يضمنان. كما لو كانت الدعوى في المنقول, فقد سوى بين العقار والمنقول في ضمان الرجوع, فدل أن الغصب الموجب للضمان يتحقق فيهما جميعا وأما أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فمرا على أصلهما أن الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال ولم يوجد في العقار, والدليل على أن هذا شرط تحقق الغصب: الاستدلال بضمان الغصب, فإن أخذ الضمان من الغاصب تفويت يده عنه بفعل في الضمان, فيستدعي وجود مثله منه في المغصوب, ليكون اعتداء بالمثل, وعلى أنهما إن سلما تحقق الغصب في العقار, فالأصل في الغصب أن لا يكون سببا لوجوب الضمان؛ لأن أخذ الضمان من الغاصب إتلاف ماله عليه. ألا ترى أنه تزول يده وملكه عن الضمان, فيستدعي وجود الإتلاف منه إما حقيقة أو تقديرا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الاعتداء, إلا بالمثل, قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ولم يوجد هاهنا الإتلاف من الغاصب لا حقيقة ولا تقديرا أما الحقيقة فظاهرة. وأما التقدير فلأن ذلك بالنقل والتحويل والتغييب عن المالك على وجه لا يقف على مكانه, ولهذا لو حبس رجلا حتى ضاعت مواشيه, وفسد زرعه لا ضمان عليه, والعقار لا يحتمل النقل والتحويل, فلم يوجد الإتلاف حقيقة وتقديرا فينتفي الضمان لضرورة النص, وعلى هذا الاختلاف إذا غصب عقارا فجاء إنسان فأتلفه فالضمان على المتلف عندهما؛ لأن الغصب لا يتحقق في العقار فيعتبر الإتلاف, وعند محمد يتحقق الغصب فيه فيتخير المالك, فإن اختار تضمين الغاصب فالغاصب يرجع بالضمان على المتلف, وإن اختار تضمين المتلف لا يرجع على أحد؛ لأنه ضمن بفعل نفسه. "وأما" مسألة الرجوع عن الشهادة فمن أصحابنا من منعها, وقال: إن محمدا رحمه الله بنى الجواب على أصل نفسه, فأما على قولهما فلا يضمنان, ومنهم من سلم ولا بأس بالتسليم؛ لأن ضمان الرجوع ضمان إتلاف لا ضمان غصب والعقار مضمون بالإتلاف بلا خلاف, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب صبيا حرا من أهله فمات في يده من غير آفة أصابته, بأن مرض في يده فمات, أنه لا يضمن؛ لأن كون المغصوب مالا شرط تحقق الغصب, والحر ليس بمال ولو مات في يده بآفة بأن عقره أسد أو نهشته حية ونحو ذلك يضمن لوجود الإتلاف منه تسبيبا, والحر يضمن بالإتلاف مباشرة وتسبيبا على ما نذكره في مسائل الإتلاف إن شاء الله تعالى ولو غصب مدبرا فهلك في يده يضمن؛ لأن المدبر مال متقوم, إلا أنه امتنع جواز بيعه إذا كان مدبرا مطلقا مع كونه مالا متقوما لانعقاد سبب الحرية للحال. وفي البيع إبطال السبب على ما عرف, وكذلك لو غصب مكاتبا فهلك في يده؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مالا متقوما, ومعتق البعض بمنزلة المكاتب على أصل أبي حنيفة فكان مضمونا بالغصب كالمكاتب, وعلى أصلهما هو حر عليه دين, والحر لا يضمن بالغصب, ولو غصب أم ولد إنسان فهلكت عندهم لم يضمن عند أبي حنيفة رضي الله عنه, وعندهما يضمن, وأم الولد لا تضمن بالغصب, ولا بالقبض في البيع الفاسد, ولا بالإعتاق كجارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه جميعا, ثم أعتقها أحدهما لا يضمن لشريكه شيئا, ولا تسعى هي في شيء أيضا عنده, وعندهما يضمن في ذلك كله كالمدبر, ولقب المسألة: أن أم الولد هل هي متقومة من حيث إنها مال أم لا ولا خلاف أنها متقومة بالقتل, ولا خلاف في أن المدبر متقوم. "وجه" قولهما أنها كانت مالا متقوما, والاستيلاد لا يوجب المالية والتقوم؛ لأنه

 

ج / 7 ص -147-       لا يثبت به إلا حق الحرية فإنه لا يبطل المالية والتقوم, كما في المدبر. "وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاستيلاد إعتاق لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في جاريته مارية: "أعتقها ولدها" فظاهره يقتضي ثبوت العتق للحال في جميع الأحكام, إلا أنه تأخر في حق بعض الأحكام, فمن ادعى التأخر في حق سقوط المالية والتقوم فعليه الدليل بخلاف المدبر؛ لأن التدبير ليس بإعتاق للحال على معنى أنه لا يثبت به العتق للحال أصلا, وإنما الموجود للحال مباشرة سبب العتق من غير عتق, وهذا لا يمنع بقاء المالية والتقويم, ويمنع جواز البيع لما قلنا, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب جلد ميتة لذمي أو لمسلم فهلك في يده أو استهلكه أنه لا يضمن؛ لأن الميتة والدم ليسا بمال في الأديان كلها. ولو دبغه الغاصب وصار مالا فحكمه نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب خمرا لمسلم أو خنزيرا له فهلك في يده أنه لا يضمن, سواء كان الغاصب مسلما أو ذميا؛ لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وكذا الخنزير, فلا يضمنان بالغصب. ولو غصب خمرا أو خنزيرا لذمي فهلك في يده يضمن سواء كان الغاصب ذميا أو مسلما غير أن الغاصب إن كان ذميا فعليه في الخمر مثلها, وفي الخنزير قيمته وإن كان مسلما فعليه القيمة فيهما جميعا, وهذا عندنا وقال الشافعي: لا ضمان على غاصب الخمر والخنزير كائنا من كان. "وجه" قوله: أن حرمة الخمر والخنزير ثابتة في حق الناس كافة لقوله سبحانه وتعالى في صفة الخمور أنه: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وصفة المحل لا تختلف باختلاف الشخص وقوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" أخبر عليه الصلاة والسلام كونها محرمة وجعل علة حرمتها عينها, فتدور الحرمة مع العين, وإذا كانت محرمة لا تكون مالا؛ لأن المال ما يكون منتفعا به حقيقة, مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق. "ولنا" ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المعروف: "فأعلموهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" وللمسلم الضمان إذا غصب منه خله وشاته ونحو ذلك إذا هلك في يد الغاصب, فيلزم أن يكون للذمي الضمان إذا غصب منه خمره أو خنزيره؛ ليكون لهم ما للمسلمين عملا بظاهر الحديث وأما الكلام في المسألة من حيث المعنى: فبعض مشايخنا قالوا: الخمر مباح في حق أهل الذمة وكذا الخنزير, فالخمر في حقهم كالخل في حقنا, والخنزير في حقهم كالشاة في حقنا في حق الإباحة شرعا. فكان كل واحد منهما مالا متقوما في حقهم, ودليل الإباحة في حقهم أن كل واحد منهم منتفع به حقيقة؛ لأنه صالح لإقامة مصلحة البقاء, والأصل في أسباب البقاء هو الإطلاق, إلا أن الحرمة في حق المسلم تثبت نصا غير معقول المعنى, أو معقول المعنى لمعنى لا يوجد هاهنا, أو يوجد لكنه يقتضي الحل لا الحرمة, وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} لأن الصد لا يوجد في الكفرة, والعداوة فيما بينهم واجب الوقوع, ولأنها سبب المنازعة والمنازعة سبب الهلاك, وهذا يوجب الحل لا الحرمة, فلا تثبت الحرمة في حقهم, وبعضهم قالوا: إن الحرمة ثابتة في حقهم, كما هي ثابتة في حق المسلمين؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات عندنا, وهو الصحيح من الأقوال على ما عرف في أصول الفقه, وعلى هذا طريق وجوب الضمان وجهان:. أحدهما: أن الخمر, وإن لم يكن مالا متقوما في الحال فهي بعرض أن تصير مالا متقوما في الثاني بالتخلل والتخليل, ووجوب ضمان الغصب والإتلاف يعتمد كون المحل المغصوب والمتلف مالا متقوما في الجملة ولا يقف على ذلك للحال, ألا ترى أن المهر والجحش وما لا منفعة له في الحال مضمون بالغصب والإتلاف, والثاني: أن الشرع منعنا عن التعرض لهم بالمنع عن شرب الخمر وأكل الخنزير؛ لما روي عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال: "أمرنا بأن نتركهم وما يدينون", ومثله لا يكذب, وقد دانوا شرب الخمر وأكل الخنزير فلزمنا ترك التعرض لهم في ذلك, وبقي الضمان بالغصب والإتلاف يفضي إلى التعرض؛ لأن السفيه إذا علم أنه إذا غصب أو أتلف لا يؤاخذ بالضمان يقدم على ذلك, وفي ذلك منعهم وتعرض لهم من حيث المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو كان لمسلم خمر غصبها ذمي أو مسلم فهلكت عند الغاصب أو خللها, فلا ضمان عليه, ولو استهلكها يضمن خلا مثلها؛ لأن الغصب حين وجوده لم ينعقد سببا لوجوب الضمان, ولم يوجد من الغاصب صنع آخر؛ لأن الهلاك ليس من صنعه, فلا يضمن, وإن استهلكه فقد وجد منه

 

ج / 7 ص -148-       صنع آخر سوى الغصب, وهو إتلاف خل مملوك للمغصوب منه فيضمن ولو غصب مسلم من نصراني صليبا له فهلك في يده يضمن قيمته صليبا؛ لأنه مقر على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا استخدم عبد رجل بغير أمره, أو بعثه في حاجة, أو قاد دابة له, أو ساقها, أو ركبها, أو حمل عليها بغير إذن صاحبها أنه ضامن بذلك, سواء عطب في تلك الخدمة أو في مضيه في حاجته أو مات حتف أنفه؛ لأن يد المالك كانت ثابتة عليه. وإذا أثبت يد التصرف عليه فقد فوت يد المالك فيتحقق الغصب ولو دخل دار إنسان بغير إذنه, وليس في الدار أحد فهلك في يده لم يضمن في قولهما, وعند محمد يضمن, وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم ولو جلس على فراش غيره أو بساط غيره بغير إذنه فهلك لا يضمن بالإجماع؛ لأن تفويت يد المالك فيما يحتمل النقل لا يحصل بدون النقل, فلم يتحقق الغصب, فلا يجب الضمان والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم الغصب فله في الأصل حكمان: أحدهما: يرجع إلى الآخرة, والثاني: يرجع إلى الدنيا. أما الذي يرجع إلى الآخرة فهو الإثم واستحقاق المؤاخذة إذا فعله عن علم؛ لأنه معصية, وارتكاب المعصية على سبيل التعمد سبب لاستحقاق المؤاخذة, وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى من سبع أرضين يوم القيامة" وإن فعله لا عن علم, بأن ظن أنه ملكه فلا مؤاخذة عليه؛ لأن الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعا ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بقوله عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". "وأما" الذي يرجع إلى الدنيا, فأنواع: بعضها يرجع إلى حال قيام المغصوب, وبعضها يرجع إلى حال هلاكه, وبعضها يرجع إلى حال نقصانه, وبعضها يرجع إلى حال زيادته. "أما" الذي يرجع إلى حال قيامه فهو وجوب رد المغصوب على الغاصب, والكلام في هذا الحكم في ثلاثة مواضع: في بيان سبب وجوب الرد, وفي بيان شرط وجوبه, وفي بيان ما يصير المالك به مستردا أما السبب فهو أخذ مال الغير بغير إذنه لقوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد", وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يأخذ أحدكم مال صاحبه لاعبا ولا جادا, فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليرد عليه" ولأن الأخذ على هذا الوجه معصية, والردع عن المعصية واجب, وذلك برد المأخوذ, ويجب رد الزيادة المنفصلة, كما يجب رد الأصل؛ لوجود سبب وجوب الرد فيه, ومؤنة الرد على الغاصب؛ لأنها من ضرورات الرد, فإذا وجب عليه الرد وجب عليه ما هو من ضروراته, كما في رد العارية. "وأما" شرط وجوب الرد فقيام المغصوب في يد الغاصب حتى لو هلك في يده أو استهلك صورة ومعنى, أو معنى لا صورة, ينتقل الحكم من الرد إلى الضمان؛ لأن الهالك لا يحتمل الرد, وعلى هذا يخرج ما إذا كان المغصوب حنطة فزرعها الغاصب أو نواة فغرسها حتى نبتت, أو باقلة فغرسها حتى صارت شجرة, أو بيضة فحضنها حتى صارت دجاجة, أو قطنا فغزله, أو غزلا فنسجه, أو ثوبا فقطعه أو خاطه قميصا, أو لحما فشواه أو طبخه, أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها, أو حنطة فطحنها, أو دقيقا فخبزه, أو سمسما فعصره, أو عنبا فعصره, أو حديدا فضربه سيفا, أو سكينا أو صفرا أو نحاسا فعمله آنية, أو ترابا له قيمة فلبنه أو اتخذه خزفا, أو لبنا فطبخه آجرا, ونحو ذلك: أنه ليس للمالك أن يسترد شيئا من ذلك عندنا, ويزول ملكه بضمان المثل أو القيمة. وعند الشافعي له ولاية الاسترداد, ولا يزول ملكه وجه قوله: أن ذات المغصوب وعينه قائم بعد فعل الغاصب, وإنما فات بعض صفاته, فلا يبطل حق الاسترداد, كما إذا غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه, أو صبغه أحمر أو أصفر؛ لأن الملك في المغصوب كان ثابتا للمالك, والعارض وهو فعل الغاصب محظور, فلا يصلح سببا لثبوت الملك له, فيلحق بالعدم, فيبقى المغصوب على ملك المالك, فتبقى له ولاية الاسترداد. "ولنا" أن فعل الغاصب في هذه المواضع وقع استهلاكا للمغصوب إما صورة ومعنى أو معنى لا صورة, فيزول ملك المالك عنه, وتبطل ولاية الاسترداد, كما إذا استهلكه حقيقة, ودلالة تحقق الاستهلاك أن المغصوب قد تبدل وصار شيئا آخر بتخليق الله تعالى وإيجاده؛ لأنه لم تبق صورته ولا معناه الموضوع له في بعض المواضع ولا اسمه, وقيام الأعيان بقيام صورها

 

