تحفة
الفقهاء كتاب الْجَنَائِز
قَالَ رَحمَه الله إِذا احْتضرَ الرجل الْمَوْت فَإِنَّهُ يُوَجه على شقَّه
الْأَيْمن نَحْو الْقبْلَة على مَا ذكرنَا ويلقن كلمة الشَّهَادَة لقَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله
وَإِذا مضى يَنْبَغِي أَن يغمض عَيناهُ ويشد لحياه
لِأَنَّهُ إِذا ترك مَفْتُوحًا يصير كريه المنظر ويقبح فِي أعين النَّاس
وَعَلِيهِ توارث الْأمة وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله
حسن
ثمَّ الْمُسْتَحبّ أَن يعجل فِي جهازه وَلَا يُؤَخر لقَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام عجلوا مَوْتَاكُم فَإِن يَك خيرا قدمتموه إِلَيْهِ وَإِن يَك شرا
فبعدا لأهل النَّار
وَلَا بَأْس بإعلام النَّاس بِمَوْتِهِ لِأَن فِيهِ تحريض النَّاس إِلَى
الطَّاعَة وحثا على الاستعداد لَهَا فَيكون سَببا إِلَى الْخَيْر وَدلَالَة
عَلَيْهِ وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الدَّال على الْخَيْر
كفاعله
ثمَّ يشْتَغل بِغسْلِهِ فَإِن غسل الْمَيِّت وَاجِب بِإِجْمَاع الْأمة
عَلَيْهِ من لدن آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى يَوْمنَا هَذَا
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لما توفّي
آدم عَلَيْهِ السَّلَام غسلته الْمَلَائِكَة وَقَالَت
(1/239)
لوَلَده هَذِه سنة مَوْتَاكُم
ثمَّ كَيفَ يغسل روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة وَذكر مُحَمَّد فِي كتاب
الصَّلَاة أَنه يجرد الْمَيِّت وَيُوضَع على تخت وتستر عَوْرَته بِخرقَة
وَهِي من الرّكْبَة إِلَى السُّرَّة ويوضأ وضوءه للصَّلَاة إِلَّا أَنه لَا
يمضمض وَلَا يستنشق وَلَا يمسح على رَأسه وَلَا يُؤَخر غسل رجلَيْهِ
بِخِلَاف غسل الْجنب ثمَّ يضجع على شقَّه الْأَيْسَر فَيغسل بِالْمَاءِ
الَّذِي غلي بالسدر والخطمي والحرض أَو بِالْمَاءِ القراح إِن لم يكن شَيْء
من ذَلِك حَتَّى ينقيه ويخلص المَاء إِلَى مَا يَلِي التخت لِأَن الْمسنون
هُوَ الْبدَاءَة بالميامن فيضجع على شقَّه الْأَيْسَر حَتَّى يُمكن
الْبدَاءَة بِغسْل الْأَيْمن ثمَّ يضجع على شقَّه الْأَيْمن فَيغسل
الْأَيْسَر حَتَّى ينقيه ثمَّ يقعده ويسنده إِلَى نَفسه وَيمْسَح يَده على
بَطْنه مسحا رَقِيقا فَإِن سَالَ مِنْهُ شَيْء يمسحه وَيغسل ذَلِك الْموضع
حَتَّى يطهر عَن النَّجَاسَة الْحَقِيقَة
وَلَا يجب إِعَادَة الْغسْل وَلَا الْوضُوء بِخُرُوج شَيْء مِنْهُ وَعند
الشَّافِعِي يُعَاد الْوضُوء
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْغسْل وَالْوُضُوء مَا وَجب لأجل الْحَدث
وَإِنَّمَا عَرفْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس وَقد وجد
ثمَّ يضجعه على شقَّه الْأَيْسَر حَتَّى ينقيه وَيرى أَن المَاء قد خلص
إِلَى مَا يَلِي السرير حَتَّى يكون الْغسْل ثَلَاث مَرَّات وَهُوَ الْغسْل
الْمسنون فِي حَالَة الْحَيَاة فَكَذَلِك بعد الْمَمَات ثمَّ ينشفه بِثَوْب
حَتَّى لَا تبتل أَكْفَانه
وَلَا يُؤْخَذ شَيْء من ظفره وَلَا شعره وَلَا يسرح لحيته لِأَن هَذَا من
بَاب الزِّينَة وَالْمَيِّت لَا يزين
هَذَا الَّذِي ذكرنَا سنة فِي كل ميت مَاتَ بعد الْولادَة إِلَّا الشَّهِيد
(1/240)
الَّذِي مثل شُهَدَاء أحد على مَا نذْكر
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمَوْلُود إِذا خرج مَيتا لَا يغسل هَذَا جَوَاب
هَذَا الْكتاب على مَا نذْكر
فَأَما إِذا اسْتهلّ الصَّبِي ثمَّ وجد مَيتا يغسل لِأَن الاستهلال دلَالَة
الْحَيَاة
وَإِذا وجد أَكثر الْإِنْسَان الْمَيِّت يغسل لِأَن للْأَكْثَر حكم الْكل
فَأَما إِذا وجد الْأَقَل أَو النّصْف لم يغسل عندنَا وَعند الشَّافِعِي
يغسل كَيْفَمَا كَانَ
ثمَّ الْجِنْس يغسل الجنسكالذكر للذّكر وَالْأُنْثَى للْأُنْثَى وَلَا يغسل
الْجِنْس خلاف الْجِنْس كَالرّجلِ للْأُنْثَى وَالْأُنْثَى للرجل لِأَن مس
الْعَوْرَة حرَام فِي حَالَة الْحَيَاة وَالْمَمَات جَمِيعًا للأجانب
فَأَما إِذا كَانَا زَوْجَيْنِ فالزوجة الْمُعْتَدَّة بِسَبَب الْمَوْت يحل
لَهَا غسل الزَّوْج بِالْإِجْمَاع مَا لم يُوجد مِنْهَا فِي حَال الْعدة
مَا هُوَ سَبَب الْفرْقَة وَهُوَ الْمُصَاهَرَة أَو الرِّدَّة
فَأَما الْمُعْتَدَّة بِالطَّلَاق الْبَائِن إِذا مَاتَ الزَّوْج بعد ذَلِك
