تحفة الفقهاء

كتاب الزَّكَاة
اعْلَم أَن الزَّكَاة تثبت فرضيتها بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع على مَا ذكرنَا فِي كتاب الصَّلَاة
ثمَّ اخْتلف مَشَايِخنَا فِي كَيْفيَّة فرضيتها ذكر مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي عَن أَصْحَابنَا أَنَّهَا على التَّرَاخِي وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص أَنَّهَا على التَّرَاخِي
وَاسْتدلَّ بِمَسْأَلَة هَلَاك النّصاب بعد التَّأْخِير عَن أول الْحول أَنه لَا يضمن وَلَو وَجَبت على الْفَوْر لوَجَبَ الضَّمَان كتأخير الصَّوْم عَن شهر رَمَضَان
وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا أَنَّهَا على الْفَوْر وَذكر فِي الْمُنْتَقى عَن مُحَمَّد أَنَّهَا على الْفَوْر
وَحَاصِل الْخلاف أَن الْأَمر الْمُطلق عَن الْوَقْت على الْفَوْر أم على التَّرَاخِي على قَول بعض مَشَايِخنَا على التَّرَاخِي وعَلى قَول بَعضهم على الْفَوْر وَبِه قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور الماتريدي وَهَذِه من مسَائِل أصُول الْفِقْه تعرف ثمَّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ اعْلَم أَن مَال الزَّكَاة نَوْعَانِ السوائم وَمَال التِّجَارَة لِأَن من شَرط وجوب الزَّكَاة أَن يكون المَال ناميا وَالسَّمَاء من حَيْثُ الْعين يكون بالاسامة وَمن حَيْثُ الْمَعْنى بِالتِّجَارَة
ثمَّ مَال التِّجَارَة نَوْعَانِ الْأَثْمَان الْمُطلقَة وَهِي الذَّهَب وَالْفِضَّة

(1/263)


وَمَا سواهُمَا من السّلع غير أَن الْأَثْمَان خلقت فِي الأَصْل للتِّجَارَة فَلَا تحْتَاج إِلَى تعْيين الْعباد للتِّجَارَة بِالنِّيَّةِ فَتجب الزَّكَاة فِيهَا وَإِن لم ينْو التِّجَارَة أَو أمسك للنَّفَقَة فَأَما السّلع فَكَمَا هِيَ صَالِحَة للتِّجَارَة بهَا فَهِيَ صَالِحَة للِانْتِفَاع بِأَعْيَانِهَا بل هُوَ الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ مِنْهَا فَلَا بُد من النِّيَّة حَتَّى تصير للتِّجَارَة
إِذا ثَبت هَذَا فنبدأ بِزَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة فَنَقُول لَا يخلوا إِمَّا أَن يكون الْإِنْسَان لَهُ فضَّة مُفْردَة أَو ذهب مُفْرد أَو من الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا
فَإِن كَانَت لَهُ فضَّة مُفْردَة إِن كَانَ نِصَابا وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَم وزنا وزن سَبْعَة يجب عَلَيْهِ خَمْسَة دَرَاهِم ربع عشرهَا اجْتمع شَرَائِط الْوُجُوب
وَإِن كَانَ مَا دون ذَلِك لَا يجب لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كتب فِي كتاب الصَّدقَات لعَمْرو بن حزم الرقة لَيْسَ فِيهَا صَدَقَة حَتَّى تبلغ مِائَتَيْنِ فَإِذا بلغت مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم
ثمَّ الْفضة مَال الزَّكَاة كَيْفَمَا كَانَت مَضْرُوبَة أَو غير مَضْرُوبَة أَو تبرا أَو حليا يحل اسْتِعْمَالهَا أَو لَا أمْسكهَا للنَّفَقَة أَو لَا نوى التِّجَارَة أَو لم ينْو
وَكَذَلِكَ حلية السَّيْف واللجام والسرج وَالْكَوَاكِب الَّتِي فِي الْمَصَاحِف إِذا كَانَت تخلص عِنْد الإذابة

(1/264)


وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك الْجيد والرديء نَحْو النقرة السَّوْدَاء
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ إِذا كَانَت حليا يحل لبسهَا كحلي النِّسَاء وخواتيم الْفضة للرِّجَال وَنَحْوهَا لَا زَكَاة فِيهَا فِي أحد الْقَوْلَيْنِ
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لما روينَا من الحَدِيث من غير فصل
هَذَا إِذا كَانَت خَالِصَة أما إِذا كَانَت مختلطة بالغش إِن كَانَ الْغَالِب هُوَ الْفضة فَكَذَلِك الْجَواب لِأَن الْغِشّ مغمور مستهلك فِيهَا وَإِن كَانَ الْغَالِب هُوَ الْغِشّ وَهِي الستوقة إِن لم تكن أثمانا رائجة أَو معدة للتِّجَارَة فَلَا زَكَاة فِيهَا إِلَّا أَن تكون كَثِيرَة يبلغ مَا فِيهَا من الْفضة نِصَابا
أما إِذا كَانَت أثمانا رائجة أَو معدة للتِّجَارَة
فَإِن تعْتَبر قيمتهَا إِن بلغت نِصَابا من أدنى مَا تجب الزَّكَاة فِيهِ من الدَّرَاهِم الرَّديئَة فَإِنَّهُ تجب فِيهَا الزَّكَاة فَإِنَّهُ روى الْحسن عَن أبي حنيفَة فِيمَن كَانَ عِنْده فلوس أَو دَرَاهِم رصاص أَو نُحَاس مموهة بِحَيْثُ لَا تخلص مِنْهَا الْفضة إِن لم تكن للتِّجَارَة فَلَا زَكَاة فِيهَا وَإِن كَانَت للتِّجَارَة وَقيمتهَا تبلغ مِائَتي دِرْهَم رَدِيئَة فَفِيهَا الزَّكَاة
أما الغطارفة فبعض الْمُتَأَخِّرين قَالُوا يجب فِي كل مِائَتَيْنِ مِنْهَا ربع عشرهَا وَهُوَ خسمة مِنْهَا عددا لِأَنَّهَا من أعز الْأَثْمَان فِي دِيَارنَا
وَقَالَ السّلف ينظر إِن كَانَت أثمانا رائجة يعْتَبر قيمتهَا بِأَدْنَى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الدَّرَاهِم فَتجب الزَّكَاة فِي قيمتهَا وَإِن لم تكن رائجة فَإِن كَانَت سلعا للتِّجَارَة تعْتَبر قيمتهَا أَيْضا وَإِن لم تكن للتِّجَارَة فَفِيهَا الزَّكَاة بِقدر مَا فِيهَا من الْفضة إِن بلغت نِصَابا أَو بِالضَّمِّ إِلَى مَا عِنْده من مَال التِّجَارَة
وَهَذَا هُوَ الْأَصَح

(1/265)


وَأما الذَّهَب الْمُفْرد إِن يبلغ نِصَابا وَذَلِكَ عشرُون مِثْقَالا فَفِيهِ نصف مِثْقَال
وَإِن كَانَ أقل من ذَلِك فَلَا زَكَاة فِيهِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لعَلي يَا عَليّ لَيْسَ فِي الذَّهَب زَكَاة مَا لم يبلغ عشْرين مِثْقَالا فَإِذا بلغ عشْرين مِثْقَالا فَفِيهِ نصف مِثْقَال
ثمَّ الْجيد والرديء والتبر والمصوغ والمضروب والحلي فِيهِ سَوَاء خلافًا للشَّافِعِيّ فِي الْحلِيّ كَمَا فِي الْفضة
وَكَذَلِكَ الحكم فِي الدَّنَانِير الَّتِي الْغَالِب فِيهَا الذَّهَب كالمحمودية وَنَحْوهَا
فَأَما الهروية والمروية وَمَا لم يكن الْغَالِب فِيهَا الذَّهَب فَتعْتَبر قيمتهَا إِن كَانَت أثمانا رائجة أَو للتِّجَارَة وَإِلَّا فيتعبر قدر مَا فِيهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وزنا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يخلص بالإذابة
فَأَما إِذا زَاد على نِصَاب الذَّهَب أَو الْفضة فَلَا يجب فِي الزِّيَادَة شَيْء عِنْد أبي حنيفَة حَتَّى تبلغ أَرْبَعَة مَثَاقِيل فِي الذَّهَب فَيجب فِيهَا قيراطان وَأَرْبَعين من الدَّرَاهِم فَيجب فِيهَا دِرْهَم وَلَا تجب فِي أقل من ذَلِك
وَقَالَ أَبُو يُوسُف ومحمدالشافعي تجب الزَّكَاة فِي الكسور بِحِسَاب ذَلِك
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن فِي اعْتِبَار الكسور حرجا بِالنَّاسِ والحرج مَوْضُوع
فَأَما إِذا اجْتمع الصنفان فَإِنَّهُ ينظر إِن لم يكن كل وَاحِد مِنْهُمَا نِصَابا أَو كَانَ أَحدهمَا نِصَابا دون الآخر فَإِنَّهُ تجب ضم أَحدهمَا إِلَى الآخر حَتَّى يكمل النّصاب عندنَا

(1/266)


وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يضم لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَتَّى يجوز بيع أَحدهمَا بِالْآخرِ مُتَفَاضلا فَلَا يضم كَمَا فِي السوائم عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُمَا فِي معنى الثمنية وَالتِّجَارَة كشيء وَاحِد فَيجب الضَّم تكميلا للنصاب نظرا للْفُقَرَاء كَمَا فِي مَال التِّجَارَة بِخِلَاف السوائم لِأَن ثمَّة الحكم مُتَعَلق بالصورة وَالْمعْنَى فَلَا يتَحَقَّق تَكْمِيل النّصاب عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس
فَأَما إِذا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا نِصَابا وَلم يكن زَائِدا عَلَيْهِ فَلَا يجب الضَّم بل يَنْبَغِي أَن يُؤَدِّي من كل وَاحِد مِنْهُمَا زَكَاته
وَإِن زَاد على النصابين شَيْء فَإِن كَانَ أقل من أَرْبَعَة مَثَاقِيل أَو أقل من أَرْبَعِينَ درهما فَإِنَّهُ يجب ضم إِحْدَى الزيادتين إِلَى الْأُخْرَى ليتم أَرْبَعِينَ درهما أَو أَرْبَعَة مَثَاقِيل عِنْد أبي حنيفَة لِأَن عِنْده لَا تجب الزَّكَاة فِي الكسور
وَعِنْدَهُمَا لَا يجب ضم إِحْدَى الزيادتين إِلَى الْأُخْرَى لِأَن عِنْدهمَا تجب الزَّكَاة فِي الكسور بِحِسَاب ذَلِك
وَلَو ضم صَاحب المَال أحد النصابين إِلَى الآخر حَتَّى يُؤَدِّي كُله من الذَّهَب أَو من الْفضة فَلَا بَأْس بِهِ وَلَكِن يجب أَن يكون التَّقْوِيم بِمَا هُوَ أَنْفَع للْفُقَرَاء قدرا ورواجا وَإِلَّا فَيُؤَدِّي من كل وَاحِد ربع عشره
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي كَيْفيَّة الضَّم فَقَالَ أَبُو حنيفَة يضم بِاعْتِبَار الْقيمَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يضم بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء دون التَّقْوِيم
وَإِنَّمَا يظْهر الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ قيمَة أَحدهمَا لجودته أَو لصياغته أَزِيد على وَزنه بِأَن كَانَ لَهُ مائَة دِرْهَم وَخَمْسَة دَنَانِير قيمتهَا مائَة دِرْهَم

(1/267)


فَعِنْدَ أبي حنيفَة يقوم الدَّنَانِير بِخِلَاف جِنْسهَا دَرَاهِم ويضمها إِلَى الدَّرَاهِم فيكمل نِصَاب الدَّرَاهِم من حَيْثُ الْقيمَة فَيجب خَمْسَة دَرَاهِم نظرا للْفُقَرَاء وعَلى قَوْلهمَا يضم بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء دون التَّقْوِيم فيضم نصف نِصَاب الْفضة إِلَى ربع نِصَاب الذَّهَب فَيكون ثَلَاثَة أَربَاع أنصاب فَلَا يجب فِيهِ شَيْء
وَلَو كَانَ مائَة دِرْهَم وَعشرَة دَنَانِير قيمتهَا مائَة وَأَرْبَعُونَ فيضم بِاعْتِبَار الْقيمَة عِنْد أبي حنيفَة فتبلغ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين درهما فَيجب سِتَّة دَرَاهِم
وَعِنْدَهُمَا يضم بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء فَيكون نصف نِصَاب الْفضة وَنصف نِصَاب الذَّهَب نِصَابا تَاما فَيجب فِي نصف كل وَاحِد مِنْهُمَا ربع عشرَة
فَأَما إِذا كَانَ وزنهما وقيمتهما سَوَاء فَلَا يظْهر الْخلاف
فَإِن كَانَ مائَة دِرْهَم وَعشرَة دَنَانِير قيمتهَا مائَة دِرْهَم فَإِنَّهُ تجب الزَّكَاة فِيهِ بالِاتِّفَاقِ على اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ عِنْده يضم بِاعْتِبَار الْقيمَة وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء
وَلَو كَانَ مائَة دِرْهَم وَخَمْسَة دَنَانِير قيمتهَا خَمْسُونَ لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا بِالْإِجْمَاع لِأَن النّصاب لم يكمل بِالضَّمِّ لَا بِاعْتِبَار الْقيمَة وَلَا بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء
وَأَجْمعُوا أَنه لَا تعْتَبر الْقيمَة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة عِنْد الِانْفِرَاد فِي حق تَكْمِيل النّصاب حَتَّى إِنَّه إِذا كَانَ لَهُ إبريق فضَّة وَزنه مائَة دِرْهَم وَقِيمَته لصياغته مِائَتَا دِرْهَم لَا تجب فِيهِ الزَّكَاة بِاعْتِبَار الْقيمَة
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت آنِية ذهب وَزنهَا عشرَة وَقيمتهَا لصياغتها مِائَتَا دِرْهَم لَا تجب فِيهَا الزَّكَاة بِاعْتِبَار الْقيمَة لِأَن الْجَوْدَة فِي الْأَمْوَال الربوية لَا قيمَة لَهَا عِنْد الِانْفِرَاد وَلَا عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها عندنَا

(1/268)


خلافًا للشَّافِعِيّ لَكِن أَبَا حنيفَة ضم الدَّرَاهِم إِلَى الدَّنَانِير الَّتِي هِيَ خلاف جِنْسهَا لتظهر قيمَة الْجَوْدَة فيكمل النّصاب من حَيْثُ الْمَعْنى احْتِيَاطًا فِي بَاب الْعِبَادَة ونظرا للْفُقَرَاء

(1/269)


بَاب زَكَاة أَمْوَال التِّجَارَة
أصل الْبَاب مَا ذكرنَا أَن الْمُعْتَبر فِي بَاب التِّجَارَة معنى الْمَالِيَّة وَالْقيمَة دون الْعين لِأَن سَبَب وجوب الزَّكَاة هُوَ المَال النامي الْفَاضِل عَن الْحَاجة والنماء فِي مَال التِّجَارَة بالاسترباح وَذَلِكَ من حَيْثُ الْمَالِيَّة إِلَّا أَن حَقِيقَة النَّمَاء مِمَّا يتَعَذَّر اعْتِبَاره فأقيمت التِّجَارَة الَّتِي هِيَ سَبَب النَّمَاء مَعَ الْحول الَّذِي هُوَ زمَان النَّمَاء مقَامه فَمَتَى حَال الْحول على مَال التِّجَارَة يكون ناميا فَاضلا عَن الْحَاجة تَقْديرا
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول كل مَا كَانَ من أَمْوَال التِّجَارَة كَائِنا مَا كَانَ من الْعرُوض وَالْعَقار والمكيل وَالْمَوْزُون وَغَيرهَا تجب فِيهِ الزَّكَاة إِذا بلغ نِصَاب الذَّهَب أَو الْفضة وَحَال عَلَيْهِ الْحول وَهُوَ ربع عشره
وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ أَصْحَاب الظَّوَاهِر لَا زَكَاة فِيهَا
وَقَالَ مَالك لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا مَا دَامَت أعيانا فَإِذا نضت وَصَارَت دَرَاهِم أَو دَنَانِير تجب فِيهَا زَكَاة حول وَاحِد
وَالصَّحِيح قَول عَامَّة الْعلمَاء لما رُوِيَ عَن شمرة بن جُنْدُب عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كَانَ يَأْمُرنَا بِإِخْرَاج الزَّكَاة من الرَّقِيق الَّذِي نعده للْبيع وَالْمعْنَى مَا ذكرنَا فِي الأَصْل

(1/271)


ثمَّ مَا سوى الذَّهَب وَالْفِضَّة إِنَّمَا يصير للتِّجَارَة بِالنِّيَّةِ وَالتِّجَارَة جَمِيعًا حَتَّى إِنَّه إِذا كَانَ لَهُ عرُوض للبذلة والمهنة ثمَّ نوى أَن تكون للتِّجَارَة بعد ذَلِك لَا تصير للتِّجَارَة مَا لم يُوجد مِنْهُ الشِّرَاء بعد ذَلِك بذلك المَال فَيكون بدله للتِّجَارَة
فَأَما إِذا كَانَ لَهُ مَال للتِّجَارَة وَنوى أَن يكون للبذلة يخرج عَن التِّجَارَة وَإِن لم يَسْتَعْمِلهُ لِأَن التِّجَارَة عمل مَعْلُوم وَلَا يُوجد بِمُجَرَّد النِّيَّة فَلَا يعْتَبر مُجَرّد النِّيَّة فَأَما إِذا نوى الابتذال فقد ترك التِّجَارَة للْحَال فَتكون النِّيَّة مُقَارنَة لعمل هُوَ ترك التِّجَارَة فاعتبرت النِّيَّة
ثمَّ مَال الزَّكَاة يعْتَبر فِيهِ كَمَال النّصاب فِي أول الْحول وَآخره
ونقصان النّصاب بَين طرفِي الْحول لَا يمْنَع وجوب الزَّكَاة سَوَاء كَانَ مَال التِّجَارَة أَو الذَّهَب وَالْفِضَّة أَو السوائم
هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وَقَالَ زفر يعْتَبر كَمَال النّصاب من أَوله إِلَى آخِره وَالنُّقْصَان فِيمَا بَين ذَلِك يقطع حكم الْحول
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي غير أَمْوَال التِّجَارَة فَأَما فِي مَال التِّجَارَة فَيعْتَبر كَمَا النّصاب فِي آخر الْحول لَا فِي أَوله ووسطه
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ كَمَال النّصاب شَرط وجوب الزَّكَاة فَيعْتَبر حَال انْعِقَاد السَّبَب وَحَال ثُبُوت الحكم وَهُوَ أول الْحول وَآخره ووسط الْحول لَيْسَ حَال انْعِقَاد لسَبَب وَلَا حَال الْوُجُوب فَلَا يجب اشْتِرَاطه فِيهِ
فَأَما إِذا هلك النّصاب أصلا بِحَيْثُ لم يبْق مِنْهُ شَيْء يسْتَأْنف الْحول لِأَنَّهُ لم يُوجد شَيْء من النّصاب الْأَصْلِيّ حَتَّى يضم إِلَيْهِ الْمُسْتَفَاد

(1/272)