ج / 7 ص -149-       ومعانيها المطلوبة منها, وفي بعضها إن بقيت الصورة فقد فات معناه الموضوع له المطلوب منه عادة, فكان فعله استهلاكا للمغصوب صورة ومعنى أو معنى فيبطل حق الاسترداد, إذ الهالك لا يحتمل الرد كالهالك الحقيقي, ولأنه إذا حصل الاستهلاك يزول ملك المالك؛ لأن الملك لا يبقى في الهالك, كما في الهالك الحقيقي, فتنقطع ولاية الاسترداد ضرورة, ولأن الاستهلاك يوجب ضمان المثل أو القيمة للمالك لوقوعه اعتداء عليه أو إضرارا به, وهذا يوجب زوال ملكه عن المغصوب لما نذكره إن شاء الله تعالى. وإذا زال ملك المالك بالضمان يثبت الملك للغاصب في المضمون لوجود سبب الثبوت في محل قابل, وهو إثبات الملك على مال غير مملوك لأحد, وبه تبين أن فعله الذي هو سبب لثبوت الملك مباح لا حظر فيه, فجاز أن يثبت الملك به, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب لبنا أو آجرا أو ساجة فأدخلها في بنائه أنه لا يملك الاسترداد عندنا, وتصير ملكا للغاصب بالقيمة خلافا للشافعي رحمه الله فهو على أصله المعهود في جنس هذه المسائل أن فعل الغاصب محظور, فلا يصلح سببا لثبوت الملك, لكون الملك نعمة وكرامة فالتحق فعله بالعدم شرعا فبقي ملك المغصوب منه, كما كان. "ولنا" أن المغصوب بالإدخال في البناء والتركيب صار شيئا آخر غير الأول لاختلاف المنفعة, إذ المطلوب من المركب غير المطلوب من المفرد, فصار بها تبعا له, فكان الإدخال إهلاكا معنى فيوجب زوال ملك المغصوب منه ويصير ملكا للغاصب, ولأن الغاصب يتضرر بنقض البناء, والمالك وإن كان يتضرر بزوال ملكه أيضا لكن ضرره دون ضرر الغاصب؛ لأنه يقابله عوض, فكان ضرر الغاصب أعلى, فكان أولى بالدفع, ولهذا لو غصب من آخر خيطا فخاط به بطن نفسه أو دابته ينقطع حق المالك, كذا هذا وذكر الكرخي رحمه الله أن موضوع مسألة الساجة ما إذا بنى الغاصب في حوالي الساجة لا على الساجة, فأما إذا بنى على نفس الساجة لا يبطل ملك المالك, بل ينقض, وهو اختيار الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله؛ لأن البناء إذا لم يكن على نفس الساجة, لم يكن الغاصب متعديا بالبناء لينقض إزالة للتعدي. وإذا كان البناء عليها كان متعديا على الساجة, فيزال تعديه بالنقض, والصحيح أن الجواب في الموضعين, والخلاف في الفصلين ثابت؛ لأنه كيف ما كان لا يمكنه رد الساجة, إلا بنقض البناء ولزوم ضرر معتبر, هذا موضوع المسألة, حتى لو كان يمكنه الرد بدون ذلك لا ينقطع حق المالك بالاتفاق, بل يؤمر بالرد, ولو بيعت الدار في حياة الغاصب أو بعد وفاته كان صاحب هذه الأشياء أسوة الغرماء في الثمن, فلا يكون أخص بشيء من ذلك؛ لأن ملكه قد زال عن العين إلى القيمة, فبطل اختصاصه بالعين, وكذلك لو غصب خوصا فجعله زنبيلا لا سبيل للمغصوب منه عليه, وهو بمنزلة الساجة إذا جعلها بناء, ولو غصب نخلة فشقها فجعلها جذوعا كان له أن يأخذ الجذوع؛ لأن عين المغصوب قائمة. وإنما فرق الأجزاء فأشبه الثوب إذا قطعه ولم يخطه, ولو غصب أرضا فبنى عليها أو غرس فيها لا ينقطع ملك المالك, ويقال للغاصب أقلع البناء والغرس وردها فارغة؛ لأن الأرض بحالها لم تتغير ولم تصر شيئا آخر, ألا ترى أنها لم تتركب بشيء, وإنما جاورها البناء والغرس بخلاف الساجة؛ لأنها ركبت وصارت من جملة البناء, ألا يرى أنه يسمي الكل بناء واحدا, فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا, ويكون له البناء والغرس؛ لأن الغاصب يتضرر بالمنع من التصرف في ملك نفسه بالقلع, والمالك أيضا يتضرر بنقصان ملكه, فلزم رعاية الجانبين, وذلك فيما قلنا, ولو غصب تبر ذهب أو فضة فصاغه إناء, أو ضربه دراهم أو دنانير فللمغصوب منه أن يأخذه ولا يعطيه شيئا لأجل الصياغة على قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما لا سبيل له على ذلك, وعلى الغاصب مثل ما غصب. وأجمعوا على أنه إذا سبكه ولم يصغه, أو جعله مربعا أو مطولا أو مدورا أن له أن يسترده, ولا شيء عليه. "وجه" قولهما أن صنع الغاصب وقع استهلاكا؛ لأن المغصوب بالصياغة صار شيئا آخر, فأشبه ما إذا غصب حديدا فاتخذه سيفا أو سكينا وجه قوله أن استهلاك الشيء إخراجه من أن يكون منتفعا به منفعة موضوعة له مطلوبة منه عادة, ولم يوجد هاهنا؛ لأن المطلوب من الذهب والفضة الثمنية, وهي باقية بعد ما استحدث الصنعة, فلم يتحقق الاستهلاك فبقي على ملك المغصوب منه, ولو غصب صفرا أو نحاسا أو حديدا فضربه آنية ينظر إن

 

ج / 7 ص -150-       كان يباع وزنا فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الذهب والفضة؛ لأنه لم يخرج بالضرب والصناعة عن حد الوزن. وإن كان يباع عددا ليس له أن يسترده بلا خلاف؛ لأنه خرج عن كونه موزونا بخلاف الذهب والفضة؛ لأن الوزن فيهما أصل لا يتصور سقوطه أبدا, ولو غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه, أو شاة فذبحها ولم يشوها ولا طبخها لا ينقطع حق المالك, إذ الذبح ليس باستهلاك, بل هو تنقيص وتعييب, فلا يوجب زوال الملك, بل يوجب الخيار للمالك على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. "وأما" بيان ما يصير المالك به مستردا للمغصوب فنقول وبالله التوفيق: الأصل أن المالك يصير مستردا للمغصوب بإثبات يده عليه؛ لأنه صار مغصوبا بتفويت يده عنه, فإذا أثبت يده عليه, فقد أعاده إلى يده فزالت يد الغاصب ضرورة, إلا أن يغصبه ثانيا. وعلى هذا تخرج المسائل إذا كان المغصوب عبدا فاستخدمه, أو ثوبا فلبسه, أو دابة فركبها أو حمل عليها صار مستردا له, ويبرأ الغاصب من الضمان لما قلنا سواء علم المالك أنه ملكه أو لم يعلم؛ لأن إثبات اليد على العين أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل, ولهذا لم يكن العلم شرطا لتحقق الغصب, فلا يكون شرطا لبطلانه, وكذلك لو كان طعاما فأكله؛ لأنه أثبت يده عليه فبطلت يد الغاصب, وكذا إذا أطعمه الغاصب يبرأ عن الضمان عندنا, وعند الشافعي رحمه الله لا يبرأ وجه قوله أنه غره في ذلك حيث أطعمه ولم يعلمه أنه ملكه, فلا يسقط عنه الضمان. "ولنا" أنه أكل طعام نفسه, فلا يستحق الضمان على غيره, كما لو كان في يد الغاصب فاستهلكه, وقوله غره الغاصب ممنوع, بل هو الذي اغتر بنفسه حيث تناول من غير بحث أنه ملكه أو ملك الغاصب, والمغتر بنفسه لا يستحق الضمان على غيره, ولو كان المغصوب عبدا فآجره من الغاصب للخدمة, أو ثوبا فآجره منه للبس, أو دابة للركوب وقبل الغاصب الإجارة برئ عن الضمان؛ لأن الإجارة إذا صحت صارت يد الغاصب على المحل يد إجارة, وأنها يد محقة فتبطل يد الغصب ضرورة, فيبرأ عن الضمان حين وجبت عليه الإجارة بالإجارة, وقالوا في الغاصب إذا آجر العبد المغصوب من مولاه ليبني له حائطا معلوما أنه يسقط ضمان الغصب حين يبتدئ بالبناء؛ لأن البراءة عن الضمان في الموضعين جميعا متعلقة بوجوب الأجرة, والأجرة في استئجار العبد والثوب تجب بالتسليم وهو التخلية. وههنا تجب بالعمل لا بنفس التخلية؛ لذلك افترقا, ولو زوج الأمة المغصوبة من الغاصب لا يبرأ عن الضمان في. قياس. قول أبي حنيفة رحمه الله, وعند أبي يوسف يبرأ بناء على أن المشتري هل يصير قابضا بالتزويج أم لا؟ وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع في بيان حكم البيع, ولو استأجر الغاصب لتعليم العبد المغصوب عملا من الأعمال فهو جائز, لكنه لا يصير مستردا للعبد ولا يبرأ الغاصب عن الضمان, بل هو في يد الغاصب على ضمانه, حتى لو هلك قبل أن يأخذ في ذلك العمل أو بعده ضمن. وكذلك لو استأجره لغسل الثوب المغصوب؛ لأن الإجارة هاهنا ما وقعت على المغصوب, فلم تثبت يد الإجارة عليه لتبطل عنه يد الغاصب, فبقي في يد الغصب كما كان, فبقي مضمونا كما كان بخلاف استئجار المغصوب على ما بينا, وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الغاصب الأول برئ؛ لأن يده يد المالك من وجه فيصح الرد عليه والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الذي يتعلق بحال هلاك المغصوب فنوعان: أحدهما: وجوب الضمان على الغاصب, والثاني: ملك الغاصب المضمون. "أما" وجوب الضمان فالكلام فيه في مواضع: في بيان كيفية الضمان, وفي بيان شرط وجوبه, وفي بيان وقت وجوبه, وفي بيان ما يخرج به الغاصب عن عهدته. "أما" الأول فالمغصوب لا يخلو إما أن يكون مما له مثل, وإما أن يكون مما لا مثل له, فإن كان مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة, فعلى الغاصب مثله؛ لأن ضمان الغصب ضمان اعتداء, والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل, قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى, فأما القيمة فمثل من حيث المعنى دون الصورة, ولأن ضمان الغصب ضمان جبر الفائت, ومعنى الجبر بالمثل أكمل منه من القيمة, فلا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند التعذر, وقال زفر رحمه الله: الجوز والبيض مضمونان بالقيمة لا بالمثل. وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع, وإن كان مما لا مثل له من المذروعات والمعدودات المتفاوتة فعليه قيمته؛ لأنه تعذر إيجاب المثل صورة ومعنى؛ لأنه لا مثل له فيجب

 

ج / 7 ص -151-       المثل معنى وهو القيمة؛ لأنها المثل الممكن, والأصل في ضمان القيمة ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في عبد بين شريكين أعتق أحدهما نصيبه بنصف قيمته للذي لم يعتق والنص الوارد في العبد يكون واردا في إتلاف كل ما لا مثل له دلالة والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" شرط وجوب الضمان فشرط وجوب ضمان المثل والقيمة على الغاصب: عجزه عن رد المغصوب, فما دام قادرا على رده على الوجه الذي أخذه لا يجب عليه الضمان؛ لأن الحكم الأصلي للغصب: هو وجوب رد عين المغصوب؛ لأن بالرد يعود عين حقه إليه وبه يندفع الضرر عنه من كل وجه والضمان خلف عن رد العين, وإنما يصار إلى الخلف عند العجز عن رد الأصل, وسواء عجز عن الرد بفعله بأن استهلكه, أو بفعل غيره بأن استهلكه غيره, أو بآفة سماوية بأن هلك بنفسه؛ لأن المحل إنما صار مضمونا بالغصب السابق؛ لأن فعله ذلك لا بالهلاك؛ لأن الهلاك ليس صنعه, لكن عند الهلاك يتقرر الضمان؛ لأن عنده يتقرر العجز عن رد العين فيتقرر الضمان. وعلى هذا يخرج ما إذا ادعى الغاصب هلاك المغصوب, ولم يصدقه المغصوب منه أنه يطلب منه بينة, فإن أقامها وإلا حبسه القاضي مدة يغلب على ظنه أنه لو كان في يده لأظهره, ثم قضى عليه بالضمان؛ لأن بذلك ثبت عجزه عن رد العين فيحبس, كمن كان عليه دين فطولب به فادعى الإفلاس, ومن شرط الخطاب بأداء الضمان أن يكون المثل موجودا في أيدي الناس, حتى لو غصب شيئا له مثل, ثم انقطع عن أيدي الناس لا يخاطب بأدائه للحال؛ لأنه ليس بمقدور, بل يخاطب بالقيمة, ولو اختصما في حال انقطاعه عن أيدي الناس, فقد اختلف أصحابنا الثلاثة: قال أبو حنيفة: يحكم على الغاصب بقيمته يوم يختصمون, وقال أبو يوسف رحمه الله: يوم الغصب, وقال محمد رحمه الله: يوم الانقطاع وجه قوله أن الغصب أوجب المثل على الغاصب والمصير إلى القيمة للتعذر, والتعذر حصل بسبب الانقطاع, فتعتبر قيمته يوم الانقطاع, كما لو استهلكه في ذلك الوقت. وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن سبب وجوب ضمان المثل عند القدرة, والقيمة عند العجز هو الغصب, والحكم يعتبر من وقت وجود سببه وجه قول أبي حنيفة عليه الرحمة أن الواجب كان مثل المغصوب, وبالانقطاع عن أيدي الناس لم يبطل الواجب؛ لأن الأصل أن ما ثبت يبقى لتوهم الفائدة, وتوهم العود ههنا ثابت, ألا ترى أن للمالك أن يختار الانتظار إلى وقت إدراكه فيأخذ المثل, وإذا بقي المثل واجبا بعد الانقطاع فإنما ينتقل حقه من المثل إلى القيمة بالخصومة فتعتبر قيمته وقت الخصومة, فأما علم الغاصب بكون المغصوب ملك غيره فليس بشرط لوجوب الضمان, حتى لو أخذ مالا على وجه يحق له أخذه ظاهرا وفي الباطن بخلافه, كما إذا اشترى شيئا أو ملكه بوجه من الوجوه فتصرف فيه, ثم تبين أنه مستحق يضمن لكن لا إثم عليه؛ لأن العلم ليس بشرط لتحقق الغصب, وهو شرط ثبوت المؤاخذة قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. "وأما" وقت وجوب الضمان فوقت وجود الغصب؛ لأن الضمان يجب بالغصب, ووقت ثبوت الحكم: وقت وجود سببه, فتعتبر قيمة المغصوب يوم الغصب, حتى لا يتغير بتغير السعر؛ لأن السبب لم يتغير ولا تغير المحل أيضا؛ لأن تراجع السعر لفتور يحدثه الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده. "وأما" بيان ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان: فالذي يخرج به عن عهدته شيئان: أحدهما: أداء الضمان إلى المالك أو من يقوم مقامه؛ لأن الأصل في طريق الخروج عن عهدة الواجب أداؤه, ولو هلك المغصوب في يد الغاصب الثاني فأدى القيمة إلى الغاصب الأول يبرأ عن الضمان في الرواية المشهورة. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يبرأ إلا بقضاء القاضي. وجه هذه الرواية أن الضمان الواجب عليه للمالك فلا يسقط عنه إلا بالأداء إلى المالك وجه الرواية المشهورة أن الضمان خلف عن العين قائم مقامه, ثم لو رد العين برئ عن الضمان, فكذا إذا رد القيمة؛ لأن ذلك رد العين من حيث المعنى والثاني الإبراء وهو نوعان: صريح وما يجري مجرى الصريح دلالة. "أما" الأول فنحو أن يقول: أبرأتك عن الضمان, أو أسقطته عنك, أو وهبته منك, وما أشبه ذلك فيبرأ عن الضمان؛ لأنه أسقط حق نفسه وهو من أهل الإسقاط, والمحل قابل للسقوط فيسقط. وأما الثاني فهو أن يختار المالك تضمين أحد الغاصبين فيبرأ الآخر؛ لأن اختيار تضمين أحدهما إبراء للآخر دلالة لما ذكرنا فيما تقدم

 