فَلَا تغسله لِأَن الطَّلَاق الْبَائِن يرفع النِّكَاح
فَأَما الزَّوْج فَلَا يغسل الزَّوْجَة عندنَا خلافًا لَهُ وَالْمَسْأَلَة
مَعْرُوفَة
وَأما أم الْوَلَد فَلَا تغسل مَوْلَاهَا وَإِن كَانَت مُعْتَدَّة بعد
مَوته عندنَا وَقَالَ زفر تغسل إِلَّا أَن الصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن
الْقيَاس أَن الْمُعْتَدَّة للزَّوْج لَا تغسل لِأَن النِّكَاح انْتهى
بِالْمَوْتِ كَمَا فِي جَانب الزَّوْج وَإِنَّمَا جَاءَت الْإِبَاحَة
بِخِلَاف الْقيَاس فِي حق الزَّوْجَة فَبَقيَ الحكم فِي حق أم الْوَلَد على
أصل الْقيَاس
(1/241)
فَأَما الصَّبِي والصبية إِن كَانَا من أهل
الشَّهْوَة فَكَذَلِك الْجَواب وَإِن لم يَكُونَا من أهل الشَّهْوَة فَلَا
بَأْس بغسلهما عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس
وَإِذا مَاتَت الْمَرْأَة فِي السّفر وَلم يكن هُنَاكَ غير الرِّجَال فَإِن
كَانَ مِنْهُم ذُو رحم محرم مِنْهَا فَإِنَّهُ ييممها بِيَدِهِ بِغَيْر
خرفة وَإِن لم يكن فالأجنبي ييممها بِخرقَة لِأَن الْأَجْنَبِيّ لَا يحل
لَهُ مس مَحل التَّيَمُّم بِدُونِ الْخِرْقَة فَأَما الْمحرم فَيحل لَهُ مس
ذَلِك الْموضع من غير حَائِل
ثمَّ يُكفن الْمَيِّت بعد الْغسْل لِأَن تكفين الْمَيِّت سنة لما رُوِيَ
فِي قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْمَلَائِكَة قَالَت لوَلَده
بَعْدَمَا غسلوه وكفنوه ودفنوه هَذِه سنة مَوْتَاكُم
ثمَّ الْكَفَن يصير من جَمِيع المَال وَهُوَ مقدم على الدّين وَالْوَصِيَّة
وَالْمِيرَاث لِأَن هَذَا من حوائج الْمَيِّت
وَمن لم يكن لَهُ مَال فَكَفنهُ على من تجب عَلَيْهِ نَفَقَته وَكسوته فِي
حَال حَيَاته إِلَّا الْمَرْأَة خَاصَّة فِي قَول محمدفإن كفنها لَا يجب
على زَوجهَا لِأَن الزَّوْجِيَّة تَنْقَطِع بِالْمَوْتِ
وَمن لم يكن لَهُ مَال وَلَا من ينْفق عَلَيْهِ فِي بَيت المَال لِأَنَّهُ
أعد لحوائج الْمُسلمين
ثمَّ أَكثر مَا يُكفن بِهِ الرجل ثَلَاث أَثوَاب إِزَار ورداء وقميص وَأدنى
ذَلِك ثَوْبَان إِزَار ورداء
وَأكْثر مَا تكفن بِهِ الْمَرْأَة خَمْسَة أَثوَاب إِزَار ولفافة وَدرع
وخمار وخرقة يرْبط ثدياها وَأدنى ذَلِك ثَلَاثَة لفافة وخمار وَإِزَار
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الصَّبِي والصبية المراهقين
فَأَما الَّذِي لم يراهق فيكفن فِي خرقتين إِزَار ورداء وَلَو كفن فِي
(1/242)
إِزَار وَاحِد لَا يكره لِأَن بدنه لَيْسَ
بِعَوْرَة وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَة كَامِلَة
وَإِن كَانَ سقطا فَإِنَّهُ يُكفن فِي خرقَة
وَكَذَلِكَ إِذا ولد مَيتا يلف فِي خرقَة أَيْضا لِأَن حرمته لم تكمل
ثمَّ كَيْفيَّة لبس الأكفان يَنْبَغِي أَن تجمر الأكفان أَولا وترا لِأَن
الثَّوْب الْجَدِيد أَو الغسيل مِمَّا يطيب فِي حَالَة الْحَيَاة فَكَذَلِك
بعد الْمَمَات فيلبس الْقَمِيص أَولا ثمَّ تبسط اللفافة وَهِي الرِّدَاء
طولا ثمَّ يبسط الْإِزَار فَوْقهَا عرضا فَيُوضَع الْمَيِّت عَلَيْهَا ثمَّ
يوضع الحنوط فِي رَأسه ولحيته وَسَائِر جسده وَيُوضَع الكافور على مساجده
وَأَرَادُوا بالمساجد الْجَبْهَة وَالْيَدَيْنِ والركبتين تَشْرِيفًا
للْمَيت لِأَن المغتسل فِي حَالَة الْحَيَاة قد يتطيب وَلَا بَأْس بِسَائِر
الطّيب فِي الحنوط غير الزَّعْفَرَان والورس فِي حق الرجل وَلَا بَأْس بِهِ
فِي حق الْمَرْأَة ثمَّ يعْطف الْإِزَار على الْمَيِّت من شقَّه الْأَيْسَر
على رَأسه وَسَائِر جسده ثمَّ يعْطف من قبل شقَّه الْأَيْمن كَذَلِك ثمَّ
يعْطف الرِّدَاء عَلَيْهِ وَهُوَ اللفافة
فَإِن خيف انتشار الْكَفَن وَظُهُور الْعَوْرَة يرْبط بِشَيْء من
الْخِرْقَة
وَكَذَلِكَ فِي حق الْمَرْأَة تبسط اللفافة أَيْضا ثمَّ الْإِزَار وتلبس
الدرْع والخمار فَوق الدرْع والخرقة ترْبط فَوق الأكفان عِنْد الصَّدْر
فَوق الثديين ويسدل شعرهَا من الْجَانِبَيْنِ فَوق الدرْع على صدرها ثمَّ
يعْطف الْإِزَار واللفافة على مَا ذكرنَا
ثمَّ الغسيل والجديد سَوَاء فِي حق الْكَفَن
وَلَا بَأْس بالبرد والكتان والقصب وَفِي حق النسوان بالحرير والإبريسم
والمعصفر والمزعفر على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه
