بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع ج / 7 ص -97-
"كتاب السير"
وقد يسمى كتاب الجهاد, والكلام في هذا الكتاب
في مواضع: في بيان معنى السير, والجهاد لغة
وشرعا, وفي بيان كيفية الجهاد, وفي بيان من
يفترض عليه الجهاد, وفي بيان ما يندب إليه
الإمام عند بعث الجيش, أو السرية إلى الجهاد,
وفي بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حال
شهود الوقعة, وفي بيان من يحل قتله من الكفرة
ومن لا يحل, وفي بيان من يجوز تركه ممن لا يحل
قتله في دار الحرب ومن لا يجوز, وفي بيان ما
يكره حمله إلى دار الحرب, وما لا يكره, وفي
بيان ما يعترض من الأسباب المحرمة للقتال, وفي
بيان حكم الغنائم وما يتصل بها, وفي بيان حكم
استيلاء الكفرة على أموال المسلمين, وفي بيان
أحكام تختلف باختلاف الدارين, وفي بيان أحكام
المرتدين, وفي بيان أحكام الغزاة. "أما"
الأول: فالسير جمع سيرة, والسيرة في اللغة
تستعمل في معنيين, أحدهما: الطريقة, يقال: هما
على سيرة واحدة أي طريقة واحدة, والثاني:
الهيئة, قال الله سبحانه وتعالى
{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أي هيئتها فاحتمل تسمية هذا الكتاب كتاب السير لما فيه من بيان طرق
الغزاة وهيئاتهم مما لهم وعليهم وأما الجهاد
في اللغة فعبارة عن بذل الجهد بالضم وهو الوسع
والطاقة, أو عن المبالغة في العمل من الجهد
بالفتح, وفي عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع
والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس
والمال واللسان, أو غير ذلك, أو المبالغة في
ذلك والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما الحكم الذي يتعلق بالمال فهو وجوب الرد إن كان قائما بعينه,
ولصاحبه أن يأخذه أينما وجده سواء وجده في يد
المحارب, أو في يد من ملكه المحارب ببيع, أو
هبة, أو غير ذلك ولو تغير المال إلى الزيادة,
أو النقصان فقد ذكرنا حكمه في كتاب السرقة,
والله تعالى أعلم.
"كتاب السير"
وقد يسمى كتاب الجهاد, والكلام في هذا الكتاب
في مواضع: في بيان معنى السير, والجهاد لغة
وشرعا, وفي بيان كيفية الجهاد, وفي بيان من
يفترض عليه الجهاد, وفي بيان ما يندب إليه
الإمام عند بعث الجيش, أو السرية إلى الجهاد,
وفي بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حال
شهود الوقعة, وفي بيان من يحل قتله من الكفرة
ومن لا يحل, وفي بيان من يجوز تركه ممن لا يحل
قتله في دار الحرب ومن لا يجوز, وفي بيان ما
يكره حمله إلى دار الحرب, وما لا يكره, وفي
بيان ما يعترض من الأسباب المحرمة للقتال, وفي
بيان حكم الغنائم وما يتصل بها, وفي بيان حكم
استيلاء الكفرة على أموال المسلمين, وفي بيان
أحكام تختلف باختلاف الدارين, وفي بيان أحكام
المرتدين, وفي بيان أحكام الغزاة. "أما"
الأول: فالسير جمع سيرة, والسيرة في اللغة
تستعمل في معنيين, أحدهما: الطريقة, يقال: هما
على سيرة واحدة أي طريقة واحدة, والثاني:
الهيئة, قال الله سبحانه وتعالى
{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أي هيئتها فاحتمل تسمية هذا الكتاب كتاب السير لما فيه من بيان طرق
الغزاة وهيئاتهم مما لهم وعليهم وأما الجهاد
في اللغة فعبارة عن بذل الجهد بالضم وهو الوسع
والطاقة, أو عن المبالغة في العمل من الجهد
بالفتح, وفي عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع
والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس
والمال واللسان, أو غير ذلك, أو المبالغة في
ذلك والله تعالى أعلم.
ج / 7 ص -98-
فصل": وأما بيان كيفية فرضية الجهاد, فالأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين,
إما إن كان النفير عاما "وإما" إن لم يكن فإن
لم يكن النفير عاما فهو فرض كفاية, ومعناه: أن
يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد, لكن إذا
قام به البعض سقط عن الباقين؛ لقوله عز وجل
{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ
اللَّهُ الْحُسْنَى} وعد الله عز وجل المجاهدين والقاعدين الحسنى ولو كان الجهاد فرض
عين في الأحوال كلها لما وعد القاعدين الحسنى؛
لأن القعود يكون حراما وقوله سبحانه وتعالى
{وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}
الآية ولأن ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى
الإسلام, وإعلاء الدين الحق, ودفع شر الكفرة
وقهرهم, يحصل بقيام البعض به. وكذا النبي عليه
الصلاة والسلام كان يبعث السرايا, ولو كان فرض
عين في الأحوال كلها لكان لا يتوهم منه القعود
عنه في حال, ولا أذن غيره بالتخلف عنه بحال,
وإذا كان فرضا على الكفاية فلا ينبغي للإمام
أن يخلي ثغرا من الثغور من جماعة من الغزاة
فيهم غنى وكفاية لقتال العدو, فإذا قاموا به
يسقط عن الباقين, وإن ضعف أهل ثغر عن مقاومة
الكفرة, وخيف عليهم من العدو فعلى من وراءهم
من المسلمين الأقرب فالأقرب أن ينفروا إليهم,
وأن يمدوهم بالسلاح, والكراع, والمال؛ لما
ذكرنا أنه فرض على الناس كلهم ممن هو من أهل
الجهاد, لكن الفرض يسقط عنهم بحصول الكفاية
بالبعض, فما لم يحصل لا يسقط ولا يباح للعبد
أن يخرج إلا بإذن مولاه, ولا المرأة إلا بإذن
زوجها؛ لأن خدمة المولى, والقيام بحقوق
الزوجية. كل ذلك فرض عين فكان مقدما على فرض
الكفاية, وكذا الولد لا يخرج إلا بإذن والديه
أو أحدهما إذا كان الآخر ميتا؛ لأن بر
الوالدين فرض عين فكان مقدما على فرض الكفاية,
والأصل أن كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك, ويشتد
فيه الخطر لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن
والديه؛ لأنهما يشفقان على ولدهما فيتضرران
بذلك, وكل سفر لا يشتد فيه الخطر يحل له أن
يخرج إليه بغير إذنهما إذا لم يضيعهما؛
لانعدام الضرر, ومن مشايخنا من رخص في سفر
التعلم بغير إذنهما؛ لأنهما لا يتضرران بذلك
بل ينتفعان به, فلا يلحقه سمة العقوق, هذا إذا
لم يكن النفير عاما, فأما إذا عم النفير بأن
هجم العدو على بلد, فهو فرض عين يفترض على كل
واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه؛
لقوله سبحانه وتعالى
{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}
قيل: نزلت في النفير. وقوله سبحانه وتعالى
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا
يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} ولأن
الوجوب على الكل قبل عموم النفير ثابت؛ لأن
السقوط عن الباقين بقيام البعض به, فإذا عم
النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل, فبقي
فرضا على الكل عينا بمنزلة الصوم والصلاة,
فيخرج العبد بغير إذن مولاه, والمرأة بغير إذن
زوجها؛ لأن منافع العبد والمرأة في حق
العبادات المفروضة عينا مستثناة عن ملك المولى
والزوج شرعا, كما في الصوم والصلاة, وكذا يباح
للولد أن يخرج بغير إذن والديه؛ لأن حق
الوالدين لا يظهر في فروض الأعيان كالصوم
والصلاة, والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان من يفترض عليه فنقول إنه لا يفترض إلا على القادر عليه
فمن لا قدرة له لا جهاد عليه؛ لأن الجهاد بذل
الجهد, وهو الوسع والطاقة بالقتال, أو
المبالغة في عمل القتال, ومن لا وسع له كيف
يبذل الوسع والعمل, فلا يفرض على الأعمى
والأعرج, والزمن والمقعد, والشيخ الهرم,
والمريض والضعيف, والذي لا يجد ما ينفق, قال
الله سبحانه وتعالى
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}
الآية وقال سبحانه وتعالى عز من قائل
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إذا نصحوا لله ورسوله فقد عذر الله جل شأنه هؤلاء بالتخلف عن
الجهاد ورفع الحرج عنهم. ولا جهاد على الصبي
والمرأة؛ لأن بنيتهما لا تحتمل الحرب عادة,
وعلى هذا الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين ما
لا طاقة لهم به, وخافوهم أن يقتلوهم, فلا بأس
لهم أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى
بعض جيوشهم, والحكم في هذا الباب لغالب الرأي,
وأكبر الظن دون العدد, فإن غلب على ظن الغزاة
أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات, وإن كانوا أقل
عددا منهم, وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا
بأس أن ينحازوا إلى المسلمين؛ ليستعينوا بهم,
وإن كانوا أكثر عددا من الكفرة, وكذا الواحد
من الغزاة ليس معه سلاح مع اثنين منهم معهما
سلاح, أو مع واحد منهم من الكفرة ومعه
ج / 7 ص -99-
سلاح,
لا بأس أن يولي دبره متحيزا إلى فئة والأصل
فيه: قوله تبارك وتعالى
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً
لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ
فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الله عز شأنه نهى المؤمنين عن تولية الأدبار عاما بقوله تبارك
وتعالى
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبَارَ} وأوعد عليهم بقوله سبحانه وتعالى
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً
لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ
فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية؛ لأن في الكلام تقديما وتأخيرا معناه والله سبحانه وتعالى
أعلم
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ثم استثنى سبحانه وتعالى ومن يولي دبره لجهة مخصوصة فقال عز من
قائل
{إِلَّا
مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلَى فِئَةٍ} والاستثناء من الحظر إباحة, فكان المحظور تولية مخصوصة, وهي أن
يولي دبره غير متحرف لقتال, ولا متحيز إلى فئة
فبقيت التولية إلى جهة التحرف والتحيز مستثناة
من الحظر, فلا تكون محظورة, ونظير هذه الآية
قوله سبحانه وتعالى
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} إنه على التقديم والتأخير على ما نذكره في كتاب الإكراه إن شاء
الله تعالى وبه تبين أن الآية الشريفة غير
منسوخة, وكذا قوله سبحانه وتعالى
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وقوله
{وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفاً} ليس بمنسوخ؛ لأن التولية للتحيز إلى فئة خص فيها, فلم تكن الآيتان
منسوختين, والله سبحانه وتعالى أعلم. والدليل
عليه قوله عليه الصلاة والسلام للذين فروا إلى
المدينة وهو فيها
"أنتم الكرارون, أنا فئة كل مسلم"
أخبر عليه الصلاة والسلام أن المتحيز إلى فئة
كرار وليس بفرار من الزحف, فلا يلحقه الوعيد
وعلى هذا إذا كانت الغزاة في سفينة فاحترقت
السفينة وخافوا الغرق, حكموا فيه غالب رأيهم,
وأكبر ظنهم, فإن غلب على رأيهم أنهم لو طرحوا
أنفسهم في البحر لينجوا بالسباحة, وجب عليهم
الطرق ليسبحوا فيتحيزوا إلى فئة, وإن استوى
جانبا الحرق والغرق, بأن كان إذا قاموا حرقوا,
وإذا طرحوا غرقوا, فلهم الخيار عند أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله:
لا يجوز لهم أن يطرحوا أنفسهم في الماء. "وجه"
قوله أنهم لو ألقوا أنفسهم في الماء لهلكوا,
ولو أقاموا في السفينة لهلكوا أيضا, إلا أنهم
لو طرحوا لهلكوا بفعل أنفسهم, ولو صبروا
لهلكوا بفعل العدو, فكان الصبر أقرب إلى
الجهاد, فكان أولى. "وجه" قولهما أنه استوى
الجانبان في الإفضاء إلى الهلاك, فيثبت لهم
الخيار؛ لجواز أن يكون الهلاك بالغرق أرفق
قوله لو أقاموا لهلكوا بفعل العدو وقلنا ولو
طرحوا لهلكوا بفعل العدو أيضا, إذ العدو هو
الذي ألجأهم إليه, فكان الهلاك في الحالين
مضافا إلى فعل العدو, ثم قد يكون الهلاك
بالغرق أسهل فيثبت لهم الخيار, ولو طعن مسلم
برمح فلا بأس بأن يمشي إلى من طعنه من الكفرة
حتى يجهزه؛ لأنه يقصد بالمشي إليه بذل نفسه؛
لإعزاز دين الله سبحانه وتعالى وتحريض
المؤمنين على أن لا يبخلوا بأنفسهم في قتال
أعداء الله سبحانه وتعالى فكان جائزا والله
سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يندب إليه الإمام عند بعث الجيش أو السرية إلى
الجهاد, فنقول وبالله التوفيق: إنه يندب إلى
أشياء, منها أن يؤمر عليهم أميرا؛ لأن النبي
عليه الصلاة والسلام ما بعث جيشا إلا وأمر
عليهم أميرا, ولأن الحاجة إلى الأمير ماسة؛
لأنه لا بد من تنفيذ الأحكام وسياسة الرعية,
ولا يقوم ذلك إلا بالأمير لتعذر الرجوع في كل
حادثة إلى الإمام "ومنها" أن يكون الذي يؤمر
عليهم عالما بالحلال والحرام, عدلا عارفا
بوجوه السياسات, بصيرا بتدابير الحروب
وأسبابها؛ لأنه لو لم يكن بهذه الصفة لا يحصل
ما ينصب له الأمير. "ومنها" أن يوصيه بتقوى
الله عز شأنه في خاصة نفسه, وبمن معه من
المؤمنين خيرا, كذا روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه كان إذا بعث جيشا أوصاه بتقوى
الله سبحانه وتعالى في نفسه خاصة وبمن معه من
المؤمنين خيرا؛ ولأن الإمارة أمانة عظيمة فلا
يقوم بها إلا المتقي وإذا أمر عليهم يكلفهم
طاعة الأمير فيما يأمرهم به, وينهاهم عنه؛
لقول الله تبارك وتعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقال عليه الصلاة والسلام:
"اسمعوا وأطيعوا, ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع ما حكم فيكم بكتاب الله
تعالى" ولأنه
نائب الإمام, وطاعة الإمام لازمة كذا طاعته؛
لأنها طاعة الإمام, إلا أن يأمرهم
ج / 7 ص -100-
بمعصية
فلا تجوز طاعتهم إياه فيها؛ لقوله عليه الصلاة
والسلام:
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"
ولو أمرهم بشيء لا يدرون أينتفعون به أم لا,
فينبغي لهم أن يطيعوه فيه إذا لم يعلموا كونه
معصية؛ لأن اتباع الإمام في محل الاجتهاد
واجب, كاتباع القضاة في مواضع الاجتهاد والله
تعالى عز شأنه أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة, ولقاء
العدو, فنقول وبالله التوفيق: إن الأمر فيه لا
يخلو من أحد وجهين إما أن كانت الدعوة قد
بلغتهم, وإما أن كانت لم تبلغهم, فإن كانت
الدعوة لم تبلغهم فعليهم الافتتاح بالدعوة إلى
الإسلام باللسان؛ لقول الله تبارك وتعالى
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ}
ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة؛ لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل
بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا القتل
بالامتناع, لكن الله تبارك وتعالى حرم قتالهم
قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغ
الدعوة إياهم فضلا منه ومنة قطعا لمعذرتهم
بالكلية وإن كان لا عذر لهم في الحقيقة؛ لما
أقام سبحانه وتعالى من الدلائل العقلية التي
لو تأملوها حق التأمل, ونظروا فيها لعرفوا حق
الله تبارك وتعالى عليهم, لكن تفضل عليهم
بإرسال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛
لئلا يبقى لهم شبهة عذر
{فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}. وإن لم يكن لهم أن يقولوا ذلك في الحقيقة لما بينا, ولأن القتال
ما فرض لعينه بل للدعوة إلى الإسلام, والدعوة
دعوتان: دعوة بالبنان, وهي القتال ودعوة
بالبيان, وهو اللسان, وذلك بالتبليغ والثانية
أهون من الأولى؛ لأن في القتال مخاطرة الروح
والنفس والمال, وليس في دعوة التبليغ شيء من
ذلك, فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدعوتين
لزم الافتتاح بها, هذا إذا كانت الدعوة لم
تبلغهم, فإن كانت قد بلغتهم جاز لهم أن
يفتتحوا القتال من غير تجديد الدعوة؛ لما بينا
أن الحجة لازمة, والعذر في الحقيقة منقطع,
وشبهة العذر انقطعت بالتبليغ مرة, لكن مع هذا
الأفضل أن لا يفتتحوا القتال إلا بعد تجديد
الدعوة لرجاء الإجابة في الجملة. وقد روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل
الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام فيما كان دعاهم
غير مرة دل أن الافتتاح بتجديد الدعوة أفضل,
ثم, إذا دعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا كفوا
عنهم القتال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا
مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وقوله عليه الصلاة والسلام
"من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله" فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذمة, إلا مشركي العرب
والمرتدين لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد
فإن أجابوا كفوا عنهم؛ لقوله عليه الصلاة
والسلام
"فإن قبلوا عقد
الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين, وعليهم ما
على المسلمين وإن أبوا, استعانوا بالله سبحانه
وتعالى على قتالهم"
ووثقوا بعهد الله سبحانه وتعالى النصر لهم بعد
أن بذلوا جهدهم, واستفرغوا وسعهم, وثبتوا
وأطاعوا الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله
عليه وسلم وذكروا الله كثيرا على ما قال تبارك
وتعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ}
ولهم أن يقاتلوهم وإن لم يبدءوا بالدعوة؛ لقول
الله تعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وسواء كان في الأشهر الحرم أو في غيرها؛ لأن حرمة القتال في الأشهر
الحرم صارت منسوخة بآية السيف, وغيرها من آيات
القتال, ولا بأس بالإغارة والبيات عليهم, ولا
بأس بقطع أشجارهم المثمرة, وغير المثمرة,
وإفساد زروعهم؛ لقوله تبارك وتعالى
{مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
أذن سبحانه وتعالى بقطع النخيل في صدر الآية
الشريفة, ونبه في آخرها أن ذلك يكون كبتا
وغيظا للعدو بقوله تبارك وتعالى
{وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}. ولا بأس بإحراق حصونهم بالنار, وإغراقها بالماء, وتخريبها وهدمها
عليهم, ونصب المنجنيق عليها؛ لقوله تبارك
وتعالى
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ولأن كل ذلك من باب القتال؛ لما فيه من قهر العدو وكبتهم وغيظهم,
ولأن حرمة الأموال؛ لحرمة أربابها, ولا حرمة
لأنفسهم حتى يقتلون, فكيف لأموالهم؟ ولا بأس
برميهم بالنبال, وإن علموا أن فيهم مسلمين من
الأسارى والتجار لما فيه من الضرورة, إذ حصون
الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير, أو تاجر
فاعتباره يؤدي إلى انسداد باب
ج / 7 ص -101-
الجهاد, ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون
المسلمين؛ لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل
مسلم بغير حق. وكذا إذا تترسوا بأطفال
المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم؛ لضرورة إقامة
الفرض, لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال, فإن
رموهم فأصاب مسلما فلا دية ولا كفارة وقال
الحسن بن زياد رحمه الله: تجب الدية, والكفارة
وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله. "وجه" قول
الحسن أن دم المسلم معصوم فكان ينبغي أن يمنع
من الرمي, إلا أنه لم يمنع لضرورة إقامة الفرض
فيتقدر بقدر الضرورة والضرورة في رفع المؤاخذة
لا في نفي الضمان, كتناول ماء الغير حالة
المخمصة إنه رخص له التناول لكن يجب عليه
الضمان لما ذكرنا, كذلك هاهنا. "ولنا" أنه كما
مست الضرورة إلى دفع المؤاخذة لإقامة فرض
القتال, مست الضرورة إلى نفي الضمان أيضا؛ لأن
وجوب الضمان يمنع من إقامة الفرض؛ لأنهم
يمتنعون منه خوفا من لزوم الضمان, وإيجاب ما
يمنع من إقامة الواجب متناقض, وفرض القتال لم
يسقط, دل أن الضمان ساقط بخلاف حالة المخمصة؛
لأن وجوب الضمان هناك لا يمنع من التناول؛
لأنه لو لم يتناول لهلك, وكذا حصل له مثل ما
يجب عليه, فلا يمنع من التناول, فلا يؤدي إلى
التناقض, ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا
بالكفار على قتال الكفار؛ لأنه لا يؤمن غدرهم,
إذ العداوة الدينية تحملهم عليه, إلا إذا
اضطروا إليهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل, فنقول: الحال لا يخلو
إما أن يكون حال القتال, أو حال ما بعد الفراغ
من القتال, وهي ما بعد الأخذ والأسر, أما حال
القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي, ولا
شيخ فان, ولا مقعد ولا يابس الشق, ولا أعمى,
ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف, ولا مقطوع
اليد اليمنى, ولا معتوه, ولا راهب في صومعة,
ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس, وقوم في
دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب, أما
المرأة والصبي, فلقول النبي عليه الصلاة
والسلام
"لا تقتلوا
امرأة ولا وليدا" وروي أنه
عليه الصلاة والسلام رأى في بعض غزواته امرأة
مقتولة فأنكر ذلك وقال عليه الصلاة والسلام:
"هاه ما أراها قاتلت, فلم قتلت؟" ونهى عن قتل النساء والصبيان" ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال, فلا
يقتلون, ولو قاتل واحد منهم قتل, وكذا لو حرض
على القتال, أو دل على عورات المسلمين, أو كان
الكفرة ينتفعون برأيه, أو كان مطاعا, وإن كان
امرأة أو صغيرا؛ لوجود القتال من حيث المعنى.
وقد روي "أن ربيعة بن رفيع السلمي رضي الله
عنه أدرك دريد بن الصمة يوم حنين, فقتله وهو
شيخ كبير كالقفة, لا ينفع إلا برأيه, فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه"
والأصل فيه أن كل من كان من أهل القتال يحل
قتله, سواء قاتل أو لم يقاتل, وكل من لم يكن
من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة
أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض, وأشباه ذلك
على ما ذكرنا, فيقتل القسيس والسياح الذي
يخالط الناس, والذي يجن ويفيق, والأصم
والأخرس, وأقطع اليد اليسرى, وأقطع إحدى
الرجلين, وإن لم يقاتلوا؛ لأنهم من أهل
القتال, ولو قتل واحد ممن ذكرنا أنه لا يحل
قتله فلا شيء فيه من دية ولا كفارة, إلا
التوبة والاستغفار؛ لأن دم الكافر لا يتقوم
إلا بالأمان ولم يوجد وأما حال ما بعد الفراغ
من القتال, وهي ما بعد الأسر والأخذ, فكل من
لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد
الفراغ من القتال, وكل من يحل قتله في حال
القتال إذا قاتل حقيقة أو معنى, يباح قتله بعد
الأخذ والأسر إلا الصبي, والمعتوه الذي لا
يعقل, فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا
قاتلا حقيقة ومعنى, ولا يباح قتلهما بعد
الفراغ من القتال إذا أسرا, وإن قتلا جماعة من
المسلمين في القتال؛ لأن القتل بعد الأسر
بطريق العقوبة, وهما ليسا من أهل العقوبة,
فأما القتل في حالة القتال فلدفع شر القتال,
وقد وجد الشر منهما فأبيح قتلهما لدفع الشر,
وقد انعدم الشر بالأسر, فكان القتل بعده بطريق
العقوبة, وهما ليسا من أهلها والله سبحانه
وتعالى أعلم. ويكره للمسلم أن يبتدئ أباه
الكافر الحربي بالقتل؛ لقوله تعالى
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أمر سبحانه وتعالى بمصاحبة الأبوين الكافرين بالمعروف, والابتداء
بالقتل ليس من المصاحبة بالمعروف. وروي "أن
حنظلة رضي الله عنه غسيل الملائكة عليهم
الصلاة والسلام استأذن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قتل أبيه, فنهاه عليه الصلاة
والسلام" ولأن الشرع أمر بإحيائه بالنفقة
عليه, فالأمر بالقتل فيه إفناؤه, يكون متناقضا
فإن قصد الأب قتله, يدفعه عن
ج / 7 ص -102-
نفسه,
وإن أتى ذلك على نفسه ولا يكره ذلك؛ لأنه من
ضرورات الدفع, ولكن لا يقصد بالدفع القتل؛
لأنه لا ضرورة إلى القصد والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان من يسع تركه في دار الحرب ممن لا يحل قتله, ومن لا يسع
فالأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين, أما إذا كان
الغزاة قادرين على عمل هؤلاء, وإخراجهم إلى
دار الإسلام وأما إن لم يقدروا عليه, فإن
قدروا على ذلك, فإن كان المتروك ممن يولد له
ولد, لا يجوز تركهم في دار الحرب؛ لأن في
تركهم في دار الحرب عونا لهم على المسلمين
باللقاح, وإن كان ممن لا يولد له ولد, كالشيخ
الفاني الذي لا قتال عنده, ولا لقاح, فإن كان
ذا رأي ومشورة, فلا يباح تركه في دار الحرب,
لما فيه من المضرة بالمسلمين؛ لأنهم يستعينون
على المسلمين برأيه. وإن لم يكن له رأي فإن
شاءوا تركوه, فإنه لا مضرة عليهم في تركه, وإن
شاءوا أخرجوه لفائدة المفاداة على قول من يرى
مفاداة الأسير بالأسير, وعلى قول من لا يرى لا
يخرجونهم؛ لما أنه لا فائدة في إخراجهم, وكذلك
العجوز التي لا يرجى ولدها, وكذلك الرهبان,
وأصحاب الصوامع إذا كانوا حضورا, لا يلحقون
وإن لم يقدر المسلمون على حمل هؤلاء ونقلهم
إلى دار الإسلام, لا يحل قتلهم, ويتركون في
دار الحرب؛ لأن الشرع نهى عن قتلهم, ولا قدرة
على نقلهم, فيتركون ضرورة. وأما الحيوان
والسلاح إذا لم يقدروا على الإخراج إلى دار
الإسلام أما الحيوان فيذبح ثم يحرق بالنار؛
لئلا يمكنهم الانتفاع به وأما السلاح فما يمكن
إحراقه بالنار يحرق, وما لا يحتمل الإحراق
كالحديد ونحوه, فيدفن بالتراب لئلا يجدوه
والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يكره حمله إلى دار الحرب, وما لا يكره, فنقول: ليس
للتاجر أن يحمل إلى دار الحرب ما يستعين به
أهل الحرب على الحرب من الأسلحة, والخيل,
والرقيق من أهل الذمة, وكل ما يستعان به في
الحرب؛ لأن فيه إمدادهم, وإعانتهم على حرب
المسلمين قال الله سبحانه وتعالى
{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فلا يمكن من الحمل وكذا الحربي إذا دخل دار الإسلام لا يمكن من أن
يشتري السلاح, ولو اشترى لا يمكن من أن يدخله
دار الحرب لما قلنا, إلا إذا كان داخل دار
الإسلام بسلاح فاستبدله, فينظر في ذلك, إن كان
الذي استبدله خلاف جنس سلاحه, بأن استبدل
القوس بالسيف, ونحو ذلك, لا يمكن من ذلك أصلا,
وإن كان من جنس سلاحه, فإن كان مثله, أو أردأ
منه يمكن منه, وإن كان أجود منه لا يمكن منه
لما قلنا. ولا بأس بحمل الثياب والمتاع
والطعام, ونحو ذلك إليهم؛ لانعدام معنى
الإمداد, والإعانة, وعلى ذلك جرت العادة من
تجار الأعصار, أنهم يدخلون دار الحرب للتجارة
من غير ظهور الرد والإنكار عليهم, إلا أن
الترك أفضل؛ لأنهم يستخفون بالمسلمين,
ويدعونهم إلى ما هم عليه, فكان الكف والإمساك
عن الدخول من باب صيانة النفس عن الهوان,
والدين عن الزوال, فكان أولى. وأما المسافرة
بالقرآن العظيم إلى دار الحرب فينظر في ذلك,
إن كان العسكر عظيما مأمونا عليه لا بأس بذلك؛
لأنهم يحتاجون إلى قراءة القرآن, وإذا كان
العسكر عظيما يقع الأمن عن الوقوع في أيدي
الكفرة والاستخفاف به, وإن لم يكن مأمونا
عليه, كالسرية يكره المسافرة به لما فيه من
خوف الوقوع في أيديهم والاستخفاف به, فكان
الدخول به في دار الحرب تعريضا للاستخفاف
بالمصحف الكريم. وما روي عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه نهى أن يسافر بالقرآن العظيم إلى
أرض العدو, محمول على المسافرة في هذه الحالة,
وكذلك حكم إخراج النساء مع أنفسهم إلى دار
الحرب على هذا التفصيل, إن كان ذلك في جيش
عظيم مأمون عليه, غير مكروه؛ لأنهم يحتاجون
إلى الطبخ والغسل, ونحو ذلك وإن كانت سرية لا
يؤمن عليها يكره إخراجهن لما قلنا والله تعالى
أعلم.
