تحفة الفقهاء

كتاب الْبيُوع
اعْلَم أَن البيع مَشْرُوع عرفت شرعيته بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {وَأحل الله البيع} وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم}
وَأما السّنة فَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ يَا معشر التُّجَّار إِن بيعكم هَذَا يحضرهُ اللَّغْو وَالْكذب فشوبوه بِالصَّدَقَةِ وَكَذَلِكَ بعث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّاس يتبايعون فقررهم على ذَلِك والتقرير أحد وُجُوه السّنة وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْأمة

(1/432)


بَاب السّلم البيع
أَنْوَاع أَرْبَعَة أَحدهَا بيع الْعين بِالْعينِ كَبيع السّلع بأمثالها نَحْو بيع الثَّوْب بِالْعَبدِ وَغَيره وَيُسمى هَذَا بيع المقايضة
وَالثَّانِي بيع الْعين بِالدّينِ نَحْو بيع السّلع بالأثمان الْمُطلقَة وَبَيْعهَا بالفلوس الرائجة والمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب دينا
وَالثَّالِث بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ بيع الثّمن الْمُطلق بِالثّمن الْمُطلق وَهُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإنَّهُ يُسمى عقد الصّرْف وَيعرف فِي كِتَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالرَّابِع بيع الدّين بِالْعينِ وَهُوَ السّلم فَإِن الْمُسلم فِيهِ مَبِيع وَهُوَ دين وَرَأس المَال قد يكون عينا وَقد يكون دينا وَلَكِن قَبضه شَرط قبل افْتِرَاق الْعَاقِدين بأنفسهما فَيصير عينا
وَالْكَلَام فِي السّلم فِي خَمْسَة مَوَاضِع فِي بَيَان مشروعيته وَفِي بَيَان تَفْسِيره لُغَة وَشَرِيعَة وَفِي بَيَان رُكْنه وَفِي بَيَان شَرطه وَفِي بَيَان حكمه شرعا

(2/7)


أما الأول فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز السّلم لِأَنَّهُ بيع الْمَعْدُوم
وَفِي الِاسْتِحْسَان جَائِز بِالْحَدِيثِ بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من أسلم مِنْكُم فليسلم فِي كل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم
وَأما تَفْسِيره لُغَة فَهُوَ عقد يثبت بِهِ الْملك فِي الثّمن عَاجلا وَفِي الْمُثمن آجلا يُسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فِيهِ من تَسْلِيم رَأس المَال للْحَال
وَفِي عرف الشَّرْع عبارَة عَن هَذَا أَيْضا مَعَ زِيَادَة شَرَائِط ورد بهَا الشَّرْع لم يعرفهَا أهل اللُّغَة
وَأما رُكْنه فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول
والإيجاب هُوَ لفظ السّلم وَالسَّلَف بِأَن يَقُول رب السّلم لآخر أسلمت إِلَيْك عشرَة دَرَاهِم فِي كرّ حِنْطَة أَو أسلفت وَقَالَ الآخر قبلت
وَيُسمى هَذَا رب السّلم وَيُسمى الْمُسلم أَيْضا
وَالْآخر يُسمى الْمُسلم إِلَيْهِ
وَتسَمى الْحِنْطَة الْمُسلم فِيهِ
وَلَو قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ لآخر بِعْت مِنْك كرّ حِنْطَة بِكَذَا وَذكر شَرَائِط السّلم فَإِنَّهُ ينْعَقد أَيْضا لِأَنَّهُ بيع على مَا روينَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم
وَأما شَرَائِط جَوَاز السّلم فسبعة عشر سِتَّة فِي رَأس المَال وَأحد عشر فِي الْمُسلم فِيهِ

(2/8)


أما السِّتَّة الَّتِي فِي رَأس المَال فَهِيَ أَحدهَا بَيَان الْجِنْس أَنه دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو من الْمكيل حِنْطَة أَو شعير أَو من الْمَوْزُون قطن أَو حَدِيد وَنَحْو ذَلِك
وَالثَّانِي بَيَان النَّوْع أَنه دَرَاهِم غطريفية أَو عدلية أَو دَنَانِير محمودية أَو هروية أَو مروية
وَهَذَا إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقود مُخْتَلفَة فَأَما إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقد وَاحِد فَذكر الْجِنْس كَاف وينصرف إِلَيْهِ لتعينه عرفا
وَالثَّالِث بَيَان الصّفة أَنه جيد أَو رَدِيء أَو وسط
وَالرَّابِع إِعْلَام قدر رَأس المَال فَهُوَ شَرط جَوَاز السّلم فِيمَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ كالمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب
وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَأحد قولي الشَّافِعِي
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَيْسَ بِشَرْط وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي
وَصُورَة الْمَسْأَلَة إِذا قَالَ رب السّلم أسلمت إِلَيْك هَذِه الدَّرَاهِم وَأَشَارَ إِلَيْهَا أَو هَذِه الدَّنَانِير وَأَشَارَ إِلَيْهَا وَلم يعرف وَزنهَا
وَكَذَا إِذا قَالَ أسلمت هَذِه الْحِنْطَة فِي كَذَا وَلم يعرف مِقْدَار كيل رَأس المَال
وعَلى هَذَا الْخلاف
إِذا قَالَ أسلمت إِلَيْك عشرَة دَرَاهِم فِي كرحنطة وكرشعير وَلم يبين

(2/9)


حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْعشْرَة
وَكَذَلِكَ إِذا أسلم عشرَة دَرَاهِم فِي ثَوْبَيْنِ مُخْتَلفين فِي الْقيمَة
هَذَا إِذا أسلم فِيمَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ
فَأَما إِذا أسلم فِيمَا لَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ كالذرعيات والعدديات المتفاوتة فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط بَيَان الذرع فِي الذرعيات وَلَا بَيَان الْقيمَة فِيهَا ويكتفي بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِين فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَأَجْمعُوا فِي بيع الْعين أَن إِعْلَام قدر الثّمن لَيْسَ بِشَرْط إِذا كَانَ مشارا إِلَيْهِ وَدَلَائِل الْمَسْأَلَة تعرف فِي الْمَبْسُوط إِن شَاءَ الله
وَالْخَامِس كَون الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير منتقدة فَهُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْد أبي حنيفَة أَيْضا مَعَ إِعْلَام الْقدر
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْط
وَالسَّادِس تَعْجِيل رَأس المَال وَقَبضه قبل افْتِرَاق الْعَاقِدين بأنفسهما فَهُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء سَوَاء كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا
وَقَالَ مَالك إِن كَانَ رَأس المَال عينا لَا يشْتَرط تَعْجِيله وَإِن كَانَ دينا يشْتَرط فِي قَول وَفِي قَول قَالَ يجوز التَّأْخِير يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ
وَأَجْمعُوا أَن فِي الصّرْف يشْتَرط قبض الْبَدَلَيْنِ قبل الِافْتِرَاق بأبدانهما سَوَاء كَانَ عينا كالتبر والمصوغ أَو دينا كالدراهم وَالدَّنَانِير
وَأما الشَّرَائِط الَّتِي فِي الْمُسلم فِيهِ فَهِيَ أحد عشر أَحدهَا بَيَان جنس الْمُسلم فِيهِ حِنْطَة أَو شعير أَو نَحْوهمَا
وَالثَّانِي بَيَان نَوعه حِنْطَة سقية أَو بخسية سهلية أَو جبلية

(2/10)


وَالثَّالِث بَيَان الصّفة حِنْطَة جَيِّدَة أَو رَدِيئَة أَو وسط
وَالرَّابِع إِعْلَام قدر الْمُسلم فِيهِ أَنه كرّ أَو قفيز بكيل مَعْرُوف عِنْد النَّاس لِأَن ترك بَيَان هَذِه الْأَشْيَاء يُوجب جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة وَهِي مفْسدَة بِالْإِجْمَاع
وَالْخَامِس أَن لَا يَشْمَل الْبَدَلَيْنِ أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهُوَ الْقدر الْمُتَّفق أَو الْجِنْس لِأَنَّهُ يتَضَمَّن رَبًّا النِّسَاء وَالْعقد الَّذِي فِيهِ رَبًّا فَاسد
وَالسَّادِس أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مِمَّا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يجوز السّلم فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير
فَأَما فِي التبر هَل يجوز السّلم فِيهِ على قِيَاس رِوَايَة كتاب الصّرْف لَا يجوز لِأَنَّهُ ألحقهُ بالمضروب وعَلى قِيَاس رِوَايَة كتاب الشّركَة جَازَ لِأَنَّهُ ألحقهُ بالعروض وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف أَيْضا أَنه كالعروض
وَأما السّلم فِي الْفُلُوس فقد ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ إِنَّه يجوز وَلم يذكر الِاخْتِلَاف وَيجب أَن يكون ذَلِك على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لِأَن عِنْدهمَا لَيْسَ بِثمن مُطلق بل يحْتَمل التَّعْيِين فِي الْجُمْلَة
وعَلى قَول مُحَمَّد لَا يجوز لِأَنَّهُ ثمن مُطلق على مَا عرف فِي بيع الْفلس بالفلسين بأعيانهما
وَالسَّابِع الْأَجَل فِي الْمُسلم فِيهِ شَرط الْجَوَاز وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
ولقب الْمَسْأَلَة أَن السّلم الْحَال لَا يجوز عندنَا وَعِنْده يجوز
ثمَّ لَا رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا فِي الْمَبْسُوط فِي مِقْدَار الْأَجَل وَاخْتلفت الرِّوَايَات عَنْهُم وَالأَصَح مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه مُقَدّر بالشهر

(2/11)


لِأَنَّهُ أدنى الآجل وأقصى العاجل
وَالثَّامِن أَن يكون جنس الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا من وَقت العقد إِلَى وَقت مَحل الْأَجَل وَلَا يتَوَهَّم انْقِطَاعه عَن أَيدي النَّاس كالحبوب
فَأَما إِذا كَانَ مُنْقَطِعًا وَقت العقد أَو وَقت حُلُول الْأَجَل أَو فِيمَا بَين ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن كَانَ مَوْجُودا وَقت مَحل الْأَجَل يجوز وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا فِي غَيره من الْأَحْوَال
ولقب الْمَسْأَلَة أَن السّلم فِي الْمُنْقَطع هَل يجوز أم لَا وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَلِكَ الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى مَوضِع مَعْلُوم يحْتَمل انْقِطَاعه عَلَيْهِ بالآفة كحنطة قَرْيَة كَذَا أَو أَرض كَذَا لَا يجوز لِأَنَّهُ يحْتَمل الِانْقِطَاع بالآفة
وَذكر فِي الأَصْل إِذا أسلم فِي حِنْطَة هراة لَا يجوز
وقاس عَلَيْهِ بعض مَشَايِخنَا أَنه لَو أسلم فِي حِنْطَة سَمَرْقَنْد أَو بُخَارى لَا يجوز وَإِنَّمَا يجوز إِذا ذكر الْولَايَة نَحْو خُرَاسَان وفرغانة
وَالصَّحِيح أَن فِي حِنْطَة الْبَلدة الْكَبِيرَة يجوز لِأَنَّهَا لَا تحْتَمل الِانْقِطَاع غَالِبا
وَمَا ذكره مُحَمَّد فِي الأَصْل من حِنْطَة هراة أَرَادَ بِهِ اسْم قَرْيَة من قرى عراق دون الْبَلدة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تسمى هراة
وَالتَّاسِع أَن يكون العقد باتا لَيْسَ فِيهِ خِيَار الشَّرْط لَهما أَو لأَحَدهمَا حَتَّى لَو أسلم عشرَة دَرَاهِم فِي كرحنطة على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام وَقبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال وتفرقا بأبدانهما وَيبْطل عقد السّلم لِأَن البيع بِشَرْط الْخِيَار ثَبت بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ فِي السّلم

(2/12)


وَلَو أبطلا الْخِيَار قبل التَّفَرُّق وَرَأس المَال قَائِم فِي يَد الْمُسلم إِلَيْهِ يَنْقَلِب جَائِزا عندنَا خلافًا ل زفر وَلَو كَانَ رَأس المَال هَالكا لَا يَنْقَلِب إِلَى الْجَوَاز بِالْإِجْمَاع
والعاشر بَيَان مَكَان الْإِيفَاء فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة كالحنطة وَالشعِير وَغَيرهمَا فَإِنَّهُ شَرط لجَوَاز السّلم حَتَّى لَو ترك لم يجز السّلم فِي قَول أبي حنيفَة الآخر
وَكَذَا الْخلاف فِي الْإِجَارَة إِذا آجر دَاره سنة بِأَجْر لَهُ حمل ومؤونة وَلم يعين مَكَانا للإيفاء لم تجز الْإِجَارَة فِي قَوْله الآخر
وعَلى قَوْلهمَا جَازَ
وَحَاصِل الْخلاف رَاجع إِلَى أَن مَكَان العقد هَل يتَعَيَّن مَكَانا للإيفاء فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة مَعَ اتِّفَاقهم على أَن مَكَان الْإِيفَاء إِذا كَانَ مَجْهُولا لَا يجوز السّلم لِأَنَّهُ جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة
وَإِذا لم يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَانا للإيفاء عِنْد أبي حنيفَة وَلم يعينا مَكَانا آخر للإيفاء صَار مَكَان الْإِيفَاء مَجْهُولا فَيفْسد السّلم
وَعِنْدَهُمَا يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَانا للإيفاء فَلَا يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَة فَيصح السّلم
وَفِي الْإِجَارَة عِنْدهمَا يتَعَيَّن بتعين مَكَان إِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ مَكَان إِيفَاء الْأُجْرَة فَإِن كَانَ لمستأجر دَارا أَو أَرضًا فتسلم عِنْد الدَّار وَالْأَرْض وَإِن كَانَت دَابَّة فَعِنْدَ المرحلة وَإِن كَانَ ثوبا دفع إِلَى قصار وَنَحْوه يَدْفَعهَا فِي الْموضع الَّذِي يسلم فِيهِ الثَّوْب إِلَيْهِ
وَإِنَّمَا يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَان التَّسْلِيم عِنْدهمَا إِذا أمكن التَّسْلِيم فِي مَكَان العقد فَأَما إِذا لم يُمكن بِأَن كَانَ فِي الْبَحْر أَو على رَأس الْجَبَل فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن مَكَان العقد للتسليم وَلَكِن يسلم فِي أقرب الْأَمَاكِن الَّذِي

(2/13)


يُمكن التَّسْلِيم فِيهِ من مَكَان العقد
فَأَما الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ شَيْئا لَيْسَ لَهُ حمل ومؤونة كالمسك والكافور والجواهر واللآلىء وَنَحْوهَا فَعَن أَصْحَابنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يتَعَيَّن مَكَان العقد
وَفِي رِوَايَة يسلم حَيْثُمَا لقِيه وَلَا يتَعَيَّن مَكَان العقد
وَلَو شرطا مَكَانا آخر للإيفاء سوى مَكَان العقد فَإِن كَانَ فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة يتَعَيَّن
وَإِن كَانَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حمل ومؤونة فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة لَا يتَعَيَّن وَله أَن يُوفيه فِي أَي مَكَان شَاءَ
وَفِي رِوَايَة يتَعَيَّن وَهُوَ الْأَصَح
وَالْحَادِي عشر أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مِمَّا يضْبط بِالْوَصْفِ وَهُوَ أَن يكون من الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة الْمكيل وَالْمَوْزُون والذرعي والعددي المتقارب
فَأَما إِذا كَانَ مِمَّا لَا يضْبط بِالْوَصْفِ كالعدديات المتفاوتة والذرعيات المتفاوتة مثل الدّور وَالْعَقار والجواهر واللآلىء والأدم والجلود والخشب والروس والأكارع وَالرُّمَّان والسفرجل والبطاطيخ وَنَحْوهَا لَا يجوز لِأَن الْمُسلم فِيهِ مَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة وَسوى هَذِه الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة لَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات إِلَّا إِذا كَانَ شَيْئا من جنس الْجُلُود والأدم والخشب والجذوع إِذا بَين شَيْئا مَعْلُوما من هَذِه الْأَشْيَاء وطولا مَعْلُوما وغلظا مَعْلُوما وَأَن تَجْتَمِع فِيهِ شَرَائِط السّلم والتحق بالمتقارب يجوز

(2/14)


وَكَذَلِكَ السّلم فِي الجوالق والمسوح والفرش
وَأما السّلم فِي الْحَيَوَان فَجَائِز عِنْد الشَّافِعِي إِذا بَين جنسه ونوعه وسنه وَصفته وَأَنه فِي نجارى فلَان أَو إبل فلَان أَو غنم فلَان
وَعِنْدنَا لَا يجوز كَيْفَمَا كَانَ
وَيجوز السّلم فِي الأليات والشحوم وزنا بِلَا خلاف
وَأما السّلم فِي اللَّحْم مَعَ الْعظم الَّذِي فِيهِ فَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة أصلا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يجوز إِذا بَين جنس اللَّحْم بِأَن قَالَ لحم شَاة أَو بقر وَبَين السن بِأَن قَالَ لحم شَاة ثني أَو جَذَعَة وَبَين النَّوْع بِأَن قَالَ لحم شَاة ذكر أَو أُنْثَى خصي أَو فَحل معلوفة أَو سَائِمَة وَبَين صفة اللَّحْم بِأَن قَالَ سمين أَو مهزول أَو وسط وَبَين الْموضع بِأَن قَالَ من الْكَتف أَو من الْجنب وَبَين الْمِقْدَار بِأَن قَالَ عشرَة أُمَنَاء
وَأما منزوع الْعظم فقد اخْتلف الْمَشَايِخ على قَول أبي حنيفَة ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ يجوز
وَذكر الْجَصَّاص وَقَالَ لَا يجوز لاخْتِلَاف السّمن والهزال
وَأما السّلم فِي السّمك فقد اضْطَرَبَتْ عبارَة الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل والنوادر
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن السّلم يجوز فِي السّمك الصغار كَيْلا أَو وزنا وَيَسْتَوِي فِيهِ المالح والطري فِي حِينه وَأما الْكِبَار فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة فِي ظَاهر الرِّوَايَة يجوز كَيْفَمَا كَانَ وزنا

(2/15)


وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف فِي الأمالي عَنهُ أَنه لَا يجوز
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة كَمَا فِي اللَّحْم
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنْهُمَا لَا يجوز بِخِلَاف اللَّحْم
وَأما السّلم فِي الثِّيَاب فَإِذا بَين جنسه ونوعه وَصفته ورقعته وذرعه يجوز اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز
وَهل يشْتَرط بَيَان الْوَزْن فِي الثَّوْب الْحَرِير اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قَالَ بَعضهم هُوَ شَرط
وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ بِشَرْط لِأَن الْحَرِير ذرعي كالكتان والكرباس
وعَلى هَذَا السّلم فِي الْأَعْدَاد المتقاربة مثل الْجَوْز وَالْبيض وَنَحْوهمَا جَائِز كَيْلا ووزنا وعددا فِي قَول عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة
وَقَالَ زفر يجوز كَيْلا ووزنا وَلَا يجوز عددا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجوز كَيْلا ووزنا فِي الْجَوْز واللوز وَلَا يجوز عددا
وَفِي الْبيض يجوز كَيْلا ووزنا وعددا
وَلَو أسلم فِي الْفُلُوس عددا يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَعَن مُحَمَّد أَنه لَا يجوز لِأَنَّهَا من جملَة الْأَثْمَان
وَلَو أسلم فِي التِّبْن أوقارا لَا يجوز لتَفَاوت فَاحش بَين الوقرين إِلَّا إِذا كَانَ فِي فيمان مَعْلُوم من فيامين النَّاس لم يخْتَلف فَيجوز
وَلَو أسلم فِي الْخبز هَل يجوز لم يذكر مُحَمَّد فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَذكر فِي نَوَادِر ابْن رستم على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا يجوز وعَلى قَول أبي

(2/16)


يُوسُف يجوز إِذا شَرط ضربا مَعْلُوما ووزنا مَعْلُوما وأجلا مَعْلُوما
وَأما استقراض الْخبز هَل يجوز على قَول أبي حنيفَة لَا يجوز لَا وزنا وَلَا عددا كالسلم
وَأَبُو يُوسُف جوز الْقَرْض فِيهِ وزنا لَا عددا كالسلم
وَمُحَمّد لم يجوز السّلم فِيهِ لَا وزنا وَلَا عددا وَجوز استقراضه عددا لَا وزنا لحَاجَة النَّاس فَكَأَنَّهُ ترك الْقيَاس فِي جَوَاز استقراضه عددا لعرف النَّاس وَإِن لم يكن من ذَوَات الْأَمْثَال
وَأما بَيَان حكم السّلم شرعا فثبوت الْملك لرب السّلم فِي الْمُسلم فِيهِ مُؤَجّلا بِمُقَابلَة ثُبُوت الْملك فِي رَأس المَال
الْمعِين أَو الْمَوْصُوف معجلا للْمُسلمِ إِلَيْهِ بطرِيق الرُّخْصَة دفعا لحَاجَة النَّاس بشرائط مَخْصُوصَة لم تكن مَشْرُوطَة فِي بيع الْعين
وَلَا بُد أَن يخْتَلف البيع وَالسّلم فِي بعض الْأَحْكَام وَنَذْكُر بعض ذَلِك مِنْهَا أَن الِاسْتِبْدَال بِرَأْس مَال السّلم قبل الْقَبْض لَا يجوز والاستبدال بِالثّمن جَائِز إِذا كَانَ دينا لِأَن قبض رَأس المَال شَرط والاستبدال يفوت الْقَبْض حَقِيقَة وَإِن وجد من حَيْثُ الْمَعْنى كَمَا لَا يجوز الِاسْتِبْدَال ببدلي الصّرْف لِأَن قبضهما شَرط حَقِيقَة فَأَما قبض الثّمن فَلَيْسَ بِشَرْط وَالْبدل يقوم مقَامه معنى
وَأما الِاسْتِبْدَال بِالْمُسلمِ فِيهِ فَلَا يجوز قبل الْقَبْض كالاستبدال بِالْمَبِيعِ الْمعِين لِأَن الْمُسلم فِيهِ مَبِيع وَإِن كَانَ دينا فَيكون بيع الْمَبِيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض وَإنَّهُ لَا يجوز بِخِلَاف سَائِر الدُّيُون

(2/17)


وَأما الِاسْتِبْدَال بِرَأْس المَال بعد الْإِقَالَة أَو بعد انْفِسَاخ السّلم بِأَيّ طَرِيق كَانَ فَلَا يجوز فِي قَول عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يجوز وَهُوَ قَول زفر سَوَاء كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا
وَأَجْمعُوا على أَن الِاسْتِبْدَال ببدلي الصّرْف بعد الْإِقَالَة قبل الْقَبْض جَائِز
وَأَجْمعُوا أَن قبض رَأس المَال بعد الْإِقَالَة فِي بَاب السّلم فِي مجْلِس الْإِقَالَة لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الْإِقَالَة وَفِي الصّرْف شَرط لصِحَّة الْإِقَالَة
وَأَجْمعُوا على أَن السّلم إِذا كَانَ فَاسِدا فِي الأَصْل فَلَا بَأْس بالاستبدال فِيهِ قبل الْقَبْض وَلَا يكون لَهُ حكم السّلم كَسَائِر الدُّيُون
وَمِنْهَا أَن رب السّلم لَو أَخذ بعض رَأس المَال وَبَعض الْمُسلم فِيهِ بعد مَحل الْأَجَل أَو قبله بِرِضا صَاحبه فَإِنَّهُ يجوز وَيكون إِقَالَة للسلم فِيمَا أَخذ من رَأس المَال وَيبقى السّلم فِي الْبَاقِي وَهُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ مَالك وَابْن أبي ليلى لَيْسَ لَهُ ذَلِك فَهُوَ إِمَّا أَن يَأْخُذ جَمِيع رَأس المَال أَو يَأْخُذ جَمِيع الْمُسلم فِيهِ
وَفِي بيع الْعين إِذا أقَال فِي الْبَعْض دون الْبَعْض جَازَ بِالْإِجْمَاع
وَأَجْمعُوا أَنه لَو أَخذ جَمِيع رَأس المَال بِرِضا صَاحبه أَو أقَال جَمِيع السّلم أَو تصالحا على رَأس المَال فَإِنَّهُ يكون إِقَالَة صَحِيحَة وينفسخ السّلم
وَلَو أَخذ بعض رَأس المَال قبل مَحل الْأَجَل ليعجل بَاقِي السّلم فَإِنَّهُ لَا يجوز كَذَا ذكر فِي الْكتاب وَمَعْنَاهُ أَنه لَا يجوز هَذَا الشَّرْط

(2/18)


وَتَصِح الْإِقَالَة لِأَنَّهُ يصير فِي معنى الِاعْتِيَاض عَن الْأَجَل فَيكون شرطا فَاسِدا إِلَّا أَن الْإِقَالَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة وَهَذَا على قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد
فَأَما على قِيَاس قَول أبي يُوسُف فَتبْطل الْإِقَالَة وَالسّلم كُله بَاقٍ إِلَى أَجله لِأَن عِنْده الْإِقَالَة بيع جَدِيد وَالْبيع يبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
وَمِنْهَا أَن الْمُسلم إِلَيْهِ إِذا أَبْرَأ رب السّلم عَن رَأس المَال لَا يَصح بِدُونِ قبُول رب السّلم وَإِذا قبل يَصح الْإِبْرَاء وَيبْطل السّلم لِأَنَّهُ فَاتَ قبض رَأس المَال لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر قَبضه بعد صِحَة الْإِبْرَاء
وَلَو رده أَو لم يقبله بَقِي عقد السّلم صَحِيحا فَلهُ أَن يسلم رَأس المَال قبل الِافْتِرَاق حَتَّى لَا يفْسد
وَلَو أَبْرَأ عَن ثمن الْمَبِيع صَحَّ من غير قبُول إِلَّا أَنه يرْتَد بِالرَّدِّ
وَالْفرق هُوَ أَن قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس شَرط صِحَة عقد السّلم فَلَو صَحَّ الْإِبْرَاء من غير قبُول الآخر لانفسخ السّلم من غير رضَا صَاحبه وَهَذَا لَا يجوز بِخِلَاف الثّمن لِأَن قَبضه لَيْسَ بِشَرْط
وَلَو أَبْرَأ عَن الْمُسلم فِيهِ جَازَ لِأَن قَبضه لَيْسَ بِشَرْط وَالْإِبْرَاء عَن دين لَا يجب قَبضه شرعا إِسْقَاط لحقه لَا غير فَيملك ذَلِك
وَلَو أَبْرَأ عَن الْمَبِيع لَا يَصح لِأَن الْإِبْرَاء عَن الْأَعْيَان لَا يَصح
وَمِنْهَا أَن الْحِوَالَة بِرَأْس مَال السّلم وَالْكَفَالَة بِهِ وَالرَّهْن بِهِ وبالمسلم فِيهِ أَيْضا جَائِز عندنَا
وَعند زفر يجوز بِالْمُسلمِ فِيهِ وَلَا يجوز بِرَأْس المَال
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجوز ذَلِك كُله لَا بِرَأْس المَال وَلَا بِالْمُسلمِ فِيهِ

(2/19)


وعَلى هَذَا الْخلاف الْحِوَالَة وَالْكَفَالَة وَالرَّهْن بِأحد بدلي الصّرْف
ثمَّ مَتى جَازَ ذَلِك عندنَا يجب أَن يقبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال من الحويل وَالْكَفِيل أَو من رب السّلم أَو يهْلك الرَّهْن قبل أَن يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس وَقِيمَة الرَّهْن مثل رَأس المَال أَو أَكثر حَتَّى يحصل الِافْتِرَاق عَن قبض رَأس المَال فَيجوز وَلَا يبطل العقد
وَأما إِذا تفرق رب السّلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ قبل الْقَبْض يبطل السّلم وَإِن بَقِي الحويل وَالْكَفِيل مَعَ رب السّلم
وَلَو ذهب الحويل وَالْكَفِيل وَبَقِي الْمُسلم إِلَيْهِ مَعَ رب السّلم لَا يبطل السّلم وَالْعبْرَة لبَقَاء الْعَاقِدين وافتراقهما
وَكَذَلِكَ فِي بَاب الصّرْف الْعبْرَة لبَقَاء الْعَاقِدين
وَكَذَلِكَ فِي الرَّهْن إِذا لم يهْلك حَتَّى تفَرقا يبطل السّلم لِانْعِدَامِ قبض رَأس المَال
هَذَا فِي جَانب رَأس المَال
فَأَما فِي جَانب الْمُسلم فِيهِ فالمحيل يبرأ بِنَفس عقد الْحِوَالَة وَيبقى تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ وَاجِبا على الْمُحْتَال عَلَيْهِ إِذا حل الْأَجَل فَإِذا حل الْأَجَل يُطَالب رب السّلم الْمُحْتَال عَلَيْهِ وَلَا سَبِيل لَهُ على الْمُحِيل
وَفِي الْكفَالَة رب السّلم بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ طَالب الْأَصِيل وَإِن شَاءَ طَالب الْكَفِيل وَله أَن يحبس الرَّهْن حَتَّى يَأْخُذ الْمُسلم فِيهِ
وَمِنْهَا أَن الْمُسلم إِلَيْهِ إِذا قَالَ بعد قبض رَأس المَال إِنَّه زيوف أَو نبهرجة أَو مُسْتَحقّ أَو ستوقة أَو معيب فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن صدقه رب السّلم أَو كذبه