وَفِي الْفَصْل الأول بعض الأَصْل بَاقٍ فيضم إِلَيْهِ الْمُسْتَفَاد فيتكامل الْحول
وَلَو استبدل أَمْوَال التِّجَارَة كلهَا فِي الْحول بِجِنْس آخر لم يَنْقَطِع الْحول وَإِن هلك الْجِنْس الأول لِأَن الأول قَائِم من حَيْثُ الْمَعْنى وَهُوَ الْمَالِيَّة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير إِذا بَاعهَا بجنسها أَو بِخِلَاف جِنْسهَا أَعنِي الدَّرَاهِم أَو بِالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِع حكم الْحول لِأَن الحكم ثمَّة مُتَعَلق بِالْمَعْنَى أَيْضا وعَلى قَول الشَّافِعِي يَنْقَطِع لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فعلى قَول مذْهبه لَا تجب الزَّكَاة فِي أَمْوَال الصيارفة لوُجُود الِاسْتِبْدَال فِي كل سَاعَة
وَأما إِذا بَاعَ السَّائِمَة بالسائمة فَإِن بَاعَ الْجِنْس بِخِلَاف الْجِنْس كَالْإِبِلِ بالبقر يَنْقَطِع الْحول بالِاتِّفَاقِ
أما إِذا بَاعَ الْجِنْس بِالْجِنْسِ فَيَنْقَطِع عندنَا خلافًا لزفَر
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الزَّكَاة فِي السوائم تتَعَلَّق بِالْعينِ والأعيان مُخْتَلفَة فَلم يتم الْحول على النّصاب لَا حَقِيقَة وَلَا تَقْديرا
ثمَّ إِذا تمّ الْحول على مَال التِّجَارَة فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن يقومها حَتَّى يعرف مِقْدَار مَال الزَّكَاة لَكِن عِنْد أبي حنيفَة يقوم بِمَا هُوَ أوفى الْقِيمَتَيْنِ وأنظرهما للْفُقَرَاء من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير كَذَا ذكر هَهُنَا وَذكر فِي كتاب الزَّكَاة وَقَالَ إِن شَاءَ قَومهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِن شَاءَ قَومهَا بِالدَّنَانِيرِ
ومشايخنا حملُوا رِوَايَة كتاب الزَّكَاة على مَا إِذا كَانَ لَا يتَفَاوَت النَّفْع فِي حق الْفُقَرَاء بالتقويم بِأَيِّهِمَا كَانَ حَتَّى يكون جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ
وَلَكِن كَيْفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يقوم بِأَدْنَى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير

(1/273)


وروى محمدعن أبي يُوسُف أَنه قَالَ يقوم الثّمن الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ دَرَاهِم كَانَ أَو دَنَانِير وَإِن كَانَ الثّمن من الْعرُوض يقوم بِالنَّقْدِ الْغَالِب فِي ذَلِك الْموضع
وَذكر ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد إِنَّمَا يقوم بِالنَّقْدِ الْغَالِب فِي ذَلِك الْموضع
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ مَعَ عرُوض التِّجَارَة ذهب وَفِضة فَإِنَّهُ يضمها إِلَى الْعرُوض وَيقوم جملَة لَكِن على قَول أبي حنيفَة يضمها بِاعْتِبَار الْقيمَة إِن شَاءَ قوم الْعرُوض وَضمّهَا إِلَى الدَّرَاهِم أَو الدَّنَانِير وَإِن شَاءَ قوم الذَّهَب وَالْفِضَّة وَضم قيمتهمَا إِلَى قيمَة أَعْيَان التِّجَارَة وَعِنْدَهُمَا يضم بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء فَيقوم الْعرُوض وَيضم قيمتهَا إِلَى مَا عِنْده من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن بلغت الْجُمْلَة نِصَابا تجب الزَّكَاة وَإِلَّا فَلَا وَلَا يقوم الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير عِنْدهمَا أصلا فِي بَاب الزَّكَاة
ثمَّ إِنَّمَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الزَّكَاة إِذا لم يكن مُسْتَحقّا بدين مطَالب من جِهَة الْعباد أَو شَيْء مِنْهُ
فَأَما إِذا كَانَ مُسْتَحقّا بِهِ فَلَا تجب الزَّكَاة بِقدر الدّين لِأَن المَال الْمُسْتَحق بِالدّينِ مُحْتَاج إِلَيْهِ وَسبب وجوب الزَّكَاة هُوَ المَال الْفَاضِل عَن الْحَاجة الْمعد للنماء وَالزِّيَادَة
ثمَّ الدُّيُون على ضَرْبَيْنِ دين يُطَالب بِهِ وَيحبس من جِهَة الْعباد كديون الْعباد حَالَة كَانَت أَو مُؤَجّلَة وَهُوَ يمْنَع لما ذكرنَا من الْمَعْنى
وَكَذَلِكَ مهر الْمَرْأَة يمْنَع مُؤَجّلا كَانَ أَو معجلا لِأَنَّهَا إِذا طالبت يُؤَاخذ بِهِ وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا إِن الْمُؤَجل لَا يمْنَع لِأَنَّهُ غير مطَالب بِهِ عَادَة فَأَما الْمُعَجل فمطالب بِهِ عَادَة فَمنع

(1/274)


وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا إِن كَانَ الْمُعَجل على عزم من قَضَائِهِ يمْنَع وَإِن لم يكن على عزم الْأَدَاء لَا يمْنَع لِأَنَّهُ لَا يعده دينا والمرء يُؤَاخذ بِمَا عِنْده فِي بَاب الْأَحْكَام وَهَذَا غير صَحِيح
فَأَما الزَّكَاة الْوَاجِبَة فِي النّصاب أَو دين الزَّكَاة بِأَن أتلف مَال الزَّكَاة حَتَّى انْتقل من الْعين إِلَى الذِّمَّة فَكل ذَلِك يمْنَع وجوب الزَّكَاة عِنْدهمَا
وَقَالَ زفر لَا يمْنَع كِلَاهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف وجوب الزَّكَاة فِي النّصاب يمْنَع وَدين الزَّكَاة لَا يمْنَع
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن زَكَاة السوائم مطَالب بهَا حَقِيقَة من جِهَة السُّلْطَان عينا كَانَ أَو دينا وَزَكَاة التِّجَارَة مطَالب بهَا تَقْديرا لِأَن حق الْأَخْذ للسُّلْطَان وَلِهَذَا كَانَ يَأْخُذهَا الإِمَام إِلَى زمن عُثْمَان ثمَّ فوض إِلَى أَرْبَابهَا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة لمصْلحَة رَأْي فِي ذَلِك فَيصير أَرْبَاب الْأَمْوَال كالوكلاء عَن السُّلْطَان فَلَا يبطل حق السُّلْطَان عَن الْأَخْذ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِن الإِمَام إِذا علم من أهل بَلْدَة أَنهم يتركون أَدَاء الزَّكَاة من الْأَمْوَال الْبَاطِنَة فَإِنَّهُ يطالبهم بهَا وَلَكِن لَو أَرَادَ الإِمَام أَن يَأْخُذهَا بِنَفسِهِ من غير تُهْمَة التّرْك من أَرْبَابهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِك لما فِيهِ من مُخَالفَة إِجْمَاع الصَّحَابَة
وَأما الدُّيُون الَّتِي هِيَ غير مطَالب بهَا من جِهَة الْعباد كديون الله تَعَالَى من النذور وَالْكَفَّارَات وَصدقَة الْفطر وَوُجُوب الْحَج وَنَحْوهَا فَلَا تمنع لِأَنَّهُ لَا يُطَالب بهَا فِي الدُّنْيَا
وَهَذَا كُله مَذْهَب أَصْحَابنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي الدّين لَا يمْنَع وجوب الزَّكَاة كَيْفَمَا كَانَ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(1/275)


ثمَّ التَّصَرُّف فِي مَال الزَّكَاة بعد وُجُوبهَا جَائِز كَيْفَمَا كَانَ عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز بِقدر الزَّكَاة قولا وَاحِدًا وَفِيمَا زَاد على قدر الْوَاجِب قَولَانِ
ثمَّ ينظر عندنَا إِن كَانَ تَصرفا ينْقل الْوَاجِب إِلَى مَحل مثله لَا يضمن الزَّكَاة وَيصير الْمحل الثَّانِي كَالْأولِ فَيبقى الْوَاجِب بِبَقَائِهِ وَيهْلك بهلاكه وَإِن كَانَ تَصرفا لَا ينْقل الْوَاجِب إِلَى مَحل مثله فَإِنَّهُ يضمن لِأَنَّهُ يصير متلفا فَيبقى الضَّمَان فِي الذِّمَّة فَلَا يهْلك الْوَاجِب بِهَلَاك ذَلِك الْبَدَل
إِذا ثَبت هَذَا نقُول إِذا كَانَ لَهُ سوائم فَبَاعَهَا بعد الْحول بجنسها أَو بِخِلَاف جِنْسهَا من الْحَيَوَان وَالْعرُوض والأثمان فَإِنَّهُ يضمن وَلَا ينْتَقل الْوَاجِب إِلَى مَا جعله بَدَلا حَتَّى لَا يسْقط بِهَلَاك ذَلِك الْبَدَل لِأَن الْوَاجِب فِي السوائم مُتَعَلق بِالْعينِ صُورَة وَمعنى فَالْبيع يكون إتلافا لَا استبدالا ونقلا فَيضمن
وَأما إِذا كَانَ مَال التِّجَارَة فَبَاعَهَا بعد الْحول بِدَرَاهِم أَو بِدَنَانِير أَو بعروض التِّجَارَة أَو مُطلقًا بِمثل قِيمَته أَو بِمَا يتَغَابَن النَّاس فِي مثله لَا يضمن وَيكون نقلا للْوَاجِب من مَحل إِلَى مثله معنى لِأَن الْمُعْتَبر فِي مَال التِّجَارَة هُوَ معنى الْمَالِيَّة دون الصُّورَة فَيبقى الْوَاجِب بِبَقَائِهِ وَيهْلك بهلاكه
وَلَو حابى قدر مَا لَا يتَغَابَن النَّاس فِي مثله يكون زَكَاة مَا حابى دينا فِي ذمَّته وَزَكَاة مَا بَقِي يتَحَوَّل إِلَى الْعين فَيبقى بِبَقَائِهِ ويفوت بفواته
وَإِذا بَاعه بِمَال لَا تجب فِيهِ الزَّكَاة بِأَن بَاعه بعروض وَنوى أَن يكون الْمُشْتَرى للبذلة أَو اسْتَأْجر بِهِ عينا من الْأَعْيَان يضمن لِأَن الْمَنَافِع

(1/276)


وَإِن كَانَت مَالا وَلَكِن لَيست بِمَال الزَّكَاة لِأَنَّهُ لَا بَقَاء لَهَا
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعه بالسوائم على أَن يَتْرُكهَا سَائِمَة فَإِنَّهُ يضمن أَيْضا لِأَن زَكَاة التِّجَارَة خلاف زَكَاة السَّائِمَة فَيكون ذَلِك إتلافا
وَكَذَلِكَ إِذا أخرجه عَن ملكه بِغَيْر بدل نَحْو الْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالْوَصِيَّة أَو بدل لَيْسَ بِمَال نَحْو أَن يتَزَوَّج عَلَيْهِ أَو يُصَالح بِهِ عَن دم الْعمد أَو يختلع بِهِ الْمَرْأَة فالزكاة مَضْمُونَة عَلَيْهِ لِأَن هَذَا إِتْلَاف
وَكَذَلِكَ إِذا اسْتَهْلكهُ حَقِيقَة بِالْأَكْلِ وَالشرب واللبس وَنَحْو ذَلِك
ثمَّ الْمُسْتَفَاد على ضَرْبَيْنِ متولد من الأَصْل حَاصِل بِسَبَبِهِ كالأولاد والأرباح وَغير متولد مِنْهُ وَلَا حَاصِل بِسَبَبِهِ بل حَاصِل بِسَبَب مَقْصُود فِي نَفسه كالموروث والموهوب والمشترى وَنَحْو ذَلِك
وكل ذَلِك على نَوْعَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون مستفادا بعد الْحول وَالثَّانِي أَن يكون مستفادا فِي الْحول
وَالْأَصْل فِي الْبَاب أَن الْحول الْمَوْجُود فِي حق الأَصْل كالموجود فِي حق التبع فَكل مُسْتَفَاد هُوَ تبع للْأَصْل تجب فِيهِ الزَّكَاة وَإِلَّا فَلَا
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول أما الْمُسْتَفَاد بعد الْحول فَلَا يضم بِالْإِجْمَاع فِي حق السّنة الْمَاضِيَة وَإِنَّمَا يضم فِي حق الْحول الَّذِي اسْتُفِيدَ فِيهِ لِأَن النّصاب بعد الْحول كالمتجدد حكما لِأَنَّهُ يَتَجَدَّد النَّمَاء بتجدد الْحول والنصاب هُوَ المَال الْمَوْصُوف بالنماء دون مُطلق المَال وَإِذا تجدّد النَّمَاء جعل النّصاب كالمتجدد وَيجْعَل النّصاب الْمَوْجُود فِي الْحول الأول كَالْعدمِ والمستفاد يَجْعَل تبعا للنصاب الْمَوْجُود دون الْمَعْدُوم
وَأما الْمُسْتَفَاد فِي الْحول فَإِن كَانَ من خلاف جنسه كَالْإِبِلِ مَعَ الشَّاة وَنَحْوهَا لَا يضم بِالْإِجْمَاع لِأَن الزِّيَادَة تجْعَل تبعا للمزيد عَلَيْهِ

(1/277)


من وَجه وَخلاف الْجِنْس لَا يكون زِيَادَة لِأَن الأَصْل لَا يزْدَاد بِهِ وَلَا يتكثر
وَأما إِذا كَانَ من جنسه إِن كَانَ حَاصِلا بِسَبَب التفرع والاسترباح فيضم بِالْإِجْمَاع كالأولاد والأرباح لِأَنَّهُ تَابع لِلْأُصُولِ حَقِيقَة
وَأما إِذا لم يكن متولدا حَاصِلا بِسَبَبِهِ كالموروث والموهوب وَالْمَيِّت وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ يضم عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يضم لِأَنَّهُ أصل ملك بِسَبَب مَقْصُود فَكيف يكون تبعا
وَقُلْنَا نَحن هُوَ أصل من هَذَا الْوَجْه وَلَكِن تبع من حَيْثُ أَن الأَصْل يتكثر بِهِ ويزداد وَالزِّيَادَة تبع للمزيد عَلَيْهِ فاعتبرنا جِهَة التّبعِيَّة فِي حق الْحول احْتِيَاطًا لوُجُوب الزَّكَاة
ثمَّ إِنَّمَا يضم عندنَا إِذا كَانَ الأَصْل نِصَابا
فَأَما إِذا كَانَ أقل مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يضم إِلَيْهِ الْمُسْتَفَاد وَإِن تَكَامل بِهِ النّصاب لِأَن الأَصْل إِذا لم يكن سَبَب الْوُجُوب لقلته فَكيف يتبع الْمُسْتَفَاد إِيَّاه فِي حكمه وَأما الْمُسْتَفَاد إِذا كَانَ ثمن الأَصْل المزكى فَإِنَّهُ لَا يضم إِلَى مَا عِنْده من النّصاب من جنسه عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يضم لما ذكرنَا من الْمَعْنى ف أَبُو حنيفَة يَقُول إِن الثنى حرَام فِي بَاب الزَّكَاة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا ثنى فِي الصَّدَقَة
والمستفاد أصل من وَجه تبع من وَجه فَمن حَيْثُ إِنَّه أصل لَا يضم وَمن حَيْثُ إِنَّه تبع يضم فَوَقع التَّعَارُض هُنَا إِن اعْتبر معنى الْوُجُوب بِضَم وَإِن اعْتبر معنى حُرْمَة الثنى لَا يضم فَلَا يضم مَعَ الشَّك بِخِلَاف غَيره من الْمُسْتَفَاد على مَا مر

(1/278)


وَصُورَة الْمَسْأَلَة رجل لَهُ خمس من الْإِبِل السَّائِمَة وَمِائَتَا دِرْهَم فتم الْحول على السَّائِمَة وزكاها ثمَّ بَاعهَا بِدَرَاهِم ثمَّ تمّ حول الدَّرَاهِم يضم الثّمن إِلَى الدَّرَاهِم الَّتِي عِنْده ويزكي الْكل عِنْدهمَا وعندأبي حنيفَة يسْتَأْنف لَهَا حول على حِدة
وَلَو جعل هَذِه الْإِبِل علوفة بَعْدَمَا زكاها ثمَّ بَاعهَا ثمَّ حَال الْحول على الدَّرَاهِم الَّتِي عِنْده فَإِنَّهُ يضم ثمنهَا إِلَى مَا عِنْده فيزكي الْكل كَذَا ذكر فِي الْكتاب
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا هَذَا قَوْلهمَا فَأَما على قَول أبي حنيفَة فَيجب أَن لَا يضم
وَالصَّحِيح أَن هَذَا بالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لما جعلهَا علوفة فقد خرجت من أَن تكون مَال الزَّكَاة بِفَوَات وصف النَّمَاء فَجعل كَأَن مَال الزَّكَاة قد هلك وَحدثت عين أُخْرَى من حَيْثُ الْمَعْنى فَلَا يُؤَدِّي إِلَى الثنى من وَجه
وَلَو كَانَ لَهُ عبد للْخدمَة فَأدى صَدَقَة فطره أَو كَانَ طَعَاما أدّى عشره أَو أَرضًا أدّى خراجها ثمَّ بَاعهَا فَإِن الثّمن يضم إِلَى مَا عِنْده بالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بذل مَال الزَّكَاة وَهُوَ المَال الْفَاضِل عَن الْحَاجة فَلَا يُؤَدِّي إِلَى شُبْهَة الثنى
وَلَو اسْتَفَادَ دَرَاهِم بِالْإِرْثِ أَو الْهِبَة وَعِنْده نصابان أَحدهمَا أَثمَان الْإِبِل المزكاة وَالثَّانِي نِصَاب آخر من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِنَّهُ يضم إِلَى أقربهما حولا فَإِن كَانَ أدّى زَكَاة النّصاب الَّذِي هُوَ غير ثمن الْإِبِل فَإِنَّهُ يضم إِلَى أَثمَان الْإِبِل لِأَنَّهَا أقرب إِلَى الْحول فَكَانَ أَنْفَع للْفُقَرَاء
وَلَو أَنه لم يُوهب لَهُ وَلَكِن تصرف فِي النّصاب الأول بَعْدَمَا أدّى زَكَاته وَربح فِيهِ ربحا وَلم يحل حول أَثمَان الْإِبِل المزكاة فَإِن الرِّبْح

(1/279)


يضم إِلَى النّصاب الَّذِي ربح فِيهِ دون أَثمَان الْإِبِل المزكاة وَإِن كَانَ أبعد حولا من الْأَثْمَان بِخِلَاف الأول لِأَنَّهُمَا اسْتَويَا فِي التّبعِيَّة ثمَّة فترجح الْأَقْرَب حولا بِالضَّمِّ إِلَيْهِ نطرا للْفُقَرَاء لما فِيهِ من زِيَادَة النَّفْع وَهنا لم يستويا فِي التّبعِيَّة فَإِنَّهُ تبع لأَحَدهمَا حَقِيقَة فَلَا يقطع حكم التبع عَن الأَصْل

(1/280)


بَاب زَكَاة السوائم
أصل الْبَاب مَا ذكرنَا أَن سَبَب وجوب الزَّكَاة هُوَ المَال النامي الْفَاضِل عَن الْحَاجة
ثمَّ قدر الْفضل والغنى متفاوت فِي نَفسه لَا يعرف حَده بِالرَّأْيِ فجَاء الشَّرْع بِالنّصب لبَيَان مِقْدَار الْغنى الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الْوُجُوب فَوَجَبَ اعْتِبَار التَّوْقِيف فِي النصب على الْوَجْه الَّذِي ورد الشَّرْع بِهِ
ثمَّ فِي الْبَاب فصلان أَحدهمَا فِي بَيَان النصب وصفاتها
وَالثَّانِي فِي بَيَان قدر الْوَاجِب وَصِفَاته
أما الأول فَنَقُول بِأَن نِصَاب السوائم مُخْتَلف فنبدأ بِالْإِبِلِ
اتّفقت الْأَحَادِيث إِلَى مائَة وَعشْرين وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع أَن لَا زَكَاة فِي الْإِبِل مَا لم تبلغ خمْسا
فَإِذا كَانَت خمْسا فَفِيهَا شَاة إِلَى تسع
فَإِذا كَانَت عشرا فَفِيهَا شَاتَان إِلَى أَربع عشرَة
فَإِذا كَانَت خمس عشرَة فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه إِلَى تسع عشرَة
فَإِذا كَانَت عشْرين فَفِيهَا أَربع شِيَاه إِلَى أَربع وَعشْرين

(1/281)


