بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب القرض"
الكلام فيه يقع في مواضع: في بيان ركن القرض, وفي بيان شرائط الركن, وفي بيان حكم القرض. "أما" ركنه فهو الإيجاب, والقبول, والإيجاب قول المقرض: أقرضتك هذا الشيء, أو خذ هذا الشيء قرضا, ونحو ذلك, والقبول هو أن يقول المستقرض: استقرضت, أو قبلت, أو رضيت, أو ما يجري هذا المجرى, وهذا قول محمد رحمه الله, وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف وروي عن أبي يوسف أخرى: أن الركن فيه الإيجاب. "وأما" القبول فليس بركن, حتى لو حلف: لا يقرض فلانا, فأقرضه ولم يقبل؛ لم يحنث, عند محمد, وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف, وفي رواية أخرى يحنث. "وجه" هذه الرواية أن الإقراض إعارة؛ لما نذكر, والقبول ليس بركن في الإعارة. "وجه" قول محمد أن الواجب في ذمة المستقرض مثل المستقرض؛ فلهذا اختص جوازه بما له مثل, فأشبه البيع, فكان القبول ركنا فيه كما في البيع. وروي عن أبي يوسف فيمن حلف: لا يستقرض من فلان, فاستقرض منه, فلم يقرضه؛ أنه يحنث؛ لأن شرط الحنث هو الاستقراض, وهو طلب القرض كالاستيام في البيع, وهو طلب البيع, فإذا استقرض فقد طلب القرض, فوجد شرط الحنث؛ فيحنث, والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما الشرائط فأنواع, بعضها يرجع إلى المقرض, وبعضها يرجع إلى المقرض, وبعضها يرجع إلى نفس القرض. "أما" الذي يرجع إلى المقرض فهو أهليته للتبرع؛ فلا يملكه من لا يملك التبرع, من الأب, والوصي, والصبي, والعبد المأذون, والمكاتب؛ لأن القرض للمال تبرع ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال؛ فكان تبرعا للحال, فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع, وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع؛ فلا يملكون القرض. "وأما" الذي يرجع إلى المقرض: فمنها

 

ج / 7 ص -395-       القبض؛ لأن القرض هو القطع في اللغة, سمي هذا العقد قرضا لما فيه من قطع طائفة من ماله, وذلك بالتسليم إلى المستقرض؛ فكان مأخذ الاسم دليلا على اعتبار هذا الشرط ومنها أن يكون مما له مثل كالمكيلات, والموزونات, والعدديات المتقاربة, فلا يجوز قرض ما لا مثل له من المذروعات, والمعدودات المتقاربة؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى إيجاب رد القيمة؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين؛ فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل؛ فيختص جوازه بما له مثل. ولا يجوز القرض في الخبز لا وزنا, ولا عددا عند أبي حنيفة, وأبي يوسف رحمهما الله, وقال محمد: يجوز عددا, وما قالاه هو القياس؛ لتفاوت فاحش بين خبز, وخبز لاختلاف العجن, والنضج, والخفة, والثقل في الوزن, والصغر, والكبر في العدد, ولهذا لم يجز السلم فيه بالإجماع, فالقرض أولى؛ لأن السلم أوسع جوازا من القرض, والقرض أضيق منه. ألا ترى أنه يجوز السلم في الثياب ولا يجوز القرض فيها فلما لم يجز السلم فيه؛ فلأن لا يجوز القرض أولى إلا أن محمدا رحمه الله استحسن في جوازه عددا؛ لعرف الناس, وعاداتهم في ذلك, وترك القياس؛ لتعامل الناس فيه هكذا روي عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه جوز ذلك؛ فإنه روى أنه سئل عن أهل بيت يقرضون الرغيف, فيأخذون أصغر أو أكبر؟ فقال: لا بأس به. ويجوز القرض في الفلوس؛ لأنها من العدديات المتقاربة كالجوز, والبيض, ولو استقرض فلوسا, فكسدت؛ فعليه مثلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند أبي يوسف, ومحمد رحمهما الله عليه قيمتها. "وجه" قولهما أن الواجب في باب القرض رد مثل المقبوض, وقد عجز عن ذلك؛ لأن المقبوض كان ثمنا, وقد بطلت الثمنية بالكساد, فعجز عن رد المثل؛ فيلزمه رد القيمة كما لو استقرض رطبا, فانقطع عن أيدي الناس؛ أنه يلزمه قيمته؛ لما قلنا كذا هذا, ولأبي حنيفة أن رد المثل كان واجبا, والفائت بالكساد ليس إلا وصف الثمنية, وهذا وصف لا تعلق لجواز القرض به. ألا ترى أنه يجوز استقراضه بعد الكساد ابتداء, وإن خرج من كونه ثمنا, فلأن يجوز بقاء القرض فيه أولى؛ لأن البقاء أسهل, وكذلك الجواب في الدراهم التي يغلب عليها الغش؛ لأنها في حكم الفلوس. وروي عن أبي يوسف أنه أنكر استقراض الدراهم المكحلة, والمزيفة. وكره إنفاقها, وإن كانت تنفق بين الناس لما في ذلك من ضرورات العامة, وإذا نهي عنها. وكسدت؛ فهي بمنزلة الفلوس إذا كسدت. ولو كان له على رجل دراهم جياد, فأخذ منه مزيفة أو مكحلة أو زيوفا أو بهرجة أو ستوقة؛ جاز في الحكم؛ لأنه يجوز بدون حقه؛ فكان كالحط عن حقه إلا أنه يكره له أن يرضى به, وأن ينفقه, وإن بين وقت الإنفاق إذ لا يخلو عن ضرر العامة بالتلبيس, والتدليس قال أبو يوسف: كل شيء من ذلك لا يجوز بين الناس؛ فإنه ينبغي أن يقطع, ويعاقب صاحبه إذا أنفقه, وهو يعرفه. وهذا الذي ذكره احتساب حسن في الشريعة. ولو استقرض دراهم تجارية, فالتقيا في بلد لا يقدر فيه على التجارية, فإن كانت تنفق في ذلك البلد؛ فصاحب الحق بالخيار: إن شاء انتظر مكان الأداء, وإن شاء أجله قدر المسافة ذاهبا وجائيا, واستوثق منه بكفيل, وإن شاء أخذ القيمة؛ لأنها كانت نافقة لم تتغير؛ بقيت في الذمة كما كانت. وكان له الخيار, إن شاء لم يرض بالتأخير, وأخذ القيمة؛ لما في التأخير من تأخير حقه, وفيه ضرر به كمن عليه الرطب إذا انقطع عن أيدي الناس, أنه يتخير صاحبه بين التربص, والانتظار لوقت الإدراك, وبين أخذ القيمة لما قالوا, كذا هذا. وإن كان لا ينفق في ذلك البلد؛ فعليه قيمتها, والله تعالى أعلم. "وأما" الذي يرجع إلى نفس القرض: فهو أن لا يكون فيه جر منفعة, فإن كان لم يجز, نحو ما إذا أقرضه دراهم غلة, على أن يرد عليه صحاحا, أو أقرضه وشرط شرطا له فيه منفعة؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن قرض جر نفعا"؛ ولأن الزيادة المشروطة تشبه الربا؛ لأنها فضل لا يقابله عوض, والتحرز عن حقيقة الربا, وعن شبهة الربا واجب هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في القرض, فأما إذا كانت غير مشروطة فيه ولكن المستقرض أعطاه أجودهما؛ فلا بأس بذلك؛ لأن الربا اسم لزيادة مشروطة في العقد, ولم توجد, بل هذا من باب حسن القضاء, وأنه أمر مندوب إليه قال النبي عليه السلام: "خيار الناس أحسنهم قضاء". "وقال النبي عليه الصلاة والسلام عند قضاء دين لزمه للوازن: "زن, وأرجح". وعلى هذا تخرج مسألة السفاتج, التي يتعامل بها التجار, أنها مكروهة؛ لأن التاجر ينتفع بها بإسقاط خطر الطريق؛ فتشبه قرضا جر نفعا فإن قيل: أليس أنه روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه كان يستقرض بالمدينة على أن يرد بالكوفة, وهذا انتفاع بالقرض بإسقاط

 