ج / 7 ص -103-
يقرون
بالصانع وينكرون توحيده, وهم الوثنية والمجوس,
وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده وينكرون
الرسالة رأسا, وهم قوم من الفلاسفة, وصنف منهم
يقرون بالصانع وتوحيده والرسالة في الجملة,
لكنهم ينكرون رسالة نبينا محمد عليه أفضل
الصلاة والسلام وهم اليهود والنصارى, فإن كان
من الصنف الأول والثاني, فقال: لا إله إلا
الله يحكم بإسلامه؛ لأن هؤلاء يمتنعون عن
الشهادة أصلا. فإذا أقروا بها كان ذلك دليل
إيمانهم وكذلك إذا قال: أشهد أن محمدا رسول
الله؛ لأنهم يمتنعون من كل واحدة من كلمتي
الشهادة, فكان الإتيان بواحد منهما أيتهما
كانت دلالة الإيمان, وإن كان من الصنف الثالث
فقال: لا إله إلا الله لا يحكم بإسلامه؛ لأن
منكر الرسالة لا يمتنع عن هذه المقالة, ولو
قال: أشهد أن محمدا رسول الله يحكم بإسلامه؛
لأنه يمتنع عن هذه الشهادة, فكان الإقرار بها
دليل الإيمان. وإن كان من الصنف الرابع فأتى
بالشهادتين فقال: لا إله إلا الله, محمد رسول
الله لا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ من الدين الذي
عليه؛ من اليهودية أو النصرانية؛ لأن من هؤلاء
من يقر برسالة رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم
لكنه يقول: إنه بعث إلى العرب خاصة دون غيرهم
فلا يكون إتيانه بالشهادتين بدون التبرؤ دليلا
على إيمانه, وكذا إذا قال يهودي أو نصراني:
أنا مؤمن أو مسلم أو قال: آمنت أو: أسلمت لا
يحكم بإسلامه؛ لأنهم يدعون أنهم مؤمنون
ومسلمون, والإيمان والإسلام هو الذي هم عليه
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال:
إذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم أو
قال: أسلمت سئل عن ذلك أي شيء أردت به إن قال:
أردت به ترك اليهودية, أو النصرانية, والدخول
في دين الإسلام يحكم بإسلامه, حتى لو رجع عن
ذلك كان مرتدا وإن قال: أردت بقولي: أسلمت أني
على الحق, ولم أرد بذلك الرجوع عن ديني لم
يحكم بإسلامه ولو قال يهودي أو نصراني: أشهد
أن لا إله إلا الله, وأتبرأ عن اليهودية, أو
النصرانية لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم لا يمتنعون
عن كلمة التوحيد, والتبرؤ عن اليهودية
والنصرانية, لا يكون دليل الدخول في دين
الإسلام لاحتمال أنه تبرأ عن ذلك, ودخل في دين
آخر سوى دين الإسلام, فلا يصلح التبرؤ دليل
الإيمان مع الاحتمال, ولو أقر مع ذلك فقال:
دخلت في دين الإسلام أو في دين محمد صلى الله
عليه وسلم حكم بالإسلام؛ لزوال الاحتمال بهذه
القرينة والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما"
بيان ما يحكم به بكونه مؤمنا من طريق الدلالة,
فنحو أن يصلي كتابي, أو واحد من أهل الشرك في
جماعة, ويحكم بإسلامه عندنا وعند الشافعي رحمه
الله لا يحكم بإسلامه ولو صلى وحده لا يحكم
بإسلامه. "وجه" قول الشافعي رحمه الله إن
الصلاة لو صلحت دلالة الإيمان لما افترق الحال
فيها بين حال الانفراد, وبين حال الاجتماع ولو
صلى وحده لم يحكم بإسلامه فعلى ذلك إذا صلى
بجماعة. "ولنا" أن الصلاة بالجماعة على هذه
الهيئة التي نصليها اليوم, لم تكن في شرائع من
قبلنا, فكانت مختصة بشريعة نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم فكانت دلالة على الدخول في دين
الإسلام, بخلاف ما إذا صلى وحده؛ لأن الصلاة
وحده غير مختصة بشريعتنا وروي عن محمد رحمه
الله أنه إذا صلى وحده مستقبل القبلة يحكم
بإسلامه؛ لأن الصلاة مستقبل القبلة دليل
الإسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام
"من شهد جنازتنا, وصلى إلى قبلتنا, وأكل ذبيحتنا, فاشهدوا له بالإيمان". وعلى هذا
الخلاف إذا أذن في مسجد جماعة يحكم بإسلامه
عندنا, خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لنا أن
الأذان من شعائر الإسلام, فكان الإتيان به
دليل قبول الإسلام, ولو قرأ القرآن أو تلقنه
لا يحكم بإسلامه؛ لاحتمال أنه فعل ذلك ليعلم
ما فيه من غير أن يعتقده حقيقة, إذ لا كل من
يعلم شيئا يؤمن به, كالمعاندين من الكفرة, ولو
حج هل يحكم بإسلامه قالوا: ينظر في ذلك إن
تهيأ للإحرام, ولبى وشهد المناسك مع المسلمين
يحكم بإسلامه؛ لأن عبادة الحج على هذه الهيئة
المخصوصة, لم تكن في الشرائع المتقدمة, فكانت
مختصة بشريعتنا, فكانت دلالة الإيمان كالصلاة
بالجماعة. وإن لبى ولم يشهد المناسك, أو شهد
المناسك, ولم يلب لا يحكم بإسلامه؛ لأنه لا
يصير عبادة في شريعتنا إلا بالأداء على هذه
الهيئة, والأداء على هذه الهيئة لا يكون دليل
الإسلام, ولو شهد شاهدان أنهما رأياه يصلي
سنة, وما قالا: رأيناه يصلي في جماعة وهو
يقول: صليت صلواتي لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم
يصلون أيضا, فلا تكون الصلاة المطلقة دلالة
الإسلام, ولو شهد أحدهما وقال: رأيته يصلي في
المسجد الأعظم وشهد
ج / 7 ص -104-
الآخر
وقال: رأيته يصلي في مسجد كذا وهو منكر لا
تقبل, ولكن يجبر على الإسلام؛ لأن الشاهدين
اتفقا على وجود الصلاة منه بجماعة في المسجد,
لكنهما اختلفا في المسجد, وذا يوجب اختلاف
المكان لا نفس الفعل, وهو الصلاة, فقد اجتمع
شاهدان على فعل واحد حقيقة, لكن تعتبر
شهادتهما في الجبر على الإسلام, لا في القتل؛
لأن فعل الصلاة وإن كان متحدا حقيقة, فهو
مختلف صورة لاختلاف محل الفعل فأورث شبهة في
القتل والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الحكم
بالإسلام من طريق التبعية فإن الصبي يحكم
بإسلامه تبعا لأبويه عقل أو لم يعقل ما لم
يسلم بنفسه إذا عقل, ويحكم بإسلامه تبعا للدار
أيضا, والجملة فيه: أن الصبي يتبع أبويه في
الإسلام والكفر, ولا عبرة بالدار مع وجود
الأبوين أو أحدهما؛ لأنه لا بد له من دين تجري
عليه أحكامه, والصبي لا يهتم لذلك إما لعدم
عقله, وإما لقصوره, فلا بد وأن يجعل تبعا
لغيره, وجعله تبعا للأبوين أولى؛ لأنه تولد
منهما وإنما الدار منشأ, وعند انعدامهما في
الدار التي فيها الصبي تنتقل التبعية إلى
الدار؛ لأن الدار تستتبع الصبي في الإسلام في
الجملة كاللقيط, فإذا أسلم أحد الأبوين,
فالولد يتبع المسلم؛ لأنهما استويا في جهة
التبعية, وهي التولد والتفرع, فيرجح المسلم
بالإسلام؛ لأنه يعلو ولا يعلى عليه, ولو كان
أحدهما كتابيا, والآخر مجوسيا, فالولد كتابي؛
لأن الكتابي إلى أحكام الإسلام أقرب, فكان
الإسلام منه أرجى وبيان هذه الجملة: إذا سبي
الصبي, وأخرج إلى دار الإسلام, فهذا لا يخلو
من ثلاثة أوجه: إما أن سبي مع أحدهما, وإما أن
سبي مع أحدهما, وإما أن سبي وحده فإن سبي مع
أبويه فما دام في دار الحرب, فهو على دين
أبويه, حتى لو مات لا يصلى عليه وهذا ظاهر
وكذا إذا سبي مع أحدهما وكذلك إذا خرج إلى دار
الإسلام ومعه أبواه أو أحدهما لما بينا, فإن
مات الأبوان بعد ذلك فهو على دينهما حتى يسلم
بنفسه, ولا تنقطع تبعية الأبوين بموتهما؛ لأن
بقاء الأصل ليس بشرط لبقاء الحكم في التبع,
وإن أخرج إلى دار الإسلام وليس معه أحدهما فهو
مسلم؛ لأن التبعية انتقلت إلى الدار على ما
بينا, ولو أسلم أحد الأبوين في دار الحرب, فهو
مسلم تبعا له؛ لأن الولد يتبع خير الأبوين
دينا لما بينا, وكذا إذا أسلم أحد الأبوين في
دار الإسلام ثم سبي الصبي بعده وأدخل في دار
الإسلام, فهو مسلم تبعا له؛ لأنه جمعهما دار
واحدة؛ لأن تبعية الدار لا تعتبر مع أحد
الأبوين لما ذكرنا. فأما قبل الإدخال في دار
الإسلام فلا يكون مسلما؛ لأنهما في دارين
مختلفين, واختلاف الدار يمنع التبعية في
الأحكام الشرعية والله سبحانه وتعالى أعلم ثم
إنما تعتبر تبعية الأبوين والدار إذا لم يسلم
بنفسه وهو يعقل الإسلام, فأما إذا أسلم وهو
يعقل الإسلام فلا تعتبر التبعية, ويصح إسلامه
عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يصح واحتج
بقوله عليه الصلاة والسلام
"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم, وعن المجنون حتى يفيق, وعن
النائم حتى يستيقظ"
أخبر عليه الصلاة والسلام أن الصبي مرفوع
القلم والفقه مستنبط منه, وهو أن الصبي لو صح
إسلامه إما أن يصح فرضا, وإما أن يصح نفلا
ومعلوم أن التنفل بالإسلام محال, والفرضية
بخطاب الشرع, والقلم عنه مرفوع, ولأن صحة
الإسلام من الأحكام الضارة, فإنه سبب لحرمان
الميراث والنفقة, ووقوع الفرق بين الزوجين.
والصبي ليس من أهل التصرفات الضارة, ولهذا لم
يصح طلاقه وعتاقه, ولم يجب عليه الصوم
والصلاة, فلا يصح إسلامه. "ولنا" أنه آمن
بالله سبحانه وتعالى عن غيب فيصح إيمانه
كالبالغ, وهذا لأن الإيمان عبارة عن التصديق
لغة وشرعا, وهو تصديق الله سبحانه وتعالى في
جميع ما أنزل على رسله, أو تصديق رسله في جميع
ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى وقد وجد ذلك
منه لوجود دليله, وهو إقرار العاقل, وخصوصا عن
طوع, فترتب عليه الأحكام؛ لأنها مبنية على
وجود الإيمان حقيقة قال الله تبارك وتعالى
{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقال عليه الصلاة والسلام:
"لا يرث المؤمن الكافر, ولا الكافر المؤمن" وقوله: إنه مرفوع القلم قلنا: نعم. في الفروع الشرعية فأما في
الأصول العقلية فممنوع, ووجوب الإيمان من
الأحكام العقلية, فيجب على كل عاقل والحديث
يحمل على الأحكام الشرعية توفيقا بين الدلائل,
وبه نقول والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما
أحكام الإيمان فنقول والله سبحانه وتعالى
الموفق للإيمان حكمان: أحدهما يرجع إلى
الآخرة, والثاني يرجع إلى الدنيا, أما الذي
يرجع إلى الآخرة فكينونة المؤمن من أهل الجنة
إذا ختم عليه قال الله تعالى
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
ج / 7 ص -105-
خَيْرٌ مِنْهَا} وأما الذي يرجع إلى الدنيا فعصمة النفس والمال؛ لقوله عليه الصلاة
والسلام
"أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا
قالوها, عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" إلا أن عصمة النفس تثبت مقصودة, وعصمة المال تثبت تابعة لعصمة
النفس, إذ النفس أصل في التخلق, والمال خلق
بذله للنفس استبقاء لها, فمتى ثبتت عصمة النفس
ثبتت عصمة المال, تبعا إلا إذا وجد القاطع
للتبعية على ما نذكر فعلى هذا إذا أسلم أهل
بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يظهر عليهم
المسلمون حرم قتلهم, ولا سبيل لأحد على
أموالهم على ما قلنا وقد روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"من أسلم على
مال فهو له". ولو أسلم
حربي في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم
عمدا أو خطأ فلا شيء عليه إلا الكفارة وعند
أبي يوسف عليه الدية في الخطأ وعند الشافعي
رحمه الله عليه الدية مع الكفارة في الخطأ,
والقصاص في العمد واحتجا بالعمومات الواردة في
باب القصاص والدية من غير فصل بين مؤمن قتل في
دار الإسلام أو في دار الحرب. "ولنا" قوله
تبارك وتعالى
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أوجب سبحانه وتعالى الكفارة وجعلها كل موجب قتل المؤمن الذي هو من
قوم عدو لنا؛ لأنه جعله جزاء, والجزاء ينبئ عن
الكفاية, فاقتضى وقوع الكفاية بها عما سواها
من القصاص والدية جميعا, ولأن القصاص لم يشرع
إلا لحكمة الحياة قال الله تعالى
{وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
والحاجة إلى الإحياء عند قصد القتل لعداوة
حاملة عليه, ولا يكون ذلك إلا عند المخالطة,
ولو لم توجد هاهنا وعلى هذا إذا أسلم ولم
يهاجر إلينا حتى ظهر المسلمون على الدار, فما
كان في يده من المقتول فهو له, ولا يكون فيئا
إلا عبدا يقاتل فإنه يكون فيئا؛ لأن نفسه
استفادت العصمة بالإسلام, وماله الذي في يده
تابع له من كل وجه, فكان معصوما تبعا لعصمة
النفس, إلا عبدا يقاتل؛ لأنه إذا قاتل فقد خرج
من يد المولى, فلم يبق تبعا له, فانقطعت
العصمة لانقطاع التبعية, فيكون محلا للتملك
بالاستيلاء. وكذلك ما كان في يد مسلم أو ذمي
وديعة له فهو له, ولا يكون فيئا؛ لأن يد
المودع يده من وجه من حيث إنه يحفظ الوديعة
له, ويد نفسه من حيث الحقيقة وكل واحد منهما
معصوم فكان ما في يده معصوما فلا يكون محلا
للتملك وأما ما كان في يد حربي وديعة, فيكون
فيئا عند أبي حنيفة. وعندهما يكون له؛ لأن يد
المودع يده, فكان معصوما والصحيح قول أبي
حنيفة رحمه الله؛ لأنه من حيث إنه يحفظ له
تكون يده فيكون تبعا له, فيكون معصوما, ومن
حيث الحقيقة لا يكون معصوما؛ لأن نفس الحربي
غير معصومة, فوقع الشك في العصمة, فلا تثبت
العصمة مع الشك, وكذا عقاره يكون فيئا عند أبي
حنيفة, وأبي يوسف وعند محمد هو والمنقول سواء
والصحيح قولهما؛ لأنه من حيث إنه يتصرف فيه
بحسب مشيئته يكون في يده, فيكون تبعا له من
حيث إنه محصن محفوظ بنفسه ليس في يده, فلا
يكون تبعا له, فلا تثبت العصمة مع الشك وأما
أولاده الصغار فأحرار مسلمون تبعا له, وأولاده
الكبار وامرأته يكونون فيئا؛ لأنهم في حكم
أنفسهم لانعدام التبعية. وأما الولد الذي في
البطن فهو مسلم تبعا لأبيه ورقيق تبعا لأمه,
وفيه إشكال, وهو أن هذا إنشاء الرق على
المسلم, وأنه ممنوع والجواب أن الممتنع إنشاء
الرق على من هو مسلم حقيقة, لا على من له حكم
الوجود, والإسلام شرعا, هذا إذا أسلم ولم
يهاجر إلينا, فظهر المسلمون على الدار, فلو
أسلم وهاجر إلينا ثم ظهر المسلمون على الدار.
أما أمواله فما كان في يد مسلم أو ذمي وديعة
فهو له, ولا يكون فيئا لما ذكرنا, وما سوى ذلك
فهو فيء لما ذكرنا أيضا وقيل ما كان في يد
حربي وديعة فهو على الخلاف الذي ذكرنا. وأما
أولاده الصغار فيحكم بإسلامه تبعا لأبيهم, ولا
يسترقون؛ لأن الإسلام يمنع إنشاء الرق إلا رقا
ثبت حكما بأن كان الولد في بطن الأم, وأولاده
الكبار فيء؛ لأنهم في حكم أنفسهم, فلا يكونون
مسلمين بإسلام أبيهم. وكذلك زوجته والولد الذي
في البطن يكون مسلما تبعا لأبيه, ورقيقا تبعا
لأمه, ولو دخل الحربي دار الإسلام ثم أسلم, ثم
ظهر المسلمون على الدار, فجميع ماله وأولاده
الصغار, والكبار, وامرأته, وما في بطنها فيء,
لما لم يسلم في دار الحرب حتى خرج إلينا لم
تثبت العصمة لماله؛ لانعدام عصمة النفس. فبعد
ذلك وإن صارت معصومة, لكن بعد تباين الدارين,
وأنه يمنع ثبوت التبعية ولو دخل مسلم أو ذمي
دار الحرب فأصاب هناك مالا, ثم ظهر المسلمون
على الدار فحكمه وحكم الذي
ج / 7 ص -106-
أسلم
من أهل الحرب ولم يهاجر إلينا سواء والله عز
وجل أعلم. وأما الأمان فنقول: الأمان في الأصل
نوعان: أمان مؤقت, وأمان مؤبد أما المؤقت
فنوعان أيضا: أحدهما الأمان المعروف, وهو أن
يحاصر الغزاة مدينة أو حصنا من حصون الكفرة,
فيستأمنهم الكفار فيؤمنوهم. والكلام فيه في
مواضع: في بيان ركن الأمان, وفي بيان شرائط
الركن, وفي بيان حكم الأمان, وفي بيان صفته,
وفي بيان ما يبطل به الأمان. فأما ركنه فهو
اللفظ الدال على الأمان, نحو قول المقاتل:
أمنتكم أو: أنتم آمنون أو: أعطيتكم الأمان وما
يجري هذا المجرى وأما شرائط الركن فأنواع:
منها أن يكون في حال يكون بالمسلمين ضعف,
وبالكفرة قوة؛ لأن القتال فرض, والأمان يتضمن
تحريم القتال, فيتناقض. إلا إذا كان في حال
ضعف المسلمين وقوة الكفرة؛ لأنه إذ ذاك يكون
قتالا معنى؛ لوقوعه وسيلة إلى الاستعداد
للقتال, فلا يؤدي إلى التناقض. ومنها العقل
فلا يجوز أمان المجنون, والصبي الذي لا يعقل؛
لأن العقل شرط أهلية التصرف, ومنها البلوغ
وسلامة العقل عن الآفة عند عامة العلماء. وعند
محمد رحمه الله ليس بشرط حتى إن الصبي المراهق
الذي يعقل الإسلام, والبالغ المختلط العقل إذا
أمن لا يصح عند العامة وعند محمد يصح. "وجه"
قوله أن أهلية الأمان مبنية على أهلية
الإيمان, والصبي الذي يعقل الإسلام من أهل
الإيمان فيكون من أهل الأمان كالبالغ. "ولنا"
أن الصبي ليس من أهل حكم الأمان, فلا يكون من
أهل الأمان وهذا لأن حكم الأمان حرمة القتال,
وخطاب التحريم لا يتناوله, ولأن من شرط صحة
الأمان أن يكون بالمسلمين ضعف وبالكفرة قوة,
وهذه حالة خفية لا يوقف عليها إلا بالتأمل
والنظر, ولا يوجد ذلك من الصبي لاشتغاله
باللهو واللعب, ومنها الإسلام فلا يصح أمان
الكافر, وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم
في حق المسلمين, فلا تؤمن خيانته, ولأنه إذا
كان متهما فلا يدري أنه بنى أمانه على مراعاة
مصلحة المسلمين من التفرق عن حال القوة والضعف
أم لا, فيقع الشك في وجود شرط الصحة, فلا يصح
مع الشك. وأما الحرية فليست بشرط لصحة الأمان,
فيصح أمان العبد المأذون في القتال بالإجماع,
وهل يصح أمان العبد المحجور عن القتال؟ اختلف
فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة وأبو يوسف رحمه
الله: لا يصح وقال محمد رحمه الله: يصح وهو
قول الشافعي رحمه الله. "وجه" قوله ما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم, ويسعى بذمتهم
أدناهم" والذمة العهد, والأمان نوع عهد, والعبد المسلم أدنى المسلمين,
فيتناوله الحديث ولأن حجر المولى يعمل في
التصرفات, الضارة دون النافعة, بل هو في
التصرفات النافعة غير محجور كقبول الهبة
والصدقة, ولا مضرة للمولى في أمان العبد
بتعطيل منافعه عليه؛ لأنه يتأدى في زمان قليل,
بل له ولسائر المسلمين فيه منفعة, فلا يظهر
انحجاره عنه, فأشبه المأذون بالقتال. "وجه"
قولهما أن الأصل في الأمان أن لا يجوز؛ لأن
القتال فرض والأمان يحرم القتال, إلا إذا وقع
في حال يكون بالمسلمين ضعف وبالكفرة قوة,
لوقوعه وسيلة إلى الاستعداد للقتال في هذه
الحالة, فيكون قتالا معنى إذ الوسيلة إلى
الشيء حكمها حكم ذلك الشيء, وهذه حالة لا تعرف
إلا بالتأمل والنظر في حال المسلمين في قوتهم
وضعفهم, والعبد المحجور لاشتغاله بخدمة المولى
لا يقف عليهما, فكان أمانه تركا للقتال
المفروض صورة ومعنى, فلا يجوز, فبهذا فارق
المأذون؛ لأن المأذون بالقتال يقف على هذه
الحالة, فيقع أمانه وسيلة إلى القتال, فكان
إقامة للفرض معنى فهو الفرق. "وأما" الحديث
فلا يتناول المحجور؛ لأن الأدنى إما أن يكون
من الدناءة, وهي الخساسة وإما أن يكون من
الدنو, وهو القرب والأول ليس بمراد؛ لأن
الحديث يتناول المسلمين بقوله عليه الصلاة
والسلام:
"المسلمون
تتكافأ دماؤهم" ولا خساسة
مع الإسلام والثاني لا يتناول المحجور؛ لأنه
لا يكون في صف القتال, فلا يكون أقرب إلى
الكفرة والله سبحانه وتعالى أعلم. وكذلك
الذكورة ليست بشرط, فيصح أمان المرأة؛ لأنها
بما معها من العقل لا تعجز عن الوقوف على حال
القوة والضعف وقد روي أن سيدتنا زينب بنت
النبي المكرم عليه الصلاة والسلام "أمنت زوجها
أبا العاص رضي الله عنه وأجاز رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمانها" وكذلك السلامة عن
العمى, والزمانة والمرض, ليست بشرط, فيصح أمان
الأعمى والزمن والمريض؛ لأن الأصل في صحة
الأمان صدوره عن رأي ونظر في الأحوال الخفية
من الضعف والقوة, وهذه
ج / 7 ص -107-
العوارض لا تقدح فيه, ولا يجوز أمان التاجر في
دار الحرب, والأسير فيها, والحربي الذي أسلم
هناك؛ لأن هؤلاء لا يقفون على حال الغزاة من
القوة والضعف, فلا يعرفون للأمان مصلحة,
ولأنهم متهمون في حق الغزاة؛ لكونهم مقهورين
في أيدي الكفرة, وكذلك الجماعة ليست بشرط,
فيصح أمان الواحد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ويسعى بذمتهم أدناهم" ولأن
الوقوف على حالة القوة والضعف لا يقف على رأي
الجماعة, فيصح من الواحد وسواء أمن جماعة
كثيرة أو قليلة, أو أهل مصر أو قرية, فذلك
جائز. وأما حكم الأمان, فهو ثبوت الأمن
للكفرة؛ لأن لفظ الأمان يدل عليه, وهو قوله:
أمنت فثبت الأمن لهم عن القتل والسبي
والاستغنام, فيحرم على المسلمين قتل رجالهم,
وسبي نسائهم وذراريهم, واستغنام أموالهم وأما
صفته فهو أنه عقد غير لازم, حتى لو رأى الإمام
المصلحة في النقض ينقض؛ لأن جوازه مع أنه
يتضمن ترك القتال المفروض, كان للمصلحة, فإذا
صارت المصلحة في النقض نقض. وأما بيان ما
ينتقض به الأمان فالأمر فيه لا يخلو من أحد
وجهين, إما أن كان الأمان مطلقا, وإما أن كان
مؤقتا إلى وقت معلوم فإن كان مطلقا فانتقاضه
يكون بطريقين, أحدهما: نقض الإمام, فإذا نقض
الإمام انتقض, لكن ينبغي أن يخبرهم بالنقض, ثم
يقاتلهم لئلا يكون منهم غدر في العهد.
والثاني: أن يجيء أهل الحصن بالأمان فينقض,
وإذا جاءوا الإمام بالأمان ينبغي أن يدعوهم
إلى الإسلام, فإن أبوا فإلى الذمة, فإن أبوا
ردهم إلى مأمنهم, ثم قاتلهم احترازا عن الغدر,
فإن أبوا الإسلام والجزية, وأبوا أن يلحقوا
بمأمنهم, فإن الإمام يؤجلهم على ما يرى فإن
رجعوا إلى مأمنهم في الأجل المضروب, وإلا
صاروا ذمة لا يمكنون بعد ذلك أن يرجعوا إلى
مأمنهم؛ لأن مقامهم بعد الأجل المضروب التزام
الذمة دلالة, وإن كان الأمان مؤقتا إلى وقت
معلوم ينتهي بمضي الوقت من غير الحاجة إلى
النقض, ولهم أن يقاتلوهم إلا إذا دخل واحد
منهم دار الإسلام, فمضى الوقت, وهو فيه, فهو
آمن حتى يرجع إلى مأمنه, والله سبحانه وتعالى
أعلم. هذا إذا حاصر الغزاة مدينة أو حصنا من
حصون الكفرة, فجاءوا فاستأمنوهم, فأما إذا
استنزلوهم عن الحكم فهذا على وجهين. "إما" أن
استنزلوهم على حكم الله سبحانه وتعالى, وإما
أن استنزلوهم على حكم العباد, بأن استنزلوهم
على حكم رجل فإن استنزلوهم على حكم الله
سبحانه وتعالى جاز إنزالهم عليه عند أبي يوسف.
والخيار إلى الإمام إن شاء قتل مقاتلتهم وسبى
نساءهم وذراريهم, وإن شاء سبى الكل, وإن شاء
جعلهم ذمة مقاتلتهم وعند محمد لا يجوز الإنزال
على حكم الله تعالى فلا يجوز قتلهم
واسترقاقهم, ولكنهم يدعون إلى الإسلام, فإن
أبوا جعلوا ذمة واحتج محمد بما روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصايا
الأمراء عند بعث الجيش:
"وإذا حاصرتم مدينة أو حصنا, فإن أرادوا أن
تنزلوهم على حكم الله عز وجل فإنكم لا تدرون
ما حكم الله تعالى فيهم"
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإنزال
على حكم الله تعالى ونبه عليه الصلاة والسلام
على المعنى, وهو أن حكم الله سبحانه وتعالى
غير معلوم, فكان الإنزال على حكم الله تعالى
من الإمام قضاء بالمجهول, وإنه لا يصح. وإذا
لم يصح الإنزال على حكم الله سبحانه وتعالى
فيدعون إلى الإسلام, فإن أجابوا فهم أحرار
مسلمون لا سبيل على أنفسهم وأموالهم, وإن أبوا
لا يقتلهم الإمام ولا يسترقهم, ولكن يجعلهم
ذمة, فإن طلبوا من الإمام أن يبلغهم مأمنهم لم
يجبهم إليه؛ لأنه لو ردهم إلى مأمنهم لصاروا
حربا لنا. "وجه" قول أبي يوسف أن الاستنزال
على حكم الله عز وجل هو الاستنزال على الحكم
المشروع للمسلمين في حق الكفرة والقتل والسبي
وعقد الذمة كل ذلك حكم مشروع في حقهم, فجاز
الإنزال عليه قوله: إن ذلك مجهول لا يدري
المنزل عليه, أي حكم هو ؟. قلنا: نعم لكن يمكن
الوصول إليه والعلم به؛ لوجود سبب العلم, وهو
الاختيار وهذا لا يكفي لجواز الإنزال عليه,
كما قلنا في الكفارات: إن الواجب أحد الأشياء
الثلاثة, وذلك غير معلوم, ثم لم يمنع ذلك وقوع
تعلق التكليف به؛ لوجود سبب العلم به, وهو
اختيار الكفر المكلف, كذا هذا يدل عليه أنه
يجوز الإنزال على حكم العباد بالإجماع على حكم
العباد إنزال على حكم الله تعالى حقيقة, إذ
العبد لا يملك إنشاء الحكم من نفسه قال الله
تعالى
{وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} وقال تبارك وتعالى
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ولكنه يظهر حكم الله عز وجل المشروع في الحادثة, ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي
الله عنه
"لقد حكمت
ج / 7 ص -108-
بحكم الله
تعالى من فوق سبعة أرقعة". "وأما"
الحديث فيحتمل أنه مصروف إلى زمان جواز ورود
النسخ, وهو حال حياة النبي؛ عليه الصلاة
والسلام لانعدام استقرار الأحكام الشرعية في
حياته عليه الصلاة والسلام لئلا يكون الإنزال
على الحكم المنسوخ عسى؛ لاحتمال النسخ فيما
بين ذلك وقد انعدم هذا المعنى بعد وفاته؛ عليه
الصلاة والسلام لخروج الأحكام عن احتمال النسخ
بوفاته. صلى الله عليه وسلم وإذا جاز الإنزال
على حكم الله سبحانه وتعالى عند أبي يوسف,
فالخيار فيه إلى الإمام, فأيما كان أفضل
للمسلمين من القتل والسبي والذمة فعل؛ لأن كل
ذلك حكم الله سبحانه وتعالى المشروع للمسلمين
في حق الكفرة فإن أسلموا قبل الاختيار, فهم
أحرار مسلمون, لا سبيل لأحد عليهم وعلى
أموالهم, والأرض لهم, وهي عشرية وكذلك إذا
جعلهم ذمة فهم أحرار, ويضع على أراضيهم الخراج
فإن أسلموا قبل توظيف الخراج صارت عشرية, هذا
إذا كان الإنزال على حكم الله سبحانه وتعالى.
فأما إذا كان على حكم العباد بأن استنزلوهم
على حكم رجل فهذا لا يخلو من أحد وجهين "إما"
أن استنزلوهم على حكم رجل معين, بأن قالوا:
على حكم فلان لرجل سموه "وإما" أن استنزلوهم
على حكم رجل غير معين, فإن كان الاستنزال على
حكم رجل معين فنزلوا على حكمه, فحكم عليهم
بشيء مما ذكرنا, وهو رجل عاقل مسلم عدل, غير
محدود في قذف, جاز بالإجماع؛ لما روي "أن بني
قريظة لما حاصرهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم خمسا وعشرين ليلة, استنزلوا على حكم سعد
بن معاذ, فحكم سعد أن تقتل رجالهم, وتقسم
أموالهم, وتسبى نساؤهم وذراريهم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة" فقد استصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه, حيث أخبر عليه
الصلاة والسلام أن ما حكم به حكم الله سبحانه
وتعالى لأن حكم الله سبحانه وتعالى لا يكون
إلا صوابا. وليس للحاكم أن يحكم بردهم إلى دار
الحرب فإن حكم فهو باطل؛ لأنه حكم غير مشروع
لما بينا؛ لأنهم بالرد يصيرون حربيين لنا, وإن
كان الحاكم عبدا أو صبيا لم يجز حكمه بالإجماع
كان فاسقا, أو محدودا في القذف, لم يجز حكمه
عند أبي يوسف وعند محمد يجوز. "وجه" قول محمد
رحمه الله أن الفاسق يصلح قاضيا, فيصلح حكما
بالطريق الأولى. "وجه" قول أبي يوسف أن
المحدود في القذف لا يصلح حكما؛ لأنه ليس من
أهل الولاية, ولهذا لم يصلح قاضيا, وكذا
الفاسق لا يصلح حكما وإن صلح قاضيا, لكنه لا
يلزم قضاؤه, ولهذا لو رفعت قضية إلى قاض آخر,
إن شاء أمضاه وإن شاء رده, وإن كان ذميا جاز
حكمه في الكفرة؛ لأنه من أهل الشهادة على
جنسه, وإن نزلوا على حكم رجل يختارونه,
فاختاروا رجلا فإن كان موضعا للحكم جاز حكمه.
وإن كان غير موضع للحكم لا يقبل منهم حتى
يختاروا رجلا موضعا للحكم, فإن لم يختاروا
أبلغهم الإمام مأمنهم؛ لأن النزول كان على
شرط, وهو حكم رجل يختارونه, فإذا لم يختاروا
فقد بقوا في يد الإمام بالأمان, فيردهم إلى
مأمنهم, إلا أنه لا يردهم إلى حصن هو أحصن من
الأول, ولا إلى حد يمتنعون به؛ لأن الرد إلى
المأمن للتحرج عن توهم العذر, وأنه يحصل بالرد
إلى ما كانوا عليه, فلا ضرورة في الرد إلى
غيره, وإن نزلوا على حكم رجل غير معين فللإمام
أن يعين رجلا صالحا للحكم فيهم, أو يحكم
للمسلمين بنفسه بما هو أفضل لهم والله سبحانه
وتعالى أعلم. والثاني, الموادعة وهي: المعاهدة
والصلح على ترك القتال يقال: توادع الفريقان
أي تعاهدا على أن لا يغزو كل واحد منهما صاحبه
والكلام في الموادعة في مواضع: في بيان ركنها,
وشرطها, وحكمها, وصفتها, وما ينتقض به أما
ركنها: فهو لفظة الموادعة, أو المسالمة, أو
المصالحة, أو المعاهدة, أو ما يؤدي معنى هذه
العبارات وشرطها الضرورة, وهي ضرورة استعداد
القتال, بأن كان بالمسلمين ضعف, وبالكفرة قوة
المجاوزة إلى قوم آخرين, فلا تجوز عند عدم
الضرورة؛ لأن الموادعة ترك القتال المفروض,
فلا يجوز إلا في حال يقع وسيلة إلى القتال؛
لأنها حينئذ تكون قتالا معنى قال الله تبارك
وتعالى
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ}.