فَإِذا كَانَت خمْسا وَعشْرين فَفِيهَا بنت مَخَاض إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ
فَإِذا كَانَت سِتا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بنت لبون إِلَى خمس وَأَرْبَعين
فَإِذا كَانَت سِتا وَأَرْبَعين فَفِيهَا حقة إِلَى سِتِّينَ
فَإِذا كَانَت إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَة إِلَى خمس وَسبعين
فَإِذا كَانَت سِتا وَسبعين فَفِيهَا بِنْتا لبون إِلَى تسعين
فَإِذا كَانَت إِحْدَى وَتِسْعين فَفِيهَا حقتان إِلَى مائَة وَعشْرين
فَأَما إِذا زَادَت الْإِبِل على مائَة وَعشْرين وَاحِدَة فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك إِلَى تَمام الْخمسين فَقَالَ أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ نستأنف الْفَرِيضَة ويدار الْحساب على الخمسينات فِي النّصاب وعَلى احقاق فِي الْوَاجِب وَلَكِن بِشَرْط عود مَا قبله من الْوَاجِبَات والأقاوص بِقدر مَا يدْخل فِيهِ
بَيَان ذَلِك أَنه إِذا زَادَت الْإِبِل على مائَة وَعشْرين فَلَا يجب فِي الزِّيَادَة شَيْء مَا لم تبلغ خمْسا
فَإِذا صَارَت مائَة وخمسا وَعشْرين فَيجب فِيهَا حقتان وشَاة
وَفِي مائَة وَثَلَاثِينَ حقتان وشاتان
وَفِي مائَة وَخمْس وَثَلَاثِينَ حقتان وَثَلَاث شِيَاه
وَفِي مائَة وَخمْس وَأَرْبَعين حقتان وَأَرْبع شِيَاه
وَفِي مائَة وَخمْس وَأَرْبَعين حقتان وَبنت مَخَاض إِلَى مائَة وتسع وَأَرْبَعين
فَإِذا صَارَت مائَة وَخمسين فَفِيهَا ثَلَاث حقاق فِي كل خمسين حقة
ثمَّ تسْتَأْنف الْفَرِيضَة فَلَا يجب فِي أقل من الْخمس شَيْء
فَإِذا صَارَت مائَة وخمسا وَخمسين فَفِيهَا ثَلَاث حقاق وشَاة

(1/282)


فَإِذا صَارَت مائَة وَسِتِّينَ فَفِيهَا ثَلَاث حقاق وشاتان
فَإِذا صَارَت مائَة وخمسا وَسِتِّينَ فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه وَثَلَاث حقاق
فَإِذا كَانَت مائَة وَسبعين فَفِيهَا أَربع شِيَاه وَثَلَاث حقاق
فَإِذا كَانَت مائَة وخمسا وَسبعين فَفِيهَا ثَلَاث حقاق وَبنت مَخَاض
فَإِذا كَانَت مائَة وستا وَثَمَانِينَ فَفِيهَا ثَلَاث حقاق وَبنت لبون
فَإِذا كَانَت مائَة وستا وَتِسْعين فَفِيهَا أَربع حقاق إِلَى مِائَتَيْنِ
فَإِذا زَادَت عَلَيْهَا تسْتَأْنف الْفَرِيضَة مِثْلَمَا استؤنفت فِي مائَة وَخمسين إِلَى مِائَتَيْنِ فَيدْخل فِيهَا بنت مَخَاض وَبنت لبون وحقة مَعَ الشَّاة
وَقَالَ مَالك فِي قَول إِذا زَادَت الْإِبِل على مائَة وَعشْرين وَاحِدَة الْمُصدق بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ مِنْهَا ثَلَاث بَنَات لبون وَإِن شَاءَ تَركهَا حَتَّى بلغ مائَة وَثَلَاثِينَ فَيَأْخُذ مِنْهَا بِنْتي لبون وحقة
وَفِي قَول إِذا زَادَت على مائَة وَعشْرين وَاحِدَة فَفِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَلَيْسَ فِيهَا إِلَى مائَة وَتِسْعَة وَعشْرين شَيْء فَإِذا صَارَت مائَة وَثَلَاثِينَ فَبعد ذَلِك يَجْعَل كل تِسْعَة عفوا وَيجب فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَفِي كل خمسين حقة فيدور الْحساب فِي النصب على الخمسينات والأربعينات وَفِي الْوَاجِب على الحقاق وَبَنَات اللَّبُون
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا فَإِن الْأَحَادِيث قد تَعَارَضَت فقد رُوِيَ اسْتِئْنَاف الْفَرِيضَة كَمَا قُلْنَا وَرُوِيَ كَمَا قَالَا وَلَكِن التَّرْجِيح لما قُلْنَا فَإِنَّهُ مَذْهَب عَليّ وَعبد الله بن مَسْعُود وَكَانَا من فُقَهَاء الصَّحَابَة وَهَذَا بَاب لَا يجْرِي فِيهِ الْقيَاس والرأي فَكَانَ ذَلِك دَلِيلا على الِاسْتِقْرَار على الْوَجْه الَّذِي قَالَا من حَيْثُ التَّوْقِيف من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
وَأما نِصَاب الْبَقر فَنَقُول لَيْسَ فِي أقل من ثَلَاثِينَ من الْبَقر صَدَقَة

(1/283)


فَإِذا بلغت ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تبيع أَو تبيعة وَلَا شَيْء فِي الزِّيَادَة إِلَى تسع وَثَلَاثِينَ
فَإِذا صَارَت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّة
وَهَذَا بِلَا خلاف بَين الْأمة فَأَما إِذا زَادَت على الْأَرْبَعين فقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِيهَا عَن أبي حنيفَة ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة أَنه تجب مُسِنَّة وَفِي الزِّيَادَة بِحِسَاب ذَلِك يَعْنِي إِن كَانَت الزِّيَادَة وَاحِدَة تجب مُسِنَّة وجزء من أَرْبَعِينَ جُزْءا من مُسِنَّة وَفِي الاثنتين وَأَرْبَعين مُسِنَّة وجزآن من أَرْبَعِينَ جُزْءا من مُسِنَّة
وَكَذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ على هَذَا الِاعْتِبَار
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب فِي الزِّيَادَة شَيْء حَتَّى تبلغ خمسين فَإِذا كَانَت خمسين فَفِيهَا مُسِنَّة وَربع مُسِنَّة أَو ثلث تبيع لِأَن الزِّيَادَة عشر وَهِي ثلث وَثَلَاثِينَ وَربع أَرْبَعِينَ فَإِن شَاءَ أعْطى ربع المسنة وَإِن شَاءَ أعْطى ثلث التّبعِيَّة إِلَى سِتِّينَ
وروى أَسد بن عَمْرو عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ لَا شَيْء فِي الزِّيَادَة حَتَّى تبلغ سِتِّينَ فَيكون فِيهَا تبيعان أَو تبيعتان
وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ
وَهَذِه الرِّوَايَة أعدل لما رُوِيَ عَن معاذأنه قيل لَهُ مَاذَا تَقول فِيمَا بَين الْأَرْبَعين إِلَى السِّتين من الْبَقر فَقَالَ تِلْكَ أوقاص لَا شَيْء فِيهَا
وَأما إِذا زَادَت على السِّتين فَإِنَّهُ يدار الْحساب على الأربعينات والثلاثينات فِي النصب وعَلى الأتبعة والمسنات فِي القريضة وَيجْعَل تِسْعَة بَينهمَا عفوا فَيجب فِي كل ثَلَاثِينَ تبيع أَو تبيعة وَفِي كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة فَإِذا كَانَت سبعين فَفِيهَا مُسِنَّة وتبيع وَفِي الثَّمَانِينَ مسنتان

(1/284)


وَفِي التسعين ثَلَاثَة أتبعة وَفِي الْمِائَة مُسِنَّة وتبيعتان وَفِي الْمِائَة وَالْعشرَة مسنتان وتبيع وَفِي الْمِائَة وَالْعِشْرين ثَلَاث مسنات أَو أَربع أتبعة
وعَلى هَذَا الِاعْتِبَار يدار الْحساب
وَأما نِصَاب الْغنم فَلَيْسَ فِي أقل من أَرْبَعِينَ شَاة شَيْء
فَإِذا بلغت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاة وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَة شَيْء حَتَّى تبلغ مائَة وَعشْرين
فَإِذا زَادَت وَاحِدَة فَفِيهَا شَاتَان إِلَى مِائَتَيْنِ
فَإِذا زَادَت وَاحِدَة فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه ثمَّ لَا شَيْء فِيهَا حَتَّى تبلغ أَرْبَعمِائَة
فَإِذا كَانَت أَرْبَعمِائَة فَفِيهَا أَربع شِيَاه
ثمَّ فِي كل مائَة شَاة شَاة وَإِن كثرت
هَذَا الَّذِي ذكرنَا بَيَان قدر النصب فَأَما بَيَان صفة النّصاب فَهُوَ أَن يكون مَوْصُوفا بالإسامة حَتَّى لَا تجب الزَّكَاة فِي العلوفة والحمولة لما ذكرنَا أَن الزَّكَاة لَا تجب إِلَّا فِي المَال النامي والنماء فِي الْحَيَوَان بالإسامة
وَرُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَيْسَ فِي العوامل والحوامل صَدَقَة
والسائمة هِيَ الَّتِي تسام فِي البراري لقصد الدّرّ والنسل حَتَّى إِذا أسيمت للْحَمْل وَالرُّكُوب لَا للدر والنسل لَا تجب فِيهَا الزَّكَاة وَكَذَلِكَ إِذا أسيمت للْبيع وَقصد التِّجَارَة لَا للدر والنسل لَا يجب فِيهَا زَكَاة السَّائِمَة عندنَا وَلَكِن تجب فِيهَا زَكَاة التِّجَارَة
ثمَّ لَيْسَ الشَّرْط أَن تسام فِي جَمِيع السّنة فِي البراري بل الْمُعْتَبر هُوَ

(1/285)


الْغَالِب فَإِن كَانَ أَكثر السّنة تسام فِي البراري وتعلف فِي الْأَمْصَار فِي أقل السّنة فَهِيَ سَائِمَة
وَمن صِفَات النّصاب أَن يكون الْجِنْس وَاحِدًا كَالْإِبِلِ وَالْبَقر وَالْغنم وَإِن اخْتلفت صفاتها من الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَاخْتلفت أَنْوَاعهَا كالغراب والبخاتي وَالْبَقر والجواميس والضأن والمعز لِأَن اسْم الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم يتَنَاوَل الْكل
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ بَيَان قدر الْوَاجِب وَصِفَاته فَنَقُول أما قدر الْوَاجِب من الْإِبِل فَمَا ذكرنَا من بنت الْمَخَاض وَبنت اللَّبُون والحقة والجذعة
وَفِي الْبَقَرَة التبيع والتبيعة والمسنة لما ذكرنَا من الْأَحَادِيث الْمَشْهُور فبنت الْمَخَاض الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا سنة وطعنت فِي السّنة الثَّانِيَة وَبنت اللَّبُون هِيَ الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا سنتَانِ وطعنت فِي الثَّالِثَة والحقة هِيَ الَّتِي تمت لَهَا ثَلَاث سِنِين وطعنت فِي الرَّابِعَة والجذعة هِيَ الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا أَربع سِنِين وطعنت فِي الْخَامِسَة وَهِي أقْصَى سنّ يدْخل فِي بَاب زَكَاة الْإِبِل
والتبيع والتبيعة هُوَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ حول وَطعن فِي الثَّانِيَة
والمسنة هِيَ الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا سنتَانِ وطعنت فِي الثَّالِثَة وَهِي أقْصَى مَا يجب من السن فِي الْبَقر
أما صفة الشَّاة الْوَاجِبَة فِي الزَّكَاة فقد ذكر فِي كتاب الزَّكَاة من الأَصْل عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجوز إِلَى الثنى فَصَاعِدا وَهُوَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ حول وَطعن فِي الثَّانِيَة

(1/286)


وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يجوز الْجذع من الضَّأْن وَهُوَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّة أشهر
وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ
وَهُوَ قِيَاس مَا ذكره الطَّحَاوِيّ فَإِنَّهُ قَالَ لَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة إِلَّا مَا يجوز فِي الْأُضْحِية والجذع من الضَّأْن يجوز فِي الْأُضْحِية
وَالصَّحِيح جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة فَإِنَّهُ لَا يجوز من الْمعز إِلَّا الثنى فَكَذَا فِي الضَّأْن وَأَصله حَدِيث عليرضي الله عَنهُ أَنه قَالَ لَا يجزىء فِي الزَّكَاة إِلَّا الثنى فَصَاعِدا
وَلم يرو عَن غَيره خِلَافه فَيكون كالإجماع
وَمن صِفَات الْوَاجِب فِي الْإِبِل الْأُنُوثَة حَتَّى لَا يجوز فِيهَا سوى الْإِنَاث وَلَا يجوز الذُّكُور إِلَّا بطرِيق الْقيمَة
وَأما فِي الْبَقر فالذكور وَالْإِنَاث سَوَاء بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِمعَاذ فِي كل ثَلَاثِينَ من الْبَقر تبيع أَو تبيعة
وَأما فِي الْغنم فَيجوز فِيهِ عندنَا الذّكر وَالْأُنْثَى
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز الذّكر إِلَّا إِذا كَانَت كلهَا ذُكُورا
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْأَحَادِيث وَردت بِلَفْظ الشَّاة وَهُوَ اسْم يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى
وَمن صِفَات الْوَاجِب أَيْضا أَن يكون وسطا حَتَّى لَا يكون للساعي أَن يَأْخُذ الْجيد وَلَا الرَّدِيء إِلَّا بطرِيق التَّقْوِيم بِرِضا صَاحب المَال لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ للساعي إياك وكرائم أَمْوَال النَّاس وَخذ من حواشيها وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينه وَبَين الله حجاب

(1/287)


فَلَو أَنه لم يُوجد الْوسط فَإِن صَاحب المَال بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ دفع قيمَة الْوسط وَإِن شَاءَ دفع الْأَفْضَل واسترد الزِّيَادَة من الدَّرَاهِم وَإِن شَاءَ دفع الأدون مَعَ الزِّيَادَة من الدَّرَاهِم لِأَن دفع الْقيم جَائِز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَذكر فِي كتاب الزَّكَاة هَذِه الْمَسْأَلَة وَقَالَ الْمُصدق بِالْخِيَارِ وَأَرَادَ بِهِ إِذا رَضِي صَاحب المَال وَإِنَّمَا يكون الْخِيَار للمصدق فِي فصل وَاحِد وَهُوَ أَن صَاحب المَال إِذا وَجب عَلَيْهِ بنت مَخَاض أَو بنت لبون فَأدى بعض سنّ آخر بطرِيق الْقيمَة فالمصدق بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قبل وَإِن شَاءَ لم يقبل لِأَن التشقيص فِي الْأَعْيَان عيب
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الْكل كبارًا فإمَّا إِذا كَانَت صغَارًا أَو مختلطة بالكبار فَأَما الصغار المفردة فَمن أبي حنيفَة فِيهَا ثَلَاث رِوَايَات روى أَنه يجب فِيهَا مَا يجب فِي الْكِبَار
ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ يجب فِيهَا وَاحِد مِنْهَا إِذا بلغت مبلغا يجب فِيهَا وَاحِد من الْكِبَار وَهُوَ خَمْسَة وعشرن فصيلا
ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا يجب فِيهَا شَيْء
وَأخذ بقوله الأول زفر وَهُوَ قَول مَالك
وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي أَبُو يُوسُف
وَبِقَوْلِهِ الثَّالِث مُحَمَّد
وَيتَكَلَّم الْفُقَهَاء فِي صُورَة الْمَسْأَلَة فَإِنَّهَا مشكلة لِأَن الزَّكَاة لَا تجب بِدُونِ مُضِيّ الْحول بعد الْحول لم يبْق اسْم الحملان والفصلان والعجاجيل

(1/288)


قَالَ بَعضهم الْخلاف فِي هَذَا أَن الْحول هَل ينْعَقد على الحملان والفصلان والعجاجيل أم لَا بِأَن ملك فِي أول الْحول نِصَابا من هَذِه الصغار ثمَّ تمّ الْحول عَلَيْهَا هَل يجب وَاحِد مِنْهَا وَإِن خَرجُوا عَن الدُّخُول تَحت هَذِه الْأَسْمَاء أَو يعْتَبر انْعِقَاد الْحول من حِين كبروا وَإِن زَالَت صفة الصغر عَنْهُم وَقَالَ بَعضهم الْخلاف فِيمَن كَانَت لَهُ أُمَّهَات فمضت سِتَّة أشهر فَولدت أَوْلَادًا ثمَّ مَاتَت الْأُمَّهَات وَبَقِي الْأَوْلَاد ثمَّ تمّ الْحول عَلَيْهَا وَهِي صغَار هَل تجب الزَّكَاة فِي هَذِه الْأَوْلَاد وعَلى هَذَا إِذا كَانَ لَهُ مسان فاستفاد صغَارًا فِي وسط الْحول ثمَّ هَلَكت المسان وَبَقِي الْمُسْتَفَاد هَل تجب الزَّكَاة فِي الْمُسْتَفَاد فعلى هَذَا الْخلاف
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّد فِي الْكتاب فِيمَن كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ حملا وَوَاحِدَة مُسِنَّة فَهَلَكت المسنة وَتمّ الْحول على الحملان لَا يجب شَيْء عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف يجب وَاحِد مِنْهَا وَعند زفر تجب مُسِنَّة
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد لما ذكرنَا من الأَصْل ثمَّ عَن أبي يُوسُف ثَلَاث رِوَايَات أُخْرَى سوى مَا ذكرنَا وَالْمَشْهُور مَا ذكرنَا
فَأَما إِذا كَانَ مَعَ الصغار كبار أَو وَاحِد مِنْهَا فَإِنَّهُ يحْتَسب الصغار مَعهَا من النّصاب وَتجب الزَّكَاة فِيهَا مِثْلَمَا تجب فِي الْكِبَار وَهُوَ المسنة
وَأَصله حديثعمرأنه قَالَ للساعي عد عَلَيْهِم السخلة وَلَو جَاءَ بهَا الرَّاعِي يحملهَا على كَفه وَلَا تأخذها مِنْهُم
ثمَّ فِي حَال اخْتِلَاط الْكِبَار بالصغار تجب الزَّكَاة فِي الصغار تبعا للكبار إِذا كَانَ الْعدَد الْوَاجِب من الْكِبَار مَوْجُودا فِيهَا فِي قَوْلهم جَمِيعًا

(1/289)


فَأَما إِذا لم يكن الْعدَد الْوَاجِب كُله مَوْجُودا فَإِنَّهُ يجب بِقدر الْمَوْجُود فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ مسنتان وَمِائَة وَتِسْعَة عشر حملا فَإِنَّهُ تجب فِيهَا مسنتان بِلَا خلاف لِأَن الْعدَد الْوَاجِب وَهُوَ المسنتان مَوْجُود فِي النّصاب
وَمثله لَو كَانَ لَهُ مُسِنَّة وَمِائَة وَعِشْرُونَ حملا يجب فِيهَا مُسِنَّة وَاحِدَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف يجب عَلَيْهِ شَاة وَحمل
وَأما حكم الْخَيل فَنَقُول لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت علوفة فِي الْمصر للرُّكُوب وَالْحمل أَو للتِّجَارَة أَو سَائِمَة للرُّكُوب وَالْحمل أَو للغزو وَالْجهَاد أَو سَائِمَة للدر والنسل
أما إِذا كَانَت علوفة أَو كَانَت سَائِمَة للْحَمْل وَالرُّكُوب أَو الْجِهَاد فَلَا يجب فِيهَا شَيْء لِأَنَّهَا مَشْغُولَة بحاجته لِأَن قصد الدّرّ والنسل دَلِيل الْفضل عَن الْحَاجة وَلم يُوجد
وَإِن كَانَت للتِّجَارَة يجب فِيهَا زَكَاة التِّجَارَة بِالْإِجْمَاع سَوَاء كَانَت تعلف فِي الْمصر أَو تسام فِي البراري
فَأَما إِذا كَانَت سَائِمَة للدر والنسل فَإِن كَانَت مختلظة ذُكُورا وإناثا يجب فِيهَا الزَّكَاة عِنْد أبي حنيفَة رِوَايَة وَاحِدَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ لَا زَكَاة فِيهَا
وَإِن كَانَت كلهَا إِنَاثًا فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة ذكرهمَا الطَّحَاوِيّ
وَإِن كَانَت كلهَا ذُكُورا فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنهُ أَيْضا ذكرهَا مُحَمَّد فِي الْآثَار
وَفِي الْمَشْهُور من الرِّوَايَات أَن لَا زَكَاة فِيهَا
وَإِذا وَجَبت الزَّكَاة فِيهَا فَيكون صَاحبهَا بِالْخِيَارِ بَين أَن يُعْطي من