(2/20)


أما إِذا صدقه فَلهُ حق الرَّد ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا فَإِن كَانَ عينا فَاسْتحقَّ فِي الْمجْلس أَو رد بِالْعَيْبِ بعد الِافْتِرَاق وَلم يجز لمستحق وَلم يرض الْمُسلم إِلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يبطل السّلم لِأَن العقد وَقع على الْعين
فَإِذا لم يجز فقد فَاتَ الْبَدَل فَصَارَ كَمَا لَو هلك الْمَبِيع قبل الْقَبْض
وَلَو أجَاز الْمُسْتَحق أَو رَضِي الْمُسلم إِلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ لِأَنَّهُ سلم لَهُ الْبَدَل من الأَصْل
فَأَما إِذا كَانَ رَأس المَال دينا فَقَبضهُ ثمَّ وجده ستوقة أَو رصاصا أَو مُسْتَحقّا أَو زُيُوفًا أَو نبهرجة فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن وجد ذَلِك فِي مجْلِس السّلم أَو بعد الِافْتِرَاق وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن تجوز بذلك الْمُسلم إِلَيْهِ أَو لم يتجوز
أما إِذا وجد ستوقة أَو رصاصا فِي الْمجْلس فَتجوز بِهِ فَلَا يجوز لِأَن هَذَا لَيْسَ من جنس حَقه فَيكون استبدالا بِرَأْس المَال قبل الْقَبْض فَصَارَ كَمَا لَو استبدل ثوبا من رب السّلم مَكَان الدِّرْهَم
فَأَما إِذا رده وَقبض شَيْئا آخر مَكَانَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لما رده وانتقض قَبضه جعل كَأَن لم يكن وَأخر الْقَبْض إِلَى آخر الْمجْلس فَإِن ذَلِك جَائِز كَذَلِك هَذَا
وَأما إِذا وجد ذَلِك مُسْتَحقّا فَإِن صِحَة الْقَبْض مَوْقُوفَة على إجَازَة الْمُسْتَحق إِن أجَاز جَازَ وَإِن لم يجز بَطل
فَأَما إِذا وجد زُيُوفًا أَو نبهرجة فَإِن تجوز بهَا جَازَ لِأَنَّهَا من جنس حَقه فَيصير مُسْتَوْفيا مَعَ النُّقْصَان
وَإِن رده واستبدل مَكَانَهُ فِي مجْلِس العقد جَازَ لِأَنَّهُ وجد مثله فِي

(2/21)


الْمجْلس فَكَانَ الْقَبْض مُتَأَخِّرًا
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ ذَلِك فِي مجْلِس السّلم
فَأَما إِذا كَانَ بعد تفرقهما فَإِن وجد شَيْئا من رَأس المَال ستوقة أَو رصاصا بَطل السّلم بِقَدرِهِ قل أَو كثر كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّهَا لَيست من جنس حق الْمُسلم إِلَيْهِ فَظهر أَن الِافْتِرَاق حصل من غير قبض رَأس المَال بِقدر الستوقة فَيبْطل بِقَدرِهِ وَلَا يعود جَائِزا بِالْقَبْضِ بعد الْمجْلس كَمَا لَو لم يقبض أصلا ثمَّ قبض بعد الِافْتِرَاق
وَإِن وجد ذَلِك مُسْتَحقّا إِن أجَاز الْمُسْتَحق جَازَ لِأَن الْقَبْض مَوْقُوف على إِجَازَته إِذا كَانَ رَأس المَال قَائِما نَص على ذَلِك فِي الْجَامِع الْكَبِير وَإِن رد بَطل السّلم بِقَدرِهِ لما ذكرنَا أَن الْقَبْض مَوْقُوف
وَأما إِذا وجد ذَلِك زُيُوفًا أَو نبهرجة إِن تجوز بِهِ جَازَ وَإِن لم يتجوز بِهِ ورده أَجمعُوا على أَنه إِن لم يسْتَبْدل فِي مجْلِس الرَّد بَطل السّلم بِقدر مَا رد
فَأَما إِذا استبدل مَكَانَهُ جيادا فِي مجْلِس الرَّد فَالْقِيَاس أَن يبطل السّلم بِقَدرِهِ قَالَ الْمَرْدُود أَو كثر وَبِه أَخذ زفر
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يبطل قل أَو كثر وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَأَبُو حنيفَة أَخذ فِي الْكثير بِالْقِيَاسِ وَفِي الْقَلِيل بالاستحسان
وَكَذَلِكَ على هَذَا الْخلاف أحد المتصارفين إِذا وجد شَيْئا مِمَّا قبض زُيُوفًا ورده بعد الْمجْلس
ثمَّ اتّفقت الرِّوَايَات عَن أبي حنيفَة أَن مَا زَاد على النّصْف كثير وَمَا دونه فَهُوَ قَلِيل

(2/22)


وَأما فِي النّصْف فَذكر فِي الأَصْل وَجعله فِي حكم الْقَلِيل فِي مَوضِع وَحكم الْكثير فِي مَوضِع
وَرُوِيَ فِي النَّوَادِر أَنه قدره بِالثُّلثِ فَصَاعِدا وَهُوَ الْأَصَح
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم رَأس المَال فَأَما حكم الْمُسلم فِيهِ إِذا وجد رب السّلم بِالْمُسلمِ فِيهِ عَيْبا بَعْدَمَا قَبضه فَإِن لَهُ خِيَار الْعَيْب إِن شَاءَ تجوز بِهِ وَإِن شَاءَ رده وَيَأْخُذ مِنْهُ السّلم غير معيب لِأَن حَقه فِي السَّلِيم دون الْمَعِيب
إِلَّا أَن خِيَار الشَّرْط والرؤية لَا يثبت فِي السّلم على مَا ذكرنَا فِي جَانب رَأس المَال
هَذَا إِذا صدقه رب السّلم فَأَما إِذا كذبه وَأنكر أَن تكون الدَّرَاهِم الَّتِي جَاءَ بهَا من دَرَاهِمه الَّتِي أَعْطَاهَا وَادّعى الْمُسلم إِلَيْهِ أَنَّهَا من دَرَاهِمه فَهَذَا لَا يَخْلُو من سِتَّة أوجه إِمَّا إِن كَانَ الْمُسلم إِلَيْهِ أقرّ ذَلِك قبل ذَلِك فَقَالَ قبضت الْجِيَاد أَو قبضت حَقي أَو قبضت رَأس المَال أَو استوفيت الدَّرَاهِم أَو قبضت الدَّرَاهِم أَو قَالَ قبضت وَلم يقل شَيْئا آخر
فَفِي الْفُصُول الْأَرْبَعَة الأولى لَا تسمع دَعْوَاهُ بعد ذَلِك أَنِّي وجدته زُيُوفًا وَلم يكن لَهُ حق استحلاف رب السّلم بِاللَّه إِنَّهَا لَيست من دراهمك الَّتِي قبضتها مِنْك لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِقَبض الْجِيَاد يصير مناقضا فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ أقرّ بِقَبض الْجِيَاد ثمَّ قَالَ لم أَقبض الْجِيَاد بل هِيَ زيوف والمناقضة تمنع صِحَة الدَّعْوَى وَالْحلف بِنَاء على الدَّعْوَى الصَّحِيحَة
وَأما إِذا قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ قبضت الدَّرَاهِم ثمَّ قَالَ هِيَ زيوف فَالْقِيَاس أَن يكون القَوْل قَول رب السّلم إِنَّهَا لَيست من دَرَاهِمه مَعَ يَمِينه

(2/23)


على ذَلِك وعَلى الْمُسلم إِلَيْهِ الْبَيِّنَة أَنَّهَا من الدَّرَاهِم الَّتِي قبضهَا مِنْهُ لِأَن الْمُسلم إِلَيْهِ يَدعِي أَنَّهَا مَقْبُوضَة مَعَ الْعَيْب وَرب السّلم يُنكر أَنَّهَا مَقْبُوضَة أَو أَنَّهَا الَّتِي قبضهَا مِنْهُ وَيكون القَوْل قَول الْمُنكر مَعَ يَمِينه
وَفِي الِاسْتِحْسَان القَوْل قَول الْمُسلم إِلَيْهِ مَعَ يَمِينه وعَلى رب السّلم الْبَيِّنَة أَنه أعطَاهُ الْجِيَاد لِأَن رب السّلم بإنكاره أَنَّهَا لَيست من دَرَاهِمه يَدعِي إِيفَاء حَقه وَهُوَ الْجِيَاد وَالْمُسلم إِلَيْهِ بِدَعْوَاهُ أَن هَذِه الدَّرَاهِم قبضتها مِنْك وَإِنَّهَا زيوف يُنكر قبض حَقه فَيكون القَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أَنه لم يقبض حَقه وعَلى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة أَنه أوفاه حَقه
وَهَذَا هُوَ الْقيَاس فِي الْفُصُول الْأُخَر إِلَّا أَن ثمَّة سبق مِنْهُ مَا يُنَاقض دَعْوَاهُ وَهُوَ الْإِقْرَار بالجياد وَهَهُنَا لم يسْبق لِأَن ذكر قبض الدَّرَاهِم يَقع على الزُّيُوف والجياد جَمِيعًا بِخِلَاف الْفُصُول الأولى
وَأما إِذا قَالَ قبضت لَا غير ثمَّ قَالَ وجدته زُيُوفًا يكون القَوْل قَوْله كَمَا قُلْنَا فِي الْفَصْل الأول إِلَّا أَن هَهُنَا إِذا قَالَ وجدته ستوقة أَو رصاصا فَإِنَّهُ يصدق بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ قبضت الدَّرَاهِم ثمَّ قَالَ وَجدتهَا ستوقة أَو رصاصا فَإِنَّهُ لَا يقبل قَوْله لِأَن فِي قَوْله قبضت إِقْرَارا بِمُطلق الْقَبْض والستوقة تقبض فبقوله مَا قَبضته ستوقة لَا يكون مناقضا وَفِي قَوْله قبضت الدَّرَاهِم يصير مناقضا لقَوْله قبضت الستوقة والرصاص لِأَنَّهُ خلاف جنس الدَّرَاهِم

(2/24)


بَاب الرِّبَا
الرِّبَا نَوْعَانِ رَبًّا الْفضل وَربا النِّسَاء
فَالْأول هُوَ فضل عين مَال على المعيار الشَّرْعِيّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْن عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وَالثَّانِي هُوَ فضل الْحُلُول على الْأَجَل وَفضل الْعين على الدّين فِي المكيلين والموزونين عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس أَو فِي غير المكيلين وَغير الموزونين عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وَعلة رَبًّا الْفضل هِيَ الْقدر الْمُتَّفق مَعَ الْجِنْس أَعنِي الْكَيْل فِي المكيلات وَالْوَزْن فِي الْأَثْمَان والمثمنات
وَعلة رَبًّا النِّسَاء هِيَ وجود أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل فِي المكيلات أَو الْوَزْن الْمُتَّفق أَعنِي أَن يَكُونَا ثمنين أَو مثمنين لِأَن وزن الثّمن يُخَالف وزن الْمُثمن
وَهَذَا عندنَا وَعند الشَّافِعِي رَبًّا الْفضل هُوَ الْفضل الْمُطلق من حَيْثُ الذَّات أَو حُرْمَة بيع المطعوم بِجِنْسِهِ ثمَّ التَّسَاوِي فِي المعيار الشَّرْعِيّ مَعَ الْيَد مخلص عَن هَذِه الْحُرْمَة بطرِيق الرُّخْصَة
وَربا النِّسَاء هُوَ فضل الْحُلُول فِي المطعومات والأثمان

(2/25)


وَعلة رَبًّا الْفضل هِيَ الطّعْم فِي المطعومات والثمنية فِي الْأَثْمَان الْمُطلقَة وَهِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْجِنْس شَرط
وَعلة رَبًّا النِّسَاء هِيَ عِلّة رَبًّا الْفضل دون الْجِنْس وَهِي الطّعْم أَو الثمنية
وَدَلَائِل هَذِه الْجُمْلَة تعرف فِي الخلافيات
وَفَائِدَة الْخلاف فِي رَبًّا الْفضل تظهر فِي فصلين أَحدهمَا فِي بيع مطعوم بِجِنْسِهِ غير مُقَدّر كَبيع الحفنة بالحفنتين والسفرجلة بالسفرجلتين والبطيخة بالبطيختين وَنَحْوهَا يجوز عندنَا لعدم الْقدر وَلَا يجوز عِنْده لوُجُود الْعلَّة وَهِي الطّعْم
وَالثَّانِي فِي بيع مُقَدّر بمقدر غير مطعوم كَبيع قفيز جص بقفيزي جص أَو من من حَدِيد بمنوي حَدِيد وَنَحْوهمَا لَا يجوز عندنَا فِي الجص لوُجُود عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل وَالْجِنْس وَعِنْده يجوز لعدم الْعلَّة وَهِي الطّعْم
وَفِي الْحَدِيد لَا يجوز عندنَا لوُجُود الْوَزْن وَالْجِنْس وَعِنْده يجوز لعدم الثمنية والطعم
وَأَجْمعُوا أَنه لَو بَاعَ قفيز أرز بقفيزي أرز لَا يجوز لوُجُود الْكَيْل وَالْجِنْس عندنَا ولوجود الْجِنْس والطعم عِنْده
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا بَاعَ من زعفران بمنوي زعفران أَو من سكر بمنوي سكر لَا يجوز لوُجُود الْوَزْن وَالْجِنْس عندنَا ولوجود الطّعْم وَالْجِنْس عِنْده
وَأما فروع رَبًّا النِّسَاء وَفَائِدَة الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي أَنه إِذا بَاعَ قفيز حِنْطَة بقفيزي شعير نَسِيئَة مُؤَجّلَة أَو دينا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة غير مُؤَجل لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود عِلّة رَبًّا النِّسَاء وَهِي أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل عندنَا والطعم عِنْده

(2/26)


وَإِذا بَاعَ قفيز جص بقفيزي نورة مُؤَجّلا بِأَن أسلم أَو غير مُؤَجل بِأَن بَاعَ دينا فِي الْخدمَة وَلَا يجوز عندنَا لوُجُود الْكَيْل وَعِنْده يجوز لعدم الطّعْم
وَلَو أسلم من حَدِيد فِي مني حَدِيد لَا يجوز عندنَا لوُجُود الْوَزْن الْمُتَّفق لِكَوْنِهِمَا موزونين وَعِنْده يجوز لعدم الطّعْم والثمنية
وَلَو بَاعَ من سكر بِمن زعفران دينا فِي الذِّمَّة لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهُوَ الْوَزْن الْمُتَّفق عندنَا لِأَنَّهُمَا مثمنان ولوجود الطّعْم عِنْده
وَلَو أسلم دَرَاهِم فِي زعفران أَو فِي قطن أَو حَدِيد فَإِنَّهُ يجوز بِالْإِجْمَاع أما عندنَا فَلِأَنَّهُ لم يُوجد الْوَزْن الْمُتَّفق فَإِن الدَّرَاهِم توزن بالمثاقيل والقطن وَالْحَدِيد والزعفران يُوزن بالقبان
وَلَو أسلم نقرة فضَّة فِي نقرة ذهب لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود الْوَزْن الْمُتَّفق عندنَا فَإِنَّهُمَا يوزنان بالمثاقيل وَعِنْده لوُجُود الثمنية
وَلَو أسلم الْحِنْطَة فِي الزَّيْت جَازَ عندنَا لِأَن أَحدهمَا مَكِيل وَالْآخر مَوْزُون فَكَانَا مُخْتَلفين قدرا على قَوْله لَا يجوز لوُجُود الطّعْم
فَأَما تَفْسِير الْجِنْس بِانْفِرَادِهِ إِذا أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب ههروي لَا يجوز عندنَا لِأَن الْجِنْس أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل فَيحرم النِّسَاء وَعند الشَّافِعِي يجوز لِأَن الْجِنْس عِنْده شَرط
وَلَو أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب مَرْوِيّ جَازَ بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لم يُوجد

(2/27)


الْجِنْس وَلَا الْوَزْن الْمُتَّفق وَلَا الطّعْم وَلَا الثمنية
وَلَو أسلم جوزة فِي جوزة أَو سفرجلة فِي سفرجلة لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود الْجِنْس عندنَا ولوجود الطّعْم عِنْده
ثمَّ فرق بَين الْمكيل وَالْمَوْزُون وَبَين الثَّوْب وَالثَّوْب من وَجه وَهُوَ أَن رَبًّا النِّسَاء لَا يتَحَقَّق فِي الثَّوْب إِلَّا بطرِيق السّلم لِأَن الثِّيَاب لَا تثبت دينا فِي الذِّمَّة إِلَّا سلما فَأَما فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون فَيتَحَقَّق رَبًّا النِّسَاء مُؤَجّلا وَحَالا دينا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة
بَيَانه لَو أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب هروي لَا يجوز لِأَنَّهُ مُؤَجل
وَلَو بَاعَ ثوبا هرويا بِثَوْب هروي مَوْصُوف فِي الذِّمَّة حَالا لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون ثمنا إِلَّا بِاعْتِبَار رَبًّا النِّسَاء
وَلَو بَاعَ قفيز حِنْطَة بِعَينهَا بقفيزي شعير مَوْصُوف فِي الذِّمَّة دينا غير مُؤَجل لَا يجوز لِأَن الْعين خير من الدّين وَإِن كَانَ حَالا

(2/28)


بَاب الشِّرَاء وَالْبيع
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان ركن البيع وَالشِّرَاء وَبَيَان شُرُوطه وَبَيَان أقسامه وَبَيَان حكمه شرعا
أما بَيَان الرُّكْن فَهُوَ الْإِيجَاب من البَائِع وَالْقَبُول من المُشْتَرِي إِلَّا أَن ذَلِك قد يكون بلفظين وَقد لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِثَلَاثَة أَلْفَاظ
أما مَا يتَحَقَّق بلفظين فقد يكون بِدُونِ النِّيَّة وَقد يكون مَعَ النِّيَّة
أما من غير النِّيَّة فبأن يكون اللفظان بِصِيغَة الْمَاضِي نَحْو أَن يَقُول البَائِع بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِكَذَا فَقَالَ المُشْتَرِي ابتعت أَو اشْتريت أَو مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ كَقَوْلِه أخذت وَقبلت ورضيت وَفعلت وَنَحْو ذَلِك لِأَن هَذَا فِي عرف أهل اللُّغَة وَالشَّرْع مُسْتَعْمل لإِيجَاب الْملك للْحَال بعوض وَإِن كَانَ بِصِيغَة الْمَاضِي
وَكَذَلِكَ إِذا بَدَأَ المُشْتَرِي فَقَالَ اشْتريت مِنْك هَذَا العَبْد بِكَذَا فَقَالَ البَائِع بِعته مِنْك أَو أَعْطيته أَو بذلته أَو رضيت أَو هولك

(2/29)


وَأما الَّذِي لَا ينْعَقد بِدُونِ النِّيَّة فَأن يخبر عَن نَفسه فِي الْمُسْتَقْبل بِلَفْظَة الِاسْتِقْبَال وَهُوَ أَن يَقُول البَائِع أبيع مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف أَو أبذله أَو أعطيكه
فَقَالَ المُشْتَرِي اشتريه بذلك أَو آخذه ونويا الْإِيجَاب للْحَال أَو كَانَ أَحدهمَا بِلَفْظ الْمَاضِي وَالْآخر بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل مَعَ نِيَّة الْإِيجَاب للْحَال فَإِنَّهُ ينْعَقد البيع لِأَن صِيغَة الِاسْتِقْبَال تحْتَمل الْحَال فَصحت النِّيَّة
وَإِن كَانَ أَحدهمَا بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام بِأَن قَالَ أتبيع مني هَذَا الشَّيْء فَقَالَ بِعْت وَنوى لَا ينْعَقد البيع لِأَن لفظ الِاسْتِفْهَام لَا يسْتَعْمل للْحَال إِذا أمكن الْعَمَل بِحَقِيقَة الِاسْتِفْهَام
فَأَما إِذا كَانَ بلفظين يعبر بهما عَن الْمُسْتَقْبل إِمَّا على سَبِيل الْأَمر أَو الْخَبَر أَو بِأَحَدِهِمَا من غير نِيَّة الْحَال فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد البيع عندنَا وَذَلِكَ أَن يَقُول البَائِع اشْتَرِ مني هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت أَو قَالَ المُشْتَرِي بِعْ مني هَذَا العَبْد فَقَالَ بِعْت أَو قَالَ البَائِع أبيع هَذَا العَبْد مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت
وَفِي بَاب النِّكَاح إِذا كَانَ أحد اللَّفْظَيْنِ يعبر بِهِ عَن الْأَمر أَو الْخَبَر فِي الْمُسْتَقْبل بِأَن قَالَ زوجيني نَفسك بِأَلف دِرْهَم فَقَالَت زوجت أَو قَالَ الزَّوْج أتزوجك على ألف دِرْهَم فَقَالَت زوجت نَفسِي مِنْك بذلك ينْعَقد النِّكَاح
وَقَالَ الشَّافِعِي البيع وَالنِّكَاح سَوَاء ينعقدان بلفظين يعبر بِأَحَدِهِمَا عَن الْمَاضِي وَالْآخر عَن الْحَال من غير نِيَّة
فَأَما إِذا كَانَ أحد اللَّفْظَيْنِ بطرِيق الِاسْتِفْهَام فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد النِّكَاح وَالْبيع بِالْإِجْمَاع

(2/30)


وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا فَإِن البيع فِي الْعرف غَالِبا لَا يكون بِنَاء على مُقَدمَات وَلَفظ الْمُسْتَقْبل للعدة فِي الأَصْل وَلَفظ الْأَمر للمساومة فَيحمل على حَقِيقَته إِلَّا بِدَلِيل
وَلم يُوجد بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ بِنَاء على مُقَدّمَة الْخطْبَة فَلَا يحمل على المساومة بِدلَالَة الْعَادة
وَأما إِذا وجد ثَلَاثَة أَلْفَاظ بِأَن قَالَ المُشْتَرِي بِعْ عَبدك هَذَا مني بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ البَائِع بِعْت فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت فَإِنَّهُ ينْعَقد بِالْإِجْمَاع
فَأَما إِذا تبَايعا وهما يمشيان أَو يسيران على دَابَّة وَاحِدَة أَو دابتين فَإِن كَانَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول متصلين وَخرج الكلامان من غير فصل بَينهمَا فَإِنَّهُ يَصح البيع فَأَما إِذا كَانَ بَينهمَا فصل وسكوت وَإِن قل فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن الْمجْلس يتبدل بِالْمَشْيِ وَالسير هَكَذَا قَالَ عَامَّة مَشَايِخنَا وقاسوا على آيَة السَّجْدَة وَخيَار المخيرة
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا تبَايعا فِي حَال السّير وَالْمَشْي فَوجدَ الْإِيجَاب مُنْفَصِلا عَن الْقبُول فَإِنَّهُ ينْعَقد مَا لم يفترقا بأبدانهما وَإِن وجد الْقبُول بعد الِافْتِرَاق لَا يجوز لِأَن الْقيام عَن الْمجْلس دَلِيل الْإِعْرَاض عَن الْجَواب فَأَما السّير بِلَا افْتِرَاق فَلَيْسَ بِدَلِيل الْإِعْرَاض فصح الْقبُول وَيكون جَوَابا وَهَكَذَا قَالُوا فِي خِيَار المخيرة
أما فِي تِلَاوَة السَّجْدَة فبخلافه لِأَن الأَصْل أَن تجب السَّجْدَة لكل تِلَاوَة لَكِن جعلت التلاوات كتلاوة وَاحِدَة عِنْد اتِّحَاد الْمجْلس والمجلس يخْتَلف بالسير حَقِيقَة

(2/31)


وَلَو وَقفا وتبايعا جَازَ وَإِن وجد الْقبُول بعد الْإِيجَاب بسكتة لِاتِّحَاد الْمجْلس
فَأَما إِذا وَقفا فَأوجب أَحدهمَا البيع فَسَار الآخر وَلم يقبل ثمَّ قبل بعد ذَلِك لَا يَصح وَيجْعَل سيره دَلِيل الْإِعْرَاض
وَكَذَا لَو سَار البَائِع قبل أَن يقبل المُشْتَرِي لِأَنَّهُ دَلِيل الْإِعْرَاض أَيْضا وَإنَّهُ يملك الرُّجُوع فِي إِيجَاب البيع
وَلَو خير امْرَأَته بَعْدَمَا وَقفا ثمَّ سَار الرجل وَبقيت الْمَرْأَة واقفة فلهَا الْخِيَار لِأَن الْعبْرَة بجانبها فَمَا دَامَت فِي مجلسها فَلم يُوجد مِنْهَا دَلِيل الْإِعْرَاض وَكَلَام الزَّوْج لَا يبطل بِالْإِعْرَاضِ
هَذَا إِذا كَانَ العاقدان حاضرين فِي الْمجْلس
فَأَما إِذا كَانَ أَحدهمَا غَائِبا فَوجدَ من أَحدهَا البيع أَو الشِّرَاء فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف
بَيَانه أَن من قَالَ بِعْت عَبدِي هَذَا من فلَان الْغَائِب بِأَلف دِرْهَم فَبَلغهُ الْخَبَر فَقبل لَا يَصح لِأَن شطر البيع لَا يتَوَقَّف بِالْإِجْمَاع
وَلَو قَالَ بِعْت عَبدِي هَذَا بِأَلف دِرْهَم من فلَان بَين يَدي رجل وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى فلَان وَقل لَهُ: إِن فلَانا بَاعَ عَبده فلَانا مِنْك بِأَلف دِرْهَم فجَاء الرَّسُول وَأخْبرهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ المُشْتَرِي فِي مَجْلِسه ذَلِك: اشْتريت أَو قبلت تمّ البيع بَينهمَا لِأَن الرَّسُول معبر وسفير فينقل كَلَامه إِلَيْهِ فَإِذا اتَّصل بِهِ الْجَواب ينْعَقد وَكَذَا الْكتاب على هَذَا بِأَن كتب إِلَى رجل وَقَالَ أما بعد فقد بِعْت عَبدِي فلَانا مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَلَمَّا بلغه الْكتاب وَقَرَأَ وَفهم مَا فِيهِ قَالَ فِي مَجْلِسه ذَلِك: اشْتريت أَو قبلت ينْعَقد البيع لِأَن الْخطاب وَالْجَوَاب من الْغَائِب بِالْكتاب يكون

(2/32)


وعَلى هَذَا الْجَواب فِي الْإِجَارَة وَالْهِبَة وَالْكِتَابَة فَأَما فِي الْخلْع وَالْعِتْق على مَال فَإِنَّهُ يتَوَقَّف شطر العقد من الزَّوْج وَالْمولى على قبُول الآخر وَرَاء الْمجْلس بِالْإِجْمَاع فَإِن من قَالَ: خلعت امْرَأَتي فُلَانَة الغائبة على ألف دِرْهَم فبلغها الْخَبَر فأجازت أَو قبلت صَحَّ وَكَذَا إِذا قَالَ: اعتقت عَبدِي فلَانا الْغَائِب بِأَلف دِرْهَم فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة العَبْد فَأَما فِي جَانب الْمَرْأَة وَالْعَبْد: فَلَا يتَوَقَّف إِذا كَانَ الزَّوْج وَالْمولى غائبين فَأَما فِي النِّكَاح فَلَا يتَوَقَّف الشّطْر عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وعَلى قَول أبي يُوسُف: يتَوَقَّف ثمَّ فِي كل مَوضِع لَا يتَوَقَّف شطر العقد فَإِنَّهُ يجوز من الْعَاقِد الرُّجُوع عَنهُ وَلَا يجوز تَعْلِيقه بِالشُّرُوطِ والإخطار لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة وَفِي كل مَوضِع يتَوَقَّف شطر العقد كالخلع وَالْعِتْق على مَال لَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ وَيصِح التَّعْلِيق بِالشُّرُوطِ لِأَنَّهُ فِي جَانب الزَّوْج وَالْمولى بِمَنْزِلَة التَّعْلِيق وَفِي جَانبهَا بِمَنْزِلَة الْمُعَاوضَة
وَأما بَيَان الشُّرُوط
فللبيع شُرُوط: مِنْهَا: شَرط الْأَهْلِيَّة من الْعقل وَالْبُلُوغ حَتَّى لَا ينْعَقد البيع من الطِّفْل وَالْمَجْنُون فَأَما الصَّبِي الْعَاقِل وَالْمَعْتُوه فَمن أهل البيع حَتَّى لَو وكلا بِالْبيعِ

(2/33)