وعند تحقق الضرورة لا بأس به؛ لقول الله تبارك
وتعالى
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ} وقد
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع أهل
مكة عام الحديبية على أن توضع الحرب عشر سنين
ولا يشترط إذن الإمام بالموادعة, حتى لو
وادعهم الإمام, أو فريق من المسلمين من غير
إذن الإمام جازت موادعتهم؛ لأن المعول عليه
كون عقد الموادعة مصلحة
ج / 7 ص -109-
للمسلمين وقد وجد. ولا بأس بأن يأخذ المسلمون
على ذلك جعلا؛ لأن ذلك في معنى الجزية, ويوضع
موضع الخراج في بيت المال, ولا بأس أن يطلب
المسلمون الصلح من الكفرة ويعطوا على ذلك مالا
إذا اضطروا إليه؛ لقوله سبحانه وتعالى
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} أباح سبحانه وتعالى لنا الصلح مطلقا, فيجوز ببدل أو غير بدل, ولأن
الصلح على مال لدفع شر الكفرة للحال,
والاستعداد للقتال في الثاني من باب المجاهدة
بالمال والنفس, فيكون جائزا وتجوز موادعة
المرتدين إذا غلبوا على دار من دور الإسلام,
وخيف منهم, ولم تؤمن غائلتهم لما فيه من مصلحة
دفع الشر للحال, ورجاء رجوعهم إلى الإسلام
وتوبتهم, ولا يؤخذ منهم على ذلك مال؛ لأن ذلك
في معنى الجزية, ولا يجوز أخذ الجزية من
المرتدين, فإن أخذ منهم شيئا لا يرد؛ لأنه مال
غير معصوم. ألا ترى أن أموالهم محل للاستيلاء
كأموال أهل الحرب؟ وكذلك البغاة تجوز
موادعتهم؛ لأنه لما جازت موادعة الكفرة؛ فلأن
تجوز موادعة المسلمين أولى, ولكن لا يؤخذ منهم
على ذلك مال؛ لأن المال المأخوذ على ترك
القتال, يكون في معنى الجزية, ولا تؤخذ الجزية
إلا من كافر. "وأما" حكم الموادعة فهو حكم
الأمان المعروف وهو أن يأمن الموادعون على
أنفسهم وأموالهم, ونسائهم وذراريهم؛ لأنها عقد
أمان أيضا, ولو خرج قوم من الموادعين إلى بلدة
أخرى ليست بينهم وبين المسلمين موادعة, فغزا
المسلمون تلك البلدة, فهؤلاء آمنون لا سبيل
لأحد عليهم؛ لأن عقد الموادعة أفاد الأمان لهم
فلا ينتقض بالخروج إلى موضع آخر, كما في
الأمان المؤبد, وهو عقد الذمة إنه لا يبطل
بدخول الذمي دار الحرب كذا هذا, وكذلك لو دخل
في دار الموادعة رجل من غير دراهم بأمان, ثم
خرج إلى دار الإسلام بغير أمان, فهو آمن؛ لأنه
لما دخل دار الموادعين بأمانهم صار كواحد من
جملتهم فلو عاد إلى داره ثم دخل دار الإسلام
بغير أمان كان فيئا, لنا أن نقتله ونأسره؛
لأنه لما رجع إلى داره فقد خرج من أن يكون من
أهل دار الموادعة, فبطل حكم الموادعة في حقه
فإذا دخل دار الإسلام, فهذا حربي دخل دار
الإسلام ابتداء بغير أمان, ولو أسر واحد من
الموادعين أهل دار أخرى فغزا المسلمون على تلك
الدار, كان فيئا, وقد ذكرنا أنه لو دخل إليهم
تاجر فهو آمن. "ووجه" الفرق أنه لما أسر فقد
انقطع حكم دار الموادعة في حقه, وإذا دخل
تاجرا لم ينقطع, والله تعالى أعلم. "وأما" صفة
عقد الموادعة, فهو أنه عقد غير لازم محتمل
للنقض, فللإمام أن ينبذ إليهم؛ لقوله سبحانه
وتعالى
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلَى سَوَاءٍ}
فإذا وصل النبذ إلى ملكهم, فلا بأس للمسلمين
أن يغزوا عليهم؛ لأن الملك يبلغ قومه ظاهرا
إلا إذا استيقن المسلمون أن خبر النبذ لم يبلغ
قومه, ولم يعلموا به, فلا أحب أن يغزوا عليهم؛
لأن الخبر إذا لم يبلغهم فهم على حكم الأمان
الأول, فكان قتالهم منا غدرا وتغريرا, وكذلك
إذا كان النبذ من جهتهم بأن أرسلوا إلينا
رسولا بالنبذ, وأخبروا الإمام بذلك فلا بأس
للمسلمين أن يغزوا عليهم, لما قلنا إلا إذا
استيقن المسلمون أن أهل ناحية منهم لم يعلموا
بذلك لما بينا. ولو وادع الإمام على جعل, أخذه
منهم, ثم بدا له أن ينقض فلا بأس به؛ لما بينا
أنه عقد غير لازم, فكان محتملا للنقض, ولكن
يبعث إليهم بحصة ما بقي من المدة من الجعل
الذي أخذه؛ لأنهم إنما أعطوه ذلك بمقابلة
الأمان في كل المدة, فإذا فات بعضها لزم الرد
بقدر الفائت, هذا إذا وقع الصلح على أن يكونوا
مستبقين على أحكام الكفر. "فأما" إذا وقع
الصلح على أنه يجري عليهم أحكام الإسلام فهو
لازم, لا يحتمل النقض؛ لأن الصلح الواقع على
هذا الوجه عقد ذمة, فلا يجوز للإمام أن ينبذ
إليهم والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" بيان
ما ينقض به عقد الموادعة, فالجملة فيه أن عقد
الموادعة "إما" أن كان مطلقا عن الوقت. "وإما"
أن كان موقتا بوقت معلوم فإن كان مطلقا عن
الوقت فالذي ينتقض به نوعان: نص, ودلالة
فالنص, هو النبذ من الجانبين صريحا. "وأما"
الدلالة, فهي أن يوجد منهم ما يدل على النبذ,
نحو أن يخرج قوم من دار الموادعة بإذن الإمام
ويقطعوا الطريق في دار الإسلام؛ لأن إذن
الإمام بذلك دلالة النبذ, ولو خرج قوم من غير
إذن الإمام, فقطعوا الطريق في دار الإسلام فإن
كانوا جماعة لا منعة لهم, لا يكون ذلك نقضا
للعهد؛ لأن قطع الطريق بلا منعة لا يصلح دلالة
للنقض, ألا ترى أنه لو نص واحد منهم على النقض
لا ينتقض؟ كما في الأمان المؤبد, وهو عقد
الذمة. وإن كانوا جماعة لهم منعة فخرجوا بغير
إذن الإمام ولا إذن أهل مملكته
ج / 7 ص -110-
فالملك
وأهل مملكته على موادعتهم؛ لانعدام دلالة
النقض في حقهم, ولكن ينتقض العهد فيما بين
القطاع, حتى يباح قتلهم واسترقاقهم؛ لوجود
دليل النقض منهم, وإن كان موقتا بوقت معلوم,
ينتهي العهد بانتهاء الوقت من غير الحاجة إلى
النبذ, حتى كان للمسلمين أن يغزوا عليهم؛ لأن
العقد المؤقت إلى غاية ينتهي بانتهاء الغاية
من غير الحاجة إلى الناقض, ولو كان واحد منهم
دخل الإسلام بالموادعة المؤقتة, فمضى الوقت
وهو في دار الإسلام, فهو آمن حتى يرجع إلى
مأمنه؛ لأن التعرض له يوهم الغدر والتغرير,
فيجب التحرز عنه ما أمكن, والله تعالى أعلم.
"وأما" الأمان المؤبد فهو المسمى بعقد الذمة,
والكلام فيه في مواضع: في بيان ركن العقد, وفي
بيان شرائط الركن, وفي بيان حكم العقد, وفي
بيان صفة العقد, وفي بيان ما يؤخذ به أهل
الذمة, وما يتعرض له وما لا يتعرض له. "أما"
ركن العقد فهو نوعان: نص, ودلالة. "أما" النص
فهو لفظ يدل عليه, وهو لفظ العهد والعقد على
وجه مخصوص. "وأما" الدلالة فهي فعل يدل على
قبول الجزية نحو أن يدخل حربي في دار الإسلام
بأمان, فإن أقام بها سنة بعد ما تقدم إليه في
أن يخرج أو يكون ذميا, والأصل أن الحربي إذا
دخل دار الإسلام بأمان, ينبغي للإمام أن يتقدم
إليه, فيضرب له مدة معلومة على حسب ما يقتضي
رأيه ويقول له: إن جاوزت المدة جعلتك من أهل
الذمة فإذا جاوزها صار ذميا؛ لأنه لما قال له
ذلك فلم يخرج حتى مضت المدة, فقد رضي بصيرورته
ذميا, فإذا أقام سنة من يوم قال له الإمام,
أخذ منه الجزية ولا يتركه يرجع إلى وطنه قبل
ذلك. وإن خرج بعد تمام السنة فلا سبيل عليه,
ولو قال الإمام عند الدخول: ادخل ولا تمكث سنة
فمكث سنة, صار ذميا, ولا يمكن من الرجوع إلى
وطنه لما قلنا, ولو اشترى المستأمن أرضا
خراجية, فإذا وضع عليه الخراج صار ذميا؛ لأن
وظيفة الخراج يختص بالمقام في دار الإسلام,
فإذا قبلها فقد رضي بكونه من أهل دار الإسلام,
فيصير ذميا, ولو باعها قبل أن يجبي خراجها, لا
يصير ذميا؛ لأن دليل قبول الذمة, وجوب الخراج
لا نفس الشراء فما لم يوضع عليه الخراج لا
يصير ذميا, ولو استأجر أرضا خراجية فزرعها لم
يصر ذميا؛ لأن الخراج على الآجر دون المستأجر,
فلا يدل على التزام الذمة إلا إذا كان خراجا
مقاسمة, فإذا أخرجت الأرض وأخذ الإمام الخراج
من الخارج وضع عليه الجزية, وجعله ذميا. ولو
اشترى المستأمن أرض المقاسمة, وأجرها من رجل
من المسلمين, فأخذ الإمام الخراج من ذلك لا
يصير المستأمن ذميا لما بينا أن نفس الشراء لا
يدل على الالتزام, بل دليل الالتزام هو وجوب
الخراج عليه, ولم يجب ولو اشترى الحربي
المستأمن أرض خراج فزرعها, فأخرجت زرعا, فأصاب
الزرع آفة, إنه لا يصير ذميا؛ لأنه إذا أصاب
الزرع آفة لم يجب الخراج, فصار كأنه لم يزرعها
فبقي نفس الشراء, وإنه لا يصلح دليل قبول
الذمة ولو وجب على المستأمن الخراج في أقل من
سنة منذ يوم ملكها, صار ذميا حين وجوب الخراج,
ويؤخذ منه خراج رأسه بعد سنة مستقبلة؛ لأنه
بوجوب خراج الأرض صار ذميا كان عقد الذمة نصا,
فيعتبر ابتداء العقد من حين وجوب الخراج,
فيؤخذ خراج الرأس بعد تمام السنة من ذلك الوقت
ولو تزوجت الحربية المستأمنة في دار الإسلام
ذميا, صارت ذمية ولو تزوج الحربي المستأمن في
دار الإسلام ذمية لم يصر ذميا. "ووجه" الفرق
أن المرأة تابعة لزوجها, فإذا تزوجت بذمي فقد
رضيت بالمقام في دارنا, فصارت ذمية تبعا
لزوجها فأما الزوج فليس بتابع للمرأة, فلا
يكون تزوجه إياها دليل الرضا بالمقام في
دارنا, فلا يصير ذميا والله تعالى أعلم.
"وأما" شرائط الركن فأنواع "منها" أن لا يكون
المعاهد من مشركي العرب, فإنه لا يقبل منهم
إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله تعالى
{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
أمر سبحانه وتعالى بقتل المشركين, ولم يأمر
بتخلية سبيلهم إلا عند توبتهم, وهي الإسلام
ويجوز عقد الذمة مع أهل الكتاب؛ لقول الله
تبارك وتعالى
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ} إلى
قوله تعالى
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية وسواء كانوا من العرب, أو من العجم؛ لعموم النص ويجوز مع
المجوس؛ لأنهم ملحقون بأهل الكتاب في حق
الجزية لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال في المجوس
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وكذلك
فعل سيدنا عمر رضي الله عنه بسواد العراق وضرب
الجزية على جماجمهم, والخراج على أراضيهم. ثم
وجه الفرق بين مشركي العرب وغيرهم من أهل
الكتاب, ومشركي
ج / 7 ص -111-
العجم
أن أهل الكتاب إنما تركوا بالذمة وقبول الجزية
لا لرغبة فيما يؤخذ منهم, أو طمع في ذلك, بل
للدعوة إلى الإسلام ليخالطوا المسلمين,
فيتأملوا في محاسن الإسلام وشرائعه, وينظروا
فيها فيروها مؤسسة على ما تحتمله العقول,
وتقبله, فيدعوهم ذلك إلى الإسلام, فيرغبون
فيه, فكان عقد الذمة لرجاء الإسلام. وهذا
المعنى لا يحصل بعقد الذمة مع مشركي العرب؛
لأنهم أهل تقليد وعادة, لا يعرفون سوى العادة
وتقليد الآباء, بل يعدون ما سوى ذلك سخرية
وجنونا, فلا يشتغلون بالتأمل والنظر في محاسن
الشريعة ليقفوا عليها فيدعوهم إلى الإسلام
فتعين السيف داعيا لهم إلى الإسلام, ولهذا لم
يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم
الجزية, ومشركو العجم ملحقون بأهل الكتاب في
هذا الحكم بالنص الذي روينا. "ومنها" أن لا
يكون مرتدا فإنه لا يقبل من المرتد أيضا إلا
الإسلام, أو السيف؛ لقول الله تبارك وتعالى
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قيل: إن الآية نزلت في أهل الردة من بني حنيفة, ولأن العقد في حق
المرتد لا يقع وسيلة إلى الإسلام؛ لأن الظاهر
أنه لا ينتقل عن دين الإسلام بعد ما عرف
محاسنه وشرائعه المحمودة في العقول إلا لسوء
اختياره وشؤم طبعه, فيقع اليأس عن فلاحه, فلا
يكون عقد الذمة وقبول الجزية في حقه وسيلة إلى
الإسلام والله تعالى أعلم "وأما" الصابئون
فيعقد لهم عقد الذمة لما ذكرنا في كتاب النكاح
عند أبي حنيفة قوم من أهل الكتاب يقرءون
الزبور, وعندهما قوم يعبدون الكواكب, فكانوا
في حكم عبدة الأوثان, فتؤخذ منهم الجزية إذا
كانوا من العجم والله تعالى أعلم. "ومنها" أن
يكون مؤبدا فإن وقت له وقتا لم يصح عقد الذمة؛
لأن عقد الذمة في إفادة العصمة كالخلف عن عقد
الإسلام, وعقد الإسلام لا يصح إلا مؤبدا, فكذا
عقد الذمة والله تعالى أعلم. "وأما" بيان حكم
العقد فنقول وبالله التوفيق: إن لعقد الذمة
أحكاما "منها" عصمة النفس لقوله تعالى
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله عز وجل
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} نهى سبحانه وتعالى إباحة القتال إلى غاية قبول الجزية, وإذا انتهت
الإباحة, تثبت العصمة ضرورة. "ومنها" عصمة
المال؛ لأنها تابعة لعصمة النفس وعن سيدنا علي
رضي الله عنه أنه قال: إنما قبلوا عقد الذمة؛
لتكون أموالهم كأموالنا, ودماؤهم كدمائنا.
والكلام في وجوب الجزية في مواضع: في بيان سبب
وجوب الجزية, وفي بيان شرائط الوجوب, وفي بيان
وقت الوجوب, وفي بيان مقدار الواجب, وفي بيان
ما يسقط به بعد الوجوب. "أما" الأول فسبب
وجوبها عقد الذمة. وأما شرائط الوجوب فأنواع:
"منها" العقل "ومنها" البلوغ "ومنها" الذكورة,
فلا تجب على الصبيان والنساء والمجانين؛ لأن
الله سبحانه وتعالى أوجب الجزية على من هو من
أهل القتال بقوله تعالى
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ} الآية
والمقاتلة مفاعلة من القتال فتستدعي أهلية
القتال من الجانبين, فلا تجب على من ليس من
أهل القتال, وهؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا
تجب عليهم. "ومنها" الصحة, فلا تجب على المريض
إذا مرض السنة كلها؛ لأن المريض لا يقدر على
القتال, وكذلك إن مرض أكثر السنة, وإن صح أكثر
السنة وجبت؛ لأن للأكثر حكم الكل. "ومنها"
السلامة عن الزمانة والعمى والكبر في ظاهر
الرواية, فلا تجب على الزمن والأعمى والشيخ
الكبير وروي عن أبي يوسف أنها ليست بشرط, وتجب
على هؤلاء إذا كان لهم مال, والصحيح جواب ظاهر
الرواية؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال عادة
ألا ترى أنهم لا يقتلون؟ وكذا الفقير الذي لا
يعتمل لا قدرة له لأن من لا يقدر على العمل لا
يكون من أهل القتال. "وأما" أصحاب الصوامع
فعليهم الجزية إذا كانوا قادرين على العمل؛
لأنهم من أهل القتال, فعدم العمل مع القدرة
على العمل لا يمنع الوجوب, كما إذا كان له أرض
خراجية فلم يزرعها مع القدرة على الزراعة, لا
يسقط عنه الخراج والله تعالى أعلم. "ومنها"
الحرية, فلا تجب على العبد؛ لأن العبد ليس من
أهل ملك المال. "وأما" وقت الوجوب فأول السنة؛
لأنها تجب لحقن الدم في المستقبل, فلا تؤخر
إلى آخر السنة, ولكن تؤخذ في كل شهر من الفقير
درهم, ومن المتوسط درهمان, ومن الغني أربعة
دراهم. "وأما" بيان مقدار الواجب فنقول وبالله
التوفيق: الجزية على ضربين: جزية توضع
بالتراضي, وهو الصلح, وذلك يتقدر بقدر ما وقع
عليه الصلح, كما صالح رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ج / 7 ص -112-
أهل
نجران على ألف ومائتي حلة وجزية يضعها الإمام
عليهم من غير رضاهم, بأن ظهر الإمام على أرض
الكفار, وأقرهم على أملاكهم, وجعلهم ذمة, وذلك
على ثلاثة مراتب؛ لأن الذمة ثلاث طبقات:
أغنياء, وأوساط, وفقراء, فيضع على الغني
ثمانية وأربعين درهما, وعلى الوسط أربعة
وعشرين درهما, وعلى الفقير المعتمل اثني عشر
درهما كذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه
أمر عثمان بن حنيف حين بعثه إلى السواد أن يضع
هكذا وكان ذلك من سيدنا عمر رضي الله عنه
بمحضر من الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي
الله عنهم ولم ينكر عليه أحد, فهو كالإجماع
على ذلك مع ما أنه لا يحتمل أن يكون من سيدنا
عمر رضي الله عنه رأيا؛ لأن المقدرات سبيل
معرفتها التوقيف والسمع لا العقل, فهو
كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
اختلف في تفسير الغني في هذا الباب, والوسط,
والفقير, قال بعضهم: من لم يملك نصابا تجب في
مثله الزكاة على المسلمين, وهو مائتا درهم,
فهو فقير, ومن ملك مائتي درهم فهو من الأواسط,
ومن ملك أربعة آلاف درهم فصاعدا فهو من
الأغنياء, لما روي عن سيدنا علي وعبد الله ابن
سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم أنهما قالا:
أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة, وما فوق ذلك
كنز وقيل: من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف
فما دونها فهو من الأوساط ومن ملك زيادة على
عشرة آلاف فهو من الأغنياء والله تعالى أعلم.
"وأما" ما يسقطها بعد الوجوب فأنواع "منها"
الإسلام "ومنها" الموت عندنا, فإن الذمي إذا
أسلم أو مات سقطت الجزية عندنا وعند الشافعي
رحمه الله لا تسقط بالموت والإسلام. "وجه"
قوله أن الجزية وجبت عوضا عن العصمة بقوله
تعالى
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله جل شأنه
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أباح جلت عظمته دماء أهل القتال ثم حقنها بالجزية, فكانت الجزية
عوضا عن حقن الدم, وقد حصل له العوض في الزمان
الماضي, فلا يسقط عنه العوض. "ولنا" ما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"ليس على مسلم جزية" وعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه رفع الجزية بالإسلام, فقال: والله
إن في الإسلام لمعاذا إن فعل ولأنها وجبت
وسيلة إلى الإسلام, فلا تبقى بعد الإسلام
والموت, كالقتال على أنها وجبت وسيلة إلى
الإسلام أن الإسلام فرض بالنصوص والجزية تتضمن
ترك القتال, فلا يجوز شرع عقد الذمة والجزية
الذي فيه ترك القتال إلا لما شرع له القتال,
وهو التوسل إلى الإسلام, وإلا فيكون تناقضا,
والشريعة لا تتناقض وتعذر تحقيق معنى التوسل
بعد الموت والإسلام, فيسقط ضرورة وقوله: إنها
وجبت عوضا عن حقن الدم ممنوع بل ما وجبت إلا
وسيلة إلى الإسلام؛ لأن تمكين الكفرة في دار
الإسلام, وترك قتالهم مع قولهم في الله ما لا
يليق بذاته وصفاته تبارك وتعالى للوصول إلى
عرض يسير من الدنيا, خارج عن الحكم والعقل
فأما التوسل إلى الإسلام, وإعدام الكفرة
فمعقول, مع ما أنها إن وجبت لحقن الدم, فإنما
تجب كذلك في المستقبل, وإذا صار دمه محقونا
فيما مضى فلا يجوز أخذ الجزية لأجله فتسقط.
"ومنها" مضي سنة تامة, ودخول سنة أخرى عند أبي
حنيفة وعندهما لا تسقط, حتى إنه إذا مضى على
الذمة سنة كاملة ودخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها
الذمي تؤخذ منه للسنة المستقبلة, ولا تؤخذ
للسنة الماضية عنده وعندهما تؤخذ لما مضى ما
دام ذميا والمسألة تعرف بالموانيد1 أنها تؤخذ
أم لا؟ "وجه" قولهما أن الجزية أحد نوعي
الخراج فلا تسقط بالتأخير إلى سنة أخرى
استدلالا بالخراج الآخر, وهو خراج الأرض؛ وهذا
لأن كل واحد منهما دين, فلا تسقط بالتأخير
كسائر الديون, ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان
"أحدهما" أن الجزية ما وجبت إلا لرجاء
الإسلام, وإذا لم يوجد حتى دخلت سنة أخرى,
انقطع الرجاء فيما مضى وبقي الرجاء في
المستقبل, فيؤخذ للسنة المستقبلة والثاني أن
الجزية إنما جعلت لحقن الدم في المستقبل, فإذا
صار دمه محقونا في السنة الماضية, فلا تؤخذ
الجزية لأجلها؛ لانعدام الحاجة إلى ذلك كما
إذا أسلم أو مات تسقط عنه الجزية؛ لعدم الحاجة
إلى الحقن بالجزية كذا هذا والاعتبار بخراج
الأرض غير سديد, فإن المجوسي إذا أسلم بعد مضي
السنة لا يسقط عنه خراج الأرض, ويسقط عنه خراج
الرأس بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله وبه
تبين أن هذا ليس كسائر الديون, فبطل الاعتبار
بها والله تعالى أعلم.
"وأما" صفة العقد فهو أنه لازم في حقنا حتى لا
يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال. وأما في
حقهم فغير لازم بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل وفي نسخة هكذا بالموانيه
ج / 7 ص -113-
يحتمل
الانتفاع في الجملة؛ لكنه لا ينتقض إلا بأحد
أمور ثلاثة أحدها: أن يسلم الذمي لما مر أن
الذمة عقدت وسيلة إلى الإسلام, وقد حصل
المقصود والثاني: أن يلحق بدار الحرب؛ لأنه
إذا لحق بدار الحرب صار بمنزلة المرتد, إلا أن
الذمي إذا لحق بدار الحرب يسترق, والمرتد إذا
لحق بدار الحرب لا يسترق لما نذكره إن شاء
الله تعالى "والثالث" أن يغلبوا على موضع
فيحاربون؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد صاروا أهل
الحرب وينتقض العهد ضرورة, ولو امتنع الذمي من
إعطاء الجزية لا ينتقض عهده؛ لأن الامتناع
يحتمل أن يكون لعذر العدم فلا ينتقض العهد
بالشك والاحتمال, وكذلك لو سب النبي عليه
الصلاة والسلام لا ينتقض عهده؛ لأن هذا زيادة
كفر على كفر, والعهد يبقى مع أصل الكفر فيبقى
مع الزيادة, وكذلك لو قتل مسلما أو زنى
بمسلمة؛ لأن هذه معاص ارتكبوها وهي دون الكفر
في القبح والحرمة ثم بقيت الذمة مع الكفر, فمع
المعصية أولى والله تعالى أعلم. "وأما" بيان
ما يؤخذ به أهل الذمة, وما يتعرض له وما لا
يتعرض فنقول وبالله التوفيق: إن أهل الذمة
يؤخذون بإظهار علامات يعرفون بها, ولا يتركون
يتشبهون بالمسلمين في لباسهم ومركبهم وهيئتهم,
فيؤخذ الذمي بأن يجعل على وسطه كشحا مثل الخيط
الغليظ, ويلبس قلنسوة طويلة مضروبة ويركب سرجا
على قربوسه مثل الرمانة, ولا يلبس طيلسانا مثل
طيالسة المسلمين ورداء مثل أردية المسلمين,
والأصل فيه ما روي أن عمر بن عبد العزيز رحمه
الله مر على رجال ركوب ذوي هيئة فظنهم مسلمين
فسلم عليهم, فقال له رجل من أصحابه: أصلحك
الله, تدري من هؤلاء؟ فقال: من هم؟ فقال:
هؤلاء نصارى بني تغلب فلما أتى منزله أمر أن
ينادي في الناس أن لا يبقى نصراني إلا عقد
ناصيته, وركب الإكاف. ولم ينقل أنه أنكر عليه
أحد فيكون كالإجماع, ولأن السلام من شعائر
الإسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه
الشعائر عند الالتقاء, ولا يمكنهم ذلك إلا
بتمييز أهل الذمة بالعلامة, ولأن في إظهار هذه
العلامات إظهار آثار الذلة عليهم, وفيه صيانة
عقائد ضعفة المسلمين عن التغيير على ما قال
سبحانه وتعالى
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا
لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ}
وكذا يجب أن يتميز نساؤهم عن نساء المسلمين في
حال المشي في الطريق, ويجب التمييز في
الحمامات في الأزر, فيخالف أزرهم أزر المسلمين
لما قلنا, وكذا يجب أن تميز الدور بعلامات
تعرف بها دورهم من دور المسلمين؛ ليعرف السائل
المسلم أنها دور الكفرة, فلا يدعو لهم
بالمغفرة, ويتركون أن يسكنوا في أمصار
المسلمين يبيعون ويشترون؛ لأن عقد الذمة شرع
ليكون وسيلة لهم إلى الإسلام, وتمكينهم من
المقام في أمصار المسلمين أبلغ إلى هذا
المقصود. وفيه أيضا منفعة المسلمين بالبيع
والشراء, فيمكنون من ذلك ولا يمكنون من بيع
الخمور والخنازير فيها ظاهرا؛ لأن حرمة الخمر
والخنزير ثابتة في حقهم كما هي ثابتة في حق
المسلمين؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات وهو الصحيح
عند أهل الأصول على ما عرف في موضعه, فكان
إظهار بيع الخمر والخنزير منهم إظهارا للفسق
فيمنعون من ذلك. وعندهم: أن ذلك مباح فكان
إظهار شعائر الكفر في مكان معد لإظهار شعائر
الإسلام, وهو أمصار المسلمين فيمنعون من ذلك
وكذا يمنعون من إدخالها في أمصار المسلمين
ظاهرا وروي عن أبي يوسف: إني لا أمنعهم من
إدخال الخنازير فرق بين الخمر والخنزير لما في
الخمر من خوف وقوع المسلم فيها ولا يتوهم ذلك
في الخنزير. ولا يمكنون من إظهار صليبهم في
عيدهم؛ لأنه إظهار شعائر الكفر, فلا يمكنون من
ذلك في أمصار المسلمين, ولو فعلوا ذلك في
كنائسهم لا يتعرض لهم وكذا لو ضربوا الناقوس
في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرض لذلك؛ لأن
إظهار الشعائر لم يتحقق, فإن ضربوا به خارجا
منها لم يمكنوا منه لما فيه من إظهار الشعائر,
ولا يمنعون من إظهار شيء مما ذكرنا من بيع
الخمر والخنزير, والصليب, وضرب الناقوس في
قرية, أو موضع ليس من أمصار المسلمين, ولو كان
فيه عدد كثير من أهل الإسلام وإنما يكره ذلك
في أمصار المسلمين, وهي التي يقام فيها الجمع
والأعياد والحدود؛ لأن المنع من إظهار هذه
الأشياء؛ لكونه إظهار شعائر الكفر في مكان
إظهار شعائر الإسلام, فيختص المنع بالمكان
المعد لإظهار الشعائر وهو المصر الجامع.
"وأما" إظهار فسق يعتقدون حرمته كالزنا وسائر
الفواحش التي هي حرام في دينهم, فإنهم يمنعون
من ذلك سواء كانوا في أمصار المسلمين, أو في
أمصارهم
ج / 7 ص -114-
ومدائنهم وقراهم, وكذا المزامير والعيدان,
والطبول في الغناء, واللعب بالحمام, ونظيرها,
يمنعون من ذلك كله في الأمصار والقرى؛ لأنهم
يعتقدون حرمة هذه الأفعال كما نعتقدها نحن فلم
تكن مستثناة عن عقد الذمة ليقروا عليها.
"وأما" الكنائس والبيع القديمة فلا يتعرض لها
ولا يهدم شيء منها. "وأما" إحداث كنيسة أخرى
فيمنعون عنه فيما صار مصرا من أمصار المسلمين؛
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا كنيسة في الإسلام إلا في دار الإسلام". ولو انهدمت كنيسة فلهم أن يبنوها كما كانت؛ لأن لهذا البناء حكم
البقاء, ولهم أن يستبقوها فلهم أن يبنوها,
وليس لهم أن يحولوها من موضع إلى موضع آخر؛
لأن التحويل من موضع إلى موضع آخر في حكم
إحداث كنيسة أخرى. "وأما" في القرى أو في موضع
ليس من أمصار المسلمين فلا يمنعون من إحداث
الكنائس والبيع, كما لا يمنعون من إظهار بيع
الخمور والخنازير لما بينا ولو ظهر الإمام على
قوم من أهل الحرب فرأى أن يجعلهم ذمة, ويضع
على رءوسهم الجزية. وعلى أراضيهم الخراج, لا
يمنعون من اتخاذ الكنائس والبيع, وإظهار بيع
الخمر والخنزير؛ لأن الممنوع إظهار شعائر
الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام, وهو أمصار
المسلمين, ولم يوجد بخلاف ما إذا صاروا ذمة
بالصلح, بأن طلب قوم من أهل الحرب منا أن
يصيروا ذمة يؤدون عن رقابهم وأراضيهم شيئا
معلوما, ونجري عليهم أحكام الإسلام فصالحناهم
على ذلك, فكانت أراضيهم مثل أراضي الشام مدائن
وقرى, ورساتيق وأمصارا, إنه لا يتعرض لكنائسهم
القديمة, ولكنهم لو أرادوا أن يحدثوا شيئا
منها يمنعوا من ذلك؛ لأنها صارت مصرا من أمصار
المسلمين. وإحداث الكنيسة في مصر من أمصار
المسلمين ممنوع عنه شرعا فإن مصر الإمام مصرا
للمسلمين, كما مصر سيدنا عمر رضي الله عنه
الكوفة والبصرة, فاشترى قوم من أهل الذمة
دورا, وأرادوا أن يتخذوا فيها كنائس لا يمكنوا
من ذلك لما قلنا, وكذلك لو تخلى رجل في صومعته
منع من ذلك؛ لأن ذلك في معنى اتخاذ الكنيسة,
وكل مصر من أمصار المشركين ظهر عليه الإمام
عنوة, وجعلهم ذمة فما كان فيه كنيسة قديمة
منعهم من الصلاة في تلك الكنائس؛ لأنه لما فتح
عنوة فقد استحقه المسلمون, فيمنعهم من الصلاة
فيها, ويأمرهم أن يتخذوها مساكن, ولا ينبغي أن
يهدمها وكذلك كل قرية جعلها الإمام مصرا, ولو
عطل الإمام هذا المصر وتركوا إقامة الجمع
والأعياد والحدود فيه, كان لأهل القرية أن
يحدثوا ما شاءوا؛ لأنه عاد قرية كما كانت
نصرانية تحت مسلم لا يمكنها من نصب الصليب في
بيته؛ لأن نصب الصليب كنصب الصنم, وتصلي في
بيته حيث شاءت هذا الذي ذكرنا حكم أرض العجم.