(1/290)


كل فرس دِينَارا وَبَين أَن يقومها فَيُؤَدِّي من كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم لَكِن حق الْأَخْذ للساعي لِأَن السَّائِمَة ترعى فِي البراري وَلَا يُمكن حفظ السوائم فِيهَا إِلَّا بحماية السُّلْطَان
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لما روى جَابر عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِي كل فرس سَائِمَة دِينَار وَلَيْسَ فِي الرابطة شَيْء
وَأما الْحمير وَالْبِغَال فَلَا يجب فِيهَا شَيْء وَإِن كَانَت سَائِمَة لِأَن الْحمل وَالرُّكُوب هُوَ الْمَقْصُود فِيهَا غَالِبا دون التناسل لَكِنَّهَا تسام فِي غير وَقت الْحَاجة للتَّخْفِيف فِي الْحِفْظ وَدفع مؤونة الْعلف
فَأَما إِذا كَانَت للتِّجَارَة فَيجب فِيهَا زَكَاة التِّجَارَة
هَذَا الَّذِي ذكرنَا كُله إِذا كَانَت السوائم لوَاحِد أما إِذا كَانَت مُشْتَركَة فعندنا يعْتَبر فِي حَال الشّركَة مَا يعْتَبر فِي حَالَة الِانْفِرَاد فَإِن كَانَ نصيب كل وَاحِد مِنْهُمَا بلغ نِصَابا تجب الزَّكَاة فِيهِ وَإِلَّا فَلَا
وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا كَانَ أَسبَاب الإسامة وَاحِدَة يَجْعَل الْكل كَمَال وَاحِد وَهُوَ أَن يكون الرَّاعِي والمرعى وَالْمَاء والمراح وَالْكَلب وَاحِدًا وَيكون المالكان من أهل وجوب الزَّكَاة
بَيَان ذَلِك إِذا كَانَ خمس من الْإِبِل بَين شَرِيكَيْنِ لَا تجب فِيهَا الزَّكَاة عندنَا لِأَن نصيب كل وَاحِد مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَيْسَ بنصاب
وَلَو كَانَت عشرا من الْإِبِل بَينهمَا فعلى كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاة
وَعِنْده تجب شَاة فِي الْفَصْل الأول عَلَيْهِمَا
وَإِن كَانَ ثَلَاثُونَ من الْبَقر بَين رجلَيْنِ لَا تجب الزَّكَاة عندنَا

(1/291)


لعدم النّصاب فِي حَقه وَعِنْده تجب تبيعة بَينهمَا
وَإِن كَانَ أَرْبَعُونَ من الْغنم بَين اثْنَيْنِ لَا يجب شَيْء عندنَا خلافًا لَهُ
وَلَو كَانَ لَهما ثَمَانُون يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاة عندنَا وَعِنْده جب شَاة وَاحِدَة بَينهمَا
كَذَلِك على هَذَا إِذا كَانَ الذَّهَب وَالْفِضَّة وأموال التِّجَارَة مُشْتَركَة بَين اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يعْتَبر عندنَا نصيب كل وَاحِد على حِدة
ثمَّ إِن الْمُصدق إِذا جَاءَ بعد تَمام الْحول فَإِنَّهُ يَأْخُذ الصَّدَقَة من المَال الْمُشْتَرك بَينهمَا إِذا وجد فِيهِ وَاجِبا على اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ وَلَا ينْتَظر الْقِسْمَة لِأَنَّهُمَا راضيان بذلك لبقائهما على الشّركَة
فَإِذا أَخذ ينظر إِن كَانَ مَا أَخذ من مَال كل وَاحِد مِنْهُمَا بِأَن كَانَ المَال مُشْتَركا بَينهمَا على السوية فَلَا تراجع هَهُنَا لِأَن ذَلِك الْقدر وَاجِب على كل وَاحِد مِنْهُمَا على السوَاء
أما إِذا كَانَ المَال مُشْتَركا بَينهمَا على التَّفَاوُت وَالْوَاجِب على أَحدهمَا أَكثر من الآخر أَو الْوَاجِب على أَحدهمَا دون الآخر فَإِنَّهُ يرجع على صَاحبه بِقدر ذَلِك
بَيَانه لَو كَانَ ثَمَانُون من الْغنم بَين رجلَيْنِ فَأخذ الْمُصدق مِنْهَا شَاتين فَلَا تراجع لما ذكرنَا أَنه يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاة وكل شَاة بَينهمَا نِصْفَانِ
وَلَو كَانَت الثَّمَانُونَ بَينهمَا أَثلَاثًا وَحَال الْحول فَإِنَّهُ يجب فِيهَا شَاة وَاحِدَة على صَاحب الثُّلثَيْنِ لكَمَال نصابه وَزِيَادَة وَلَا يجب على صَاحب

(1/292)


الثُّلُث لنُقْصَان نصِيبه عَن النّصاب فقد أَخذ الْمُصدق ثلث نصِيبه لأجل صَاحب الثُّلثَيْنِ فَلهُ أَن يرجع عَلَيْهِ بِقِيمَة الثُّلُث
وَلَو كَانَ الْغنم مائَة وَعشْرين بَين رجلَيْنِ لأَحَدهمَا ثلثاها وَللْآخر ثلثهَا فَإِنَّهُ يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاة لِأَن الثَّمَانِينَ لأَحَدهمَا وَالْأَرْبَعِينَ لشَرِيكه فَيَأْخُذ الْمُصدق شَاتين من المَال الْمُشْتَرك وَلِصَاحِب الثُّلثَيْنِ أَن يرجع على صَاحب الثُّلُث بِقِيمَة ثلث شَاة لِأَن الشاتين إِذا كَانَتَا أَثلَاثًا بَينهمَا يكون لصَاحب الثُّلثَيْنِ شَاة وَثلث وَلِصَاحِب الثُّلُث ثلثا شَاة وَقد أَخذ الْمُصدق شَاة كَامِلَة لأجل صَاحب الثُّلُث فقد صَار آخِذا ثلثا من نصيب صَاحب الثُّلثَيْنِ لأجل زَكَاة صَاحب الثُّلُث فَيرجع عَلَيْهِ بذلك
وَهَذَا معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ بَين الخليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بِالسَّوِيَّةِ هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم الزَّكَاة فِي الْعين
فَأَما حكم الزَّكَاة فِي الدّين فَنَقُول الدّين عِنْد ابي حنيفَة على ثَلَاث مَرَاتِب دين قوي وَدين وسط وَدين ضَعِيف
فالدين الْقوي هُوَ الَّذِي ملكه بَدَلا عَمَّا هُوَ مَال الزَّكَاة كالدراهم وَالدَّنَانِير وأموال التِّجَارَة وَكَذَا غلَّة مَال التِّجَارَة من العبيد والدور وَنَحْوهَا
وَالْحكم فِيهِ أَنه إِذا كَانَ نِصَابا وَتمّ الْحول تجب الزَّكَاة لَكِن لَا يُخَاطب بِالْأَدَاءِ مَا لم يقبض أَرْبَعِينَ درهما فَإِذا قبض أَرْبَعِينَ زكاها وَذَلِكَ دِرْهَم
وَإِن قبض أقل من ذَلِك لَا يُزكي وَكَذَلِكَ يُؤَدِّي من كل أَرْبَعِينَ عِنْد الْقَبْض درهما

(1/293)


وَأما الدّين الْوسط فَهُوَ الَّذِي وَجب بدل مَال لَو بَقِي عِنْده حولا لم تجب فِيهِ الزَّكَاة مثل عبيد الْخدمَة وَثيَاب البذلة وغلة مَال الْخدمَة
وَالْحكم فِيهِ أَن عِنْد أبي حنيفَة فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ تجب فِيهِ الزَّكَاة وَلَا يُخَاطب بِالْأَدَاءِ مَا لم يقبض مِائَتي دِرْهَم فَإِذا قبض الْمِائَتَيْنِ يُزكي لما قبض
وروى ابْن سَمَّاعَة عَن أبي حنيفَة أَنه لَا زَكَاة فِيهِ حَتَّى يقبض ويحول عَلَيْهِ الْحول بعد ذَلِك
وَهُوَ الصَّحِيح عِنْده
وَأما الدّين الضَّعِيف فَهُوَ مَا وَجب وَملك لَا بَدَلا عَن شَيْء وَهُوَ دين إِمَّا بِغَيْر فعله كالميراث أَو بِفِعْلِهِ كَالْوَصِيَّةِ أَو وَجب بَدَلا عَمَّا لَيْسَ بِمَال دينا كالدية على الْعَاقِلَة وَالْمهْر وَبدل الْخلْع وَالصُّلْح عَن دم الْعمد وَبدل الْكِنَايَة
وَالْحكم فِيهِ أَنه لَا يجب فِيهِ الزَّكَاة حَتَّى يقبض الْمِائَتَيْنِ ويحول عَلَيْهَا الْحول عِنْده
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الدُّيُون على ضَرْبَيْنِ دُيُون مُطلقَة وديون نَاقِصَة
فالناقص هُوَ بدل الْكِنَايَة وَالدية على الْعَاقِلَة وَمَا سواهُمَا فديون مُطلقَة
وَالْحكم فِيهَا أَنه تجب الزَّكَاة فِي الدّين الْمُطلق وَلَا يجب الْأَدَاء مَا لم يقبض فَإِذا قبض مِنْهَا شَيْئا قل أَو كثر يُؤَدِّي بِقدر مَا قبض
وَفِي الدّين النَّاقِص لَا تجب الزَّكَاة مَا لم يقبض النّصاب ويحول عَلَيْهِ الْحول

(1/294)


وَأما دين السّعَايَة فَلم يذكر فِي كتاب الزَّكَاة الِاخْتِلَاف بَينهمَا
وَذكر فِي نَوَادِر الزَّكَاة الِاخْتِلَاف فَقَالَ عِنْد أبي حنيفَة هُوَ دين ضَعِيف وَعِنْدَهُمَا دين مُطلق
وَعند الشَّافِعِي الدُّيُون كلهَا سَوَاء وَتجب الزَّكَاة فِيهَا وَالْأَدَاء وَإِن لم يقبض
وَأما حكم هَذِه الأبدال إِذا كَانَت عينا أما الْمِيرَاث وَالْوَصِيَّة المعنية إِذا حَال عَلَيْهَا الْحول وَلم يقبضهَا تجب فِيهَا الزَّكَاة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة
فَأَما فِي مَال التِّجَارَة والإسامة فَإِن نوى الْوَرَثَة التِّجَارَة أَو الإسامة بعد الْمَوْت تجب
وَإِن لم ينووا قَالَ بَعضهم تجب لِأَن الْوَارِث وَالْمُوصى لَهُ خلف الْمَيِّت فَينْتَقل المَال إِلَيْهِمَا على الْوَصْف الَّذِي كَانَ مَا لم يُوجد التَّعْيِين من جهتهما بِأَن وجدت مِنْهُمَا نِيَّة الابتذال والإعلاف
وَقَالَ بَعضهم لَا بُد من وجود النِّيَّة لِأَن الْملك قد زَالَ عَن الْمَيِّت حَقِيقَة وتجدد الْملك للْوَارِث وَالْمُوصى لَهُ
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي بدل أَعْيَان البذلة والمهنة وَعبيد الْخدمَة إِذا كَانَ عينا لَا تجب فِيهِ الزَّكَاة مَا لم ينْو التِّجَارَة عِنْد العقد
فَأَما الْمهْر وَبدل مَا لَيْسَ بِمَال فعلى قَول أبي حنيفَة لَا تجب مَا لم يقبض وَلم يحل عَلَيْهِ الْحول وَلم ينْو التِّجَارَة بعد الْقَبْض وعَلى قَوْلهمَا تجب إِذا نوى التِّجَارَة عِنْد العقد لِأَن الْمهْر لَا يصلح نِصَابا عِنْد أبي حنيفَة إِذا كَانَ دينا وَعِنْدَهُمَا يصلح فالعين كَذَلِك لَكِن لَا بُد من نِيَّة التِّجَارَة فِي الْعين

(1/295)


هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الدّين مقرا بِهِ وَمن عَلَيْهِ الدّين مُوسِرًا
فَأَما الدّين إِذا كَانَ مجحودا بِهِ وَمضى عَلَيْهِ أَحْوَال ثمَّ أقرّ بِهِ وَقَبضه فَلَا تجب الزَّكَاة للسنين الْمَاضِيَة عندنَا
وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ تجب
وَكَذَلِكَ الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَت دَرَاهِم ودنانير مَغْصُوبَة
وَكَذَلِكَ إِذا سَقَطت عَن يَد الْمَالِك فَلم يجدهَا سِنِين
وَكَذَلِكَ عبيد التِّجَارَة إِذا أَبقوا ثمَّ قدر عَلَيْهِم بعد سِنِين
وَكَذَلِكَ الْعَدو إِذا استولوا على الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وأحرزوها بدارهم فعلى الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي
وَكَذَلِكَ إِذا دفن فِي غير حرز وَنسي ذَلِك سِنِين ثمَّ تذكره فعلى الْخلاف
وَكَذَلِكَ إِذا أودع رجلا مَجْهُولا لَا يعرفهُ مَال الزَّكَاة ثمَّ أَصَابَهُ بعد سِنِين لَا يجب
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا دفن فِي الْحِرْز من الدّور وَنَحْوهَا ونسيه ثمَّ تذكر فَإِنَّهُ تجب عَلَيْهِ زَكَاة مَا مضى
وَكَذَلِكَ إِذا أودع رجلا مَعْرُوفا ثمَّ نَسيَه سِنِين ثمَّ تذكر فَإِنَّهُ يجب بِالْإِجْمَاع
ثمَّ فِي المَال الْمَغْصُوب لَا تجب الزَّكَاة عندنَا سَوَاء كَانَت لَهُ بَيِّنَة أَو لم يكن
وَكَذَلِكَ المَال المجحود إِذا كَانَ لَهُ بَيِّنَة كَذَا روى هِشَام عَن مُحَمَّد

(1/296)


وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا إِذا كَانَت لَهُ بَيِّنَة تجب فِيهِ الزَّكَاة
وَالصَّحِيح رِوَايَة هِشَام لِأَن الْبَيِّنَة قد تقبل وَقد لَا تقبل
فَأَما إِذا كَانَ القَاضِي عَالما بِالدّينِ أَو بِالْغَصْبِ فَإِنَّهُ تجب الزَّكَاة لِأَن القَاضِي يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَال فصاحبه يكون مقصرا فِي الِاسْتِرْدَاد فَلَا يعْذر
وَأما الْغَرِيم إِذا كَانَ يقر فِي السِّرّ يُنكر فِي الْعَلَانِيَة فَلَا زَكَاة فِيهِ كَذَا روى الْمُعَلَّى عَن أبي يُوسُف
فَأَما إِذا كَانَ الدّين مقرا بِهِ وَلَكِن من عَلَيْهِ الدّين مُعسر فَمضى عَلَيْهِ أَحْوَال ثمَّ أيسر فَقَبضهُ صَاحب الدّين فَإِنَّهُ يُزكي لما مضى عندنَا
وروى الْحسن بن زِيَاد أَنه لَا زَكَاة فِيهِ إِلَّا أَنا نقُول إِنَّه مُؤَجل شرعا فَصَارَ كَمَا لَو كَانَ مُؤَجّلا بتأجيل صَاحبه ثمَّ تجب الزَّكَاة كَذَا هَذَا
هَذَا إِذا كَانَ مُعسرا لم يقْض عَلَيْهِ بالإفلاس
فَأَما إِذا قضى عَلَيْهِ بالإفلاس فعلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف تجب الزَّكَاة لما مضى إِذا أيسر لِأَن الإفلاس عِنْدهمَا لَا يتَحَقَّق فِي حَال الْحَيَاة وَالْقَضَاء بِهِ بَاطِل
وعَلى قَول مُحَمَّد لَا تجب لِأَن الْقَضَاء بالإفلاس عِنْده صَحِيح

(1/297)


بَاب من يوضع فِيهِ الصَّدَقَة
مسَائِل الْبَاب مَبْنِيَّة على معرفَة من يجوز وضع الزَّكَاة فِيهِ وعَلى معرفَة ركن الزَّكَاة وشرائط الْأَدَاء
أما بَيَان من يجوز وضع الزَّكَاة فِيهِ فَهُوَ الَّذِي استجمع شَرَائِط مِنْهَا الْفقر فَإِنَّهُ لَا يجوز صرف الزَّكَاة إِلَى الْأَغْنِيَاء لقَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} أَمر بِالصرْفِ إِلَى الْأَصْنَاف الثَّمَانِية وَذكر هَؤُلَاءِ لبَيَان محلية الصّرْف بِاعْتِبَار الْحَاجة لَا بطرِيق الِاسْتِحْقَاق إِلَّا أَن النَّص صَار مَنْسُوخا فِي حق الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم عندنَا
وَأما الْعَامِل فِيمَا يعْطى لَهُ فَهُوَ أجر عمله لَا بطرِيق الزَّكَاة فَإِنَّهُ يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يُعْطي السَّاعِي مِقْدَار مَا يَكْفِيهِ وَيَكْفِي أعوانه وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ يُعْطي الْعَامِل الْغَنِيّ
وَلِهَذَا إِن صَاحب المَال إِذا حمل الزَّكَاة بِنَفسِهِ إِلَى الإِمَام فَإِنَّهُ لَا يُعْطي العاملين على الصَّدقَات من ذَلِك شَيْئا
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن حق الْعَامِل فِيمَا فِي يَده من الصَّدقَات حَتَّى لَو هلك مَا فِي يَده من الصَّدقَات تسْقط أجرته وَهُوَ كَنَفَقَة الْمضَارب فِي مَال الْمُضَاربَة

(1/299)


إِذا هلك مَال الْمضَارب سَقَطت نَفَقَته
وَلَكِن للعمالة شُبْهَة الصَّدَقَة فَيحرم فِي حق بني هَاشم كَرَامَة لَهُم وَإِن كَانَ لَا يحرم على الْعَامِل الْغَنِيّ
وَقَالَ الشَّافِعِي يجب الصّرْف إِلَى الْأَصْنَاف الثَّمَانِية إِلَى ثَلَاثَة من كل صنف لِأَنَّهُ لَا يُمكن القَوْل بالاستيعاب
وَاخْتلف أَصْحَابه فِي سهم الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم
وَبَعْضهمْ قَالُوا صَار مَنْسُوخا بِالْإِجْمَاع
وَبَعْضهمْ قَالُوا يصرف إِلَى كل من كَانَ حَدِيث الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ مِمَّن هُوَ فِي مثل حَالهم فِي الشَّوْكَة وَالْقُوَّة حَتَّى يكون حملا لأمثالهم على الدُّخُول فِي دين الْإِسْلَام
ثمَّ كَمَا لَا يجوز صرف الزَّكَاة إِلَى أَغْنِيَاء لَا يجوز صرف جَمِيع الصَّدقَات الْمَفْرُوضَة الْوَاجِبَة إِلَيْهِم وَذَلِكَ نَحْو الْكَفَّارَات الْمَفْرُوضَة وَالْعشر الْمَفْرُوض بِكِتَاب الله وَصدقَة الْفطر وَالصَّدقَات الْمَنْذُور بهَا من الْوَاجِبَات لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي
وَكَذَا لَا يجوز صرف الصَّدقَات الْوَاجِبَة إِلَى ولد الْغَنِيّ إِذا كَانَ صَغِيرا وَإِذا كَانَ كَبِيرا يجوز لِأَن الصَّغِير يعد غَنِيا بِمَال أَبِيه بِخِلَاف الْكَبِير
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد يجوز الدّفع إِلَى امْرَأَة الْغَنِيّ إِذا كَانَت فقيرة وَكَذَلِكَ إِلَى الْبِنْت الْكَبِيرَة الفقيرة لَغَنِيّ
وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي يُوسُف لِأَن الزَّوْج لَا يدْفع جَمِيع حوائج الزَّوْجَة وَالْبِنْت الْكَبِيرَة
وَكَذَا لَا يجوز الدّفع إِلَى عبد الْغَنِيّ ومدبره وَأم وَلَده إِذا لم يكن عَلَيْهِم دين مُسْتَغْرق لرقابهم لِأَن أكسابهم ملك الْمولى