وَالشِّرَاء وباعا جَازَ وَنفذ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَمِنْهَا: شَرط الِانْعِقَاد وَهُوَ الْمحل وَهُوَ أَن يكون مَالا مُتَقَوّما حَتَّى لَو بَاعَ الْخمر وَالْخِنْزِير وَالْميتَة وَالدَّم وَجلد الْميتَة فَإِنَّهُ لَا يجوز أصلا حَتَّى لَا يملك بِالْقَبْضِ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء ثمنا فَإِنَّهُ ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ وَمِنْهَا: شَرط النَّفاذ وَهُوَ الْملك أَو الْولَايَة حَتَّى إِذا بَاعَ ملك نَفسه نفذ وَلَو بَاعَ الْوَكِيل نفذ لوُجُود الْولَايَة
وَأما أَقسَام البيع
فَنَقُول: هُوَ فِي الأَصْل قِسْمَانِ: بيع نَافِذ وَبيع مَوْقُوف فَأَما البيع النَّافِذ فَهُوَ أَن يُوجد الرُّكْن مَعَ وجود شَرط الِانْعِقَاد والنفاذ جَمِيعًا وَأما البيع الْمَوْقُوف فَهُوَ أَن يُوجد الرُّكْن مَعَ وجود شَرط الِانْعِقَاد والأهلية لَكِن لم يُوجد شَرط النَّفاذ وَهُوَ الْملك وَالْولَايَة بَيَانه: أَن الْفُضُولِيّ إِذا بَاعَ مَال غَيره من إِنْسَان أَو اشْترى لغيره شَيْئا معينا فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إِجَازَته عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يتَوَقَّف ولقب الْمَسْأَلَة أَن الْعُقُود والفسوخ من الْفُضُولِيّ تتَوَقَّف على إجَازَة الْمَالِك وَإِنَّمَا ينْعَقد عندنَا على التَّوَقُّف كل عقد لَهُ مجيز حَالَة العقد فَأَما إِذا لم يكن لَهُ مجيز فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف حَتَّى إِن الطَّلَاق وَالْعتاق فِي حق الْبَالِغ من الْفُضُولِيّ فَهُوَ على الْخلاف لِأَن لَهُ مجيزا فِي الْحَال فَأَما إِذا وجد الطَّلَاق الْعتاق والتبرعات من الْفُضُولِيّ الْبَالِغ فِي امْرَأَة

(2/34)


الصَّبِي وَالْمَجْنُون ومالهما فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مجيز فِي حَالَة العقد لِأَنَّهُمَا ليسَا من أهل الطَّلَاق وَالْعتاق والتبرعات وَكَذَلِكَ وليهما وَكَذَلِكَ الْأَب وَالْوَصِيّ إِذا أعتقا أَو طلقا عبد الصَّبِي أَو امْرَأَته ثمَّ إِنَّمَا يجوز العقد الْمَوْقُوف إِذا كَانَ الْمحل قَابلا لإنشاء البيع حَالَة الْإِجَازَة فَأَما إِذا لم يكن قَابلا فَلَا بِأَن هلك الْمحل بِالْإِجَازَةِ ينفذ للْحَال مُسْتَندا إِلَى مَا قبله فَلَا بُد من الْمحل فِي الْحَال وَكَذَا الْجَواب لَو كَانَ العاقدان فضوليين فَإِنَّهُ يتَوَقَّف أَيْضا على إجَازَة المالكين وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي النِّكَاح

وَلَو كَانَ الْفُضُولِيّ الْوَاحِد بَاعَ عبد إِنْسَان من إِنْسَان وهما غائبان وَقبل عَن المُشْتَرِي أَيْضا فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف وَفِي النِّكَاح إِذا قبل عَنْهُمَا لَا يتَوَقَّف أَيْضا وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَن يتَوَقَّف عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَإِنَّمَا الْخلاف فِيمَا إِذا زوج رجل امْرَأَة وَلم يقبل مِنْهُ لِأَن الْوَاحِد يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ وَلَا يتَوَقَّف فِي النِّكَاح وَيجوز أَن يكون وليا من الْجَانِبَيْنِ بِأَن زوج ابْنة أُخْته من ابْن أَخِيه وَالْإِجَازَة اللاحقة بِمَنْزِلَة الْوكَالَة السَّابِقَة بِخِلَاف البيع فَإِن الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ فَلَا يتَوَقَّف من رجل وَاحِد وَإِن وجد مِنْهُ الْإِيجَاب وَالْقَبُول جَمِيعًا ثمَّ إِنَّمَا جَازَ أَن يكون الرجل وليا ووكيلا من الْجَانِبَيْنِ فِي النِّكَاح وَفِي البيع لَا يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ وَإِمَّا يجوز أَن يكون وليا من الْجَانِبَيْنِ فَإِن الْأَب إِذا اشْترى مَال الصَّبِي لنَفسِهِ أَو بَاعَ مَاله من

(2/35)


الصَّبِي بِمثل قِيمَته أَو بِغَبن يسير يتَغَابَن النَّاس فِي مثله: فَإِنَّهُ يجوز وَكَذَلِكَ الْوَصِيّ: إِذا اشْترى مَال الصَّبِي لنَفسِهِ أَو بَاعَ مَال نَفسه من الصَّبِي وَفِيه نفع ظَاهر للصَّبِيّ جَازَ بِلَا خلاف فَأَما إِذا كَانَ بِمثل الْقيمَة جَازَ عِنْد أبي حنيفَة وَعند مُحَمَّد لَا يجوز وَأما إِذا كَانَ بِدُونِ الْقيمَة فَلَا يجوز بِلَا خلاف وَالْفرق بَين الْفُصُول أَن الْوَلِيّ وَالْوَكِيل فِي بَاب النِّكَاح بِمَنْزِلَة الرَّسُول لِأَنَّهُ لَا يرجع إِلَيْهِ حُقُوق العقد فَأَما الْوَكِيل فِي بَاب البيع فَأصل فِي حق الْحُقُوق وللبيع حُقُوق متضادة من التَّسْلِيم والتسلم فَلَا يجوز أَن يكون الْوَاحِد فِي شَيْء وَاحِد فِي زمَان وَاحِد مُسلما ومتسلما بِخِلَاف الْأَب الْوَصِيّ لِأَن ثمَّ جعلناهما كشخصين لاخْتِلَاف الولايتين وَلَو بَاعَ العَبْد الْمَحْجُور مَال مَوْلَاهُ من إِنْسَان بِثمن مَعْلُوم فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ وَلَو أذن لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي البيع وَالشِّرَاء وَأَجَازَ ذَلِك لَا ينفذ إِلَّا بِإِجَازَة الْمولى لِأَن العَبْد الْمَأْذُون لَا يملك بيع مَال الْمولى وَإِنَّمَا يملك الشِّرَاء وَلَو اشْترى عبدا لمَوْلَاهُ بِغَيْر إِذْنه فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إِجَازَته وَلَو أذن لَهُ بِالتَّصَرُّفِ نفذ الشِّرَاء على مَوْلَاهُ من غير إجَازَة مُبتَدأَة لذَلِك لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ ملك إنْشَاء الشِّرَاء فِي حَقه فَيملك الْإِجَازَة وعَلى هَذَا: الصَّبِي الْعَاقِل إِذا بَاعَ مَاله وَهُوَ مَحْجُور فَإِنَّهُ ينْعَقد تصرفه مَوْقُوفا على إجَازَة وليه وعَلى إِذن وليه بِالتَّصَرُّفِ أَيْضا وعَلى بُلُوغه أَيْضا لِأَن فِي انْعِقَاده فَائِدَة لوُجُود الْمُجِيز للْحَال وَهُوَ الْوَلِيّ

(2/36)


وَهَذَا فِي التَّصَرُّفَات الدائرة بَين الضَّرَر والنفع كَالْبيع وَالْإِجَارَة فَأَما التَّصَرُّفَات الضارة كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالْإِقْرَار فَإِنَّهُ لَا تصح وَلَا تتَوَقَّف لِأَن الْوَلِيّ لَا يملك هَذِه التَّصَرُّفَات فَلَا مجيز لَهَا الْحَال وَأما التَّصَرُّفَات النافعة كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد وَقبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فَتَصِح مِنْهُمَا من غير إِذن
وَأما حكم البيع
فَهُوَ ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي وَثُبُوت الْملك فِي الثّمن للْبَائِع إِذا كَانَ البيع باتا من غير خِيَار فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة أَو الْعَيْب أَو خِيَار الشَّرْط فَالْجَوَاب على مَا نذْكر ثمَّ إِذا كَانَ البيع باتا فَلَا يملك أَحدهمَا الْفَسْخ بِدُونِ رضَا صَاحبه وَإِن لم يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس وَهَذَا عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهما خِيَار الْفَسْخ مَا لم يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس ولقب الْمَسْأَلَة أَن خِيَار الْمجْلس هَل هُوَ ثَابت شرعا فعندنا غير ثَابت وَعِنْده ثَابت وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة فَإِذا ثَبت الْملك فِي الطَّرفَيْنِ أَعنِي فِي الْمَبِيع وَالثمن جَمِيعًا وَحكم الْمَبِيع يُخَالف حكم الثّمن فِيمَا سوى ثُبُوت الْملك فَلَا بُد من بَيَان الثّمن وَالْمَبِيع فَنَقُول: إِن الْمَبِيع فِي الأَصْل مَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَالثمن فِي الأَصْل مَا لَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَإِن كَانَ قد يتَعَيَّن بِعَارِض فَيصير الْمَبِيع دينا كَمَا فِي

(2/37)


السّلم وَيصير الثّمن عينا كَبيع الْعين بِالْعينِ لَكِن الثّمن الْمُطلق هُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإِنَّمَا لَا يتعينان فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات فِي حق الِاسْتِحْقَاق وَإِن عينت وتتعين فِي حق بَيَان الْقدر وَالْجِنْس وَالصّفة وَهَذَا عندنَا وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ: تتَعَيَّن

وَأَجْمعُوا أَنَّهُمَا إِذا كَانَتَا فِي الذِّمَّة لَا يتعينان وَإِذا عينتا فعندهما حكمهمَا كَحكم الْمَبِيع وَأَجْمعُوا أَنَّهُمَا يتعينان فِي الغصوب والأمانات والوكالات وَبَيَان ذَلِك: أَن من بَاعَ عبدا بِأَلف دِرْهَم وعينها فِي الْمجْلس فَإِن البَائِع لَا يسْتَحق عينهَا حَتَّى لَو أَرَادَ المُشْتَرِي أَن يمْنَعهَا وَيرد غَيرهَا لَهُ ذَلِك وَلَكِن تتَعَيَّن فِي حق الْجِنْس حَتَّى تجب عَلَيْهِ الدَّرَاهِم وتتعين فِي حق الْقدر حَتَّى تجب عَلَيْهِ ألف دِرْهَم وتتعين فِي حق الصّفة حَتَّى إِن الدَّرَاهِم الْمعينَة فِي العقد إِذا كَانَت جَيِّدَة يجب عَلَيْهِ مثلهَا جَيِّدَة وَإِن كَانَت رَدِيئَة فَكَذَلِك وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي اسْتِحْقَاق عينهَا فِي الْمُعَاوَضَات لِأَن الْمثل يقوم مقَامهَا فِي كل عوض يكون فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات فَكَانَ التَّعْيِين وَتَركه سَوَاء فِي حق اسْتِحْقَاق الْعين فَأَما فِي تعْيين الْجِنْس وَالْقدر وَالصّفة فَفِيهِ فَائِدَة فتتعين ثمَّ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أَثمَان أبدا سَوَاء كَانَت فِي مقابلتها أَمْثَالهَا أَو أَعْيَان أخر صحبتهَا حرف الْبَاء أَو لَا حَتَّى إِن فِي الْأَثْمَان يصير صرفا وَإِذا كَانَت فِي مقابلتها السّلْعَة تصير ثمنا والسلعة مَبِيع على كل حَال لِأَنَّهَا أَثمَان مُطلقَة على كل حَال فَلَا تتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ

(2/38)


وَأما الْأَعْيَان الَّتِي لَيست من ذَوَات الْأَمْثَال كالثياب والدور وَالْعَقار وَالْعَبِيد والعدديات المتقاربة كالبطاطيخ وَالثِّمَار فَهِيَ مبيعة وتتعين بِالتَّعْيِينِ وَلَا يجوز البيع فِيهَا إِلَّا عينا إِلَّا فِيمَا يجوز فِيهِ السّلم كالثياب وَنَحْوهَا فَيكون مَبِيعًا دينا إِذا وجد شَرَائِط السّلم بِالنَّصِّ لحَاجَة النَّاس بِخِلَاف الْقيَاس ثمَّ الثِّيَاب كَمَا تثبت فِي الذِّمَّة دينا مَبِيعًا بطرِيق السّلم تثبت دينا فِي الذِّمَّة مُؤَجّلا بطرِيق الثّمن وَالْأَجَل شَرط فِي الثِّيَاب لَا لِأَنَّهُ شَرط فِي الْأَثْمَان وَلَكِن شَرط لتصير مُلْحقَة بِالثّمن فِي كَونهَا دينا فِي الذِّمَّة وَأما الْمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب: إِن كَانَت فِي مقابلتها الْأَثْمَان فَهِيَ مبيعة وَإِن كَانَت فِي مقابلتها أَمْثَالهَا أَعنِي الْمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب فَكل مَا كَانَ مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة يكون ثمنا وكل مَا كَانَ معينا يكون مَبِيعًا وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة فَمَا صَحبه حرف الْبَاء يكون ثمنا وَالْآخر يكون مَبِيعًا لِأَن هَذَا مِمَّا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَيثبت دينا فِي الذِّمَّة أَيْضا فَيتَعَيَّن أحد الْوَجْهَيْنِ بِالدَّلِيلِ فَإِذا ثَبت تَفْسِير الْمَبِيع وَالثمن فَنَذْكُر أحكامهما فَنَقُول: مِنْهَا: إِذا هلك الْمَبِيع قبل الْقَبْض يَنْفَسِخ البيع وَإِذا هلك الثّمن فِي الْمجْلس قبل الْقَبْض فَإِن كَانَ عينا مثلِيا لَا يَنْفَسِخ لِأَنَّهُ يُمكن تَسْلِيم مثله بِخِلَاف الْمَبِيع لِأَنَّهُ عين وَلِلنَّاسِ أغراض فِي الْأَعْيَان

أما إِذا هلك وَلَيْسَ لَهُ مثل فِي الْحَال بِأَن كَانَ شَيْئا مِمَّا يَنْقَطِع عَن أَيدي النَّاس وَهُوَ كَانَ مَوْجُودا وَقت العقد ثمَّ انْقَطع قبل الْقَبْض

(2/39)


فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ وَأما إِذا كسد الثّمن بِأَن كَانَ الثّمن فُلُوسًا فكسدت أَو كسد بعض الدَّرَاهِم الرائجة وَهُوَ كَانَ ثمنا قبل الْقَبْض فعلى قَول أبي حنيفَة يَنْفَسِخ العقد وَجعل الكساد كالهلاك لِأَن قيام الثّمن من حَيْثُ الْمَعْنى بالرواج وعَلى قَوْلهمَا: لَا يَنْفَسِخ لَكِن يُخَيّر إِن شَاءَ أَخذ قِيمَته وَإِن شَاءَ فسخ وجعلاه كالعيب ثمَّ اخْتلفَا فِيمَا بَينهمَا فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يعْتَبر قِيمَته يَوْم العقد لِأَن الثّمن يجب عِنْد العقد فَيضمن قِيمَته حِينَئِذٍ وَقَالَ مُحَمَّد: تعْتَبر قِيمَته فِي آخر مَا ترك النَّاس الْمُعَامَلَة بذلك لِأَنَّهُ عجز عَن التَّسْلِيم يَوْمئِذٍ وَمِنْهَا: أَنه لَا يجوز التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض بِلَا خلاف وَفِي الْعقار الْمَبِيع يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ لَا يجوز وَأما الْأَثْمَان فَيجوز التَّصَرُّف فِيهَا قبل الْقَبْض لِأَنَّهَا دُيُون وَكَذَلِكَ التَّصَرُّف فِي سَائِر الدُّيُون من الْمهْر وَالْأُجْرَة وَضَمان الْمُتْلفَات وَنَحْوهَا يجوز قبل الْقَبْض وَمِنْهَا: إِذا بَاعَ عينا بِعَين فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِمَا التَّسْلِيم مَعًا تَحْقِيقا للمساواة فِي الْمُعَاوضَة الْمُقْتَضِيَة للمساواة عَادَة فَأَما إِذا كَانَ بيع الْعين بِالدّينِ فَإِنَّهُ يجب تَسْلِيم الدّين أَولا حَتَّى يتَعَيَّن ثمَّ يجب تَسْلِيم الْعين ليتساويا فَإِذا سلم المُشْتَرِي الثّمن يجب على البَائِع تَسْلِيم الْمَبِيع

(2/40)


وَلَو هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم فالهلاك يكون على البَائِع يَعْنِي يسْقط الثّمن وينفسخ العقد وَلَو كَانَ الثّمن مُؤَجّلا يجب تَسْلِيم الْمَبِيع للْحَال لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أسقط حق نَفسه فِي التَّأْجِيل فَلَا يسْقط حق الآخر وَإِن أجل الثّمن إِلَّا درهما لَهُ أَن يحبس كل الْمَبِيع لِأَن حق الْحَبْس مِمَّا لَا يتَجَزَّأ وَكَذَلِكَ لَو أوفى جَمِيع الثّمن إِلَّا درهما أَو أَبرَأَهُ عَن جَمِيع الثّمن إِلَّا درهما وَكَذَا فِي الرَّهْن إِذا قبض الدّين كُله أَو أَبرَأَهُ إِلَّا درهما فَإِنَّهُ يحبس كل الرَّهْن حَتَّى يصل إِلَيْهِ الْبَاقِي وَلَو دفع المُشْتَرِي إِلَى البَائِع بِالثّمن رهنا أَو كفل بِهِ كَفِيلا لَا يسْقط حق الْحَبْس لِأَن هَذَا وَثِيقَة بِالثّمن فَلَا يبطل حَقه عَن حبس الْمَبِيع لِاسْتِيفَاء الثّمن وَلَو أحَال البَائِع رجلا على المُشْتَرِي بِالثّمن وَقبل سقط حق الْحَبْس وَكَذَلِكَ إِذا أحَال المُشْتَرِي البَائِع على رجل وَهَذَا عِنْد أبي يُوسُف وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَقَالَ فِي رِوَايَة: إِذا أحَال البَائِع رجلا على المُشْتَرِي يسْقط حق الْحَبْس وَإِن أحَال المُشْتَرِي البَائِع على رجل لم يسْقط حق الْحَبْس وَهِي مَسْأَلَة كتاب الْحِوَالَة

وَلَو أتلف المُشْتَرِي الْمَبِيع فِي يَد البَائِع صَار قَابِضا للْمَبِيع وتقرر عَلَيْهِ الثّمن

(2/41)


وَكَذَلِكَ إِذا قطع يَده أَو شج رَأسه وكل تصرف نقص مِنْهُ شَيْئا وَكَذَلِكَ لَو فعله البَائِع بِإِذن المُشْتَرِي لِأَن أمره بِالْإِتْلَافِ فِي ملكه صَحِيح وَصَارَ فعله مَنْقُولًا إِلَيْهِ حكما كَأَنَّهُ فعل بِنَفسِهِ وَلَو أعتق المُشْتَرِي العَبْد وَهُوَ فِي يَد البَائِع يكون قبضا مِنْهُ لِأَنَّهُ إِتْلَاف وَلَو زوج الْأمة الْمَبِيعَة قبل الْقَبْض فَالْقِيَاس أَن يصير قَابِضا لِأَن التَّزْوِيج عيب فِي الْجَوَارِي وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يكون قبضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْب حَقِيقَة وَإِن أقرّ المُشْتَرِي بِالدّينِ على العَبْد الْمَبِيع قبل الْقَبْض لَا يكون قبضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بتعييب حكمي وَلَو زَوجهَا المُشْتَرِي وَوَطئهَا الزَّوْج فِي يَد البَائِع يكون قبضا فِي قَوْلهم لِأَن وَطْء الزَّوْج بِإِذن المُشْتَرِي بِمَنْزِلَة وَطْء المُشْتَرِي وَلَو أودع البَائِع الْمَبِيع عِنْد المُشْتَرِي أَو أَعَارَهُ مِنْهُ فَفِي الْمَشْهُور من الرِّوَايَة أَنه يسْقط حق الْحَبْس وَلَيْسَ لَهُ أَن يسْتَردّهُ لِأَن الْإِيدَاع والإعارة من الْمَالِك لَا تصح فَيكون هَذَا تَسْلِيمًا بِحكم البيع فَيسْقط حق الْحَبْس وَلَو أودع المُشْتَرِي من البَائِع أَو أَعَارَهُ مِنْهُ لم يكن ذَلِك قبضا لِأَن للْبَائِع حق الْحَبْس بطرِيق الْأَصَالَة فَلَا يَصح أَن يصير نَائِبا عَن غَيره وَلَو أودع المُشْتَرِي عِنْد أَجْنَبِي وَأمر بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ أَو أَعَارَهُ يصير قَابِضا لِأَن يَد أَمِينه كَيده وَلَو جنى رجل على الْمَبِيع فَاتبع المُشْتَرِي الْجَانِي وَأخذ الْأَرْش سقط حق الْحَبْس وَيصير قَابِضا حَتَّى لَو هلك يكون الْهَلَاك على المُشْتَرِي وَيصير كَأَن الْجَانِي فعله بأَمْره وَهَذَا قَول أبي يُوسُف

(2/42)


وَقَالَ مُحَمَّد: لَا يصير قَابِضا وَيبقى فِي ضَمَان البَائِع وَيُؤمر البَائِع بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع فَأَما إِذا كَانَ فِي يَد المُشْتَرِي فَبَاعَهُ الْمَالِك مِنْهُ فَنَقُول: إِن كَانَ فِي يَده غصبا يصير قَابِضا بِنَفس الشِّرَاء وَلَا يحْتَاج إِلَى تَجْدِيد الْقَبْض حَتَّى لَو هلك قبل أَن يتَمَكَّن من قَبضه حَقِيقَة فَإِنَّهُ يهْلك على المُشْتَرِي لِأَن ضَمَان الْغَصْب ضَمَان الْعين نَظِير ضَمَان البيع فَيكون من جنسه فينوب قبض الْغَصْب عَن قبض البيع

وَلَو بَاعَ الرَّاهِن الْمَرْهُون من الْمُرْتَهن وَهُوَ فِي حَبسه لَا يصير قَابِضا بِنَفس الشِّرَاء مَا لم يجدد الْقَبْض بِأَن يُمكن من قَبضه حَقِيقَة بِأَن كَانَ حَاضرا فِي مجْلِس الشِّرَاء أَو يذهب إِلَى بَيته ويتمكن من قَبضه لِأَن قبض الرَّهْن قبض أَمَانَة وَإِنَّمَا يسْقط الدّين بهلاكه لَا بِكَوْنِهِ مَضْمُونا وَلَكِن بِمَعْنى آخر عرف فِي مَوْضِعه وَقبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الشِّرَاء وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي يَده أَمَانَة مثل الْوَدِيعَة وَالْعَارِية وَالْإِجَارَة وَنَحْوهَا لم يدْخل فِي ضَمَان المُشْتَرِي إِلَّا أَن يتَمَكَّن من قبض جَدِيد لِأَن قبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الضَّمَان وَلَو أَن المُشْتَرِي قبض الْمَبِيع بِغَيْر إِذن البَائِع قبل نقد الثّمن فَللْبَائِع أَن يسْتَردّهُ حَتَّى يُعْطِيهِ الثّمن لِأَن للْبَائِع حق الْحَبْس حَتَّى يَسْتَوْفِي الثّمن وَقد أبطل حَقه بِالْأَخْذِ فَعَلَيهِ الْإِعَادَة كالراهن إِذا أَخذ الْمَرْهُون من يَد الْمُرْتَهن لَهُ أَن يُعِيدهُ إِلَى يَده كَمَا قُلْنَا وَلَو قبض بِغَيْر إِذن البَائِع بعد نقد الثّمن لَيْسَ لَهُ أَن يسْتَردّهُ لِأَنَّهُ بَطل حق الْحَبْس بإيفاء الثّمن فَيكون قبضا بِحَق وَلَو أَن المُشْتَرِي قَبضه بِغَيْر إِذن البَائِع قبل إِيفَاء الثّمن ثمَّ

(2/43)


تصرف فِي الْمَبِيع بِغَيْر إِذن البَائِع إِن كَانَ تَصرفا يحْتَمل الْفَسْخ كَالْبيع وَالْهِبَة وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن وَنَحْوهَا فَللْبَائِع أَن يسْتَردّهُ لِأَن حق الْحَبْس قَائِم

فَأَما إِذا تصرف تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كالإعتاق وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد فَإِنَّهُ لَا يسْتَردّهُ لِأَنَّهُ لَا يبْقى حق الْحَبْس لِأَن المُشْتَرِي تصرف فِي ملكه تَصرفا لَا يحْتَمل الرَّد فنفذ كالراهن إِذا أعتق وَحبس الْحر أَو الْحرَّة من وَجه لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي بَقَاء الْحَبْس

(2/44)


بَاب البيع الْفَاسِد
وَمَا يملك بِهِ وَمَا لَا يملك فِي الْبَاب فصلان أَحدهمَا فِي بَيَان أَنْوَاع الْبيُوع الْفَاسِدَة
وَالثَّانِي فِي بَيَان حكمهمَا
أما الأول فَنَقُول الْبيُوع الْفَاسِدَة أَنْوَاع مِنْهَا أَن يكون الْمَبِيع مَجْهُولا وَالثمن مَجْهُولا جَهَالَة توجب الْمُنَازعَة لِأَنَّهَا مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم وبدونهما يكون البيع فَاسِدا لِأَنَّهُ لَا يُفِيد مَقْصُوده
بَيَانه إِذا اشْترى شَاة من قطيع أَو اشْترى أحد الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِكَذَا على أَنه بِالْخِيَارِ بَين أَن يَأْخُذ وَاحِدًا مِنْهَا وَيرد الْبَاقِي أَو اشْترى أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة أَو أحد الشَّيْئَيْنِ وَلم يذكر فِيهِ الْخِيَار فَأَما إِذا ذكر الثَّلَاثَة أَو الِاثْنَيْنِ وَشرط الْخِيَار لنَفسِهِ بَين أَن يَأْخُذ وَاحِدًا وَيرد الْبَاقِي فَهَذَا جَائِز اسْتِحْسَانًا اعْتِبَارا بِشَرْط الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام
وَهل يشْتَرط فِيهِ ذكر مُدَّة خِيَار الشَّرْط اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط
وَكَذَا إِذا بَاعَ العَبْد بِمِائَة شَاة من هَذَا القطيع وَنَحْوه لَا يجوز لجَهَالَة الثّمن

(2/45)


فَأَما الْجَهَالَة الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازعَة فَلَا تمنع الْجَوَاز فَإِنَّهُ إِذا بَاعَ قَفِيزا من صبرَة مُعينَة بِدَرَاهِم أَو بَاعَ هَذَا الْعدْل من الثِّيَاب بِكَذَا وَلَا يعرف عَددهَا أَو بَاعَ هَذِه الصُّبْرَة بِكَذَا وَلَا يعلم عدد القفزان جَازَ لما ذكرنَا
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى شَيْئا لم يره بِأَن اشْترى فرسا مجللا أَو جَارِيَة منتقبة أَو كرى حِنْطَة فِي هَذَا الْبَيْت أَو عبدا تركيا فِي هَذَا الْبَيْت فَإِنَّهُ يجوز إِذا وجد كَذَلِك وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار إِذا رَآهُ
وَعند الشَّافِعِي فَاسد
وَلَو بَاعَ هَذَا العَبْد بِقِيمَتِه فَهُوَ فَاسد لِأَن الْقيمَة تعرف بالحزر وَالظَّن
وَكَذَا لَو اشْترى عدل زطي أَو جراب هروي بِقِيمَتِه لما قُلْنَا
وَلَو اشْترى بِحكم البَائِع أَو المُشْتَرِي أَو بِحكم فلَان فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
وَكَذَلِكَ لَو اشْترى شَيْئا بِأَلف دِرْهَم إِلَّا دِينَار أَو بِمِائَة دِينَار إِلَّا درهما لِأَن مَعْنَاهُ إِلَّا قدر قيمَة الدِّينَار وَهَذِه جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة
وَلَو بَاعَ وَقَالَ هُوَ بِالنَّسِيئَةِ كَذَا وبالنقد كَذَا فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
وَكَذَا لَو قَالَ بِعْت إِلَى أجل كَذَا أَو كَذَا فَهُوَ فَاسد لِأَن الْأَجَل مَجْهُول
وَلَو بَاعَ إِلَى الْحَصاد والدياس أَو إِلَى رُجُوع الْحَاج وقدومهم فَالْبيع

(2/46)