قَالَ إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه
لَكِن الثِّيَاب الْبيض
(1/243)
أفضل على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام أَنه قَالَ البسوا هَذِه الثِّيَاب الْبيض فَإِنَّهَا خير ثيابكم
وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم
ثمَّ يُؤْتى بالجنازة وَيحمل عَلَيْهَا الْمَيِّت ويسرع بِهِ فَإِن
الْإِسْرَاع بِهِ سنة لَكِن يَنْبَغِي أَن يكون مشيا دون الخبب وَأَصله مَا
رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ عجلوا مَوْتَاكُم فَإِن
كَانَ خيرا قدمتموه وَإِن كَانَ شرا ألقيتموه عَن رِقَابكُمْ
وَالْمُسْتَحب للمشيع الْمَشْي خلفهَا دون التَّقَدُّم وَإِن مَشى ماش
أمامها كَانَ وَاسِعًا لَكِن لَا يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم الْكل لما رُوِيَ
عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الْجِنَازَة متبوعة وَلَيْسَت
بتابعة لَيْسَ مَعهَا من تقدمها
وَتحمل الْجِنَازَة من جوانبها الْأَرْبَع فَيبْدَأ الَّذِي يُرِيد حملهَا
بالمقدم الْأَيْمن من الْمَيِّت فَيَجْعَلهُ على عَاتِقه الْأَيْمن ثمَّ
الْمُؤخر الْأَيْمن على عَاتِقه الْأَيْمن ثمَّ الْمُقدم الْأَيْسَر على
عَاتِقه الْأَيْسَر ثمَّ الْمُؤخر الْأَيْسَر على عَاتِقه الْأَيْمن
وَقَالَ الشَّافِعِي يقوم من يحمل الْجِنَازَة بَين العمودين فَإِن سعد بن
معَاذ حمل بَين العمودين
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا لعمل الْأمة من لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا من غير نَكِير وَحَدِيث سعد يحْتَمل أَن يكون
ذَلِك لضيق الْمَكَان أَو لعذر من الْأَعْذَار
وَيكرهُ أَن يحمل الْمَيِّت على الدَّابَّة صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا
لِأَن من تَعْظِيم الْمَيِّت أَن يحمل على أَعْنَاق الرِّجَال
وَإِن كَانَ صَبيا فَحَمله إِنْسَان على يَدَيْهِ وَهُوَ رَاكب فَلَا بَأْس
بِهِ
وَكَذَا لَا بَأْس بِأَن يحمل الرضع أَو فَوق ذَلِك فِي سقط وَنَحْوه
(1/244)
على الْأَيْدِي ويتداولونه لِأَن معنى
الْكَرَامَة حَاصِل
وَيكرهُ لمشيعي الْجِنَازَة أَن يقعدوا قبل وضع الْجِنَازَة لأَنهم أَتبَاع
الْجِنَازَة والتبع لَا يقْعد قبل قعُود الأَصْل تَعْظِيمًا لَهُ
(1/245)
بَاب الصَّلَاة
على الْجِنَازَة الْكَلَام فِي الْبَاب فِي مَوَاضِع فِي بَيَان أَنَّهَا
وَاجِبَة وَفِي بَيَان من يُصَلِّي عَلَيْهِ وَفِي بَيَان كَيْفيَّة صَلَاة
الْجِنَازَة وَفِي بَيَان ولَايَة الصَّلَاة لمن هِيَ وَفِي بَيَان مَا
يفْسد صَلَاة الْجِنَازَة وَمَا يمْنَع مِنْهَا
أما الأول فَنَقُول الصَّلَاة على الْمَيِّت وَاجِبَة فِي الْجُمْلَة لَا
يسع الِاجْتِمَاع على تَركهَا وَمَتى فعلهَا فريق من النَّاس تسْقط عَن
البَاقِينَ فَكَانَت وَاجِبَة على سَبِيل الْكِفَايَة
وَبَيَان الْوُجُوب مواظبة الرَّسُول وَأَصْحَابه وَالْأمة بأجمعهم من لدن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا
وَبَيَان أَنَّهَا وَاجِبَة على طَريقَة الْكِفَايَة لِأَن مَا هُوَ
الْفَرْض وَهُوَ قَضَاء حق الْمَيِّت يحصل بِالْبَعْضِ وَلَا يُمكن
إِيجَابه على كل أحد من آحَاد النَّاس فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْجِهَاد
وَأما بَيَان من يصلى عَلَيْهِ فَنَقُول كل من مَاتَ مُسلما بعد وِلَادَته
صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا ذكرا
(1/247)
كَانَ أَو أُنْثَى حرا كَانَ أَو عبدا
إِلَّا الْبُغَاة وقطاع الطَّرِيق وَمن كَانَ بِمثل حَالهم لقَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام صلوا على كل بر وَفَاجِر
وَلَا يصلى على من ولد مَيتا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
أَنه قَالَ إِذا اسْتهلّ الْمَوْلُود صلي عَلَيْهِ وَمن لم يستهل لم يصل
عَلَيْهِ لِأَن الاستهلال دلَالَة الْحَيَاة وَالْمَيِّت فِي عرف النَّاس
من زَالَت حَيَاته لَا يعلم أَنه خلقت الْحَيَاة فِيهِ أم لَا فَلم يعلم
بِمَوْتِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه لَا يَرث وَلَا يُورث وَلَا يغسل
وَلَا يُسمى لِأَن هَذِه أَحْكَام الْأَحْيَاء وَلم تثبت حَيَاته
وَرُوِيَ عَن الطَّحَاوِيّ أَن الْجَنِين الْمَيِّت يغسل وَلم يحك خلافًا