"وأما" أرض العرب فلا يترك فيها كنيسة, ولا
بيعة ولا يباع فيها الخمر والخنزير مصرا كان
أو قرية, أو ماء من مياه العرب, ويمنع
المشركون أن يتخذوا أرض العرب مسكنا ووطنا كذا
ذكره محمد تفضيلا لأرض العرب على غيرها,
وتطهيرا لها عن الدين الباطل قال عليه الصلاة
والسلام:
"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". وأما الالتجاء إلى الحرم فإن الحربي إذا التجأ إلى الحرم, لا يباح
قتله في الحرم, ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا
يؤوى, ولا يبايع حتى يخرج من الحرم وعند
الشافعي رحمه الله: يقتل في الحرم أصحابنا
فيما بينهم قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله:
لا يقتل في الحرم, ولا يخرج منه أيضا وقال أبو
يوسف رحمه الله: لا يباح قتله في الحرم, ولكن
يباح إخراجه من الحرم للشافعي رحمه الله قوله
تبارك وتعالى
{فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
وحيث يعبر به عن المكان, فكان هذا إباحة لقتل
المشركين في الأماكن كلها. "ولنا" قوله تبارك
وتعالى
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً
آمِناً}
إذا دخل ملتجئا, أما إذا دخل مكابرا أو مقاتلا
يقتل؛ لقوله تعالى
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ} ولأنه لما دخل مقاتلا فقد هتك حرمة الحرم, فيقتل تلافيا للهتك زجرا
لغيره عن الهتك وكذلك لو دخل قوم من أهل الحرب
للقتال, فإنهم يقتلون, ولو انهزموا من
المسلمين فلا شيء على المسلمين في قتلهم
وأسرهم والله تعالى أعلم.
"فصل". وأما بيان حكم الغنائم وما يتصل بها, فنقول وبالله التوفيق هاهنا
ثلاثة أشياء: النفل, والفيء, والغنيمة فلا بد
من بيان معاني هذه الألفاظ وما يتعلق بها من
الشرائط والأحكام. "أما" النفل في اللغة
فعبارة عن الزيادة, ومنه سمي ولد الولد نافلة؛
لأنه زيادة على الولد الصلبي, وسميت نوافل
العبادات لكونها زيادات على الفرائض, وفي
الشريعة عبارة
ج / 7 ص -115-
عما
خصه الإمام لبعض الغزاة تحريضا لهم على
القتال, سمي نفلا لكونه زيادة على ما يسهم لهم
من الغنيمة, والتنفيل هو تخصيص بعض الغزاة
بالزيادة, نحو أن يقول الإمام: من أصاب شيئا
فله ربعه أو ثلثه أو قال: من أصاب شيئا فهو له
أو قال: من أخذ شيئا أو قال: من قتل قتيلا فله
سلبه أو قال لسرية: ما أصبتم فلكم ربعه أو
ثلثه أو قال: فهو لكم وذلك جائز؛ لأن التخصيص
بذلك تحريض على القتال, وأنه أمر مشروع ومندوب
إليه. قال الله تعالى عز شأنه
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} إلا أنه لا ينبغي للإمام أن ينفل بكل المأخوذ؛ لأن التنفيل بكل
المأخوذ قطع حق الغانمين عن النفل أصلا, لكن
مع هذا لو رأى الإمام المصلحة في ذلك ففعله مع
سرية جاز؛ لأن المصلحة قد تكون فيه في الجملة,
ويجوز التنفيل في سائر الأموال من الذهب
والفضة والسلب وغير ذلك؛ لأن معنى التحريض على
القتال يتحقق في الكل, والسلب هو ثياب المقتول
وسلاحه الذي معه, ودابته التي ركبها بسرجها
وآلاتها, وما كان معه من مال في حقيبة على
الدابة, أو على وسطه. "وأما" حقيبة غلامه, وما
كان مع غلامه من دابة أخرى, فليس بسلب ولو
اشتركا في قتل رجل كان السلب بينهما, فإن بدأ
أحدهما فضربه, ثم أجهزه الآخر بأن كانت الضربة
الأولى قد أثخنته وصيرته إلى حال لا يقاتل ولا
يعين على القتال فالسلب للأول؛ لأنه قتيل
الأول. وإن كانت الضربة الأولى لم تصيره إلى
هذه الحالة فالسلب للثاني؛ لأنه قتيل الثاني
ولو قتل رجل واحد قتيلين أو أكثر فله سلبه وهل
يدخل الإمام في التنفيل؟ إن قال: في جميع ذلك
منكم لا يدخل؛ لأنه خصهم وإن لم يقل: منكم
يدخل؛ لأنه عم الكلام, هذا إذا نفل الإمام,
فإن لم ينفل شيئا, فقتل رجل من الغزاة قتيلا
لم يختص بسلبه عندنا. وقال الشافعي رحمه الله
تعالى: إن قتله مدبرا منهزما لم يختص بسلبه,
وإن قتله مقبلا مقاتلا يختص بسلبه واحتج بما
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من قتل قتيلا فله سلبه وهذا منه عليه الصلاة والسلام" نصب الشرع, ولأنه إذا قتله مقبلا مقاتلا فقد قتله بقوة نفسه فيختص
بالسلب, وإذا قتله موليا منهزما فإنما قتله
بقوة الجماعة فكان السلب غنيمة مقسومة. "ولنا"
أن القياس يأبى جواز التنفيل والاختصاص
بالمصاب من السلب وغيره؛ لأن سبب الاستحقاق إن
كان هو الجهاد وجد من الكل, وإن كان هو
الاستيلاء والإصابة, والأخذ بذلك حصل بقوة
الكل فيقتضي الاستحقاق للكل, فتخصيص البعض
بالتنفيل يخرج مخرج قطع الحق عن المستحق,
فينبغي أن لا يجوز إلا أنا استحسنا الجواز
بالنص وهو قوله تبارك وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} والتنفيل تحريض على القتال بإطماع زيادة المال؛ لأن من له زيادة
غنى وفضل شجاعة, لا يرضى طبعه بإظهار ذلك مع
ما فيه من مخاطرة الروح, وتعريض النفس للهلاك,
إلا بإطماع زيادة لا يشاركه فيه غيره فإذا لم
يطمع لا يظهر فلا يستحق الزيادة والله سبحانه
وتعالى أعلم. "وأما" الحديث فلا حجة له فيه؛
لأنه يحتمل أنه نصب ذلك القول شرعا, ويحتمل أن
يكون نصبه شرطا, ويحتمل أنه نفل قوما بأعيانهم
فلا يكون حجة, مع الاحتمال نظيره قوله عليه
الصلاة والسلام
"من أحيا أرضا ميتة فهي له" أنه لم يجعله أبو حنيفة حجة لملك الأرض المحياة بغير إذن الإمام
لمثل هذا الاحتمال والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وأما" شرط جوازه فهو أن يكون قبل حصول
الغنيمة في يد الغانمين, فإذا حصلت في أيديهم
فلا نفل؛ لأن جواز التنفيل للتحريض على
القتال, وذا لا يتحقق إلا قبل أخذ الغنيمة فإن
قيل: أليس أنه روي "أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نفل بعد إحراز الغنيمة" فالجواب أنه
يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام إنما نفل من
الخمس, أو من الصفي الذي كان له في الغنائم,
ويحتمل أنه كان مما أفاء الله تعالى عليه,
فسماه الراوي غنيمة والله تعالى أعلم. "وأما"
حكم التنفيل فنوعان, أحدهما: اختصاص النفل
بالمنفل حتى لا يشاركه فيه غيره وهل يثبت
الملك فيه قبل الإحراز بدار الإسلام؟ ففيه
كلام نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
والثاني: أنه لا خمس في النفل؛ لأن الخمس إنما
يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين والنفل ما
أخلصه الإمام لصاحبه, وقطع شركة الأغيار عنه
فلا يجب فيه الخمس ويشارك المنفل له الغزاة في
أربعة أخماس ما أصابوا؛ لأن الإصابة أو الجهاد
حصل بقوة الكل, إلا أن الإمام خص البعض
ببعضها, وقطع حق الباقين عنه, فبقي حق الكل
متعلقا بما وراءه فيشاركهم فيه والله سبحانه
وتعالى أعلم.
ج / 7 ص -117-
شجاعة؛
لأنه لا ينقاد طبعه لإظهاره, إلا بالترغيب
بزيادة من المصاب بالتنفيل كذا هذا. وهل يجب
فيه الخمس؟ فعن أبي حنيفة رضي الله عنه
روايتان والصحيح أنه لا يجب؛ لأن الخمس إنما
يجب في الغنائم, والغنيمة اسم للمال المأخوذ
عنوة وقهرا بإيجاف الخيل والركاب, ولم يوجد
لحصوله في أيديهم بغير قتال, فكان مباحا, ملك
لا على سبيل القهر والغلبة فلا يجب فيه الخمس
كسائر المباحات. وكذا روي عن محمد روايتان,
والصحيح أنه يجب فيه الخمس؛ لأن الملك عنده
يثبت بأخذه, وإنما أخذه على سبيل القهر
والغلبة, فكان في حكم الغنائم, ولو دخل دار
الإسلام فأسلم قبل أن يؤخذ, ثم أخذه واحد من
المسلمين يكون فيئا لجماعة المسلمين أيضا عند
أبي حنيفة, وعندهما يكون حرا لا سبيل لأحد
عليه, وهذا فرع الأصل الذي ذكرنا أن عند أبي
حنيفة رحمه الله كما دخل دار الإسلام فقد
انعقد سبب الملك فيه لوقوعه في يد أهل الدار,
فاعتراض الإسلام بعد انعقاد سبب الملك لا يمنع
الملك, وعندهما سبب الملك هو: الأخذ حقيقة,
فكان حرا قبله حيث وجد الإسلام قبل وجود سبب
الملك فيه فيمنع ثبوت الملك على ما مر, ولو
رجع هذا الحربي إلى دار الحرب خرج من أن يكون
فيئا بالإجماع. أما عند أبي حنيفة فلأن حق أهل
دار الإسلام لا يتأكد إلا بالأخذ حقيقة, ولم
يوجد وأما عندهما فلأنه لم يثبت الملك أصلا
إلا بحقيقة الأخذ, ولم يوجد, وصار هذا كما إذا
انفلت واحد من الأسارى قبل الإحراز بدار
الإسلام, والتحق بمنعتهم إنه يعود حرا كما كان
كذا هذا ولو ادعى هذا الحربي بأمان, لم يقبل
قوله عند أبي حنيفة, وعندهما يقبل. أما عنده
فلأن دخول دار الحرب سبب ثبوت الملك, والأمان
عارض مانع من انعقاد السبب, فلا تقبل دعوى
العارض إلا بحجة وأما عندهما فلأن الملك فيه
يقف على حقيقة الأخذ فكان حرا قبله فكأن دعوى
الأمان دعوى حكم الأصل فتقبل, وكذلك لو قال
الآخذ: إني آمنته لم يقبل قوله عند أبي حنيفة,
وعندهما يقبل. أما عنده فلأن هذا إقرار يتضمن
إبطال حق الغير فلا يقبل, وعندهما هذا إقرار
على نفسه, وإنه غير متهم في حق نفسه ولو دخل
هذا الحربي الحرم قبل أن يؤخذ, فهو فيء عند
أبي حنيفة ودخول الحرم لا يبطل ذلك عنه؛ لأن
ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بين الحرم
وغيره, والدليل عليه أن الإسلام لم يبطل
الملك, فالحرم أولى ولأن الإسلام أعظم حرمة من
الحرم, وعندهما لا يكون فيئا إلا بحقيقة الأخذ
فيبقى على أصل الحرية, ولا يتعرض له, لكنه لا
يطعم, ولا يسقى, ولا يؤوى, ولا يبايع, حتى
يخرج من الحرم. ولو أمنه رجل من المسلمين في
الحرم أو بعد ما خرج من الحرم قبل أن يؤخذ لم
يصح عند أبي حنيفة وعندهما يصح, ويرد إلى
مأمنه؛ لأن عنده صار فيئا لجماعة المسلمين
بنفس دخول دار الإسلام, وعندهما لا يصير فيئا
إلا بحقيقة الأخذ, فإذا أمنه قبل الأخذ يصح
ولا يصح بعده؛ لأنه مرموق ولو أخذه رجل في
الحرم وأخرجه منه فقد أساء, وكان فيئا لجماعة
المسلمين عند أبي حنيفة وعندهما يكون لمن
أخذه, أما عنده فلأن الملك قد ثبت بدخوله دار
الإسلام, فالأخذ في الحرم لا يبطله وأما
عندهما فلأن الملك وإن كان يثبت بالأخذ وإنه
منهي لكن النهي لغيره, وهو حرمة الحرم فلا
يمنع كونه سببا للملك في ذاته كالبيع وقت
النداء ونحو ذلك, ولو أخذه في الحرم ولم يخرجه
فينبغي أن يخلي سبيله في الحرم رعاية لحرمة
الحرم ما دام فيه, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما الغنيمة فالكلام فيها في مواضع في تفسير
الغنيمة, وفي بيان ما يملكه الإمام من التصرف
في الغنائم, وفي بيان مكان قسمة الغنائم, وفي
بيان ما يباح الانتفاع به من الغنائم, وفي
بيان كيفية قسمة الغنائم, وفي بيان مصارفها
أما. الأول: فالغنيمة عندنا اسم للمأخوذ من
أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة, والأخذ على
سبيل القهر والغلبة لا يتحقق إلا بالمنعة إما
بحقيقة المنعة, أو بدلالة المنعة, وهي إذن
الإمام وعند الشافعي رحمه الله هي اسم للمأخوذ
من أهل الحرب كيف ما كان ولا يشترط له المنعة
أصلا, وبيان ذلك في مسائل إذا دخل جماعة لهم
منعة دار الحرب فأخذوا أموالا منهم, فإنها
تقسم قسمة الغنائم بالإجماع. سواء دخلوا بإذن
الإمام, أو بغير إذنه؛ لوجود الأخذ على سبيل
القهر والغلبة؛ لوجود المنعة القائمة مقام
المقاتلة حقيقة, وأقل المنعة أربعة في ظاهر
الرواية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام
"خير الأصحاب
أربعة" وروي عن أبي يوسف أنها تسعة ولو دخل من لا منعة له بإذن الإمام,
كان المأخوذ غنيمة في ظاهر الرواية عن
أصحابنا؛ لوجود المنعة دلالة على ما
ج / 7 ص -118-
نذكره
ولو دخل بغير إذن الإمام لم يكن غنيمة عندنا؛
لانعدام المنعة أصلا, وعند الشافعي رحمه الله
يكون غنيمة. والصحيح قولنا؛ لأن الغنيمة
والغنم والمغنم في اللغة اسم لمال أصيب من
أموال أهل الحرب, وأوجف عليه المسلمون بالخيل
والركاب. وكذا إشارة النص دليل عليه وهي قوله
سبحانه وتعالى
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أشار
سبحانه وتعالى إلى أنه ما لم يوجف عليه
المسلمون بالخيل والركاب لا يكون غنيمة,
وإصابة مال أهل الحرب بإيجاف الخيل والركاب لا
يكون إلا بالمنعة, إما حقيقة أو دلالة؛ لأن من
لا منعة له لا يمكنه الأخذ على طريق القهر
والغلبة, فلم يكن المأخوذ غنيمة بل كان مالا
مباحا, فيختص به الآخذ كالصيد, إلا إن أخذاه
جميعا فيكون المأخوذ بينهما كما لو أخذا صيدا,
أما عند وجود المنعة فيتحقق الأخذ على سبيل
القهر والغلبة. أما حقيقة المنعة فظاهرة, وكذا
دلالة المنعة وهي إذن الإمام؛ لأنه لما أذن له
الإمام بالدخول فقد ضمن له المعونة بالمدد
والنصرة عند الحاجة, فكان دخوله بإذن الإمام
امتناعا بالجيش الكثيف معنى, فكان المأخوذ
مأخوذا على سبيل القهر والغلبة فكان غنيمة,
فهو الفرق ولو اجتمع فريقان أحدهما دخل بإذن
الإمام, والآخر بغير إذنه ولا منعة لهم,
فالحكم في كل فريق عند الاجتماع ما هو الحكم
عند الانفراد, أنه إن تفرد كل فريق بأخذ شيء
فلكل فريق ما أخذ, كما لو انفرد كل فريق
بالدخول, فأخذ شيئا فإن اشترك الفريقان في
الأخذ, فالمأخوذ بينهم على عدد الآخذين, ثم ما
أصاب المأذون لهم بخمس ويكون أربعة أخماسه
بينهم مشتركة فيه الآخذ وغير الآخذ؛ لأنه
غنيمة, وهذا سبيل الغنائم, وما أصاب الذين لم
يؤذن لهم لا خمس فيه, فيكون بين الآخذين, ولا
يشاركهم الذين لم يأخذوا؛ لأنه مال مباح. وهذا
حكم المال المباح على ما بينا هذا إذا اجتمع
فريقان ولا منعة لهم, فأما إذا اجتمعا وكان
لهم باجتماعهم منعة, فما أصاب واحدا منهم أو
جماعتهم بخمس, وأربعة أخماسه بينهم؛ لأن
المأخوذ غنيمة لوجود المنعة, فكان وجود الإذن
وعدمه بمنزلة واحدة, ولو كان الذين دخلوا بإذن
الإمام لهم منعة, ثم لحقهم لص أو لصان لا منعة
لهما بغير إذن الإمام ثم لقوا قتالا وأصابوا
مالا وأصابوا غنائم, فما أصاب العسكر قبل أن
يلحقهم اللص, فإن هذا اللص لا يشاركهم فيه,
وما أصابوه بعد أن لحق هذا اللص بهم فإنه
يشاركهم؛ لأن الإصابة قبل اللحاق حصلت بقتال
العسكر حقيقة, وكذلك الإحراز بدار الإسلام؛
لأن لهم غنية عن معونة اللص فكان دخوله في
الاستيلاء على المصاب قبل اللحاق وعدمه بمنزلة
واحدة, ولا يشبه هذا الجيش إذا لحقهم المدد
أنه يشاركهم فيما أصابوا؛ لأن الجيش يستعين
بالمدد لقوتهم, فكان الإحراز حاصلا بالكل.
وكذلك الإصابة بعد اللحوق حصلت باستيلاء الكل,
لذلك شاركهم بخلاف اللص والله تعالى أعلم. ولو
أخذ واحد من الجيش شيئا من المتاع الذي له
قيمة, وليس في يد إنسان منهم, كالمعادن
والكنوز والخشب والسمك, فذلك غنيمة, وفيه
الخمس, وذلك الواحد إنما أخذه بمنعة الجماعة
وقوتهم, فكان مالا مأخوذا على سبيل القهر
والغلبة, فكان غنيمة, وإن لم يكن لذلك الشيء
في دار الحرب وفي دار الإسلام قيمة فهو له
خاصة؛ لأنه إذا لم يكن له قيمة لا يقع فيه
تمانع وتدافع, فلا يقع أخذه على سبيل القهر
والغلبة فلم يكن غنيمة, ولو أخذ شيئا له قيمة
في دار الحرب نحو الخشب فعمله آنية أو غيرها
رده إلى الغنيمة؛ لأنه إذا كان له قيمة بذاته
فالعمل فيه فضل له, فإن لم يكن ذلك الشيء
متقوما فهو له خاصة لما قلنا, ولا خمس فيما
يؤخذ على موادعة أهل الحرب؛ لأنه ليس بمأخوذ
على سبيل القهر والغلبة, فلم يكن غنيمة, وكذا
ما بعث رسالة إلى إمام المسلمين لا خمس فيه
لما قلنا, ولو حاصر المسلمون قلعة في دار
الحرب, فافتدوا أنفسهم بمال ففيه الخمس؛ لأنه
غنيمة لكونه مأخوذا على سبيل القهر والغلبة
والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما بيان ما يملكه
الإمام من التصرف في الغنائم, فجملة الكلام
فيه أنه إذا ظهر الإمام على بلاد أهل الحرب
فالمستولى عليه لا يخلو من أحد أنواع ثلاثة:
المتاع, والأراضي, والرقاب, أما المتاع: فإنه
يخمس ويقسم الباقي بين الغانمين, ولا خيار
للإمام فيه. وأما الأراضي فللإمام فيها خياران
إن شاء خمسها ويقسم الباقي بين الغانمين لما
بينا, وإن شاء تركها في يد أهلها بالخراج
وجعلهم ذمة إن كانوا بمحل الذمة, بأن كانوا من
أهل الكتاب أو من مشركي العجم, ووضع الجزية
على رءوسهم والخراج على أراضيهم وهذا عندنا,
وعند
ج / 7 ص -119-
الشافعي رحمه الله ليس للإمام أن يترك الأراضي
في أيديهم بالخراج بل يقسمها. "وجه" قوله أن
الأراضي صارت ملكا للغزاة بالاستيلاء, فكان
الترك في أيديهم إبطالا لملك الغزاة فلا يملكه
الإمام كالمتاع. "ولنا" إجماع الصحابة رضي
الله عنهم فإن سيدنا عمر رضي الله عنه لما فتح
سواد العراق ترك الأراضي في أيديهم, وضرب على
رءوسهم الجزية, وعلى أراضيهم الخراج بمحضر من
الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم ينقل أنه
أنكر عليه منكر, فكان ذلك إجماعا منهم. وأما
الرقاب فالإمام فيها بين خيارات, ثلاث, إن شاء
قتل الأسارى منهم, وهم الرجال المقاتلة, وسبى
النساء والذراري؛ لقوله تبارك وتعالى
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}
وهذا بعد الأخذ والأسر؛ لأن الضرب فوق الأعناق
هو الإبانة من المفصل, ولا يقدر على ذلك حال
القتال, ويقدر عليه بعد الأخذ والأسر وروي "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استشار
الصحابة الكرام رضي الله عنهم في أسارى بدر,
فأشار بعضهم إلى الفداء, وأشار سيدنا عمر رضي
الله عنه إلى القتل, فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"لو جاءت من السماء نار ما نجا إلا عمر". أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن الصواب كان هو القتل وكذا روي
أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل عقبة بن أبي
معيط, والنضر بن الحارث يوم بدر, وبقتل هلال
بن خطل ومقيس بن صبابة يوم فتح مكة, ولأن
المصلحة قد تكون في القتل لما فيه من
استئصالهم, فكان للإمام ذلك, وإن شاء استرق
الكل فخمسهم وقسمهم, لأن الكل غنيمة حقيقة
لحصولها في أيديهم عنوة وقهرا بإيجاف الخيل
والركاب, فكان له أن يقسم الكل إلا رجال مشركي
العرب والمرتدين, فإنهم لا يسترقون عندنا, بل
يقتلون أو يسلمون وعند الشافعي رحمه الله يجوز
استرقاقهم. "وجه" قوله أنه يجوز استرقاق مشركي
العجم, وأهل الكتاب من العجم, والعرب فكذا
استرقاق مشركي العرب, والمرتدين, وهذا لأن
للاسترقاق حكم الكفر, وهم في الكفر سواء,
فكانوا في احتمال الاسترقاق سواء. "ولنا" قوله
سبحانه وتعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله سبحانه وتعالى
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ}
ولأن ترك القتل بالاسترقاق في حق أهل الكتاب
ومشركي العجم؛ للتوسل إلى الإسلام ومعنى
الوسيلة لا يتحقق في حق مشركي العرب والمرتدين
على نحو ما بينا من قبل وأما النساء والذراري
منهم فيسترقون كما يسترق نساء مشركي العجم
وذراريهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام
استرق نساء هوازن وذراريهم, وهم من صميم
العرب. وكذا الصحابة استرقوا نساء المرتدين من
العرب وذراريهم, وإن شاء من عليهم وتركهم
أحرارا بالذمة, كما فعل سيدنا عمر رضي الله
عنه بسواد العراق إلا مشركي العرب والمرتدين,
فإنه لا يجوز تركهم بالذمة وعقد الجزية, كما
لا يجوز بالاسترقاق لما بينا, ولو شهدوا
بشهادة قبل أن يجعلهم الإمام ذمة لم تجز
شهادتهم؛ لأنهم أهل الحرب, فإن جعلهم ذمة
فأعادوا الشهادة جازت؛ لأن شهادة أهل الذمة
مقبولة في الجملة, فأما شهادة أهل الحرب فغير
مقبولة أصلا, وليس للإمام أن يمن على الأسير
فيتركه من غير ذمة, لا يقتله ولا يقسمه؛ لأنه
لو فعل ذلك لرجع إلى المنعة فيصير حربا علينا,
فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من
على الزبير بن باطال من بني قريظة. وكذا من
على أهل خيبر فالجواب أنه ثبت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم من على الزبير ولم يقتله
إما لأنه لم يثبت أنه ترك بالجزية أم بدونها,
فاحتمل أنه تركه بالجزية وبعقد الذمة وأما أهل
خيبر فقد كانوا أهل الكتاب فتركهم ومن عليهم
ليصيروا كرة للمسلمين, ويجوز المن لذلك لأن
ذلك في معنى الجزية, فيكون تركا بالجزية من
حيث المعنى. وهل للإمام أن يفادي الأسارى؟ أما
المفاداة بالمال فلا تجوز عند أصحابنا في ظاهر
الروايات وقال محمد: مفاداة الشيخ الكبير الذي
لا يرجى له ولد تجوز, وعند الشافعي رحمه الله
تجوز المفاداة بالمال كيف ما كان, واحتج بظاهر
قوله عز وجل
{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقد فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسارى بدر بالمال, وأدنى
درجات فعله عليه الصلاة والسلام الجواز,
والإباحة. "ولنا" أن قتل الأسرى مأمور به؛
لقوله تعالى
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}
وأنه منصرف إلى ما بعد الأخذ والاسترقاق لما
قلنا, وقوله سبحانه وتعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} والأمر بالقتل للتوسل إلى الإسلام, فلا يجوز تركه إلا لما شرع له
القتل, وهو أن يكون وسيلة إلى الإسلام ولا
يحصل معنى التوسل بالمفاداة, فلا يجوز
ج / 7 ص -120-
ترك
المفروض لأجله, ويحصل بالذمة والاسترقاق لما
بينا فكان إقامة للفرض معنى لا تركا له, ولأن
المفاداة بالمال إعانة لأهل الحرب على الحراب؛
لأنهم يرجعون إلى المنعة فيصيرون حربا علينا,
وهذا لا يجوز. ومحمد رحمه الله يقول: معنى
الإعانة لا يحصل من الشيخ الكبير الذي لا يرجى
منه ولد فجاز فداؤه بالمال, ولكننا نقول: إن
كان لا يحصل بهذا الطريق يحصل بطريق آخر, وهو
الرأي والمشورة وتكثير السواد وأما قوله تعالى
{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فقد قال بعض أهل التفسير: إن الآية منسوخة بقوله تبارك وتعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. وقوله تبارك وتعالى
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ} الآية
لأن سورة براءة نزلت بعد سورة محمد عليه
الصلاة والسلام ويحتمل أن تكون الآية في أهل
الكتاب, فيمن من عليهم بعد أسرهم على أن
يصيروا كرة للمسلمين كما فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأهل خيبر, أو ذمة كما فعل
سيدنا عمر رضي الله عنه بأهل السواد,
ويسترقون. "وأما" أسارى بدر فقد قيل: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك
باجتهاده ولم ينتظر الوحي فعوتب عليه بقوله
سبحانه وتعالى
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ}
حتى قال عليه الصلاة والسلام
"لو أنزل الله
من السماء نارا ما نجا إلا عمر رضي الله عنه"
يدل عليه قوله تعالى
{مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} على أحد وجهي التأويل أي ما كان لنبي أن يأخذ الفداء في الأسارى
حتى يثخن في الأرض, أي حتى يغلب في الأرض منعة
عن أخذ الفداء بها, وأشار إلى أن ذلك ليغلب في
الأرض؛ إذ لو أطلقهم لرجعوا إلى المنعة,
وصاروا حربا على المسلمين فلا تتحقق الغلبة,
ويحتمل أن المفاداة كانت جائزة ثم انتسخت
بقوله تبارك وتعالى
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وإنما عوتب عليه الصلاة والسلام
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}
لا لخطر المفاداة, بل لأنه عليه الصلاة
والسلام لم ينتظر بلوغ الوحي, وعمل باجتهاده,
أي لولا من حكم الله تعالى أن لا يعذب أحدا
على العمل بالاجتهاد, لمسكم العذاب بالعمل
بالاجتهاد, وترككم انتظار الوحي والله تعالى
أعلم. وكذا لا تجوز مفاداة الكراع والسلاح
بالمال؛ لأن كل ذلك يرجع إلى إعانتهم على
الحرب, وتجوز مفاداة أسارى المسلمين بالدراهم
والدنانير والثياب ونحوها مما ليس فيها إعانة
لهم على الحرب, ولا يفادون بالسلاح؛ لأن فيه
إعانة لهم على الحرب والله تعالى أعلم. "وأما"
مفاداة الأسير فلا تجوز عند أبي حنيفة عليه
الرحمة وعند أبي يوسف ومحمد تجوز. "وجه"
قولهما أن في المفاداة إنقاذ المسلم, وذلك
أولى من إهلاك الكافر ولأبي حنيفة ما ذكرنا أن
قتل المشركين فرض بقوله تعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وقوله تعالى
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}
فلا يجوز تركه إلا لما شرع له إقامة الفرض وهو
التوسل إلى الإسلام؛ لأنه لا يكون تركا معنى,
وذا لا يحصل بالمفاداة, ويحصل بالذمة
والاسترقاق فيمن يحتمل ذلك على ما بينا, ولما
ذكرنا أن فيها إعانة لأهل الحرب على الحرب؛
لأنهم يرجعون إلى المنعة فيصيرون حربا على
المسلمين, ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما
بينهما قال أبو يوسف: تجوز المفاداة قبل
القسمة, ولا تجوز بعدها وقال محمد: تجوز في
الحالين. "وجه" قول محمد أنه لما جازت
المفاداة قبل القسمة, فكذا بعد القسمة؛ لأن
الملك إن لم يثبت قبل القسمة فالحق ثابت, ثم
قيام الحق لم يمنع جواز المفاداة, فكذا قيام
الملك. "وجه" قول أبي يوسف أن المفاداة بعد
القسمة إبطال ملك المقسوم له من غير رضاه,
وهذا لا يجوز في الأصل, بخلاف ما قبل القسمة؛
لأنه لا ملك قبل القسمة, إنما الثابت حق غير
متقرر, فجاز أن يكون محتملا للإبطال بالمفاداة
والله تعالى أعلم. ولا يجوز أن يعطى رجل واحد
من الأسارى, ويؤخذ بدله رجلين من المشركين؛
لأن كم من واحد يغلب اثنين وأكثر من ذلك فيؤدي
إلى الإعانة على الحرب, وهذا لا يجوز, وإذا
عزم المسلمون على قتل الأسارى, فلا ينبغي أن
يعذبوهم بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع
التعذيب؛ لأن ذلك تعذيب من غير فائدة وقد روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بني
قريظة
"لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم, وحر السلاح,
ولا تمثلوا بهم" لقوله عليه الصلاة والسلام في وصايا الأمراء
"ولا تمثلوا ولا ينبغي للرجل أن يقتل أسير صاحبه"؛ لأنه له ضرب اختصاص به حيث أخذه وأسره, فلم يكن لغيره أن يتصرف
فيه, كما لو التقط شيئا والأفضل
ج / 7 ص -121-
أن
يأتي به الإمام إن قدر عليه حتى يكون الإمام
هو الحكم فيه؛ لتعلق حق الغزاة به, فكان الحكم
فيه للإمام, وإنما يقتل من الأسارى من بلغ إما
بالسن, أو بالاحتلام على قدر ما اختلف فيه,
فأما من لم يبلغ أو شك في بلوغه فلا يقتل,
وكذا المعتوه الذي لا يعقل لما بينا من قبل,
فلو قتل رجل من المسلمين أسيرا في دار الحرب
أو في دار الإسلام, فإن كان قبل القسمة فلا
شيء فيه من دية ولا كفارة ولا قيمة؛ لأن دمه
غير معصوم قبل القسمة, فإن للإمام فيه خيرة
القتل, وإن كان بعد القسمة فلا شيء فيه من دية
ولا كفارة ولا قيمة؛ لأن دمه غير معصوم قبل
القسمة فإن للإمام فيه خيرة القتل, وإن كان
بعد القسمة أو بعد البيع فيراعى فيه حكم
القتل؛ لأن الإمام إذا قسمهم أو باعهم فقد صار
دمهم معصوما, فكان مضمونا بالقتل, إلا أنه لا
يجب القصاص لقيام شبهة الإباحة كالحربي
المستأمن, ثم ما ذكرنا من خيار القتل للإمام
في الأسارى قبل القسمة إذا لم يسلموا, فإن
أسلموا قبل القسمة فلا يباح قتلهم؛ لأن
الإسلام عاصم, وللإمام خياران فيهم, إن شاء
استرقهم فقسمهم, وإن شاء تركهم أحرارا بالذمة
إن كانوا بمحل الذمة والاسترقاق؛ لأن الإسلام
لا يرفع الرق, إما لا يرفعه؛ لأن الرفع فيه
إبطال حق الغزاة وهذا لا يجوز.