فَاسد لما ذكرنَا
وَلَو بَاعَ عدل زطي بِرَأْس مَاله أَو برقمه وَلَا يعلم المُشْتَرِي رقمه وَلَا رَأس مَاله فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
فَإِن علم رَأس مَاله أَو رقمه فِي الْمجْلس فَإِنَّهُ يعود البيع جَائِزا اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر كَمَا فِي الْحَصاد والدياس أَو بِشَرْط الْخِيَار إِلَى شهر إِلَّا أَن الْفرق أَن هُنَاكَ إِذا رفع الْمُفْسد قبل مَجِيء الْحَصاد والدياس وَقبل مَجِيء الْيَوْم الرَّابِع يعود إِلَى الْجَوَاز سَوَاء كَانَ فِي مجْلِس العقد أَو بعد الْمجْلس وَفِي الرقم يشْتَرط لانقلاب البيع جَائِزا ارْتِفَاع الْمُفْسد فِي الْمجْلس
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَبِيع محرما أَو ثمنه بِأَن بَاعَ الْخمر أَو الْخِنْزِير أَو بَاعَ بهما فَإِنَّهُ لَا يجوز
وَكَذَا الْمحرم إِذا بَاعَ صيدا مَمْلُوكا أَو اشْترى بصيد مَمْلُوك لِأَن الْحَرَام لَا يصلح مَبِيعًا وَثمنا غير أَنه إِذا كَانَ مَبِيعًا يكون البيع بَاطِلا وَإِذا كَانَ ثمنا ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ عندنَا بيعا فَاسِدا
وَأما إِذا ذكر الْميتَة وَالدَّم ثمنا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ
وَمِنْهَا إِذا تعلق بِالْمَبِيعِ حق مُحْتَرم للْغَيْر لَا يملك البَائِع إِبْطَاله يكون البيع فَاسِدا نَحْو أَن يَبِيع الرَّاهِن الْمَرْهُون أَو المؤاجر الْمُسْتَأْجر
وَاخْتلفت الْعبارَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْكتب ذكر فِي بَعْضهَا أَن البيع فَاسد
وَفِي بَعْضهَا أَنه مَوْقُوف على إجَازَة الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَهُوَ الصَّحِيح حَتَّى إِن الرَّاهِن لَا يقدر على فَسخه وَكَذَلِكَ المؤاجر وَكَذَا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر لَا يملكَانِ الْفَسْخ ويملكان الْإِجَازَة
وَإِذا انْقَضتْ هَذِه الْإِجَارَة أَو أفتك الرَّاهِن الرَّهْن يثبت الْملك للْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا أَن الْمَبِيع إِذا كَانَ لَا يقدر على تَسْلِيمه وَقت العقد مثل الطير

(2/47)


الَّذِي طَار عَن يَده أَو العَبْد الْآبِق واللقطة وَالْمَغْصُوب يكون البيع فَاسِدا
وَلَو قدر على التَّسْلِيم فِي الْمجْلس لَا يعود إِلَى الْجَوَاز لِأَنَّهُ وَقع فَاسِدا
وَكَذَلِكَ إِذا جعله ثمنا لِأَن الثّمن إِذا كَانَ عينا فَهُوَ مَبِيع فِي حق صَاحبه
وَعَن الطَّحَاوِيّ أَنه يعود جَائِزا
وَمِنْهَا أَن يكون فِي الْمَبِيع أَو فِي ثمنه غرر مثل بيع السّمك فِي المَاء وَهُوَ لَا يقدر على تَسْلِيمه بِدُونِ الِاصْطِيَاد وَالْحِيلَة وَبيع الطير فِي الْهَوَاء أَو بيع مَال الْغَيْر على أَن يَشْتَرِيهِ فيسلمه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بَاعَ لَيْسَ بمملوك لَهُ للْحَال وَفِي ثُبُوته غرر وخطر
وَمِنْهَا بيع مَا هُوَ مَمْلُوك لَهُ لَكِن قبل الْقَبْض وَقد ذكرنَا تَفْصِيله
وَمِنْهَا إِدْخَال الشَّرْطَيْنِ فِي بيع وَاحِد وَذَلِكَ أَن يَقُول إِن أَعْطَيْتنِي حَالا فبألف وَإِن أجلت شهرا فبألفين أَو قَالَ أبيعك بقفيز حِنْطَة أَو بقفيزي شعير فَهُوَ فَاسد لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن الشَّرْطَيْنِ فِي بيع
وَمِنْهَا بيع الأتباع والأوصاف مَقْصُودا وَذَلِكَ نَحْو بيع الإلية من الشَّاة الْحَيَّة والذراع وَالرَّأْس وَنَحْوهَا وَكَذَا بيع ذِرَاع من الثَّوْب لِأَنَّهُ تبع وَلَا يُمكن تَسْلِيمه إِلَّا بِضَرَر وَهُوَ ذبح الشَّاة وَقطع الثَّوْب
وَكَذَلِكَ بيع جذع من سقف وَلَكِن إِذا نزع من السّقف وَسلم جَازَ
أما بيع قفيز من صبرَة أَو بيع عشرَة دَرَاهِم من نقرة وَنَحْوهَا

(2/48)


فَجَائِز لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّبْعِيض ضَرَر وَهُوَ لَيْسَ بتبع أَيْضا لِأَن الْقدر أصل فِي المقدرات بِخِلَاف الذرع فِي الذرعيات
وَمِنْهَا بيع الْمَعْدُوم الَّذِي انْعَقَد سَبَب وجوده أَو مَا هُوَ على خطر الْوُجُود كَبيع المضامين والملاقيح ونتاج الْفرس لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن بيع المضامين والملاقيح وَبيع حَبل الحبلة
وَمِنْهَا أَن يشْتَرط الْأَجَل فِي الْمَبِيع الْعين أَو الثّمن الْعين لِأَن الْأَجَل فِي الْأَعْيَان لَا يُفِيد فَلَا يَصح فَيكون شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد فَيفْسد البيع
وَأما فِي الثّمن الدّين فَإِن كَانَ الْأَجَل مَعْلُوما جَازَ وَإِن كَانَ مَجْهُولا لَا يجوز على مَا مر
وَمِنْهَا البيع بِشَرْط وَهُوَ أَنْوَاع إِن شرطا شرطا يَقْتَضِيهِ العقد بِأَن اشْترى شَيْئا بِشَرْط أَن يسلم البَائِع الْمَبِيع أَو يسلم المُشْتَرِي الثّمن أَو بِشَرْط أَن يملك الْمَبِيع أَو الثّمن فَالْبيع جَائِز لِأَن هَذَا شَرط مُقَرر مُوجب العقد فَإِن ثُبُوت الْملك وَالتَّسْلِيم والتسلم من مُقْتَضى الْمُعَاوَضَات
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن ورد الشَّرْع بِجَوَازِهِ كالأجل وَالْخيَار رخصَة وتيسيرا فَإِنَّهُ لَا يفْسد العقد لِأَنَّهُ لما ورد الشَّرْع بِهِ ذَلِك أَنه من بَاب الْمصلحَة دون الْمفْسدَة وَهَذَا جَوَاب الِاسْتِحْسَان
وَالْقِيَاس أَن يفْسد لكَونه شرطا مُخَالفا لموجب العقد وَهُوَ ثُبُوت الْملك فِي الْحَال فِي الْعِوَضَيْنِ مَعًا

(2/49)


وَلَكنَّا أَخذنَا بالاستحسان للْحَدِيث الْوَارِد فِي بَاب الْخِيَار
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلم يرد الشَّرْع بِهِ أَيْضا لكنه يلائم العقد وَيُوَافِقهُ وَذَلِكَ نَحْو أَن يَشْتَرِي شَيْئا بِشَرْط أَن يُعْطي للْبَائِع كَفِيلا بِالثّمن أَو رهنا بِالثّمن فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون الْكَفِيل أَو الرَّهْن مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَة أَو لم يكن مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَة
فَإِن لم يكن مَعْلُوما بِأَن قَالَ أبيعك بِشَرْط أَن تُعْطِينِي رهنا بِالثّمن وَلم يسم رهنا وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَو قَالَ بِشَرْط أَن تُعْطِينِي كَفِيلا بِالثّمن وَلم يسم إنْسَانا وَلَا أَشَارَ إِلَى إِنْسَان كَانَ البيع فَاسِدا لِأَن هَذِه جَهَالَة تُفْضِي إِلَى مُنَازعَة مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم
وَأما إِذا كَانَ مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ أَو بِالتَّسْمِيَةِ فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز البيع وَبِه أَخذ زفر
وَفِي الِاسْتِحْسَان يجوز وَهُوَ قَول عُلَمَائِنَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الرَّهْن وَالْكَفَالَة بِالثّمن شرعا توثيقا للثّمن فَيكون بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْجَوْدَة فِي الثّمن فَيكون شرطا مقررا لما يَقْتَضِيهِ العقد معنى
ثمَّ إِنَّمَا يجوز البيع اسْتِحْسَانًا فِي اشْتِرَاط الْكفَالَة إِذا كَانَ الْكَفِيل حَاضرا فِي الْمجْلس وَقبل
فَأَما إِذا كَانَ غَائِبا فَإِنَّهُ لَا يجوز وَإِن بلغه الْخَبَر فَقبل لِأَن وجوب الثّمن فِي ذمَّة الْكَفِيل مُضَاف إِلَى البيع فَيصير الْكَفِيل بِمَنْزِلَة المُشْتَرِي إِذا كَانَت الْكفَالَة مَشْرُوطَة فِي البيع وحضرة المُشْتَرِي فِي الْمجْلس شَرط لصِحَّة الْإِيجَاب من البَائِع وَلَا يتَوَقَّف إِلَى مَا وَرَاء الْمجْلس فَكَذَلِك حَضْرَة الْكَفِيل بِخِلَاف الرَّهْن فَإِن حَضرته لَيست بِشَرْط فِي الْمجْلس لِأَن الرَّهْن من المُشْتَرِي وَهُوَ حَاضر وَالْتزم الرَّهْن فالرهن صَحِيح
ثمَّ فِي الرَّهْن مَا لم يسلم المُشْتَرِي الرَّهْن إِلَى البَائِع لَا يثبت فِيهِ حكم الرَّهْن

(2/50)


وَإِن انْعَقَد عقد الرَّهْن بذلك الْكَلَام لِأَن الرَّهْن لَا يثبت فِي حق الحكم إِلَّا بِالْقَبْضِ على مَا عرف فَإِن سلم الرَّهْن مضى العقد على مَا عقدا وَإِن امْتنع عَن التَّسْلِيم لَا يجْبر على التَّسْلِيم عندنَا وَعند زفر يجْبر لَكِن عندنَا يُقَال للْمُشْتَرِي إِمَّا أَن تدفع الرَّهْن أَو قِيمَته أَو تدفع الثّمن أَو تفسخ البيع لِأَن البَائِع مَا رَضِي بِوُجُوب الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي إِلَّا بوثيقة الرَّهْن وَفِي هَذِه الْوُجُوه وَثِيقَة فَإِن لم يفعل المُشْتَرِي شَيْئا من ذَلِك فَللْبَائِع أَن يفْسخ البيع لِأَنَّهُ فَاتَ غَرَضه فَلَا يكون العقد لَازِما فَلهُ أَن يفْسخ
وَقَالُوا فِي البيع إِذا شَرط فِيهِ رهن مَجْهُول حَتَّى فسد البيع ثمَّ اتفقَا على تعْيين رهن فِي الْمجْلس إِنَّه يجوز العقد وَإِن افْتَرقَا عَن الْمجْلس تقرر الْفساد لِأَن تَمام الْقبُول توقف على الرَّهْن الْمَشْرُوط فِي العقد أَلا ترى أَن البَائِع لَو قَالَ للْمُشْتَرِي قبلت الثّمن بِغَيْر رهن فَإِنَّهُ لَا يَصح البيع فَإِذا لم يُوجد الرَّهْن لم يُوجد الْقبُول معنى فَإِذا عينا فِي الْمجْلس جَازَ لِأَن الْمجْلس بِمَنْزِلَة حَالَة وَاحِدَة فَصَارَ كَأَنَّهُ قبل العقد فِي آخر الْمجْلس وَإِن افْتَرقَا بَطل
وعَلى هَذَا إِذا قَالَ المُشْتَرِي فِي الرَّهْن الْمَجْهُول أَنا أعطي الثّمن لم يفْسد العقد لِأَن الْغَرَض من الرَّهْن هُوَ الْوُصُول إِلَى الثّمن وَهُوَ حَاصِل فَسقط اعْتِبَار الْوَثِيقَة
وَلَو شَرط البَائِع فِي البيع أَن يحيله المُشْتَرِي بِالثّمن على غَرِيم من غُرَمَائه فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن أحَال بِجَمِيعِ الثّمن فَالْبيع فَاسد لِأَنَّهُ يصير بَائِعا بِشَرْط أَن يكون الثّمن على غير المُشْتَرِي وَهُوَ بَاطِل
وَإِن بَاعَ بِشَرْط أَن يحِيل نصف الثّمن على فلَان فَهُوَ جَائِز

(2/51)


إِذا كَانَ حَاضرا وَقبل الْحِوَالَة كَمَا إِذا بَاعَ عبدا من رجل بِأَلف دِرْهَم على أَن يكون نصفه على فلَان وَهُوَ حَاضر فَقبل جَازَ كَذَا هَذَا
ثمَّ إِذا كَانَ الْكَفِيل والمحتال عَلَيْهِ غائبين عَن الْمجْلس فَلم يحضرا حَتَّى افترق العاقدان فَلَا يَصح البيع إِلَّا بِإِيجَاب مبتد لِأَن تَمام العقد يقف على قبُول الْكَفِيل والمحتال عَلَيْهِ فَجعل كَأَن الْقبُول لم يُوجد من المُشْتَرِي فِي الْمجْلس
وَلَو حضرا فِي الْمجْلس وقبلا جَازَ كَمَا لَو قبلا عِنْد العقد لِأَن الْمجْلس لَهُ حكم سَاعَة وَاحِدَة
وَلَو شَرط المُشْتَرِي فِي البيع على أَن يحِيل البَائِع على غَرِيم من غُرَمَائه بِالثّمن ليدفع إِلَيْهِ أَو بَاعَ بِشَرْط أَن يضمن المُشْتَرِي لغريم من غُرَمَائه الثّمن فَالْبيع فَاسد لِأَن شَرط الضَّمَان وَالْحوالَة ثمَّة صَار بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط صفة الْجَوْدَة فِي الثّمن لكَونه توكيدا للثّمن وتوثيقا لَهُ وَشرط الضَّمَان هَهُنَا لَيْسَ بِصفة للثّمن بل هُوَ شَرط فِيهِ مَنْفَعَة الْعَاقِد وَالْعقد لَا يَقْتَضِيهِ فَيفْسد البيع
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه ولأحدهما فِيهِ مَنْفَعَة إِلَّا أَنه مُتَعَارَف بِأَن اشْترى نعلا وشراكا على أَن يحذوه البَائِع جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز وَهُوَ قَول زفر
وَلَكِن أَخذنَا بالاستحسان لتعارف النَّاس كَمَا فِي الاستصناع
وَلَو شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه وَلَا يتعارفه النَّاس وَفِيه مَنْفَعَة لأحد الْعَاقِدين بِأَن اشْترى حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع أَو ثوبا على أَن يخيطه البَائِع أَو اشْترى حِنْطَة على أَن يَتْرُكهَا فِي دَار البَائِع شهرا وَنَحْو ذَلِك فَالْبيع فَاسد
وَهَذَا كُله مَذْهَب عُلَمَائِنَا

(2/52)


وَقَالَ ابْن أبي ليلى بِأَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل
وَقَالَ ابْن شبْرمَة بِأَن البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن اشْتِرَاط الْمَنْفَعَة الزَّائِدَة فِي عقد الْمُعَاوضَة لأحد الْعَاقِدين من بَاب الرِّبَا أَو شُبْهَة الرِّبَا وَإِنَّهَا مُلْحقَة بِحَقِيقَة الرِّبَا فِي بَاب البيع احْتِيَاطًا
وَلَو شرطا شرطا فِيهِ ضَرَر لأحد الْعَاقِدين بِأَن بَاعَ ثوبا أَو حَيَوَانا سوى الرَّقِيق بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ ذكر فِي الْمُزَارعَة الْكَبِيرَة مَا يدل على أَن البيع بِهَذَا الشَّرْط لَا يفْسد فَإِنَّهُ ذكر أَن أحد المزارعين لَو شَرط فِي الْمُزَارعَة أَن لَا يَبِيع الآخر نصِيبه أَو لَا يَهبهُ قَالَ الْمُزَارعَة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ لأحد المتعاملين فِيهِ مَنْفَعَة هَكَذَا ذكر الْحسن فِي الْمُجَرّد
وروى أَبُو يُوسُف فِي الأمالي خِلَافه وَهُوَ قَوْله إِن البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
وَلَو بَاعَ جَارِيَة بِشَرْط أَن يَطَأهَا أَو لَا يَطَأهَا لم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ البيع فَاسد فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ لَا تفْسد فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِن بَاعَ بِشَرْط أَن يَطَأهَا فَالْبيع جَائِز وَإِن بَاعَ بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا فَالْبيع فَاسد
فَالْحَاصِل أَن البيع بِشَرْط أَن يَطَأهَا فَاسد عِنْد أبي حنيفَة

(2/53)


وَعِنْدَهُمَا جَائِز لِأَن إِبَاحَة الْوَطْء حكم يَقْتَضِيهِ العقد فَصَارَ كَمَا لَو اشْترى طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ وَنَحْو ذَلِك
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد فَإِنَّهُ لَو صَحَّ الشَّرْط كَانَ حكمه وجوب الْوَطْء وَالْبيع لَا يَقْتَضِيهِ وَفِيه نفع للمعقود عَلَيْهِ وَهُوَ من أهل اسْتِحْقَاق الْحق على مَوْلَاهُ فِي الْجُمْلَة فَإِنَّهُ يسْتَحق النَّفَقَة عَلَيْهِ بِخِلَاف مَا إِذا بَاعَ حَيَوَانا بِشَرْط أَن يعلفه لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل اسْتِحْقَاق الْحق على مَالِكه
وَأما البيع بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف البيع فَاسد
وعَلى قَول مُحَمَّد جَائِز
وَهُوَ قِيَاس مَا روى أَبُو يُوسُف عَنهُ فِي الأمالي إِذا بَاعَ طَعَاما بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل أَو لَا يَبِيع فَإِن البيع فَاسد
فَأَما على قِيَاس مَا ذكر فِي الْمُزَارعَة الْكَبِيرَة فَيجب أَن يكون الْجَواب على قَول أبي حنيفَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مثل قَول مُحَمَّد
وَلَو اشْترى عبدا بِشَرْط أَن يعتقهُ المُشْتَرِي قَالَ عُلَمَاؤُنَا البيع فَاسد حَتَّى لَو أعْتقهُ المُشْتَرِي قبل الْقَبْض لم ينفذ عتقه وَإِن أعْتقهُ بعد الْقَبْض عتق فَانْقَلَبَ العقد جَائِزا اسْتِحْسَانًا فِي قَول أبي حنيفَة حَتَّى يجب عَلَيْهِ الثّمن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يَنْقَلِب العقد جَائِزا إِذا أعْتقهُ حَتَّى يجب عَلَيْهِ قيمَة العَبْد
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة مثل قَوْلهمَا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه إِن البيع بِهَذَا الشَّرْط جَائِز
وَقد روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن هَذَا شَرط يلائم العقد من وَجه دون

(2/54)


وَجه فَمن حَيْثُ إِن الْإِعْتَاق إِزَالَة الْملك يكون تغييرا لحكم العقد وَمن حَيْثُ إِنَّه إنهاء للْملك يكون ملائما لَهُ لِأَن فِيهِ تقريرا فَقُلْنَا بِفساد البيع فِي الِابْتِدَاء وبالجواز فِي الِانْتِهَاء عملا بالدليلين وَبِالْعَكْسِ لَا يكون عملا بهما لأَنا نجد فَاسِدا يَنْقَلِب جَائِزا كَمَا فِي بيع الرقم وَلَكِن لم نجد جَائِزا يَنْقَلِب فَاسِدا فَكَانَ الْوَجْه الأول أولى
وَلَو بَاعَ بِشَرْط التَّدْبِير وَالْكِتَابَة وَفِي الْأمة بِشَرْط الِاسْتِيلَاد فَالْبيع فَاسد وَلَا يَنْقَلِب إِلَى الْجَوَاز عِنْد وجود الشَّرْط لِأَن هَذَا شَرط لَا يلائم البيع لِأَنَّهُ لَا يثبت إنهاء الْملك هَهُنَا بِيَقِين لاحْتِمَال أَن القَاضِي يقْضِي بِالْجَوَازِ فِي التَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد فَلَا يَتَقَرَّر حكمه
وَلَو بَاعَ الثِّمَار على الْأَشْجَار والزروع الْمَوْجُودَة هَل يكون البيع فَاسِدا فَهَذَا لَا يَخْلُو من وُجُوه إِمَّا إِن كَانَ قبل الْإِدْرَاك أَو بعده بِشَرْط الْقطع أَو بِشَرْط التّرْك
فَإِن كَانَ قبل الْإِدْرَاك فَإِن كَانَ بِشَرْط الْقطع جَازَ وَإِن اشْترى مُطلقًا جَازَ
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن اشْترى بِشَرْط الْقطع جَازَ
وَإِن اشْترى مُطلقًا لَا يجوز لِأَنَّهُ صَار شارطا للترك دلَالَة
وَلَكِن الصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ اشْترى مَا هُوَ مَال وَإِن كَانَ لَا يتكامل الِانْتِفَاع بِهِ بِمَنْزِلَة شِرَاء الجحش وَالْكَلَام الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد خُصُوصا إِذا كَانَ فِي ذَلِك فَسَاد العقد
وَأما إِذا بَاعَ بِشَرْط التّرْك فَهُوَ فَاسد بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ شَرط فِيهِ مَنْفَعَة للْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَو اشْترى حِنْطَة بِشَرْط أَن يَتْرُكهَا فِي دَار البَائِع شهرا
هَذَا إِذا بَاعَ قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا
وَإِمَّا إِذا بَاعَ بعد بَدو صَلَاحهَا

(2/55)


مُطلقًا أَو بِشَرْط الْقطع جَازَ
وَلَو بَاعَ بِشَرْط التّرْك لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد إِن تناهى عظمها جَازَ وَإِن لم يتناه عظمها لَا يجوز لِأَن النَّاس تعاملوا ذَلِك من غير نَكِير
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن هَذَا شَرط فِيهِ مَنْفَعَة للْمُشْتَرِي وَالْعقد لَا يَقْتَضِيهِ والتعامل لم يكن بِشَرْط التّرْك وَلَكِن الْإِذْن مُعْتَاد بِلَا شَرط فِي العقد
وَلَو اشْترى مُطلقًا وَتركهَا على النّخل من غير شَرط التّرْك وَلم يتناه عظمها فَإِن كَانَ ذَلِك بِإِذن البَائِع جَازَ وَطلب لَهُ الْفضل
وَإِن ترك بِغَيْر إِذن البَائِع تصدق بِمَا زَاد على مَا كَانَ عِنْد العقد لِأَنَّهُ حصل من وَجه بِسَبَب مَحْظُور
وَإِن أخرج النّخل وَالشَّجر فِي مُدَّة التّرْك ثَمَرَة أُخْرَى فَذَلِك كُله للْبَائِع سَوَاء كَانَ التّرْك بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه
وَإِن جللها مِنْهُ البَائِع جَازَ لِأَن هَذَا الْحَادِث لم يَقع عَلَيْهِ العقد وَإِنَّمَا هُوَ نَمَاء ملك البَائِع فَيكون لَهُ فَإِن اخْتَلَط الْحَادِث بالموجود وَقت العقد بِحَيْثُ لَا يُمكن التَّمْيِيز بَينهمَا فَإِن كَانَ قبل أَن يخلي البَائِع بَين المُشْتَرِي وَالثِّمَار فسد البيع لِأَن الْمَبِيع صَار مَجْهُولا بِحَيْثُ يتَعَذَّر تَسْلِيمه حَال وجوب التَّسْلِيم وَالْعجز عَن التَّسْلِيم مُفسد للْبيع وَإِن كَانَ ذَلِك بعد التَّخْلِيَة لم يفْسد البيع وَكَانَت الثَّمَرَة بَينهمَا وَالْقَوْل فِي الزِّيَادَة قَول المُشْتَرِي لِأَن البيع قد تمّ بعد الْقَبْض
فَأَما إِذا اشْترى ثَمَرَة قد تناهى عظمها وَتركهَا على الشَّجَرَة بِغَيْر إِذن البَائِع لم يتَصَدَّق بِشَيْء لِأَنَّهَا لَا تزيد بعد التناهي بل تنقص فَلم يحصل لَهَا زِيَادَة بِسَبَب مَحْظُور

(2/56)


فَأَما فِي الزَّرْع فالنماء يكون للْمُشْتَرِي طيبا وَإِن تَركه بِغَيْر إِذْنه لِأَنَّهُ نَمَاء ملك المُشْتَرِي لِأَن السَّاق ملكه حَتَّى يكون التِّبْن لَهُ بِخِلَاف الشَّجَرَة
وَأما الزروع الَّتِي يُوجد بَعْضهَا بعد وجود بعض كالباذنجان والبطيخ والكراث وَنَحْوهَا فقد قَالَ أَصْحَابنَا يجوز بيع مَا ظهر مِنْهَا من الْخَارِج الأول وَلَا يجوز بيع مَا لم يظْهر لِأَنَّهُ بيع مَعْدُوم
وَقَالَ مَالك إِذا ظهر الْخَارِج الأول جَازَ بيع الْكل لأجل الضَّرُورَة إِلَّا أَنا نقُول لَا ضَرُورَة فَإِنَّهُ يُمكنهُ بيع الأَصْل بِمَا فِيهِ من الثَّمر فَيصير الأَصْل ملكا لَهُ فَبعد ذَلِك مَا تولد من الأَصْل يحدث على ملكه
وَمِنْهَا أَن يَشْتَرِي شَيْئا بِثمن مَعْلُوم ثمَّ يَبِيعهُ من البَائِع بِأَقَلّ مِمَّا بَاعه قبل نقد الثّمن
فَإِن بَاعه بِجِنْس الثّمن الأول بِأَن اشْتَرَاهُ بِأَلف دِرْهَم ثمَّ بَاعه مِنْهُ بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم قبل نقد الثّمن فَهُوَ فَاسد عندنَا
وَعند الشَّافِعِي صَحِيح
وَإِن كَانَ بِخِلَاف جنس الثّمن الأول جَازَ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة زيد بن أَرقم وَهُوَ مَعْرُوف

(2/57)


ثمَّ مَا ذكرنَا من الشُّرُوط الَّتِي إِذا أدخلها فِي نفس العقد يكون مُفْسِدا للْعقد إِذا اعترضت على العقد الصَّحِيح هَل يفْسد العقد عِنْد أبي حنيفَة يفْسد ويلتحق بِأَصْل العقد بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْخِيَار فِي العقد البات وَالزِّيَادَة والحط فِي الثّمن وَعِنْدَهُمَا لَا يلْتَحق وَيبْطل الشَّرْط وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما حكم البيع الْفَاسِد فَنَقُول هَذَا على وَجْهَيْن إِن كَانَ الْفساد من قبل الْمَبِيع بِأَن كَانَ محرما نَحْو الْخمر وَالْخِنْزِير وصيد الْحرم وَالْإِحْرَام فَالْبيع بَاطِل لَا يُفِيد الْملك أصلا وَإِن قبض لِأَنَّهُ لَا يثبت الْملك فِي الْخمر وَالْخِنْزِير للْمُسلمِ بِالْبيعِ وَالْبيع لَا ينْعَقد بِلَا مَبِيع
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الْميتَة وَالدَّم وكل مَا لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب والمستسعي وَنَحْو ذَلِك
وَكَذَلِكَ الصَّيْد الَّذِي ذبحه الْمحرم أَو صيد الْحرم إِذا ذبح فَإِنَّهُ يكون ميتَة فَلَا يجوز بَيْعه
وَإِن كَانَ الْفساد يرجع لثمن فَإِن ذكر مَا هُوَ مَال فِي الْجُمْلَة شرعا أَو مَا هُوَ مَرْغُوب عِنْد النَّاس لَا يُوجد مجَّانا بِغَيْر شَيْء كَمَا إِذا بَاعَ بِالْخمرِ وَالْخِنْزِير وصيد الْحرم وَالْإِحْرَام فَإِن البيع ينْعَقد بِقِيمَة الْمَبِيع ويفيد الْملك فِي الْمَبِيع بِالْقَبْضِ لِأَن ذكر الثّمن المرغوب دَلِيل على أَن غرضهما البيع فَينْعَقد بيعا بِقِيمَة الْمَبِيع

(2/58)


وَكَذَلِكَ إِذا جعلا الثّمن مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد لِأَنَّهُ مَرْغُوب فِيهِ
وَإِذا جعلا الْميتَة وَالدَّم ثمنا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ
وَكَذَلِكَ لَو بَاعه بِمَا يرْعَى بِهِ إبِله فِي أرضه من الْكلأ أَو بِمَا يشرب دَابَّته من مَاء بئره لِأَنَّهُ ذكر شَيْئا مرغوبا فِيهِ
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْفساد بِإِدْخَال شَرط فَاسد أَو بِاعْتِبَار الْجَهَالَة وَنَحْو ذَلِك
وَإِن ذكر الْمَبِيع وَالثمن فَهُوَ على هَذَا يُفِيد الْملك بِالْقيمَةِ عِنْد الْقَبْض
وَهَذَا كُله عندنَا
وَعند الشَّافِعِي البيع فَاسد لَا يُفِيد الْملك أصلا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وعَلى هَذَا لَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد وَلم يذكر الثّمن ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِقِيمَتِه فَكَذَلِك
ثمَّ فِي البيع الْفَاسِد إِنَّمَا يملك بِالْقَبْضِ إِذا كَانَ بِإِذن البَائِع فَأَما إِذا كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَهُوَ كَمَا لَو لم يقبض هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا
وَذكر مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات إِذا قَبضه بِحَضْرَة البَائِع فَلم يَنْهَهُ وَسكت إِنَّه يكون قبضا وَيصير ملكا لَهُ وَلم يحك خلافًا
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا فِيمَن وهب هبة وَالْقِيَاس أَن لَا يملكهَا الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى يقبضهَا بِإِذن الْوَاهِب أَو بتسليمها إِلَيْهِ
إِلَّا أَنهم استحسنوا وَقَالُوا إِذا قبضهَا فِي مجْلِس العقد بِحَضْرَة الْوَاهِب وَلم يَنْهَهُ وَسكت