وَعَن مُحَمَّد فِي السقط الَّذِي استبان خلقه إِنَّه يغسل ويكفن ويخط
وَلَا يصلى عَلَيْهِ
وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة فِيمَن ولد مَيتا أَنه لَا يغسل
فعلى الرِّوَايَة الَّتِي لَا يغسل اعْتبر بِالصَّلَاةِ وَأَنه لَا يصلى
عَلَيْهِ وَالْغسْل لأجل الصَّلَاة فَسقط الْغسْل
وعَلى الرِّوَايَة الَّتِي يغسل اعْتبر أَنه سنة الْمَوْتَى فِي الأَصْل
بِحَدِيث قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَت الْمَلَائِكَة
بَعْدَمَا غسلته إِنَّه سنة مَوْتَاكُم وَلِهَذَا يغسل الْكَافِر وَإِن لم
يصل عَلَيْهِ
وَأما الْبُغَاة فَلَا يصلى عَلَيْهِم عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا فَإِن عليا لم يصل على قَتْلَى نهروان وَغَيرهم
مِمَّن خَالفه وهم أهل بغي فَإِن الْخَلِيفَة الْحق هُوَ عَليّ رَضِي الله
عَنهُ حَال حَيَاته بعد وَفَاة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ ذَلِك
بِمحضر من الصَّحَابَة فَيكون إِجْمَاعًا
(1/248)
وَإِذا ثَبت الحكم فِي الْبُغَاة ثَبت فِي
قطاع الطَّرِيق لأَنهم فِي معناهم
وَكَذَلِكَ الَّذِي يقتل النَّاس خنقا حَتَّى يَأْخُذ أَمْوَالهم لِأَن
هَذَا ساع فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ
وذكلك المكابرون فِي الْمصر بِالسِّلَاحِ وَمن كَانَ فِي مثل حَالهم
وَأما كَيْفيَّة الصَّلَاة على الميتفنقول أَن يقوم الإِمَام وَالْقَوْم
فيكبر الإِمَام أَربع تَكْبِيرَات وَالْقَوْم مَعَه فيكبرون التَّكْبِيرَة
الأولى ويحمدون الله بِمَا هُوَ أَهله كَذَا ذكر الْكَرْخِي
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يكبر الأولى وَيَقُول سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك
إِلَى آخِره ثمَّ يكبرُونَ الثَّانِيَة وَيصلونَ على النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام على مَا هُوَ الْمَعْرُوف ثمَّ يكبرُونَ الثَّالِثَة وَيدعونَ
للْمَيت ولأموات الْمُسلمين وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُم
وَإِذا كَانَ الْمَيِّت صَبيا فَيَقُول اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لنا فرطا
واجعله لنا ذخْرا ثمَّ يكبرُونَ الرَّابِعَة وَلَا يدعونَ بعْدهَا ثمَّ
يسلم الإِمَام تسليمتين عَن يَمِينه ويساره وَالْقَوْم مَعَه لِأَن كل
صَلَاة لَهَا تَحْرِيم بِالتَّكْبِيرِ فَيكون لَهَا تَحْلِيل
بِالتَّسْلِيمِ
هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ قَول عَامَّة الْعلمَاء وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن عبد الله بن مسعودأنه قَالَ كل ذَلِك قد كَانَ حِين
سُئِلَ عَن تَكْبِيرَات الْجِنَازَة لَكِن رَأَيْت النَّاس أَجمعُوا على
أَربع تَكْبِيرَات
ثمَّ إِن عندنَا لَا يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الأولى
وعَلى قَول الشَّافِعِي يرفع عِنْد كل تَكْبِيرَة وَقد ذكرنَا قبل هَذَا
وَلَيْسَ فِيهَا قِرَاءَة الْفَاتِحَة أصلا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز بِدُونِ الْفَاتِحَة
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهَا لَيست بِصَلَاة حَقِيقَة إِنَّمَا شرعت
الدُّعَاء على
(1/249)
الْمَيِّت وَأَصله حَدِيث ابْن مَسْعُود
أَنه قَالَ مَا وَقت لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة
الْجِنَازَة قولا وَلَا قِرَاءَة كبر مَا كبر الإِمَام واختر من أطيب
الْكَلَام مَا شِئْت
ثمَّ الْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل وَغَيره أَن
يقوم الإِمَام بحذاء صدر الْمَيِّت فِي الرجل وَالْمَرْأَة جَمِيعًا حَتَّى
يُصَلِّي عَلَيْهِ
وَعَن الْحسن أَنه يقوم فِي الرجل بحذاء وَسطه وَفِي الْمَرْأَة بحذاء
وَسطهَا إِلَّا أَنه يكون إِلَى رَأسهَا أقرب
وَعَن أبي يُوسُف أَنه يقوم من الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا وَمن الرجل مِمَّا
يَلِي الرَّأْس وَقَالَ الطَّحَاوِيّ وَهَذَا قَوْله الْأَخير
وَالصَّحِيح هُوَ الأول لِأَنَّهُ لَا بُد من أَن يُحَاذِي جُزْءا من
أَجزَاء الْمَيِّت فَكَانَ محاذاة الصَّدْر الَّذِي هُوَ مَوضِع الْإِيمَان
أَحَق