(1/300)


وَكَذَا إِن كَانَ عَلَيْهِم دين لَكِن غير ظَاهر فِي حق الْمولى حَتَّى يكون مُؤَخرا إِلَى مَا بعد الْعتاق
وَأما إِذا كَانَ ظَاهرا فِي حق الْمولى كَدين الِاسْتِهْلَاك وَدين التِّجَارَة يَنْبَغِي أَن يجوز على قَول أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَا يملك كَسبه عِنْده إِذا كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق ظَاهر فِي حَقه
وعَلى قَوْلهمَا لَا يجوز لِأَنَّهُ يملك كَسبه عِنْدهمَا
وَيجوز الدّفع إِلَى مكَاتب الْغَنِيّ لِأَن الْمكَاتب أَحَق بمكاسبه من الْمولى
وَأما صَدَقَة الْأَوْقَاف فَيجوز صرفهَا إِلَى الْأَغْنِيَاء إِذا سماهم الْوَاقِف فَأَما إِذا لم يسمهم فَلَا يجوز لِأَنَّهَا صَدَقَة وَاجِبَة
فَأَما صَدَقَة التَّطَوُّع فَيجوز صرفهَا إِلَى الْغَنِيّ وَتحل لَهُ وَتَكون بِمَنْزِلَة الْهِبَة لَهُ
ثمَّ الْغنى أَنْوَاع ثَلَاثَة أَحدهَا الْغنى الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الزَّكَاة وَهُوَ أَن يملك نِصَابا من المَال الْفَاضِل عَن الْحَاجة الْمَوْصُوف بالنماء وَالزِّيَادَة إِمَّا بالأسامة أَو التِّجَارَة
وَالثَّانِي الْغنى الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ حرمَان الصَّدَقَة وَيتَعَلَّق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر وَالْأُضْحِيَّة دون وجوب الزَّكَاة وَهُوَ أَن يملك من الْأَمْوَال الفاضلة عَن حَوَائِجه مَا تبلغ قِيمَته مِائَتي دِرْهَم بِأَن كَانَ لَهُ ثِيَاب وفرش ودور وحوانيت ودواب زِيَادَة على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ للابتذال لَا للتِّجَارَة والأسامة
ثمَّ مِقْدَار مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مَا ذكر أَبُو الحسنفي كِتَابه فَقَالَ لَا بَأْس بِأَن

(1/301)


يُعْطي من الزَّكَاة من لَهُ مسكن وخدم وَمَا يتأثث بِهِ فِي منزله وَفرس وَسلَاح وَثيَاب الْبدن وَكتب الْعلم إِن كَانَ من أَهله مَا لم يكن لَهُ فضل عَن ذَلِك مِائَتَا دِرْهَم
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجوز دفع الصَّدَقَة إِلَى رجل لَيْسَ لَهُ مَال كثير وَلَا كسب لَهُ وَهُوَ يخَاف الْحَاجة
وَقَالَ مَالك إِذا كَانَ لَهُ خَمْسُونَ درهما لَا يجوز دفع الصَّدَقَة إِلَيْهِ وَلَا يحل لَهُ الْأَخْذ
وَالثَّالِث الْغنى الَّذِي يحرم بِهِ السُّؤَال وَلَا يحرم الْأَخْذ وَلَا الدّفع من غير سُؤال
قَالَ بَعضهم خَمْسُونَ درهما
وَقَالَ عَامَّة الْعلمَاء إِذا ملك قوت يَوْمه وَمَا يستر بِهِ عَوْرَته فَلَا يحل لَهُ السُّؤَال فَأَما إِذا لم يكن فَلَا بَأْس بِهِ
وَأما الْفَقِير إِذا كَانَ قَوِيا مكتسبا فَيحل بِهِ أَخذ الصَّدَقَة وَلَا يحل لَهُ السُّؤَال
وَعند الشَّافِعِي لَا تحل لَهُ الصَّدَقَة
وَالشّرط الآخر أَن لَا يكون الْفَقِير من بني هَاشم وَلَا من مواليهم لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تحل الصَّدَقَة لمُحَمد وَلَا لآل مُحَمَّد
وَكَذَا حرم الصَّدَقَة على موَالِي بني هَاشم وَقَالَ إِن مولى الْقَوْم من أنفسهم

(1/302)


وَالشّرط الْأُخَر هُوَ الْإِسْلَام وَهُوَ شَرط فِي حق وجوب الزَّكَاة وَالْعشر بِالْإِجْمَاع حَتَّى لَا يجوز صرفهما إِلَى الْكفَّار
وَأما صرف مَا وَرَاء الزَّكَاة وَالْعشر إِلَى فُقَرَاء أهل الذِّمَّة فَجَائِز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد نَحْو صَدَقَة الْفطر وَالصَّدَََقَة الْمَنْذُورَة وَالْكَفَّارَات وَلَكِن الصّرْف إِلَى الْمُسلمين أولى
وَعَن أبي يُوسُف ثَلَاث رِوَايَات
وَالأَصَح أَنه لَا يجوز صرف صَدَقَة مَا إِلَيْهِم إِلَّا التَّطَوُّع
وَأما الْحَرْبِيّ فَلَا يجوز صرف صَدَقَة مَا إِلَيْهِ
وَالشّرط الآخر أَن لَا يكون مَنَافِع الْأَمْلَاك مُتَّصِلَة بَين صَاحب المَال وَبَين الْمَدْفُوع إِلَيْهِ لِأَن الْوَاجِب هُوَ التَّمْلِيك من الْغَيْر من كل وَجه فَإِذا كَانَت الْمَنَافِع بَينهمَا مُتَّصِلَة عَادَة فَيكون صرفا إِلَى نَفسه من وَجه فَلَا يجوز
بَيَان ذَلِك أَنه لَو دفع الزَّكَاة إِلَى الْوَالِدين وَإِن علوا أَو إِلَى المولودين وَإِن سفلوا لَا يجوز لاتصال مَنَافِع الْأَمْلَاك بَينهم وَلِهَذَا لَا تقبل شَهَادَة بَعضهم لبَعض
وَلَو دفع إِلَى سَائِر الْأَقَارِب سواهُم من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات وَغَيرهم جَازَ لانْقِطَاع الْمَنَافِع بَينهم من حَيْثُ الْغَالِب وَلِهَذَا تقبل شَهَادَة بَعضهم لبَعض
وَلَو دفع إِلَى الزَّوْج أَو الزَّوْجَة لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة لما قُلْنَا من اتِّصَال الْمَنَافِع بَينهم من حَيْثُ الْغَالِب
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز

(1/303)


للزَّوْجَة أَن تدفع إِلَى زَوجهَا الْفَقِير وَلَا يجوز للزَّوْج أَن يدْفع إِلَى زَوجته الفقيرة
وَلَو دفع إِلَى عبيده أَو مدبريه أَو أُمَّهَات أَوْلَاده لَا يجوز سَوَاء كَانَ عَلَيْهِم دين أَو لم يكن لِأَنَّهُ صرف إِلَى نَفسه من وَجه
وَكَذَلِكَ إِذا دفع إِلَى مكَاتبه لَا يجوز وَإِن كَانَ الْملك يَقع للْمكَاتب لِأَنَّهُ من وَجه يَقع للْمولى
وَأما صَدَقَة التَّطَوُّع فَيجوز صرفهَا إِلَى هَؤُلَاءِ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام نَفَقَة الرجل على نَفسه صَدَقَة وعَلى عِيَاله صَدَقَة وكل مَعْرُوف صَدَقَة
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حَالَة الِاخْتِيَار وَهُوَ أَن يكون للدافع علم بهؤلاء عِنْد الدّفع
فَأَما إِذا دفع الزَّكَاة إِلَى هَؤُلَاءِ وَلم يعلم بحالهم فَهَذَا على ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنه لَا يخْطر بِبَالِهِ شَيْء أَنه غَنِي أَو فَقير مُسلم وذمي وَنَحْو ذَلِك وَدفع بنية الزَّكَاة فَالْأَصْل هُوَ الْجَوَاز إِلَّا إِذا ظهر أَنه غَنِي أَو أَبوهُ أَو ابْنه أَو ذمِّي بِيَقِين فَحِينَئِذٍ لَا يجوز لِأَن الظَّاهِر أَنه صرف الصَّدَقَة إِلَى محلهَا حَيْثُ نوى الزَّكَاة وَالظَّاهِر لَا يبطل إِلَّا بِالْيَقِينِ وَلِهَذَا إِذا خطر بِبَالِهِ بعد ذَلِك وَشك فِي ذَلِك وَلم يظْهر لَهُ شَيْء فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْإِعَادَة لِأَن الظَّاهِر لَا يبطل بِالشَّكِّ
وَالثَّانِي إِذا خطر بِبَالِهِ وَشك فِي ذَلِك وَلم يتحر وَلم يطْلب دَلِيل الْفقر بِأَن لم يسْأَل عَنهُ أَنه غَنِي أَو فَقير وَنَحْو ذَلِك وَدفع إِلَيْهِ أَو تحرى بِقَلْبِه وَلَكِن لم يطْلب دَلِيل الْفقر فَالْأَصْل هُوَ الْفساد إِلَّا إِذا ظهر بِيَقِين أَو بِدَلِيل من حَيْثُ الْغَالِب أَنه فَقير فَحِينَئِذٍ يجوز لِأَنَّهُ وَجب

(1/304)


عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي هَذِه الْحَالة وَالصرْف إِلَى فَقير وَقع عَلَيْهِ التَّحَرِّي فَإِذا ترك فَلم يُوجد الصّرْف إِلَى من أَمر بِالصرْفِ إِلَيْهِ فَيكون فَاسِدا إِلَّا إِذا ظهر أَنه فَقير أَو أَجْنَبِي بِيَقِين وَنَحْوه فَيجوز لِأَنَّهُ بَطل الظَّاهِر بِالْحَقِيقَةِ
وَالثَّالِث إِذا خطر بِبَالِهِ وَشك وتحرى وَطلب دَلِيل الْفقر وَسَأَلَ الْمَدْفُوع إِلَيْهِ فَأخْبر أَنه فَقير أَو رَآهُ فِي صف الْفُقَرَاء أَو كَانَ عَلَيْهِ زِيّ الْفُقَرَاء أَو كَانَ ضريرا أَو مَعَه ركوة وعصا فَدفع إِلَيْهِ ثمَّ ظهر أَنه غَنِي أَو دفع فِي لَيْلَة مظْلمَة إِلَى رجل يُخبرهُ أَنه أَجْنَبِي أَو مُسلم ثمَّ ظهر أَنه أَبوهُ أَو ابْنه أَو ذمِّي
فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْإِعَادَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد فِي الْفُصُول كلهَا
وعَلى قَول أبي يُوسُف يلْزمه الْإِعَادَة
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا ظهر أَنه حَرْبِيّ أَو حَرْبِيّ مستأمن فَإِنَّهُ لَا يجوز
وَكَذَا إِذا ظهر أَنه عَبده أَو مكَاتبه أَو مدبره
هَذَا جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وروى مُحَمَّد بن شُجَاع عَن أبي حنيفَة فِي غير الْغَنِيّ أَنه لَا يجوز وَيلْزمهُ الْإِعَادَة كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما ركن الزَّكَاة فَهُوَ إِخْرَاج جُزْء من النّصاب من حَيْثُ الْمَعْنى إِلَى الله تَعَالَى وَالتَّسْلِيم إِلَيْهِ وَقطع يَده عَنهُ بالتمليك من الْفَقِير وَالتَّسْلِيم إِلَيْهِ أَو إِلَى من هُوَ نَائِب عَنهُ وَهُوَ السَّاعِي
وَصَاحب المَال نَائِب عَن الله فِي التَّسْلِيم إِلَى الْفُقَرَاء قَالَ الله تَعَالَى {وَآتوا الزَّكَاة} والإيتاء هُوَ التَّمْلِيك
هَذَا الَّذِي ذكرنَا قَول أبي حنيفَة

(1/305)


وَأما على قَوْلهمَا فَالْوَاجِب جُزْء من النّصاب من حَيْثُ الصُّورَة وَالْمعْنَى لَكِن يجوز إِقَامَة غَيره مقَامه من حَيْثُ الْمَعْنى وَيبْطل اعْتِبَار الصُّورَة بِإِذن صَاحب الْحق وَهُوَ الله تَعَالَى
وَأما فِي زَكَاة السوائم فقد اخْتلف مَشَايِخنَا فِي قَول أبي حنيفَة بَعضهم قَالُوا إِنَّه يجب صرف جُزْء من النّصاب من حَيْثُ الْمَعْنى وَذكر الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِخِلَاف جنس النّصاب للتقدير
وَبَعْضهمْ قَالُوا الْوَاجِب هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من حَيْثُ الْمَعْنى لَا جُزْء من النّصاب
وَعند الشَّافِعِي الْوَاجِب هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من الْأَسْنَان مُطلقًا لَا جُزْء من النّصاب
وَبَيَان هَذَا فِي الْمسَائِل على قَول أَصْحَابنَا يجوز دفع الْقيم والأبدال فِي بَاب الزَّكَاة الْعشْر وَالْخَرَاج وَصدقَة الْفطر وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز
وَلَو هلك النّصاب بعد الْحول أَو بعضه إِن كَانَ قبل التَّمَكُّن من الْأَدَاء من غير تَفْرِيط فَلَا شَيْء عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاع
فَأَما إِذا تمكن من الْأَدَاء وفرط حَتَّى هلك فَكَذَلِك الْجَواب عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يسْقط
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا أتلف مَال الزَّكَاة فَإِنَّهُ يضمن قدر الزَّكَاة لِأَن الْوَاجِب عندنَا تمْلِيك جُزْء من مَحل معِين هُوَ النّصاب إِمَّا من حَيْثُ الْمَعْنى عِنْد أبي حنيفَة أَو من حَيْثُ الصُّورَة وَالْمعْنَى عِنْدهمَا وَلَا يبْقى الْوُجُوب بعد هَلَاك الْمحل كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذا مَاتَ سقط وجوب الدّفع لكَون الْمحل مُتَعَيّنا لوُجُوب الدّفع فَلَا يبْقى وَاجِبا بعد فَوَاته كَذَا هَهُنَا

(1/306)


وَإِذا أتلف يضمن لِأَنَّهُ أتلف حَقًا مُسْتَحقّ الْأَدَاء عَلَيْهِ فَصَارَ كالمولى إِذا أتلف العَبْد الْجَانِي
فَأَما فِي السوائم إِذا جَاءَ السَّاعِي وطالب الزَّكَاة فَمنع حَتَّى هلك فَذكر الشيخأبو الْحسن الكرخيأنه يجب الضَّمَان لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ صَار متلفا بِمَنْزِلَة الْمُودع إِذا منع الْوَدِيعَة بعد الطّلب حَتَّى هَلَكت يضمن كَذَا هَذَا
وَعَن أبي سهل الزجاجيأنه لَا يضمن
وَالْأول أصح
وَلَو صرف الزَّكَاة إِلَى بِنَاء الْمَسْجِد والرباطات وَإِصْلَاح القناطر وتكفين الْمَوْتَى ودفنهم لَا يجوز لِأَنَّهُ لم يُوجد التَّمْلِيك
وَكَذَلِكَ إِذا اشْترى بِالزَّكَاةِ طَعَاما وَأطْعم الْفُقَرَاء غداء وعشاء وَلم يدْفع إِلَيْهِم عين الطَّعَام فَإِنَّهُ لَا يجور لِأَنَّهُ لم يُوجد التَّمْلِيك
وَكَذَلِكَ لَو قضى دين ميت فَقير بنية الزَّكَاة لَا يجوز
وَأما إِذا قضى دين حَيّ فَقير فَإِذا قضى بِغَيْر أمره يكون مُتَبَرعا وَلَا يَقع عَن الزَّكَاة وَإِن قضى بأَمْره فَإِنَّهُ يَقع عَن الزَّكَاة وَيصير وَكيلا فِي قبض الصَّدَقَة عَن الْفَقِير وَالصرْف إِلَى قَضَاء دينه فقد وجد التَّمْلِيك من الْفَقِير فَيجوز
وَكَذَا لَو اشْترى بِزَكَاتِهِ رَقِيقا فاعتقله لَا تسْقط الزَّكَاة لِأَنَّهُ إِسْقَاط وَلَيْسَ بِتَمْلِيك
وَلَو دفع زَكَاة مَاله إِلَى الإِمَام أَو إِلَى عَامل الصَّدَقَة فَإِنَّهُ يجوز لِأَنَّهُ نَائِب عَن الْفَقِير فِي الْقَبْض
وَكَذَلِكَ من تصدق على صبي أَو مَجْنُون وَقبض لَهُ وليه أَبوهُ أَو جده

(1/307)


أَو وَصِيّه جَازَ لِأَن قبض الْوَلِيّ كقبضه
وَلَو قبض عَنْهُمَا بعض ذَوي أرحامه وَلَيْسَ ثمَّة أقرب مِنْهُ وَهُوَ فِي عِيَاله جَازَ
وَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيّ الَّذِي هُوَ فِي عِيَاله بِمَنْزِلَة الْوَلِيّ فِي قبض الصَّدَقَة لِأَن هَذَا من بَاب النَّفْع
وَكَذَلِكَ الْمُلْتَقط يَصح مِنْهُ قبض الصَّدَقَة فِي حق اللَّقِيط
وَذكر فِي الْعُيُون عَن أبي يُوسُف أَن من عَال يَتِيما فَجعل يكسوه ويطعمه وَيَنْوِي بِهِ عَن زَكَاة مَاله قَالَ يجوز
وَقَالَ مُحَمَّد مَا كَانَ من كسْوَة يجوز وَمَا كَانَ من طَعَام لَا يجوز إِلَّا مَا دفع إِلَيْهِ
وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ بَينهمَا فِي الْحَقِيقَة فَإِن أَبَا يُوسُف لم يرد إِلَّا الْإِطْعَام على طَرِيق الْإِبَاحَة وَلَكِن على وَجه التَّمْلِيك إِن كَانَ الْيَتِيم عَاقِلا يدْفع إِلَيْهِ وَإِن لم يكن عَاقِلا يقبض عَنهُ بطرِيق النِّيَابَة ثمَّ يطعمهُ ويكسوه لِأَن قبض الْوَلِيّ كقبضه
وَأما شَرَائِط الْأَدَاء فَمِنْهَا أَن يكون الْأَدَاء على الْوَجْه الَّذِي وَجب عَلَيْهِ من حَيْثُ الْوَصْف فَإِن كَانَ فِي السوائم يُؤدى الْوسط إِمَّا عينه أَو مثله من حَيْثُ الْقيمَة
حَتَّى لَو أدّى الرَّدِيء لَا يجوز عَن الْكل إِنَّمَا يَقع بِقدر قِيمَته وَلَو أدّى الْجيد جَازَ لِأَنَّهُ أدّى الْوَاجِب وَزِيَادَة
وَلَو أدّى شَاة سَمِينَة جَيِّدَة عَن شَاتين وسطين جَازَ لِأَن الْجَوْدَة فِي غير أَمْوَال الرِّبَا مُتَقَومَة فبقدر الْوسط يَقع عَن نَفسه وَقدر قيمَة الْجَوْدَة يَقع عَن شَاة أُخْرَى
وَكَذَا هَذَا فِي الْعرُوض إِذا كَانَت للتِّجَارَة إِن أدّى ربع عشرهَا يجوز إِن كَانَ رديئا فرديء وَإِن كَانَ جيدا فجيد
فَإِن أدّى الْقيمَة فَإِنَّهُ يُؤَدِّي قِيمَته من كل وَجه

(1/308)