"وأما" بيان قسمة الغنائم فنقول وبالله
التوفيق: القسمة نوعان, قسمة حمل ونقل, وقسمة
ملك. "أما" قسمة الحمل, فهي إن عزت الدواب,
ولم يجد الإمام حمولة يفرق الغنائم على الغزاة
فيحمل كل رجل على قدر نصيبه إلى دار الإسلام,
ثم يستردها منهم فيقسمها قسمة ملك, وهذه
القسمة جائزة بلا خلاف, ولا تكون قسمة ملك
كالمودعين يقتسمان الوديعة ليحفظ كل واحد
منهما بعضها جاز ذلك, وتكون قسمة ملك فكذا
هذا. "وأما" قسمة الملك فلا تجوز في دار الحرب
عند أصحابنا, وعند الشافعي رحمه الله تجوز
وهذا الاختلاف مبني على أصل, وهو أن الملك هل
يثبت في الغنائم في دار الحرب للغزاة؟ فعندنا
لا يثبت الملك أصلا فيها, لا من كل وجه, ولا
من وجه, ولكن ينعقد سبب الملك فيها على أن
تصير علة عند الأحرار بدار الإسلام, وهو تفسير
حق الملك, أو حق التملك عندنا, وعنده يثبت
الملك قبل الإحراز بدار الإسلام بعد الفراغ من
القتال قولا واحدا, وله في حال فور الهزيمة
قولان, ويبنى على هذا الأصل مسائل: "منها" أنه
إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب لا
يورث نصيبه عندنا, وعنده يورث والله تعالى
أعلم. "ومنها" أن المدد إذا لحق الجيش فأحرزوا
الغنائم جملة إلى دار الإسلام يشاركونهم فيها
عندنا, وعنده لا يشاركونهم. "ومنها" أنه إذا
أتلف واحد من الغانمين شيئا من الغنيمة لا
يضمن عندنا, وعنده يضمن. "ومنها" أن الإمام
إذا باع شيئا من الغنائم لا لحاجة الغزاة, لا
يجوز عندنا, وعنده يجوز. "ومنها" أن الإمام
إذا قسم الغنائم في دار الحرب مجازفا غير
مجتهد ولا معتقد جواز القسمة لا تجوز عندنا,
وعنده تجوز. "فأما" إذا رأى الإمام القسمة
فقسمها نفذت قسمته بالإجماع, وكذلك لو رأى
البيع فباعها؛ لأنه حكم أمضاه في محل
الاجتهاد, بالاجتهاد فينفذ. "وجه" قول الشافعي
رحمه الله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم "قسم غنائم خيبر بخيبر, وقسم غنائم أوطاس
بأوطاس, وقسم غنائم بني المصطلق في ديارهم,
وقسم غنائم بدر بالجعرانة" وهي واد من أودية
بدر, وأدنى ما يحمل عليه فعل النبي عليه
الصلاة والسلام هو الجواز والإباحة, ولأنه وجد
الاستيلاء على مال مباح فيفيد الملك استدلالا
بالاستيلاء على الحطب والحشيش, ولا شك أن
المستولى عليه مال مباح؛ لأنه مال الكافر,
وأنه مباح, والدليل على تحقق الاستيلاء أن
الاستيلاء عبارة عن إثبات اليد على المحل, وقد
وجد ذلك حقيقة, وإنكار الحقائق مكابرة, ورجعة
الكفار بعد انهزامهم واستردادهم أمر موهوم لا
دليل عليه, فلا يعتبر. "ولنا" أن الاستيلاء
إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير
مملوك, ولم يوجد هاهنا؛ لأن ملك الكفرة قائم؛
لأن ملك الكفرة كان ثابتا لهم, والملك متى ثبت
لإنسان لا يزول إلا بإزالته, أو يخرج المحل من
أن يكون منتفعا به حقيقة بالهلاك, أو بعجز
المالك عن الانتفاع به دفعا للتناقض فيما شرع
الملك له, ولم يوجد شيء من ذلك. "أما" الإزالة
وهلاك المحل فظاهر العدم. "وأما" قدرة الكفرة
على الانتفاع بأموالهم؛ فلأن الغزاة ما داموا
في دار الحرب فالاسترداد ليس بنادر, بل هو
ظاهر أو محتمل احتمالا على السواء, والملك كان
ثابتا لهم فلا يزول مع الاحتمال. وأما
الأحاديث: فأما غنائم خيبر وأوطاس والمصطلق,
فإنما قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تلك الديار؛ لأنه افتتحها فصارت ديار الإسلام.
"وأما" غنائم بدر فقد روي أنه عليه الصلاة
والسلام قسمها بالمدينة, فلا يصح الاحتجاج
ج / 7 ص -122-
به مع
التعارض ثم الملك إن لم يثبت للغزاة في
الغنائم في دار الحرب, فقد ثبت الحق لهم حتى
يجوز لهم الانتفاع بها من غير حاجة على ما
نذكره, ولولا تعلق الحق لجاز؛ لأنه يكون مالا
مباحا وكذا لو وطئ واحد من الغزاة جارية من
المغنم لا يجب عليه الحد؛ لأن له فيها حقا
فأورث شبهة في درء الحد, ولا يجب عليه العقر
أيضا؛ لأنه بالوطء أتلف جزءا من منافع بضعها,
ولو أتلفها لا يضمن, فهاهنا أولى ولا يثبت
النسب أيضا لو ادعى الولد؛ لأن ثبات النسب
معتمد الملك أو الحق الخاص, ولا ملك هاهنا,
والحق عام. وكذا لو أسلم الأسير في دار الحرب
لا يكون حرا, ويدخل في القسمة؛ لتعلق حق
الغانمين به بنفس الأخذ والاستيلاء, فاعتراض
الإسلام عليه لا يبطله بخلاف ما إذا أسلم قبل
الأسر أنه يكون حرا, ولا يدخل في القسمة؛ لأن
عند الأخذ والأسر لم يتعلق به حق أحد, فكان
الإسلام دافعا الحق, لا رافعا إياه على ما
بينا. "وأما" بعد الإحراز بدار الإسلام قبل
القسمة فيثبت الملك, أو يتأكد الحق ويتقرر؛
لأن الاستيلاء الثابت انعقد سببا لثبوت الملك,
أو تأكد الحق على أن يصير علة عند وجود شرطها,
وهو الإحراز بدار الإسلام, وقد وجد, فتجوز
القسمة ويجري فيه الإرث, ويضمن المتلف, وتنقطع
شركة المدد ونحو ذلك, إلا أنه لو أعتق واحد من
الغانمين عبدا من المغنم لا ينفذ إعتاقه
استحسانا؛ لأن نفاذ الإعتاق يقف على الملك
الخاص, ولا يتحقق ذلك إلا بالقسمة, فأما
الموجود قبل القسمة فملك عام, أو حق متأكد,
وأنه لا يحتمل الإعتاق لكنه يحتمل الإرث
والقسمة, ويكفي لإيجاب الضمان, وانقطاع شركة
المدد على ما بينا, وكذلك لو استولد جارية من
المغنم وادعى الولد لا تصير أم ولد استحسانا؛
لما بينا أن إثبات النسب وأمومية الولد يقفان
على ملك خاص, وذلك بالقسمة, أو حق خاص, ولم
يوجد, ويلزمه العقر؛ لأن ذلك الملك العام أو
الحق الخاص يكون مضمونا بالإتلاف. "وأما" بعد
القسمة فيثبت الملك الخاص لكل واحد منهم في
نصيبه؛ لأن القسمة إفراز الأنصباء وتعيينها,
ولو قسم الإمام الغنائم فوقع عبد في سهم رجل
فأعتقه, لا شك أنه ينفذ إعتاقه؛ لأن الإعتاق
صادف ملكا خاصا فأما إذا وقع في سهم جماعة
منهم عبد فأعتقه أحدهم, ينفذ إعتاقه عند أبي
حنيفة قل الشركاء أو كثروا. "وروي" عن أبي
يوسف إن كانوا عشرة أو أقل منها ينفذ إعتاقه,
وإن كانوا أكثر من ذلك لا ينفذ فأبو حنيفة
رحمه الله نظر في خصوص الملك إلى القسمة, وأبو
يوسف إلى العدد, والصحيح نظر أبي حنيفة؛ لأن
القسمة تمييز وتعيين, فكانت قاطعة لعموم
الشركة, مخصصة للملك وإن كثر العدد والله
سبحانه وتعالى أعلم. ولو أخذ المسلمون غنيمة
ثم غلبهم العدو فاستنقذوها من أيديهم, ثم جاء
عسكر آخر فأخذها من العدو فأخرجوها إلى دار
الإسلام, ثم اختصم الفريقان نظر في ذلك, فإن
كان الأولون لم يقتسموها ولم يحرزوها بدار
الإسلام فالغنيمة للآخرين, لأن الأولين لم
يثبت لهم إلا مجرد حق غير متقرر, وقد ثبت
للآخرين ملك عام أو حق متقرر يجري مجرى الملك,
فكانوا أولى بالغنائم, وإن كان الأولون قد
اقتسموها فالقسمة لهم, وإن كانوا لم يحرزوها
بدار الإسلام؛ لأنهم ملكوها بالقسمة ملكا
خاصا, فإذا غلبهم الكفار فقد استولوا على
أملاكهم, فإن وجدوها في يد الآخرين قبل القسمة
أخذوها بغير شيء, وإن وجدوها بعد القسمة
أخذوها بالقيمة إن شاءوا كما في سائر أموالهم
التي استولى عليها العدو, ثم وجدوها في يد
الغانمين قبل القسمة وبعدها, وإن كانوا لم
يقتسموها ولكنهم أحرزوها بدار الإسلام, فإن
وجدوها بعد قسمة الآخرين فالآخرون أولى؛ لأن
الثابت لهم ملك خاص بالقسمة والثابت للأولين
ملك عام أو حق متقرر عام, فكان اعتبار الملك
الخاص أولى. "وأما" إذا وجدها قبل قسمة
الآخرين ففيه روايتان: ذكر في الزيادات أن
الأولين أولى, وذكر في السير الكبير أن
الآخرين أولى. "وجه" رواية الزيادات أن الثابت
لكل واحد من الفريقين, وإن كان هو الحق
المتأكد, لكن نقض الحق بالحق جائز؛ لأن الشيء
يحتمل الانتقاض بمثله كما في النسخ, ولهذا جاز
نقض الملك بالملك. "وجه" الرواية الأخرى أن حق
الآخرين ثابت متقرر, وحق الأولين زائل ذاهب,
فاستصحاب الحالة الثابتة أولى, إذ هو يصلح
للترجيح وهذا هو القياس في الملك, فكان ينبغي
أن لا ينتقض الحادث بالقديم إلا أن النقض هناك
ثبت نصا "بخلاف" القياس, فيقتصر على مورد
النص, هذا إذا كان الكفار أحرزوا الأموال بدار
الحرب, فإن كانوا لم يحرزوها حتى أخذها الفريق
الآخر من المسلمين منهم
ج / 7 ص -123-
في دار
الإسلام, فالغنائم للأولين سواء قسمها الآخرون
أو لم يقسموها؛ لأن الكفار لا يملكون أموال
المسلمين بالاستيلاء إلا بعد الإحراز بدار
الحرب, ولم يوجد, فكانت الغنائم في حكم يد
الأولين ما دامت في دار الإسلام, فكان الآخرون
أخذوه من أيدي الأولين فيلزمهم الرد عليه, إلا
إذا كان الإمام قسمها بين الآخرين ورأيه أن
الكفرة قد ملكوها بنفس الأخذ والاستيلاء. وإن
كانوا في دار الإسلام, كما هو مذهب بعض الناس,
فكانت قسمة في محل الاجتهاد فتنفذ, وتكون
للآخرين والله تعالى أعلم هذا الذي ذكرنا من
كون الإحراز بدار الإسلام شرطا لثبوت الملك في
الغنائم المشتركة. "وأما" الغنائم الخالصة وهي
الأنفال, فهل هو شرط فيها؟ "قال" بعض المشايخ:
إنه شرط عند أبي حنيفة حتى لا يثبت الملك
بينهما فيها قبل الإحراز بدار الإسلام وعند
محمد ليس بشرط, فيثبت الملك فيها بنفس الأخذ
والإصابة استدلالا بمسألة ظهر فيها اختلاف,
وهي أن الإمام إذا نفل, فقال: من أصاب جارية
فهي له. فأصاب رجل من المسلمين جارية,
فاستبرأها في دار الحرب بحيضة, لا يحل له
وطؤها عند أبي حنيفة وعند محمد يحل وقال
بعضهم: الإحراز بالدار ليس بشرط؛ لثبوت الملك
في الأنفال بالإجماع واختلافهما في تلك
المسألة لا يدل على الاختلاف في ثبوت الملك؛
لأنه كما ظهر الاختلاف بينهما في النفل, فقد
ظهر الاختلاف في الغنيمة المقسومة, فإن الإمام
إذا قسم الغنائم في دار الحرب فأصاب رجل جارية
فاستبرأها بحيضة, فهو على الاختلاف وكذا لو
رأى الإمام بيع الغنائم, فباع من رجل جارية
فاستبرأها المشتري بحيضة فهو على الاختلاف.
"ولا خلاف" بين أصحابنا في الغنائم المقسومة
أنه لا يثبت الملك فيها قبل الإحراز بدار
الإسلام دل أن منشأ الخلاف هناك شيء آخر وراء
ثبوت الملك وعدمه والصحيح أن ثبوت الملك في
النفل لا يقف على الإحراز بدار الإسلام بين
أصحابنا, بخلاف الغنائم المقسومة؛ لأن سبب
الملك قد تحقق وهو الأخذ والاستيلاء, ولا يجوز
تأخير الحكم عن سبب إلا لضرورة, وفي الغنائم
المقسومة ضرورة, وهي خوف شر الكفرة؛ لأنه لو
ثبت الملك بنفس الأخذ لاشتغلوا بالقسمة,
ولتسارع كل أحد إلى إحراز نصيبه بدار الإسلام,
وتفرق الجمع, وفيه خوف توجه الشر عليهم من
الكفرة, فتأخر الملك فيها إلى ما بعد الإحراز
بدار الإسلام لهذه الضرورة, وهذه الضرورة
منعدمة في الأنفال؛ لأنها خالصة غير مقسومة,
فلا معنى لتأخير الحكم عن السبب. والدليل على
التفرقة بينهما أن المدد إذا لحق الجيش لا
يشارك المنفل له كما بعد الإحراز بالدار بخلاف
الغنيمة المقسومة, وكذا لو مات المنفل له يورث
نصيبه, كما لو مات بعد الإحراز بالدار, بخلاف
الغنيمة المقسومة فيثبت بهذه الدلائل أن الملك
في النفل لا يقف على الإحراز بالدار بلا خلاف
بين أصحابنا, إلا أن هذا النوع من الملك لا
يظهر في حق حل الوطء عند أبي حنيفة رحمه الله
وهذا لا يدل على عدم الملك أصلا, ألا ترى أن
حل الوطء قد يمتنع مع قيام الملك لعوارض: من
الحيض, والنفاس, والمحرمية, والصهرية, ونحو
ذلك ؟. ثم إنما لم يثبت الحل هناك مع ثبوت
الملك؛ لأنه ملك متزلزل غير متقرر لاحتمال
الزوال ساعة فساعة؛ لأن الدار دارهم فكان
احتمال الاسترداد قائما, ومتى استردوا يرتفع
السبب من حين وجوده, ويلتحق بالعدم, إما من كل
وجه, أو من وجه فتبين أن الوطء لم يصادف محله
وهو الملك المطلق, ولهذا والله تعالى أعلم.
قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إنه لا يحل
وطؤها بعد قسمة الإمام وبيعه إذا رأى ذلك, وإن
وقعت قسمته جائزة وبيعه نافذا مفيدا للملك في
هذه الصورة, كما ذكرنا من المعنى والله سبحانه
وتعالى أعلم. "وأما بيان" ما يجوز به الانتفاع
من الغنائم, وما لا يجوز, فالكلام فيه في
موضعين: "أحدهما" في بيان ما ينتفع به منها.
"والثاني" في بيان من ينتفع به. "أما الأول"
فلا بأس بالانتفاع بالمأكول والمشروب, والعلف
والحطب منها قبل الإحراز بدار الإسلام فقيرا
كان المنتفع أو غنيا؛ لعموم الحاجة إلى
الانتفاع بذلك في حق الكل, فإنهم لو كلفوا
حملها من دار الإسلام إلى دار الحرب مدة
ذهابهم وإيابهم ومقامهم فيها لوقعوا في حرج
عظيم, بل يتعذر عليهم ذلك, فسقط اعتبار حق كل
واحد من الغانمين في حق صاحبه, والتحق بالعدم
شرعا والتحقت هذه المحال بالمباحات الأصلية
لهذه الضرورة, وكذلك كل ما كان مأكولا مثل
السمن والزيت والخل لا
ج / 7 ص -124-
بأس أن
يتناول الرجل ويدهن به نفسه, ودابته؛ لأن
الحاجة إلى الانتفاع بهذه الأشياء قبل الإحراز
بدار الإسلام لازمة. وما كان من الأدهان لا
يؤكل مثل البنفسج والخيري فلا ينبغي أن ينتفع
به؛ لأن الانتفاع به ليس من الحاجات اللازمة,
بل من الحاجات الزائدة, ولا ينبغي أن يبيعوا
شيئا من الطعام والعلف وغير ذلك مما يباح
الانتفاع به بذهب ولا فضة ولا عروض؛ لأن إطلاق
الانتفاع, وإسقاط اعتبار الحقوق وإلحاقها
بالعدم للضرورة التي ذكرنا, ولا ضرورة في
البيع, ولأن محل البيع هو المال المملوك, وهذا
ليس بمال مملوك؛ لأن الإحراز بالدار شرط ثبوت
الملك, ولم يوجد, فإن باع رجل شيئا رد الثمن
إلى الغنيمة؛ لأن الثمن بدل مال تعلق به حق
الغانمين فكان مردودا إلى المغنم, ولو أحرزوا
شيئا من ذلك بدار الإسلام وهو في أيديهم, وإن
كانت لم تقسم الغنائم ردوها إلى المغنم؛
لاندفاع الضرورة. وإن كانت قد قسمت الغنيمة
فإن كانوا أغنياء تصدقوا به على الفقراء, وإن
كانوا فقراء انتفعوا به لتعذر قسمته على
الغزاة لكثرتهم وقلته, فأشبه اللقطة والله
سبحانه أعلم. هذا إذا كانت قائمة بعد القسمة
فإن كان انتفع بها بعد القسمة, فإن كان غنيا
تصدق بقيمته على الفقراء؛ لأنه أكل مالا لو
كان قائما لكان سبيله التصدق لكونه مالا يتعلق
به حق الغانمين, وتعذر صرفه إليهم لقلته
وكثرتهم, فيقوم بدله مقامه, وهو قيمته, وإن
كان فقيرا لم يجب عليه شيء؛ لأنه أكل مالا لو
كان قائما لكان له أن يأكله, والله سبحانه
وتعالى أعلم. وأما ما سوى المأكول والمشروب,
والعلف والحطب, فلا ينبغي أن ينتفعوا به؛ لأن
حق الغانمين متعلق به, وفي الانتفاع إبطال
حقهم, إلا أنه إذا احتاج إلى استعمال شيء من
السلاح أو الدواب أو الثياب, فلا بأس
باستعماله, بأن انقطع سيفه, فلا بأس بأن يأخذ
سيفا من الغنيمة فيقاتل به لكنه إذا استغنى
عنه رده إلى المغنم. وكذا إذا احتاج إلى ركوب
فرس, أو لبس ثوب إذا دفع حاجته بذلك, رده إلى
المغنم؛ لأن هذا موضع الضرورة أيضا, لكن
الثابت بالضرورة لا يتعدى محل الضرورة, حتى
إنه لو أراد أن يستعمل شيئا من ذلك وقاية
لسلاحه ودوابه وثيابه وصيانة لها, فلا ينبغي
له ذلك؛ لانعدام تحقق الضرورة, وهكذا إذا
ذبحوا البقر أو الغنم وأكلوا اللحم وردوا
الجلود إلى المغنم؛ لأن الانتفاع به ليس من
الحاجات اللازمة, والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وأما" بيان من ينتفع بالغنائم, فنقول: إنه لا
ينتفع بها إلا الغانمون, فلا يجوز للتجار أن
يأكلوا شيئا من الغنيمة إلا بثمن؛ لأن سقوط
اعتبار حق كل واحد من الغانمين في حق صاحبه
لمكان الضرورة, ولا يجوز إسقاط اعتبار الحقيقة
من غير ضرورة, ولا ضرورة في حق غيرهم,
وللغانمين أن يأكلوا ويطعموا عبيدهم ونساءهم
وصبيانهم؛ لأن إنفاق الرجل على هؤلاء إنفاق
على نفسه؛ لأن نفقتهم عليه, والأصل أن كل من
عليه نفقته, فله أن يطعمه, ومن لا فلا ولا
يجوز لأجير الرجل للخدمة أن يأكل منه؛ لأن
نفقته على نفسه لا عليه وللمرأة إذا دخلت دار
الحرب لمداواة المرضى والجرحى أن تأكل وتعلف
دابتها وتطعم رقيقها؛ لأن المرأة تستحق الرضخ
من الغنيمة, فكانت من الغانمين والله سبحانه
وتعالى أعلم. "وأما" بيان كيفية قسمة الغنائم,
وبيان مصارفها, فنقول وبالله التوفيق: الغنائم
تقسم على خمسة أسهم, منها وهو خمس الغنيمة
لأربابه, وأربعة أخماسها للغانمين أما الخمس,
فالكلام فيه في بيان كيفية قسمة الخمس, وفي
بيان مصرفه, فنقول: لا خلاف في أن خمس الغنيمة
في حال حياة النبي عليه الصلاة والسلام كان
يقسم على خمسة أسهم, سهم للنبي عليه الصلاة
والسلام وسهم لذوي القربى, وسهم لليتامى, وسهم
للمساكين, وسهم لأبناء السبيل قال الله تبارك
وتعالى
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ}
وإضافة الخمس إلى الله تعالى يحتمل أن يكون
لكونه مصروفا إلى وجوه القرب التي هي لله
تبارك وتعالى وهي قوله سبحانه وتعالى
{وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}
الآية على ما تضاف المساجد والكعبة إلى الله
سبحانه وتعالى لكونها مواضع إقامة العبادات
والقرب التي هي لله تعالى ويحتمل أن يكون
تعظيما للخمس على ما بينا والأصل في إضافة
جزئية الأشياء إلى الله سبحانه وتعالى أنها
تخرج مخرج تعظيم المضاف, كقوله: ناقة الله,
وبيت الله ويحتمل أن يكون لخلوصه لله تعالى
بخروجه عن تصرف الغانمين كقوله تعالى
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} والملك في كل الأيام كلها لله تعالى لكن خص سبحانه وتعالى ذلك
اليوم بالملك له
ج / 7 ص -125-
فيه؛
لانقطاع تصرف الأغيار والله تعالى أعلم ثم
اختلف العلماء في سهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفي سهم ذوي القربى بعد وفاته أما سهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال علماؤنا
رحمهم الله: إنه سقط بعد وفاته عليه الصلاة
والسلام وقال الشافعي رحمه الله: إنه لم يسقط,
ويصرف إلى الخلفاء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام
إنما كان يأخذه كفاية له لاشتغاله بمصالح
المسلمين والخلفاء بعده مشغولون بذلك فيصرف
سهمه إليهم كفاية لهم. "ولنا" أن ذلك الخمس
كان خصوصية له عليه الصلاة والسلام كالصفي
الذي كان له خاصة, والفيء وهو المالية لم يوجف
عليه المسلمون بخيل ولا ركاب, ثم لم يكن لأحد
خصوص من الفيء والصفي, فكذا يجب أن لا يكون
لأحد خصوص من الخمس, ولهذا لم يكن للخلفاء
الراشدين بعده يحققه أنه لو بقي بعده لكان
بطريق الإرث وقد قال عليه الصلاة والسلام
"إنا معاشر
الأنبياء لا نورث, ما تركنا صدقة"
"وأما" سهم ذوي القربى فقد قال الشافعي رحمه
الله إنه باق ويصرف إلى أولاد بني هاشم من
أولاد سيدتنا فاطمة رضي الله تعالى عنها
وغيرها, يستوي فيه فقيرهم وغنيهم. "وأما"
عندنا فعلى الوجه الذي كان بقي واختلف المشايخ
فيه أنه كيف كان؟ والصحيح أنه كان لفقراء
القرابة دون أغنيائهم, يعطون لفقرهم وحاجتهم
لا لقرابتهم, وقد بقي كذلك بعد وفاته, فيجوز
أن يعطى فقراء قرابته عليه الصلاة والسلام
كفايتهم دون أغنيائهم, ويقدمون على غيرهم من
الفقراء ويجاوز لهم من الخمس أيضا لما لا حظ
لهم من الصدقات, لكن يجوز أن يعطى غيرهم من
فقراء المسلمين دونهم فيقسم الخمس عندنا على
ثلاثة أسهم: سهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم
لأبناء السبيل ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم,
ويقدمون, ولا يدفع إلى أغنيائهم شيء وعند
الشافعي رحمه الله لذوي القربى سهم على حدة
يصرف إلى غنيهم وفقيرهم احتج الشافعي رحمه
الله بقوله تعالى
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية فإن الله تعالى جعل سهما لذوي القربى, وهم القرابة من غير
فصل بين الفقير والغني وكذا روي أنه عليه
الصلاة والسلام "قسم الخمس على خمسة أسهم,
وأعطى سهما منها لذوي القربى", ولم يعرف له
ناسخ في حال حياته ولا نسخ بعد وفاته. "ولنا"
ما رواه محمد بن الحسن في كتاب السير أن سيدنا
أبا بكر, وسيدنا عمر, وسيدنا عثمان, وسيدنا
عليا رضي الله عنهم قسموا الغنائم على ثلاثة
أسهم: سهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم
لأبناء السبيل بمحضر من الصحابة الكرام, ولم
ينكر عليهم أحد فيكون إجماعا منهم على ذلك وبه
تبين أن ليس المراد من ذوي القربى قرابة
الرسول عليه الصلاة والسلام إذ لا يظن بهم
مخالفة كتاب الله تعالى ومخالفة رسوله عليه
الصلاة والسلام في فعله ومنع الحق عن المستحق,
وكذا لا يظن بمن حضرهم من الصحابة رضي الله
تعالى عنهم السكوت عما لا يحل مع ما وصفهم
الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,
وكذا ظاهر الآية الشريفة يدل عليه؛ لأن اسم
ذوي القربى يتناول عموم القرابات ألا ترى إلى
قوله تعالى
{لرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ولم يفهم منه قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة وكذا قوله
{الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} لم ينصرف إلى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي "أنه قسم
عليه الصلاة والسلام الخمس على خمسة أسهم,
فأعطى عليه الصلاة والسلام ذا القربى سهما"
فنعم, لكن الكلام في أنه أعطاهم خاصة وكذا
قوله
{الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ولم ينصرف إلى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم لفقرهم وحاجتهم أو
لقرابتهم وقد علمنا بقسمة الخلفاء الراشدين
رضي الله تعالى عنهم أنه أعطاهم لحاجتهم
وفقرهم لا لقرابتهم والدليل عليه أنه عليه
الصلاة والسلام كان يشدد في أمر الغنائم
فتناول من وبر بعير, وقال:
"ما يحل لي من غنائمكم ولا وزن هذه الوبرة إلا
الخمس وهو مردود فيكم, ردوا الخيط والمخيط,
فإن الغلول عار ونار وشنار على صاحبه يوم
القيامة" لم يخص عليه الصلاة والسلام القرابة بشيء من الخمس بل عم المسلمين
جميعا بقوله عليه الصلاة والسلام والخمس مردود
فيكم فدل أن سبيلهم سبيل سائر فقراء المسلمين,
يعطى من يحتاج منهم كفايته والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو أعطي أي فريق اتفق ممن سماهم
الله تعالى جاز؛ لأن ذكر هؤلاء الأصناف لبيان
المصارف لا لإيجاب الصرف إلى كل صنف منهم
شيئا, بل لتعيين المصرف حتى لا يجوز الصرف إلى
غير هؤلاء
ج / 7 ص -126-
كما في
الصدقات والله تعالى أعلم وأما الكلام في
الأربعة الأخماس ففي موضعين في بيان من يستحق
السهم منه ومن لا يستحق وفي بيان مقدار
الاستحقاق. أما الأول فالذي يستحق السهم منها
هو الرجل المسلم المقاتل, وهو أن يكون من أهل
القتال, ودخل دار الحرب على قصد القتال, وسواء
قاتل أو لم يقاتل؛ لأن الجهاد والقتال إرهاب
العدو, وذا كما يحصل بمباشرة القتل يحصل بثبات
القدم في صف القتال ردا للمقاتلة خشية كر
العدو عليهم وكذا روي أن أصحاب بدر كانوا
ثلاثا: ثلث في نحر العدو ويقتلون ويأسرون,
وثلث يجمعون الغنائم, وثلث يكونون ردا لهم
خشية كر العدو عليهم. وسواء كان مريضا أو
صحيحا, شابا أو شيخا حرا أو عبدا مأذونا
بالقتال؛ لأنهم من أهل القتال. "فأما" المرأة
والصبي العاقل, والذمي والعبد المحجور, فليس
لهم سهم كامل؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال ألا
ترى أنه لا يجب القتال على الصبي والذمي أصلا؟
ولا يجب على المرأة والعبد إلا عند الضرورة؟
وهي ضرورة عموم النفير, ولذلك لم يستحقوا كمال
السهم, ولكن يرضخ لهم على حسب ما يرى الإمام
وكذا روي أنه عليه الصلاة والسلام "كان لا
يعطي العبيد والصبيان والنسوان سهما كاملا من
الغنائم". وكذا لا سهم للتاجر؛ لأنه لم يدخل
الدار على قصد القتال إلا إذا قاتل مع العسكر,
فإنه يستحق ما يستحقه العسكر؛ لأنه تبين أنه
دخل الدار على قصد القتال فكان مقاتلا, ولا
سهم للأجير لانعدام الدخول على قصد القتال,
فإن قاتل نظر في ذلك إن ترك الخدمة فقد دخل في
جملة العسكر, وإن لم يترك فلا شيء له أصلا؛
لأنه إذا لم يترك تبين أنه لم يدخل على قصد
القتال والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وأما" بيان مقدار الاستحقاق وبيان حال
المستحق وهو المقاتل فنقول وبالله التوفيق:
المقاتل إما أن يكون راجلا. "وإما" أن يكون
فارسا فإن كان راجلا فله سهم واحد, وإن كان
فارسا فله سهمان عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له ثلاثة
أسهم: سهم له, وسهمان لفرسه وبه أخذ الشافعي
رحمه الله وروايات الأخبار تعارضت في الباب,
روي في بعضها أنه عليه الصلاة والسلام "قسم
للفارس سهمين" وفي بعضها "أنه عليه الصلاة
والسلام قسم له ثلاثة أسهم" إلا أن رواية
السهمين عاضدها القياس, وهو أن الرجل أصل في
الجهاد, والفرس تابع له؛ لأنه آلة. ألا ترى أن
فعل الجهاد يقوم بالرجل وحده, ولا يقوم بالفرس
وحده, فكان الفرس تابعا في باب الجهاد ولا
يجوز تنفيل التبع على الأصل في السهم, وأخبار
الآحاد إذا تعارضت, فالعمل بما عاضده القياس
أولى والله سبحانه وتعالى أعلم. ويستوي فيه
العتيق من الخيل والفرس والبرذون؛ لأنه لا فضل
في النصوص بين فارس وفارس, ولأن استحقاق سهم
الفرس لحصول إرهاب العدو به والله سبحانه
وتعالى وصف جنس الخيل بذلك بقوله تبارك وتعالى
{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ}
فلا يفصل بين نوع ونوع, ولا يسهم لأكثر من فرس
واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله
وعند أبي يوسف يسهم لفرسين. "وجه" قول أبي
يوسف رحمه الله أن الغازي تقع الحاجة له إلى
فرسين, يركب أحدهما ويجنب الآخر حتى إذا أعيا
المركوب عن الكر والفر تحول إلى الجنيبة.