وَإِذا اجْتمعت الْجَنَائِز فالإمام بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ الله صلى
عَلَيْهَا كلهَا دفْعَة وَاحِدَة وَإِن شَاءَ صلى على كل جَنَازَة على حِدة
فَإِن أَرَادَ أَن يُصَلِّي على كل جَنَازَة على حِدة فَالْأولى أَن يقدم
الْأَفْضَل مِنْهُم وَإِن صلى كَيفَ شَاءَ فَلَا بَأْس بِهِ وَإِن أَرَادَ
أَن يُصَلِّي عَلَيْهِم جملَة يَنْبَغِي أَن يكون الرِّجَال مِمَّا يَلِي
الإِمَام ثمَّ الصّبيان الذُّكُور ثمَّ النِّسَاء ثمَّ الصبيات لما رُوِيَ
عَن عمر أَنه صلى على أَربع جنائز رجال وَنسَاء وَجعل الرِّجَال مِمَّا
يَلِي الإِمَام
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يضع أفضلهَا مِمَّا يَلِي الإِمَام
وقالأبو يُوسُف أحسن ذَلِك عِنْدِي أَن يكون أهل الْفضل مِمَّا يَلِي
الإِمَام
ثمَّ تكلمُوا فِي كَيْفيَّة الْوَضع من حَيْثُ الْمَكَان
(1/250)
قَالَ ابْن أبي ليلى إِذا اجْتمعت
الْجَنَائِز يوضع رجل خلف رجل رَأس الآخر أَسْفَل من رَأس الأول يوضعون
هَكَذَا درجا
وَعَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ إِن وضعُوا كَمَا قَالَ ابْن أبي ليلى فَحسن
لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وصاحبيه دفنُوا على هَذِه الصّفة والوضع
للصَّلَاة كَذَلِك فَإِن وضعُوا رَأس كل وَاحِد مِنْهُم بحذاء رَأس صَاحبه
فَحسن لِأَن الْمَقْصُود حَاصِل وَهُوَ الصَّلَاة عَلَيْهِم
وَأما بَيَان ولَايَة الصَّلَاة فَنَقُول ذكر الشيخأبو الْحسن الْكَرْخِي
قَالَ أَبُو حنيفَة يُصَلِّي على الْجِنَازَة أَئِمَّة الْحَيّ وَالَّذِي
يُصَلِّي بالأحياء هُوَ الَّذِي يُصَلِّي على الْمَوْتَى وَهُوَ قَول
إِبْرَاهِيم
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة يُصَلِّي الإِمَام إِن حضر أَو القَاضِي أَو
الْوَالِي فَإِن لم يحضر أحد مِنْهُم فَيَنْبَغِي أَن يقدموا إِمَام
الْحَيّ فَإِن لم يكن إِمَام الْحَيّ فأقرب النَّاس إِلَيْهِ
وَقَالَ مُحَمَّد يَنْبَغِي للوالي أَن يقدم إِمَام الْمَسْجِد وَلَا يجْبر
الْوَالِي على ذَلِك وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
عَن ابْن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف الصَّلَاة على الْمَيِّت إِلَى
الْأَوْلِيَاء دون إِمَام الْحَيّ
وَحَاصِل ذَلِك أَن السُّلْطَان إِذا حضر فَهُوَ أولى لما رُوِيَ أَن
الْحسن رَضِي الله عَنهُ لما مَاتَ قدم الحسينرضي الله عَنهُ سعيد بن
الْعَاصِ أَمِير الْمَدِينَة وَقَالَ لَوْلَا السّنة لما قدمتك
وَأما إِمَام الْحَيّ فتقديمه على طَرِيق الْأَفْضَل وَلَيْسَ بِوَاجِب
بِخِلَاف تَقْدِيم السُّلْطَان هَكَذَا فسر ابْن شُجَاع
(1/251)
ثمَّ أجمع أَصْحَابنَا أَن بعد إِمَام
الْحَيّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من ذَوي الْأَنْسَاب أَحَق فَإِن تساووا
فِي الْقَرَابَة فأكبرهم سنا فَإِن أَرَادَ الأسن أَن يقدم غير شَرِيكه
فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَن الْولَايَة لَهما وَإِنَّمَا
قدم الأسن للسّنة فَأَما إِذا كَانَ أَحدهمَا أقرب
فللأقرب أَن يقدم من شَاءَ
وَلَو أَن امْرَأَة مَاتَت وَتركت زَوجهَا وَابْنهَا يكره للِابْن أَن
يتَقَدَّم أَبَاهُ وَعَلِيهِ أَن يقدم أَبَاهُ
أما الزَّوْج فَلَا ولَايَة لَهُ لِأَن الزَّوْجَة قد انْقَطَعت
بِالْمَوْتِ
وَأما بَيَان مَا يفْسد صَلَاة الْجِنَازَة وَمَا يمْنَع مِنْهَا فَنَقُول
إِن الصَّلَاة كلهَا مَكْرُوهَة فِي الْأَوْقَات الثَّلَاثَة على مَا
ذكرنَا لَكِن إِن صلوا على الْجِنَازَة فِي هَذِه الْأَوْقَات لم يجب
الْإِعَادَة وَإِن كَانَت وَاجِبَة لِأَن صَلَاة الْجِنَازَة فرض كِفَايَة
وَإِنَّمَا يتَعَيَّن الْوُجُوب على الْمُصَلِّين بِالشُّرُوعِ وَقد وجد
الشُّرُوع فِي الْوَقْت الْمَكْرُوه فيحب نَاقِصا بِمَنْزِلَة عصر الْوَقْت
فيجزئه
وَمن صلى على جَنَازَة رَاكِبًا أَو قَاعِدا من غير عذر فَالْقِيَاس أَن
يُجزئهُ
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يُجزئهُ لِأَن صَلَاة الْجِنَازَة لَيست
بِأَكْثَرَ من الْقيام فَإِذا ترك الْقيام لم تجز
وَلَو صلى على صبي وَهُوَ مَحْمُول على دَابَّة لم تجز لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَة الإِمَام