(2/59)


جَازَت ويفيد الْملك وَإِذا قبض بعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس بِحَضْرَتِهِ لَا يَصح الْقَبْض وَإِن سكت لِأَن الْملك من الْمَوْهُوب إِنَّمَا يَقع بِالْعقدِ وَالْقَبْض فَيكون الْإِقْدَام على إِيجَاب الْهِبَة إِذْنا بِالْقَبْضِ كَمَا يكون إِذْنا بِالْقبُولِ وَبعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس لَا يكون إِذْنا بِالْقبُولِ وَكَذَلِكَ لَا يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ فعلى هَذَا يجب أَن يكون فِي البيع الْفَاسِد فِي مجْلِس العقد يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ وَبعد الِافْتِرَاق لَا يكون إِذْنا
ثمَّ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا هَل يملك التَّصَرُّف فِي الْمُشْتَرى وَهل يكره ذَلِك فَنَقُول لَا شكّ أَنه قبل الْقَبْض لَا يملك تَصرفا مَا لعدم الْملك فَأَما بعد الْقَبْض فَيملك التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك من كل وَجه أَو من وَجه نَحْو الْإِعْتَاق وَالْبيع وَالْهِبَة وَالتَّسْلِيم وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد وَالْكِتَابَة لِأَن هَذِه التَّصَرُّفَات تزيل حق الِانْتِفَاع بالحرام
وَلَكِن هَل يُبَاح لَهُ التَّصَرُّفَات الَّتِي فِيهَا انْتِفَاع بِالْمَبِيعِ مَعَ قيام الْملك اخْتلف الْمَشَايِخ
قَالَ بَعضهم لَا يُبَاح الِانْتِفَاع بِهِ حَتَّى لَا يُبَاح لَهُ الْوَطْء إِن كَانَت جَارِيَة وَلَا الْأكل إِن كَانَ طَعَاما وَلَا الِانْتِفَاع بِهِ إِن كَانَ دَارا أَو دَابَّة أَو ثوبا
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا لَا يُبَاح لَهُ الْوَطْء لَا غير وَيُبَاح لَهُ سَائِر أَنْوَاع الانتفاعات
فالأولون قَالُوا إِن هَذَا ملك خَبِيث فَلَا يظْهر الْملك فِي حق حل الْوَطْء وَالِانْتِفَاع احْتِيَاطًا
وَالْآخرُونَ قَالُوا إِن الْمَالِك سلطه على التَّصَرُّف وأباح لَهُ التَّصَرُّف فَكل تصرف يُبَاح بِالْإِذْنِ يُبَاح بِهَذَا البيع وَالْوَطْء لَا يُبَاح بِإِذن المَال فَلَا يُبَاح بالتسليط بِخِلَاف سَائِر الانتفاعات

(2/60)


وَأما الْكَرَاهَة فَنَقُول ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ يكره التَّصَرُّفَات كلهَا لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْفَسْخ لحق الشَّرْع وَفِي هَذِه التَّصَرُّفَات إبِْطَال حق الْفَسْخ أَو تَأْخِيره فَيكْرَه
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا لَا يكره التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك لِأَنَّهُ يَزُول الْفساد بِسَبَبِهَا
فَأَما التَّصَرُّفَات الَّتِي توجب تَقْرِير الْملك الْفَاسِد فَإِنَّهُ يكره
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
ثمَّ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا إِذا تصرف فِي المُشْتَرِي بعض الْقَبْض فَإِن كَانَ تَصرفا مزيلا للْملك من كل وَجه كالإعتاق وَالْبيع وَالْهِبَة فَإِنَّهُ يجوز وَلَا يفْسخ لِأَن الْفساد قد زَالَ بِزَوَال الْملك
وَإِن كَانَ تَصرفا مزيلا للْملك من وَجه أَو لَا يكون مزيلا للْملك فَإِن كَانَ تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كالتدبير وَالِاسْتِيلَاد وَالْكِتَابَة فَإِنَّهُ يبطل حق الْفَسْخ
إِن كَانَ يحْتَمل الْفَسْخ إِن كَانَ يفْسخ بالعذر كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يفْسخ الْإِجَارَة ثمَّ يفْسخ البيع بِسَبَب الْفساد وَيجْعَل حق الْفَسْخ بِسَبَب الْفساد عذرا فِي فسخ الْإِجَارَة
وَلَو زَوجهَا من إِنْسَان بعد الْقَبْض فَإِن النِّكَاح لَا يمْنَع الْفَسْخ وَالنِّكَاح بِحَالهِ لِأَنَّهُ زَوجهَا وَهِي مَمْلُوكَة لَهُ فصح نِكَاحهَا وَالنِّكَاح مِمَّا لَا يحْتَمل الْفَسْخ فَبَقيَ النِّكَاح
وَلَو أوصى بِالْعَبدِ الْمَبِيع بيعا فَاسِدا فَإِنَّهُ يفْسخ لِأَن الْوَصِيَّة مِمَّا يحْتَمل الرُّجُوع

(2/61)


وَلَو مَاتَ الْمُوصي قبل الْفَسْخ سقط الْفَسْخ لِأَن الْملك انْتقل إِلَى الْمُوصى لَهُ فَصَارَ كَالْبيع
وَلَو مَاتَ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا فورثه الْوَرَثَة فَللْبَائِع حق الْفَسْخ وَكَذَلِكَ للْوَرَثَة لِأَن الْوَارِث يقوم مقَام الْمَيِّت فِي حق الْفَسْخ وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيرد عَلَيْهِ بِخِلَاف الْمُوصى لَهُ
وَلَو حصل فِي الْمَبِيع بيعا فَاسِدا زِيَادَة مُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ وَالثَّمَر وَاللَّبن أَو الْأَرْش بِسَبَب تَفْوِيت بعضه فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الْفَسْخ بل للْبَائِع أَن يَأْخُذ الْمَبِيع مَعَ الزَّوَائِد وَيفْسخ البيع لِأَن قبض المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بِمَنْزِلَة قبض الْغَصْب
ثمَّ إِذا أَخذ الْوَلَد فَإِن كَانَت الْولادَة نقصت الْجَارِيَة نظر فِي قيمَة الْوَلَد فَإِن كَانَ فِيهِ وَفَاء بِالنُّقْصَانِ فَلَا شَيْء على المُشْتَرِي وَإِن لم يكن فِيهِ وَفَاء غرم تَمام النُّقْصَان
وَإِن وطىء المُشْتَرِي الْمَبِيعَة بيعا فَاسِدا فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن لم يعلقها فَللْبَائِع أَن يسْتَردّ الْجَارِيَة وَيضمن المُشْتَرِي عقرهَا للْبَائِع بِاتِّفَاق الرِّوَايَات بِخِلَاف الْجَارِيَة الْمَوْهُوبَة إِذا وَطئهَا الْمَوْهُوب لَهُ ثمَّ رَجَعَ الْوَاهِب فَإِنَّهُ لَا يضمن للْوَاهِب عقرهَا لِأَنَّهُ وطىء ملك نَفسه ملكا مُطلقًا فِي حق حل الْوَطْء وَغَيره وبالرجوع لم يظْهر أَن الْملك لم يكن أما فِي البيع الْفَاسِد فَلم يظْهر الْملك فِي حق حل الْوَطْء لَكِن لم يحد للشهبة فَيجب الْعقر
وَإِن أعلقها وَادّعى الْوَلَد يثبت نسب الْوَلَد مِنْهُ وَتصير الْجَارِيَة أم ولد لَهُ وَللْبَائِع أَن يضمن المُشْتَرِي قيمَة الْجَارِيَة وَيبْطل حَقه فِي الْجَارِيَة
وَإِذا وَجَبت الْقيمَة هَل يجب الْعقر ذكر فِي كتاب الْبيُوع وَقَالَ لَا عقر عَلَيْهِ

(2/62)


وَذكر فِي كتاب الشّرْب وَقَالَ عَلَيْهِ الْعقر
وَلَو أحدث المُشْتَرِي فِي الْمَبِيع بيعا فَاسِدا صنعا لَو فعله الْغَاصِب فِي الْمَغْصُوب يصير ملكا لَهُ بِالْقيمَةِ كَمَا إِذا طحن الْحِنْطَة أَو خاط الثَّوْب قَمِيصًا وَنَحْو ذَلِك يَنْقَطِع حق البَائِع فِي الْفَسْخ وَيلْزمهُ قِيمَته يَوْم الْقَبْض كَمَا فِي الْغَصْب
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْمَبِيع ساجة فَأدْخلهَا فِي بنائِهِ
وَإِن كَانَ الْمَبِيع أَرضًا فَبنى فِيهَا المُشْتَرِي فَلَيْسَ للْبَائِع أَن ينْقض البيع عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله للْبَائِع أَن ينْقض كَمَا فِي الْغَصْب فَإِن الْغَاصِب إِذا بنى على الأَرْض الْمَغْصُوبَة لَا يَنْقَطِع حق الْمَالِك فَكَذَا هَذَا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْمَبِيع صَار ملكا لَهُ وَفِي النَّقْض ضَرَر كثير فَلَا ينْقض بِخِلَاف الْغَاصِب

(2/63)


بَاب خِيَار الشَّرْط
الْكَلَام فِي خِيَار الشَّرْط فِي مَوَاضِع أَحدهَا فِي بَيَان شَرط الْخِيَار الْمُفْسد وَالَّذِي لَيْسَ بمفسد وَالثَّانِي فِي بَيَان مِقْدَار مُدَّة الْخِيَار
وَالثَّالِث فِي بَيَان مَا يسْقط الْخِيَار وَالرَّابِع فِي بَيَان عمل الْخِيَار وَحكمه وَالْخَامِس فِي بَيَان كَيْفيَّة الْفَسْخ وَالْإِجَازَة
أما الأول فَنَقُول إِن الْخِيَار الْمُفْسد ثَلَاثَة أَنْوَاع بِأَن ذكر الْخِيَار مُؤَبَّدًا بِأَن قَالَ بِعْت أَو اشْتريت على أَنِّي بِالْخِيَارِ أبدا أَو ذكر الْخِيَار مُطلقًا وَلم يبين وقتا أصلا بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ أَو ذكر وقتا مَجْهُولا بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ أَيَّامًا وَلم يبين وقتا مَعْلُوما
وَالْجَوَاب فِي هَذِه الْفُصُول الثَّلَاثَة أَن البيع فَاسد
وَأما الْخِيَار الْمَشْرُوع فنوع وَاحِد وَهُوَ أَن يذكر وقتا مَعْلُوما وَلم يُجَاوز عَن الثَّلَاثَة بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَيَّام
وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي

(2/65)


وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن شبْرمَة إِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي يجوز وَإِلَّا فَلَا
وأصل هَذَا أَن اشْتِرَاط الْخِيَار كَيْفَمَا كَانَ شَرط يُنَافِي مُوجب العقد وَهُوَ ثُبُوت الْملك عِنْد العقد وَإِنَّمَا عرفنَا جَوَازه بِحَدِيث حبَان بن منقذ بِخِلَاف الْقيَاس والْحَدِيث ورد بِالْخِيَارِ فِي مُدَّة مَعْلُومَة وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام فَبَقيَ مَا وَرَاء ذَلِك على أصل الْقيَاس إِلَّا إِذا كَانَ ذَلِك فِي مَعْنَاهُ
وَأما إِذا شَرط الْخِيَار أَرْبَعَة أَيَّام أَو شهرا فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَزفر رحمهمَا الله بِأَن البيع فَاسد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله بِأَنَّهُ جَائِز
وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَبُو حنيفَة لما قُلْنَا إِنَّه شَرط مُخَالف لمقْتَضى العقد وَالشَّرْع ورد فِي ثَلَاثَة أَيَّام فَبَقيَ مَا زَاد عَلَيْهَا على أصل الْقيَاس
وَأما بَيَان مَا يسْقط الْخِيَار فَنَقُول إِن الْخِيَار بعد ثُبُوته يسْقط بمعان ثَلَاثَة إِمَّا بالإسقاط صَرِيحًا أَو بالإسقاط بطرِيق الدّلَالَة أَو بطرِيق الضَّرُورَة
أما بالإسقاط صَرِيحًا فبأن يَقُول أسقطت الْخِيَار أَو أبطلته أَو أجزت البيع أَو رضيت بِهِ فَيبْطل الْخِيَار لِأَن الْخِيَار شرع للْفَسْخ فَإِذا سقط يبطل الْخِيَار وَالْأَصْل هُوَ لُزُوم العقد ونفاذه فَإِذا بَطل عَاد الأَصْل
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ فسخت العقد
أَو نقضته أَو أبطلته يسْقط

(2/66)


الْخِيَار لِأَن الْخِيَار هُوَ التَّخْيِير بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة فَأَيّهمَا وجد سقط
وَأما الْإِسْقَاط بطرِيق الدّلَالَة فَهُوَ أَن يُوجد مِمَّن لَهُ الْخِيَار تصرف يدل على إبْقَاء الْملك وإثباته فالإقدام عَلَيْهِ يبطل خِيَاره تَحْقِيقا لغرضه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَالْمَبِيع فِي يَده فعرضه على البيع يبطل خِيَاره لِأَن عرض المُشْتَرِي الْمَبِيع على البيع لاختياره الثّمن وَلَا يصير الثّمن ملكا لَهُ إِلَّا بعد ثُبُوت الْملك فِي الْمُبدل فَيصير مُخْتَارًا للْملك وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِإِبْطَال الْخِيَار فَيبْطل بطرِيق الدّلَالَة
وَأما الْخِيَار إِذا كَانَ للْبَائِع فعرضه على البيع فَلم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
وَالأَصَح أَنه يكون إِسْقَاطًا لخياره لِأَنَّهُ دَلِيل إبْقَاء الْملك لِأَنَّهُ لَا يصل إِلَى الثّمن من غَيره إِلَّا بالتمليك مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِإِسْقَاط الْخِيَار وَفسخ العقد الأول
وَلَو أَن المُشْتَرِي إِذا كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي عبد فَبَاعَهُ أَو أعْتقهُ أَو دبره أَو كَاتبه أَو رَهنه أَو وهبه سلم أَو لم يسلم أَو آجره فَإِن هَذَا كُله مِنْهُ اخْتِيَار للإجازة لِأَن نَفاذ هَذِه التَّصَرُّفَات مُخْتَصَّة بِالْملكِ فَيكون الْإِقْدَام عَلَيْهَا دَلِيل قصد إبْقَاء الْملك وَذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ
وَلَو وجدت هَذِه التَّصَرُّفَات من البَائِع الَّذِي لَهُ الْخِيَار يسْقط خِيَاره أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يَصح هَذِه التَّصَرُّفَات إِلَّا بعد نقض التَّصَرُّف الأول إِلَّا أَن الْهِبَة وَالرَّهْن لَا يسْقط الْخِيَار إِلَّا بعد التَّسْلِيم بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَوجد مِنْهُ الرَّهْن وَالْهِبَة بِلَا تَسْلِيم لِأَن الْهِبَة وَالرَّهْن بِلَا تَسْلِيم لَا يكون دون الْعرض على البيع وَذَلِكَ يسْقط خِيَار المُشْتَرِي دون البَائِع فِي رِوَايَة فَكَذَلِك هَذَا

(2/67)


وَأما الْإِجَازَة فَذكر فِي الْبيُوع الأَصْل أَنه يكون اخْتِيَارا من البَائِع وَالْمُشْتَرِي من غير شَرط الْقَبْض
وَذكر فِي بعض الرِّوَايَات وَشرط قبض الْمُسْتَأْجر
وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط لِأَن الْإِجَارَة عقد لَازم بِخِلَاف الْهِبَة وَالرَّهْن قبل الْقَبْض فَإِنَّهُ غير لَازم
وَلَو كَانَ الْمَبِيع جَارِيَة فَوَطِئَهَا البَائِع أَو المُشْتَرِي إِذا كَانَ لَهُ الْخِيَار يسْقط الْخِيَار أما فِي البَائِع فَلِأَنَّهُ وَإِن كَانَ الْملك قَائِما للْحَال وَلَكِن لَو لم يسْقط الْخِيَار بِالْوَطْءِ فَإِذا أجَاز تبين أَنه وطىء جَارِيَة الْغَيْر من وَجه لِأَنَّهُ يثبت الْملك للْمُشْتَرِي بطرِيق الْإِسْنَاد وَأما فِي المُشْتَرِي فَلهَذَا الْمَعْنى أَيْضا ولمعنى آخر عِنْد أبي حنيفَة خَاصَّة لِأَن الْجَارِيَة الْمَبِيعَة لَا تدخل فِي ملك المُشْتَرِي إِذا كَانَ الْخِيَار لَهُ وَالْوَطْء لَا يحل بِدُونِ الْملك فالإقدام على الْوَطْء دَلِيل اخْتِيَار الْملك
وَلَو لمسها المُشْتَرِي لشَهْوَة وَله الْخِيَار سقط لِأَنَّهُ لَا يحل بِدُونِ الْملك
وَإِن لمس لَا عَن شَهْوَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى ذَلِك فِي الْجُمْلَة للاختبار لتعرف لينها وخشونتها
وَلَو نظر إِلَى فرجهَا لشَهْوَة سقط لما قُلْنَا
وَلَو نظر بِغَيْر شَهْوَة لَا يسْقط لِأَن النّظر إِلَى الْفرج لَا عَن شَهْوَة قد يُبَاح عِنْد الْحَاجة والضرورة كَمَا فِي حق الْقَابِلَة والطبيب وَللْمُشْتَرِي حَاجَة فِي الْجُمْلَة
وَلَو نظر إِلَى سَائِر أعضائها عَن شَهْوَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ للامتحان فِي الْجُمْلَة

(2/68)


وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي حق البَائِع فِي اللَّمْس عَن شَهْوَة النّظر إِلَى فرجهَا عَن شَهْوَة فَأَما النّظر إِلَى فرجهَا لَا عَن شَهْوَة أَو النّظر إِلَى سَائِر أعضائها لَا عَن شَهْوَة أَو لمس سَائِر أعضائها لَا عَن شَهْوَة فَإِنَّهُ يجب أَن يسْقط بِهِ الْخِيَار بِخِلَاف المُشْتَرِي لِأَن ثمَّ فِي الْجُمْلَة لَهُ حَاجَة إِلَى ذَلِك وَلَا حَاجَة فِي حق البَائِع وَهَذِه التَّصَرُّفَات حرَام من غير ملك
وَلَو نظرت الْجَارِيَة الْمُشْتَرَاة إِلَى فرج المُشْتَرِي لشَهْوَة أَو لمسته فَإِن فعلت ذَلِك بتمكين المُشْتَرِي بِأَن علم المُشْتَرِي ذَلِك مِنْهَا فَتَركهَا حَتَّى فعلت يسْقط خِيَاره
فَأَما إِذا اختلست اختلاسا فلمست من غير تَمْكِين المُشْتَرِي بذلك فَقَالَ أَبُو يُوسُف يسْقط خِيَاره وَقَالَ مُحَمَّد لَا يسْقط وَقَول أبي حنيفَة مثل قَول أبي يُوسُف ذكره بشر بن الْوَلِيد أَنه يثبت الرّجْعَة بهَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَلَا يثبت فِي قَول مُحَمَّد
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا لَو أدخلت فرج الرجل فِي فرجهَا وَالزَّوْج نَائِم فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار وَتثبت الرّجْعَة
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن الْخِيَار لَو لم يسْقط رُبمَا يفْسخ الشِّرَاء فيتبين أَن اللَّمْس وجد من غير ملك وَمَسّ الْعَوْرَة بِلَا ملك حرَام فَيسْقط صِيَانة عَن مُبَاشرَة الْحَرَام وَكَذَلِكَ فِي الرّجْعَة لهَذَا الْمَعْنى
وَأما الِاسْتِخْدَام مِنْهَا فَلَا يَجْعَل اخْتِيَارا لِأَنَّهُ تصرف لَا يخْتَص بِالْملكِ فَإِنَّهُ يُبَاح بِإِذن الْمَالِك
ثمَّ إِنَّمَا يعرف الشَّهْوَة من غير الشَّهْوَة بِإِقْرَار الواطىء والمتصرف وَفِي الْجَارِيَة المختلسة بِإِقْرَار المُشْتَرِي
وَأما الْأَجْنَبِيّ إِذا وطىء الْجَارِيَة الْمَبِيعَة فَإِن كَانَت فِي يَد المُشْتَرِي وَالْخيَار لَهُ سقط الْخِيَار لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن شُبْهَة يجب الْعقر وَإنَّهُ

(2/69)


زِيَادَة مُنْفَصِلَة حدثت بعد الْقَبْض فتمنع الرَّد
وَإِن كَانَ زنا فَهُوَ عيب فِي الْجوَار وحدوث الْعَيْب فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره فَكَذَلِك إِذا ولدت الْجَارِيَة فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْوَلَد حَيا وَفِيه وَفَاء بِنُقْصَان الْولادَة فينجبر لَكِن الْوَلَد زِيَادَة مُنْفَصِلَة فَيمْنَع الْفَسْخ وَيسْقط الْخِيَار وَإِن مَاتَ الْوَلَد فالنقصان قَائِم لم ينجبر وحدوث النُّقْصَان عِنْد المُشْتَرِي يمْنَع الرَّد
وَإِن كَانَ فِي يَد البَائِع وَالْخيَار لَهُ لَا يسْقط الْخِيَار فِي وَطْء الْأَجْنَبِيّ لِأَن الزِّنَا لَا يُوجب نقصا فِي عين الْجَارِيَة وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق بِسَبَب الْعَيْب وَإِن كَانَ الْوَطْء عَن شُبْهَة والعقر زِيَادَة مُنْفَصِلَة قبل الْقَبْض فَلَا يمْنَع الْفَسْخ وَفِي فصل الْوَلَد إِن كَانَ حَيا ينجبر النُّقْصَان وَإنَّهُ زِيَادَة قبل الْقَبْض فَلَا يمْنَع الْفَسْخ لَكِن ثَبت الْخِيَار للْمُشْتَرِي بِسَبَب الْعَيْب لِأَن صُورَة النُّقْصَان قَائِمَة وَإِن انجبر معنى
وَإِن مَاتَ الْوَلَد فالنقصان قَائِم وَلَكِن لم يفت شَيْء من الْمَعْقُود عَلَيْهِ حَتَّى يَنْفَسِخ العقد فِيهِ فتتفرق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي فَيسْقط الْخِيَار وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق الْفَسْخ بِسَبَب الْعَيْب وَهُوَ نُقْصَان الْولادَة
وَكَذَلِكَ المُشْتَرِي لَو أسكن الدَّار الْمَبِيعَة رجلا بِأَجْر أَو بِغَيْر أجر أَو رم شَيْئا مِنْهَا بالتطيين والتجصيص أَو أحدث فِيهَا بِنَاء أَو هدم شَيْئا مِنْهَا فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار لِأَن هَذِه التَّصَرُّفَات دَلِيل اخْتِيَار الْملك وَلَو سقط حَائِط مِنْهَا بِغَيْر صنع أحد يسْقط الْخِيَار لِأَنَّهُ نقص فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ
وَلَو كَانَ الْمَبِيع أَرضًا فِيهَا زروع وثمار قد دخلت تَحت البيع بِالشّرطِ فَسَقَاهُ أَو حصده أَو قصل مِنْهُ شَيْئا لدوابه أَو جد شَيْئا من

(2/70)


الثِّمَار فَهَذَا إجَازَة مِنْهُ لما ذكرنَا
وَلَو ركب المُشْتَرِي الدَّابَّة ليسقيها أَو ليردها على البَائِع فَالْقِيَاس أَن يكون إجَازَة لما ذكرنَا
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يسْقط الْخِيَار لِأَن الدَّابَّة قد لَا يُمكن تسييرها إِلَّا بالركوب
وَلَو ركبهَا لينْظر إِلَى سَيرهَا وقوتها فَهُوَ على الْخِيَار
وَكَذَا لَو لبس الثَّوْب لينْظر إِلَى طوله وَعرضه لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ للامتحان
وَلَو ركبهَا مرّة أُخْرَى لمعْرِفَة الْعَدو أَو ركبهَا لمعْرِفَة شَيْء آخر بِأَن ركب مرّة لمعْرِفَة أَنَّهَا هملاج ثمَّ ركب ثَانِيًا لمعْرِفَة الْعَدو لَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ أَيْضا
وَإِن ركبهَا لمعْرِفَة السّير الأول مرّة أُخْرَى ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَات أَنه يسْقط الْخِيَار
وَفِي الثَّوْب إِذا لبس ثَانِيًا لمعْرِفَة الطول وَالْعرض يسْقط الْخِيَار
وَفِي اسْتِخْدَام الرَّقِيق إِذا استخدم مرّة ثمَّ استخدم ثَانِيًا لنَوْع آخر لَا يسْقط الْخِيَار
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا فِي الِاسْتِخْدَام وَالرُّكُوب لَا يبطل الْخِيَار بالمرة الثَّانِيَة وَإِن كَانَ من نوع وَاحِد لِأَن الِاخْتِيَار لَا يحصل بِالْفِعْلِ مرّة لاحْتِمَال أَن ذَلِك وَقع اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى معرفَة ذَلِك عَادَة لَهَا وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بالمرة الثَّانِيَة لِأَن الْعَادة مُشْتَقَّة من الْعود بِخِلَاف الثَّوْب فَإِن الْغَرَض يحصل بالمرة الْوَاحِدَة

(2/71)


وَأما سُقُوط الْخِيَار بطرِيق الضَّرُورَة فأنواع مِنْهَا إِذا مَضَت الْمدَّة لِأَن الْخِيَار مُؤَقّت بهَا فينتهي الْخِيَار ضَرُورَة فَيبقى العقد بِلَا خِيَار فَيلْزم العقد
وَمِنْهَا إِذا مَاتَ الْمَشْرُوط لَهُ الْخِيَار فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار وَلَا يُورث سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي أَو لَهما
وَقَالَ الشَّافِعِي يُورث وَيقوم الْوَارِث مقَامه
وَأَجْمعُوا أَن خِيَار الْعَيْب وَخيَار التَّعْيِين يُورث وَأَجْمعُوا أَن خِيَار الْقبُول لَا يُورث
وَكَذَلِكَ خِيَار الْإِجَازَة فِي بيع الْفُضُولِيّ لَا يُورث
وَأما خِيَار الرُّؤْيَة فَهَل يُورث لم يذكر فِي الْبيُوع وَذكر فِي كتاب الْحِيَل أَنه لَا يُورث وَكَذَا روى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد
وَأَجْمعُوا أَن الْأَجَل لَا يُورث
ولقب الْمَسْأَلَة أَن خِيَار الشَّرْط هَل يُورث أم لَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَإِذا لم يُورث الْخِيَار عندنَا يسْقط ضَرُورَة فَيصير العقد لَازِما لِأَنَّهُ وَقع الْعَجز عَن الْفَسْخ فَيلْزم ضَرُورَة
وَكَذَا الْجَواب فِيمَا هُوَ فِي معنى الْمَوْت بِأَن ذهب عقل صَاحب الْخِيَار
بالجنون أَو بالإغماء فِي مُدَّة الْخِيَار وَمَضَت الْمدَّة وَهُوَ كَذَلِك صَار العقد لَازِما لِأَنَّهُ عجز عَن الْفَسْخ فَلَا فَائِدَة فِي بَقَاء الْخِيَار
فَإِذا أَفَاق فِي مُدَّة الْخِيَار كَانَ على خِيَاره لِإِمْكَان الْفَسْخ وَالْإِجَازَة
وَكَذَا لَو بَقِي نَائِما فِي آخر مُدَّة الْخِيَار حَتَّى مَضَت سقط الْخِيَار
وَلَو سكر بِحَيْثُ لَا يعلم حَتَّى مَضَت مُدَّة الْخِيَار لم يذكر فِي

(2/72)


الْكتاب
وَقَالُوا الصَّحِيح أَنه يسْقط الْخِيَار لما قُلْنَا
وَلَو ارْتَدَّ من لَهُ الْخِيَار فِي مُدَّة الْخِيَار إِن مَاتَ أَو قتل على الرَّد صَار البيع لَازِما
وَكَذَلِكَ إِن لحق بدار الْحَرْب وَقضى القَاضِي بلحاقه لِأَن الرِّدَّة بِمَنْزِلَة الْمَوْت بعد الالتحاق بدار الْحَرْب
وَإِن أسلم فِي مُدَّة الْخِيَار كَانَ على خِيَاره وَجعل الْعَارِض كَأَن لم يكن
هَذَا إِذا مَاتَ أَو قتل على الرِّدَّة أَو أسلم قبل أَن يتَصَرَّف بِحكم الْخِيَار فسخا أَو إجَازَة
فَأَما إِذا تصرف فِي مُدَّة الْخِيَار بعد الرِّدَّة فَإِن أجَاز جَازَت إِجَازَته وَلَا يتَوَقَّف بالِاتِّفَاقِ
وَلَو فسخ فَعِنْدَ أبي حنيفَة يتَوَقَّف فَإِن أسلم نفذ وَإِن مَاتَ أَو قتل على الرِّدَّة بَطل الْفَسْخ على مَا يعرف فِي مسَائِل السّير أَن تَصَرُّفَات الْمُرْتَد مَوْقُوفَة عِنْده خلافًا لَهما
وعَلى هَذَا إِذا هَلَكت السّلْعَة الْمَبِيعَة فِي مُدَّة الْخِيَار فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تهْلك فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي وَالْخيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي
فَإِن هَلَكت فِي يَد البَائِع فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَنْفَسِخ العقد لِأَنَّهُ هلك لَا إِلَى خلف وَلَا يُمكنهُ مُطَالبَة المُشْتَرِي بِالثّمن بِدُونِ تَسْلِيم الْمَبِيع وَقد عجز عَن التَّسْلِيم فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهِ فَيفْسخ فَيبْطل الْخِيَار ضَرُورَة
وَإِن هَلَكت فِي يَد المُشْتَرِي فَإِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع تهْلك بِالْقيمَةِ وَيسْقط الْخِيَار فِي قَول عَامَّة الْعلمَاء