وَلَو أدّى الرَّدِيء مَكَان الْجيد لَا يجوز لِأَن الْجَوْدَة مُتَقَومَة فِي هَذَا الْبَاب وَلِهَذَا لَو أدّى الثَّوْب الْجيد عَن الثَّوْبَيْنِ الرديئين جَازَ
فَأَما إِذا كَانَ مَال الزَّكَاة من أَمْوَال الرِّبَا كالكيلي والوزني فَإِن أدّى ربع عشر النّصاب يجوز كَيْفَمَا كَانَ
وَإِن أدّى غَيره فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن أدّى زَكَاته من جنسه أَو من خلاف جنسه فَإِن أدّى من خلاف جنسه كَمَا إِذا أدّى الْفضة عَن الذَّهَب أَو الْحِنْطَة عَن الشّعير فَإِنَّهُ يُؤَدِّي قدر قيمَة الْوَاجِب بِلَا خلاف
وَلَو أدّى النَّقْص مِنْهَا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ التَّكْمِيل لِأَن الْجَوْدَة فِي أَمْوَال الرِّبَا مُعْتَبرَة مُتَقَومَة عِنْد الْمُقَابلَة بِخِلَاف الْجِنْس
فَأَما إِذا كَانَ الْمُؤَدى من جنس النّصاب فقد اخْتلفُوا فِيهِ على ثَلَاثَة أَقْوَال
قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف الْمُعْتَبر هُوَ الْقدر دون الْقيمَة
وَقَالَ الْمُعْتَبر هُوَ الْقيمَة دون الْقدر
وَقَالَ مُحَمَّد الْمُعْتَبر مَا هُوَ الأنفع للْفُقَرَاء فَإِن كَانَ اعْتِبَار الْقيمَة أَنْفَع فَقَوله مثل قَول زفر وَإِن كَانَ اعْتِبَار الْقدر أَنْفَع فَقَوله مثل قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
بَيَان ذَلِك أَن من وَجب عَلَيْهِ أَدَاء خَمْسَة أَقْفِزَة من حِنْطَة جَيِّدَة فِي مِائَتي قفيز حِنْطَة جَيِّدَة للتِّجَارَة بعد حولان الْحول فَأدى خَمْسَة أَقْفِزَة رَدِيئَة يجوز على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف اعْتِبَارا للقدر وَلَا يضمن قيمَة الْجَوْدَة لِأَنَّهُ لَا قيمَة لَهَا فِي أَمْوَال الرِّبَا عِنْد مقابلتها بجنسها وعَلى قَول مُحَمَّد وَزفر عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي قيمَة الْجَوْدَة اعْتِبَارا للقيمة عِنْد زفر واعتبارا للأنفع فِي حق الْفُقَرَاء عِنْد مُحَمَّد

(1/309)


وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ لَهُ قلب فضَّة أَو إِنَاء مصبوغ من فضَّة وَزنه مِائَتَا دِرْهَم وَقِيمَته لجودته وصياغته ثَلَاثمِائَة دِرْهَم وَأدّى خَمْسَة زُيُوفًا أَو نبهرجة أَو فضَّة رَدِيئَة قيمتهَا أَرْبَعَة دَرَاهِم فَإِنَّهُ يجوز وَتسقط عَنهُ الزَّكَاة فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لوُجُود الْقدر وَعند مُحَمَّد وَزفر عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي سَبْعَة دَرَاهِم وَنصف دِرْهَم ويصرفه إِلَى تَمام الْقيمَة لما ذكرنَا من الْأَصْلَيْنِ
وَأما إِذا أدّى زَكَاته من الذَّهَب أَو من مَال لَيْسَ من جنس الْفضة فَإِن عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت وَهِي سَبْعَة دَرَاهِم وَنصف لِأَن الْجَوْدَة متفوقة فِي أَمْوَال الرِّبَا عِنْد مقابلتها بِخِلَاف الْجِنْس بِمَنْزِلَة الْجَوْدَة فِي غير أَمْوَال الرِّبَا
وَإِن وَجب على رجل خَمْسَة أَقْفِزَة رَدِيئَة أَو خَمْسَة دَرَاهِم رَدِيئَة فَأدى أَرْبَعَة أَقْفِزَة جَيِّدَة قيمتهَا خَمْسَة أَقْفِزَة رَدِيئَة وَأَرْبَعَة دَرَاهِم جَيِّدَة قيمتهَا خَمْسَة دَرَاهِم رَدِيئَة فَإِنَّهُ يجوز عَن أَرْبَعَة دَرَاهِم وَأَرْبَعَة أَقْفِزَة وَعَلِيهِ قفيز وَاحِد وَدِرْهَم آخر عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد
أما عِنْدهمَا فاعتبارا للقدر وَهُوَ نَاقص وَأما عِنْد مُحَمَّد فَلِأَن عِنْده الْمُعْتَبر هُوَ الْقدر إِذا كَانَ أَنْفَع
للْفُقَرَاء وَاعْتِبَار الْقدر هَهُنَا أَنْفَع وعَلى قولزفريجوز عَن الْخَمْسَة اعْتِبَارا للقيمة
وعَلى هَذَا نَظَائِر الْمسَائِل
وَمن شَرَائِط الْأَدَاء النِّيَّة فَإِن الزَّكَاة عبَادَة فَلَا تصح من غير النِّيَّة لَكِن يشْتَرط النِّيَّة فِي أَي وَقت ذكر الطَّحَاوِيّ أَنه لَا تجزىء الزَّكَاة عَمَّن أخرجهَا إِلَّا بنية قارنة مُخَالطَة لإخراجها إِيَّاهَا
كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاة
وَلَكِن مَشَايِخنَا قَالُوا يعْتَبر فِي أحد وَقْتَيْنِ وَقت الدّفع أَو وَقت

(1/310)


تَمْيِيز قدر الزَّكَاة عَن النّصاب حَتَّى يكون الْأَدَاء بِنَاء على نِيَّة صَحِيحَة
وَلَو دفع خَمْسَة إِلَى رجل وَأمره أَن يدْفع إِلَى الْفُقَرَاء عَن زَكَاة مَاله وَدفع ذَلِك الرجل وَلم ينْو عِنْد الدّفع جَازَ لِأَن الْمُعْتَبر نِيَّة الْأَمر وَهُوَ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَة والمأمور نَائِب عَنهُ
وَلَو دفع إِلَى ذمِّي ليدفعها إِلَى الْفُقَرَاء جَازَ لوُجُود النِّيَّة من الْأَمر الْمُسلم
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا لَا يجب الزَّكَاة على الصّبيان والمجانين لِأَن الْأَدَاء لَا يَصح مِنْهُم لِأَنَّهُ عبَادَة فَلَا تتأدى بِدُونِ النِّيَّة وَالِاخْتِيَار والطفل وَالْمَجْنُون لَا اخْتِيَار لَهما وَالصَّبِيّ الْعَاقِل عقله عدم فيحق التَّصَرُّفَات الضارة
وَلَو مَاتَ من عَلَيْهِ الزَّكَاة قبل الْأَدَاء فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن أوصى بِالْأَدَاءِ أَو لم يوص
فَإِن لم يوص فَإِنَّهُ تسْقط عَنهُ الزَّكَاة وَلَا يُؤمر الْوَصِيّ وَالْوَارِث بِالْأَدَاءِ من مَاله عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي تُؤْخَذ من تركته
وعَلى هَذَا الِاخْتِلَاف إِذا مَاتَ وَعَلِيهِ صَدَقَة الْفطر وَالْخَرَاج والجزية وَالنُّذُور وَالْكَفَّارَات والنفقات لَا يسْتَوْفى من تركته عندنَا وَعند الشَّافِعِي يسْتَوْفى
وَأما الْعشْر فَإِن كَانَ الْخَارِج قَائِما لَا يسْقط بِالْمَوْتِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وروى عبد الله بن الْمُبَارك عَن أبي حنيفَة أَنه يسْقط

(1/311)


وَأما إِذا اسْتهْلك الْخَارِج حَتَّى صَار دينا فِي ذمَّته فَهُوَ على هَذَا الِاخْتِلَاف
وَأما إِذا أوصى بِالْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي من ثلث مَاله عندنَا وَعند الشَّافِعِي من جَمِيع مَاله لِأَن عِنْده الزَّكَاة حق الْفُقَرَاء فَصَارَ كَسَائِر الدُّيُون
وَلنَا طَرِيقَانِ أَحدهمَا أَن الزَّكَاة عبَادَة وَالْأَدَاء من الْمَيِّت لَا يتَحَقَّق وَلم يُوجد مِنْهُ الْإِيصَاء والإنابة حَتَّى يكون أَدَاء النَّائِب كأدائه وَالْعِبَادَة لَا تتأدى إِلَى بالإنابة الشَّرْعِيَّة
وَالثَّانِي أَن هَذِه الْأَشْيَاء وَجَبت بطرِيق الصِّلَة والصلات تسْقط بِالْمَوْتِ قبل التَّسْلِيم
وَأما الْعشْر فقد ثَبت مُشْتَركا
وَلَو امْتنع من عَلَيْهِ الزَّكَاة عَن الْأَدَاء فَإِن السَّاعِي لَا يَأْخُذ مِنْهُ الزَّكَاة جبرا
وَلَو أَخذ لَا يَقع عَن الزَّكَاة عندنَا
وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ لَهُ أَن يَأْخُذ من النّصاب جبرا وَيَقَع عَن الزَّكَاة لِأَن الزَّكَاة عبَادَة عندنَا فَلَا بُد من الْأَدَاء مِمَّن عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ حَتَّى تحصل الْعِبَادَة
وَلَكِن عندنَا للساعي أَن يجْبرهُ على الْأَدَاء بِالْحَبْسِ فيؤديه بِنَفسِهِ لِأَن الْإِكْرَاه لَا يُنَافِي الِاخْتِيَار فَيتَحَقَّق الْفِعْل عَن اخْتِيَاره فَيجوز
وَلَو عجل زَكَاة مَاله وَدفع إِلَى الْفُقَرَاء بنية الزَّكَاة جَازَ عندنَا خلافًا لمَالِك
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه استسلف من الْعَبَّاس زَكَاة عَاميْنِ
ثمَّ عندنَا كَمَا يجوز تَعْجِيل الزَّكَاة عَن النّصاب الْمَوْجُود للْحَال يجوز

(1/312)


عَن نصب كَثِيرَة لم تُوجد بعد إِن كَانَ فِي ملكه نِصَاب وَاحِد بِأَن كَانَ عِنْده مِائَتَا دِرْهَم فَعجل زَكَاة الْألف أَو أَكثر يجوز عندنَا
وقالزفر لَا يجوز
وَإِنَّمَا يجوز التَّعْجِيل عندنَا بشرائط ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يكون مَالِكًا للنصاب فِي أول الْحول
وَالثَّانِي أَن يكون النّصاب كَامِلا فِي آخر الْحول أَيْضا
وَالثَّالِث أَن يكون فِي وسط الْحول بعض النّصاب الَّذِي انْعَقَد عَلَيْهِ الْحول أَو كُله مَوْجُودا وَلَا يشْتَرط كَمَاله لِأَن أول الْحول وَقت انْعِقَاد سَبَب الْوُجُوب وَآخره وَقت الْوُجُوب فَأَما كَمَال النّصاب فِي وسط الْحول فَلَيْسَ بِشَرْط لِأَنَّهُ لَيْسَ وَقت الْوُجُوب وَلَا وَقت انْعِقَاد السَّبَب لَكِن لَا بُد من بَقَاء بعض النّصاب الأول حَتَّى يَصح ضم الْمُسْتَفَاد إِلَيْهِ على مَا مر
بَيَان ذَلِك أَن من كَانَ عِنْده فِي أول الْحول مائَة دِرْهَم أَو أَربع من الْإِبِل السَّائِمَة ثمَّ اسْتَفَادَ مَا يكمل بِهِ فِي آخر الْحول لَا يجب
وَلَو كَانَ عِنْده فِي أول الْحول مِائَتَا دِرْهَم فَعجل خَمْسَة مِنْهَا وَلم يستفد شَيْئا حَتَّى حَال الْحول فَإِن مَا عجل لَا يكون زَكَاة وَلَكِن يكون تَطَوّعا لِأَنَّهُ لم يُوجد كَمَال النّصاب وَقت الْوُجُوب
وَلَو اسْتَفَادَ خَمْسَة فِي وسط الْحول ثمَّ حَال الْحول وَعِنْده مِائَتَا دِرْهَم فَإِن الْمُعَجل يكون زَكَاة لوُجُود كَمَال النّصاب فِي أَوله وَآخره
وَلَو اسْتَفَادَ مَا يكمل بِهِ النّصاب فِي أول الْحول الثَّانِي وَتمّ الْحول الثَّانِي والنصاب كَامِل فَإِن الْمُعَجل لَا يكون زَكَاة عَن الْحول الثَّانِي لِأَنَّهُ عجل الزَّكَاة عَن الْحول الأول

(1/313)


وَلَو كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَم فعجلها كلهَا عَن الزَّكَاة أَو أدّى الْبَعْض وَهلك الْبَاقِي ثمَّ اسْتَفَادَ نِصَابا آخر وَتمّ الْحول فَإِن الْمُعَجل لَا يَقع عَن الزَّكَاة لِأَنَّهُ لم يبْق شَيْء من النّصاب الأول فِي وسط الْحول فَانْقَطع الْحول
وَلَو عجل زَكَاة مَاله إِلَى الْفَقِير ثمَّ هلك النّصاب كُله أَو بعضه وَلم يستفد شَيْئا يكمل بِهِ النّصاب حَتَّى تمّ الْحول فَإِنَّهُ لَا يرجع على الْفَقِير لِأَنَّهُ وَقع أصل الْقرْبَة وَإِنَّمَا التَّوَقُّف فِي صفة الْفَرْضِيَّة فَلَا يَصح الرُّجُوع
وَلَو دفع الْمُعَجل إِلَى السَّاعِي ثمَّ هلك النّصاب كُله فَلهُ أَن يَأْخُذهُ لِأَنَّهُ لم يصل إِلَى يَد الْفَقِير بعد

(1/314)


بَاب مَا يمر بِهِ على الْعَاشِر
الْمَار على الْعَاشِر أَصْنَاف ثَلَاثَة الْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالْحَرْبِيّ
أما المسلمفيؤخذ مِنْهُ ربع الْعشْر على وَجه الزَّكَاة حَتَّى تسْقط عَنهُ زَكَاة تِلْكَ السّنة وَيُوضَع مَوضِع الزَّكَاة إِلَّا أَنه ثَبت حق الْأَخْذ لعاشر لأجل الحماية لِأَن الْأَمْوَال فِي المفاوز لَا تحفظ إِلَّا بِقُوَّة السُّلْطَان فَتَصِير بِمَنْزِلَة السوائم
وَإِذا كَانَ الْمَأْخُوذ زَكَاة فَيشْتَرط شَرَائِط الزَّكَاة من الْأَهْلِيَّة وَكَون المَال ناميا فَاضلا عَن الْحَاجة حَتَّى لَا يَأْخُذ من مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون ربع الْعشْر وَكَذَا لَا يَأْخُذ إِذا لم يحل عَلَيْهِ الْحول وَكَذَا إِذا كَانَ عَلَيْهِ دين لَا يَأْخُذ وَلَا يَأْخُذ إِذا لم يكن المَال للتِّجَارَة
وَيقبل قَوْله فِي دَعْوَى الدّين وَفِي دَعْوَاهُ أَنه لم يحل عَلَيْهِ الْحول وَإنَّهُ لَيْسَ بِمَال التِّجَارَة كَمَا فِي الزَّكَاة سَوَاء إِلَّا إِذا اتهمه الْعَاشِر فيحلفه لِأَن حق الْأَخْذ لَهُ فَيكون القَوْل قَول الْمُنكر مَعَ يَمِينه
وَكَذَا لَا يَأْخُذ من الْمكَاتب لَا تجب عَلَيْهِ الزَّكَاة
وَكَذَا إِذا قَالَ هَذِه بضَاعَة لفُلَان لَا يَأْخُذ مِنْهُ لِأَن الْمَالِك مَا أمره بأَدَاء الزَّكَاة وَإِنَّمَا أمره بِالتَّصَرُّفِ لَا غير
وَكَذَلِكَ الْمضَارب وَالْعَبْد الْمَأْذُون إِذا مرا على الْعَاشِر بِمَال الْمُضَاربَة وَمَال الْمولى لَا يَأْخُذ مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا لم يؤمرا بأَدَاء الزَّكَاة

(1/315)


وَذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير إِذا مر الْمضَارب وَالْعَبْد الْمَأْذُون بِمَال أَخذ مِنْهُ الزَّكَاة فِي قَول أبي حنيفَة الأول
قَالَ أَبُو يُوسُف ثمَّ رَجَعَ فِي المضاربين وَقَالَ لَا يَأْخُذ مِنْهُ وَلَا أعلمهُ رَجَعَ فِي العَبْد الْمَأْذُون أم لَا وَلَكِن رُجُوعه فِي الْمضَارب رُجُوع فِي العَبْد الْمَأْذُون
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يعشرهما
وَالأَصَح أَن لَا يعشرهما لِأَنَّهُمَا أمرا بِالْحِفْظِ وَالتَّصَرُّف لَا بأَدَاء الزَّكَاة
وَلَو قَالَ معي أقل من النّصاب وَعِنْدِي فِي الْبَلَد مَا يكمل بِهِ النّصاب فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذ مِنْهُ لِأَن حق الْأَخْذ لَهُ بِاعْتِبَار الحماية وَمَا دون النّصاب تَحت حمايته لَا كل النّصاب وَفِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى تجب عَلَيْهِ الزَّكَاة لكَمَال النّصاب
وَإِذا مر على الْعَاشِر فِي الْحول أَكثر من مرّة وَاحِدَة لَا يَأْخُذ إِلَّا مرّة وَاحِدَة لِأَن الْوَاجِب زَكَاة وَهِي لَا تَتَكَرَّر فِي الْحول
وَلَو قَالَ الْمُسلم للعاشر أدّيت الزَّكَاة إِلَى عَاشر غَيْرك وَفِي السّنة عَاشر غَيره أَو قَالَ دفعتها إِلَى الْمَسَاكِين فَالْقَوْل قَوْله لِأَنَّهُ أَمِين كَالْمُودعِ
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَا يقبل قَوْله إِلَّا أَن يَأْتِي بِبَرَاءَة من ذَلِك الْعَاشِر
وَأما الذِّمِّيّ إِذا مر على الْعَاشِر فَالْجَوَاب فِيهِ وَفِي الْمُسلم سَوَاء فِي جَمِيع ذَلِك لِأَنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ باسم الزَّكَاة إِلَّا أَنه يُؤْخَذ مِنْهُ نصف الْعشْر اسْتِدْلَالا بِصَدقَة بني تغلب لما كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم باسم الزَّكَاة يُؤْخَذ نصف الْعشْر فَهَذَا كَذَلِك
وَأما الحربيون فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُم مِثْلَمَا يَأْخُذُونَ من الْمُسلمين
وَإِن كَانَ لَا يعلم ذَلِك يُؤْخَذ مِنْهُم الْعشْر

(1/316)


وأصل هَذَا مَا رُوِيَ عنعمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كتب إِلَى العشار وَقَالَ خُذُوا من الْمُسلم ربع الْعشْر وَمن الذِّمِّيّ نصف الْعشْر وَمن الْحَرْبِيّ الْعشْر وَرُوِيَ أَنه قَالَ خُذُوا مِنْهُم مَا يَأْخُذُونَ من تجارنا فَقيل لَهُ إِن لم نعلم مَا يَأْخُذُونَ من تجارنا قَالَ خُذُوا الْعشْر
ثمَّ مَا يُؤْخَذ مِنْهُم فِي معنى الْجِزْيَة والمؤونة لَا باسم الصَّدَقَة حَتَّى يصرف فِي مصارف الْجِزْيَة
وَلَا يشْتَرط أَن يكون المَال للتِّجَارَة وَلَا فَارغًا عَن الدّين وَلَا يشْتَرط حولان الْحول
وَلَو قَالَ هَذَا المَال بضَاعَة لَا يقبل قَوْله
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أدّيت إِلَى عَاشر آخر لَا يقبل لِأَن الْمَأْخُوذ مِنْهُم أُجْرَة الحماية وَقد وجدت الحماية
وَكَذَا لَا يصدق فِي جَمِيع مَا يصدق فِيهِ الذِّمِّيّ وَالْمُسلم إِلَّا فِي فصل وَاحِد وَهُوَ أَن يَقُول هَذِه الْجَارِيَة أم وَلَدي وَهَذَا الْغُلَام وَلَدي فَإِنَّهُ يقبل لِأَن النّسَب يثبت فِي دَار الْحَرْب
وَكَذَلِكَ يُؤْخَذ الْعشْر من مَال الصَّبِي الْحَرْبِيّ وَالْمَجْنُون الْحَرْبِيّ
وَلَو دخل الْحَرْبِيّ دَار الْإِسْلَام بِأَمَان فعشر ثمَّ دخل دَار الْحَرْب ثمَّ خرج فِي ذَلِك الْحول مرّة أُخْرَى أَو مرَارًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ فِي كل مرّة لِأَنَّهُ يَسْتَفِيد عصمَة جَدِيدَة فِي كل مرّة
وَلَو مر التَّاجِر على الْعَاشِر بِمَا لَا يبْقى حولا من الرطاب والخضرة وَالثِّمَار الرّطبَة فَإِنَّهُ لَا يعشره عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يعشره
وَالصَّحِيح قَوْله لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة
وَهَذَا النَّص وَلِأَن فِي هَذِه الْأَشْيَاء لَا يحْتَاج إِلَى الحماية