ج / 7 ص -152-       فيبرأ إما بنفس الاختيار, أو بشريطة رضا من اختار تضمينه, أو القضاء على اختلاف الروايتين اللتين ذكرناهما. ولو أبرأه عن ضمان العين وهي قائمة في يده صح الإبراء وسقط عنه الضمان عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله, وقال زفر رحمه الله: لا يصح وجه قوله أن الإبراء إسقاط, وإسقاط الأعيان لا يعقل فالتحق بالعدم وبقيت العين مضمونة كما كانت, وإذا هلكت ضمن. "ولنا" أن العين صارت مضمونة بنفس الغصب؛ لأن الغصب سبب لوجوب الضمان فكان هذا إبراء عن الضمان بعد وجود سبب وجوبه فيصح, كالعفو عن القصاص بعد الجرح قبل الموت, ولو أجل المغصوب منه الغاصب ببدل الغصب صح التأجيل عند أصحابنا, وعند زفر لا يصح استدلالا بالقرض. "ولنا" أن عدم اللزوم في القرض لكونه جاريا مجرى الإعارة لما بين في كتاب القرض, والأجل لا يلزم في العواري, وهذا المعنى لا يوجد في الغصب فيلزمه, وهذا لأن الأصل هو لزوم التأجيل؛ لأنه تصرف صدر من أهله في محله وهو الدين, إلا أن عدم اللزوم في باب القرض لضرورة الإعارة, ولم يوجد ههنا فيلزم على الأصل والله تعالى أعلم. "وأما" ملك الغاصب المضمون فالكلام في هذا الحكم في مواضع: في بيان أصل الحكم أنه سبب أم لا, وفي بيان وقت ثبوته, وفي بيان صفة الحكم الثابت. "أما" الأول فقد اختلف العلماء فيه, قال أصحابنا رحمهم الله: يثبت إذا كان المحل قابلا للثبوت ابتداء, وقال الشافعي رحمه الله: لا يثبت أصلا, حتى أن من غصب عبدا واكتسب في يد الغاصب, ثم هلك العبد وضمن الغاصب قيمته فالكسب ملك للغاصب عندنا, وعنده ملك للمالك, ولو أبق العبد المغصوب من يد الغاصب وعجز عن رده إلى المالك, فالمغصوب منه بالخيار إن شاء انتظر إلى أن يظهر, وإن شاء لم ينتظر وضمن الغاصب قيمته, ولو ضمنه قيمته, ثم ظهر العبد ينظر إن أخذ صاحبه القيمة بقول نفسه التي سماها ورضي بها, أو بتصادقهما عليه, أو بقيام البينة, أو بنكول الغاصب عن اليمين, فلا سبيل له على العبد عندنا, وعنده يأخذ عبده بعينه, ولو كان المغصوب مدبرا يعود على ملك المالك بالإجماع. وجه قوله أن المالك لا بد له من سبب, والغصب لا يصلح سببا؛ لأنه محظور, والملك نعمة وكرامة فلا يستفاد بالمحظور, ولأن ضمان الغصب لا يقابل العين, وإنما يقابل اليد الفائتة, فلا تملك به العين, كما في غصب المدبر. "ولنا" أن ملك الغاصب يزول عن الضمان, فلو لم يزل ملك المغصوب منه عن المضمون لم يكن الاعتداء بالمثل, ولأنه إذا زال ملك الغاصب عن الضمان وأنه بدل المغصوب؛ لأنه مقدر بقيمته وملك المغصوب منه البدل بكماله لو لم يزل ملكه عن المغصوب لاجتمع البدل والمبدل في ملك المالك, وهذا لا يجوز. وإذا زال ملك المالك عن المغصوب فالغاصب أثبت يده على مال قابل للملك لا ملك لأحد فيه, فيملكه كما يملك الحطب والحشيش بإثبات يده عليهما, وبه تبين أن ما هو سبب الملك فهو مباح لا حظر فيه, فجاز أن يثبت به الملك بخلاف المدبر؛ لأنه لا يحتمل ابتداء الملك فيزول ملك المالك, لكن لا يملكه الغاصب لعدم قبول المحل التملك ابتداء, وههنا بخلافه والله تعالى أعلم ولو أخذ صاحبه القيمة بقول الغاصب بأن اختلفا في القيمة وقضى القاضي بالقيمة بقول الغاصب وبيمينه, ثم ظهر العبد, ذكر في ظاهر الرواية أن المغصوب منه بالخيار إن شاء رضي بالمأخوذ وترك العبد عند الغاصب, وإن شاء رد المأخوذ وأخذ العبد؛ لأنه تبين أن المأخوذ بعض بدل العين لا كله, فلم يملك بدل المغصوب بكماله فيثبت له الخيار, وإن أراد استرداد العبد, فللغاصب أن يحبس العبد, حتى يأخذ القيمة. ولو مات العبد في يد الغاصب قبل رد القيمة لا يرد القيمة ولكن يأخذ من الغاصب فضل القيمة إن كان في قيمة العبد فضل على ما أخذه, وإن لم يكن فيها فضل, فلا شيء له سوى القيمة. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا ظهر العبد وقيمته أكثر مما قاله الغاصب فالمغصوب منه بالخيار على ما بينا, فأما إذا كانت قيمته مثل ما قال الغاصب, أو أقل منه, فلا سبيل لصاحبه عليه, وهكذا فصل الكرخي رحمه الله؛ لأنه رضي بزوال ملكه بهذا البدل وفي ظاهر الرواية أثبت الخيار من غير تفصيل, ولو اختلفا في زيادة القيمة فادعى الغاصب أنها حدثت بعد التضمين, وادعى المغصوب منه أنها كانت قبله, كان الجصاص يقول من تلقاء نفسه: أن القول قول الغاصب؛ لأن التمليك قد صح فلا يفسخ الشك. "وأما" وقت ثبوت الملك: فهو وقت وجود الغصب؛ لأن الملك في الضمان يستند إلى وقت وجود الغصب. فكذا

 

ج / 7 ص -153-       في المضمون, فيظهر في الكسب والغلة والربح. وأما شرط ثبوت الملك في المضمون فما هو شرط ثبوت الملك في الضمان, وهو اختيار الضمان عند أبي حنيفة رحمه الله فالمغصوب قبل اختيار الضمان على حكم ملكه عنده, فإنه لو أراد أن لا يختار الضمان, حتى يهلك المغصوب على ملكه ويكون له ثواب هلاكه على ملكه ويخاصم الغاصب في القيمة له ذلك, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هذا ليس بشرط, ويثبت الملك قبل الاختيار في الضمان والمضمون جميعا, وعلى هذا الأصل يبنى الصلح عن المغصوب الذي لا مثل له على أضعاف قيمته أنه جائز عنده, وعندهما لا يجوز. "ووجه" البناء أنه لما وجب الضمان بنفس الهلاك عندهما وهو مال مقدر, والزيادة عليه تكون ربا, ولما توقف الوجوب على اختيار المالك عنده, ولم يوجد منه الاختيار, كان الصلح تقديرا لقيمة المغصوب هذا القدر, وتمليكا للمغصوب به, كأنه باعه من الغاصب به, فجاز والله تعالى أعلم. "وأما" صفة الملك الثابت للغاصب في المضمون: فلا خلاف بين أصحابنا في أن الملك الثابت له يظهر في حق نفاذ التصرفات, حتى لو باعه, أو وهبه, أو تصدق به قبل أداء الضمان ينفذ, كما تنفذ هذه التصرفات في المشترى شراء فاسدا, واختلفوا في أنه هل يباح له الانتفاع به بأن يأكله بنفسه, أو يطعمه غيره قبل أداء الضمان, فإذا حصل فيه فضل هل يتصدق بالفضل؟ قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومحمد رحمه الله: لا يحل له الانتفاع, حتى يرضي صاحبه, وإن كان فيه فضل يتصدق بالفضل, وقال أبو يوسف رحمه الله: يحل له الانتفاع ولا يلزمه التصدق بالفضل إن كان فيه فضل, وهو قول الحسن وزفر رحمهما الله وهو القياس, وقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله استحسان. "وجه" القياس أن المغصوب مضمون لا شك فيه, وهو مملوك للغاصب من وقت الغصب على أصل أصحابنا, فلا معنى للمنع من الانتفاع وتوقيف الحل على رضا غير المالك, كما في سائر أملاكه, ويطيب له الربح؛ لأنه ربح ما هو مضمون ومملوك, وربح ما هو مضمون غير مملوك يطيب له عنده لما نذكر, فربح المملوك المضمون أولى. "وجه" الاستحسان ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أضافه قوم من الأنصار فقدموا إليه شاة مصلية فجعل عليه الصلاة والسلام يمضغه ولا يسيغه, فقال عليه الصلاة والسلام: "إن هذه الشاة لتخبرني أنها ذبحت بغير حق", فقالوا: هذه الشاة لجار لنا ذبحناها لنرضيه بثمنها, فقال عليه الصلاة والسلام "أطعموها الأسارى", أمر عليه الصلاة والسلام بأن يطعموها الأسارى", ولم ينتفع به ولا أطلق لأصحابه الانتفاع بها, ولو كان حلالا طيبا لأطلق مع خصاصتهم وشدة حاجتهم إلى الأكل, ولأن الطيب لا يثبت إلا بالملك المطلق. وفي هذا الملك شبهة العدم؛ لأنه يثبت من وقت الغصب بطريق الاستناد, والمستند يظهر من وجه ويقتصر على الحال من وجه, فكان في وجوده من وقت الغصب شبهة العدم, فلا يثبت به الحل والطيب, ولأن الملك من وجه حصل بسبب محظور, أو وقع محظورا بابتدائه, فلا يخلو من خبث, ولأن إباحة الانتفاع قبل الإرضاء يؤدي إلى تسليط السفهاء على أكل أموال الناس بالباطل, وفتح باب الظلم على الظلمة, وهذا لا يجوز, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب حنطة فطحنها أنه لا يحل له الانتفاع بالدقيق, حتى يرضي صاحبه ولو غصب حنطة فزرعها قال أبو حنيفة ومحمد: يكره له أن ينتفع به, حتى يرضي صاحبه ويتصدق بالفضل, وقال أبو يوسف لا يكره له الانتفاع به قبل أداء الضمان, ولا يلزمه التصدق بالفضل فظاهر هذا الإطلاق يدل على أن عندهما يكره الانتفاع به, حتى يرضى صاحبه بأداء الضمان, وفرق أبو يوسف بين الزرع والطحن فقال في الطحن مثل قولهما: أنه لا يحل له الانتفاع به, حتى يرضي صاحبه؛ لأن الحنطة لم تهلك بالطحن, وإنما تغيرت صفتها من التركيب إلى التفريق, فكأن عين الحنطة قائمة, فكان حق المالك فيها قائما خلاف الزرع؛ لأن البذر يهلك بالزراعة؛ لأنه يغيب في الأرض فيخرج من أن يكون مالا متقوما, فلم يبق للمالك فيه حق, فلم يكره الانتفاع به, وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله فيمن غصب نوى فصار نخلا أنه يحل الانتفاع به, كما في الحنطة إذا زرعها. وقال في الودي إذا غرسه فصار نخلا أنه يكره الانتفاع به, حتى يرضي صاحبه؛ لأن النوى يعفن ويهلك, والودي يزيد في نفسه. وروي عن أبي حنيفة في الشاة إذا ذبحها فشواها أنه لا يسع له أن يأكلها ولا يطعم أحدا, حتى يضمن القيمة, وإن كان صاحبها غائبا, أو حاضرا لا يرضى بالضمان لا يحل له أكلها, وإذا دفع الغاصب 

 

ج / 7 ص -154-       قيمتها يحل له الأكل كذلك إذا ضمنه المالك القيمة, أو ضمنه الحاكم, وهذا عندي ليس باختلاف رواية, بل هذه الرواية تفسير للأولى؛ لأن قوله, حتى يرضى صاحبه بحله يحتمل الإرضاء بأداء الضمان ويحتمل الإرضاء باختيار الضمان. فالمذكور ههنا مفسر فيحمل المجمل على المفسر, فيحمل قوله: حتى يرضيه على الإرضاء باختيار الضمان, ورضاه لا على الإرضاء بأداء الضمان توفيقا بين الروايتين, فلا يحل له الانتفاع به قبل اختيار الضمان, ويحل بعده سواء أدى الضمان أو لا, وهذا قولهما, وهو. قياس. قول أبي يوسف رحمه الله في الشاة المشوية أنه يحل له الانتفاع بها فيأكلها ويطعمها من شاء سواء أدى الضمان أم لا, ولا خلاف في أنه إذا أدى الضمان أنه يحل له الأكل, وكذلك إذا أبرأه عن الضمان, وكذلك إذا ضمنه المالك القيمة, أو ضمنه القاضي؛ لأن القاضي لا يضمنه, إلا بعد طلبه, فكان منه اختيارا للضمان ورضا به, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة أنه يضمن النقصان والغلة له ويتصدق بها في قولهما, وعند أبي يوسف رحمه الله هي طيبة أما ضمان النقصان فلأن الاستغلال وقع إتلافا, فيضمن قدر ما أتلف ويطيب له قدر المضمون؛ لأن ذلك القدر ليس بربح والنهي وقع عن الربح. "وأما" الغلة فللغاصب عندنا, وعند الشافعي رحمه الله للمالك, وهي فريعة مسألة المنافع, وقد مرت في موضعها. "وأما" التصدق بالغلة وهي الأجرة عندهما فلأنها خبيثة لحصولها بسبب خبيث, فكان سبيلها التصدق, ولأبي يوسف أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن, وهذا ربح مضمون, والجواب أن التحريم لعدم الضمان يدل على التحريم لعدم الملك من طريق الأولى؛ لأن الملك فوق الضمان, ولو غصب أرضا فزرعها كرا فنقصتها الزراعة, وأخرجت ثلاثة أكرار, يغرم النقصان ويأخذ رأس المال, ويتصدق بالفضل أما ضمان النقصان فلأن الغاصب نقص الأرض بالزراعة, وذلك إتلاف منه, والعقار مضمون بالإتلاف بلا خلاف. وأما التصدق بالفضل فلحصوله بسبب خبيث, وهي الزراعة في أرض الغصب, وإن كان البذر ملكا له, ويطيب له قدر النقصان وقدر البذر لما ذكرنا أن النهي ورد عن الربح, وذا ليس بربح فلم يحرم والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب ألفا فاشترى جارية فباعها بألفين, ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف أنه يتصدق بجميع الربح في قولهما, وعند أبي يوسف رحمه الله لا يلزمه التصدق بشيء؛ لأنه ربح مضمون مملوك؛ لأنه عند أداء الضمان يملكه مستندا إلى وقت الغصب ومجرد الضمان يكفي للطيب, فكيف إذا اجتمع الضمان والملك وهما يقولان الطيب, كما لا يثبت بدون الضمان لا يثبت بدون الملك من طريق الأولى, وفي هذا الملك شبهة العدم على ما بينا فيما تقدم, فلا يفيد الطيب. ولو اشترى بالألف جارية تساوي ألفين فوهبها, أو اشترى به طعاما يساوي ألفين فأكله لم يتصدق بشيء؛ لأنه لم يحصل له الربح, ولأن الخبث إنما يثبت بشبهة عدم الملك, والشبهة توجب التصدق أما لا توجب التضمين, وعلى هذا يخرج ما إذا خلط المستودع إحدى الوديعتين بالأخرى خلطا لا يتميز أن المخلوط يصير ملكا له عند أبي حنيفة رحمه الله لكن لا يطيب له, حتى يرضي صاحبه على ما نذكره إن شاء الله تعالى ولو اشترى بالدراهم المغصوبة شيئا هل يحل له الانتفاع به أو يلزمه التصدق ؟. ذكر الكرخي رحمه الله وجعل ذلك على أربعة أوجه: إما أن يشير إليها وينقد منها, وإما أن يشير إليها وينقد من غيرها, وإما أن يشير إلى غيرها وينقد منها, وإما أن يطلق إطلاقا وينقد منها, وإذا ثبت الطيب في الوجوه كلها, إلا في وجه واحد وهو أن يجمع بين الإشارة إليها والنقد منها, وذكر أبو نصر الصفار والفقيه أبو الليث رحمهما الله أنه يطيب في الوجوه كلها, وذكر أبو بكر الإسكاف رحمه الله أنه لا يطيب في الوجوه كلها وهو الصحيح. "وجه" قول أبي نصر وأبي الليث رحمهما الله تعالى أن الواجب في ذمة المشتري دراهم مطلقة, والمنقودة بدل عما في الذمة, أما عند عدم الإشارة فظاهر, وكذا عند الإشارة؛ لأن الإشارة إلى الدراهم لا تفيد التعيين, فالتحقت الإشارة إليها بالعدم, فكان الواجب في ذمته دراهم مطلقة, والدراهم المنقودة بدلا عنها, فلا يخبث المشترى, والكرخي كذلك يقول: إذا لم تتأكد الإشارة بمؤكد وهو النقد منها فإذا تأكدت بالنقد منها تعين المشار إليه, فكان المنقود بدل المشترى, فكان خبيثا. "وجه" قول أبي بكر أنه استفاد بالحرام ملكا من طريق الحقيقة, أو الشبهة