وَإِذا صلى الإِمَام من غير طَهَارَة أعادوا لِأَنَّهُ لَا صِحَة لَهَا
بِدُونِ الطَّهَارَة فَإِذا لم تصح صَلَاة الإِمَام لم تصح صَلَاة الْقَوْم
فَأَما إِذا كَانَ الإِمَام على طَهَارَة وَالْقَوْم على غير طَهَارَة
جَازَت صَلَاة الإِمَام دون صَلَاة الْقَوْم وَلم يُعِيدُوا صَلَاة
الْجِنَازَة لِأَن صَلَاة الإِمَام تنوب عَن الْكل
(1/252)
وَبِهَذَا تبين أَنه لَا تجب صَلَاة
الْجَمَاعَة فَإِن الإِمَام مُنْفَرد هُنَا
وَإِذا صلت نسَاء وحدهن على جَنَازَة قَامَت الَّتِي تؤم وسط الصَّفّ
وَهَذِه الْمَسْأَلَة تدل على أَنه لَا يشْتَرط أَن يقوم الرِّجَال لصَلَاة
الْجِنَازَة دون النِّسَاء وحدهن
وَلَو صلوا على الْمَيِّت ثمَّ علمُوا أَنهم لم يغسلوه فَهَذَا على وُجُوه
إِن ذكرُوا قبل أَن يدْفن يغسل وتعاد الصَّلَاة لِأَن غسل الْمَيِّت شَرط
جَوَاز الصَّلَاة
وَإِن ذكرُوا بَعْدَمَا دفنوه وأهالوا التُّرَاب عَلَيْهِ وسووا الْقَبْر
فَإِنَّهُ لَا ينبش الْقَبْر
فَأَما إِذا لم يهيلوا عَلَيْهِ التُّرَاب فَإِنَّهُ يخرج من الْقَبْر
وَيغسل سَوَاء نصبوا اللَّبن عَلَيْهِ أم لَا
وروى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنهم إِذا أهالوا عَلَيْهِ التُّرَاب لم
يخرجوه وَلَكِن يصلونَ على قَبره ثَانِيًا لِأَن الطَّهَارَة إِنَّمَا شرطت
عِنْد الْقُدْرَة لَا عِنْد الْعَجز وَقد ثَبت الْعَجز بِسَبَب الدّفن
وَالصَّحِيح قَول ظَاهر الرِّوَايَات أَنه لَا يُعَاد الصَّلَاة لِأَن
الصَّلَاة بِدُونِ الْغسْل غير مَشْرُوعَة وَلَا وَجه إِلَى الْغسْل
لِأَنَّهُ يتَضَمَّن أمرا حَرَامًا وَهُوَ نبش الْقَبْر فَتسقط الصَّلَاة
وَأما إِذا نسوا الصَّلَاة على الْمَيِّت بعد الْغسْل فتذكروا بعد الدّفن
فَإِن كَانَ قبل مُضِيّ ثَلَاثَة أَيَّام يصلى على الْقَبْر وَإِن كَانَ
بعد ذَلِك لَا يصلى وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
أَنه صلى على قبر المسكينة
(1/253)
بَاب الدّفن وَحكم الشُّهَدَاء
فِي الْبَاب بَيَان حكم الدّفن وَبَيَان أَحْكَام الشُّهَدَاء
أما الأول فَنَقُول يَنْبَغِي أَن يوضع الْمَيِّت فِي الْقَبْر على شقَّه
الْأَيْمن يسْتَقْبل الْقبْلَة وَيسْتَقْبل بِهِ الْقبْلَة عِنْد إِدْخَاله
الْقَبْر أَيْضا
وَلَا بَأْس بِأَن يدْخل الْقَبْر وَاحِدًا أَو أَكثر وترا كَانَ أَو شفعا
على قدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
وَيَقُول وَاضعه بِسم الله وعَلى مِلَّة رَسُول الله لَكِن ذَوُو الرَّحِم
الْمحرم أولى لإدخال الْمَرْأَة الْقَبْر من غَيرهم لِأَنَّهُ يجوز لَهُم
مَسهَا حَالَة الْحَيَاة وَيكرهُ للأجانب مَسهَا حَال الْحَيَاة فَكَذَلِك
بعد الْمَمَات
وَالسّنة هِيَ اللَّحْد عندنَا دون الشق حلافا للشَّافِعِيّ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه
قَالَ اللَّحْد لنا والشق لغيرنا
وَإِذا وضع فِي الْقَبْر فَإِن كَانَت الأكفان قد عقدت تحل العقد
(1/255)
وَيجْعَل على اللَّحْد اللَّبن والقصب
وَيكرهُ الْآجر والخشب لِأَن ذَلِك من بَاب الزِّينَة وَعمارَة الدُّنْيَا
وَالسّنة فِي الْقَبْر أَن يسنم وَلَا يربع وَلَا يطين وَلَا يجصص
وَكره أَبُو حنيفَة الْبناء على الْقَبْر وَأَن يعلم بعلامة
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ أكره أَن يكْتب عَلَيْهِ لما رُوِيَ عَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن تربيع الْقُبُور وَعَن تجصيصها
وَعَن الْكِتَابَة عَلَيْهَا
وَأما رش المَاء على الْقَبْر فَلَا بَأْس بِهِ لِأَن ذَلِك مِمَّا يحْتَاج
إِلَيْهِ لتسوية التُّرَاب عَلَيْهِ
وَعَن أبي يُوسُف أَنه يكره الرش لِأَنَّهُ يجْرِي مجْرى التطيين
وَيكرهُ أَن يُزَاد التُّرَاب على تُرَاب الْقَبْر الْخَارِج مِنْهُ لِأَن
ذَلِك يجْرِي مجْرى الْبناء
ويسجى قبر الْمَرْأَة دون الرجل لِأَن الْمَرْأَة عَورَة دونه
وَلَا يَنْبَغِي أَن يدْفن الرّجلَانِ وَالثَّلَاثَة فِي قبر وَاحِد لعمل
الْأمة على دفن الْوَاحِد فِي قبر وَاحِد من لدن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَأَما عِنْد الْحَاجة فَلَا بَأْس
بِهِ
وَيقدم فِي اللَّحْد أفضلهم وَيجْعَل مَا بَين الرجلَيْن حاجز من تُرَاب
هَكَذَا أَمر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَتْلَى أحد وَقَالَ قدمُوا