ج / 7 ص -396-       خطر الطريق؟ فالجواب: أن ذلك محمول على أن السفتجة لم تكن مشروطة في القرض مطلقا, ثم تكون السفتجة, وذلك مما لا بأس به على ما بينا, والله تعالى أعلم. والأجل لا يلزم في القرض سواء كان مشروطا في العقد أو متأخرا عنه بخلاف سائر الديون, والفرق من وجهين: أحدهما أن القرض تبرع. ألا يرى أنه لا يقابله عوض للحال. وكذا لا يملكه من لا يملك التبرع؛ فلو لزم فيه الأجل؛ لم يبق تبرعا؛ فيتغير المشروط, بخلاف الديون, والثاني أن القرض يسلك به مسلك العارية, والأجل لا يلزم في العواري, والدليل على أنه يسلك به مسلك العارية: أنه لا يخلو, إما أن يسلك به مسلك المبادلة, وهي تمليك الشيء بمثله أو يسلك به مسلك العارية لا سبيل إلى الأول؛ لأنه تمليك العين بمثله نسيئة, وهذا لا يجوز؛ فتعين أن يكون عارية؛ فجعل التقدير كأن المستقرض انتفع بالعين مدة, ثم رد عين ما قبض, وإن كان يرد بدله في الحقيقة, وجعل رد بدل العين بمنزلة رد العين بخلاف سائر الديون وقد يلزم الأجل في القرض بحال؛ بأن يوصي بأن يقرض من ماله بعد موته فلانا ألف درهم, إلى سنة, فإنه ينفذ وصيته, ويقرض من ماله كما أمر, وليس لورثته أن يطالبوا قبل السنة, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم القرض فهو ثبوت الملك للمستقرض في المقرض للحال, وثبوت مثله في ذمة المستقرض للمقرض للحال, وهذا جواب ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف في النوادر لا يملك القرض بالقبض ما لم يستهلك. حتى لو أقرض كرا من, طعام وقبضه المستقرض, ثم إنه اشترى الكر الذي عليه بمائة درهم؛ جاز البيع, وعلى رواية أبي يوسف لا يجوز؛ لأن المقرض باع المستقرض الكر الذي عليه وليس عليه الكر؛ فكان هذا بيع المعدوم؛ فلم يجز, كما لو باعه الكر الذي في هذا البيت, وليس في البيت كر, وجاز في ظاهر الرواية؛ لأنه باع ما في ذمته؛ فصار كما إذا باعه الكر الذي في البيت, وفي البيت كر. وكذلك لو كان الكر المقرض قائما في يد المستقرض؛ كان المستقرض بالخيار: إن شاء دفع إليه هذا الكر, وإن شاء دفع إليه كرا آخر. ولو أراد المقرض أن يأخذ هذا الكر من المستقرض, وأراد المستقرض أن يمنعه من ذلك, ويعطيه كرا آخر مثله؛ له ذلك في ظاهر الرواية, وعلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في النوادر أن لا خيار للمستقرض, ويجبر على دفع ذلك الكر إذا طالب به المقرض, وعلى هذا فروع ذكرت في الجامع الكبير. "وجه" رواية أبي يوسف: أن الإقراض إعارة؛ بدليل أنه لا يلزم فيه الأجل, ولو كان معاوضة للزم, كما في سائر المعاوضات. وكذا لا يملكه الأب, والوصي, والعبد المأذون, والمكاتب, وهؤلاء لا يملكون المعاوضات. وكذا إقراض الدراهم, والدنانير لا يبطل بالافتراق قبل قبض البدلين, وإن كان مبادلة لبطل؛ لأنه صرف, والصرف يبطل بالافتراق قبل قبض البدلين. وكذا إقراض المكيل لا يبطل بالافتراق ولو كان مبادلة لبطل؛ لأن بيع المكيل بمكيل مثله في الذمة لا يجوز؛ فثبت بهذه الدلائل أن الإقراض إعارة, فبقي العين على حكم ملك المقرض. "وجه" ظاهر الرواية أن المستقرض بنفس القبض صار بسبيل من التصرف في القرض من غير إذن المقرض بيعا, وهبة وصدقة, وسائر التصرفات, وإذا تصرف نفذ تصرفه ولا يتوقف على إجازة المقرض, وهذه أمارات الملك. وكذا مأخذ الاسم دليل عليه فإن القرض قطع, في اللغة؛ فيدل على انقطاع ملك المقرض بنفس التسليم. "وأما" قوله: إعارة, والإعارة تمليك المنفعة لا تمليك العين, فنعم, لكن ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقيام عينه مقام المنفعة صار قبض العين قائما مقام قبض المنفعة, والمنفعة في باب "الإعارة تملك بالقبض"؛ لأنها تبرع بتمليك المنفعة, فكذا ما هو ملحق بها, وهو العين, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب, وإليه المرجع والمآب, والحمد لله وحده.