 

ج / 7 ص -155-       فيثبت الخبث, وهذا لأنه إن أشار إلى الدراهم المغصوبة فالمشار إليه إن كان لا يتعين في حق الاستحقاق يتعين في حق جواز العقد بمعرفة جنس النقد وقدره, فكان المنقود بدل المشترى من وجه نقد منها, أو من غيرها. وإن لم يشر إليها ونقد منها, فقد استفاد بذلك سلامة المشترى فتمكنت الشبهة فيخبث الربح, وإطلاق الجواب في الجامعين والمضاربة دليل صحة هذا القول, ومن مشايخنا من اختار الفتوى في زماننا بقول الكرخي تيسيرا للأمر على الناس لازدحام الحرام, وجواب الكتب أقرب إلى التنزه والاحتياط, والله تعالى أعلم ولأن دراهم الغصب مستحقة الرد على صاحبها, وعند الاستحقاق ينفسخ العقد من الأصل, فتبين أن المشترى كان مقبوضا بعقد فاسد, فلم يحل الانتفاع به, ولو تزوج بالدراهم المغصوبة امرأة وسعه أن يطأها, بخلاف الشراء لما ذكرنا أن عند الاستحقاق ينفسخ الشراء, والنكاح لا يحتمل الفسخ, ولو كان المغصوب ثوبا فاشترى به جارية لا يسعه أن يطأها, ولو تزوج عليه امرأة حل له وطؤها لما قلنا والله عز وجل أعلم. وأما الذي يتعلق بحال نقصان المغصوب فالكلام فيه في موضعين: أحدهما: في بيان ما يكون مضمونا من النقصان, وما لا يكون مضمونا منه والثاني: في بيان طريق معرفة النقصان أما الأول فنقول وبالله التوفيق: إذا عرض في يد الغاصب ما يوجب نقصان قيمة المغصوب, والعارض لا يخلو إما أن يكون بغير السعر, وإما أن يكون فوات جزء من المغصوب, أو فوات صفة مرغوب فيها, أو معنى مرغوب فيه, فإن كان بغير السعر لم يكن مضمونا؛ لأن المضمون نقصان المغصوب, ونقصان السعر ليس بنقصان المغصوب, بل لفتور يحدثه الله تعالى عز شأنه في قلوب العباد لا صنع للعبد فيه, فلا يكون مضمونا. وإن كان فوات جزء من المغصوب, أو فوات صفة مرغوب فيها, أو معنى مرغوب فيه فالمغصوب لا يخلو إما أن يكون من غير أموال الربا, وإما أن يكون من أموال الربا, فإن كان من غير أموال الربا يكون مضمونا إذا لم يكن للمغصوب منه فيه صنع ولا اختيار؛ لأنه هلك بعض المغصوب صورة ومعنى, أو معنى لا صورة وهلاك كل المغصوب مضمون بكل القيمة, فهلاك بعضه يكون مضمونا بقدره لما ذكرنا أن ضمان الغصب ضمان جبر الفائت فيتقدر بقدر الفوات, وعلى هذا يخرج ما إذا سقط عضو من المغصوب في يد الغاصب بآفة سماوية, أو لحقه زمانة, أو عرج, أو شلل, أو عمى, أو عور, أو صمم, أو بكم, أو حمى, أو مرض آخر أنه يأخذه المولى ويضمنه النقصان لوجود فوات جزء من البدن, أو فوات صفة مرغوب فيها, ولو زال البياض من عينه في يد المولى, أو أقلع الحمى رد على الغاصب ما أخذه منه بسبب النقصان؛ لأنه تبين أن ذلك النقصان لم يكن موجبا للضمان لانعدام شرط الوجوب وهو العجز عن الانتفاع على طريق الدوام. وكذلك لو أبق المغصوب من يد الغاصب من عبد, أو أمة إذا لم يكن أبق قبل ذلك, أو زنت الجارية المغصوبة, أو سرقت إذا لم تكن زنت قبل ذلك؛ لفوات معنى مرغوب فيه وهو الصيانة عن هذه القاذورات؛ ولهذا كانت عيوبا موجبة للرد في باب البيع, وجعل الآبق على المالك, وهل يرجع به على الغاصب؟ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يرجع, وقال محمد رحمه الله: يرجع. "وجه" قوله أن الجعل من ضرورات رد المغصوب؛ لأن رد المغصوب واجب على الغاصب ولا يمكنه الرد إلا بإعطاء الجعل, فكان من ضرورات الرد فيكون عليه مؤنة الرد. "وجه" قول أبي يوسف رحمه الله أن الجعل إنما يجب بحق المالك, والملك للمغصوب منه, فيكون الجعل عليه كمداواة الجراحة. ولو قتل العبد المغصوب, أو الجارية المغصوبة في يد الغاصب قتيلا, أو جنى على حر, أو عبد في نفس, أو ما دونها جناية رد إلى مولاه, ويقال له ادفعه بجنايته, أو افده؛ لأن الملك له ويرجع المولى على الغاصب بالأقل من قيمته ومن أرش الجناية؛ لأن هذا الضمان إنما وجب بسبب كان في ضمانه, ولو استهلك لرجل مالا يخاطب المولى بالبيع, أو الفداء, ويرجع على الغاصب بالأقل من قيمته, ومما أداه عنه من الدين لما قلنا ولو قتل المغصوب نفسه في يد الغاصب ضمن الغاصب قيمته بالغصب, ولا يضمن قيمته بقتل نفسه؛ لأن قتله نفسه هدر فصار كموته حتف أنفه ولو كان المغصوب أمة فولدت, ثم قتلت ولدها, ثم ماتت ضمن قيمة الأم ولا يضمن قيمة الولد؛ لأنه أمانة. وكذلك إذا كبر المغصوب في يد الغاصب من الغلام والجارية بأن غصب عبدا شابا فشاخ في يد الغاصب, أو جارية شابة فصارت

 

ج / 7 ص -156-       عجوزا في يده ضمن النقصان؛ لأن الكبر يوجب فوات جزء, أو صفة مرغوب فيها, وكذلك إذا غصب جارية ناهدا فانكسر ثديها في يد الغاصب؛ لأن نهود الثديين صفة مرغوب فيها, ألا يرى إلى قوله عز وجل: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} وأما نبات اللحية للأمرد فليس بمضمون؛ لأنه ليس بنقصان, بل هو زيادة في الرجال, ألا ترى أن حلق اللحية يوجب كمال الدية. وكذلك لو غصب عبدا قارئا فنسى القرآن العظيم, أو محترفا فنسى الحرفة يضمن؛ لأن العلم بالقرآن والحرفة معنى مرغوب فيه. وأما حبل الجارية المغصوبة بأن غصب جارية فحبلت في يده, فإن كان المولى أحبلها في يد الغاصب لا شيء على الغاصب؛ لأن النقصان حصل بفعل المولى, فلا يضمنه الغاصب, كما لو قتلها المولى في يد الغاصب, وكذلك لو حبلت في يد الغاصب من زوج كان لها في يد المولى؛ لأن الوطء من الزوج حصل بتسليط المولى فصار كأنه حصل منه, أو حدث في يده, وإن حبلت في يد الغاصب من زنا أخذها المولى وضمنه نقصان الحبل, والكلام في قدر الضمان قال أبو يوسف رحمه الله: ينظر إلى ما نقصها الحبل وإلى أرش عيب الزنا فيضمن الأكثر ويدخل الأقل فيه, وهذا استحسان والقياس أن يضمن الأمرين جميعا, وروي عن محمد رحمه الله أنه أخذ بالقياس. "وجه" القياس أن الحبل والزنا كل واحد منهما عيب على حدة, فكان النقصان الحاصل بكل واحد منهما نقصانا على حدة, فيفرد بضمان على حدة. "وجه" الاستحسان أن الجمع بين الضمانين غير ممكن؛ لأن نقصان الحبل إنما حصل بسبب الزنا, فلم يكن نقصانا بسبب على حدة, حتى يفرد بحكم على حدة, فلا بد من إيجاب أحدهما فأوجبنا الأكثر؛ لأن الأقل يدخل في الأكثر, ولا يتصور دخول الأكثر في الأقل, فإن ردها الغاصب حاملا فماتت في يد المولى من الولادة فبقي ولدها ضمن الغاصب جميع قيمتها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا يضمن إلا نقصان الحبل خاصة. "وجه" قولهما أن الرد وقع صحيحا من الغاصب في القدر المردود وهو ما وراء الفائت بالحبل, والهلاك بعد الرد حصل في يد المالك بسبب وجد في يده وهو الولادة, فلا يكون مضمونا على الغاصب, كما لو ماتت بسبب آخر, وكما لو باع جارية حبلى فولدت عند المشتري, ثم ماتت من نفاسها أنه لا يرجع المشتري على البائع بشيء كذا هذا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الموت حصل بسبب كان في ضمان الغاصب وهو الحبل أو الزنا؛ لأن ذلك أفضى إلى الولادة, والولادة أفضت إلى الموت, فكان الموت مضافا إلى السبب السابق, وإذا حصل الهلاك بذلك السبب تبين أن الرد لم يصح لانعدام شرط صحته, وهو أن يكون الرد مثل الأخذ من جميع الوجوه, فصار كأنها ولدت في يد الغاصب فماتت من الولادة, ولو كان كذلك يضمن الغاصب جميع قيمتها كذا هذا بخلاف مسألة البيع؛ لأن الواجب هناك هو التسليم ابتداء لا الرد, وقد وجد التسليم فخرج عن العهدة. وبخلاف الحرة إذا زنا بها مكرهة فماتت من الولادة أنه لا يضمن؛ لأنها غير مضمونة بالأخذ ليلزمه الرد على وجه الأخذ بخلاف الأمة. ولو كانت الجارية زنت في يد الغاصب ثم ردها على المالك فحدث في يده, ونقصها الضرب ضمن الغاصب الأكثر من نقصان الضرب ومما نقصها الزنا في قول أبي حنيفة عليه الرحمة, وعندهما ليس عليه إلا نقصان الزنا. "وجه" قولهما إن النقصان حصل في يد المالك بسبب آخر, ولأبي حنيفة رحمه الله أن النقصان حصل بسبب كان في ضمان الغاصب فيضاف إلى حين وجود السبب في يد الغاصب بسبب وجد في يده وهو الضرب, فلا يكون مضمونا على الغاصب, كما لو حصل في يد المالك, فأبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى وقت وجود السبب وهما نظرا إلى وقت ثبوت الحكم وهو النقصان. ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن اشترى عبدا فوجده مباح الدم فقتل في يد المشتري: أنه ينتقض العقد ويرجع على البائع بكل القيمة, وكذلك لو كان سارقا فقطع في يده رجع بنصف الثمن اعتبارا للسبب السابق, وعندهما يقتصر الحكم على الحال, ويكون في ضمان المشتري, ويرجع على البائع بنقصان العيب, فإن قيل كيف يضاف النقصان إلى سبب كان في ضمان الغاصب, وذلك السبب لم يوجب ضربا جارحا فكيف يضاف نقصان الجرح إليه. ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في شهود الزنا: إذا رجعوا بعد إقامة الجلدات أنهم لا يضمنون بنقصان الجرح؛ لأن شهادتهم لم توجب ضربا جارحا, فلم يضف نقصان الجرح إليها كذا هذا, قيل له: إن النقصان لا يضاف إلى السبب

 

ج / 7 ص -157-       السابق ههنا, كما لا يضاف إلى شهادة الشهود هناك, إلا أنه وجب الضمان ههنا؛ لأن وجوب ضمان الغصب لا يقف على الفعل فيستند الضرب إلى سبب كان في يد الغاصب, ولا يستند إليه أثره, فيصير كأنها ضربت في يد الغاصب فانجرحت عند الضرب لا بالضرب, ولو كان كذلك لضمن الغاصب, كذا هذا, وإنما اعتبر الأكثر من نقصان الضرب ومن نقصان الزنا لما ذكرنا فيما تقدم أن النقصانين جميعا حصلا بسبب واحد, فتعذر الجمع بين الضمانين, فيجب الأكثر, ويدخل الأقل فيه, والله تعالى أعلم. ولو كانت الجارية المغصوبة سرقت في يد الغاصب فردها على المالك فقطعت عنده, يضمن الغاصب نصف قيمتها في قول أبي حنيفة رحمه الله, وعندهما لا يضمن إلا نقصان السرقة والكلام في هذه المسألة في الطرفين جميعا على نحو الكلام في المسألة الأولى, إلا أن أبا حنيفة رحمه الله اعتبر نقصان القطع ههنا, ولم يعتبر نقصان عيب السرقة, واعتبر نقصان عيب الزنا هناك؛ لأن نقصان القطع يكون أكثر من نقصان السرقة ظاهرا وغالبا, فدخل الأقل في الأكثر بخلاف نقصان عيب الزنا؛ لأنه قد يكون أكثر من نقصان الضرب؛ لذلك اختلف اعتباره والله سبحانه وتعالى أعلم, ولو حمت الجارية المغصوبة في يد الغاصب فردها على المولى فماتت في يده من الحمى التي كانت في يد الغاصب لم يضمن الغاصب, إلا ما نقصها الحمى في قولهم جميعا؛ لأن الموت يحصل بالآلام التي لا تتحملها النفس وإنها تحدث شيئا فشيئا إلى أن يتناهى, فلم يكن الموت حاصلا بسبب كان في ضمان الغاصب, فلا يضمن إلا قدر نقصان الحمى, ولو غصب جارية محمومة أو حبلى, أو بها جراحة, أو مرض آخر سوى الحمى فماتت من ذلك في يد الغاصب فهو ضامن لقيمتها وبها ذلك فرق بين هذا وبين ما إذا ماتت في يد المولى بحبل كان في يد الغاصب, حيث جعل هنالك موتها في يد المالك كموتها في يد الغاصب, ولم يجعل ههنا موتها في يد الغاصب كموتها في يد المالك. "ووجه" الفرق أن الهلاك هناك حصل بسبب كان في ضمان الغاصب وهو الحبل؛ لأنه يفضي إليه فأضيف إليه كأنه حصل في يده, فتبين أن الرد لم يصح لعدم شرط الصحة على ما بينا, والهلاك ههنا إن حصل بسبب كان في يد المولى لكن لم يحصل بسبب كان في ضمانه؛ لأن الحبل لم يكن مضمونا عليه. فإذا غصبها فقد صارت مضمونة بالغصب؛ لأن انعقاد سبب الهلاك لا يمنع دخولها في ضمان الغاصب؛ لأن وجوب ضمان الغصب لا يقف على فعل الغاصب, فإذا هلك في يده تقرر الضمان لكن منقوصا بما بها من المرض ونحوه؛ لأنها لم تدخل في ضمان الغصب إلا كذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب جارية سمينة فهزلت في يد الغاصب أن عليه نقصان الهزال, ولو عادت سمينة في يده فردها لا شيء عليه؛ لأن نقصان الهزال انجبر بالسمن فصار كأن لم يكن أصلا, وكذا إذا قلعت سنها في يده فنبتت فردها؛ لأنها لما نبتت ثانيا جعل كأنها لم تقلع, وكذا إذا قطعت يدها في يده فردها مع الأرش لما قلنا, والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج نقصان الولادة أنه مضمون على الغاصب لفوات جزء من المغصوب بالولادة, إلا إذا كان له جابر فينعدم الفوات من حيث المعنى. وجملة الكلام في الجارية المغصوبة إذا نقصتها الولادة أن الأمر لا يخلو إما أن كان الأم أو الولد جميعا قائمين في يد الغاصب, وإما أن هلكا جميعا في يده, وإما أن هلك أحدهما وبقي الآخر, فإن كانا قائمين ردهما على المغصوب منه, ثم ينظر إن كان في قيمة الولد وفاء لنقصان الولادة انجبر به ولا شيء على الغاصب, وإن لم يكن في قيمته وفاء بالنقصان انجبر بقدره وضمن الباقي استحسانا, وهو قول أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم, والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله, ولو لم يكن في الولد وفاء بالنقصان وقت الرد, ثم حصل به وفاء بعد الرد, لم يعتبر ذلك؛ لأن الزيادة لم تحصل في ضمان الغاصب, فلا تصلح لجبر النقصان, وقالوا: إن نقصان الحبل على هذا الخلاف, بأن غصب جارية حائلا فحملت في يد الغاصب فردها إلى المالك فولدت عنده, ونقصتها الولادة. وفي الولد وفاء لا يضمن الغاصب شيئا, خلافا لزفر رحمه الله, وعلى هذا الخلاف إذا بيعت بيعا فاسدا وهي حامل فولدت في يد المشتري ونقصتها الولادة وفي الولد وفاء فرد المشتري الجارية مع الولد إلى البائع لا يضمن شيئا خلافا لزفر, وعلى هذا الخلاف إذا كان له جارية للتجارة, فحال عليها الحول وقيمتها ألف درهم, فولدت فنقصتها الولادة مائتي درهم, وفي الولد وفاء بالنقصان أنه يبقى الواجب في جميع الألف ولا يسقط منه شيء, وعند