أَكْثَرهم قُرْآنًا
وَلَو وضعُوا فِي اللَّحْد مَيتا على غير الْقبْلَة أَو على يسَاره ثمَّ
تَذكرُوا فَإِن أَبَا حنيفَة قَالَ إِن كَانَ بعد تشريج اللَّبن قبل أَن
يهيلوا التُّرَاب عَلَيْهِ أزالوا ذَلِك وَيُوجه إِلَى الْقبْلَة على
يَمِينه وَإِن أهالوا
(1/256)
التُّرَاب لم ينبش الْقَبْر لِأَن
التَّوْجِيه إِلَى الْقبْلَة سنة والنبش حرَام
وَكره أَبُو حنيفَة أَن يُوطأ على قبر أَو يجلس عَلَيْهِ أَو ينَام
عَلَيْهِ أَو يقْضِي عَلَيْهِ حَاجَة من غَائِط أَو بَوْل على مَا رُوِيَ
عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن الْجُلُوس على قبر وَلِأَن
فِي هَذِه الْأَشْيَاء ترك تَعْظِيم الْمَيِّت
وَكَذَا يكره أَن يصلى عِنْد الْقَبْر على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي مَسْجِدا كَمَا
اتَّخذت بَنو إِسْرَائِيل قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ لَا يَنْبَغِي أَن يصلى على ميت
بَين الْقُبُور وَإِن فعلت أجزت لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس
أَنَّهُمَا كَانَا يكرهان ذَلِك
وروى نَافِع أَنهم صلوا على عَائِشَة وَأم سَلمَة بَين مَقَابِر البقيع
وَالْإِمَام أَبُو هُرَيْرَة وَكَانَ ابْن عمر هُنَاكَ
ثمَّ إِذا نبش الْمَيِّت وَأخذ كَفنه فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ طريا
لم يتفسخ وَلم يتفتت أَو لم يكن طريا
فَإِن كَانَ طريا يجب إِعَادَة الْكَفَن لِأَن الأول يحْتَاج إِلَى السّتْر
تَعْظِيمًا لَهُ وَالْحَاجة قَائِمَة لَكِن ينظر إِن كَانَ قبل الْقِسْمَة
يكون ذَلِك من جَمِيع التَّرِكَة وَيقدم على الدّين وَالْوَصِيَّة وَإِن
كَانَ بعد الْقِسْمَة فَيكون على الْوَرَثَة لِأَن التَّرِكَة قبل
الْقِسْمَة على ملك الْمَيِّت وبالقسمة انْتقل الْملك إِلَى الْوَرَثَة
وَإِذا نبش فَأخذ كَفنه فَهَذَا ميت احْتَاجَ إِلَى الْكَفَن وَلَا مَال
لَهُ فَيكون على ورثته
وَأما إِذا لم يكن طريا فَإِن لم يكن متفسخا فَكَذَلِك الْجَواب وَإِن
كَانَ متفسخا فَإِنَّهُ يلف فِي ثوب وَاحِد وَلَا يُكفن على وَجه السّنة
لِأَن حرمته دون حُرْمَة الْآدَمِيّ الْكَامِل الْمركب فَلَا يُسَاوِيه فِي
حق الستْرَة
(1/257)
وَأما حكم الشُّهَدَاء فَنَقُول الشَّهِيد
يُخَالف حكمه حكم سَائِر الْمَوْتَى فِي حق التَّكْفِين وَالْغسْل أما
التَّكْفِين فَيَنْبَغِي أَن يُكفن فِي ثِيَابه الَّتِي قتل فِيهَا
وَإِن أَحبُّوا أَن يزِيدُوا عَلَيْهِ شَيْئا حَتَّى يبلغ مبلغ السّنة
وَأَن ينقصوا عَنهُ شَيْئا فَلَا بَأْس بِهِ
وَينْزع عَنهُ السَّلَام والفرو والجلود وَمَا لَا يصلح للكفن
وَلَا يُكفن ابْتِدَاء فِي ثِيَاب أخر بِدُونِ ثِيَابه
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ زملوهم
بكلومهم وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُم يبعثون يَوْم الْقِيَامَة وكلومهم تشخب
دَمًا اللَّوْن لون الدَّم وَالرِّيح ريح الْمسك
وَأما حكم الْغسْل فَنَقُول الشَّهِيد نَوْعَانِ نوع يغسل وَنَوع لَا يغسل
أما الَّذِي لَا يغسل فَهُوَ الَّذِي فِي معنى شُهَدَاء أحد فَيلْحق بهم
فِي حق سُقُوط الْغسْل بِالْحَدِيثِ الَّذِي روينَاهُ وَإِلَّا فَيبقى على
الأَصْل الْمَعْهُود وَهُوَ أَن الْغسْل سنة للموتى
وَحَقِيقَة شُهَدَاء أحد أَنهم قتلوا ظلما وَلم يرتثوا وَلم يُؤْخَذ عَن
دِمَائِهِمْ عوض دنياوي
فَمَتَى وجد فِي غَيرهم هَذِه الْمعَانِي سقط الْغسْل عَنْهُم أَيْضا
فَنَقُول إِن من قتل فِي المعركة أَو غَيرهَا وَهُوَ يُقَاتل عدوا مَعَ
الْكفَّار الْمُحَاربين أَو قطاع الطَّرِيق أَو الْبُغَاة أَو قتل بِسَبَب
دفع الْقَتْل عَن نَفسه أَو عَن أَهله أَو عَن الْمُسلمين أَو أهل
الذِّمَّة فَإِنَّهُ يكون شَهِيدا لِأَن هَؤُلَاءِ فِي معنى شُهَدَاء أحد
لوُجُود الْقَتْل ظلما وَلَا يُوجد فِي قَتلهمْ عوض دنياوي
(1/258)
وَإِذا كَانَ قتلا يجب فِيهِ الْقصاص يكون
شَهِيدا لِأَن الْقصاص لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة مَالِيَّة فَلَا ينْقض معنى
الشَّهَادَة وَأما الْمَنْفَعَة الْمَالِيَّة فَتبْطل معنى الشَّهَادَة من
وَجه
وَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَتْل بِأَيّ آلَة كَانَ جارحة أَو غير جارحة لِأَن