"وجه" قولهم أن الإسهام للخيل في الأصل ثبت
على مخالفة القياس؛ لأن الخيل آلة الجهاد ثم
لا يسهم لسائر آلات الجهاد, فكذا الخيل إلا أن
الشرع ورد به كفرس واحد, فالزيادة على ذلك ترد
إلى أصل القياس على أن ورود الشرع إن كان
معلولا بكونه آلة مرهبة للعدو, بخلاف سائر
الآلات فالمعتبر هو أصل الإرهاب, بدليل أنه لا
يسهم لما زاد على فرسين بالإجماع, مع أن معنى
الإرهاب يزداد بزيادة الفرس. ثم اختلف في حال
المقاتل من كونه فارسا, أو راجلا في أي وقت
يعتبر وقت دخوله دار الحرب أم وقت شهود
الوقعة, فعندنا يعتبر وقت دخول دار الحرب إذا
دخلها على قصد القتال, وعند الشافعي رحمه الله
يعتبر وقت شهود الوقعة, حتى إن الغازي إذا دخل
دار الحرب فارسا فمات فرسه أو نفر, أو أخذه
العدو فله سهم الفرسان عندنا, وعنده له سهم
الرجالة واحتج بما روي عن سيدنا عمر رضي الله
عنه أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأن
استحقاق الغنيمة بالجهاد, ولم يوجد وقت دخول
دار الحرب؛ لأن الجهاد بالمقاتلة, ودخول دار
الحرب من باب قطع المسافة لا من باب المقاتلة.
"ولنا" أن الله تبارك وتعالى جعل الغنائم
للمجاهدين, قال سبحانه وتعالى
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً
طَيِّباً}
ج / 7 ص -127-
وقال
تعالى عز شأنه
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} وقال جلت عظمته وكبرياؤه
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وقال سبحانه وتعالى
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا
لَكُمْ} وغير
ذلك من النصوص, والذي جاوز الدرب فارسا على
قصد القتال مجاهد لوجهين: أحدهما, أن المجاوزة
على هذا الوجه إرهاب العدو, وأنه جهاد والدليل
على أنه إرهاب العدو, وأنه جهاد قوله عز وجل
{وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ولأن دار الحرب لا تخلو عن عيون الكفار وطلائعهم, فإذا دخلها جيش
كثيف رجالا وركبانا فالجواسيس يخبرونهم بذلك,
فيقع الرعب في قلوبهم حتى يتركوا القرى
والرساتيق هربا إلى القلاع والحصون المنيعة,
فكان مجاوزة الدرب على قصد القتال إرهاب
العدو, وأنه جهاد. والثاني أن فيه غيظ الكفرة
وكبتهم؛ لأن وطء أرضهم وعقر دارهم مما يغيظهم
قال الله تبارك وتعالى
{وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ} وفيه قهرهم وما الجهاد إلا قهر أعداء الله تعالى لإعزاز دينه,
وإعلاء كلمته فدل أن مجاوزة الدرب فارسا على
قصد القتال جهاد ومن جاهد فارسا فله سهم
الفرسان, ومن جاهد راجلا فله سهم الرجالة,
بقوله عليه الصلاة والسلام للفارس سهمان
وللراجل سهم. وأما أمر سيدنا عمر رضي الله عنه
فيحتمل أنه قال ذلك في وقعة خاصة, بأن وقع
القتال في دار الإسلام أو في أرض فتحت عنوة
وقهرا, ثم لحق المدد أو يحمل على هذا توفيقا
بين الدلائل بقدر الإمكان صيانة لها عن
التناقض, ونحن به نقول: إن المدد لا يشاركونهم
في الغنيمة في تلك الوقعة إلا إذا شهدوها, ولا
كلام فيه, وعلى هذا إذا دخل راجلا ثم اشترى
فرسا أو استأجر, أو استعار أو وهب له فله سهم
الرجال عندنا؛ لاعتبار وقت الدخول وعند
الشافعي له سهم الفرسان؛ لاعتبار وقت الشهود
وقال الحسن رحمه الله في هذه الصورة إذا قاتل
فارسا فله سهم فارس, وعلى هذا إذا دخل فارسا
ثم باع فرسه أو آجره, أو وهبه أو أعاره فقاتل
وهو راجل فله سهم راجل, ذكره في السير الكبير.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن له
سهم فارس, وسوى على هذه الرواية بين البيع
والموت, وبين البيع قبل شهود الوقعة وبعدها
والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن المجاوزة
فارسا على قصد القتال دليل الجهاد فارسا, ولما
باع فرسه تبين أنه لم يقصد به الجهاد فارسا,
بل قصد به التجارة, وكذا هذا في الإجارة
والإعارة والرهن, بخلاف ما بعد شهود الوقعة؛
لأن البيع بعده لا يدل على قصد التجارة؛ لأن
الغازي لا يبيع فرسه ذلك الوقت لقصد التجارة
عادة, بل لقصد ثبات القدم والتشمر للقتال
بعامة ما في وسعه وإمكانه والله تعالى أعلم.
"فصل". وأما بيان حكم الاستيلاء من الكفرة على أموال المسلمين, فالكلام
فيه في موضعين: أحدهما في بيان أصل الحكم,
والثاني في بيان كيفيته أما الأول: فنقول: لا
خلاف في أن الكفار إذا دخلوا دار الإسلام
واستولوا على أموال المسلمين, ولم يحرزوها
بدارهم, إنهم لا يملكونها حتى لو ظهر عليهم
المسلمون, وأخذوا ما في أيديهم, لا يصير ملكا
لهم, وعليهم ردها إلى أربابها بغير شيء, وكذا
لو قسموها في دار الإسلام ثم ظهر عليهم
المسلمون, فأخذوها من أيديهم, أخذها أصحابها
بغير شيء؛ لأن قسمتهم لم تجز لعدم الملك, فكان
وجودها والعدم بمنزلة واحدة, بخلاف قسمة
الإمام الغنائم في دار الحرب, إنها جائزة وإن
لم يثبت الملك فيها في دار الحرب؛ لأن قسمة
الإمام إنما تجوز عندنا إذا اجتهد وأفضى رأيه
إلى الملك, حتى لو قسم مجازفة لا تجوز على أن
القسمة هناك قضاء صدر من إمام جائز القضاء,
ولم يوجد هاهنا. ولا خلاف في أنهم أيضا إذا
استولوا على رقاب المسلمين, ومدبريهم, وأمهات
أولادهم, ومكاتبيهم, أنهم لا يملكونهم, وإن
أحرزوهم بالدار واختلف فيما إذا دخلوا دار
الإسلام فاستولوا على أموال المسلمين,
وأحرزوها بدار الحرب قال علماؤنا: يملكونها
حتى لو كان المستولى عليه عبدا فأعتقه الحربي,
أو باعه, أو كاتبه, أو دبره, أو كانت أمة
فاستولدها جاز ذلك خاصة وقال الشافعي رحمه
الله: لا يملكونها وجه قوله أنهم استولوا على
مال معصوم, والاستيلاء على مال معصوم لا يفيد
الملك كاستيلاء المسلم على مال المسلمين,
واستيلائهم على الرقاب وإنما قلنا ذلك لأن
عصمة مال المسلم ثابتة في حقهم؛ لأنهم يخاطبون
بالحرمات إذا بلغتهم الدعوة, وإن اختلفا في
العبادات والاستيلاء يكون محظورا, والمحظور
ج / 7 ص -128-
لا
يصلح سببا للملك. "ولنا" أنهم استولوا على مال
مباح غير مملوك, ومن استولى على مال مباح غير
مملوك يملكه, كمن استولى على الحطب والحشيش
والصيد, ودلالة أن هذا الاستيلاء على مال مباح
غير مملوك أن ملك المالك يزول بعد الإحراز
بدار الحرب, فتزول العصمة ضرورة بزوال الملك,
والدليل على زوال الملك أن الملك هو الاختصاص
بالمحل في حق التصرف, أو شرع للتمكن من التصرف
في المحل, وقد زال ذلك بالإحراز بالدار؛ لأن
المالك لا يمكنه الانتفاع به إلا بعد الدخول,
ولا يمكنه الدخول بنفسه لما فيه من مخاطرة
الروح, وإلقاء النفس في التهلكة, وغيره قد لا
يوافقه ولو وافقه فقد لا يظفر به, ولو ظفر به
قلما يمكنهم الاسترداد؛ لأن الدار دارهم, وأهل
الدار يذبون عن دارهم, فإذا زال معنى الملك أو
ما شرع له الملك يزول الملك ضرورة. وكذلك لو
استولوا على عبيدنا فهو على هذا الاختلاف؛ لأن
العبد مال قابل للتمليك بالاستيلاء, ولهذا
يحتمل التملك بسائر أسباب الملك, بخلاف
الأحرار, والمدبرين, والمكاتبين, وأمهات
الأولاد, وهذا إذا دخلوا دار الإسلام فاستولوا
على عبيد المسلمين وأحرزوهم بدار الحرب, فأما
إذا أبق عبد أو أمة, ولحق بدار الحرب فأخذه
الكفار لا يملكونه عند أبي حنيفة وعند أبي
يوسف, ومحمد يملكونه. وجه قولهما أنهم استولوا
على مال مباح غير مملوك فيملكونه قياسا على
الدابة التي ندت من دار الإسلام إلى دار الحرب
فأخذها الكفار وسائر أموال المسلمين التي
استولوا عليها والدليل على أنهم استولوا على
مال مباح غير مملوك أنه كما دخل دار الحرب فقد
زال ملك المالك لما ذكرنا في المسألة الأولى,
وزوال الملك لا يوجب زوال المالية ألا ترى أنه
لا يوجب زوال الرق ؟. "وجه" قول أبي حنيفة أن
الاستيلاء لم يصادف محله, فلا يفيد الملك
قياسا على الاستيلاء على الأحرار والمدبرين,
والمكاتبين, وأمهات الأولاد, ودلالة أن
الاستيلاء لم يصادف محله أن محل الاستيلاء هو
المال, ولم يوجد؛ لأن المالية في هذا المحل
إنما ثبتت ضرورة ثبوت الملك للغانمين؛ لأن
الأصل فيه هو الحرية, وكما دخل دار الحرب فقد
زال الملك كما ذكرنا في المسألة المتقدمة,
فتزول المالية الثابتة ضرورة ثبوته, فكان
ينبغي أن يزول الرق أيضا, إلا أنه بقي شرعا,
بخلاف القياس فيقتصر على مورد النص, بخلاف
الدابة؛ لأن المالية فيها لا تثبت ضرورة ثبوت
الملك؛ لأنها مال والأموال كلها محل لثبوت
الملك, وبخلاف الآبق المتردد في دار الإسلام؛
لأن الاستيلاء حقيقة صادفه وهو مال مملوك فكان
ينبغي أن يثبت الملك للحال لوجود سببه, إلا
أنه تأخر إلى وقت الإحراز بالدار لمانع وهو
ملك المالك, فإذا أحرزوه بدارهم فقد زال
المانع لزوال الملك, فيعمل الاستيلاء السابق,
وعمله في إثبات الملك. والملك لا يثبت إلا في
المال فبقيت المالية ضرورة المرء هاهنا؛
لاستيلاء حال كونه مالا أصلا, وبعد ما وجد
الاستيلاء لا مالية لزوال الملك, فلم يصادف
الاستيلاء محله فلا يفيد الملك والله سبحانه
وتعالى أعلم. "وأما" بيان كيفية الحكم فنقول:
ملك المسلم يزول عن ماله باستيلاء الكفار
عليه, ويثبت لهم عندنا على وجه له حق الإعادة,
إما بعوض, أو بغير عوض, حتى لو ظهر عليهم
المسلمون فأخذوها وأحرزوها بدار الإسلام, فإن
وجده المالك القديم قبل القسمة أخذه بغير شيء,
سواء كان من ذوات القيم أو من ذوات الأمثال,
وإن وجده بعد القسمة فإن كان من ذوات الأمثال
لا يأخذه؛ لأنه لو أخذه لأخذه بمثله فلا يفيد,
وإن لم يكن من ذوات الأمثال يأخذه بقيمته إن
شاء؛ لأن الأخذ بالقيمة مراعاة الجانبين: جانب
الملك القديم بإيصاله إلى قديم ملكه الخاص
المأخوذ منه بغير عوض, وجانب الغانمين بصيانة
ملكهم الخاص عن الزوال من غير عوض. فكان الأخذ
بالقيمة نظرا للجانبين ومراعاة الحقين, بخلاف
ما إذا وجده قبل القسمة, إنه يأخذه بغير شيء؛
لأن الثابت للغانمين قبل القسمة بعد الإحراز
ليس إلا الحق المتأكد, أو الملك العام, فكانت
الإعادة إلى قديم الملك رعاية للملك الخاص
أولى وقد روي أن بعيرا لرجل من المسلمين
استولى عليه أهل الحرب, ثم ظهر عليهم المسلمون
فوجده صاحبه في المغنم, فسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عنه فقال:
"إن وجدته
قبل القسمة فهو لك بغير شيء, وإن وجدته بعد
القسمة فهو لك بالقيمة". وكذلك لو كان الحربي باع المأخوذ من المسلمين, ثم ظهر عليه
المسلمون, فإن المالك القديم يأخذه قبل القسمة
بغير شيء, وبعد القسمة بالقيمة؛ لأنه باعه
مستحق الإعادة إلى قديم
ج / 7 ص -129-
الملك
فبقي كذلك, ولو كان المستولى عليه مدبرا أو
مكاتبا أو أم ولد, ثم ظهر عليه المسلمون
فأخرجوه إلى دار الإسلام, أخذه المالك القديم
بغير شيء قبل القسمة وبعدها؛ لأنه حر من وجه,
والحر من وجه أو من كل وجه لا يحتمل التملك
بالاستيلاء, ولهذا لا يحتمله بسائر أسباب
الملك, فإذا حصلوا في أيدي الغانمين وجب ردهم
إلى المالك القديم. ولو وهب الحربي ما ملكه
بالاستيلاء لرجل من المسلمين, أخذه المالك
القديم بالقيمة إن شاء؛ لأن فيه نظرا للجانبين
على ما بينا وكذلك لو باعه من مسلم بعوض فاسد,
بأن باع من مسلم عبد المسلم بخمر أو خنزير,
أخذه صاحبه بقيمة العبد؛ لأن تسمية الخمر
والخنزير لم تصح, فكان هذا بيعا فاسدا, والبيع
الفاسد مضمون بقيمة المبيع, فصار كأنه اشتراه
بقيمته, ولو لم يكن العوض فاسدا أخذه بالثمن
الذي اشتراه به إن شاء, إن كان اشتراه بخلاف
جنسه؛ لأن الأخذ عند اختلاف الجنس مفيد, وكذلك
لو كان اشتراه بجنسه لكن بأقل منه, فإنه يأخذه
بمثل ما اشتراه, ولا يكون هذا ربا, لأن الربا
فضل مال قصد استحقاقه بالبيع من غير عوض
يقابله. والمالك القديم لا يأخذه بطريق البيع,
بل بطريق الإعادة إلى قديم ملكه, فلا يتحقق
الربا, وإن كان اشتراه بجنسه بمثله قدرا لا
يأخذه؛ لأنه لا يفيد ولو اشتراه رجل من العدو
ثم باعه من رجل آخر, ثم حضر المالك القديم
أخذه من الثاني بالثمن الثاني, وليس له أن
ينقض البيع الثاني, ويأخذ بالثمن الأول من
المشتري الأول في ظاهر الرواية وروي عن محمد
رحمه الله في النوادر أن المالك بالخيار إن
شاء نقض البيع وأخذه بالثمن الأول, وإن شاء
أخذه بالثمن الثاني. "وجه" رواية النوادر أن
أخذ المالك القديم تملك ببدل فأشبه حق الشفعة,
ثم حق الشفيع مقدم على حق المشتري, فكذا حقه
والجامع أن حق كل واحد منهما سابق على حق
المشتري, والسبق من أسباب الترجيح. وجه ظاهر
الرواية أنه لا ملك للمالك القديم في المحل
بوجه, بل هو زائل من كل وجه, وإنما الثابت له
حق الإعادة, وإنه ليس بمعنى في المحل, فلا
يمنع جواز البيع, فلا يملك نقضه بخلاف حق
الشفعة, فإن الشفيع يتملك نقض المشفوع فيقتضي
الأخذ بالشفعة بتمليك البائع منه على ما عرف,
وعلى هذا الأصل إذا علم المالك القديم بشراء
المأسور, وترك الطلب زمانا لا يبطل حقه؛ لأن
هذا الأخذ ليس في معنى الأخذ بالشفعة ليشترط
له الطلب على سبيل المواثبة, وعلى قياس ما روي
عن محمد رحمه الله يبطل كما يبطل حق الشفعة
بترك الطلب على المواثبة. وكذلك هذا الحق يورث
في ظاهر الرواية, حتى لو مات المالك القديم,
كان لورثته أن يأخذوه, وعلى قياس ما روي عن
محمد رحمه الله لا يورث كما لا يورث حق الشفعة
والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن هذا الأخذ ليس
ابتداء تملك, بل هو إعادة إلى قديم الملك,
بخلاف الأخذ بالشفعة, وحق الإعادة إلى قديم
الملك مما يحتمل الإرث كحق الرد بالعيب, وليس
لبعض الورثة أن يأخذوا ذلك دون البعض؛ لأنه حق
ثبت للكل فلا ينفرد به البعض, ولو اشترى
المأسور رجل فأدخله دار الإسلام, ثم اشتراه
العدو ثانيا, فاشتراه رجل آخر, فأدخله دار
الإسلام, فالمشتري الأول أحق من المالك
القديم, وليس للمالك القديم أن يأخذه من
المشتري الثاني؛ لأنه لما أسر من يد المشتري
الأول نزل المشتري الأول منزلة المالك القديم,
فكان حق الأخذ له. لكن إذا أخذه المشتري الأول
فللمالك القديم أن يأخذه بالثمنين إن شاء أو
يدع؛ لأنه لما أخذه المشتري الأول بالثمن فقد
قام عليه بالثمنين, فكأنه اشتراه بهذا القدر
من المال ولم يوجد الأسر أصلا, ولو أعتق
الحربي العبد المأسور في دار الحرب, أو دبره,
أو كاتبه, أو كانت له أمة فاستولدها, ثم ظهر
المسلمون عليها, فذلك كله جائز, وعتقت هي
وأولادها, وكذا المدبر والمكاتب. "أما" إذا
أعتقه فلأن يده زالت عنه وهو مسلم, فحصل في يد
نفسه فعتق عليه, كالعبد الحربي إذا خرج إلينا
مسلما, والاستيلاد فرع النسب, والنسب يثبت في
دار الحرب, وقهر الحربي كموته, وإن مات عتقت
أم ولده, كما إذا غلب عليه, وعتق المدبر لهذا
المعنى, والمكاتب صار في يد نفسه؛ لزوال يد
المولى عنه وهو مسلم فيعتق, ولأنه إذا قهر
المولى سقط عنه بدل الكتابة, فعتق لزوال رقه,
ولو كان المأسور حرا فاشتراه مسلم وأخرجه إلى
دار الإسلام, فلا شيء للمشتري على الحر؛ لأنه
ما اشتراه حقيقة؛ إذ الحر لا يحتمل التملك,
لكنه بذل مالا لاستخلاص الأسير بغير إذنه,
فكان متطوعا فيه, فلا يملك الرجوع عليه, وإن
أمره الحر بذلك ففعله بأمره رجع
ج / 7 ص -130-
عليه؛
لأنه لما أمره بذلك فكأنه استقرض منه هذا
القدر من المال, فأقرضه إياه, ثم أمره أن
يدفعه إلى فلان ففعل, فيرجع عليه بحكم
الاستقراض, ولو أسلم أهل الحرب, ومتاع
المسلمين الذي أحرزوه في أيديهم فهو لهم ولا
حق للمالك القديم فيه؛ لأنه مال أسلموا عليه,
ومن أسلم على مال فهو له على لسان رسول الله
صلى الله عليه وسلم هذا الذي ذكرنا حكم
استيلاء الكافر فأما حكم الشراء, فنقول:
الحربي إذا خرج إلينا فاشترى عبدا مسلما ثبت
الملك له فيه عندنا؛ لكنه يجبر على البيع,
وكذلك لو خرج إلينا بعبده فأسلم في يده يجبر
على البيع, وعند الشافعي رحمه الله: لا يجوز
شراء الكافر العبد المسلم وهي مسألة كتاب
البيوع, فإن لم يبعه حتى دخل دار الحرب به عتق
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وعندهما لا
يعتق وجه قولهما أن لإحراز الكافر ماله بدار
الحرب أثرا في زوال العصمة لا في زوال الملك,
فإن مال الكافر مملوك لكنه غير معصوم وجه قول
أبي حنيفة رحمه الله أن الثابت للحربي بالشراء
ملك مجبور على إزالته, فلو لم يعتق بإدخاله
دار الحرب لم يبق الملك الثابت له شرعا بهذه
الصفة؛ لتعذر الجبر بالإحراز بوجه, فيؤدي إلى
تغيير المشروع, وهذا لا يجوز ثم طريق الزوال
هو الإحراز بالدار, وإن كان هو في الأصل شرط
زوال الملك والعصمة في استيلاء الكفار لتعذر
تحصيل العلة, فأقيم الشرط مقامه على الأصل
المعهود من إقامة الشرط مقام العلة عند تعذر
تعليق الحكم بالعلة, ولو اشترى عبدا ذميا فهو
على هذا الاختلاف أيضا؛ لأن الحربي مجبور على
بيع الذمي أيضا, ولا يترك ليدخل دار الحرب ولو
أسلم عبد لحربي في دار الحرب لا يعتق, وهو عبد
على حاله بالإجماع؛ لأن الملك وإن كان واجب
الإزالة لكن لا طريق للزوال هاهنا, فبقي على
حاله, ولو خرج هذا العبد إلينا, فإن خرج
مراغما لمولاه ولحق بعسكر المسلمين عتق؛ لأن
دار الحرب دار قهر وغلبة, وقد قهر مولاه
بخروجه مراغما إياه, فصار مستوليا على نفسه
مستغنما إياها, فيزول ملك المالك عنه وقد روي
أنه عليه الصلاة والسلام قال في إباق الطائف:
"هؤلاء عتقاء الله سبحانه وتعالى"
ولو خرج غير مراغم فإن خرج بإذن المولى
للتجارة فهو عبد لمولاه لكن يبيعه الإمام,
ويقف ثمنه لمولاه أما كونه عبدا لمولاه فلأنه
لم يخرج قاهرا مستوليا, ولأنه ملك مستحق
الزوال بالإسلام. وأما وقف ثمنه لمولاه, فلأنه
باعه على ملكه. وكذا لو لم يخرج مراغما ولكن
ظهر المسلمون على الدار يعتق أيضا؛ لأنه لما
أسلم فقد بقي عليه ملك مستحق الزوال, محتاج
إلى طريق الزوال, وقد وجد وهو إحراز نفسه
بمنعه المسلمين, وإنه أسبق من إحراز المسلمين
إياه بدار الإسلام ليملكوه, فكان أولى ولو لم
يخرج ولم يظهر على الدار, ولكن باعه الحربي من
مسلم أو حربي, عتق عند أبي حنيفة قبل المشتري
البيع أو لم يقبل, وعندهما لا يعتق وجه قولهما
أنه كما زال ملك البائع عنه فقد ثبت ملك
المشتري فيه, فلا يعتق وجه قول أبي حنيفة رضي
الله تعالى عنه ما ذكرنا أن هذا ملك مستحق
الزوال موقوف زواله على سبب الزوال أو شرط
الزوال على ما بينا, فإذا عرضه على البيع,
والبيع سبب لزوال الملك فقد رضي بزواله إلى
غيره فكان بزواله إليه أرضى. لأنه استحق
الزوال وغيره ما استحقه, والرضا بالزوال شرط
الزوال ولو أسلم حربي في دار الحرب وله رقيق
فيها, فخرج هو إلى دار الإسلام ثم تبعه عبده
بعد ذلك كافرا كان أو مسلما فهو عبد لمولاه؛
لأن خروجه إلى مولاه كخروجه مع مولاه ولو كان
خرج مع مولاه لكان عبدا لمولاه كذا هذا والله
سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل". وأما بيان الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين, فنقول: لا بد أولا
من معرفة معنى الدارين, دار الإسلام ودار
الكفر؛ لتعرف الأحكام التي تختلف باختلافهما,
ومعرفة ذلك مبنية على معرفة ما به, تصير الدار
دار إسلام أو دار كفر فنقول: لا خلاف بين
أصحابنا في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور
أحكام الإسلام فيها واختلفوا في دار الإسلام,
إنها بماذا تصير دار الكفر؟ قال أبو حنيفة:
إنها لا تصير دار الكفر إلا بثلاث شرائط,
أحدها: ظهور أحكام الكفر فيها والثاني: أن
تكون متاخمة لدار الكفر والثالث: أن لا يبقى
فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول, وهو
أمان المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله: إنها تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر
فيها. "وجه" قولهما أن قولنا دار الإسلام ودار
الكفر إضافة دار إلى الإسلام وإلى الكفر,
وإنما تضاف الدار إلى الإسلام أو إلى الكفر
ج / 7 ص -131-
لظهور
الإسلام أو الكفر فيها, كما تسمى الجنة دار
السلام, والنار دار البوار؛ لوجود السلامة في
الجنة, والبوار في النار وظهور الإسلام والكفر
بظهور أحكامهما, فإذا ظهر أحكام الكفر في دار
فقد صارت دار كفر فصحت الإضافة, ولهذا صارت
الدار دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها
من غير شريطة أخرى, فكذا تصير دار الكفر بظهور
أحكام الكفر فيها والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن المقصود من
إضافة الدار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين
الإسلام والكفر, وإنما المقصود هو الأمن
والخوف. ومعناه أن الأمان إن كان للمسلمين
فيها على الإطلاق, والخوف للكفرة على الإطلاق,
فهي دار الإسلام, وإن كان الأمان فيها للكفرة
على الإطلاق, والخوف للمسلمين على الإطلاق,
فهي دار الكفر والأحكام مبنية على الأمان
والخوف لا على الإسلام والكفر, فكان اعتبار
الأمان والخوف أولى, فما لم تقع الحاجة
للمسلمين إلى الاستئمان بقي الأمن الثابت فيها
على الإطلاق, فلا تصير دار الكفر, وكذا الأمن
الثابت على الإطلاق لا يزول إلا بالمتاخمة
لدار الحرب, فتوقف صيرورتها دار الحرب على
وجودهما مع أن إضافة الدار إلى الإسلام احتمل
أن يكون لما قلتم, واحتمل أن يكون لما قلنا,
وهو ثبوت الأمن فيها على الإطلاق للمسلمين
وإنما يثبت للكفرة بعارض الذمة والاستئمان,
فإن كانت الإضافة لما قلتم تصير دار الكفر بما
قلتم. وإن كانت الإضافة لما قلنا لا تصير دار
الكفر إلا بما قلنا, فلا تصير ما به دار
الإسلام بيقين دار الكفر بالشك والاحتمال على
الأصل المعهود أن الثابت بيقين لا يزول بالشك
والاحتمال, بخلاف دار الكفر حيث تصير دار
الإسلام؛ لظهور أحكام الإسلام فيها؛ لأن هناك
الترجيح لجانب الإسلام؛ لقوله عليه الصلاة
والسلام
"الإسلام يعلو ولا يعلى" فزال الشك على أن الإضافة إن كانت باعتبار ظهور الأحكام, لكن لا
تظهر أحكام الكفر إلا عند وجود هذين الشرطين
أعني المتاخمة وزوال الأمان الأول لأنها لا
تظهر إلا بالمنعة, ولا منعة إلا بهما والله
سبحانه وتعالى أعلم وقياس هذا الاختلاف في أرض
لأهل الإسلام ظهر عليها المشركون, وأظهروا
فيها أحكام الكفر, أو كان أهلها أهل ذمة
فنقضوا الذمة. وأظهروا أحكام الشرك, هل تصير
دار الحرب؟ فهو على ما ذكرنا من الاختلاف,
فإذا صارت دار الحرب فحكمها إذا ظهرنا عليها,
وحكم سائر دور الحرب سواء, وقد ذكرناه ولو
فتحها الإمام ثم جاء أربابها, فإن كان قبل
القسمة أخذوا بغير شيء, وإن كان بعد القسمة
أخذوا بالقيمة إن شاءوا لما ذكرنا من قبل وعاد
المأخوذ على حكمه الأول الخراجي عاد خراجيا,
والعشري عاد عشريا؛ لأن هذا ليس استحداث
الملك, بل هو عود قديم الملك إليه, فيعود
بوظيفته إلا إذا كان الإمام وضع عليها الخراج
قبل ذلك, فلا يعود عشريا؛ لأن تصرف الإمام صدر
عن ولاية شرعية, فلا يحتمل النقض والله تعالى
أعلم.
"فصل". وأما الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين فأنواع, منها أن المسلم
إذا زنا في دار الحرب, أو سرق, أو شرب الخمر,
أو قذف مسلما لا يؤخذ بشيء من ذلك؛ لأن الإمام
لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب؛ لعدم
الولاية. ولو فعل شيئا من ذلك ثم رجع إلى دار
الإسلام لا يقام عليه الحد أيضا؛ لأن الفعل لم
يقع موجبا أصلا, ولو فعل في دار الإسلام ثم
هرب إلى دار الحرب يؤخذ به؛ لأن الفعل وقع
موجبا للإقامة, فلا يسقط بالهرب إلى دار
الحرب, وكذلك إذا قتل مسلما لا يؤخذ بالقصاص,
وإن كان عمدا؛ لتعذر الاستيفاء إلا بالمنعة؛
إذ الواحد يقاوم الواحد, والمنعة منعدمة, ولأن
كونه في دار الحرب أورث شبهة في الوجوب.