 

ج / 7 ص -158-       زفر رحمه الله يبقى فيما وراء النقصان ويسقط بقدره. "وجه" قول زفر رحمه الله في مسألة الغصب أنه وجد سبب وجوب الضمان وهو النقصان, فيجب الضمان جبرا له؛ لأن ضمان الغصب ضمان جبر الفائت, وقد حصل الفوات, فلا بد له من جابر والولد لا يصلح جابرا له؛ لأن الفائت ملك المغصوب منه والولد ملكه أيضا, ولا يعقل أن يكون ملك الإنسان جابرا لملكه فلزم جبره بالضمان. "ولنا" أن هذا نقصان صورة لا معنى, فلا يكون مضمونا كنقصان السن والسمن والقطع, وقد مر, والدليل على أن هذا ليس نقصانا معنى: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو الولادة, واتحاد سبب الزيادة والنقصان يمنع تحقق النقصان من حيث المعنى؛ لأن الزيادة مال متقوم مثل الفائت, فالسبب الذي فوت أفاد له مثله من حيث المعنى, فلم يحصل الفوات إلا من حيث الصورة, والصورة غير مضمونة بالقيمة في ضمان العدوان. وقد خرج الجواب عن قوله أن جبر ملكه بملكه غير معقول؛ لأن ما ذكرنا يمنع تحقق النقصان من حيث المعنى فيمتنع تحقق الفوات من حيث المعنى فلا حاجة إلى الجابر, وإن هلكا جميعا في يد الغاصب ضمن قيمة الأم يوم غصب؛ لتحقق الغصب فيها, ولم يضمن قيمة الولد عندنا؛ لأنه غير مغصوب, وعند الشافعي رحمه الله يضمن لوجود الغصب فيه, وقد مرت المسألة في صدر الكتاب, وإن كان الغاصب قتل الولد, أو باعه ضمن قيمته مع قيمة أمه؛ لأن الولد إن كان أمانة في يد الغاصب عندنا فالأمانة تصير مضمونة بوجود سبب الضمان فيها, وقد وجد على ما بينا فيما تقدم, فإن كانت قيمة الأم ألف درهم فنقصتها الولادة مائة درهم والولد يساوي مائتين ضمن قيمة الأم يوم الغصب ألف درهم, وضمن من الولد نصف قيمته مائة درهم, يدخل ذلك النصف في قيمة الأم, وإن شئت ضمنته قيمة الأم يوم ولدت وقيمة الولد بأمه, وكل ذلك سواء؛ لأن النقصان إذا انجبر بالولد كان الواجب من الضمان في الحاصل ألفا ومائة, فإن اعتبرت قيمة الأم تامة بقي نصف قيمة الولد, وإن اعتبرت قيمة الأم تسعمائة بقي كل قيمة الولد, وإن هلك أحدهما وبقي الآخر, فإن هلك الولد قبل الرد رد الأم وضمن نقصان الولادة, وليس عليه ضمان الولد عندنا؛ لأنه هلك أمانة فإن هلكت الأم وبقي الولد ضمن قيمة الأم يوم غصب ورد الولد ولا تجبر الأم بالولد. وإن كان في قيمة الولد وفاء بقيمة الأم بخلاف ضمان النقصان أنه يجبر بالولد؛ لأن الجبر هناك لاتحاد سبب النقصان والزيادة وهو الولادة, ولم توجد ههنا؛ لأن الولادة سبب لحصول الولد وليست سببا لهلاك الأم؛ لأنها لا تفضي إلى الهلاك غالبا, فلم يتحد السبب فيتعذر الجبر والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه أن للمغصوب منه أن يضمنه النقصان غير أن النقصان إن كان يسيرا لا خيار للمغصوب منه, وليس له, إلا ضمان النقصان؛ لأن ذلك نقص وتعييب فيوجب ضمان نقصان العيب, وإن كان فاحشا بأن قطعه قباء, أو قميصا فهو بالخيار إن شاء أخذه مقطوعا وضمنه ما نقصه القطع وإن شاء تركه عليه وضمنه قيمة ثوب غير مقطوع؛ لأن القطع الفاحش يفوت بعض المنافع المطلوبة من الثوب, ألا ترى أنه لا يصلح لما كان يصلح له قبل القطع, فكان استهلاكا له من وجه فيثبت له الخيار, وكذلك لو غصب شاة فذبحها, ولم يشوها ولا طبخها, فالمغصوب منه بالخيار إن شاء أخذ الشاة وضمنه نقصان الذبح, وإن شاء تركها عليه وضمنه قيمتها يوم الغصب, كذا ذكر في الأصل, وسواء سلخها الغاصب وأربها أو لا, بعد أن لم يكن شواها ولا طبخها, وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إن شاء أخذ الشاة ولا شيء له غيرها, وإن شاء ضمنه قيمتها يوم الغصب. "وجه" هذه الرواية أن ذبح الشاة إن كان نقصانا صورة فهو زيادة من حيث المعنى؛ لأن المقصود من الشاة اللحم, والذبح وسيلة إلى هذا المقصود, فلم يكن نقصانا, بل كان زيادة حيث رفع عنه مؤنة الوسيلة, فكان الغاصب محسنا في الذبح, وقد قال الله تبارك وتعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فإذا اختار أخذ اللحم لا يلزمه شيء آخر, إلا أنه ثبت له خيار الترك عليه, ويضمنه القيمة لفوات مقصود ما في الجملة. "وجه" رواية الأصل أن الشاة كما يطلب منها اللحم يطلب منها مقاصد أخر من الدر والنسل والتجارة, فكان الذبح تفويتا لبعض المقاصد المطلوبة منها, فكان تنقيصا لها واستهلاكا من وجه, فيثبت له خيار تضمين النقصان وخيار تضمين القيمة كما في مسألة الثوب. وعلى هذا

 

ج / 7 ص -159-       الأصل يخرج ما إذا غصب من إنسان عينا من ذوات القيم, أو من ذوات الأمثال, ونقلها إلى بلدة أخرى فالتقيا والعين في يد الغاصب, وقيمتها في ذلك المكان أقل من قيمتها في مكان الغصب أن للمغصوب منه أن يطالبه في ذلك المكان بقيمتها التي في مكان الغصب؛ لأنها قيم أعيان تختلف باختلاف الأماكن بالزيادة والنقصان, فإذا نقلها إلى ذلك المكان وقيمتها فيه أقل من قيمتها في مكان الغصب فقد نقصها من حيث المعنى بالنقل, فلو أجبر على أخذ العين لتضرر به من جهة الغاصب, فيثبت له الخيار إن شاء طالبه بالقيمة التي في مكان الغصب, وإن شاء انتظر العود إلى مكان الغصب, بخلاف ما إذا وجده في البلد الذي غصبه فيه. وقد انتقص السعر أنه لا يكون له خيار؛ لأن النقصان هناك ما حصل بصنعه؛ لأنه حصل بتغير السعر ولا صنع للعبد في ذلك, بل هو محض صنع الله عز وجل أعني مصنوعه, فلم يكن مضمونا عليه, ولو كانت قيمة العين في المكان المنقول إليه مثل قيمتها في مكان الغصب, أو أكثر ليس له ولاية المطالبة بالقيمة؛ لأن الحكم الأصلي للغصب هو وجوب رد العين حال قيام العين, والمصير إلى القيمة لدفع الضرر, وههنا يمكن الوصول إلى العين من غير ضرر يلزمه, فلا يملك العدول إلى القيمة, ولو كان المغصوب دراهم أو دنانير فليس له أن يطالبه بالقيمة وإن اختلف السعر لأن الدراهم والدنانير جعلت أثمان الأشياء, ومعنى الثمنية لا يختلف باختلاف الأماكن عادة؛ لأنه ليس لها حمل ومؤنة لعزتها وقلتها عادة, فلم يكن النقل نقصانا لها باختلاف الأماكن للحاجة إلى الحمل والمؤنة, ولم يوجد, فلم يكن له ولاية المطالبة بالقيمة, وله أن يطالبه برد عينها؛ لأنه هو الحكم الأصلي للغصب. والمصير إلى القيمة لعارض العجز أو الضرر, ولم يوجد هذا إذا كانت العين المغصوبة قائمة في يد الغاصب, فأما إذا كانت هالكة فالتقيا, فإن كانت من ذوات القيم أخذ قيمتها التي كانت وقت الغصب؛ لأنها إذا هلكت تبين أن الغصب السابق وقع إتلافا من حين وجوده, والحكم يثبت من حين وجود سببه, وإن كان من ذوات الأمثال, ينظر إن كان سعرها في المكان الذي التقيا فيه أقل من سعرها في مكان الغصب, فالمغصوب منه بالخيار إن شاء أخذ القيمة التي للعين في مكان الغصب, وإن شاء انتظر ولا يجبر على أخذ المثل في هذا المكان؛ لما ذكرنا أنه نقص العين بالنقل إلى هذا المكان؛ لما بينا أن اختلاف قيمة الأشياء التي لها حمل ومؤنة يختلف باختلاف المكان لمكان الحمل والمؤنة, فالجبر على الأخذ في هذا المكان يكون إضرارا به, فيثبت له الخيار إن شاء أخذ القيمة, وإن شاء انتظر, كما لو كانت العين قائمة, وقيمتها في هذا المكان أقل وإن كانت قيمتها في هذا المكان مثل قيمتها في مكان الغصب كان للمغصوب منه أن يطالبه بالمثل؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد, وإن كانت قيمتها في مكان الخصومة أكثر من قيمتها في مكان الغصب, فالغاصب بالخيار إن شاء أعطى المثل في مكان الخصومة, وإن شاء أعطى القيمة في مكان الغصب؛ لأن في إلزام تسليم المثل في مكان الخصومة ضررا بالغاصب, وفي التأخير إلى العود إلى مكان الغصب ضررا بالمغصوب منه, فيسلم إليه في هذا المكان القيمة التي له في مكان الغصب, إلا أن يرضى المغصوب منه بالتأخير والله سبحانه وتعالى أعلم وإن كان المغصوب من أموال الربا لا يجوز بيعه بجنسه متفاضلا كالمكيلات والموزونات, فانتقص في يد الغاصب بصنعه, أو بغير صنعه, فليس للمغصوب منه أن يأخذ منه ويضمنه قيمة النقصان؛ لأنه يؤدي إلى الربا, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب حنطة فعفنت في يد الغاصب, أو ابتلت, أو صب الغاصب فيها ماء فانتقصت قيمتها أن صاحبها بالخيار. إن شاء أخذها بعينها ولا شيء له غيرها, وإن شاء تركها على الغاصب وضمنه مثل ما غصبت, وليس له أن يأخذها ويضمنه النقصان, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله له ذلك بناء على أن الجودة بانفرادها لا قيمة لها في أموال الربا عندنا, وعنده لها قيمة, والمسألة مرت في كتاب البيوع, وإذا لم تكن متقومة لا تكون مضمونة؛ لأن المضمون هو المال المتقوم, ولأنها إذا لم تكن متقومة تؤدي إلى الربا, ولو غصب درهما صحيحا, أو دينارا صحيحا فانكسر في يده, أو كسره إن كان في موضع لا يتفاوت الصحيح والمكسر في القيمة لا شيء على الغاصب, وإن كان في موضع يتفاوت فصاحبها بالخيار, إن شاء أخذه بعينه ولا شيء له غيره وإن شاء تركه عليه وضمنه مثل ما أخذ, وليس له أن يأخذه بعينه ويضمنه

 