(1/317)


غَالِبا لِأَن السراق وقطاع الطَّرِيق لَا يقطعون الطَّرِيق لأجل الْخضر وَلَا يَأْخُذُونَ إِلَّا بِقدر مَا يُؤْكَل فِي الْحَال فَلَا يجب فِيهَا المؤونة مَقْصُودا
وَذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير أَن الذِّمِّيّ إِذا مر على الْعَاشِر بالخمور والخنازير يعشر الْخُمُور دون الْخَنَازِير
وقالأبو يُوسُف يعشرهما جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا أَمْوَال عِنْدهم
وعندأبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا تعشر الْخَنَازِير
وَقَول أبي يُوسُف أظهر

(1/318)


بَاب الْعشْر وَالْخَرَاج
فِي الْبَاب فُصُول بَيَان الأَرْض العشرية والخراجية
وَبَيَان مَا يجب فِيهِ الْعشْر وَأَن النّصاب هَل هُوَ شَرط أم يجب فِي الْقَلِيل وَالْكثير وَبَيَان سَبَب وجوب الْعشْر وَالْخَرَاج
وَبَيَان الْمحل الَّذِي يجب فِيهِ الْعشْر وَالَّذِي فِيهِ نصف الْعشْر
أما بَيَان الْأَرَاضِي فَنَقُول الْأَرَاضِي نَوْعَانِ عشرِيَّة وخراجية
فالعشرية خَمْسَة أَنْوَاع أَحدهَا أَرض الْعَرَب فَكلهَا عشرِيَّة
وَالثَّانِي كل أَرض أسلم أَهلهَا طَوْعًا فَهِيَ عشرِيَّة
وَالثَّالِث الْأَرَاضِي الَّتِي فتحت عنْوَة وقهرا وَقسمت بَين الْغَانِمين فَهِيَ عشرِيَّة لِأَن الأَرْض لَا تَخْلُو عَن المؤونة فَكَانَت الْبدَاءَة بالعشر فِي حق الْمُسلمين أولى لما فِيهِ من شُبْهَة الْعِبَادَة
وَالرَّابِع الْمُسلم إِذا اتخذ دَاره بستانا أَو كرما فَهِيَ عشرِيَّة لِأَنَّهَا مِمَّا يبتدىء عَلَيْهَا المؤونة فالعشر أولى

(1/319)


وَالْخَامِس الْمُسلم إِذا أحيى الْأَرَاضِي الْميتَة بِإِذن الإِمَام وَهِي من تَوَابِع الْأَرَاضِي العشرية أَو تسقى بِمَاء الْعشْر وَهُوَ مَاء السَّمَاء وَمَاء الْعُيُون المستنبط من الْأَرَاضِي العشرية فَهِيَ عشرِيَّة
وَأما الْأَرَاضِي الخراجية فسواد الْعرَاق كلهَا خَرَاجِيَّة
وكل أَرض فتحت عنْوَة وقهرا وَتركت على أَيدي أَرْبَابهَا وَمن عَلَيْهِم الإِمَام فَإِنَّهُ يضع الْجِزْيَة على أَعْنَاقهم إِذا لم يسلمُوا وَالْخَرَاج على أراضيهم إِذا أَسْلمُوا أَو لم يسلمُوا
وَكَذَلِكَ إِذا جلاهم وَنقل إِلَيْهَا آخَرين فَالْجَوَاب كَذَلِك
وَالْمُسلم إِذا أحيى أَرضًا ميتَة وَهِي تسقى بِمَاء الْخراج فَهِيَ خَرَاجِيَّة
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيّ إِذا أحيى أَرضًا ميتَة بِإِذن الإِمَام أَو رضخ لَهُ أَرضًا فِي الْغَنِيمَة إِذا قَاتل مَعَ الْمُسلمين
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيّ إِذا اتخذ دَاره بستانا فَإِنَّهُ تكون خَرَاجِيَّة
وَأما الذِّمِّيّ إِذا اشْترى من مُسلم أَرض الْعشْر فَإِنَّهَا تصير خَرَاجِيَّة عِنْد أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهِ عشران وَقَالَ مُحَمَّد عَلَيْهِ عشر وَاحِد
وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَبُو حنيفَة لِأَن الْعشْر وَالْخَرَاج شرعا لمؤونة الْأَرَاضِي فَمن كَانَ أَهلا لأَدَاء الْعشْر يوضع عَلَيْهِ الْعشْر وَمن لم يكن يوضع عَلَيْهِ الْخراج فَأَما الذِّمِّيّ إِذا اشْترى أَرض الْمُسلم وَهُوَ لَيْسَ من أهل الْعشْر يجب أَن تنْقَلب خَرَاجِيَّة
وَالْمُسلم إِذا اشْترى من الذِّمِّيّ أَرضًا خَرَاجِيَّة لَا تنْقَلب عشرِيَّة

(1/320)


لِأَن الْمُسلم من أهل وجوب الْخراج فِي الْجُمْلَة
وَالْأَصْل أَن مؤونة الأَرْض لَا تغير من حَالهَا إِلَّا لضَرُورَة وَفِي حق الذِّمِّيّ ضَرُورَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل وجوب الْعشْر
وَلَو اشْترى التغلبي أَرض عشر من مُسلم فَعَلَيهِ عشران عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَقَالَ مُحَمَّد عَلَيْهِ عشر وَاحِد
وَأما بَيَان الْمحل الَّذِي يجب فِيهِ الْعشْر فَنَقُول اخْتلفُوا فِيهِ قالأبو حنيفَة كل خَارج من الأَرْض يقْصد بزراعته نَمَاء الأَرْض وَالْغلَّة ويستنبت فِي الجنات يجب فِيهِ الْعشْر سَوَاء كَانَت لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة كالحنطة وَالشعِير وَسَائِر الْحُبُوب وَالزَّبِيب وَالتَّمْر أَو لم يكن لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة كأصناف الْفَاكِهَة الرّطبَة أَو من الخضراوات والرطاب والرياحين وقصب الذريرة وقصب السكر وقوائم الْخلاف الَّتِي تقطع فِي كل ثَلَاث سِنِين وَغير ذَلِك
فَأَما إِذا كَانَ من جنس لَا يستنبت فِي الأَرْض وَلَا يقْصد بالزراعة كالطرفاء والقصب الْفَارِسِي والحطب والحشيش وَالسَّعَف والتبن فَلَا عشر فِيهِ

(1/321)


وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يجب الْعشْر إِلَّا فِي الْحُبُوب وَمَاله ثَمَرَة بَاقِيَة
ثمَّ النّصاب هَل هُوَ شَرط لوُجُوب الْعشْر فِيمَا هُوَ بَاقٍ من الْحُبُوب وَالثِّمَار أم لَا على قولأبي حنيفَة لَيْسَ بِشَرْط بل يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره
وعَلى قولهمالا يجب مَا لم يكن خَمْسَة أوسق والوسق سِتُّونَ صَاعا كل صَاع ثَمَانِيَة أَرْطَال
وَالصَّحِيح مَا قالهأبو حنيفَة لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} وَلما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِيمَا سقته السَّمَاء الْعشْر وَفِيمَا سقِِي بغرب أَو دالية نصف الْعشْر
وَأما بَيَان الْمحل الَّذِي يجب فِيهِ الْعشْر وَمَا يجب فِيهِ نصف الْعشْر فَنَقُول مَا سقِِي بِمَاء السَّمَاء والأنهار والعيون العشرية يجب فِيهِ الْعشْر وَمَا سقِِي بغرب أَو دالية أَو سانية يجب فِيهِ نصف الْعشْر لما روينَا من الحَدِيث
وَلَو أَن الزَّرْع يسقى فِي بعض السّنة سيحا وَفِي بَعْضهَا بدالية فَإِن الْمُعْتَبر فِيهِ أَكثر الْمدَّة وَالْغَالِب
وَأما بَيَان سَبَب وجوب الْعشْر وَالْخَرَاج فَنَقُول سَبَب وجوب الْعشْر هُوَ الأَرْض النامية بالخارج حَقِيقَة
وَسبب وجوب الْخراج هُوَ الأَرْض النامية بالخارج حَقِيقَة أَو تَقْديرا
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْخَارِج إِذا أَصَابَته آفَة فَهَلَك لَا يجب الْعشْر إِن كَانَت الأَرْض

(1/322)


عشرِيَّة وَلَا الْخراج إِن كَانَت خَرَاجِيَّة لفَوَات النَّمَاء حَقِيقَة وتقديرا
وَلَو كَانَت لَهُ أَرض عشرِيَّة وَتمكن من زراعتها وَلم يزرع لَا يجب عَلَيْهِ الْعشْر لِأَنَّهُ لم يُوجد الْخَارِج حَقِيقَة
وَلَو كَانَت الأَرْض خَرَاجِيَّة وَتمكن من زراعتها وَلم يزرع يجب عَلَيْهِ الْخراج لوُجُود الْخَارِج تَقْديرا
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِن الْعشْر وَالْخَرَاج لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرض وَاحِدَة بل إِن كَانَت عشرِيَّة يجب فِيهَا الْعشْر وَإِن كَانَت خَرَاجِيَّة يجب الْخراج وَقَالَ الشَّافِعِي يَجْتَمِعَانِ
وَلَو اسْتَأْجر أَرضًا عشرِيَّة وزرعها فالعشر على الْأجر عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا على الْمُسْتَأْجر لِأَن الْعشْر يجب فِي الْخَارِج وَهُوَ ملك الْمُسْتَأْجر ولكنأبا حنيفَة يَقُول إِن الزَّرْع فِي الْمَعْنى حَاصِل للمؤاجر لحُصُول الْأجر لَهُ فَلَو هلك الْخَارِج قبل الْحصار لَا يجب الْعشْر على الْأجر وَإِن هلك بعد الْحَصاد لَا يسْقط الْعشْر عَن المؤاجر وعَلى قَوْلهمَا لَو هلك قبل الْحَصاد أَو بعده فَإِنَّهُ يهْلك بِمَا فِيهِ
وَلَو أعارها من مُسلم فزرعها فالعشر على الْمُسْتَعِير بالِاتِّفَاقِ لِأَن الْخَارِج لَهُ صُورَة وَمعنى وَلَو هلك يهْلك بِمَا فِيهِ
وَلَو دَفعهَا مُزَارعَة فعندهما الْمُزَارعَة جَائِزَة وَالْعشر فِي الْخَارِج وعندأبي حنيفَة الْمُزَارعَة فَاسِدَة وَلَو خرج الزَّرْع وَأدْركَ فعشر الْخَارِج كُله على رب الأَرْض إِلَّا أَن فِي حِصَّته يجب فِي عينه وَفِي حِصَّة الْمزَارِع يكون دينا فِي ذمَّته
وَلَو غصبهَا غَاصِب فزرعها ينظر إِن انتقصت الأَرْض بالزراعة فالعشر على رب الأَرْض وعَلى الْغَاصِب نُقْصَان الأَرْض كَأَنَّهُ أجرهَا مِنْهُ وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا فِي الْخَارِج

(1/323)


وَإِن لم تنتقص الأَرْض بالزراعة فالعشر على الْغَاصِب فِي الْخَارِج كالعارية سَوَاء
وَإِن كَانَت الأَرْض خَرَاجِيَّة فِي الْوُجُوه كلهَا فَإِن الْخَارِج على رب الأَرْض بِالْإِجْمَاع إِلَّا فِي الْغَصْب فَإِنَّهُ إِذا لم تنتقص الأَرْض بالزراعة فَإِن الْخراج على الْغَاصِب وَإِن نقصت فعلى رب الأَرْض كَأَنَّهُ أجرهَا
وَأما بَيَان الْخراج ومقداره فَنَقُول الْخراج نَوْعَانِ خراج وَظِيفَة وخراج مقاسمة
أما الأول فعلى مَرَاتِب ثَبت ذَلِك بتوظيف عمر رَضِي الله عَنهُ بِإِجْمَاع الصَّحَابَة
فِي كل جريب أَرض بَيْضَاء تصلح للزِّرَاعَة قفيز مِمَّا يزرع فِيهَا وَدِرْهَم
فالقفيز هُوَ الصَّاع
وَالدِّرْهَم هُوَ الْفضة الْخَالِصَة وَزنه وزن سَبْعَة والجريب أَرض طولهَا سِتُّونَ ذِرَاعا وعرضها سِتُّونَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْملك كسْرَى وَيزِيد على ذِرَاع الْعَامَّة بقبضة
وَفِي جريب الرّطبَة خَمْسَة دَرَاهِم
وَفِي جريب الْكَرم عشرَة دَرَاهِم
وَأما الجريب الَّذِي فِيهِ أَشجَار مثمرة وَلَا يصلح للزِّرَاعَة فَلم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِذا كَانَت النخيل ملتفة جعلت عَلَيْهِ الْخراج بِقدر مَا يُطيق وَلَا أزيده على جريب الْكَرم
وَفِي جريب الأَرْض الَّتِي ينْبت فِيهَا الزَّعْفَرَان قدر مَا تطِيق فَإِن كَانَ ينظر إِلَى غَلَّتهَا فَإِن كَانَت تبلغ غلَّة الأَرْض المزروعة يُؤْخَذ مِنْهَا قدر خراج الزَّرْع وَإِن كَانَت تبلغ غلَّة الرّطبَة يُؤْخَذ مِنْهَا خَمْسَة على هَذَا

(1/324)


ثمَّ أَرض الْخراج إِذا لم تخرج شَيْئا بِسَبَب آفَة الْبرد وَنَحْوهَا لَا شَيْء فِيهَا وَإِن أخرجت قدر الْخراج لَا غير فَإِنَّهُ يجب نصف الْخراج
وَإِن أخرجت مِقْدَار مثلي الْخراج فَصَاعِدا يُؤْخَذ جَمِيع الْخراج الموظف عَلَيْهَا
فَأَما إِذا كَانَت الأَرْض تطِيق أَكثر من الْخراج الموظف هَل يُزَاد عَلَيْهِ أم لَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ يُزَاد بِقدر مَا تطِيق
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يُزَاد
وَأما خراج الْمُقَاسَمَة فَهُوَ أَن الإِمَام إِذا من على أهل بَلْدَة فتحهَا جعل على أراضيهم الْخراج مِقْدَار ربع الْخَارِج أَو ثلثه أَو نصفه
وَهَذَا جَائِز كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَهْل خَيْبَر
وَيكون حكم هَذَا الْخراج كَحكم الْعشْر إِلَّا أَنه يوضع فِي مَوضِع الْخراج لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة خراج
ثمَّ فِي الْعشْر وَالْخَرَاج لَا يعْتَبر الْمَالِك وَلَا أَهْلِيَّته حَتَّى يجب فِي الأَرْض الْمَوْقُوفَة وَيجب فِي أَرَاضِي الْمكَاتب وَالصبيان والمجانين

(1/325)


بَاب الْمَعْدن والركاز
فِي الْبَاب فصلان أَحدهمَا حكم المَال الْمُسْتَخْرج من الأَرْض
وَالثَّانِي حكم المَال الْمُسْتَخْرج من الْبحار
أما الأول فَهُوَ قِسْمَانِ أَحدهمَا مَال مدفون النَّاس
وَالثَّانِي مَال مَخْلُوق فِي الأَرْض بتخليق الله تَعَالَى
فالمدفون يُسمى كنزا على الْخُصُوص
وَالْمَال الْمَخْلُوق فِي الأَرْض يُسمى معدنا على الْخُصُوص
والركاز اسْم يحتملهما جَمِيعًا فيذكر وَيُرَاد بِهِ الْكَنْز وَيذكر وَيُرَاد بِهِ الْمَعْدن
أما الْكَنْز فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن وجد فِي دَار الْإِسْلَام أَو فِي دَار الْحَرْب وكل ذَلِك لَا يَخْلُو إِمَّا إِن وجد فِي أَرض مَمْلُوكَة أَو فِي أَرض غير مَمْلُوكَة
وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ بِهِ عَلامَة الْإِسْلَام كالمصحف وَالدَّرَاهِم الْمَكْتُوب عَلَيْهَا الْقُرْآن وَمَا أشبه ذَلِك أَو لم يكن

(1/327)


أما إِذا كَانَ وجد فِي دَار الْإِسْلَام فَإِن كَانَ فِي أَرض غير مَمْلُوكَة كالجبال والمفاوز وَغَيرهمَا فَإِنَّهُ ينظر إِن كَانَ بِهِ عَلامَة الْإِسْلَام فَإِن حكمه حكم اللّقطَة يصنع بِهِ مَا يصنع فِي اللّقطَة على مَا يعرف إِن شَاءَ الله
وَإِن لم يكن ثمَّة عَلامَة الْإِسْلَام وَلَا عَلامَة الْجَاهِلِيَّة بَعضهم قَالُوا بِأَن فِي زمَان حكمه حكم اللّقطَة لِأَن عهد الْإِسْلَام قد طَال
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا إِن حكمه حكم مَا يعرف أَنه مَال الْجَاهِلِيَّة بِوُجُود العلام لِأَن الْكُنُوز غَالِبا من الْكَفَرَة
ثمَّ حكم الْكَنْز الَّذِي بِهِ عَلامَة الْجَاهِلِيَّة من الدَّرَاهِم المنقوشة عَلَيْهَا الصَّنَم وَنَحْو ذَلِك أَنه يجب فِيهِ الْخمس لِأَن حكمه حكم الْغَنِيمَة لِأَنَّهُ مَال الْكفَّار وَأَرْبَعَة أخماسه للواجد لِأَنَّهُ أَخذه بِقُوَّة نَفسه وَيَسْتَوِي الْوَاحِد بَين أَن يكون حرا أَو عبدا مُسلما أَو ذِمِّيا صَغِيرا أَو كَبِيرا غَنِيا أَو فَقِيرا لِأَن هَؤُلَاءِ من أهل الْغَنِيمَة إِلَّا الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن فَإِنَّهُ إِذا وجد كنزا فِي دَار الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يسْتَردّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل ملك الْغَنِيمَة إِلَّا إِذا كَانَ يعْمل فِي المفاوز بِإِذن الإِمَام على شَرط فَلهُ أَن يُعْطي الْمَشْرُوط وَالْبَاقِي لَهُ لِأَنَّهُ جعل ذَلِك أجره
وَأما إِذا وجد فِي أَرض مَمْلُوكَة فالخمس وَاجِب لما مر وَأما الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس فَلصَاحِب الخطة أَو لوَرثَته إِن عرفُوا وَإِن لم يعرفوا فَيكون لأقصى مَالك الأَرْض أَو لوَرثَته وَإِلَّا فَيكون لبيت المَال وَهَذَا قولأبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يكون للواجد وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(1/328)