والقصاص لا يجب مع الشبهة, ويضمن الدية خطأ
كان أو عمدا, وتكون في ماله لا على العاقلة؛
لأن الدية تجب على القاتل ابتداء. أو لأن
القتل وجد منه. ولهذا وجب القصاص والكفارة على
القاتل لا على غيره, فكذا الدية تجب عليه
ابتداء, وهو الصحيح ثم العاقلة تتحمل عنه
بطريق التعاون لما يصل إليه بحياته من المنافع
من النصرة, والعز, والشرف بكثرة العشائر,
والبر والإحسان لهم ونحو ذلك, وهذه المعاني لا
تحصل عند اختلاف الدارين, فلا تتحمل عنه
العاقلة, وكذلك لو كان أميرا على سرية, أو
أمير جيش وزنا رجل منهم, أو سرق, أو شرب
الخمر, أو قتل مسلما خطأ أو عمدا, لم يأخذه
الأمير بشيء من ذلك؛ لأن الإمام ما فوض إليه
إقامة
ج / 7 ص -132-
الحدود
والقصاص؛ لعلمه أنه لا يقدر على إقامتها في
دار الحرب, إلا أنه يضمنه السرقة إن كان
استهلكها ويضمنه الدية في باب القتل؛ لأنه
يقدر على استيفاء ضمان المال. ولو غزا الخليفة
أو أمير الشام, ففعل رجل من العسكر شيئا من
ذلك أقام عليه الحد واقتص منه في العمد وضمنه
الدية في ماله في الخطأ؛ لأن إقامة الحدود إلى
الإمام, وتمكنه الإقامة بماله من القوة
والشوكة باجتماع الجيوش وانقيادها له, فكان
لعسكره حكم دار الإسلام, ولو شذ رجل من العسكر
ففعل شيئا من ذلك درئ عنه الحد والقصاص؛
لاقتصار ولاية الإمام على المعسكر, وعلى هذا
يخرج الحربي إذا أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر
إلينا فقتله مسلم عمدا أو خطأ؛ لأنه لا قصاص
عليه عندنا على ما ذكرنا وهذا مبني على أن
التقوم عندنا يثبت بدار الإسلام؛ لأن التقوم
بالعزة, ولا عزة إلا بمنعة المسلمين. وعند
الشافعي رحمه الله التقوم يثبت بالإسلام وعلى
هذا إذا أسلم الحربي في دار الحرب ولم يعرف أن
عليه صلاة ولا صياما ثم خرج إلى دار الإسلام
فليس عليه قضاء ما مضى وقال أبو يوسف: أستحسن
أن يجب عليه القضاء. "وجه" قوله أن الصلاة قد
وجبت عليه لوجود سبب الوجوب وهو الوقت, وشرطه
وهو الإسلام, والصلاة الواجبة إذا فاتت عن
وقتها تقضى, كالذمي إذا أسلم في دار الإسلام
ولم يعرف أن عليه ذلك حتى مضى عليه أوقات
صلوات ثم علم. "وجه" قول أبي حنيفة أن وجوب
الشرائع يعتمد البلوغ, وهو العلم بالوجوب؛ لأن
وجوبها لا يعرف إلا بالشرع, بالإجماع إن
اختلفا في وجوب الإيمان, إلا أن حقيقة العلم
ليست بشرط بل إمكان الوصول إليه كاف, وقد وجد
ذلك في دار الإسلام؛ لأنها دار العلم
بالشرائع, ولم يوجد في دار الحرب؛ لأنها دار
الجهل بها بخلاف وجوب الإيمان, وشكر النعم,
وحرمة الكفر, والكفران ونحو ذلك؛ لأن هذه
الأحكام لا يقف وجوبها على الشرع, بل تجب
بمجرد العقل عندنا فإن أبا يوسف روى عن أبي
حنيفة رحمه الله هذه العبارة فقال: كان أبو
حنيفة رضي الله عنه يقول: لا عذر لأحد من
الخلق في جهله معرفة خالقه؛ لأن الواجب على
جميع الخلق معرفة الرب سبحانه وتعالى وتوحيده؛
لما يرى من خلق السماوات والأرض, وخلق نفسه,
وسائر ما خلق الله سبحانه وتعالى فأما الفرائض
فمن لم يعلمها, ولم تبلغه, فإن هذا لم تقم
عليه حجة حكمية بلفظه. وعلى هذا إذا دخل مسلم
أو ذمي دار الحرب بأمان, فعاقد حربيا عقد
الربا أو غيره من العقود الفاسدة في حكم
الإسلام جاز عند أبي حنيفة, ومحمد رحمهما الله
وكذلك لو كان أسيرا في أيديهم أو أسلم في دار
الحرب ولم يهاجر إلينا, فعاقد حربيا وقال أبو
يوسف: لا يجوز للمسلم في دار الحرب إلا ما
يجوز له في دار الإسلام. "وجه" قوله أن حرمة
الربا ثابتة في حق العاقدين, أما في حق المسلم
فظاهر. وأما في حق الحربي فلأن الكفار مخاطبون
بالحرمات وقال تعالى جل شأنه
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} ولهذا حرم مع الذمي والحربي الذي دخل دارنا بأمان. "وجه" قولهما أن
أخذ الربا في معنى إتلاف المال, وإتلاف مال
الحربي مباح, وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي,
فكان المسلم بسبيل من أخذه إلا بطريق الغدر
والخيانة, فإذا رضي به انعدم معنى الغدر,
بخلاف الذمي والحربي المستأمن؛ لأن أموالهما
معصومة على الإتلاف, ولو عاقد هذا المسلم الذي
دخل بأمان مسلما أسلم هناك ولم يهاجر إلينا
جاز عند أبي حنيفة, وعندهما لا يجوز ولو كانا
أسيرين أو دخلا بأمان للتجارة فتعاقدا عقد
الربا أو غيره من البياعات الفاسدة لا يجوز
بالاتفاق. "وجه" قولهما أن أخذ الربا من
المسلم إتلاف مال معصوم من غير رضاه معنى؛ لأن
الشرع حرم عليه أن تطيب نفسه بذلك بقوله عليه
الصلاة والسلام:
"من زاد واستزاد فقد أربى" والساقط شرعا, والعدم حقيقة سواء فأشبه تعاقد الأسيرين والتاجرين.
"وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن أخذ
الربا في معنى إتلاف المال, ومال الذي أسلم في
دار الحرب, ولم يهاجر إلينا غير مضمون
بالإتلاف, يدل عليه أن نفسه غير مضمونة
بالقصاص ولا بالدية عندنا, وحرمة المال تابعة
لحرمة النفس, بخلاف التاجرين والأسيرين, فإن
مالهما مضمون بالإتلاف, وعلى هذا إذا دخل مسلم
دار الحرب بأمان, فأدانه حربي أو أدان حربيا,
ثم خرج المسلم وخرج الحربي مستأمنا, فإن
القاضي لا يقضي لواحد منهما على صاحبه بالدين,
وكذلك لو غصب أحدهما صاحبه شيئا لا يقضي
بالغصب؛ لأن المداينة في دار الحرب وقعت هدرا؛
ج / 7 ص -133-
لانعدام ولايتنا عليهم وانعدام ولايتهم أيضا
في حقنا, وكذا غصب كل واحد منهما صادف مالا
غير مضمون فلم ينعقد سببا لوجوب الضمان. وكذلك
لو كان حربيين داين أحدهما صاحبه ثم خرجا
مستأمنين, ولو خرجا مسلمين لقضي بالدين لثبوت
الولاية, ولا يقضى بالغصب لما بينا إلا أن
المسلم لو كان هو الغاصب يفتى بأن يرد عليهم
ولا يقضى عليه؛ لأنه صار غادرا بهم ناقضا
عهدهم, فتلزمه التوبة, ولا تتحقق التوبة إلا
برد المغصوب, وعلى هذا: مسلمان دخلا دار الحرب
بأمان بأن كانا تاجرين مثلا فقتل أحدهما صاحبه
عمدا لا قصاص على القاتل لما بينا, وإن كان
خطأ فعليه الدية في ماله, والكفارة؛ لأنهما من
أهل دار الإسلام, وإنما دخلا دار الحرب لعارض
أمر, إلا أنه يجب القصاص للشبهة, أو لتعذر
الاستيفاء على ما بينا ولو كانا أسيرين, أو
كان المقتول أسيرا مسلما فلا شيء على القاتل
إلا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة رضي الله
عنه وعندهما عليه الكفارة والدية. "وجه"
قولهما أن الأسيرين من أهل دار الإسلام
كالمستأمنين, وإنما الأسر أمر عارض, ولأبي
حنيفة رضي الله عنه أن الأسير مقهور في يد أهل
الحرب, فصار تابعا لهم فبطل تقومه والله
سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا: الحربي إذا أعتق
عبده الحربي في دار الحرب لا ينفذ عندهما,
وعند أبي يوسف رحمه الله ينفذ وقيل لا خلاف في
العتق أنه ينفذ, إنما الخلاف في الولاء أنه هل
يثبت منه؟ عندهما لا يثبت وعنده يثبت. "وجه"
قوله أن ركن الإعتاق صدر من أهل الإعتاق في
محل مملوك للمعتق, فيصح كما لو أعتق في دار
الإسلام. "وجه" قولهما أن الإعتاق في دار
الحرب لا يفيد زوال الملك؛ لأن الملك في دار
الحرب بالقهر والغلبة حقيقة, فكل مقهور مملوك,
وكل قاهر مالك, هذا ديانتهم فإنهم لا يعرفون
سوى القدرة الحقيقية, حتى إن العبد منهم إذا
قهر مولاه يصير هو مالكا, ومولاه مملوكا, وهذا
لا يفيده الإعتاق في دار الحرب, فلا يوجب زوال
ملك المالك, هذا معنى قول مشايخنا لأبي حنيفة
رضي الله عنه معتق بلسانه مسترق بيده. وكذلك
لو اشترى قريبا لا يعتق عليه؛ لأنه لا يعتق
بصريح الإعتاق فكيف يعتق بالشراء وكذلك لو
دبره أو كاتبه في دار الحرب حتى لو دخل دار
الإسلام, ومعه مدبر أو مكاتب دبره أو كاتبه في
دار الحرب جاز بيعه؛ لأن التدبير إعتاق مضاف
إلى ما بعد الموت, والكتابة تعليق العتق بشرط
أداء بدل الكتابة, ثم لم ينفذ إعتاقه المنجز,
فكذا المعلق والمضاف, ولو استولد أمته في دار
الحرب صح استيلاده إياها, حتى لو خرج إلينا
بها إلى دار الإسلام لا يجوز بيعها؛ لأن
الاستيلاد اكتساب ثبات النسب للولد. والحربي
من أهل ذلك, ألا ترى أن أنساب أهل الحرب
ثابتة؟ وإذا ثبت النسب صارت أم ولد, فخرجت عن
محلية البيع؛ لكونها حرة من وجه قال عليه
الصلاة والسلام:
"أعتقها ولدها" ولو دخل
الحربي إلينا بأمان ففعل شيئا من ذلك نفذ كله؛
لأنه لما دخل بأمان فقد لزمه أحكام الإسلام ما
دام في دار الإسلام.
ومن أحكام الإسلام أن لا يملك المعتق أن يسترق
بيده ما أعتقه بلسانه, ولو دبر عبده في دار
الإسلام, ثم رجع إلى دار الحرب, وخلف المدبر,
أو خلف أم ولده التي استولدها في دار الإسلام,
أو في دار الحرب, ثم مات على كفره أو قتل أو
أسر يحكم بعتقهما أما إذا مات أو قتل فظاهر؛
لأن أم الولد والمدبر يعتقان بموت سيدهما,
والمقتول ميت بأجله, وإن رغم أنف المعتزلة
"وأما" إذا أسر فلأنه صار مملوكا فلم يبق
مالكا ضرورة. وأما مكاتبه الذي كاتبه في دار
الإسلام, ودخل هو إلى دار الحرب فهو مكاتب على
حاله, وبدل الكتابة عليه لورثته إذا مات,
وكذلك الرهون والودائع والديون التي له على
الناس. وما كان للناس عليه فهي كلها على حالها
إذا مات؛ لأنه دخل دار الإسلام بأمان ومعه هذه
الأموال, فكان حكم الأمان فيها باقيا, وكذلك
لو ظهر على الدار فظهر الحربي أو قتل ولم يظهر
على الدار, فملكه على حاله يعود فيأخذ, أو
يجيء ورثته فيأخذونه له أما إذا هرب ولم يقتل
ولم يؤسر فظاهر. وأما إذا قتل ولم يظهر, فلأن
ماله صار ميراثا لورثته, فيجيئون فيأخذونه,
والمكاتب على حاله يؤدي إلى ورثته فيعتق, فأما
إذا ظهر وأسر, أو أسر ولم يظهر, أو ظهر وقتل
يعتق مكاتبه أما إذا ظهر وأسر, أو أسر ولم
يظهر فظاهر؛ لأنه ملك بالأسر وكذا إذا ظهر
وقتل؛ لأن القتل بعد الظهور قتل بعد الأسر,
ويبطل ما كان له من الدين؛ لما ذكرنا أنه
بالأسر صار مملوكا فلم يبق مالكا,
ج / 7 ص -134-
فسقطت
ديونه ضرورة. ولا يصير مالكا للأسر؛ لأن الدين
في الذمة, وما في الذمة لا يعمل عليه الأسر,
وكذلك ما عليه من الديون يسقط أيضا؛ لأنه لو
بقي لتعلق برقبته فلا يخلص السبي للسابي وأما
ودائعه فهي في جماعة المسلمين. وروي عن أبي
يوسف رحمه الله أنها تكون فيئا للمودع.
"ووجهه" أن يده عن يد الغانمين أسبق, والمباح
مباح لمن سبق على لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم وجه ظاهر الرواية أن يد المودع يده
تقديرا, فكان الاستيلاء عليه بالأسر استيلاء
على ما في يده تقديرا, ولا يختص به الغانمون؛
لأنه مال لم يؤخذ على سبيل القهر والغلبة
حقيقة, فكان فيئا حقيقة لا غنيمة, فيوضع موضع
الفيء وأما الرهن فعند أبي يوسف يكون للمرتهن
بدينه, والزيادة له وعند محمد رحمه الله يباع
فيستوفي قدر دينه, والزيادة في جماعة المسلمين
والله تعالى أعلم.
"فصل". وأما بيان أحكام المرتدين فالكلام فيه في مواضع, في بيان ركن
الردة, وفي بيان شرائط صحة الركن, وفي بيان
حكم الردة أما ركنها, فهو إجراء كلمة الكفر
على اللسان بعد وجود الإيمان, إذ الردة عبارة
عن الرجوع عن الإيمان, فالرجوع عن الإيمان
يسمى ردة في عرف الشرع. وأما شرائط صحتها
فأنواع, منها العقل, فلا تصح ردة المجنون
والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شرائط
الأهلية خصوصا في الاعتقادات, ولو كان الرجل
ممن يجن ويفيق فإن ارتد في حال جنونه لم يصح,
وإن ارتد في حال إفاقته صحت؛ لوجود دليل
الرجوع في إحدى الحالتين دون الأخرى, وكذلك
السكران الذاهب العقل لا تصح ردته استحسانا,
والقياس أن تصح في حق الأحكام. "وجه" القياس
أن الأحكام مبنية على الإقرار بظاهر اللسان لا
على ما في القلب, إذ هو أمر باطن لا يوقف
عليه. "وجه" الاستحسان أن أحكام الكفر مبنية
على الكفر, كما أن أحكام الإيمان مبنية على
الإيمان, والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق
والتكذيب, وإنما الإقرار دليل عليهما, وإقرار
السكران الذاهب العقل لا يصلح دلالة على
التكذيب, فلا يصح إقراره. وأما البلوغ فهل هو
شرط اختلف فيه؟ قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله
عنهما: ليس بشرط فتصح ردة الصبي العاقل, وقال
أبو يوسف رحمه الله: شرط حتى لا تصح ردته.
"وجه" قوله أن عقل الصبي في التصرفات الضارة
المحضة ملحق بالعدم؛ ولهذا لم يصح طلاقه
وإعتاقه وتبرعاته, والردة مضرة محضة فأما
الإيمان فيقع محضا؛ لذلك صح إيمانه ولم تصح
ردته. "وجه" قولهما أنه صح إيمانه فتصح ردته,
وهذا لأن صحة الإيمان والردة مبنية على وجود
الإيمان والردة حقيقة؛ لأن الإيمان والكفر من
الأفعال الحقيقية, وهما أفعال خارجة القلب
بمنزلة أفعال سائر الجوارح, والإقرار الصادر
عن عقل دليل وجودهما, وقد وجد هاهنا إلا أنهما
مع وجودهما منه حقيقة لا يقتل, ولكن يحبس لما
نذكر إن شاء الله تعالى والقتل ليس من لوازم
الردة عندنا فإن المرتدة لا تقتل بلا خلاف بين
أصحابنا, والردة موجودة وأما الذكورة فليست
بشرط فتصح ردة المرأة عندنا؛ لكنها لا تقتل بل
تجبر على الإسلام, وعند الشافعي رحمه الله
تقتل؛ وستأتي المسألة في موضعها إن شاء الله
تعالى ومنها الطوع, فلا تصح ردة المكره على
الردة استحسانا إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان,
والقياس أن تصح في أحكام الدنيا وسنذكر وجه
القياس والاستحسان في كتاب الإكراه إن شاء
الله تعالى. وأما حكم الردة فنقول وبالله
تعالى التوفيق: إن للردة أحكاما كثيرة بعضها
يرجع إلى نفس المرتد, وبعضها يرجع إلى ملكه,
وبعضها يرجع إلى تصرفاته, وبعضها يرجع إلى
ولده أما الذي يرجع إلى نفسه فأنواع: منها
إباحة دمه إذا كان رجلا, حرا كان أو عبدا؛
لسقوط عصمته بالردة قال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه". وكذا العرب لما ارتدت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم, ومنها
أنه يستحب أن يستتاب ويعرض عليه الإسلام
لاحتمال أن يسلم, لكن لا يجب؛ لأن الدعوة قد
بلغته فإن أسلم فمرحبا وأهلا بالإسلام, وإن
أبى نظر الإمام في ذلك فإن طمع في توبته, أو
سأل هو التأجيل, أجله ثلاثة أيام وإن لم يطمع
في توبته ولم يسأل هو التأجيل, قتله من ساعته.
والأصل فيه ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه
أنه قدم عليه رجل من جيش المسلمين, فقال: هل
عندك من مغرية خبر؟ قال: نعم, رجل كفر بالله
تعالى بعد إسلامه فقال سيدنا عمر رضي الله
عنه: ماذا
ج / 7 ص -135-
فعلتم
به قال: قربناه فضربنا عنقه فقال سيدنا عمر
رضي الله عنه: هلا طينتم عليه بيتا ثلاثا,
وأطعمتموه كل يوم رغيفا, واستتبتموه لعله يتوب
ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى اللهم إني لم
أحضر, ولم آمر, ولم أرض إذ بلغني. وهكذا روي
عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال: يستتاب
المرتد ثلاثا, وتلا هذه الآية
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} ولأن من الجائز أنه عرضت له شبهة حملته على الردة, فيؤجل ثلاثا
لعلها تنكشف في هذه المدة, فكانت الاستتابة
ثلاثا وسيلة إلى الإسلام عسى فندب إليها فإن
قتله إنسان قبل الاستتابة يكره له ذلك, ولا
شيء عليه لزوال عصمته بالردة, وتوبته أن يأتي
بالشهادتين, ويبرأ عن الدين الذي انتقل إليه,
فإن تاب ثم ارتد ثانيا فحكمه في المرة الثانية
كحكمه في المرة الأولى أنه إن تاب في المرة
الثانية قبلت توبته, وكذا في المرة الثالثة
والرابعة؛ لوجود الإيمان ظاهرا في كل كرة؛
لوجود ركنه, وهو إقرار العاقل وقال الله تبارك
وتعالى
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا} فقد
أثبت سبحانه وتعالى الإيمان بعد وجود الردة
منه, والإيمان بعد وجود الردة لا يحتمل الرد,
إلا أنه إذا تاب في المرة الرابعة يضربه
الإمام ويخلي سبيله وروي عن أبي حنيفة رضي
الله عنه أنه إذا تاب في المرة الثالثة حبسه
الإمام ولم يخرجه من السجن حتى يرى عليه أثر
خشوع التوبة والإخلاص وأما المرأة فلا يباح
دمها إذا ارتدت, ولا تقتل عندنا, ولكنها تجبر
على الإسلام, وإجبارها على الإسلام أن تحبس
وتخرج في كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الإسلام,
فإن أسلمت وإلا حبست ثانيا, هكذا إلى أن تسلم
أو تموت وذكر الكرخي رحمه الله وزاد عليه تضرب
أسواطا في كل مرة تعزيرا لها على ما فعلت وعند
الشافعي رحمه الله تقتل لعموم قوله عليه
الصلاة والسلام
"من بدل دينه فاقتلوه" ولأن علة إباحة الدم هو الكفر بعد الإيمان, ولهذا قتل الرجل وقد
وجد منها ذلك, بخلاف الحربية وهذا لأن الكفر
بعد الإيمان أغلظ من الكفر الأصلي؛ لأن هذا
رجوع بعد القبول والوقوف على محاسن الإسلام
وحججه, وذلك امتناع من القبول بعد التمكن من
الوقوف دون حقيقة الوقوف, فلا يستقيم
الاستدلال. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال
"لا تقتلوا امرأة ولا وليدا" ولأن القتل إنما شرع وسيلة إلى الإسلام بالدعوة إليه بأعلى
الطريقين عند وقوع اليأس عن إجابتها بأدناهما,
وهو دعوة اللسان بالاستتابة, بإظهار محاسن
الإسلام والنساء أتباع الرجال في إجابة هذه
الدعوة في العادة, فإنهن في العادات الجارية
يسلمن بإسلام أزواجهن على ما روي أن رجلا أسلم
وكانت تحته خمس نسوة فأسلمن معه, وإذا كان
كذلك فلا يقع شرع القتل في حقها وسيلة إلى
الإسلام, فلا يفيد ولهذا لم تقتل الحربية
بخلاف الرجل فإن الرجل لا يتبع رأي غيره,
خصوصا في أمر الدين بل يتبع رأي نفسه, فكان
رجاء الإسلام منه ثابتا, فكان شرع القتل
مفيدا, فهو الفرق والحديث محمول على الذكور
عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض, وكذلك
الأمة إذا ارتدت لا تقتل عندنا, وتجبر على
الإسلام, ولكن يجبرها مولاها إن احتاج إلى
خدمتها, ويحبسها في بيته؛ لأن ملك المولى فيها
بعد الردة قائم, وهي مجبورة على الإسلام شرعا
فكان الرفع إلى المولى رعاية للحقين, ولا
يطؤها؛ لأن المرتدة لا تحل لأحد, وكذلك الصبي
العاقل لا يقتل, وإن صحت ردته عند أبي حنيفة
ومحمد رضي الله عنهما؛ لأن قتل البالغ بعد
الاستتابة والدعوة إلى الإسلام باللسان وإظهار
حججه وإيضاح دلائله لظهور العناد ووقوع اليأس
عن فلاحه, وهذا لا يتحقق من الصبي فكان
الإسلام منه مرجوا والرجوع إلى الدين منه
مأمولا, فلا يقتل ولكن يجبر على الإسلام
بالحبس؛ لأن الحبس يكفيه وسيلة إلى الإسلام,
وعلى هذا: صبي أبواه مسلمان حتى حكم بإسلامه
تبعا لأبويه, فبلغ كافرا ولم يسمع منه إقرار
باللسان بعد البلوغ لا يقتل؛ لانعدام الردة
منه إذ هي اسم للتكذيب بعد سابقة التصديق, ولم
يوجد منه التصديق بعد البلوغ أصلا لانعدام
دليله وهو الإقرار, حتى لو أقر بالإسلام ثم
ارتد يقتل لوجود الردة منه بوجود دليلها وهو
الإقرار, فلم يكن الموجود منه ردة حقيقة فلا
يقتل, ولكنه يحبس؛ لأنه كان له حكم الإسلام
قبل البلوغ ألا ترى أنه حكم بإسلامه بطريق
التبعية؟ والحكم في إكسابه كالحكم في إكساب
المرتد؛ لأنه مرتد حكما وسنذكر الكلام في
إكساب المرتد في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومنها حرمة الاسترقاق
ج / 7 ص -136-
فإن
المرتد لا يسترق, وإن لحق بدار الحرب؛ لأنه لم
يشرع فيه إلا الإسلام أو السيف؛ لقوله سبحانه
وتعالى
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وكذا الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا عليه في زمن سيدنا أبي بكر رضي
الله عنه ولأن استرقاق الكافر للتوسل إلى
الإسلام, واسترقاقه لا يقع وسيلة إلى الإسلام
على ما مر من قبل ولهذا لم يجز إبقاؤه على
الحرية, بخلاف المرتدة إذا لحقت بدار الحرب,
إنها تسترق؛ لأنه لم يشرع قتلها, ولا يجوز
إبقاء الكافر على الكفر إلا مع الجزية أو مع
الرق, ولا جزية على النسوان, فكان إبقاؤها على
الكفر مع الرق أنفع للمسلمين من إبقائها من
غير شيء وكذا الصحابة رضي الله عنهم استرقوا
نساء من ارتد من العرب وصبيانهم حتى قيل: إن
أم محمد ابن الحنفية, وهي خولة بنت إياس كانت
من سبي بني حنيفة, ومنها حرمة أخذ الجزية, فلا
تؤخذ الجزية من المرتد لما ذكرنا, ومنها أن
العاقلة لا تعقل جنايته لما ذكرنا من قبل أن
موجب الجناية على الجاني, وإنما العاقلة تتحمل
عنه بطريق التعاون. والمرتد لا يعاون, ومنها
الفرقة إذا ارتد أحد الزوجين, ثم إن كانت
الردة من المرأة كانت فرقة بغير طلاق
بالاتفاق, وإن كانت من الرجل ففيه خلاف مذكور
في كتاب النكاح, ولا ترتفع هذه الفرقة
بالإسلام ولو ارتد الزوجان معا, أو أسلما معا,
فهما على نكاحهما عندنا وعند زفر رحمه الله
فسد النكاح. ولو أسلم أحدهما قبل الآخر فسد
النكاح بالإجماع, وهي من مسائل كتاب النكاح
ومنها أنه لا يجوز إنكاحه؛ لأنه لا ولاية له,
ومنها حرمة ذبيحته؛ لأنه لا ملة له لما ذكرنا,
ومنها أنه لا يرث من أحد لانعدام الملة
والولاية, ومنها أنه تحبط أعماله لكن بنفس
الردة عندنا, وعند الشافعي رحمه الله بشريطة
الموت عليها, وهي مسألة كتاب الصلاة ومنها أنه
لا يجب عليه شيء من العبادات عندنا؛ لأن
الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا,
وعند الشافعي رحمه الله يجب عليه وهي من مسائل
أصول الفقه. وأما الذي يرجع إلى ماله فثلاثة
أنواع حكم الملك وحكم الميراث, وحكم الدين أما
الأول فنقول: لا خلاف في أنه إذا أسلم تكون
أمواله على حكم ملكه ولا خلاف أيضا في أنه إذا
مات أو قتل أو لحق بدار الحرب تزول أمواله عن
ملكه واختلف في أنه تزول بهذه الأسباب مقصورا
على الحال, أم بالردة من حين وجودها على
التوقف, فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ملك
المرتد لا يزول عن ماله بالردة, وإنما يزول
بالموت أو القتل أو باللحاق بدار الحرب. وعند
أبي حنيفة رضي الله عنه الملك في أمواله موقوف
على ما يظهر من حاله وعلى هذا الأصل بني حكم
تصرفات المرتد أنها جائزة عندهما كما تجوز من
المسلم, حتى لو أعتق أو دبر أو كاتب أو باع أو
اشترى أو وهب نفذ ذلك كله, وعقدة تصرفاته
موقوفة لوقوف أملاكه, فإن أسلم جاز كله, وإن
مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطل كله. "وجه"
قولهما أن الملك كان ثابتا له حالة الإسلام
لوجود سبب الملك وأهليته وهي الحرية والردة لا
تؤثر في شيء من ذلك ثم اختلفا فيما بينهما في
كيفية الجواز, فقال أبو يوسف رحمه الله:
جوازها جواز تصرف الصحيح وقال محمد رحمه الله:
جواز تصرفات المريض مرض الموت. "وجه" قول محمد
رحمه الله أن المرتد على شرف التلف؛ لأنه
يقتل, فأشبه المريض مرض الموت وجه قول أبي
يوسف أن اختيار الإسلام بيده, فيمكنه الرجوع
إلى الإسلام فيخلص عن القتل, والمريض لا يمكنه
دفع المرض عن نفسه, فأنى يتشابهان. "وجه" قول
أبي حنيفة رحمه الله أنه وجد سبب زوال الملك
وهو الردة؛ لأنها سبب لوجوب القتل. والقتل سبب
لحصول الموت, فكان زوال الملك عند الموت مضافا
إلى السبب السابق, وهو الردة, ولا يمكنه
اللحاق بدار الحرب بأمواله؛ لأنه لا يمكن من
ذلك بل يقتل, فيبقى ماله فاضلا عن حاجته, فكان
ينبغي أن يحكم بزوال ملكه للحال, إلا أنا
توقفنا فيه لاحتمال العود إلى الإسلام؛ لأنه
إذا عاد ترتفع الردة من الأصل, ويجعل كأن لم
يكن, فكان التوقف في الزوال للحال لاشتباه
العاقبة, فإن أسلم تبين أن الردة لم تكن سببا
لزوال الملك لارتفاعها من الأصل, فتبين أن
تصرفه صادف محله فيصح, وإن قتل أو مات أو لحق
بدار الحرب تبين أنها وقعت سببا للزوال من حين
وجودها, فتبين أن الملك كان زائلا من حين وجود
الردة؛ لأن الحكم لا يتخلف عن سببه, فلم يصادف
التصرف محله فبطل. فأما قبل ذلك كان ملكه
موقوفا فكانت تصرفاته المبنية عليه موقوفة
ضرورة وأجمعوا على أنه يصح استيلاده حتى إنه
لو استولد أمته فادعى ولدها, إنه يثبت
ج / 7 ص -137-
النسب,
وتصير الجارية أم ولد له أما عندهما فلأن
المحل مملوك له ملكا تاما. "وأما" عند أبي
حنيفة رحمه الله فلأن الملك الموقوف لا يكون
أدنى حالا من حق الملك, ثم حق الملك يكفي لصحة
الاستيلاد, فهذا أولى, وأجمعوا على أنه يصح
طلاقه, وتسليمه الشفعة؛ لأن الردة لا تؤثر في
ملك النكاح, والثابت للشفيع حق لا يحتمل
الإرث, ومعاوضته موقوفة بالإجماع؛ لأنها مبنية
على المساواة.
"وأما" المرتدة فلا يزول ملكها عن أموالها بلا
خلاف, فتجوز تصرفاتها في مالها بالإجماع؛
لأنها لا تقتل, فلم تكن ردتها سببا لزوال
ملكها عن أموالها بلا خلاف, فتجوز تصرفاتها,
وإذا عرف حكم ملك المرتد وحال تصرفاته المبنية
عليه, فحال المرتد لا يخلو من أن يسلم, أو
يموت, أو يقتل, أو يلحق بدار الحرب فإن أسلم
فقد عاد على حكم ملكه القديم؛ لأن الردة
ارتفعت من الأصل حكما, وجعلت كأن لم تكن أصلا,
وإن مات أو قتل صار ماله لورثته, وعتق أمهات
أولاده ومدبروه ومكاتبوه إذا أدى إلى ورثته,
وتحل الديون التي عليه وتقضى عنه؛ لأن هذه
أحكام الموت, وكذلك إذا لحق بدار الحرب مرتدا,
وقضى القاضي بلحاقه؛ لأن اللحاق بدار الحرب
بمنزلة الموت في حق زوال ملكه عن أمواله
المتروكة في دار الإسلام؛ لأن زوال الملك عن
المال بالموت حقيقة لكونه مالا فاضلا عن حاجته
لانتهاء حاجته بالموت وعجزه عن الانتفاع به.