(2/73)


وَقَالَ ابْن أبي ليلى تهْلك أَمَانَة
وَالصَّحِيح قَول الْعَامَّة لِأَن الْقَبْض بِسَبَب هَذَا العقد لَا يكون دون الْقَبْض على سوم الشِّرَاء وَذَلِكَ مَضْمُون بِالْقيمَةِ فَهَذَا أولى
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يهْلك عَلَيْهِ بِالثّمن عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يهْلك عَلَيْهِ بِالْقيمَةِ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْمَبِيع يصير معيبا قبل الْهَلَاك مُتَّصِلا بِهِ لِأَن الْمَوْت يكون بِنَاء على سَبَب مُؤثر فِيهِ عَادَة وَالسَّبَب المفضي إِلَى الْهَلَاك يكون عَيْبا وحدوث الْعَيْب فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ يعجز عَن الرَّد على الْوَجْه الَّذِي أَخذه سليما كَمَا إِذا حدث بِهِ عيب حسا
وَأما إِذا تعيب الْمَبِيع فَإِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع وَهُوَ عيب يُوجب نُقْصَانا فِي عين الْمَبِيع فَإِنَّهُ يبطل خِيَاره سَوَاء كَانَ الْمَبِيع فِي يَده أَو فِي يَد المُشْتَرِي إِذا تعيب بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو بِفعل البَائِع لِأَنَّهُ هلك بعضه بِلَا خلف لِأَنَّهُ لَا يجب الضَّمَان على البَائِع لِأَنَّهُ ملكه فينفسخ البيع فِيهِ لفواته وَلَا يُمكن بَقَاء العقد فِي الْقَائِم لما فِيهِ من تَفْرِيق للصفقة على المُشْتَرِي قبل التَّمام
وَأما إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ كَانَ البَائِع على خِيَاره لِأَنَّهُ يُمكنهُ إجَازَة البيع فِي الْفَائِت والقائم لِأَنَّهُ فَاتَ إِلَى خلف مَضْمُون على المُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيّ بِالْقيمَةِ لِأَنَّهُمَا أتلفا ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه
فَأَما إِذا كَانَ عَيْبا لَا يُوجب نُقْصَانا فِي عين الْمَبِيع كَالْوَطْءِ من الْأَجْنَبِيّ وولادة الْوَلَد وَنَحْو ذَلِك فَلَا يسْقط خِيَاره إِذا تعيب بِفعل البَائِع حَتَّى لَو أَرَادَ أَن يرد على البَائِع بِغَيْر رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك

(2/74)


وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق الرَّد بِسَبَب الْعَيْب لِأَنَّهُ لم يفت شَيْء من الْمَبِيع فينفسخ العقد فِيهِ فتتفرق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي وَكَذَا إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَضْمُون عَلَيْهِ
وَأما إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَالْعَبْد فِي يَده يبطل خِيَاره سَوَاء حصل بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو بِفعل البَائِع أَو بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ حَتَّى لَو أَرَادَ أَن يرد على البَائِع بِغَيْر رِضَاهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِك أما فِي الآفة السماوية وَفعل البَائِع فَلَمَّا ذكرنَا فِي خِيَار البَائِع وَأما فِي فعل المُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيّ فَلِأَنَّهُ فَاتَ شَرط الرَّد لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يرد جَمِيع مَا قبض كَمَا قبض سليما وَفِي رد الْبَعْض تَفْرِيق الصَّفْقَة على البَائِع قبل التَّمام وَفِي الْأَجْنَبِيّ عِلّة أُخْرَى وَهِي أَنه أوجب الأَرْض وَالْأَرْش زِيَادَة مُنْفَصِلَة حدثت بعد الْقَبْض وَإِنَّهَا تمنع الْفَسْخ عندنَا كَسَائِر أَسبَاب الْفَسْخ فَكَذَا حكم الْخِيَار
ثمَّ فِي خِيَار البَائِع إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ وَهُوَ فِي يَد المُشْتَرِي لم يسْقط الْخِيَار وَبَقِي على خِيَاره فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُجِيز أَو يفْسخ وَالْعَيْب حصل بِفعل المُشْتَرِي أَو الْأَجْنَبِيّ فَإِن أجَاز البيع وَجب على المُشْتَرِي جَمِيع الثّمن لِأَن البيع جَازَ فِي الْكل وَلم يكن للْمُشْتَرِي حق الرَّد وَالْفَسْخ بِسَبَب التَّغْيِير الَّذِي حصل فِي الْمَبِيع لِأَنَّهُ حدث فِي يَده وَفِي ضَمَانه إِلَّا أَن المُشْتَرِي إِن كَانَ هُوَ الْقَاطِع فَلَا سَبِيل لَهُ على أحد لِأَنَّهُ ضمن بِفعل نَفسه وَإِن كَانَ الْقَاطِع أَجْنَبِيّا فَلِلْمُشْتَرِي أَن يتبع الْجَانِي بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُ بِالْإِجَازَةِ ملك العَبْد من وَقت البيع فحصلت الْجِنَايَة على ملكه
وَإِذا اخْتَار الْفَسْخ فَإِن كَانَ الْقَاطِع هُوَ المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَأْخُذ الْبَاقِي وَيضمن المُشْتَرِي نصف قيمَة العَبْد للْبَائِع لِأَن العَبْد كَانَ

(2/75)


مَضْمُونا على المُشْتَرِي بِالْقيمَةِ وَقد عجز عَن رد مَا أتْلفه بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيهِ رد قِيمَته
وَإِن كَانَ الْقَاطِع أَجْنَبِيّا فالبائع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ اتبع الْجَانِي لِأَن الْجِنَايَة حصلت على ملكه وَإِن شَاءَ اتبع المُشْتَرِي لِأَن الْجِنَايَة حدثت فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَإِن اخْتَار اتِّبَاع الْأَجْنَبِيّ فَلَا يرجع على أحد لِأَنَّهُ ضمن بِفعل نَفسه وَإِن اخْتَار اتِّبَاع المُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي يرجع بذلك على الْجَانِي لِأَن المُشْتَرِي بأَدَاء الضَّمَان قَامَ مقَام البَائِع فِي حق ملك الْبَدَل وَإِن لم يقم مقَامه فِي حق ملك نفس الْفَائِت كَمَا فِي غَاصِب الْمُدبر إِذا قتل الْمُدبر فِي يَده وَضَمنَهُ الْمَالِك كَانَ لَهُ أَن يرجع على الْقَاتِل وَإِن لم يملك الْمُدبر لما قُلْنَا كَذَلِك هَهُنَا
وَأما معرفَة عمل خِيَار الشَّرْط وَحكمه فَنَقُول قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله إِن البيع بِشَرْط الْخِيَار لَا ينْعَقد فِي حق الحكم بل هُوَ مَوْقُوف إِلَى وَقت سُقُوط الْخِيَار فَينْعَقد حِينَئِذٍ
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول مثل قَوْلنَا وَفِي قَول ينْعَقد مُفِيدا للْملك لَكِن يثبت لَهُ خِيَار الْفَسْخ بتسليط صَاحبه كَمَا فِي خِيَار الرُّؤْيَة وَخيَار الْعَيْب
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن خِيَار الشَّرْط شرع لدفع الْغبن لحَدِيث حبَان بن منقذ وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بِمَا ذكرنَا فَإِن الْمَبِيع إِذا كَانَ قَرِيبه يعْتق عَلَيْهِ لَو ثَبت الْملك فَلَا يحصل الْغَرَض
ثمَّ الْخِيَار إِذا كَانَ للعاقدين جَمِيعًا لَا يكون العقد منعقدا فِي حق الحكم فِي حَقّهمَا جَمِيعًا
وَإِن كَانَ الْخِيَار لأحد الْعَاقِدين فَلَا شكّ أَن العقد لَا ينْعَقد فِي حق الحكم فِي حق من لَهُ الْخِيَار
وَأما فِي حق الآخر فَهَل ينْعَقد فِي حق

(2/76)


الحكم وَهُوَ الحكم الَّذِي يثبت بِفِعْلِهِ أَعنِي ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع بِتَمْلِيك البَائِع وَثُبُوت الْملك فِي الثّمن بِتَمْلِيك المُشْتَرِي قَالَ أَبُو حنيفَة لَا ينْعَقد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد ينْعَقد حَتَّى إِن الْخِيَار إِذا كَانَ للْبَائِع لَا يَزُول الْمَبِيع عَن ملكه وَلَا يدْخل فِي ملك المُشْتَرِي
وَأما الثّمن فَهَل يدْخل فِي ملك البَائِع فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يدْخل بِأَن كَانَ الثّمن عينا وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثّمن للْبَائِع إِن كَانَ دينا
وَعِنْدَهُمَا يدْخل وَيجب الثّمن للْبَائِع
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثّمن وَلَا يخرج عَن ملكه إِذا كَانَ عينا
وَهل يدْخل الْمَبِيع فِي ملك المُشْتَرِي عِنْد أبي حنيفَة يَزُول عَن ملك البَائِع وَلَا يدْخل فِي ملك المُشْتَرِي
وَعِنْدَهُمَا يدْخل
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن خِيَار المُشْتَرِي يمْنَع زَوَال الثّمن عَن ملكه وَيمْنَع من اسْتِحْقَاق الثّمن عَلَيْهِ وَلَو قُلْنَا إِنَّه يملك الْمَبِيع كَانَ فِيهِ جمع بَين الْبَدَل والمبدل فِي ملك رجل وَاحِد فِي عقد الْمُبَادلَة وَهَذَا لَا يجوز بِخِلَاف خِيَار الرُّؤْيَة وَالْعَيْب لِأَن هُنَاكَ لَا يمْنَع زَوَال الثّمن عَن ملك المُشْتَرِي فَجَاز أَن لَا يمْنَع دُخُول السّلْعَة فِي ملكه
وفوائد هَذَا الأَصْل تظهر فِي مسَائِل كَثِيرَة مَذْكُورَة فِي الْكتب فَنَذْكُر بَعْضهَا
مِنْهَا إِذا اشْترى الرجل أَبَاهُ أَو ذَا رحم محرم مِنْهُ على أَنه بِالْخِيَارِ

(2/77)


ثَلَاثَة أَيَّام لم يعْتق عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي ملكه وَعِنْدَهُمَا يعْتق
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا قَالَ لعبد الْغَيْر إِن اشتريتك فَأَنت حر فَاشْتَرَاهُ على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام يعْتق عَلَيْهِ وَيبْطل خِيَاره
أما عِنْدهمَا فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي ملكه وَأما عِنْد أبي حنيفَة فَلِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ كالمنجز عِنْد وجود الشَّرْط وَلَو نجز عتقه بعد شِرَائِهِ بِشَرْط الْخِيَار ينفذ عتقه وَيبْطل الْخِيَار لاختياره الْملك كَذَا هَذَا
وَمِنْهَا إِذا اشْترى زَوجته على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام لَا يبطل نِكَاحه عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهَا لم تدخل فِي ملكه
وَعِنْدَهُمَا يبطل لِأَنَّهَا دخلت فِي ملكه
وَلَو وَطئهَا الزَّوْج فِي مُدَّة الْخِيَار ينظر إِن كَانَت بكرا يبطل خِيَاره بالِاتِّفَاقِ لوُجُود التعيب وَإِن كَانَت ثَيِّبًا وَلم ينقصها الْوَطْء لَا يبطل خِيَاره عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ وَطئهَا بِملك النِّكَاح وَلَا بِملك الْيَمين فَلَا يصير مُخْتَارًا ضَرُورَة فِي حل الْوَطْء
وَعِنْدَهُمَا يبطل خِيَاره لِأَنَّهُ وَطئهَا بِحكم الشِّرَاء
وَمِنْهَا أَن الْمَبِيع إِذا كَانَ دَارا إِن كَانَ للْبَائِع فِيهَا خِيَار لم يكن للشَّفِيع الشُّفْعَة بِالْإِجْمَاع لِأَن خِيَار البَائِع يمْنَع زَوَال الْمَبِيع عَن ملكه
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي تثبت الشُّفْعَة للشَّفِيع بِالْإِجْمَاع أما عِنْدهمَا فَلِأَن خِيَاره لَا يمْنَع دُخُول السّلْعَة فِي ملك المُشْتَرِي فَتثبت الشُّفْعَة للشَّفِيع وعَلى قَول أبي حنيفَة خِيَار المُشْتَرِي وَإِن منع دُخُول السّلْعَة فِي ملك المُشْتَرِي لم يمْنَع زَوَالهَا عَن ملك البَائِع وَحقّ الشَّفِيع فِي الشُّفْعَة يعْتَمد زَوَال حق البَائِع لَا ملك المُشْتَرِي

(2/78)


وَأما كَيْفيَّة الْفَسْخ وَالْإِجَازَة فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا بطرِيق الضَّرُورَة وَالْآخر بطرِيق الْقَصْد وَالِاخْتِيَار
أما الْفَسْخ وَالْإِجَازَة بطرِيق الضَّرُورَة فَيصح من غير حَضْرَة خَصمه وَعلمه كمضي مُدَّة الْخِيَار وهلاك الْمَبِيع ونقصانه على مَا ذكرنَا
وَأما الْفَسْخ وَالْإِجَازَة بطرِيق الْقَصْد فقد أجمع أَصْحَابنَا أَن الْمَشْرُوط لَهُ الْخِيَار ملك إجَازَة العقد بِغَيْر محْضر من صَاحبه بِغَيْر علم مِنْهُ لِأَن صَاحبه الَّذِي لَا خِيَار لَهُ رَضِي بِحكم العقد وَأما من لَهُ الْخِيَار فَلم يرض حكمه ولزومه فَإِذا رَضِي ورضا الآخر قد وجد يجب القَوْل بنفاذ البيع علم الآخر أَو لم يعلم
لَكِن يشْتَرط الرِّضَا بِاللِّسَانِ بِأَن قَالَ أجزت هَذَا العقد أَو رضيت بِهِ فَأَما إِذا رَضِي بِقَلْبِه وَمَا أجَازه صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَا يسْقط خِيَاره لِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تتَعَلَّق بالأقوال وَالْأَفْعَال الظَّاهِرَة الدَّالَّة على الضمائر
وَأما الْفَسْخ وَالرَّدّ إِن وجد بِالْقَلْبِ دون اللِّسَان فَهُوَ بَاطِل لما ذكرنَا
وَأما إِذا فسخ بِلِسَانِهِ فَإِن كَانَ بِمحضر من صَاحبه فَإِنَّهُ يَصح بِالْإِجْمَاع سَوَاء رَضِي بِهِ أَو أَبى
وَأما إِذا كَانَ بِغَيْر محْضر من صَاحبه فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد لَا يَصح وَهُوَ قَول أبي يُوسُف الأول سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَصح
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع ملك فَسخه بِغَيْر محْضر من المُشْتَرِي وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي لَا يملكهُ فَسخه بِغَيْر محْضر من البَائِع ونعني بالحضرة

(2/79)


الْعلم حَتَّى لَو كَانَ الآخر حَاضرا وَلم يكن عَالما بفسخه لَا يَصح وَلَو كَانَ غَائِبا وَعلم بفسخه فِي مُدَّة الْخِيَار يَنْبَغِي أَن يَصح
وَذكر الْكَرْخِي أَن خِيَار الرُّؤْيَة على هَذَا الْخلاف
وَأَجْمعُوا أَن المُشْتَرِي فِي خِيَار الْعَيْب إِذا فسخ بِغَيْر محْضر من البَائِع لَا يَصح وَإِن كَانَ قبل الْقَبْض وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو اشْترى رجلَانِ على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام أَو اشتريا شَيْئا وَلم يرياه أَو اشتريا شَيْئا فوجدا بِهِ عَيْبا هَل يملك أَحدهمَا أَن ينْفَرد بِالْفَسْخِ على قَول أبي حنيفَة لَا يملك وَلَو رد لَا يَصح
وعَلى قَوْلهمَا يَصح
وَإِنَّمَا يَصح عِنْد أبي حنيفَة إِذا اتفقَا على الرَّد أَو اتفقَا على الْإِجَازَة
أما إِذا رد أَحدهمَا وَأَجَازَ الآخر فَهُوَ على الِاخْتِلَاف
وَكَذَا لَو اختارا رد البيع فِي النّصْف وإجازة البيع فِي النّصْف فَهُوَ على الِاخْتِلَاف وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(2/80)


بَاب خِيَار الرُّؤْيَة
يحْتَاج إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة خِيَار الرُّؤْيَة وَإِلَى بَيَان أَنه فِي أَي وَقت يثبت وَفِي بَيَان أَنه يثبت مؤقتا أَو مُطلقًا
وَفِي بَيَان حكمه وَفِي بَيَان مَا يسْقطهُ
أما الأول فَنَقُول قَالَ أَصْحَابنَا رَحِمهم الله إِن خِيَار الرُّؤْيَة مَشْرُوع فِي شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي فَيجوز الشِّرَاء وَيثبت لَهُ الْخِيَار
وَقَالَ الشَّافِعِي شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي لَا يَصح فَلَا يكون الْخِيَار فِيهِ مَشْرُوعا
وَلَو بَاعَ شَيْئا لم يره البَائِع وَرَآهُ المُشْتَرِي يجوز عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِيهِ قَولَانِ
وَهل يثبت للْبَائِع فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة لم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَذكر الطَّحَاوِيّ فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يَقُول بِأَنَّهُ يثبت

(2/81)


لَهُ الْخِيَار ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا يثبت
وَأما بَيَان وَقت ثُبُوت الْخِيَار فَنَقُول يثبت الْخِيَار عِنْد رُؤْيَة المُشْتَرِي لَا قبلهَا حَتَّى لَو أجَاز البيع قبل الرُّؤْيَة لَا يلْزم البيع وَلَا يسْقط الْخِيَار
وَهل يملك الْفَسْخ قبل الرُّؤْيَة لَا رِوَايَة فِي ذَا
وَاخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ بَعضهم لَا يملك لِأَنَّهُ لَا يملك الْإِجَازَة قبل الرُّؤْيَة فَلَا يملك الْفَسْخ لِأَن الْخِيَار لم يثبت
وَبَعْضهمْ قَالُوا يملك الْفَسْخ لَا لسَبَب الْخِيَار لِأَنَّهُ غير ثَابت وَلَكِن لِأَن شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي غير لَازم وَالْعقد الَّذِي لَيْسَ بِلَازِم يجوز فَسخه كالعارية والوديعة
وَأما بَيَان أَن الْخِيَار مُطلق أَو مُؤَقّت فَنَقُول اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ بَعضهم قَالُوا يثبت مُطلقًا فَيكون لَهُ الْخِيَار فِي جَمِيع الْعُمر إِلَّا إِذا وجد مَا يسْقطهُ
وَبَعْضهمْ قَالُوا بِأَنَّهُ مُؤَقّت بِوَقْت إِمْكَان الْفَسْخ بعد الرُّؤْيَة حَتَّى لَو تمكن من الْفَسْخ بعد الرُّؤْيَة وَلم يفْسخ يسْقط خِيَار الرُّؤْيَة وَإِن لم يُوجد مِنْهُ الْإِجَازَة وَالرِّضَا صَرِيحًا وَلَا دلَالَة
وَأما حكمه فَهُوَ التَّخْيِير بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة إِذا رأى الْمَبِيع وَلَا يمْنَع ثُبُوت الْملك فِي الْبَدَلَيْنِ وَلَكِن يمْنَع اللُّزُوم بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط
وَإِنَّمَا يثبت الْخِيَار فِي بيع الْعين بِالْعينِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا

(2/82)


وَفِي بيع الْعين بِالدّينِ تثبت للْمُشْتَرِي
وَلَا يثبت فِي بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ الصّرْف لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
فَأَما إِذا كَانَ الْحق عينا فللناس أغراض فِي الْأَعْيَان فَكَانَ ثُبُوت الْخِيَار فِيهِ لينْظر أَنه هَل يصلح لَهُ فَإِن شَاءَ أجَاز إِن صلح وَإِن شَاءَ فسخ إِن لم يصلح
وَهَذَا إِذا رأى جَمِيع الْمَبِيع
فَأَما إِذا رأى الْبَعْض وَرَضي بِهِ وَلم ير الْبَعْض هَل يكون على خِيَاره أم لَا إِذا رأى الْمَبِيع فَنَقُول الأَصْل فِي هَذَا النَّوْع من الْمسَائِل هُوَ أَن غير المرئي إِذا كَانَ تبعا للمرئي فَلَا خِيَار لَهُ فِي غير المرئي وَإِن كَانَ رُؤْيَة مَا رأى لَا تعرف حَال مَا لم يره لِأَن حكم التبع حكم الأَصْل
وَإِن لم يكن غير المرئي تبعا للمرئي فَإِن كَانَ مَقْصُودا بِنَفسِهِ كالمرئي ينظر إِن كَانَ رُؤْيَة مَا قد رأى لم تعرف حَال غير المرئي كَانَ على خِيَاره فِيمَا لم يره لِأَن الْمَقْصُود من الرُّؤْيَة فِيمَا لم يره لم يحصل بِرُؤْيَتِهِ مَا رأى
وَإِن كَانَ رُؤْيَة مَا رأى تعرف حَال غير المرئي فَإِنَّهُ لَا خِيَار لَهُ أصلا فِي غير المرئي إِذا كَانَ غير المرئي مثل المرئي أَو فَوْقه لِأَنَّهُ حصل بِرُؤْيَة الْبَعْض رُؤْيَة الْبَاقِي من حَيْثُ الْمَعْنى
إِذا ثَبت هَذَا الأَصْل تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل الْآتِيَة إِذا اشْترى جَارِيَة أَو عبدا فَرَأى الْوَجْه دون سَائِر الْأَعْضَاء لَا خِيَار لَهُ وَإِن كَانَ رُؤْيَة الْوَجْه لَا تعرف حَال سَائِر الْأَعْضَاء لِأَن سَائِر

(2/83)


الْأَعْضَاء تبع للْوَجْه فِي شِرَاء العَبْد وَالْجَارِيَة فِي الْعَادة وَلَو رأى سَائِر الْأَعْضَاء دون الْوَجْه فَهُوَ على خِيَاره لِأَنَّهُ لم ير الْمَتْبُوع
هَذَا فِي بني آدم فَأَما فِي سَائِر الْحَيَوَان مثل الْفرس وَالْحمار وَنَحْوهمَا ذكر مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ إِن نظر إِلَى عَجزه يسْقط خِيَاره
وَإِن لم ير عَجزه فَهُوَ على خِيَاره فَجعل الْعَجز فِي الْحَيَوَانَات بِمَنْزِلَة الْوَجْه فِي بني آدم
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ هُوَ على خِيَاره مَا لم ير وَجهه ومؤخره فَجعل الأَصْل هذَيْن العضوين وَغَيرهمَا تبعا
وَأما الشَّاة إِذا اشْتَرَاهَا للحم فقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ لَا بُد من الجس بعد الرُّؤْيَة حَتَّى يعرف سمنها لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُود
وَإِن اشْتَرَاهَا للدر والنسل فَلَا بُد من رُؤْيَة سَائِر جَسدهَا وَمن النّظر إِلَى ضرْعهَا أَيْضا لِأَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الضَّرع
فَأَما فِي غير الْحَيَوَان فَإِن كَانَ شَيْئا وَاحِدًا ينظر إِن كَانَ شَيْء مِنْهُ مَقْصُودا عِنْد النَّاس فِي الْعَادة كالوجه فِي المعافر والطنافس فَإِنَّهُ إِذا رأى الْوَجْه سقط الْخِيَار كَمَا فِي بني آدم وَإِذا رأى

(2/84)


الظّهْر لَا يسْقط هَكَذَا ذكر الْحسن فِي الْمُجَرّد عَن أبي حنيفَة
وَإِن لم يكن شَيْء مِنْهُ مَقْصُودا كالكرباس فَإِن رُؤْيَة بعضه أَي بعض كَانَ كرؤية الْكل لِأَن بِرُؤْيَة بعضه يعرف الْبَاقِي لِأَن تفَاوت الْأَطْرَاف فِي ثوب وَاحِد يسير فَإِن وجد الْبَاقِي مثل المرئي أَو فَوْقه فَلَا خِيَار لَهُ وَإِن وجده دونه كَانَ على خِيَاره على مَا ذكرنَا
وَإِن كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ دَارا أَو بستانا ذكر فِي كتاب الْقِسْمَة وَقَالَ إِذا رأى خَارج الدَّار وظاهرها يسْقط خِيَاره وَإِن لم ير داخلها لِأَنَّهَا شَيْء وَاحِد وَفِي الْبُسْتَان إِذا رأى الْخَارِج ورؤوس الْأَشْجَار يسْقط خِيَاره
وعَلى قَول زفر لَا يسْقط الْخِيَار بِدُونِ رُؤْيَة الدَّاخِل
وَلَكِن مَشَايِخنَا قَالُوا تَأْوِيل مَا ذكر فِي كتاب الْقِسْمَة أَنه إِذا لم يكن فِي دَاخل الدَّار أبنية
فَأَما إِذا كَانَ فِيهَا أبنية فَلَا يسْقط الْخِيَار مَا لم ير دَاخل الدَّار كُله أَو بعضه لِأَن الدَّاخِل هُوَ الْمَقْصُود وَالْخَارِج كالتبع لَهُ
وَذكر الْقَدُورِيّ أَن أَصْحَابنَا قَالُوا إِن أَبَا حنيفَة أجَاب على عَادَة أهل الْكُوفَة فِي زَمَانه فَإِن دُورهمْ وبساتينهم لَا تخْتَلف من حَيْثُ التقطيع والهيئة وَإِنَّمَا تخْتَلف من حَيْثُ الصغر وَالْكبر وَكَذَا من حَيْثُ صغر الْأَشْجَار وكبرها وَذَلِكَ يحصل بِرُؤْيَة الْخَارِج ورؤية رُؤُوس الْأَشْجَار وَعَادَة سَائِر الْبلدَانِ بِخِلَاف
هَذَا إِذا كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا
فَأَما إِذا كَانَ أَشْيَاء فَإِن كَانَ من العدديات المتفاوتة كالثياب الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي جراب

(2/85)


أَو البطاطيخ فِي الشريجة أَو الرُّمَّان أَو السفرجل فِي القفة والكوارة فَإِذا رأى الْبَعْض فَإِنَّهُ يكون على خِيَاره فِي الْبَاقِي لِأَن الْكل مَقْصُود ورؤية مَا رأى لَا تعرف حَال الْبَاقِي لِأَنَّهَا مُتَفَاوِتَة
وَإِن كَانَ مَكِيلًا أَو مَوْزُونا أَو عدديا متقاربا فَإِنَّهُ إِذا رأى الْبَعْض وَرَضي بِهِ لَا خِيَار لَهُ فِي الَّذِي لم ير إِذا كَانَ مَا لم ير مثل الَّذِي رأى لِأَن رُؤْيَة الْبَعْض من هَذِه الْأَشْيَاء تعرف حَال الْبَاقِي
وَهَذَا إِذا كَانَ فِي وعَاء وَاحِد فَأَما إِذا كَانَ فِي وعاءين فقد اخْتلف الْمَشَايِخ
قَالَ مَشَايِخ بَلخ لَا يكون رُؤْيَة أَحدهمَا كرؤية الآخر لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ إِذا كَانَا فِي وعاءين فَكَانَا كالثوبين
وَقَالَ مَشَايِخ الْعرَاق بِأَن رُؤْيَة أَحدهمَا كرؤيتهما جَمِيعًا إِذا كَانَ مَا لم ير مثل المرئي
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَهُوَ الْأَصَح
وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُشْتَرى مغيبا فِي الْوِعَاء فَأَما إِذا كَانَ مغيبا فِي الأَرْض كالجزر والبصل والثوم والفجل والسلجم وبصل الزَّعْفَرَان وَنَحْو ذَلِك فَفِي أَي وَقت يسْقط الْخِيَار لم يذكر هَذَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وروى بشر عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِذا كَانَ شَيْئا يُكَال أَو يُوزن بعد الْقلع كالثوم والبصل والجزر فَإِنَّهُ إِذا قلع المُشْتَرِي شَيْئا بِإِذن البَائِع أَو قلع البَائِع برضى المُشْتَرِي سقط خِيَاره فِي الْبَاقِي لِأَن رُؤْيَة بعض الْمكيل كرؤية الْكل

(2/86)