ج / 7 ص -160-       النقصان عندنا خلافا للشافعي رحمه الله بناء على الأصل الذي ذكرنا, وإن كان المغصوب إناء فضة, أو ذهب فانهشم في يد الغاصب, أو هشمه, فالمالك بالخيار إن شاء أخذه بعينه ولا شيء له غيره, وإن شاء ضمنه قيمته من خلاف الجنس؛ لأن الجودة لا قيمة لها بانفرادها, فأما مع الأصل فمتقومة, خصوصا إذا حصلت بصنع العباد, فلا بد من التضمين, والتضمين بالمثل غير ممكن؛ لأنه لا مثل له فوجب التضمين بالقيمة, ثم لا سبيل إلى تضمينه بجنسه؛ لأنه يؤدي إلى الربا فلزم تضمينه بخلاف جنسه بخلاف الدراهم والدنانير؛ لأن هناك إيجاب المثل ممكن وهو الأصل في الباب, فلا يعدل عن الأصل من غير ضرورة. ولو قضى عليه بالقيمة من خلاف الجنس, ثم تفرقا قبل التقابض من الجانبين لا يبطل القضاء عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم؛ لأن القيمة قامت مقام العين, وعند زفر رحمه الله يبطل؛ لأنه صرف, وكذلك آنية الصفر والنحاس والشبة والرصاص إن كانت تباع وزنا فهي وآنية الذهب والفضة سواء؛ لأنها إذا كانت تباع وزنا لم تخرج بالصناعة عن حد الوزن, فكانت موزونة, فكانت من أموال الربا كالذهب والفضة, فإذا انهشمت في يد الغاصب نفسه أو غيره, فحدث فيها عيب فاحش أو يسير إن شاء أخذه كذلك ولا شيء له غيره, وإن شاء تركه عليه بالقيمة من الدراهم والدنانير ولا يكون التقابض فيه شرطا بالإجماع, وكذلك هذا الحكم في كل مكيل وموزون إذا نقص من وصفه لا من الكيل والوزن, وإن كانت تباع عددا فانكسرت أو كسرت إن كان ذلك لم يورث فيه عيبا فاحشا, فليس لصاحبه فيه خيار الترك, ولكنه يأخذها ويضمنه نقصان القيمة, وإن كان أورث عيبا فاحشا فصاحبها بالخيار إن شاء أخذها وأخذ قيمة النقصان. وإن شاء تركها عليه وضمنه قيمتها صحيحا, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب عصيرا فصار خلا في يده, أو لبنا حليبا فصار مخيضا, أو عنبا فصار زبيبا, أو رطبا فصار تمرا أن المغصوب منه بالخيار إن شاء أخذ ذلك الشيء بعينه ولا شيء له غيره؛ لأن هذه من أموال الربا, فلم تكن الجودة فيها بانفرادها متقومة, فلا تكون متقومة, وإن شاء تركه على الغاصب وضمنه مثل ما غصب لما ذكرنا فيما تقدم وأما طريق معرفة النقصان فهو أن يقوم صحيحا ويقوم وبه العيب, فيجب قدر ما بينهما؛ لأنه لا يمكن معرفة قدر النقصان, إلا بهذا الطريق, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الذي يتعلق بحال زيادة المغصوب: فنقول وبالله التوفيق: إذا حدثت زيادة في المغصوب في يد الغاصب, فالزيادة لا تخلو إما أن كانت منفصلة عن المغصوب, وإما أن كانت متصلة به فإن كانت منفصلة عنه أخذها المغصوب منه مع الأصل ولا شيء عليه للغاصب, سواء كانت متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن والصوف, أو ما هو في حكم المتولد كالأرش والعقر, أو غير متولدة منه أصلا كالكسب من الصيد والهبة والصدقة ونحوها؛ لأن المتولد منها نماء ملكه, فكان ملكه, وما هو في حكم المتولد بدل جزء مملوك, أو بدل ما له حكم الجزء, فكان مملوكا له وغير المتولد كسب ملكه, فكان ملكه. وأما بدل المنفعة وهو الأجرة بأن آجر الغاصب المغصوب يملكه الغاصب عندنا, ويتصدق به خلافا للشافعي رحمه الله بناء على أن المنافع ليست بأموال متقومة بأنفسها عندنا, حتى لا تضمن بالغصب والإتلاف وإنما يتقوم بالعقد وإنه وجد من الغاصب, وعنده هي أموال متقومة بأنفسها مضمونة بالغصب والإتلاف كالأعيان, وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم وإن كانت متصلة به فإن كانت متولدة كالحسن والجمال والسمن والكبر ونحوها أخذها المالك مع الأصل ولا شيء عليه للغاصب؛ لأنها نماء ملكه, وإن كانت غير متولدة منه ينظر, إن كانت الزيادة عين مال متقوم قائم في المغصوب وهو تابع للمغصوب, فالمغصوب منه بالخيار على ما نذكر إن شاء الله تعالى, وإن لم تكن عين مال متقوم قائم أخذها المغصوب منه ولا شيء للغاصب وإن كانت عين مال متقوم ولكنه ليس ببيع للمغصوب, بل هي أصل بنفسها, تزول عن ملك المغصوب منه وتصير ملكا للغاصب للضمان, وبيان هذا في مسائل إذا غصب من إنسان ثوبا فصبغه الغاصب بصبغ نفسه, فإن صبغه أحمر, أو أصفر بالعصفر والزعفران وغيرهما من الألوان سوى السواد, فصاحب الثوب بالخيار إن شاء أخذ الثوب من الغاصب وأعطاه ما زاد الصبغ فيه, أما ولاية أخذ الثوب؛ فلأن الثوب ملكه لبقاء اسمه ومعناه. وأما ضمان ما زاد الصبغ فيه؛ فلأن للغاصب عين مال متقوم قائم, فلا سبيل إلى إبطال

 

ج / 7 ص -161-       ملكه عليه من غير ضمان, فكان الأخذ بضمان رعاية للجانبين, وإن شاء ترك الثوب على الغاصب وضمنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب؛ لأنه لا سبيل إلى جبره على أخذ الثوب, إذ لا يمكنه أخذه إلا بضمان وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه. ولا سبيل إلى جبره على الضمان لانعدام مباشرة سبب وجوب الضمان منه وقيل له خيار ثالث وهو أن له ترك الثوب على حاله, وكان الصبغ فيه للغاصب فيباع الثوب ويقسم الثمن على قدر حقهما, كما إذا انصبغ لا بفعل أحد؛ لأن الثوب ملك المغصوب منه والصبغ ملك الغاصب والتمييز متعذر, فصارا شريكين في الثوب فيباع الثوب ويقسم الثمن بينهما على قدر حقهما, وإنما كان الخيار للمغصوب منه لا للغاصب, وإن كان للغاصب فيه ملك أيضا وهو الصبغ؛ لأن الثوب أصل والصبغ تابع له, فتخيير صاحب الأصل أولى من أن يخير صاحب التبع, وليس للغاصب أن يحبس الثوب بالعصفر؛ لأنه صاحب تبع, وإن صبغه أسود اختلف فيه, قال أبو حنيفة رحمه الله: صاحب الثوب بالخيار إن شاء تركه على الغاصب وضمنه قيمة ثوبه أبيض, وإن شاء أخذ الثوب ولا شيء للغاصب, بل يضمنه النقصان, وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: السواد وسائر الألوان سواء, وهذا بناء على أن السواد نقصان عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنه يحرق الثوب فينقصه, وعندهما زيادة كسائر الألوان. وقيل إنه لا خلاف بينهم في الحقيقة, وجواب أبي حنيفة رحمه الله في سواد ينقص وجوابهما في سواد يزيد, وقيل كان السواد يعد نقصانا في زمنه, وزمنهما كان يعد زيادة, فكان اختلاف زمان والله سبحانه وتعالى أعلم وأما العصفر إذا نقص الثوب بأن كانت قيمة الثوب ثلاثين فعادت قيمته بالصبغ إلى عشرين فإنه ينظر إلى قدر ما يزيد هذا الصبغ لو كان في ثوب يزيد هذا الصبغ قيمته ولا ينقص, فإن كان يزيده قدر خمسة دراهم, فصاحب الثوب بالخيار إن شاء ترك الثوب على الغاصب وضمنه قيمة الثوب أبيض ثلاثين درهما, وإن شاء أخذ الثوب وأخذ من الغاصب خمسة دراهم, كذا قال محمد رحمه الله؛ لأن العصفر نقص من هذا الثوب عشرة دراهم إلا أن يقدر خمسة فيه صبغ فانجبر نقصان الخمسة به, أو صارت الخمستان قصاصا وبقي نقصان خمسة دراهم فيرجع عليه بخمسة, وكذلك السواد على هذا والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو صبغ الثوب المغصوب بعصفر نفسه وباعه وغاب, ثم حضر صاحب الثوب يقضي له بالثوب ويستوثق منه بكفيل أما القضاء بالثوب لصاحب الثوب, فلما ذكرنا أن الثوب أصل والصبغ تابع له, فكان صاحب الثوب صاحب أصل, فكان اعتبار جانبه أولى. وأما الاستيثاق بكفيل؛ فلأن للغاصب فيه عين مال متقوم قائم, ولو وقع الثوب المغصوب في صبغ إنسان فصبغ به, أو هبت الريح بثوب إنسان فألقته في صبغ غيره فانصبغ به, فإن كان الصبغ عصفرا أو زعفرانا, فصاحب الثوب بالخيار إن شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد الصبغ فيه لما مر, وإن شاء امتنع لما ذكرنا أنه لا سبيل إلى جبره على الضمان؛ لانعدام مباشرة سبب وجوب الضمان منه, فيباع الثوب, فيضرب كل واحد منهما بحقه فيضرب صاحب الثوب بقيمة ثوبه أبيض؛ لأن حقه في الثوب الأبيض. وصاحب الصبغ يضرب بقيمة الصبغ في الثوب وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه؛ لأن حقه في الصبغ القائم في الثوب لا في الصبغ المنفصل, وإنما ثبت الخيار لصاحب الثوب لا للغاصب لما بينا, وإن كان سوادا أخذه صاحب الثوب ولا شيء عليه من قيمة الصبغ, بل يضمنه النقصان إن كان غاصبا؛ لأن النقصان حصل في ضمانه, وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله, وعندهما حكمه حكم سائر الألوان على ما بينا والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك السمن يخلط بالسويق المغصوب, أو يخلط به, فالسويق بمنزلة الثوب والسمن بمنزلة الصبغ؛ لأن السويق أصل والسمن كالتابع له, ألا ترى أنه يقال: سويق ملتوت, ولا يقال: سمن ملتوت. وأما العسل إذا خلط بالسمن, أو اختلط به فكلاهما أصل. وإذا خلط المسك بالدهن أو اختلط به, فإن كان يزيد الدهن ويصلحه كان المسك بمنزلة الصبغ, وإن كان دهنا لا يصلح بالخلط ولا تزيد قيمته كالأدهان المنتنة فهو هالك ولا يعتد به والله سبحانه وتعالى أعلم ولو غصب من إنسان ثوبا ومن إنسان صبغا فصبغه به ضمن لصاحب الصبغ صبغا مثل صبغه؛ لأنه أتلف عليه صبغه وهو من ذوات الأمثال, فيكون مضمونا بالمثل فبعد ذلك حكمه

 

ج / 7 ص -162-       وحكم ما إذا صبغ الثوب المغصوب بصبغ نفسه سواء؛ لأنه ملك الصبغ بالضمان, وقد بينا ذلك, ولو غصب من إنسان ثوبا ومن آخر صبغا فصبغه فيه, ثم غاب, ولم يعرف فهذا وما إذا انصبغ بغير فعل أحد سواء استحسانا, والقياس أن لا يكون لصاحب الصبغ على صاحب الثوب سبيل. "وجه" القياس ما ذكرنا أن الصبغ صار مضمونا عليه لوجود الإتلاف منه, فملكه بالضمان وزال عنه ملك صاحبه. "وجه" الاستحسان أنه إذا غاب الغاصب على وجه لا يعرف لا يمكن اعتبار فعله في إدارة الحكم عليه, فيجعل كأنه حصل لا بصبغ أحد, ولو غصب ثوبا وعصفرا من رجل واحد فصبغه به, فالمغصوب منه يأخذ الثوب مصبوغا ويبرئ الغاصب من الضمان في العصفر والثوب استحسانا, والقياس أن يضمن الغاصب عصفرا مثله ثم يصير كأنه صبغ ثوبه بعصفر نفسه, فيثبت الخيار لصاحب الثوب لما ذكرنا أنه أتلف عليه عصفره وملكه بالضمان, فهذا رجل صبغ ثوبا بعصفر نفسه فيثبت الخيار لصاحب الثوب. "وجه" الاستحسان أن المغصوب منه واحد فالغاصب خلط مال المغصوب منه بماله, وخلط مال الإنسان بماله لا يعد استهلاكا له بل يكون نقصانا, فإذا اختار أخذ الثوب فقد أبرأه عن النقصان, ولو كان العصفر لرجل والثوب لآخر فرضيا أن يأخذاه, كما يأخذ الواحد أن لو كانا له فليس لهما ذلك؛ لأن المالك ههنا اختلف, فكان الخلط استهلاكا والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو غصب إنسان عصفرا وصبغ به ثوب نفسه ضمن عصفرا مثله؛ لأنه استهلك عليه عصفره وله مثل فيضمن مثله, وليس لصاحب العصفر أن يحبس الثوب؛ لأن الثوب أصل والعصفر تبع له والسواد في هذا بمنزلة العصفر في قول أبي حنيفة رضي الله عنه أيضا؛ لأن هذا ضمان الاستهلاك, والألوان كلها في حكم ضمان الاستهلاك سواء والله سبحانه وتعالى أعلم ولو غصب دارا فجصصها, ثم ردها قيل لصاحبها: أعطه ما زاد التجصيص فيها, إلا أن يرضى صاحب الدار أن يأخذ الغاصب جصه؛ لأن للغاصب فيها عين مال متقوم قائم وهو الجص, فلا يجوز إبطال حقه عليه من غير عوض فيخير صاحب الدار؛ لأنه صاحب أصل فإن شاء أخذها وغرم للغاصب ما زاد التجصيص فيها وإن شاء رضي بأن يأخذ جصه, ولو غصب مصحفا فنقطه روي عن أبي يوسف رحمه الله أن لصاحبه أخذه ولا شيء عليه, وقال محمد رحمه الله: صاحبه بالخيار إن شاء أعطاه ما زاد النقط فيه, وإن شاء ضمنه قيمته غير منقوط. "وجه" قوله أن النقط زيادة في المصحف, فأشبه الصبغ في الثوب. "وجه" ما روي عن أبي يوسف أن النقط أعيان لا قيمة لها, فلم يكن للغاصب فيه عين مال متقوم قائم بقي مجرد عمله وهو النقط ومجرد العمل لا يتقوم إلا بالعقد, ولم يوجد ولأن النقط في المصحف مكروه, ألا ترى إلى ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "جردوا القرآن", وإذا كان التجريد مندوبا إليه كان النقط مكروها, فلم يكن زيادة, فكان لصاحب المصحف أخذه, ولو غصب حيوانا فكبر في يده أو سمن, أو ازدادت قيمته بذلك, فلصاحبه أن يأخذه ولا شيء عليه للغاصب؛ لأنه ليس للغاصب فيه عين مال متقوم قائم, وإنما الزيادة نماء ملك المالك, وكذلك لو غصب جريحا, أو مريضا فداواه حتى برأ وصح لما قلنا, ولا يرجع الغاصب على المالك بما أنفق؛ لأنه أنفق على مال الغير بغير إذنه فكان متبرعا. وكذلك لو غصب أرضا فيها زرع أو شجر فسقاه الغاصب وأنفق عليه, حتى انتهى بلوغه, وكذلك لو كان نخلا أطلع فأبره ولقحه وقام عليه فهو للمغصوب منه ولا شيء للغاصب فيما أنفق لما قلنا, ولو كان حصد الزرع فاستهلكه, أو جذ من الثمر شيئا, أو جز الصوف, أو حلب كان ضامنا؛ لأنه أتلف مال الغير بغير إذنه فيضمن, ولو غصب ثوبا ففتله, أو غسله, أو قصره فلصاحبه أن يأخذه ولا شيء للغاصب؛ لأنه ليس للغاصب عين مال متقوم قائم فيه, أما الفتل فإنه تغيير الثوب من صفة إلى صفة. "وأما" الغسل فإنه إزالة الوسخ عن الثوب وإعادة له في الحالة الأولى, والصابون أو الحرض فيه يتلف ولا يبقى. وأما القصارة فإنها تسوية أجزاء الثوب, فلم يحصل في المغصوب زيادة عين مال متقوم قائم فيه, ولو غصب من مسلم خمرا فخللها فلصاحبها أن يأخذ الخل من غير شيء؛ لأن الخل ملكه؛ لأن الملك كان ثابتا له في الخمر, وإذا صار خلا حدث الخل على ملكه, وليس للغاصب فيه عين مال متقوم قائم؛ لأن الملح الملقى في الخمر يتلف فيها, فصار كما لو تخللت بنفسها في يده, ولو كان كذلك لأخذه من غير شيء كذا

 