شُهَدَاء أحد قتل بَعضهم بِآلَة غير جارحة
ثمَّ إِنَّمَا لَا يغسل فِي هَذِه الْمَوَاضِع إِذا لم يكن الْمَقْتُول
مرتثا أما إِذا كَانَ مرتثا فَإِنَّهُ يغسل
وَتَفْسِير الارتثاث مَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ الَّذِي كَانَ
يحمل على أَيدي النَّاس من المعركة قبل أَن يَمُوت أَو يَأْكُل أَو يشرب
فِي مَكَانَهُ أَو يُوصي بِدِينِهِ أَو ببنيه طَال الْكَلَام أَو قل حَتَّى
روى ابْن سَمَّاعَة وَإِن تكلم بِكَلِمَة وَرُوِيَ فِي رِوَايَة أُخْرَى
إِن تكلم زِيَادَة على كلمة وَاحِدَة أَو يُصَلِّي أَو يمْضِي عَلَيْهِ
وَقت صَلَاة وَهُوَ يعقل وَيقدر على أَدَاء الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ حَتَّى
يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء بِالتّرْكِ أَو يبْقى حَيا يَوْمًا وَلَيْلَة فِي
المعركة وَإِن كَانَ لَا يقدر على أَدَاء الصَّلَاة بعد أَن كَانَ عَاقِلا
فَهُوَ مرتث وَإِن كَانَ حَيا أقل من يَوْم وَلَيْلَة وَهُوَ عَاقل أَو
كَانَ مغمى عَلَيْهِ لَا يعقل فَلَيْسَ بمرتث وَإِن زَاد على يَوْم
وَلَيْلَة
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد مثل قَول أبي يُوسُف فِي جَمِيع ذَلِك إِلَّا أَنه
قَالَ إِن عَاشَ فِي مَكَانَهُ يَوْمًا كَانَ مرتثا سَوَاء كَانَ عَاقِلا
أَو لم يكن وَإِن كَانَ أقل من ذَلِك فَلَيْسَ بمرتث وَكَذَلِكَ لم يَجْعَل
الْوَصِيَّة ارتثاثا هَكَذَا رُوِيَ عَنهُ مُطلقًا سَوَاء كَانَت
الْوَصِيَّة بِأُمُور الدُّنْيَا أَو الْآخِرَة قل أَو كثر
وَقَالَ فِي الزِّيَادَات إِن أوصى بِمثل وَصِيَّة سعد بن الرّبيع
وَنَحْوهَا ثمَّ مَاتَ لم يغسل وَإِن كثر ذَلِك فِي كَلَامه حَتَّى طَال
غسل
وَحَاصِل هَذَا أَنه إِذا صَار الْمَقْتُول بِحَال جرى عَلَيْهِ شَيْء من
أَحْكَام الدُّنْيَا أَو وصل إِلَيْهِ شَيْء من مَنَافِع الدُّنْيَا
فَإِنَّهُ يُوجب نُقْصَان شَهَادَته
(1/259)
ويخرجه عَن صفة شُهَدَاء أحد فسقوط الْغسْل
كَرَامَة لَهُم لَا يكون سقوطا فِي حق من هُوَ دونهم فِي معنى الشَّهَادَة
وَلِهَذَا غسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سعد بن معَاذ وَإِن
كَانَ شَهِيدا لما أَنه ارتث لما ذكر من أَحْكَام الدُّنْيَا ومصالحه
ثمَّ الشَّهِيد على هَذَا الْوَصْف الَّذِي ذكرنَا إِن كَانَ جنبا يغسل
عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدنَا لَا يغسل لعُمُوم الحَدِيث الْوَارِد فِي
الشُّهَدَاء وَلَكِن أَبَا حنيفَة قَالَ إِنَّه ورد دَلِيل خَاص فِي الْجنب
وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن حَنْظَلَة غسلته الْمَلَائِكَة بَعْدَمَا اسْتشْهد
وَقد كَانَ قتل جنبا فَصَارَ مَخْصُوصًا عَن الحَدِيث الْعَام
وَأما الْحَائِض أَو النُّفَسَاء فَإِن قتلت بعد انْقِطَاع الدَّم غسلت
عِنْد أبي حنيفَة لِأَن الْغسْل وَجب قبل الْمَوْت كَمَا وَجب بالجنابة
وَأما إِذا قتلت قبل انْقِطَاع الدَّم روى أَبُو يُوسُف عَنهُ أَنَّهَا لَا
تغسل روى الْحسن عَنهُ أَنَّهَا تغسل
وَمن وجد قَتِيلا فِي المعركة لَيْسَ بِهِ أثر الْقَتْل غسل لِأَنَّهُ لَو
كَانَ قَتِيلا لظهر بِهِ أثر الْقَتْل
فَإِن كَانَ الدَّم خرج من عينه أَو أُذُنه لم يغسل لِأَن خُرُوج الدَّم من
هَذِه الْمَوَاضِع من آثَار الْقَتْل ظَاهرا
وَإِن خرج من أَنفه أَو ذكره أَو دبره غسل لِأَنَّهُ مُحْتَمل فَلَا يسْقط
الْغسْل بِالِاحْتِمَالِ
وَإِن خرج الدَّم من جَوْفه لم يغسل لِأَن الظَّاهِر أَن خُرُوجه بِسَبَب
الضَّرْب وَقطع الْعرق
فَأَما الصَّلَاة على الشَّهِيد فواجبة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام صلى على شُهَدَاء
أحد وَلِأَن الشَّهِيد إِن اعْتبر بِمن عظمت دَرَجَته يجب أَن يصلى
عَلَيْهِ كالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِن اعْتبر بِسَائِر النَّاس
الَّذين لم يُوجد مِنْهُم مَا هُوَ
(1/260)
سَبَب سُقُوط الْمُوَالَاة يجب أَن يصلى
عَلَيْهِ لِأَن شَهَادَته إِن لم توجب زِيَادَة كَرَامَة فَلَا توجب
نُقْصَانا بِخِلَاف الْبُغَاة وقطاع الطَّرِيق لأَنهم حَرْب للْمُسلمين
وَلَا مُوالَاة بَينهم فَلم يستحقا الصَّلَاة الَّتِي شرعت قَضَاء لحقهم
بِسَبَب الْمُوَالَاة وَالله أعلم
(1/261)
|