فَأَما إِذا حصل الْقلع من المُشْتَرِي بِغَيْر إِذن البَائِع لم يكن لَهُ أَن يرد سَوَاء رَضِي بالمقلوع أَو لم يرض إِذا كَانَ المقلوع شَيْئا لَهُ قيمَة عِنْد النَّاس لِأَنَّهُ بِالْقَلْعِ صَار معيبا لِأَنَّهُ كَانَ يَنْمُو وَيزِيد وَبعد الْقلع لَا يَنْمُو وَلَا يزِيد ويتسارع إِلَيْهِ الْفساد وحدوث الْعَيْب فِي الْمَبِيع فِي يَد المُشْتَرِي بِغَيْر صنعه يمْنَع الرَّد فَمَعَ صنعه أولى
وَإِن كَانَ المغيب فِي الأَرْض مِمَّا يُبَاع عددا كالفجل والسلق وَنَحْوهمَا فرؤية الْبَعْض لَا تكون كرؤية الْكل لِأَن هَذَا من بَاب العدديات المتفاوتة فرؤية الْبَعْض لَا تَكْفِي كَمَا فِي الثِّيَاب
وَإِن قلع المُشْتَرِي بِغَيْر إِذْنه سقط خِيَاره لأجل الْعَيْب إِذا كَانَ المقلوع شَيْئا لَهُ قيمَة فَأَما إِذا لم يكن لَهُ قيمَة فَلَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَا يحصل بِهِ الْعَيْب
وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا مُطلقًا من غير هَذَا التَّفْصِيل وَقَالَ إِذا اشْترى شَيْئا مغيبا فِي الأَرْض مثل الجزر والبصل والثوم وبصل الزَّعْفَرَان وَمَا أشبه ذَلِك فَلهُ الْخِيَار إِذا رأى جَمِيعه فَلَا يكون رُؤْيَة بعضه مُبْطلًا خِيَاره وَإِن رَضِي بذلك الْبَعْض فخياره بَاقٍ إِلَى أَن يرى جَمِيعه
وروى عَمْرو عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ قَالَ أَبُو حنيفَة المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِذا قلع
قلت فَإِن قلع الْبَعْض قَالَ لم يزِيد أَبُو حنيفَة على مَا قلت لَك فَأَما فِي قَول أبي يُوسُف وَقَوْلِي إِذا قلع شَيْئا يسْتَدلّ بِهِ على مَا بَقِي فِي سمنه وعظمه فَرضِي المُشْتَرِي فَهُوَ لَازم لَهُ فهما يَقُولَانِ إِن التَّفَاوُت فِي هَذِه الْأَشْيَاء لَيْسَ بغالب فَصَارَ كالصبرة وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّهَا تخْتَلف من حَيْثُ الصغر وَالْكبر والجودة والرداءة فَلم يسْقط الْخِيَار

(2/87)


بِرُؤْيَتِهِ الْبَعْض كالثياب
وَلَو اشْترى دهن سمسم فِي قَارُورَة فَرَأى من خَارج القارورة الدّهن فِي القارورة روى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ يَكْفِي وَيسْقط خِيَاره لِأَن رُؤْيَته من الْخَارِج تعرفه حَالَة الدّهن فَكَأَنَّهُ رَآهُ خَارج القارورة فِي قَصْعَة وَنَحْوهَا ثمَّ اشْتَرَاهُ
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه لَا يبطل مَا لم ينظر إِلَى الدّهن بَعْدَمَا يخرج من القارورة لِأَن لون الدّهن مِمَّا يتَغَيَّر بلون القارورة
وَلَو نظر إِلَى الْمرْآة فَرَأى الْمَبِيع قَالُوا لَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ مَا رأى عين الْمَبِيع وَإِنَّمَا رأى مِثَاله
قَالَ هَكَذَا قَالَ بَعضهم وَالأَصَح أَنه يرى عين الْمَبِيع لَكِن يعرف بِهِ أَصله وَقد تَتَفَاوَت هيئاته بتفاوت الْمرْآة
وعَلى هَذَا قَالُوا من نظر فِي الْمرْآة فَرَأى فرج أم امْرَأَته عَن شَهْوَة لَا تثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة
وَلَو نظر إِلَى فرج امْرَأَته الْمُطلقَة طَلَاقا رَجْعِيًا عَن شَهْوَة فِي الْمرْآة لَا يصير مراجعا لما قُلْنَا
وَلَو اشْترى سمكًا فِي المَاء يُمكن أَخذه من غير اصطياد فَرَآهُ فِي المَاء قَالَ بَعضهم يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ رأى عين الْمَبِيع
وَقَالَ بَعضهم لَا يسْقط وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الشَّيْء لَا يرى فِي المَاء كَمَا هُوَ بل يرى أَكثر مِمَّا هُوَ فبهذه الرُّؤْيَة لَا تعرف حَاله حَقِيقَة
وَلَو وكل رجلا بِالنّظرِ إِلَى مَا اشْتَرَاهُ وَلم يره فَيلْزم العقد إِن رَضِي وَيفْسخ العقد إِن شَاءَ وَقَالَ وَيصِح التَّوْكِيل وَيقوم نظره مقَام نظره لِأَنَّهُ جعل الرَّأْي إِلَيْهِ
وَلَو وكل بِقَبْضِهِ فَقَبضهُ فَرَآهُ هَل يسْقط خِيَار الْمُوكل

(2/88)


عِنْد أبي حنيفَة يسْقط لِأَنَّهُ من تَمام الْقَبْض وَعِنْدَهُمَا لَا يسْقط
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا أرسل رَسُولا بِقَبْضِهِ فَرَآهُ الرَّسُول وَرَضي بِهِ كَانَ الْمُرْسل على خِيَاره
وَأَجْمعُوا فِي خِيَار الْعَيْب أَنه إِذا وكل رجلا بِقَبض الْمَبِيع فَقبض الْوَكِيل وَعلم بِالْعَيْبِ وَرَضي بِهِ لَا يسْقط خِيَار الْمُوكل
وَأما خِيَار الشَّرْط فَلَا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَاخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ بَعضهم على هَذَا الِاخْتِلَاف وَقَالَ بَعضهم لَا يسْقط بالِاتِّفَاقِ
وَأما بَيَان مَا يسْقط بِهِ الْخِيَار فَنَقُول إِن خِيَار الرُّؤْيَة لَا يسْقط بالإسقاط صَرِيحًا بِأَن قَالَ المُشْتَرِي أسقطت خياري
كَذَا روى ابْن رستم عَن مُحَمَّد لَا قبل الرُّؤْيَة وَلَا بعْدهَا بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط وَخيَار الْعَيْب
وَالْفرق أَن هَذَا الْخِيَار ثَبت شرعا لحكمة فِيهِ فَلَا يملك العَبْد إِسْقَاطه كَمَا فِي خِيَار الرّجْعَة فَإِنَّهُ لَو قَالَ أسقطت الرّجْعَة وأبطلت لَا تبطل وَلَكِن إِن شَاءَ رَاجع وَإِن شَاءَ تَركهَا حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة فَتبْطل الرّجْعَة حكما بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط فَإِنَّهُ يثبت شَرطهمَا فَجَاز أَن يسْقط بإسقاطهما وَكَذَلِكَ خِيَار الْعَيْب فَإِن السَّلامَة مَشْرُوطَة من المُشْتَرِي عَادَة فَهُوَ كالمشروط صَرِيحًا
ثمَّ خِيَار الرُّؤْيَة إِنَّمَا يسْقط بِصَرِيح الرِّضَا وَدلَالَة الرِّضَا بعد الرُّؤْيَة لَا قبل الرُّؤْيَة وَيسْقط بتعذر الْفَسْخ وبلزوم العقد

(2/89)


حكما وضرورة قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا لما ذكرنَا أَنه لَا يثبت فِي الأَصْل إِلَّا بعد الرُّؤْيَة فَلَا يجوز أَن يسْقط بِالرِّضَا صَرِيحًا وَدلَالَة إِلَّا بعد ثُبُوته حَتَّى إِنَّه إِذا رأى وَصلح لَهُ يُجِيزهُ وَإِن لم يصلح لَهُ يردهُ لِأَنَّهُ شرع نظرا لَهُ وَلَكِن إِذا تعذر الْفَسْخ بِأَيّ سَبَب كَانَ أَو لزم العقد بطرِيق الضَّرُورَة سقط قبل الرُّؤْيَة خِيَاره أَو بعْدهَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي ثُبُوت حق الْفَسْخ فالتزم العقد ضَرُورَة وَيجوز أَن يثبت الشَّيْء ضَرُورَة وَإِن كَانَ لَا يثبت قصدا كالموكل لَا يملك عزل الْوَكِيل بِدُونِ علمه قصدا وَيملك ضَرُورَة بِأَن بَاعَ الْمُوكل بِنَفسِهِ ليعزل الْوَكِيل
إِذا ثَبت هَذَا تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل إِذا ذهب الْمَبِيع من غَيره وَلم يُسلمهُ أَو عرضه على البيع وَنَحْوهمَا قبل الرُّؤْيَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ لَا يسْقط بِصَرِيح الرِّضَا فِي هَذِه الْحَالة فَكَذَا لَا يسْقط بِدلَالَة الرِّضَا
وَلَو أعتق المُشْتَرِي العَبْد أَو دبره أَو استولد الْجَارِيَة فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا لِأَنَّهُ تعذر الْفَسْخ لِأَن هَذِه حُقُوق لَازِمَة أثبتها للْعَبد وَمن ضَرُورَة ثُبُوت الْحق اللَّازِم من الْمَالِك لغيره لُزُوم الْملك لَهُ فَثَبت اللُّزُوم شرعا ضَرُورَة ثُبُوت الْحق اللَّازِم شرعا وَمَتى ثَبت اللُّزُوم تعذر الْفَسْخ
وَلَو رَهنه المُشْتَرِي وَلم يُسلمهُ أَو أجره من رجل أَو بَاعه على أَن المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ سقط خِيَاره قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا حَتَّى لَو أفتك الرَّهْن أَو مَضَت الْمدَّة فِي الْإِجَازَة أَو رده على المُشْتَرِي بِخِيَار الشَّرْط ثمَّ رَآهُ لَا يكون لَهُ الرَّد بِخِيَار الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ أثبت حَقًا لَازِما لغيره بِهَذِهِ التَّصَرُّفَات فَيكون من ضَرُورَته لُزُوم الْملك لَهُ وَذَلِكَ بامتناع ثُبُوت الْخِيَار فَيبْطل ضَرُورَة لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
وَفِي خِيَار الْعَيْب لَا يسْقط بِهَذِهِ التَّصَرُّفَات لِأَن ثمَّة العقد لَازم

(2/90)


مَعَ الْعَيْب بعد الْقَبْض حَتَّى لَا يُمكنهُ الرَّد إِلَّا بِقَضَاء أَو رضَا وَإِذا كَانَ لَازِما فَلَا يسْقط الْخِيَار لضَرُورَة اللُّزُوم وَإنَّهُ لَازم
وعَلى هَذَا فَالْمُشْتَرِي إِذا كَاتب ثمَّ عجز العَبْد ورد فِي الرّقّ ثمَّ رَآهُ لَا يثبت لَهُ خِيَار الرُّؤْيَة لِأَن الْكِتَابَة عقد لَازم
وَكَذَلِكَ لَو وهب وَسلم قبل الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ أثبت حَقًا لَازِما فَإِنَّهُ لَا يقدر على الرُّجُوع إِلَّا بِقَضَاء أَو رضَا
هَذَا إِذا كَانَ المُشْتَرِي بَصيرًا أما إِذا كَانَ المُشْتَرِي أعمى حَتَّى ثَبت لَهُ الْخِيَار بِسَبَب جَهَالَة الْأَوْصَاف لعدم الرُّؤْيَة فبماذا يسْقط خِيَاره اخْتلفت الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِيهِ وَالْحَاصِل أَن مَا يُمكن جسه وذوقه وَشمه يَكْتَفِي بذلك لسُقُوط خِيَاره فِي أشهر الرِّوَايَات وَلَا يشْتَرط بَيَان الْوَصْف لَهُ وَيكون بِمَنْزِلَة نظر الْبَصِير وَفِي رِوَايَة هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر الْوَصْف مَعَ ذَلِك لِأَن التَّعْرِيف الْكَامِل فِي حَقه يثبت بِهَذَا
أما مَا لَا يُمكن جسه بِأَن اشْترى ثمارا على رُؤُوس الْأَشْجَار فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ الْوَصْف لَا غير فِي أشهر الرِّوَايَات وَفِي رِوَايَة يُوقف فِي مَكَان لَو كَانَ بَصيرًا لرَأى ذَلِك
وَأما إِذا كَانَ الْمَبِيع دَارا أَو عقارا فَالْأَصَحّ من الرِّوَايَات أَنه يَكْتَفِي بِالْوَصْفِ فَإِذا رَضِي بِهِ كَانَ بِمَنْزِلَة النّظر من الْبَصِير
وَقَالُوا فِي الْأَعْمَى إِذا اشْترى فوصف لَهُ وَرَضي بذلك ثمَّ زَالَ الْعَمى فَلَا خِيَار لَهُ لِأَن الْوَصْف خلف عَن الرُّؤْيَة فِي حَقه وَالْقُدْرَة على الأَصْل بعد حُصُول الْمَقْصُود بِالْبَدَلِ لَا تسْقط حكم الْبَدَل
وَلَو اشْترى الْبَصِير شَيْئا لم يره فوصف لَهُ فَرضِي بِهِ لم يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة للخلف مَعَ الْقُدْرَة على الأَصْل

(2/91)


وَلَو اخْتلف البَائِع وَالْمُشْتَرِي فَقَالَ البَائِع بِعْتُك هَذَا الشَّيْء وَقد رَأَيْته وَقَالَ المُشْتَرِي لم أره فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ إِلْزَام العقد وَهُوَ مُنكر فَيكون القَوْل قَوْله ويستحلف المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ سُقُوط حق الْفَسْخ وَلُزُوم العقد وَهَذَا مِمَّا يَصح بذله وَالْإِقْرَار بِهِ فَيجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَاف
وَلَو رأى عبدا أَو دَابَّة ثمَّ اشْترى بعد ذَلِك بِشَهْر أَو نَحوه فَلَا خِيَار لَهُ لِأَنَّهُ اشْترى شَيْئا قد رَآهُ وَثُبُوت هَذَا الْخِيَار مُعَلّق بشرَاء شَيْء لم يره وَلِأَن مَا هُوَ الْمَقْصُود من الْخِيَار قد ثَبت فَكَانَ الْإِقْدَام على الشِّرَاء دلَالَة الرِّضَا
وَلَو اخْتلفَا فَقَالَ المُشْتَرِي قد تغير عَن الْحَالة الَّتِي رَأَيْته وَالْبَائِع يُنكر فَالْقَوْل قَول البَائِع مَعَ يَمِينه لِأَن دَعْوَى التَّغْيِير إِمَّا أَن تكون دَعْوَى الْعَيْب أَو دَعْوَى تبدل هَيئته فِيمَا يحْتَمل التبدل وَهَذَا دَعْوَى أَمر عَارض فَيكون القَوْل قَول من تمسك بِالْأَصْلِ

(2/92)


بَاب خِيَار الْعَيْب
الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع فِي بَيَان شَرْعِيَّة خِيَار الْعَيْب وَفِي بَيَان الْعُيُوب الَّتِي توجب الْخِيَار جملَة وتفصيلا وَفِي بَيَان كَيْفيَّة الرَّد وَفِي بَيَان مَا يمْنَع الرَّد وَيسْقط الْخِيَار وَفِي بَيَان مَا يمْنَع الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب وَمَا لَا يمْنَع وَفِي بَيَان الْإِبْرَاء عَن الْعُيُوب
أما الأول فَلِأَن سَلامَة الْبَدَلَيْنِ فِي عقد الْمُبَادلَة مَطْلُوبَة عَادَة فَتكون بِمَنْزِلَة الْمَشْرُوط صَرِيحًا وَلَو اشْترى جَارِيَة على أَنَّهَا بكر أَو خبازة وَلم تُوجد ثَبت الْخِيَار لفَوَات غَرَضه كَذَا هَذَا
وَأما بَيَان الْعُيُوب الْمُوجبَة للخيار فِي الْجُمْلَة فَنَقُول كل مَا أوجب نُقْصَان الْقيمَة وَالثمن فِي عَادَة التُّجَّار فَهُوَ عيب يُوجب الْخِيَار
وَمَا لَا يُوجب نُقْصَان الْقيمَة وَالثمن فَلَيْسَ بِعَيْب
وَأما تَفْصِيل الْعُيُوب فَهِيَ على نَوْعَيْنِ

(2/93)


أَحدهمَا مَا يُوجب فَوَات جُزْء من الْمَبِيع أَو تَغْيِيره من حَيْثُ الظَّاهِر دون الْبَاطِن
وَالثَّانِي مَا يُوجب النُّقْصَان من حَيْثُ الْمَعْنى دون الصُّورَة
أما الأول فكثير نَحْو الْعَمى والعور والشلل والزمانة والإصبع النَّاقِصَة وَالسّن السَّوْدَاء وَالسّن الساقطة وَالسّن الشاغية وَالظفر الْأسود والصمم والخرس والبكم والقروح والشجاج وَأثر الْجراح والأمراض كلهَا الَّتِي تكون فِي سَائِر الْبدن والحميات وَهَذَا كُله ظَاهر
وَأما الثَّانِي فنحو السعال الْقَدِيم وارتفاع الْحيض فِي زمَان طَوِيل أدناه شَهْرَان فَصَاعِدا فِي الْجَوَارِي
وَمِنْهَا صهوبة الشّعْر والشمط والشيب فِي العبيد والجواري والبخر عيب فِي الْجَوَارِي دون العبيد إِلَّا أَن يكون فَاحِشا أَو يكون عَن دَاء وَكَذَلِكَ الزفر
وَمِنْهَا الزِّنَا عيب فِي الْجَوَارِي دون الغلمان إِلَّا إِذا كثر ذَلِك مِنْهُم وَصَارَ عَادَة لَهُم فَيكون عَيْبا
وَكَذَا كَونه ولد الزِّنَا يكون عَيْبا فِي الْجَوَارِي دون العبيد

(2/94)


وَالْحَبل عيب فِي الْجَارِيَة لَا فِي الْبَهَائِم
وَالنِّكَاح فِي الْغُلَام وَالْجَارِيَة عيب
وَالْكفْر عيب فِي الْجَارِيَة والغلام
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الْإِبَاق وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل فِي الْفراش وَالْجُنُون
وَحَاصِل الْجَواب فِيهَا أَنَّهَا فِي الصَّغِير الَّذِي لَا يعقل وَلَا يَأْكُل وَحده لَا تكون عَيْبا لِأَنَّهُ لَا يعرف الِامْتِنَاع من هَذِه الْأَشْيَاء فَلَا يثبت بِهِ وجود الْعَيْب بِالِاحْتِمَالِ فَأَما إِذا كَانَ صَبيا عَاقِلا فَإِنَّهُ يكون عَيْبا وَلَكِن عِنْد اتِّحَاد الْحَالة يثبت حق الرَّد لَا عِنْد الِاخْتِلَاف بِأَن ثَبت أَنه أبق عِنْد البَائِع ثمَّ يأبق عِنْد المُشْتَرِي كِلَاهُمَا فِي حَالَة الصغر أَو كِلَاهُمَا فِي حَالَة الْكبر لِأَن سَبَب وجود هَذِه الْأَشْيَاء فِي حَالَة الصغر عيب وَهُوَ قلَّة المبالاة وقصور الْعقل وَضعف المثانة وَفِي حَال الْكبر يكون السَّبَب سوء اخْتِيَاره وداء فِي الْبَاطِن فَإِذا اتّفق الحالان علم أَن السَّبَب وَاحِد فَيكون هَذَا الْعَيْب ثَابتا عِنْد البَائِع فَأَما إِذا اخْتلف فَلَا يعرف لِأَنَّهُ يجوز أَن يَزُول الَّذِي كَانَ عِنْد البَائِع ثمَّ يحدث النَّوْع الآخر عِنْد المُشْتَرِي فَلَا يكون لَهُ حق الرَّد كَالْعَبْدِ إِذا حم عِنْد البَائِع ثمَّ حم عِنْد المُشْتَرِي فَإِن كَانَ هَذَا الثَّانِي غير ذَلِك النَّوْع لَا يثبت حق الرَّد وَإِن كَانَ من نَوعه ثَبت حق الرَّد كَذَا هَذَا
فَأَما الْجُنُون إِذا ثَبت وجوده عِنْد البَائِع فَهَل يشْتَرط وجوده ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي لَيْسَ فِيهِ رِوَايَة نصا وَاخْتلف الْمَشَايِخ فبعضهم قَالُوا لَا يشْتَرط لِأَن مُحَمَّدًا قَالَ الْجُنُون عيب لَازم أبدا فَلَا يشْتَرط وجوده ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي بِخِلَاف السّرقَة والإباق

(2/95)


وَالْبَوْل فِي الْفراش فَإِنَّهُ مَا لم يُوجد عِنْد المُشْتَرِي لَا يثبت حق الرَّد
وَقَالَ بَعضهم لَا يكون لَهُ حق الرَّد مَا لم يُوجد ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي كَمَا فِي الْإِبَاق ونظائره إِلَّا أَن الْفرق أَن فِي الْجُنُون لَا يشْتَرط اتِّحَاد الْحَالة فَإِن جن عِنْد البَائِع وَهُوَ صَغِير ثمَّ جن عِنْد المُشْتَرِي بعد الْبلُوغ فَإِنَّهُ يثبت حق الرَّد وَفِي الْإِبَاق وَنَظِيره لَا يثبت حق الرَّد إِلَّا عِنْد اتِّحَاد الْحَالة على مَا ذكرنَا
وَأما كَيْفيَّة الرَّد فَنَقُول إِن المُشْتَرِي إِذا ادّعى عَيْبا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون عَيْبا ظَاهرا مشاهدا كالإصبع الزَّائِدَة وَالسّن الشاغية الزَّائِدَة والعمى وَنَحْوهَا
أَو كَانَ عَيْبا بَاطِنا فِي نفس الْحَيَوَان لَا يعرفهُ إِلَّا الْأَطِبَّاء
أَو يكون فِي مَوضِع لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء
أَو يكون عَيْبا لَا يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا بالتجربة والامتحان عِنْد الْخُصُومَة وَذَلِكَ كالإباق وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل على الْفراش وَالْجُنُون
أما إِذا كَانَ عَيْبا مشاهدا فَإِن القَاضِي لَا يُكَلف المُشْتَرِي بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على إِثْبَات الْعَيْب عِنْده لكَون الْعَيْب ثَابتا عِنْده بالعيان والمشاهدة وَيكون للْمُشْتَرِي حق الْخُصُومَة مَعَ البَائِع بِسَبَب هَذَا الْعَيْب فَبعد هَذَا القَاضِي ينظر فِي الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن كَانَ عَيْبا لَا يحدث مثله فِي يَدي المُشْتَرِي كالإصبع الزَّائِدَة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ يرد على البَائِع وَلَا يُكَلف المُشْتَرِي بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على ثُبُوت الْعَيْب عِنْد البَائِع لِأَنَّهُ تَيَقّن ثُبُوته عِنْده إِلَّا أَن يَدعِي البَائِع الرِّضَا وَالْإِبْرَاء فيطلب مِنْهُ الْبَيِّنَة فَإِن أَقَامَ الْبَيِّنَة عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يسْتَحْلف المُشْتَرِي على دَعْوَاهُ

(2/96)


فَإِن نكل لم يرد عَلَيْهِ وَإِن حلف رد على البَائِع فَإِن كَانَ عَيْبا يجوز أَن يحدث مثله فِي يَد المُشْتَرِي فَإِن القَاضِي يَقُول للْبَائِع هَل حدث هَذَا عنْدك فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا وَالْإِبْرَاء وَإِن أنكر الْحُدُوث عِنْده فَإِنَّهُ يَقُول للْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَة فَإِن أَقَامَهَا قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا وَالْإِبْرَاء وَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ يسْتَحْلف البَائِع على الْبَتَات بِاللَّه لقد بِعته وسلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب لِأَن هَذَا أَمر لَو أقرّ بِهِ لزمَه فَإِذا أنكر يحلف لصدق قَوْله وَإِنَّمَا يحلف على هَذَا الْوَجْه لِأَن الْعَيْب قد يحدث بعد البيع قبل الْقَبْض فَيثبت لَهُ حق الرَّد فَلَا بُد من ذكر البيع وَالتَّسْلِيم
ثمَّ من الْمَشَايِخ من قَالَ لَا يجب أَن يسْتَحْلف هَكَذَا لِأَنَّهُ يبطل حق المُشْتَرِي فِي الرَّد فِي بعض الْأَحْوَال لِأَنَّهُ يكون للْمُشْتَرِي حق الرَّد بِعَيْب حَادث بعد البيع قبل الْقَبْض فَمَتَى حلف على هَذَا الْوَجْه لم يَحْنَث إِذا حدث الْعَيْب قبل الْقَبْض لِأَن شَرط الْحِنْث وجود الْعَيْب عِنْد البيع وَالْقَبْض جَمِيعًا وَلَكِن الِاحْتِيَاط للْمُشْتَرِي أَن يحلف البَائِع بِاللَّه وَمَا للْمُشْتَرِي رد السّلْعَة بِهَذَا الْعَيْب الَّذِي يَدعِي وَقيل يحلف بِاللَّه لقد سلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب الَّذِي يَدعِي
وَمِنْهُم من قَالَ بِأَن مَا ذكر مُحَمَّد صَحِيح مَعَ إِضْمَار زِيَادَة فِي كَلَامه فَيحلف البَائِع بِاللَّه لقد بِعته وسلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب لَا عِنْد البيع وَلَا عِنْد التَّسْلِيم إِلَّا أَن مُحَمَّدًا اختصر كَلَامه والاختصار ثَابت فِي اللُّغَة فَيحمل كَلَامه عَلَيْهِ
وَأما إِذا كَانَ الْعَيْب بَاطِنا لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص من النَّاس كالأطباء والنخاسين فَإِنَّهُ يعرف ذَلِك مِمَّن لَهُ بصارة فِي ذَلِك الْبَاب فَإِن اجْتمع

(2/97)


على ذَلِك الْعَيْب رجلَانِ مسلمان أَو قَالَ ذَلِك رجل مُسلم عدل فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَيثبت الْعَيْب فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة ثمَّ بعد هَذَا يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل حدث عنْدك الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن أنكر يُقيم المُشْتَرِي الْبَيِّنَة فَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة اسْتحْلف البَائِع على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَإِن حلف لم يرد عَلَيْهِ وَإِن نكل قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء
وَإِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء فَإِنَّهُ يرجع إِلَى قَول النِّسَاء فترى امْرَأَة مسلمة عدلة والثنتان أحوط
فَإِذا شهِدت على الْعَيْب فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ وَكَذَا عَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة فرق أَبُو يُوسُف بَين مَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي فَقَالَ إِن كَانَ فِي يَد البَائِع رد الْمَبِيع بشهادتها لِأَن مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال فَقَوْل الْمَرْأَة الْوَاحِدَة بِمَنْزِلَة الْبَيِّنَة فَيثبت الْعَيْب بقولِهَا وَالْعَيْب الْمَوْجُود عِنْد البَائِع يفْسخ بِهِ البيع
وَإِن كَانَ بعد الْقَبْض أقبل قَوْلهَا فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة وَلَا أقبل فِي حق الرَّد على البَائِع لِأَن الْمَبِيع وجد معيبا فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَلَا أنقل الضَّمَان إِلَى البَائِع بقول النِّسَاء وَلَكِن أثبت حق الْخُصُومَة ليثبت الِاسْتِحْقَاق
وَفِي رِوَايَة قَالَ إِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يحدث مثله يفْسخ بقولهن لِأَن الْعَيْب قد ثَبت بشهادتهن وَقد علمنَا كَون الْعَيْب عِنْد البَائِع بِيَقِين فَيثبت حق الْفَسْخ وَإِن كَانَ عَيْبا يحدث مثله لم يثبت حق الْفَسْخ بقولهن لِأَن هَذَا مِمَّا يعلم من جِهَة غَيْرهنَّ
وَأما عَن مُحَمَّد فَفِي رِوَايَة قَالَ لَا يفْسخ بقولهن بِحَال وَفِي رِوَايَة يفْسخ قبل الْقَبْض وَبعده بقولهن لِأَن قَوْلهَا فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ

(2/98)


الرِّجَال كالبينة كَمَا فِي النّسَب
وَأما الْعَيْب الَّذِي لَيْسَ بمشاهد عِنْد الْخُصُومَة وَلَا يعرف بقول النَّاس كالإباق وَالْجُنُون وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل على الْفراش فقد ذكرنَا أَنه لَا بُد من ثُبُوت الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي وَعند البَائِع عِنْد اتِّحَاد الْحَالة إِلَّا فِي الْجُنُون إِن اتِّحَاد الْحَال لَيْسَ بِشَرْط فِي الْجُنُون
فَإِن أَقَامَ المُشْتَرِي الْبَيِّنَة على حُدُوث الْعَيْب عِنْده فَإِنَّهُ يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل أبق عنْدك فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء وَإِن أنكر الْإِبَاق أصلا وَادّعى اخْتِلَاف الْحَالة يَقُول القَاضِي للْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَة فَإِن قَالَ نعم وَأقَام الْبَيِّنَة على مَا يدعى قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن قَالَ لَا يسْتَحْلف البَائِع بِاللَّه مَا أبق عنْدك قطّ مُنْذُ بلغ وَلَا جن عنْدك قطّ فَإِن حلف انْقَطَعت الْخُصُومَة بَينهمَا وَإِن نكل عَن الْيَمين قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ
وَإِن لم يجد المُشْتَرِي بَيِّنَة على إِثْبَات أصل الْعَيْب عِنْد نَفسه هَل يسْتَحْلف القَاضِي البَائِع على ذَلِك أم لَا لم يذكر فِي بُيُوع الأَصْل وَذكر فِي الْجَامِع وَقَالَ يستحلفه على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَلم يذكر قَول أبي حنيفَة فَمن الْمَشَايِخ من قَالَ يسْتَحْلف بِلَا خلاف وَمِنْهُم من قَالَ هَذِه الْمَسْأَلَة على الِاخْتِلَاف فَقَوْل أبي حنيفَة لَا يسْتَحْلف نَص عَلَيْهِ فِي كتاب التَّزْكِيَة على مَا يعرف فِي الْجَامِع وَالله أعلم
ثمَّ كَيفَ يسْتَحْلف قَالُوا يسْتَحْلف على الْعلم لِأَنَّهَا يَمِين على غير فعله بِاللَّه مَا يعلم أَن هَذَا الْعَيْب مَوْجُود فِي هَذَا العَبْد الْآن فَإِن نكل عَن الْيَمين ثَبت الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي فَيثبت لَهُ حق الْخُصُومَة وَإِن حلف بَرِيء