وقد وجد هذا المعنى في اللحاق؛ لأن المال الذي
في دار الإسلام خرج من أن يكون منتفعا به في
حقه, لعجزه عن الانتفاع به, فكان في حكم المال
الفاضل عن حاجته لعجزه عن قضاء حاجته به, فكان
اللحاق بمنزلة الموت في كونه مزيلا للملك,
فإذا قضى القاضي باللحاق, يحكم بعتق أمهات
أولاده ومدبريه, ويقسم ماله بين ورثته, وتحل
ديونه المؤجلة؛ لأن هذه أحكام متعلقة بالموت,
وقد وجد معنى. وأما المكاتب فيؤدي إلى ورثته
فيعتق, وإذا عتق فولاؤه للمرتد؛ لأنه المعتق,
ولو لحق بدار الحرب ثم عاد إلى دار الإسلام
مسلما فهذا لا يخلو من أحد وجهين, أحدهما: أن
يعود قبل قضاء القاضي بلحاقه بدار الحرب,
والثاني: أن يعود بعد ذلك. فإن عاد قبل أن
يقضي القاضي بلحاقه عاد على حكم أملاكه في
المدبرين وأمهات الأولاد وغير ذلك؛ لما ذكرنا
أن هذه الأحكام متعلقة بالموت, واللحوق بدار
الحرب ليس بموت حقيقة لكنه يلحق بالموت إذا
اتصل به قضاء القاضي باللحاق, فإذا لم يتصل به
لم يلحق, فإذا عاد يعود على حكم ملكه, وإن عاد
بعد ما قضى القاضي باللحاق فما وجد من ماله في
يد ورثته بحاله فهو أحق به؛ لأن ولده جعل خلفا
له في ماله, فكان تصرفه في ماله بطريق الخلافة
له كأنه وكيله, فله أن يأخذ ما وجده قائما على
حاله. وما زال ملك الوارث عنه بالبيع, أو
بالعتق, فلا رجوع فيه لأن تصرف الخلف كتصرف
الأصل, بمنزلة تصرف الوكيل وأما ما أعتق
الحاكم من أمهات أولاده ومدبريه فلا سبيل
عليهم, لأن الإعتاق مما لا يحتمل الفسخ, وكذا
المكاتب إذا كان أدى المال إلى الورثة, لا
سبيل عليه أيضا؛ لأن المكاتب عتق بأداء المال,
والعتق لا يحتمل الفسخ, وما أدي إلى الورثة إن
كان قائما أخذ وإن زال ملكهم عنه لا يجب عليهم
ضمانه كسائر أمواله لما بينا, وإن كان لم يؤد
بدل الكتابة بعد, يؤخذ بدل الكتابة. وإن عجز
عاد رقيقا له ولو رجع كافرا إلى دار الإسلام,
وأخذ طائفة من ماله وأدخلها إلى دار الحرب ثم
ظهر المسلمون عليه, فإن رجع بعد ما قضي بلحاقه
فالورثة أحق به, وإن وجدته قبل القسمة أخذته
مجانا بلا عوض, وإن وجدته بعد القسمة أخذته
بالقيمة في ذوات القيم؛ لأنه إذا لحق وقضي
بلحاقه فقد زال ملكه إلى الورثة, فهذا مال
مسلم استولى عليه الكافر وأحرزه بدار الحرب,
ثم ظهر المسلمون على الدار فوجده المالك
القديم فالحكم فيه ما ذكرنا وإن رجع قبل الحكم
باللحاق, ففيه روايتان في رواية هذا, ورجوعه
بعد الحكم باللحاق سواء, وفي رواية أنه يكون
فيئا لا حق للورثة فيه أصلا والله سبحانه
وتعالى أعلم. ولو جنى المرتد جناية ثم لحق
بدار الحرب ثم عاد إلينا ثانيا, فما كان من
حقوق العباد كالقتل والغصب والقذف يؤخذ به,
وما كان من حقوق الله تبارك وتعالى كالزنا
والسرقة وشرب الخمر يسقط عنه؛ لأن اللحاق
يلتحق بالموت فيورث شبهة في سقوط ما يسقط
بالشبهات, ولو فعل شيئا من ذلك بعد اللحاق
بدار الحرب ثم مات لم يؤخذ بشيء منه؛ لأن فعله
لم ينعقد موجبا لصيرورته في حكم أهل الحرب,
هذا الذي ذكرنا حكم ماله الذي خلفه في دار
الإسلام وأما الذي لحق به في دار
ج / 7 ص -138-
الحرب
فهو ملكه حتى لو ظهر المسلمون عليه يكون فيئا؛
لأن ملك الورثة لم يثبت في المال المحمول إلى
دار الحرب فبقي على ملك المرتد, وهو غير معصوم
فكان محل التملك بالاستيلاء لسائر أموال أهل
الحرب. وأما حكم الميراث فنقول: لا خلاف بين
أصحابنا رضي الله عنهم في أن المال الذي
اكتسبه في حالة الإسلام يكون ميراثا لورثته
المسلمين إذا مات أو قتل أو لحق وقضي باللحاق
وقال الشافعي رحمه الله: هو فيء واحتج بما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لا يرث
الكافر المسلم ولا المسلم الكافر"
نفى أن يرث المسلم الكافر, ووارثه مسلم فيجب
أن لا يرثه. "ولنا" ما روي أن سيدنا عليا رضي
الله عنه قتل المستورد العجلي بالردة, وقسم
ماله بين ورثته المسلمين, وكان ذلك بمحضر من
الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر منكر
عليه, فيكون إجماعا من الصحابة رضي الله تعالى
عنهم ولأن الردة في كونها سببا لزوال الملك,
كالموت على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه على ما
قررناه. فإذا ارتد فهذا مسلم مات, فيرثه
المسلم فكان هذا إرث المسلم من المسلم لا من
الكافر, فقد قلنا بموجب الحديث بحمد الله
تعالى وأما على أصلهما فالردة إن كانت لا توجب
زوال الملك يمكن احتمال العود إلى الإسلام,
ألا ترى أنه يجبر على الإسلام فيبقى على حكم
الإسلام في حق حكم الإرث؟ وذلك جائز. ألا ترى
أنه بقي على حكم الإسلام في حق المنع من
التصرف في الخمر والخنزير؟ فجاز أن يبقى عليه
في حق حكم الإرث أيضا؟ فلا يكون إرث المسلم من
الكافر فيكون عملا بالحديث أيضا والله سبحانه
وتعالى أعلم واختلفوا في المال الذي اكتسبه في
حال الردة قال أبو حنيفة: رضي الله عنه هو فيء
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو ميراث.
"وجه" قولهما أن كسب الردة ملكه لوجود سبب
الملك من أهل الملك في محل قابل, ولا شك أن
المرتد أهل الملك؛ لأن أهلية الملك بالحرية,
والردة لا تنافيها بل تنافي ما ينافيها, وهو
الرق؛ إذ المرتد لا يحتمل الاسترقاق, وإذا ثبت
ملكه فيه, احتمل الانتقال إلى ورثته بالموت,
أو ما هو في معنى الموت على ما بينا. "وجه"
قول أبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن الردة
سبب لزوال الملك من حين وجودها بطريق الظهور
على ما بينا, ولا وجود للشيء مع وجود سبب
زواله فكان الكسب في الردة مالا لا مالك له,
فلا يحتمل الإرث فيوضع في بيت مال المسلمين
كاللقطة, ثم اختلفوا فيما يورث من مال المرتد
أنه يعتبر حال الوارث, وهي أهلية الوراثة وقت
الردة, أم وقت الموت, أم من وقت الردة إلى وقت
الموت, فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعتبر
أهلية الوراثة وقت الموت؛ لأن ملك المرتد إنما
يزول عندهما بالموت فتعتبر الأهلية في ذلك
الوقت لا غير وعن أبي حنيفة رضي الله عنه
روايتان في رواية, يعتبر وقت الردة لا غير,
حتى لو كان أهلا وقت الردة ورث, وإن زالت
أهليته بعد ذلك وفي رواية يعتبر دوام الأهلية
من وقت الردة إلى وقت الموت. "وجه" هذه
الرواية أن الإرث يثبت بطريق الاستناد لا
بطريق الظهور؛ لأن الموت أمر لا بد منه للإرث.
والقول بالإرث بطريق الظهور إيجاب الإرث قبل
الموت, ولا سبيل إليه فإذا وجد الموت يثبت
الإرث ثم يستند إلى وقت وجود الردة وزوال
الأهلية, فيما بين الوقتين يمنع من الاستناد,
فيشترط دوام الأهلية من وقت الردة إلى وقت
الموت, حتى لو كان بعض الورثة مسلما وقت
الردة, ثم ارتد عن الإسلام قبل موت المرتد, لا
يورث وكذا إذا مات قبل موته, أو المرأة انقضت
عدتها قبل موته. "وجه" الرواية الأولى أن
الإرث يتبع زوال الملك, والملك زال بالردة من
وقت وجودها, فيثبت الإرث في ذلك الوقت بطريق
الظهور قوله هذا إيجاب الإرث قبل الموت قلنا:
هذا ممنوع بل هذا إيجاب الإرث بعد الموت؛ لأن
الردة في معنى الموت؛ لأنها تعمل عمل الموت في
زوال الملك على ما بينا, فكانت الردة موتا
معنى, وكذا اختلف أبو يوسف, ومحمد رحمهما الله
فيما إذا لحق بدار الحرب وقضى القاضي باللحاق,
إنه تعتبر أهلية الوراثة وقت القضاء باللحاق
أم وقت اللحاق؟ فعند أبي يوسف رحمه الله وقت
القضاء, وعند محمد رحمه الله تعتبر وقت
اللحاق. "وجه" قول محمد أن وقت الإرث وقت زوال
الملك, وملك المرتد إنما يزول باللحاق؛ لأن به
يعجز عن الانتفاع بماله المتروك في دار
الإسلام, إلا أن العجز قبل القضاء غير متقرر
لاحتمال العود, فإذا قضي تقرر العجز وصار
العود بعده كالممتنع عادة, فكان العامل في
زوال الملك هو اللحاق فتعتبر الأهلية وقتئذ.
"وجه" قول
ج / 7 ص -139-
أبي
يوسف أن الملك لا يزول إلا بالقضاء, فكان
المؤثر في الزوال هو القضاء, وعلى هذا
الاختلاف المرتدة إذا لحقت بدار الحرب؛ لأن
المعنى لا يوجب الفصل, ولو ارتد الزوجان معا
ثم جاءت بولد ثم قتل الأب على ردته فإن جاءت
به لأقل من ستة أشهر من حين الردة يرثه؛ لأنه
علم أن العلوق حصل في حالة الإسلام قطعا, وإن
جاءت به لستة أشهر فصاعدا من حين الردة لم
يرثه؛ لأنه يحتمل أنه علق في حالة الردة, فلا
يرث مع الشك, ولو ارتد الزوج دون المرأة, أو
كانت له أم ولد مسلمة ورثه مع ورثته المسلمين,
وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر؛ لأن الأم
مسلمة, فكان الولد على حكم الإسلام تبعا لأمه
فيرث أباه, ولو مات مسلم عن امرأته وهي حامل
فارتدت ولحقت بدار الحرب, فولدت هناك ثم ظهرنا
على الدار, فإنه لا يسترق ويرث أباه؛ لأنه
مسلم تبعا لأبيه, ولو لم تكن ولدته حتى سبيت
ثم ولدته في دار الإسلام, فهو مسلم مرقوق مسلم
تبعا لأبيه, مرقوق تبعا لأمه, ولا يرث أباه؛
لأن الرق من أسباب الحرمان, ولو تزوج المرتد
مسلمة فولدت له غلاما, أو وطئ أمة مسلمة فولدت
له فهو مسلم تبعا للأم ويرث أباه لثبوت النسب,
وإن كانت الأم كافرة لا يحكم بإسلامه؛ لأنه لم
يوجد إسلام أحد الأبوين والله سبحانه وتعالى
أعلم. وأما حكم الدين فعند أبي يوسف, ومحمد:
ديون المرتد في كسب الإسلام, والردة جميعا؛
لأن كل ذلك عندهما ميراث وأما عند أبي حنيفة
عليه الرحمة فقد ذكر أبو يوسف عنه أنه في كسب
الردة, إلا أن لا يفي به فيقضي الباقي من كسب
الإسلام وروى الحسن رحمه الله عنه أنه في كسب
الإسلام إلا أن لا يفي به فيقضي الباقي من كسب
الردة وقال الحسن رحمه الله: دين الإسلام في
كسب الإسلام, ودين الردة في كسب الردة وهو قول
زفر رحمه الله والصحيح رواية الحسن؛ لأن دين
الإنسان يقضى من ماله لا من مال غيره, وكذا
دين الميت يقضى من ماله لا من مال وارثه؛ لأن
قيام الدين يمنع زوال ملكه إلى وارثه بقدر
الدين؛ لكون الدين مقدما على الإرث, فكان قضاء
دين كل ميت من ماله لا من مال وارثه وماله كسب
الإسلام, فأما كسب الردة فمال جماعة المسلمين,
فلا يقضى منه الدين إلا لضرورة, فإذا لم يف به
كسب الإسلام مست الضرورة فيقضي الباقي منه
والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل". وأما حكم ولد المرتد فولد المرتد لا يخلو من أن يكون مولودا في
الإسلام, أو في الردة, فإن كان مولودا في
الإسلام, بأن ولد للزوجين ولد وهما مسلمان, ثم
ارتدا لا يحكم بردته ما دام في دار الإسلام؛
لأنه لما ولد وأبواه مسلمان فقد حكم بإسلامه
تبعا لأبويه, فلا يزول بردتهما لتحول التبعية
إلى الدار, إذ الدار وإن كانت لا تصلح لإثبات
التبعية ابتداء عند استتباع الأبوين, تصلح
للإبقاء؛ لأنه أسهل من الابتداء, فما دام في
دار الإسلام يبقى على حكم الإسلام, تبعا
للدار, ولو لحق المرتدان بهذا الولد بدار
الحرب فكبر الولد, وولد له ولد وكبر, ثم ظهر
عليهم أما حكم المرتد والمرتدة فمعلوم, وقد
ذكرنا أن المرتد لا يسترق ويقتل, والمرتدة
تسترق ولا تقتل وتجبر على الإسلام بالحبس وأما
حكم الأولاد فولد الأب يجبر على الإسلام, ولا
يقتل؛ لأنه كان مسلما بإسلام أبويه تبعا لهما,
فلما بلغ كافرا فقد ارتد عنه, والمرتد يجبر
على الإسلام, إلا أنه لا يقتل؛ لأن هذه ردة
حكمية لا حقيقية لوجود الإيمان حكما بطريق
التبعية لا حقيقة, فيجبر على الإسلام لكن
بالحبس لا بالسيف إثباتا للحكم على قدر العلة,
ولا يجبر ولد ولده على الإسلام؛ لأن ولد الولد
لا يتبع الجد في الإسلام, إذ لو كان كذلك لكان
الكفار كلهم مرتدين لكونهم من أولاد آدم ونوح
عليهما الصلاة والسلام فينبغي أن تجري عليهم
أحكام أهل الردة, وليس كذلك بالإجماع, وإن كان
مولودا في الردة بأن ارتد الزوجان ولا ولد
لهما, ثم حملت المرأة من زوجها بعد ردتها,
وهما مرتدان على حالهما, فهذا الولد بمنزلة
أبويه له حكم الردة, حتى لو مات لا يصلى عليه؛
لأن المرتد لا يرث أحدا, ولو لحقا بهذا الولد
بدار الحرب فبلغ, وولد له أولاد فبلغوا, ثم
ظهر على الدار وسبوا جميعا, يجبر ولد الأب
وولد ولده على الإسلام, ولا يقتلون كذا ذكر
محمد في كتاب السير وذكر في الجامع الصغير أنه
لا يجبر ولد ولده على الإسلام. "وجه" ما ذكر
في السير أن ولد الأب تبع لأبويه, فكان محكوما
بردته تبعا لأبويه, وولد الولد تبع له فكان
محكوما بردته تبعا له, والمرتد يجبر على
الإسلام, إلا أنه لا يقتل؛ لأن هذه ردة حكمية
فيجبر على الإسلام بالحبس لا بالقتل
ج / 7 ص -140-
"وجه" المذكور في الجامع أن هذا الولد إنما
صار محكوما بردته تبعا لأبيه, والتبع لا
يستتبع غيره. وأما حكم الاسترقاق فذكر في
السير أنه يسترق الإناث والذكور الصغار من
أولاده؛ لأن أمهم مرتدة وهي تحتمل الاسترقاق,
والولد كما تبع الأم في الرق يتبعها في احتمال
الاسترقاق. وأما الكبار فلا يسترقون لانقطاع
التبعية بالبلوغ, ويجبرون على الإسلام وذكر في
الجامع الصغير: الولدان فيء أما الأول فلأن
أمه مرتدة. وأما الآخر فلأنه كافر أصلي؛ لأن
تبعية الأبوين في الردة قد انقطعت بالبلوغ,
وهو كافر, فكان كافرا أصليا, فاحتمل الاسترقاق
ولو ارتدت امرأة وهي حامل ولحقت بدار الحرب,
ثم سبيت وهي حامل كان ولدها فيئا؛ لأن السبي
لحقه وهو في حكم جزء الأم, فلا يبطل بالانفصال
من الأم والذمي الذي نقض العهد ولحق بدار
الحرب بمنزلة المرتد في سائر الأحكام من الإرث
والحكم بعتق أمهات الأولاد والمدبرين ونحو
ذلك؛ لأن المعنى الذي يوجب لحاقه, اللحاق
بالموت في الأحكام التي ذكرنا لا يفصل, إلا
أنهما يفترقان من وجه: وهو أن الذمي يسترق
والمرتد لا يسترق وجه الفرق أن شرع الاسترقاق
للتوسل إلى الإسلام, واسترقاق المرتد لا يقع
وسيلة إلى الإسلام لما ذكرنا أنه رجع بعد ما
ذاق طعم الإسلام, وعرف محاسنه فلا يرجى فلاحه,
بخلاف الذمي والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل". وأما بيان أحكام البغاة فالكلام فيه في مواضع: في تفسير البغاة,
وفي بيان ما يلزم إمام أهل العدل عند خروجهم
عليه, وفي بيان ما يصنع بهم وبأموالهم عند
الظفر بهم والاستيلاء على أموالهم, وفي بيان
من يجوز قتله منهم, ومن لا يجوز, وفي بيان حكم
إصابة الدماء والأموال من الطائفتين, وفي بيان
ما يصنع بقتلى الطائفتين, وفي بيان حكم
قضاياهم أما تفسير البغاة, فالبغاة هم
الخوارج, وهم قوم من رأيهم أن كل ذنب كفر,
كبيرة كانت أو صغيرة, يخرجون على إمام أهل
العدل, ويستحلون القتال والدماء والأموال بهذا
التأويل, ولهم منعة وقوة. وأما بيان ما يلزم
إمام العدل عند خروجهم فنقول وبالله التوفيق:
إن علم الإمام أن الخوارج يشهرون السلاح
ويتأهبون للقتال, فينبغي له أن يأخذهم ويحبسهم
حتى يقلعوا عن ذلك, ويحدثوا توبة؛ لأنه لو
تركهم لسعوا في الأرض بالفساد, فيأخذهم على
أيديهم ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يبدءوه؛
لأن قتالهم لدفع شرهم لا لشر شركهم لأنهم
مسلمون, فما لم يتوجه الشر منهم لا يقاتلهم,
وإن لم يعلم الإمام بذلك حتى تعسكروا وتأهبوا
للقتال فينبغي له أن يدعوهم إلى العدل,
والرجوع إلى رأي الجماعة أولا لرجاء الإجابة
وقبول الدعوة, كما في حق أهل الحرب. وكذا روي
أن سيدنا عليا رضي الله عنه لما خرج عليه أهل
حروراء ندب إليهم عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما ليدعوهم إلى العدل, فدعاهم وناظر هم,
فإن أجابوا كف عنهم وإن أبوا قاتلهم؛ لقوله
تعالى
{فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وكذا قاتل سيدنا علي رضي الله عنه أهل حروراء بالنهروان بحضرة
الصحابة رضي الله عنهم تصديقا لقوله عليه
الصلاة والسلام لسيدنا علي
"إنك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل" والقتال على التأويل هو القتال مع الخوارج, ودل الحديث على إمامة
سيدنا علي رضي الله عنه؛ لأن النبي عليه
الصلاة والسلام شبه قتال سيدنا علي رضي الله
عنه على التأويل بقتاله على التنزيل, وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتاله
بالتنزيل, فلزم أن يكون سيدنا علي محقا في
قتاله بالتأويل, فلو لم يكن إمام حق لما كان
محقا في قتاله إياهم, ولأنهم ساعون في الأرض
بالفساد فيقتلون دفعا للفساد على وجه الأرض.
وإن قاتلهم قبل الدعوة لا بأس بذلك؛ لأن
الدعوة قد بلغتهم لكونهم في دار الإسلام, ومن
المسلمين أيضا ويجب على كل من دعاه الإمام إلى
قتالهم أن يجيبه إلى ذلك ولا يسعه التخلف إذا
كان عنده غنى وقدرة؛ لأن طاعة الإمام فيما ليس
بمعصية فرض, فكيف فيما هو طاعة؟ والله سبحانه
وتعالى الموفق وما روي عن أبي حنيفة رضي الله
عنه أنه إذا وقعت الفتنة بين المسلمين فينبغي
للرجل أن يعتزل الفتنة, ويلزم بيته, محمول على
وقت خاص, وهو أن لا يكون إمام يدعوه إلى
القتال وأما إذا كان فدعاه يفترض عليه الإجابة
لما ذكرنا. وأما بيان ما يصنع بهم وبأموالهم
عند الظفر بهم والاستيلاء على أموالهم فنقول:
الإمام إذا قاتل أهل البغي فهزمهم وولوا
مدبرين, فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها,
فينبغي لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ويجهزوا
على
ج / 7 ص -141-
جريحهم
لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكروا
على أهل العدل وأما أسيرهم فإن شاء الإمام
قتله استئصالا لشأفتهم, وإن شاء حبسه لاندفاع
شره بالأسر والحبس, وإن لم يكن لهم فئة
يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم, ولم يجهز على
جريحهم ولم يقتل أسيرهم؛ لوقوع الأمن عن شرهم
عند انعدام الفئة. "وأما" أموالهم التي ظهر
أهل العدل عليها فلا بأس بأن يستعينوا بكراعهم
وسلاحهم على قتالهم كسرا لشوكتهم, فإذا
استغنوا عنها أمسكها الإمام لهم؛ لأن أموالهم
لا تحتمل التملك بالاستيلاء لكونهم مسلمين,
ولكن يحبسها عنهم إلى أن يزول بغيهم فإذا زال
ردها عليهم, وكذا ما سوى الكراع والسلاح من
الأمتعة لا ينتفع به, ولكن يمسك ويحبس عنهم
إلى أن يزول بغيهم فيدفع إليهم لما قلنا
ويقاتل أهل البغي بالمنجنيق والحرق والغرق
وغير ذلك مما يقاتل به أهل الحرب؛ لأن قتالهم
لدفع شرهم وكسر شوكتهم فيقاتلون بكل ما يحصل
به ذلك, وللإمام أن يوادعهم لينظروا في
أمورهم, ولكن لا يجوز أن يأخذوا على ذلك مالا
لما ذكرنا من قبل. "وأما" بيان من يجوز قتله
منهم, ومن لا يجوز فكل من لا يجوز قتله من أهل
الحرب من الصبيان والنسوان والأشياخ والعميان
لا يجوز قتله من أهل البغي؛ لأن قتلهم لدفع شر
قتالهم فيختص بأهل القتال وهؤلاء ليسوا من أهل
القتال, فلا يقتلون إلا إذا قاتلوا, فيباح
قتلهم في حال القتال وبعد الفراغ من القتال,
إلا الصبيان والمجانين على ما ذكرنا في حكم
أهل الحرب والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما"
العبد المأسور من أهل البغي فإن كان قاتل مع
مولاه يجوز قتله, وإن كان يخدم مولاه لا يجوز
قتله, ولكن يحبس حتى يزول بغيهم فيرد عليهم.
"وأما" الكراع فلا يمسك ولكنه يباع ويحبس ثمنه
لمالكه؛ لأن ذلك أنفع له, ولا يجوز للعادل أن
يبتدئ بقتل ذي رحم محرم منه من أهل البغي
مباشرة, وإذا أراد هو قتله, له أن يدفعه وإن
كان لا يندفع إلا بالقتل فيجوز له أن يتسبب
ليقتله غيره, بأن يعقر دابته ليترجل فيقتله
غيره بخلاف أهل الحرب فإنه يجوز قتل سائر ذوي
الرحم المحرم منه مباشرة وتسببا ابتداء إلا
الوالدين. "ووجه" الفرق أن الشرك في الأصل
مبيح لعموم قوله تبارك وتعالى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلا أنه خص منه الأبوان بنص خاص حيث قال الله تبارك وتعالى
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} فبقي غيرهما على عموم النص بخلاف أهل البغي؛ لأن الإسلام في الأصل
عاصم لقوله صلى الله عليه وسلم
"فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"
والباغي مسلم, إلا أنه أبيح قتل غير ذي الرحم
المحرم من أهل البغي دفعا لشرهم لا لشوكتهم,
ودفع الشر يحصل بالدفع والتسبيب ليقتله غيره,
فبقيت العصمة عما وراء ذلك بالدليل العاصم.
"وأما" بيان حكم إصابة الدماء والأموال من
الطائفتين فنقول: لا خلاف في أن العادل إذا
أصاب من أهل البغي من دم أو جراحة أو مال
استهلكه, إنه لا ضمان عليه "وأما" الباغي إذا
أصاب شيئا من ذلك من أهل العدل فقد اختلفوا
فيه, قال أصحابنا: إن ذلك موضوع وقال الشافعي
رحمه الله: إنه مضمون. "وجه" قوله أن الباغي
جان فيستوي في حقه وجود المنعة وعدمها؛ لأن
الجاني يستحق التغليظ دون التخفيف. "ولنا" ما
روي عن الزهري أنه قال: وقعت الفتنة وأصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون
فاتفقوا أن كل دم استحل بتأويل القرآن فهو
موضوع, وكل مال استحل بتأويل القرآن فهو
موضوع, وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع
ومثله لا يكذب فانعقد الإجماع من الصحابة رضي
الله عنهم على ما قلنا. وإنه حجة قاطعة,
والمعنى في المسألة ما نبه عليه الصحابة رضي
الله عنهم وهو أن لهم في الاستحلال تأويلا في
الجملة وإن كان فاسدا لكن لهم منعة, والتأويل
الفاسد عند قيام المنعة يكفي لرفع الضمان,
كتأويل أهل الحرب, ولأن الولاية من الجانبين
منقطعة لوجود المنعة, فلم يكن الوجوب مفيدا
لتعذر الاستيفاء فلم يجب, ولو فعلوا شيئا من
ذلك قبل الخروج وظهور المنعة أو بعد الانهزام
وتفرق الجمع يؤخذون به؛ لأن المنعة إذا انعدمت
الولاية وبقي مجرد تأويل فاسد, فلا يعتبر في
دفع الضمان, ولو قتل تاجر من أهل العدل تاجرا
آخر من أهل العدل في عسكر أهل البغي, أو قتل
الأسير من أهل العدل أسيرا آخر أو قطع, ثم ظهر
عليه فلا قصاص عليه؛ لأن الفعل لم يقع موجبا
لتعذر الاستيفاء وانعدام الولاية, كما لو قطع
في دار الحرب؛ لأن عسكر أهل البغي في حق
انقطاع الولاية
ج / 7 ص -142-
ودار
الحرب سواء والله عز وجل أعلم ثم لا خلاف في
أن العادل إذا قتل باغيا لا يحرم الميراث؛
لأنه لم يوجد قتل نفس بغير حق لسقوط عصمة نفسه
وأما الباغي إذا قتل العادل يحرم الميراث عند
أبي يوسف وعند أبي حنيفة ومحمد إن قال: قتلته,
وكنت على حق وأنا الآن على حق لا يحرم الميراث
وإن قال: قتلته وأنا أعلم أني على باطل يحرم.
"وجه" قول أبي يوسف أن تأويله فاسد, إلا أنه
ألحق بالصحيح عند وجود المنعة في حق الدفع لا
في حق الاستحقاق, فلا يعتبر في حق استحقاق
الميراث. "وجه" قولهما أنا نعتبر تأويله في حق
الدفع والاستحقاق؛ لأن سبب استحقاق الميراث هو
القرابة, وأنها موجودة, إلا أن قتل نفس بغير
حق سبب الحرمان فإذا قتله على تأويل
الاستحلال, والمنعة موجودة اعتبرناه في حق
الدفع وهو دفع الحرمان, فأشبه الضمان, إلا أنه
إذا قال: قتلته وأنا أعلم أني على باطل يحرم
الميراث؛ لأن التأويل الفاسد إنما يلحق
بالصحيح إذا كان مصرا عليه, فإذا لم يصر, فلا
تأويل له, فلا يندفع عنه الضمان والله سبحانه
وتعالى أعلم. "وأما" بيان ما يصنع بقتلى
الطائفتين فنقول وبالله تعالى التوفيق: "أما"
قتلى أهل العدل فيصنع بهم ما يصنع بسائر
الشهداء, لا يغسلون, ويدفنون في ثيابهم, ولا
ينزع عنهم إلا ما لا يصلح كفنا, ويصلى عليهم؛
لأنهم شهداء لكونهم مقتولين ظلما وقد روي أن
زيد بن صوحان اليمني كان يوم الجمل تحت راية
سيدنا علي رضي الله عنهما فأوصى في رمقه: لا
تنزعوا عني ثوبا, ولا تغسلوا عني دما,
وارمسوني في التراب رمسا, فإني رجل محاج أحاج
يوم القيامة "وأما" قتلى أهل البغي فلا يصلى
عليهم؛ لأنه روي أن سيدنا عليا رضي الله عنه
ما صلى على أهل حروراء, ولكنهم يغسلون ويكفنون
ويدفنون؛ لأن ذلك من سنة موتى بني سيدنا آدم
عليه الصلاة والسلام. ويكره أن تؤخذ رءوسهم,
وتبعث إلى الآفاق, وكذلك رءوس أهل الحرب؛ لأن
ذلك من باب المثلة, وإنه منهي لقوله عليه
الصلاة والسلام
"لا لا تمثلوا" فيكره إلا إذا كان في ذلك وهن لهم, فلا بأس به لما روي "أن عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه جز رأس أبي جهل
عليه اللعنة يوم بدر وجاء به إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "إن أبا جهل كان فرعون هذه الأمة" ولم ينكر عليه. ويكره بيع السلاح من أهل البغي وفي عساكرهم؛ لأنه
إعانة لهم على المعصية, ولا يكره بيع ما يتخذ
منه السلاح كالحديد ونحوه؛ لأنه لا يصير سلاحا
إلا بالعمل ونظيره أنه يكره بيع المزامير, ولا
يكره بيع ما يتخذ منه المزمار, وهو الخشب
والقصب, وكذا بيع الخمر باطل, ولا يبطل بيع ما
يتخذ منه, وهو العنب كذا هذا والله سبحانه
وتعالى أعلم. "وأما" بيان حكم قضاياهم, فنقول:
الخوارج إذا ولوا قاضيا فالأمر لا يخلو من أحد
وجهين: إما أن ولوا رجلا من أهل البغي, وإما
أن ولوا رجلا من أهل العدل فإن ولوا رجلا من
أهل البغي فقضى بقضايا ثم رفعت قضاياه إلى
قاضي أهل العدل لا ينفذها؛ لأنه لا يعلم كونها
حقا؛ لأنهم يستحلون دماءنا وأموالنا, فاحتمل
أنه قضى بما هو باطل على رأي الجماعة, فلا
يجوز له تنفيذه مع الاحتمال, ولو كتب قاضي أهل
البغي إلى قاضي أهل العدل بكتاب, فإن علم أنه
قضى بشهادة أهل العدل أنفذه؛ لأنه تنفيذ لحق
ظاهر, وإن كان لا يعلم لا ينفذه؛ لأنه لا يعلم
كونه حقا, فلا يجوز تنفيذه لقوله تبارك وتعالى
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وإن ولوا رجلا من أهل العدل فقضى فيما بينهم بقضايا, ثم رفعت
قضاياه إلى قاضي أهل العدل نفذها؛ لأن التولية
إياه قد صحت, ولأنه يقدر على تنفيذ القضايا
بمنعتهم وقوتهم, فصحت التولية, والظاهر أنه
قضى على رأي أهل العدل, فلا يملك إبطاله, كما
إذا رفعت قضايا قاضي أهل العدل إلى بعض قضاة
أهل العدل. وما أخذوا من البلاد التي ظهروا
عليها من الخراج والزكاة التي ولاية أخذها
للإمام لا يأخذه الإمام ثانيا؛ لأن حق الأخذ
للإمام لمكان حمايته, ولم توجد, إلا أنهم
يفتون بأن يعيدوا الزكاة استحسانا؛ لأن الظاهر
أنهم لا يصرفونها إلى مصارفها, فأما الخراج
فمصرفه المقاتلة, وهم يقاتلون أهل الحرب والله
تعالى أعلم. |