ج / 7 ص -163-       هذا وقيل موضوع المسألة أنه خللها بالنقل من الظل إلى الشمس لا بشيء له قيمة وهو الصحيح, وعلى هذا يخرج ما إذا غصب جلد ميتة ودبغه أنه إن دبغه بشيء لا قيمة له كالماء والتراب والشمس كان لصاحبه أن يأخذه ولا شيء عليه للغاصب؛ لأن الجلد كان ملكه وبعدما صار مالا بالدباغ بقي على حكم ملكه. وليس لصاحبه فيه عين مال متقوم قائم إنما فيه مجرد فعل الدباغ, ومجرد العمل لا يتقوم, إلا بالعقد, ولم يوجد هذا إذا أخذه من منزله فدبغه فأما إذا كانت الميتة ملقاة على الطريق فأخذ جلدها فدبغه فلا سبيل له على الجلد؛ لأن الإلقاء في الطريق إباحة للأخذ كإلقاء النوى وقشور الرمان على قوارع الطرق, ولو هلك الجلد المغصوب بعد ما دبغه بشيء لا قيمة له لا ضمان عليه؛ لأن الضمان لو وجب عليه إما أن يجب بالغصب السابق, وإما أن يجب بالإتلاف لا سبيل إلى الأول؛ لأنه لا قيمة له وقت الغصب ولا سبيل إلى الثاني؛ لأنه لم يوجد الإتلاف من الغاصب, وإن استهلكه يضمن بالإجماع؛ لأنه كان ملكه قبل الدباغ وبعدما صار مالا بالدباغ بقي على حكم ملكه لا حق للغاصب فيه, وإتلاف مال مملوك للغير بغير إذنه لا حق له فيه فيوجب الضمان. ولو دبغه بشيء متقوم كالقرظ والعفص ونحوهما فلصاحبه أن يأخذه ويغرم له ما زاد الدباغ فيه؛ لأنه ملك صاحبه, وللغاصب فيه عين ملك متقوم قائم فلزم مراعاة الجانبين وذلك فيما قلنا, وليس له أن يضمنه قيمة الجلد؛ لأنه لو ضمنه قيمته لضمنه يوم الغصب, ولم يكن له قيمة يوم الغصب, ولو هلك في يده بعد ما دبغه لا ضمان عليه لما بينا, ولو استهلكه فكذلك عند أبي حنيفة رضي الله عنه وذكر في ظاهر الرواية أن على قولهما يضمن قيمته مدبوغا ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه, وذكر الطحاوي رحمه الله في مختصره أن عندهما يغرم قيمته أن لو كان الجلد ذكيا غير مدبوغ. "وجه" قولهما أنه أتلف مالا متقوما مملوكا بغير إذن مالكه فيوجب الضمان, كما إذا دبغه بشيء لا قيمة له فاستهلكه, وإنما قلنا ذلك, أما المالية والتقوم فلأن الجلد بالدباغ صار مالا متقوما. "وأما" الملك فلأنه كان ثابتا له قبل الدباغ, وبعده بقي على حكم ملكه؛ ولهذا وجب عليه الضمان فيما إذا دبغه بما لا قيمة له كذا هذا, ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن التقوم حدث بصنع الغاصب, فلا يجب الضمان عليه؛ لأن الأصل أن الحادث بفعل الإنسان يكون حقا له, فلا يمكن إيجاب الضمان عليه فالتحق هذا الوصف بالعدم, فكان هذا إتلاف مال لا قيمة له من حيث المعنى, فلا يجب الضمان, ولأن تقوم الجلد تابع لما زاد الدباغ فيه؛ لأنه حصل بالدباغ وما زاد الدباغ مضمون فيه فكذا ما هو تابع له يكون ملحقا به, والمضمون ببدل لا يضمن بالقيمة عند الإتلاف كالمبيع قبل القبض. بخلاف ما إذا دبغه بشيء لا قيمة له؛ لأن هناك ما زاد الدباغ فيه غير مضمون فلم يوجد الأصل, فلا يلحق به غيره, وإن كان الجلد ذكيا فدبغه فإن دبغه بما لا قيمة له, فلصاحبه أن يأخذه ولا شيء عليه لما ذكرنا أنه ملك صاحبه, وليس للغاصب فيه عين مال متقوم قائم, وليس له أن يضمن الغاصب شيئا؛ لأن الجلد قائم لم ينتقص, ولو دبغه بما له قيمة, فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير مدبوغ, وإن شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه لما ذكرنا في الثوب المغصوب إذا صبغه أصفر, أو أحمر بصبغ نفسه, ولو أن الغاصب جعل هذا الجلد أديما, أو زقا, أو دفترا, أو جرابا, أو فروا لم يكن للمغصوب منه على ذلك سبيل؛ لأنه صار شيئا آخر حيث تبدل الاسم والمعنى, فكان استهلاكا له معنى, ثم إن كان الجلد ذكيا فله قيمته يوم الغصب, وإن كان ميتة فلا شيء, ولو غصب عصير المسلم فصار خمرا في يده, أو خلا ضمن عصيرا مثله؛ لأنه هلك في يده بصيرورته خمرا, أو خلا, والعصير من ذوات الأمثال فيكون مضمونا بالمثل, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم اختلاف الغاصب والمغصوب منه إذا قال الغاصب هلك المغصوب في يدي, ولم يصدقه المغصوب منه ولا بينة للغاصب, فإن القاضي يحبس الغاصب مدة لو كان قائما لأظهره في تلك المدة, ثم يقضي عليه بالضمان لما قلنا فيما تقدم أن الحكم الأصلي للغصب هو وجوب رد عين المغصوب, والقيمة خلف عنه فما لم يثبت العجز عن الأصل لا يقضي بالقيمة التي هي خلف, ولو اختلفا في أصل الغصب, أو في جنس المغصوب ونوعه, أو قدره, أو صفته, أو قيمته وقت الغصب, فالقول في ذلك كله قول الغاصب؛ لأن المغصوب منه يدعي عليه الضمان وهو ينكر, فكان القول قوله

 

ج / 7 ص -164-       إذ القول في الشرع قول المنكر. ولو أقر الغاصب بما يدعي المغصوب منه وادعى الرد عليه لا يصدق, إلا ببينة؛ لأن الإقرار بالغصب إقرار بوجود سبب وجود الضمان منه فهو بقوله: رددت عليك يدعي انفساخ السبب, فلا يصدق من غير بينة, وكذلك لو ادعى الغاصب أن المغصوب منه هو الذي أحدث العيب في المغصوب لا يصدق إلا ببينة؛ لأن الإقرار بوجود الغصب منه إقرار بوجود الغصب بجميع أجزائه في ضمانه فهو يدعي إحداث العيب من المغصوب منه, ويدعي خروج بعض أجزائه عن ضمانه, فلا يصدق إلا ببينة, ولو أقام المغصوب منه البينة أنه غصب الدابة ونفقت عنده وأقام الغاصب البينة أنه ردها إليه وأنها نفقت عنده, فلا ضمان عليه؛ لأن من الجائز أن شهود المغصوب منه اعتمدوا في شهادتهم على استصحاب الحال لما أنهم علموا بالغصب وما علموا بالرد, فبنوا الأمر على ظاهر بقاء المغصوب في يد الغاصب إلى وقت الهلاك وشهود الغاصب اعتمدوا في شهادتهم بالرد حقيقة الأمر وهو الرد؛ لأنه أمر لم يكن, فكانت الشهادة القائمة على الرد أولى, كما في شهود الجرح مع شهود التزكية. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن الغاصب ضامن, والله تعالى أعلم ولو أقام المغصوب منه البينة أنه غصب منه هذا العبد ومات عنده وأقام الغاصب البينة أن العبد مات في يد مولاه قبل الغصب لم ينتفع بهذه الشهادة؛ لأن موته في يد مولاه قبل الغصب لا يتعلق به حكم, فلم تقبل الشهادة عليه والتحقت بالعدم, فيجب العمل بشهادة شهود المغصوب منه, ولأن من الجائز أن شهود الغاصب اعتمدوا استصحاب الحال, وهو حال اليد التي كانت عليه للمولى لجواز أنهم علموها ثابتة, ولم يعلموها بالغصب وظنوا تلك اليد قائمة فاستصحبوها وشهود المغصوب منه اعتمدوا في شهادتهم تحقق الغصب, فكانت شهادتهم أولى بالقبول. ولو أقام المغصوب منه البينة أن الغاصب غصب هذا العبد يوم النحر بالكوفة وأقام الغاصب البينة أنه كان يوم النحر بمكة هو والعبد, فالضمان واجب على الغاصب؛ لأن بينة الغاصب لا يتعلق بها حكم فالتحقت بالعدم, فبقيت بينة المغصوب منه بلا معارض فلزم العمل بها, وقال محمد رحمه الله في الإملاء: إذا أقام الغاصب البينة أنه مات في يد المغصوب منه, وأقام المغصوب منه البينة أنه مات في يد الغاصب, فالبينة بينة الغاصب لما ذكرنا أن بينته قامت على إثبات أمر لم يكن وهو الرد, وبينة المغصوب منه قامت على إبقاء ما كان على ما كان وهو الغصب, فكانت بينة الرد أولى والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو أقام المغصوب منه البينة أن الدابة نفقت عند الغاصب من ركوبه, وأقام الغاصب البينة أنه ردها إليه فالبينة بينة المغصوب منه, وعلى الغاصب القيمة؛ لأن بينة الغاصب لا تدفع بينة المغصوب منه؛ لأنها قامت على رد المغصوب, ومن الجائز أنه ردها, ثم غصبها ثانيا وركبها فنفق في يده فأمكن الجمع بين البينتين, وكذلك لو شهد شهود صاحب الدابة أن الغاصب قتلها, وشهد شهود الغاصب أنه ردها إليه لما قلنا, كما إذا قال رجل لآخر غصبنا منك ألفا, ثم قال: كنا عشرة, قال أبو يوسف رحمه الله: لا يصدق, وقال زفر رحمه الله: يصدق. "وجه" قوله أن قوله: غصبنا منك حقيقة للجمع, والعمل بحقيقة اللفظ واجب وفي الحمل على الواحد ترك للعمل بالحقيقة فيصدق. "وجه" قول أبي يوسف أن العمل بالحقيقة واجب ما أمكن وههنا لا يمكن؛ لأن قوله غصبنا إخبار عن وجود الغصب من جماعة مجهولين, فلو عملنا بحقيقته لألغينا كلامه, ولا شك أن العمل بالمجاز أولى من الإلغاء, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما مسائل الإتلاف فالكلام فيها أن الإتلاف لا يخلو إما أن ورد على بني آدم, وإما أن ورد على غيرهم من البهائم والجمادات, فإن ورد على بني آدم فحكمه في النفس وما دونها نذكره في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى, وإن ورد على غير بني آدم, فإنه يوجب الضمان إذا استجمع شرائط الوجوب فيقع الكلام فيه في ثلاثة مواضع: في بيان كونه سببا لوجوب الضمان, وفي بيان شروط وجوب الضمان, وفي بيان ماهية الضمان الواجب. "أما" الأول: فلا شك أن الإتلاف سبب لوجوب الضمان عند استجماع شرائط الوجوب؛ لأن إتلاف الشيء إخراجه من أن يكون منتفعا به منفعة مطلوبة منه عادة, وهذا اعتداء وإضرار, وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ

 

ج / 7 ص -165-       مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}, وقال عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام" وقد تعذر نفي الضرر من حيث الصورة, فيجب نفيه من حيث المعنى بالضمان ليقوم الضمان مقام المتلف فينتفي الضرر بالقدر الممكن, ولهذا وجب الضمان بالغصب فبالإتلاف أولى؛ لأنه في كونه اعتداء وإضرارا فوق الغصب, فلما وجب بالغصب فلأن يجب بالإتلاف أولى, سواء وقع إتلافا له صورة ومعنى بإخراجه عن كونه صالحا للانتفاع, أو معنى بإحداث معنى فيه يمنع من الانتفاع به مع قيامه في نفسه حقيقة؛ لأن كل ذلك اعتداء وإضرار سواء كان الإتلاف مباشرة بإيصال الآلة بمحل التلف, أو تسبيبا بالفعل في محل يفضي إلى تلف غيره عادة؛ لأن كل واحد منهما يقع اعتداء وإضرارا فيوجب الضمان. وبيان ذلك في مسائل إذا قتل دابة إنسان, أو أحرق ثوبه, أو قطع شجرة إنسان, أو أراق عصيره, أو هدم بناءه ضمن, سواء كان المتلف في يد المالك, أو في يد الغاصب لتحقق الإتلاف في الحالين, غير أن المغصوب إن كان منقولا وهو في يد الغاصب يخير المالك إن شاء ضمن الغاصب, وإن شاء ضمن المتلف لوجود سبب وجوب الضمان من كل واحد منهما, فإن ضمن الغاصب فالغاصب يرجع بما ضمن على المتلف؛ لأنه ملك المغصوب بالضمان فتبين أن الإتلاف ورد على ملكه, وإن ضمن المتلف لا يرجع بالضمان على أحد, وإن كان عقارا ضمن المتلف ولا يضمن الغاصب عندهما, وعند محمد رحمه الله الجواب فيه, وفي المنقول سواء بناء على أن العقار غير مضمون بالغصب عندهما, وعنده مضمون به, فكان له أن يضمن أيهما شاء, كما في المنقول. وكذلك إذا نقص مال إنسان بما لا يجري فيه الربا ضمن النقصان سواء كان في يد المالك, أو في يد الغاصب؛ لأن النقص إتلاف جزء منه وتضمينه ممكن؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا فيضمن قدر النقصان بخلاف الأموال الربوية على ما مر, غير أن النقصان إن كان بفعل غير الغاصب, فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن الغاصب ويرجع الغاصب على الذي نقص, وإن شاء ضمن الذي نقص وهو لا يرجع على أحد لما قلنا, ولو غصب عبدا قيمته ألف درهم فازداد في يد الغاصب, حتى صارت قيمته ألفين فقتله إنسان خطأ, فالمالك بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمته وقت الغصب ألف درهم, وإن شاء ضمن القاتل قيمته وقت القتل ألفين؛ لأنه وجد سببا وجوب الضمان الغصب والقتل. والزيادة الحادثة في يد الغاصب غير مضمونة بالغصب وهي مضمونة بالقتل؛ لذلك ضمن الغاصب ألفا والقاتل ألفين, فإن ضمن القاتل فإنه لا يرجع على أحد, وإن ضمن الغاصب فالغاصب يرجع على عاقلة القاتل بألفين ويتصدق بالفضل على الألف. وأما الرجوع عليهم بألفين فلأنه ملك المغصوب بالضمان فتبين أن القتل ورد على عبد الغاصب فيضمن قيمته. وأما التصدق بالفضل على الألف فلتمكن الخبث فيه لاختلال الملك, وينبغي أن يكون هذا على أصل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أظهر, فأما على أصل أبي يوسف رحمه الله فالفضل طيب له ولا يلزمه التصدق به, وإن قتله الغاصب بعد الزيادة خطأ, فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم, وإن شاء ضمن عاقلته قيمته يوم القتل ألفي درهم وهو الصحيح, بخلاف المغصوب إذا كان حيوانا سوى بني آدم فقتله الغاصب بعد الزيادة أنه لا يضمن قيمته, إلا يوم الغصب ألف درهم عند أبي حنيفة رحمه الله. وقد بينا له الفرق بينهما فيما تقدم, ولو قتل العبد نفسه في يد الغاصب بعد حدوث الزيادة ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب ألفا؛ لأن قتله نفسه يهدر فيلحق بالعدم كأنه مات بنفسه, ولو كان كذلك يضمن قيمته يوم الغصب ألف درهم كذا هذا, ولو كانت الجارية ولدت ولدا فقتلت ولدها, ثم ماتت الجارية, فعلى الغاصب قيمتها يوم الغصب ألف درهم, وليس عليه ضمان الولد؛ لأن قتلها ولدها هدر ولا حكم له فالتحق بالعدم كأنه مات حتف أنفه فهلك أمانة وبقيت الأم مضمونة بالغصب, ولو أودع رجلان رجلا كل واحد منهما ألف درهم فخلط المستودع أحد الألفين بالآخر خلطا لا يتميز ضمن لكل واحد منهما ألفا, وملك المخلوط في قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الخلط وقع إتلافا معنى, وعندهما هما بالخيار بين أن يأخذا ذلك ويقتسماه بينهما وبين أن يضمناه والمسألة مرت في كتاب الوديعة. ثم قال محمد رحمه الله ولا يسع المودع أكل هذه الدراهم حتى يؤدي مثلها إلى أصحابها, وهذا صحيح لا خلاف فيه

 