وَأما إِذا وجد فِي دَار الْحَرْب فَإِن كَانَ فِي أَرض غير مَمْلُوكَة يكون للواجد وَلَا خمس فِيهِ سَوَاء دخل بِأَمَان أَو بِغَيْر أَمَان لِأَن ذَلِك مَال مُبَاح فَيكون للواجد وَلَا خمس فِيهِ لِأَنَّهُ أَخذ ملك الْكفَّار متلصصا لِأَنَّهُ لوَرَثَة الْوَاضِع
وَأما إِذا كَانَ فِي أَرض مَمْلُوكَة فَإِن دخل بِأَمَان فَعَلَيهِ أَن يردهُ إِلَى صَاحب الأَرْض حَتَّى لَا يُؤَدِّي إِلَى الْغدر والخيانة فِي الْأمان
وَلَو لم يردهُ وَأخرجه إِلَى دَار الْإِسْلَام يكون ملكا لَهُ وَلَا يطيب لَهُ كالملوك بشرَاء فَاسد وَلَو بَاعه يصير ملكا للْمُشْتَرِي
وَأما إِذا دخل بِغَيْر أَمَان حل لَهُ ذَلِك وَلَا خمس فِيهِ لِأَن هَذَا مَال مُبَاح أَخذه متلصصا حَتَّى إِذا دخل جمَاعَة ممتنعون فِي دَار الْحَرْب وظفروا على كنوزهم فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْخمس
وَأما الْمَعْدن فالخارج مِنْهُ على ثَلَاثَة أَنْوَاع مِنْهَا مَا يذاب بالإذابة وينطبع بالحيلة كالذهب وَالْفِضَّة والنحاس والرصاص وَأَشْبَاه ذَلِك
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا لَا يذاب وَلَا ينطبع كالجص والنورة والزرنيخ والكحل والياقوت والفصوص والفيروزج وَنَحْوهَا
وَالنَّوْع الثَّالِث مَا هُوَ مَائِع كالنفط والقير وَنَحْو ذَلِك
وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن وجد فِي دَار الْإِسْلَام أَو فِي دَار الْحَرْب فِي أَرض مَمْلُوكَة أَو غير مَمْلُوكَة

(1/329)


أما إِذا وجد فِي دَار الْإِسْلَام فَينْظر إِن وجد فِي أَرض غير مَمْلُوكَة وَالْمَوْجُود مِمَّا ينطبع بالحيلة ويذاب بالإذابة فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْخمس قل أَو كثر وَأَرْبَعَة أخماسه للواجد كَائِنا من كَانَ غير الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن فَإِنَّهُ يسْتَردّ مِنْهُ إِلَّا إِذا قاطعه الإِمَام فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْمَشْرُوط حكما للأمان
وَهَذَا عندنَا وعندالشافعي يجب فِي معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة ربع الْعشْر
وَفِيمَا ينطبع غير الذَّهَب وَالْفِضَّة الْخمس فعلى أصل الشَّافِعِي يُؤْخَذ بطرِيق الزَّكَاة حَتَّى قَالَ النّصاب شَرط وَعند بَعضهم الْحول شَرط
وَفِي غير الذَّهَب وَالْفِضَّة يحْتَاج إِلَى نِيَّة التِّجَارَة حَتَّى يجب فِيهِ الْخمس
وَعِنْدنَا يُؤْخَذ بطرِيق الْغَنِيمَة فَلَا يشْتَرط فِيهِ شَرَائِط الزَّكَاة
وَيحل دفع الْخمس إِلَى الْوَالِدين والمولودين وهم فُقَرَاء كَمَا فِي الْغَنَائِم
وَيجوز للواجد أَن يصرف إِلَى نَفسه إِذا كَانَ مُحْتَاجا وَلَا يَكْفِيهِ الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس
وَعِنْده لَا يجوز
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ العجماء جَبَّار والقليب جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس قيل يَا رَسُول الله وَمَا الرِّكَاز قَالَ الذَّهَب وَالْفِضَّة اللَّذَان خلقهما الله تَعَالَى فِي الأَرْض يَوْم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض
وَلِأَن الْمَعْدن كَانَ فِي يَد الْكَفَرَة وَقد زَالَت

(1/330)


أَيْديهم وَلم تثبت يَد الْمُسلمين لأَنهم لم يقصدوا الِاسْتِيلَاء على الْجبَال والمفاوز فَبَقيَ مَا تحتهَا على حكم ملك الْكفَّار فَيكون ملكا للمستولي بِقُوَّة نَفسه بطرِيق مَشْرُوع فَيجب الْخمس كَمَا فِي الْكَنْز
فَأَما إِذا كَانَ مَعْدن النورة وَمَا لَا ينطبع من الفصوص وَنَحْوهَا
فَإِنَّهُ يثبت الْملك فِيهِ للواجد وَلَا يجب الْخمس لِأَنَّهَا من أَجزَاء الأَرْض كالتراب والأحجار والفصوص أَحْجَار مضيئة
وَأما إِذا كَانَ مَعْدن القير والنفط فَلَا شَيْء فِيهِ وَيكون للواجد لِأَن هَذَا مَاء وَلَا يقْصد بِالِاسْتِيلَاءِ فَلم يكن فِي يَد الْكفَّار حَتَّى يكون من الْغَنَائِم فَلَا يجب الْخمس فِيهَا
وَأما إِذا وجد الْمَعْدن فِي أَرض مَمْلُوكَة فِي دَار الْإِسْلَام فَإِن الْملك يكون لصَاحب الأَرْض وَلَا يجب الْخمس عِنْد أبي حنيفَة وَكَذَلِكَ فِي الدَّار والحانوت
وَذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير أَنه يجب فِي الأَرْض وَلَا يجب فِي الدَّار
وَعِنْدَهُمَا يجب الْخمس وَالْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس تكون لصَاحب الْملك لِأَن الإِمَام ملك الأَرْض بِمَا فِيهَا من الْمَعْدن فَيصح فِي حق الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس دون الْخمس لِأَنَّهُ حق الْفُقَرَاء
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن الإِمَام ملك الأَرْض مُطلقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَهَذَا من أَجْزَائِهَا وَالْإِمَام لَو قسم الْغَنَائِم وَجعل الْكل للغانمين إِذا كَانَت حَاجتهم لَا تنْدَفع بالأربعة الْأَخْمَاس جَازَ وَله هَذِه الْولَايَة فَكَذَا هَذَا
فَأَما إِذا وجد الْمَعْدن فِي دَار الْحَرْب فَإِن وجد فِي أَرض غير مَمْلُوكَة فَهِيَ لَهُ وَلَا خمس فِيهِ

(1/331)


وَإِن وجد فِي ملكهم فَإِن دخل بِأَمَان رد عَلَيْهِم وَإِن دخل بِغَيْر أَمَان يكون خَالِصا لَهُ من غير خمس كَمَا فِي الْكَنْز
وَأما الْمُسْتَخْرج من الْبحار كَاللُّؤْلُؤِ والمرجان والعنبر وَغَيرهَا فَنَقُول قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد لَا يجب فِيهِ الْخمس
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يجب
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن الْبحار لم تكن فِي يَد الْكَفَرَة حَتَّى يكون مَا فِيهَا ملكهم فَيكون غنيمَة
وَأما الزئبق فعلى قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد يجب
وَلَهُمَا أَن الزئبق ينطبع بالحيلة مَعَ غَيره وَإِن كَانَ لَا ينطبع بِنَفسِهِ فَيكون فِي معنى الرصاص فَيجب فِيهِ الْخمس وَالله أعلم

(1/332)


بَاب صَدَقَة الْفطر
فِي الْبَاب فُصُول مِنْهَا بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ لأجل الْغَيْر وَبَيَان قدر الْوَاجِب وَصفته وَبَيَان وَقت الْوُجُوب وَبَيَان وَقت الْأَدَاء وَبَيَان مَكَان الْأَدَاء وَمَا يتَّصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة
أما الأول فَنَقُول صَدَقَة الْفطر وَاجِبَة
عرف وُجُوبهَا بالأحاديث الصَّحِيحَة وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عنثعلبة بن صَغِير العذري وَفِي رِوَايَة الْعَدوي أَنه قَالَ خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَدّوا عَن كل حر وَعبد صَغِير وكبير نصف صَاع من بر

(1/333)


أَو صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير
فَأَما بَيَان من يجب عَلَيْهِ فَنَقُول إِنَّمَا تجب على الْمُسلم الْحر الْغَنِيّ
فالإسلام شَرط لِأَن فِيهَا معنى الْعِبَادَة وَلِهَذَا لَا تجوز بِدُونِ النِّيَّة وَلَا تتأدى بِفعل الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه أَو بِإِذن الشَّرْع لكَونه نَائِبا عَنهُ
وَأما الْغنى فَهُوَ شَرط عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط لَكِن الْقُدْرَة شَرط حَتَّى إِن من ملك زِيَادَة على قوته نصف صَاع من حِنْطَة أَو صَاعا من شعير أَو تمر تجب عَلَيْهِ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى
وَأما الْحُرِّيَّة فَهِيَ شَرط عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط حَتَّى أَن العَبْد عِنْده تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره ويتحمل عَنهُ الْمولى حَتَّى لَو لم يؤد الْمولى عَنهُ فَعَلَيهِ أَن يُؤَدِّي بعد الْعتاق
وَعِنْدنَا يجب على مَوْلَاهُ إِذا كَانَ غَنِيا وَالْعَبْد للْخدمَة وَهَذَا بِنَاء على مَا ذكرنَا أَن الْغنى شَرط عندنَا والغني بِالْملكِ وَالْعَبْد لَا ملك لَهُ
وَعند الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
وَأما الْعقل وَالْبُلُوغ فليسا بِشَرْط الْوُجُوب عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَعند مُحَمَّد وَزفر شَرط حَتَّى إِن الصَّبِي وَالْمَجْنُون إِذا كَانَ لَهما

(1/334)


نِصَاب معِين وَلَيْسَ للْأَب مَال فَإِنَّهُ يجب صَدَقَة الْفطر عَلَيْهِمَا
عِنْدهمَا يُؤَدِّي الْأَب وَالْوَصِيّ وَلَا ضَمَان عَلَيْهِمَا إِذا أديا
وَعند مُحَمَّد وَزفر لَا يجب لِأَن فِيهَا معنى الْعِبَادَة
وهما يَقُولَانِ إِن فِيهَا معنى الْعِبَادَة والمؤونة وَلَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فِي حَالَة وَاحِدَة فِي حق شخص وَاحِد فِي حكم وَاحِد فَوَجَبَ اعْتِبَار المؤونة فِي بعض الْأَحْكَام وَمعنى الْعِبَادَة فِي الْبَعْض عملا بالدلائل بِقدر الْإِمْكَان فَقَالَا بِالْوُجُوب اعْتِبَارا بالمؤونة
وَأما بَيَان من يجب عَلَيْهِ صَدَقَة الْفطر بِسَبَب الْغَيْر فَنَقُول كل من كَانَ من أهل وجوب صَدَقَة الْفطر على نَفسه وَله ولَايَة كَامِلَة على من كَانَ من جنسه وَتجب مؤونته وَنَفَقَته فَإِنَّهُ تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره
وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ بِهَذِهِ الصّفة كَانَ رَأسه بِمَنْزِلَة رَأسه فِي الذب والنصرة فَكَمَا وَجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطر رَأسه تجب صَدَقَة فطر مَا هُوَ فِي معنى رَأسه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول يجب على الْأَب صَدَقَة فطر أَوْلَاده الصغار إِذا كَانَ غَنِيا وَلَا مَال لَهُم لوُجُود الْولَايَة والمؤونة بطرِيق الْكَمَال
وَكَذَا إِذا كَانُوا مجانين لما قُلْنَا
وَإِذا كَانَ لَهُم مَال يجب عَلَيْهِم عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد وَزفر على الْأَب الْغَنِيّ على مَا مر
وَأما الْجد حَال عدم الْأَب إِذا كَانَ غَنِيا هَل تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطر ابْن ابْنه على جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة لَا يجب لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَايَة مُطلقَة فَإِنَّهُ مَحْجُوب بِالْأَبِ بِمَنْزِلَة الْإِخْوَة الصغار الْفُقَرَاء وَلَا تجب

(1/335)


صَدَقَة فطرهم على الْأَخ الْغَنِيّ الْكَبِير لما قُلْنَا
وَفِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه تجب لما قُلْنَا
فَإِن كَانَ حَيا وَلكنه فَقير وَلَهُم جد غَنِي لَا يجب على الْجد فِي الرِّوَايَات كلهَا لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهُ حَال قيام الْأَب وَإِن كَانَ يجب عَلَيْهِ المؤونة
وَعند الشَّافِعِي يجب
وَلَا يجب على الْوَصِيّ وَإِن كَانَ لَهُ ولَايَة لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ النَّفَقَة
وَأما أَوْلَاده الْكِبَار إِذا كَانُوا فُقَرَاء زمنى فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطرهم عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يجب
وَكَذَلِكَ الْأَب الْفَقِير لَا يجب على الابْن صَدَقَة فطره وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن عِنْده تنبني على المؤونة لَا غير وَعِنْدنَا على المؤونة وَالْولَايَة جَمِيعًا وَلَا ولَايَة فِي حق هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ يجب النَّفَقَة
فَأَما الْأَب الْفَقِير إِذا كَانَ مَجْنُونا فَإِنَّهُ تجب صَدَقَة فطره على ابْنه لوُجُود الْولَايَة والمؤونة جَمِيعًا
وَلَا يجب على الْأَب صَدَقَة فطر الْجَنِين لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَايَة كَامِلَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا تعرف حَيَاته
وعَلى هَذَا يجب على الْمولى صَدَقَة فطر عبيده وإمائه إِذا كَانُوا للْخدمَة
وَكَذَلِكَ أُمَّهَات أَوْلَاده ومدبريه سَوَاء كَانَ عَلَيْهِم دين أَو لم يكن إِذا كَانَ الْمولى غَنِيا لما قُلْنَا من اجْتِمَاع الْولَايَة والمؤنة

(1/336)


فَأَما الْمكَاتب وَالْمُكَاتبَة والمستسعي فَلَا يجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطرهم لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ نَفَقَتهم وَلَا تجب عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُم
وَأما العَبْد إِذا كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ تجب على الْمولى صَدَقَة فطره عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لما قُلْنَا من الْولَايَة وَالنَّفقَة
وَالْعَبْد الْمُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ لَا تجب صَدَقَة فطره على الموليين لِأَنَّهُ لَيْسَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا ولَايَة كَامِلَة
فإمَّا إِذا كَانُوا عبيدا بَين رجلَيْنِ فعلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يجب عَلَيْهِمَا صَدَقَة فطرهم
وَعند مُحَمَّد إِن كَانُوا بِحَال لَو قسموا أصَاب كل وَاحِد مِنْهُمَا عبدا كَامِلا تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره
وَهَذَا بِنَاء على أصل أَن العَبْد لَا يقسم عِنْد أبي حنيفَة قسْمَة جمع فَلَا يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد كَامِل وَعند مُحَمَّد يقسم قسْمَة جمع فَيكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد كَامِل من حَيْثُ الْمَعْنى وَأَبُو يُوسُف يرى الْقِسْمَة لَكِن قبل الْقِسْمَة لم يكن لكل وَاحِد مِنْهُمَا ولَايَة كَامِلَة
وَأما مِقْدَار الْوَاجِب فَنَقُول نصف صَاع من حِنْطَة أَو صَاع من شعير أَو تمر عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي من الْبر صَاع أَيْضا وروى حَدِيثا لكنه غَرِيب فَلَا يقبل بِمُقَابلَة مَا روينَا وَهُوَ مَشْهُور
وَأما الزَّبِيب فقد ذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير عَن أبي حنيفَة نصف صَاع لِأَن الْغَالِب أَن قِيمَته مثل قيمَة الْبر فِي دِيَارهمْ
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة صَاعا وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد لما رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر على عهد

(1/337)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من زبيب وَكَانَ طعامنا الشّعير
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا إِن دَقِيق الْحِنْطَة وَالشعِير وسويقهما مثلهمَا لما رُوِيَ فِي الحَدِيث أَدّوا مَدين من قَمح أَو دَقِيق
وَأما الإقط فَيعْتَبر فِيهِ الْقيمَة عندنَا خلافًا لمَالِك
وَمَا سوى ذَلِك فَيعْتَبر قِيمَته بِقِيمَة الْأَشْيَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بِأَن أدّى الدَّرَاهِم أَو الْعرُوض وَالثِّمَار وَنَحْوهَا
وَلَو أدّى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَقِيمَته تبلغ قيمَة كُله بِأَن أدّى ربع صَاع من حِنْطَة جَيِّدَة مَكَان النّصْف أَو نصف صَاع من شعير جيد مَكَان صَاع من شعير لَا يجوز عَن الْكل بل يَقع عَن نَفسه وَعَلِيهِ تَكْمِيل الْبَاقِي لِأَن الْجَوْدَة لَا قيمَة لَهَا فِي أَمْوَال الرِّبَا
وَفِي الزَّكَاة لَو أدّى شَاة سَمِينَة مَكَان شَاتين جَازَ لِأَن الْجَوْدَة فِيهَا مُتَقَومَة
فبقدر الشَّاة الْوسط تجزىء عَن الشَّاة وَقِيمَة الْجَوْدَة عَن الْأُخْرَى
ثمَّ مِقْدَار الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال عندنَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل لِأَن صَاع أهل الْمَدِينَة كَذَلِك وتوارثوه خلفا عَن سلف
لَكنا نقُول مَا ذكرنَا صَاع عمر وَمَالك من فُقَهَاء الْمَدِينَة قَالَ إِن صَاع الْمَدِينَة أخرجه عبد الْملك بن مَرْوَان فَأَما قبله كَانَ ثَمَانِيَة أَرْطَال فَكَانَ الْعَمَل بِصَاع عمر أولى

(1/338)


ثمَّ روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه يعْتَبر الصَّاع وزنا وَهُوَ ثَمَانِيَة أَرْطَال
وروى ابْن رستم عَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر كَيْلا حَتَّى لَو أدّى أَرْبَعَة أُمَنَاء من غير كيل لَا يجوز
وَأما وَقت الوجوبفعند أَصْحَابنَا وَقت الْفجْر الثَّانِي من يَوْم الْفطر
وعَلى قَول الشَّافِعِي لَيْلَة الْفطر
وَفَائِدَة الْخلاف أَن من ولد لَهُ ولد قبل طُلُوع الْفجْر تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره وَمن ولد لَهُ بعد ذَلِك لَا تجب وَلَو أسلم قبله تجب عَلَيْهِ وَبعده لَا وَكَذَلِكَ الْفَقِير إِذا أيسر قبله تجب وَلَو افْتقر الْغَنِيّ قبله لَا تجب
وَعند الشَّافِعِي على عكس هَذَا
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ تُضَاف الصَّدَقَة إِلَى الْفطر وَهُوَ يَوْم الْعِيد
وَلَو عجل صَدَقَة الْفطر على يَوْم الْفطر ذكرالكرخيأنه إِذا عجل بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ جَازَ وَلم يذكر أَنه لَو عجل بِأَكْثَرَ من ذَلِك هَل يجوز
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يجوز التَّعْجِيل بِسنة وسنتين وَعَن خلف بن أَيُّوب أَنه يجوز التَّعْجِيل بِشَهْر لَا غير
وَعَن الحسنأنه قَالَ لَا يجوز التَّعْجِيل وَلَا يجوز دون يَوْم الْفطر وَلَو لم يؤد يَوْم الْفطر تسْقط عَنهُ
وَالصَّحِيح رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد لِأَن سَبَب الْوُجُوب هُوَ رَأس يمونه لولايته عَلَيْهِ وَالْوَقْت شَرط الْوُجُوب والتعجيل بعد سَبَب الْوُجُوب جَائِز كَمَا فِي الزَّكَاة

(1/339)


وَأما وَقت الأداءفهو يَوْم الْفطر من أَوله إِلَى آخِره ثمَّ بعده يسْقط الْأَدَاء وَيجب الْقَضَاء عِنْد بعض أَصْحَابنَا
وَعند بَعضهم وَهُوَ الْأَصَح أَنَّهَا تجب وجوبا موسعا لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يُؤَدِّي قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى حَتَّى لَا يحْتَاج الْفَقِير إِلَى الْكسْب وَالسُّؤَال يَوْم الْعِيد فيتمكن من أَدَاء صَلَاة الْعِيد فارغ الْقلب عَن الْقُوت على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام اغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم
وَأما مَكَان الأداءروي عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ زَكَاة المَال من حَيْثُ المَال وَصدقَة الْفطر عَن نَفسه وعبيده من حَيْثُ هُوَ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يُؤَدِّي عَن نَفسه من حَيْثُ هُوَ وَعَن عُبَيْدَة من حَيْثُ هم
وَالْأول أصح لِأَن صَدَقَة الْفطر لَا تعلق لَهَا بِالْمَالِ حَتَّى إِذا هلك المَال بعد الْوُجُوب لَا تسْقط الْفطْرَة بِخِلَاف الزَّكَاة وَالله أعلم

(1/340)