ج / 7 ص -166-       وأما" الفيء فهو اسم لما لم يوجف عليه المسلمون بخيل, ولا ركاب, نحو الأموال المبعوثة بالرسالة إلى إمام المسلمين, والأموال المأخوذة على موادعة أهل الحرب, ولا خمس فيه؛ لأنه ليس بغنيمة إذ هي للمأخوذ من الكفرة على سبيل القهر والغلبة, ولم يوجد وقد كان الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يتصرف فيه كيف شاء, يختصه لنفسه, أو يفرقه فيمن شاء قال الله تعالى عز شأنه: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت خالصة له وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة, وما بقي جعله في الكراع والسلاح, ولهذا كانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانت لم يوجف عليها الصحابة رضي الله عنهم من خيل ولا ركاب فإنه روي أن أهل فدك لما بلغهم أهل خيبر "أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويحقن دماءهم ويخلوا بينه وبين أموالهم, بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحوه على النصف من فدك, فصالحهم عليه الصلاة والسلام على ذلك" ثم الفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأئمة في المال المبعوث إليهم من أهل الحرب أنه يكون لعامة المسلمين, وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أن الإمام إنما أشرك قومه في المال المبعوث إليه من أهل الحرب؛ لأن هيبة الأئمة بسبب قومهم, فكانت شركة بينهم. "وأما" هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بما نصر من الرعب لا بأصحابه, كما قال عليه الصلاة والسلام: "نصرت بالرعب مسيرة شهرين" لذلك كان له أن يختص لنفسه والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا إذا دخل حربي في دار الإسلام بغير أمان فأخذه واحد من المسلمين, يكون فيئا لجماعة المسلمين, ولا يختص به الآخذ عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يكون للآخذ خاصة. "وجه" قولهما أن سبب الملك وجد من الآخذ خاصة فيختص بملكه, كما إذا دخلت طائفة من أهل الحرب دار الإسلام, فاستقبلتها سرية من أهل الإسلام فأخذتها إنهم يختصون بملكها. والدليل عن أن سبب الملك وجد من الآخذ خاصة أن السبب هو الأخذ, والاستيلاء هو إثبات اليد, وقد وجد ذلك حقيقة من الآخذ خاصة, وأهل الدار إن كانت لهم يد لكنها يد حكمية, ويد الحربي حقيقية؛ لأنه حر, والحر في يد نفسه, واليد الحكمية لا تصلح مبطلة لليد الحقيقية؛ لأنها دونها, ونقض الشيء بما هو مثله, أو بما هو فوقه, لا بما هو دونه فأما يد الآخذ فيد حقيقة, وهي محقة ويد الحربي مبطلة, فجاز إبطالها بها. "وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه وجد سبب ثبوت الملك لعامة المسلمين في محل قابل للملك, وهو المباح فيصير ملكا للكل, كما إذا استولى جماعة على صيد. وإنما قلنا ذلك؛ لأنه كلما دخل دار الإسلام فقد ثبت يد أهل الدار عليه؛ لأن الدار في أيديهم فما في الدار يكون في أيديهم أيضا, ولهذا قلنا إنه لا يثبت الملك للغانمين في الغنائم ما داموا في دار الحرب, كهذا هاهنا قوله: يد أهل الدار يد حكمية, ويد الحربي حقيقية, فلا تبطلها. قلنا ويد أهل الدار حقيقية أيضا؛ لأن المعنى من اليد في هذه الأبواب القدرة من حيث سلامة الأسباب والآلات, ولأهل الدار آلات سليمة لو استعملوها في التصرف عليه لحدثت لهم بمجرى العادة قدرة حقيقية على وجه لا يمكنهم مقاومتهم ومعارضتهم, مع ما أنه إذا ثبت يد الآخذ عليه حقيقة, فقد ثبت يد أهل الدار؛ لأن يده يد أهل الدار؛ لأن أهل دار الإسلام كلهم منعة واحدة, فإنهم يذبون عن دين واحد, فكانت يده يد الكل معنى, كما إذا دخل الغزاة دار الحرب, فأخذ واحد منهم شيئا من أموال الكفرة, فإن المأخوذ يكون غنيمة مقسومة بين الكل كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما السريتان إذا التقتا في دار الإسلام, فأخذ منها سرية الإمام فإنما اختصوا بملكها للحاجة والضرورة, وهي أن بالإمام حاجة إلى بعث السرايا لحراسة الحوزة وحماية البيضة عن شر الكفرة, إذ الكفرة يقصدون دار الإسلام والدخول في حدودها بغتة, فإذا علموا ببعث السرايا وتهيئهم للذب عن حريم الإسلام, قطعوا الأطماع فبقيت البيضة محروسة, فلو لم يختصوا بالمأخوذ, لما انقاد طبعهم لكفاية هذا الشغل, فتمتد أطماع الكفرة إلى دار الإسلام, ولهذا إذا نفل الإمام سرية, فأصابوا شيئا يختصون به لوقوع الحاجة إلى التنفيل؛ لاختصاص بعض الغزاة بزيادة

 

ج / 7 ص -167-       واختار المالك تضمين الغاصب يرجع بالضمان على القاتل, وإن لم يملك نفس المدبر بأداء الضمان كذا هذا, وكذلك لو وقع عليه حائط إنسان فالغاصب ضامن ويرجع على عاقلة صاحب الحائط إن كان تقدم إليه لما قلنا, ولو قتله إنسان في يد الغاصب عمدا فأولياؤه بالخيار إن شاءوا قتلوا القاتل وبرئ الغاصب. وإن شاءوا اتبعوا الغاصب بالدية على عاقلته ويرجع عاقلة الغاصب في مال القاتل عمدا, ولا يكون لهم القصاص. "أما" ولاية القصاص من القاتل فلوجود القتل العمد الخالي عن الموانع. "وأما" ولاية اتباع الغاصب بالدية فلوجود الإتلاف منه تسبيبا على ما بينا فإن قتلوا القاتل برئ الغاصب؛ لأنه لا يجمع بين القصاص والدية في نفس واحدة في قتل واحد, وإن اتبعوا الغاصب فالدية على عاقلته ترجع عاقلته على مال القاتل, ولا يكون لهم أن يقتصوا من القاتل؛ لأن القصاص لم يصر ملكا لهم بأداء الضمان, إذ هو لا يحتمل التمليك, فلم يقم الغاصب مقام الولي في ملك القصاص فسقط القصاص وينقلب مالا, والمال يحتمل التمليك, فجاز أن يقوم الغاصب مقام الولي في ملك المال. ولو قتل الصبي إنسانا في يد الغاصب فرده على الولي وضمن عاقلة الصبي لم يكن لهم أن يرجعوا على الغاصب بشيء؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب ضمان الغصب؛ لأن الحر غير مضمون بالغصب, ولا سبيل إلى إيجاب ضمان الإتلاف؛ لأن الغاصب إنما يصير متلفا إياه تسبيبا بجناية غيره عليه لا بجنايته على غيره, ولو قتل الصبي نفسه, أو أتى على شيء من نفسه من اليد والرجل وما أشبه ذلك, أو أركبه الغاصب دابة فألقى نفسه منها فالغاصب ضامن عند أبي يوسف, وعند محمد لا يضمن, وجه قول محمد أن فعله على نفسه هدر فالتحق بالعدم فصار كأنه مات حتف أنفه, أو سقطت يده بآفة سماوية ولو كان كذلك لا ضمان عليه كذا هذا, والجامع أنه لو وجب الضمان لوجب بالغصب والحر غير مضمون بالغصب, ولهذا لو جنى على غيره لا يضمن الغاصب كذا هذا. وجه قول أبي يوسف أن الحر إن لم يكن مضمونا بالغصب فهو مضمون بالإتلاف مباشرة أو تسبيبا, وقد وجد التسبيب من الغاصب حيث ترك حفظه عن أسباب الهلاك في الحالين جميعا, فكان متلفا إياه تسبيبا, فيجب الضمان عليه ولا يرجع الغاصب على عاقلة الصبي بما ضمن؛ لأن حكم فعله على نفسه لا يعتبر, فلا يمكن إيجابه على العاقلة والله سبحانه وتعالى أعلم ولو غصب مدبرا فمات في يده ضمن بالإجماع, ولو غصب أم ولد فماتت في يده من غير آفة لم يضمن عند أبي حنيفة, وقد ذكرنا المسألة في موضعها, ولو ماتت في يده بآفة على الوجه الذي بينا أنه يضمن في الصبي الحر, فإن الغاصب يغرم قيمتها حالة في ماله لوجود الإتلاف منه تسبيبا, وأم الولد مضمونة بالإتلاف بلا خلاف, ولهذا وجب الضمان في الصبي الحر ففي أم الولد أولى والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط وجوب هذا الضمان فمنها أن يكون المتلف مالا, فلا يجب الضمان بإتلاف الميتة والدم وجلد الميتة وغير ذلك مما ليس بمال, وقد ذكرنا ذلك في كتب البيوع ومنها أن يكون متقوما, فلا يجب الضمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم سواء كان المتلف مسلما, أو ذميا لسقوط تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم, ولو أتلف مسلم, أو ذمي على ذمي خمرا, أو خنزيرا يضمن عندنا خلافا للشافعي رحمه الله, والدلائل مرت في مسائل الغصب, ولو أتلف ذمي على ذمي خمرا, أو خنزيرا, ثم أسلما, أو أسلم أحدهما أما في الخنزير, فلا يبرأ المتلف عن الضمان الذي لزمه سواء أسلم الطالب, أو المطلوب, أو أسلما جميعا؛ لأن الواجب بإتلاف الخنزير القيمة وإنها دراهم, أو دنانير والإسلام لا يمنع من قبض الدراهم والدنانير. "وأما" في الخمر فإن أسلما جميعا, أو أسلم أحدهما وهو الطالب المتلف عليه برئت ذمة المطلوب وهو المتلف وسقطت عنه الخمر بالإجماع, ولو أسلم المطلوب أولا, ثم أسلم الطالب, أو لم يسلم ففي قول أبي يوسف وهو روايته عن أبي حنيفة يبرأ المطلوب من الخمر ولا يتحول إلى القيمة, كما لو أسلم الطالب, وعند محمد وزفر وعافية بن زيد القاضي وهو روايتهم عن أبي حنيفة لا يبرأ المطلوب ويتحول ما عليه من الخمر إلى القيمة, كما لو كان الإتلاف بعد الإسلام أنه يضمن قيمتها للذمي, فكذا إذا أتلف بعد الإسلام, وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع, ولو كسر على إنسان بربطا أو طبلا يضمن قيمته خشبا منحوتا عند أبي حنيفة رحمه الله, وذكر في المنتقى خشبا ألواحا. وعندهما

 

ج / 7 ص -168-       لا يضمن وجه قولهما أن هذا آلة اللهو والفساد, فلم يكن متقوما كالخمر, ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كما يصلح للهو والفساد يصلح للانتفاع به من وجه آخر, فكان مالا متقوما من ذلك الوجه, وكذلك لو أراق لإنسان مسكرا, أو منصفا فهو على هذا الاختلاف والمسألة قد ذكرناها في كتاب البيوع, ولو أحرق بابا منحوتا عليه تماثيل منقوشة ضمن قيمته غير منقوش بتماثيل؛ لأنه لا قيمة لنقش التماثيل؛ لأن نقشها محظور, وإن كان صاحبه قطع رءوس التماثيل ضمن قيمته منقوشا؛ لأنه لا يكون تمثالا بلا رأس, ألا ترى أنه ليس بمحظور, فكان النقش منقوشا ولو أحرق بساطا فيه تماثيل رجال ضمن قيمته مصورا؛ لأن التمثال على البساط ليس بمحظور؛ لأن البساط يوطأ, فكان النقش متقوما, ولو هدم بيتا مصورا ضمن قيمة البيت, والصور غير مضمونة؛ لأن الصور على البيت لا قيمة لها؛ لأنه محظور فأما الصبغ فمتقوم, ولو قتل جارية مغنية ضمن قيمتها غير مغنية؛ لأن الغناء لا قيمة له؛ لأنه محظور, هذا إذا كان الغناء زيادة في الجارية فأما إذا كان نقصانا فيها فإنه يضمن قدر قيمتها, وعلى هذا تخرج المباحات التي ليست بمملوكة لأحد؛ لأنها غير مضمونة بالإتلاف لعدم تقومها إذ التقوم يبنى على العزة والحظر ولا يتحقق ذلك, إلا بالإحراز والاستيلاء. "وأما" المباح المملوك وهو مال الحربي, فلا يجب الضمان بإتلافه أيضا, وإن كان متقوما لفقد شرط آخر نذكره إن شاء الله تعالى, وإن شئت قلت ومنها أن يكون مملوكا, فلا يجب الضمان بإتلاف المباحات التي لا يملكها أحد, والتخريج على شرط التقوم أصح؛ لأن كون الشيء مملوكا في نفسه ليس بشرط لوجوب الضمان, فإن الموقوف مضمون بالإتلاف وليس بمملوك أصلا, أرض بين شريكين زرعها أحدهما وتراضيا على أن يعطي الذي لم يزرع نصف البذر, ويكون الخارج بينهما فهذا لا يخلو "إما" أن كان الزرع نبت "وإما" أن كان لم ينبت, فإن كان قد نبت جاز؛ لأن هذا بيع الحشيش بالحنطة وأنه جائز. وإن كان لم ينبت لم يجز؛ لأنه لا يدري ما بقي تحت الأرض مما تلف مع أن ذلك ليس بمال متقوم, فلا يجوز بيعه فإن نبت الزرع وطلب الذي لم يزرع القسمة قسم, وأمر الذي زرع أن يقلع ما في نصيب الشريك؛ لأن نصيبه مشغول بملكه فيجبر على تفريغه وتضمينه نقصان الزراعة, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" أن يكون المتلف من أهل وجوب الضمان عليه, حتى لو أتلفت مال إنسان بهيمة لا ضمان على مالكها؛ لأن فعل العجماء جبار, فكان هدرا ولا إتلاف من مالكها, فلا يجب الضمان عليه ومنها أن يكون في الوجوب فائدة, فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربي ولا على الحربي بإتلاف مال المسلم في دار الحرب, وكذا لا ضمان على العادل إذا أتلف مال الباغي, ولا على الباغي إذا أتلف مال العادل؛ لأنه لا فائدة في الوجوب لعدم إمكان الوصول إلى الضمان لانعدام الولاية, فأما العصمة فليست بشرط لوجوب ضمان المال, إلا أن الصبي مأخوذ بضمان الإتلاف, وإن لم تثبت عصمة المتلف في حقه, وكذا يجب الضمان بتناول مال الغير حال المخمصة مع إباحة التناول, وكذا كسر آلات الملاهي مباح وهي مضمونة بالإتلاف عند أبي حنيفة رحمه الله, ولا يلزم إذا أتلف مال إنسان بإذنه أنه لا يجب الضمان؛ لأن عدم الوجوب ليس لعدم العصمة بل لعدم الفائدة؛ لأنه لو وجب الضمان عليه لكان له أن يرجع عليه بما ضمن, فلا يفيد والله عز شأنه أعلم. وكذلك العلم بكون المتلف مال الغير ليس بشرط لوجوب الضمان, حتى لو أتلف مالا على ظن أنه ملكه ثم تبين أنه ملك غيره ضمن؛ لأن الإتلاف أمر حقيقي لا يتوقف وجوده على العلم كما في الغصب على ما مر, إلا أنه إذا علم بذلك يضمن ويأثم, وإذا لم يعلم يضمن ولا يأثم؛ لأن الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعا لما ذكرنا في مسائل الغصب, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما بيان ماهية الضمان الواجب بإتلاف ما سوى بني آدم: فالواجب به ما هو الواجب بالغصب وهو ضمان المثل إن كان المتلف مثليا, وضمان القيمة إن كان مما لا مثل له؛ لأن ضمان الإتلاف ضمان اعتداء, والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل, فعند الإمكان يجب العمل بالمثل المطلق وهو المثل صورة ومعنى, وعند التعذر يجب المثل معنى وهو القيمة, كما في الغصب, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.