(2/99)


وَأما مَا يبطل حق الرَّد وَيمْنَع وجوب الْأَرْش وَمَا لَا يمْنَع فَنَقُول أصل الْبَاب أَن الرَّد بِالْعَيْبِ يمْتَنع بِأَسْبَاب مِنْهَا حُدُوث الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي عندنَا خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْمَبِيع خرج عَن ملكه معيبا بِعَيْب وَاحِد فَلَو رد يرد بعيبين وَشرط الرَّد أَن يرد على الْوَجْه الَّذِي أَخذ وَلم يُوجد
وَمِنْهَا الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة المتولدة من الْعين بعد الْقَبْض كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَة أَو المستفادة بِسَبَب الْعين كالأرض والعقر تمنع الرَّد بِالْعَيْبِ وَسَائِر أَسبَاب الْفَسْخ كالإقالة وَالرَّدّ بِخِيَار الرُّؤْيَة وَالشّرط فِي قَول عُلَمَائِنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا تمنع
وَأَجْمعُوا أَن الْكسْب أَو الْغلَّة الَّتِي تحدث بعد الْقَبْض لَا تمنع فسخ العقد
وَأَجْمعُوا أَن الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة قبل الْقَبْض لَا تمنع الْفَسْخ بل يفْسخ على الأَصْل والزوائد جَمِيعًا
فَأَما فِي الزَّوَائِد الْمُتَّصِلَة كالسمن وَالْجمال وَنَحْوهَا وَقد حدثت بعد الْقَبْض فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الرَّد بِالْعَيْبِ إِذا رَضِي المُشْتَرِي لكَونهَا تَابِعَة للْأَصْل حَقِيقَة وَقت الْفَسْخ فَإِذا انْفَسَخ العقد على الأَصْل يفْسخ فِيهَا تبعا
فَأَما إِذا أَبى المُشْتَرِي أَن يرد وَأَرَادَ الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب وَقَالَ البَائِع لَا أُعْطِيك نُقْصَان الْعَيْب وَلَكِن رد عَليّ الْمَبِيع حَتَّى أرد عَلَيْك الثّمن هَل للْبَائِع ذَلِك

(2/100)


على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَيْسَ لَهُ ذَلِك
وعَلى قَول مُحَمَّد لَهُ ذَلِك
وَهَذَا لِأَن الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة بعد الْقَبْض تمنع فسخ العقد على الأَصْل إِذا لم يُوجد الرضى مِمَّن لَهُ الْحق فِي الزِّيَادَة عِنْدهمَا وَعند مُحَمَّد لَا تمنع كَمَا فِي مَسْأَلَة الْمهْر إِذا ازْدَادَ زِيَادَة مُتَّصِلَة بعد الْقَبْض ثمَّ طَلقهَا الزَّوْج قبل الدُّخُول بهَا على مَا نذْكر فِي كتاب النِّكَاح
وَمِنْهَا تعذر الْفَسْخ بِأَسْبَاب مَانِعَة من الْفَسْخ على مَا عرف
وَمِنْهَا الرضى بِالْعَيْبِ صَرِيحًا أَو دلَالَة على مَا ذكرنَا فِي خِيَار الشَّرْط أَو وُصُول عوض الْفَائِت إِلَيْهِ حَقِيقَة أَو اعْتِبَارا وَكَانَ للْمُشْتَرِي حق الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب فِي الْمَوَاضِع الَّتِي امْتنع الرَّد إِلَّا إِذا وجد الرِّضَا صَرِيحًا أَو دلَالَة أَو وصل إِلَيْهِ الْعِوَض حَقِيقَة أَو اعْتِبَارا لِأَن ضَمَان النُّقْصَان بدل الْجُزْء الْفَائِت فَإِذا رَضِي بِالْعَيْبِ فقد رَضِي بِالْمَبِيعِ الْقَائِم بِجَمِيعِ الثّمن بِدُونِ الْجُزْء الْفَائِت فَلَا يجب شَيْء وَإِذا حصل الْعِوَض فَكَأَن الْجُزْء الْفَائِت صَار قَائِما معنى بِقِيَام خَلفه
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ المُشْتَرِي عاقدا لنَفسِهِ فَأَما إِذا كَانَ عاقدا لغيره فَإِن كَانَ مِمَّن يجوز أَن يلْزمه الْخُصُومَة كَالْوَكِيلِ وَالشَّرِيك وَالْمُضَارب والمأذون وَالْمكَاتب فالخصومة تلْزمهُ وَيرد عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِالْحجَّةِ لِأَنَّهَا من حُقُوق العقد وَحُقُوق العقد ترجع إِلَى الْعَاقِد إِذا كَانَ مِمَّن يلْزمه الْخُصُومَة كالعاقد لنَفسِهِ فَمَا قضى بِهِ على الْعَاقِد رَجَعَ بِهِ على من وَقع لَهُ العقد لكَونه قَائِما مقَامه إِلَّا الْمكَاتب والمأذون فَإِنَّهُمَا لَا يرجعان على الْمولى وَلَكِن الدّين يلْزم الْمكَاتب وَيُبَاع فِيهِ الْمَأْذُون لِأَنَّهُمَا يتصرفان لأنفسهما فَلَا يرجعان على غَيرهمَا

(2/101)


فَأَما القَاضِي وَالْإِمَام إِذا عقدا بِحكم الْولَايَة أَو أمينهما بأمرهما لم يلْزمهُم الْخُصُومَة وَلم يصيروا خصما فِي الْبَاب إِلَّا أَنه ينصب خصما يُخَاصم فِي ذَلِك فَمَا قضى بِهِ عَلَيْهِ رَجَعَ فِي مَال من وَقع التَّصَرُّف لَهُ وَإِن كَانَ التَّصَرُّف للْمُسلمين رَجَعَ فِي بَيت مَالهم
فَأَما الْعَاقِد إِن كَانَ صَبيا مَحْجُورا أَو عبدا مَحْجُورا بِإِذن إِنْسَان فِي بيع أَو شِرَاء فَلَا خُصُومَة عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَان وَإِنَّمَا الْخُصُومَة على من وكلهما فِي ذَلِك التَّصَرُّف لِأَن حكم العقد وَقع للْمُوكل والعاقد لَيْسَ من أهل لُزُوم الْعهْدَة فَيقوم مقَامه فِي مُبَاشرَة التَّصَرُّف لَا غير بِمَنْزِلَة الرَّسُول وَالْوَكِيل فِي النِّكَاح
وَأما الْبَرَاءَة عَن الْعُيُوب فَنَقُول جملَة هَذَا أَنه إِذا بَاعَ شَيْئا على أَن البَائِع برىء عَن كل عيب فَعم وَلم يخص شَيْئا من الْعُيُوب فَإِن البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز فِي قَول عُلَمَائِنَا حَتَّى لَو وجد المُشْتَرِي بِهِ عَيْبا فَأَرَادَ أَن يردهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك
وَقَالَ الشَّافِعِي الْبَرَاءَة عَن كل عيب لَا يَصح مَا لم يسم الْعَيْب فَيَقُول عَن عيب كَذَا
وَكَذَلِكَ على هَذَا الْخلاف والبراءة وَالصُّلْح عَن الدُّيُون المجهولة
وَإِذا لم يَصح الْبَرَاءَة عَن كل عيب عِنْده هَل يفْسد العقد بِهِ أم لَا فَلهُ فِيهِ قَولَانِ فِي قَول يبطل العقد أَيْضا
وَفِي قَول يَصح العقد وَيبْطل الشَّرْط
وَقَالَ ابْن أبي ليلى مَا لم يعين الْعَيْب وَيَضَع يَده على الْعَيْب وَيَقُول أَبْرَأتك عَن هَذَا الْعَيْب فَإِنَّهُ لَا يَصح الْإِبْرَاء

(2/102)


ثمَّ إِذا صَحَّ هَذَا الشَّرْط عندنَا يبرأ عَن كل عيب من الْعُيُوب الظَّاهِرَة والباطنة لِأَن اسْم الْعَيْب يَقع على الْكل
فَأَما إِذا قَالَ أَبْرَأتك عَن كل دَاء رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على كل عيب ظَاهر دون الْبَاطِن
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة على عَكسه أَنه يَقع على كل عيب بَاطِن وَالْعَيْب الظَّاهِر يُسمى مَرضا
وَلَو أَبْرَأ البَائِع عَن كل غائلة رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على السّرقَة والإباق والفجور وَمَا كَانَ من فعل الْإِنْسَان مِمَّا يعد عَيْبا عِنْد التُّجَّار
ثمَّ اتّفق عُلَمَاؤُنَا على أَنه يدْخل تَحت الْبَرَاءَة الْمُطلقَة الْعَيْب الْمَوْجُود وَقت البيع
وَاخْتلفُوا فِي الْعَيْب الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض قَالَ أَبُو يُوسُف يدْخل تَحت الْبَرَاءَة حَتَّى لَا يملك المُشْتَرِي الرَّد بِالْعَيْبِ الْحَادِث
وَقَالَ مُحَمَّد لَا يدْخل حَتَّى يملك الرَّد بذلك الْعَيْب
وَهَذَا فرع مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي أَنه إِذا بَاعَ بِشَرْط الْبَرَاءَة عَن كل عيب يحدث بعد البيع قبل الْقَبْض هَل يَصح هَذَا الشَّرْط أم لَا عِنْد أبي يُوسُف يَصح
وَعند مُحَمَّد لَا يَصح
فَلَمَّا صحت الْبَرَاءَة عَن الْعَيْب الْحَادِث حَالَة التَّنْصِيص فَكَذَا فِي حَالَة الْإِطْلَاق عَن كل عيب فَيدْخل تَحْتَهُ الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض فَلَمَّا كَانَت الْبَرَاءَة عَن الْعَيْب الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض لَا تصح عِنْد مُحَمَّد حَالَة التَّنْصِيص فحالة الْإِطْلَاق أولى

(2/103)


ثمَّ مَا ذكرنَا من الْجَواب فِيمَا إِذا قَالَ أَبْرَأتك عَن كل عيب مُطلقًا
فَأَما إِذا قَالَ أبيعك على أَنِّي بَرِيء من كل عيب بِهِ لم يدْخل فِي ذَلِك الْعَيْب الْحَادِث فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَنَّهُ لم يعم الْبَرَاءَة وَإِنَّمَا خصها بالموجود الْقَائِم عِنْد العقد دون غَيره
وَلَو قَالَ على أَنِّي بَرِيء من كل عيب كَذَا وسمى ضربا من الْعُيُوب أَو ضَرْبَيْنِ لم يبرأ من غير ذَلِك النَّوْع مثل أَن يبرأ من القروح أَو الكي وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ أسقط الْحق من نوع خَاص
وَلَو كَانَت الْبَرَاءَة عَامَّة فاختلفا فِي عيب فَقَالَ البَائِع كَانَ بِهِ يَوْم العقد وَقَالَ المُشْتَرِي بل حدث قبل الْقَبْض فَالْقَوْل قَول البَائِع عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لِأَن الْبَرَاءَة عَامَّة فَإِذا ادّعى المُشْتَرِي حُدُوث عيب فيريد إبِْطَال الْعُمُوم فَلَا يبطل قَوْله إِلَّا بِبَيِّنَة
وَقَالَ زفر وَالْحسن القَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن الأَصْل هُوَ ثُبُوت الْحق وَالْمُشْتَرِي هُوَ المبرىء فَيكون القَوْل قَوْله فِي مِقْدَار الْبَرَاءَة
وَلَو كَانَت الْبَرَاءَة من عيب خَاص سَمَّاهُ المُشْتَرِي ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَ البَائِع كَانَ بهَا وَقَالَ المُشْتَرِي حدث قبل الْقَبْض فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي عِنْد مُحَمَّد وَلم يثبت عَن أبي يُوسُف قَول لِأَن هَذِه الْبَرَاءَة خَاصَّة فَالْقَوْل فِيهَا قَول المُشْتَرِي كَمَا فِي الْبَرَاءَة عَن دين خَاص

(2/104)


بَاب الْإِقَالَة والمرابحة
وَغير ذَلِك فِي الْبَاب فُصُول بَيَان الْمُرَابَحَة وَبَيَان الْإِقَالَة وَبَيَان حكم الِاسْتِبْرَاء وَبَيَان جَوَاز التَّفْرِيق بَين ذَوي الرَّحِم الْمحرم وتحريمه فِي البيع
أما الأول فَنَقُول البيع فِي حق الْبَدَل يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام بيع المساومة وَهُوَ البيع بِأَيّ ثمن اتّفق وَهُوَ الْمُعْتَاد
وَالثَّانِي بيع الْمُرَابَحَة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول وَزِيَادَة ربح
وَالثَّالِث بيع التَّوْلِيَة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان
وَالرَّابِع الْإِشْرَاك وَهُوَ بيع التَّوْلِيَة فِي بعض الْمَبِيع من النّصْف وَالثلث وَغير ذَلِك
وَالْخَامِس بيع الوضيعة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول مَعَ نُقْصَان شَيْء مِنْهُ

(2/105)


ثمَّ الأَصْل فِي بيع الْمُرَابَحَة أَنه مَبْنِيّ على الْأَمَانَة فَإِنَّهُ بيع بِالثّمن الأول بقول البَائِع من غير بَيِّنَة وَلَا استحلاف فَيجب صيانته عَن حَقِيقَة الْخِيَانَة وَشبههَا فَإِذا ظَهرت الْخِيَانَة يجب رده كالشاهد يجب قبُول قَوْله فَإِذا ظَهرت الْخِيَانَة يرد قَوْله كَذَا هَذَا
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا بَاعَ شَيْئا مُرَابحَة على الثّمن الأول فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الثّمن من ذَوَات الْأَمْثَال كالدراهم وَالدَّنَانِير والمكيل وَالْمَوْزُون والمعدود المتقارب أَو يكون من الْأَعْدَاد المتفاوتة مثل العبيد والدور وَالثيَاب وَالرُّمَّان والبطاطيخ وَنَحْوهَا
أما إِذا كَانَ الثّمن الأول مثلِيا فَبَاعَهُ مُرَابحَة على الثّمن الأول وَزِيَادَة ربح فَيجوز سَوَاء كَانَ الرِّبْح من جنس الثّمن الأول أَو لم يكن بعد أَن يكون شَيْئا مُقَدرا مَعْلُوما نَحْو الدِّرْهَم والخمسة وثوب مشار إِلَيْهِ أَو دِينَار لِأَن الثّمن الأول مَعْلُوم وَالرِّبْح مَعْلُوم
فَأَما إِذا كَانَ الثّمن الأول لَا مثل لَهُ فَإِن أَرَادَ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة عَلَيْهِ فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة مِمَّن كَانَ الْعرض فِي يَده وَملكه أَو من غَيره
فَإِن بَاعه مِمَّن لَيْسَ فِي ملكه وَيَده لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة بذلك الْعرض أَو بِقِيمَتِه وَلَا وَجه للْأولِ لِأَن الْعرض لَيْسَ فِي ملك من يَبِيعهُ مِنْهُ وَلَا وَجه أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة بِقِيمَتِه لِأَن الْقيمَة تعرف بالحزر وَالظَّن فيتمكن فِيهِ شُبْهَة الْخِيَانَة
وَأما إِذا أَرَادَ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة مِمَّن كَانَ الْعرض فِي يَده وَملكه فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن قَالَ أبيعك مُرَابحَة بِالثَّوْبِ الَّذِي فِي يدك وبربح عشرَة

(2/106)


دَرَاهِم جَازَ لِأَنَّهُ جعل الرِّبْح على الثَّوْب عشرَة دَرَاهِم وَهِي مَعْلُومَة
وَإِن قَالَ أبيعك بذلك الثَّوْب بِرِبْح ده يازده فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن تَسْمِيَة ربح ده يازده أَو أحد عشر يَقْتَضِي أَن يكون الرِّبْح من جنس رَأس المَال لِأَنَّهُ لَا يكون أحد عشر إِلَّا وَأَن يكون الْحَادِي عشر من جنس الْعشْرَة فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ بِالثّمن الأول وَهُوَ الثَّوْب وبجزء من جنس الأول وَالثَّوْب لَا مثل لَهُ من جنسه
ثمَّ فِي بيع الْمُرَابَحَة يعْتَبر رَأس المَال وَهُوَ الثّمن الأول أَي مَا ملك الْمَبِيع بِهِ وَوَجَب بِالْعقدِ دون مَا نَقده بَدَلا عَن الأول بَيَانه إِذا اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم ثمَّ أعْطى عَنْهَا دِينَارا أَو ثوبا قِيمَته عشرَة دَرَاهِم أَو أقل أَو أَكثر فَإِن رَأس المَال هُوَ الْعشْرَة الْمُسَمَّاة فِي العقد دون الدِّينَار وَالثَّوْب لِأَن هَذَا يجب بِعقد آخر وَهُوَ الِاسْتِبْدَال
وَكَذَلِكَ من اشْترى ثوبا بِعشْرَة وَهِي خلاف نقد الْبَلَد ثمَّ قَالَ لآخر أبيعك هَذَا الثَّوْب بِرِبْح دِرْهَم لزمَه عشرَة مثل الَّتِي وَجَبت بِالْعقدِ
وَإِن كَانَ يُخَالف نقد الْبَلَد وَالرِّبْح يكون من نقد الْبَلَد لِأَنَّهُ أطلق الرِّبْح فَيَقَع على نقد الْبَلَد
وَلَو نسب الرِّبْح إِلَى رَأس المَال فَقَالَ أبيعك بِرِبْح الْعشْرَة أَو ده يَا زده أَو بِرِبْح أحد عشر فَالرِّبْح من جنس الثّمن الأول لِأَنَّهُ جعله جُزْءا مِنْهُ فَكَانَ على صفته
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم جِيَاد ثمَّ إِنَّه دفع إِلَى البَائِع عشرَة دَرَاهِم بَعْضهَا جِيَاد وَبَعضهَا زيوف وَتجوز بذلك البَائِع ثمَّ أَرَادَ أَن

(2/107)


يَبِيعهُ مُرَابحَة جَازَ لَهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة الْجِيَاد من غير بَيَان لِأَن الْمُسَمّى الْمَضْمُون بِالْعقدِ هُوَ الْجِيَاد لَكِن جعل الرَّديئَة بَدَلا عَن الأول بِعقد آخر
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة نَسِيئَة فَبَاعَهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة وَبَين أَنه اشْتَرَاهُ بهَا نَسِيئَة لَا يكره لِأَنَّهُ لم يُوجد الْخِيَانَة حَيْثُ أعلم المُشْتَرِي بذلك وَرَضي بِهِ فَأَما إِذا بَاعَ مُرَابحَة على الْعشْرَة من غير بَيَان النَّسِيئَة فَإِنَّهُ يكره وَالْبيع جَائِز وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار إِذا علم لِأَنَّهُ وجد الْغرُور والخيانة لِأَن المُشْتَرِي إِنَّمَا اشْتَرَاهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة على تَقْدِير أَن الثّمن فِي البيع الأول عشرَة بطرِيق النَّقْد وَيخْتَلف ثمن الْمَبِيع بَين النَّسِيئَة والنقد فَيثبت لَهُ الْخِيَار كَمَا لَو اشْترى برقمه ثمَّ علم فِي الْمجْلس يثبت لَهُ الْخِيَار كَذَا هَذَا بِخِلَاف مَا إِذا بَاعه مساومة بِأَكْثَرَ من قِيمَته ثمَّ علم المُشْتَرِي بِأَنَّهُ اشْترى بِأَقَلّ من ذَلِك لَا يكون لَهُ الْخِيَار لِأَن المُشْتَرِي لم يصر مغرورا من جِهَته
وَلَو قَالَ إِن قِيمَته كَذَا وَهُوَ أَكثر من قِيمَته وَالْمُشْتَرِي لَا يعرف قيمَة الْأَشْيَاء وَاشْتَرَاهُ بِنَاء على قَول البَائِع فَإِنَّهُ يكون لَهُ الْخِيَار لِأَنَّهُ يصير غارا أما إِذا كَانَ عَالما بِالْقيمَةِ وَاشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ من ذَلِك لغَرَض لَهُ فِي ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ وأصحابنا يفتون فِي المغبون أَنه لَا يرد وَلَكِن هَذَا فِي مغبون لم يغر أما فِي مغبون غر فَيكون لَهُ حق الرَّد اسْتِدْلَالا بِمَسْأَلَة الْمُرَابَحَة فِي النَّسِيئَة
وَلَو اشْترى بدين لَهُ على رجل فَلهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة من غير بَيَان لِأَنَّهُ اشْترى بِثمن فِي ذمَّته لِأَن الدّين لَا يتَعَيَّن ثمنا
وَإِن أَخذ ثوبا صَالحا من دين لَهُ على رجل لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة على ذَلِك الدّين لِأَن مبْنى الصُّلْح على الْحَط

(2/108)


وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة ثمَّ رقمه بِأَكْثَرَ من الثّمن وَهُوَ قِيمَته فَإِن كَانَ قِيمَته أَكثر من ذَلِك ثمَّ بَاعه مُرَابحَة على الرقم جَازَ وَلَا يكون خِيَانَة لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَبِيع من غير خِيَانَة حَيْثُ ذكر الرقم وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ عِنْد البَائِع أَن المُشْتَرِي يعلم أَن الرقم غير وَالثمن غير وَأما إِذا كَانَ عِنْده أَن المُشْتَرِي يعلم أَن الرقم وَالثمن سَوَاء فَإِنَّهُ يكون خِيَانَة وَله الْخِيَار
وَكَذَا لَو ملك شَيْئا بِالْمِيرَاثِ أَو الْهِبَة فقومه رجل عدل بِقِيمَة عدل ثمَّ بَاعه مُرَابحَة على قِيمَته وَهِي كَذَا لَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ صَادِق فِي مقَالَته
وَلَو اشْترى شَيْئا بِعشْرَة دَرَاهِم فَقَالَ لرجل آخر اشْتريت هَذَا بِاثْنَيْ عشر وأبيعك مُرَابحَة بِرِبْح دِرْهَم ثمَّ ظهر أَن الثّمن الأول كَانَ عشرَة إِمَّا بِإِقْرَار البَائِع أَو بِالْبَيِّنَةِ قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا لَا يحط قدر الْخِيَانَة من الثّمن وَلَكِن يتَخَيَّر المُشْتَرِي إِن شَاءَ فسخ البيع وَإِن شَاءَ رَضِي ربه بِجَمِيعِ الثّمن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف بِأَنَّهُ يحط قدر الْخِيَانَة وحصته من الرِّبْح وَيكون العقد لَازِما بِالْبَاقِي من الثّمن فيحط عَنهُ دِرْهَمَانِ وحصتهما من الرِّبْح وَذَلِكَ سدس دِرْهَم
هَذَا فِي بيع الْمُرَابَحَة
فَأَما إِذا خَان فِي بيع التَّوْلِيَة فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف يحط قدر الْخِيَانَة وَيلْزم البيع بِالثّمن الْبَاقِي بِلَا خِيَار
وَقَالَ مُحَمَّد بِأَنَّهُ لَا يحط قدر الْخِيَانَة لَكِن يتَخَيَّر المُشْتَرِي مَا دَامَ الْمَبِيع قَائِما فَإِذا هلك سقط خِيَاره

(2/109)


فَأَبُو يُوسُف سوى بَين التَّوْلِيَة والمرابحة وَقَالَ يحط قدر الْخِيَانَة فيهمَا وَيلْزم العقد بِالْبَاقِي فيهمَا
وَمُحَمّد سوى بَينهمَا وَقَالَ لَا يحط قدر الْخِيَانَة فيهمَا وَيثبت لَهُ الْخِيَار
وَأَبُو حنيفَة فرق فَقَالَ يحط قدر الْخِيَانَة فِي التَّوْلِيَة وَلَا يحط فِي الْمُرَابَحَة
ثمَّ الأَصْل أَن كل نَفَقَة ومؤونة حصلت فِي السّلْعَة وأوجبت زِيَادَة فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ إِمَّا من حَيْثُ الْعين أَو من حَيْثُ الْقيمَة وَكَانَ ذَلِك مُعْتَادا إِلْحَاقًا بِرَأْس المَال عِنْد التِّجَارَة فَإِنَّهُ يلْحق بِرَأْس المَال كَأُجْرَة القصارة والخياطة والكراء وَطَعَام الرَّقِيق وكسوتهم وعلف الدَّوَابّ وثيابهم وَنَحْو ذَلِك فبيعه مُرَابحَة عَلَيْهِ وَلَا يَقُول عِنْد البيع إِن ثمنه كَذَا وَلَكِن يَقُول يقوم عَليّ بِكَذَا فأبيعك على هَذَا مَعَ ربح كَذَا حَتَّى لَا يكون كَاذِبًا فِي كَلَامه
أما أُجْرَة تَعْلِيم الْقُرْآن وَالْأَدب وَالشعر والحرف فَإِنَّهَا لَا تلْحق بِرَأْس المَال وَإِن أوجبت زِيَادَة فِي الْقيمَة لِأَنَّهَا لَيست بمتعارفة عِنْد التُّجَّار
وَكَذَا أُجْرَة الطَّبِيب وَثمن الدَّوَاء وَأُجْرَة الفصاد والحجام وَأُجْرَة الْخِتَان والبزاغ وَأُجْرَة الرائض والراعي وَجعل الْآبِق لِأَن عَادَة التُّجَّار هَكَذَا
وَأما أُجْرَة السمسار فَفِي ظَاهر الرِّوَايَة يلْحق بِرَأْس المَال وَفِي البرامكة قَالَ لَا يلْحق
وَأما الْإِقَالَة فمشروعة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أقَال نَادِما بيعَته أقَال الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة
ثمَّ اخْتلفُوا فِيهَا قَالَ أَبُو حنيفَة هِيَ فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين بيع جَدِيد فِي حق

(2/110)


الثَّالِث حَتَّى إِن من اشْترى دَارا وَلها شَفِيع فَسلم الشُّفْعَة ثمَّ أقالا البيع فِيهَا فَإِنَّهُ يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة ثَانِيًا لِأَنَّهَا عقد جَدِيد فِي حق الشَّفِيع
وَقَالَ مُحَمَّد الْإِقَالَة فسخ إِلَّا إِذا كَانَ لَا يُمكن أَن تجْعَل فسخا فتجعل بيعا جَدِيدا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف هِيَ بيع جَدِيد مَا أمكن فَإِن لم يُمكن تجْعَل فسخا بِأَن كَانَت الْإِقَالَة قبل قبض الْمَبِيع وَهُوَ مَنْقُول فَإِنَّهَا تجْعَل فسخا لِأَن بيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض لَا يجوز حَتَّى إِذا كَانَ الْمَبِيع دَارا وأقالا قبل الْقَبْض يكون بيعا لِأَن بيع الْعقار الْمَبِيع قبل الْقَبْض جَائِز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله
وَقَالَ زفر هِيَ فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين وَغَيرهمَا حَتَّى لَا يَقُول بِثُبُوت الشُّفْعَة كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة
ويبنى على هَذَا أَنَّهُمَا إِذا تقابلا بِأَكْثَرَ من الثّمن الأول أَو بِأَقَلّ أَو بِجِنْس آخر أَو أجل الثّمن فِي الْإِقَالَة فعلى قَول أبي حنيفَة تصح الْإِقَالَة بِالثّمن الأول وَيبْطل مَا شرطاه لِأَنَّهَا فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين وَالْفَسْخ يكون بِالثّمن الأول وَيبْطل الشَّرْط الْفَاسِد
وَهُوَ قَول زفر لِأَنَّهَا فسخ مَحْض فِي حق النَّاس كَافَّة
وعَلى قَول الشَّافِعِي الْإِقَالَة بَاطِلَة هَهُنَا لِأَنَّهُمَا أدخلا فِيهَا شرطا فَاسِدا فَهِيَ كَالْبيع
وَقَالَ مُحَمَّد إِن كَانَت الْإِقَالَة بِغَيْر الثّمن الأول أَو بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَهِيَ بيع
وَإِن كَانَت بِمثل الثّمن الأول أَو أقل فَهِيَ فسخ بِالثّمن وَيبْطل شَرط النُّقْصَان وَكَذَلِكَ إِن أجل يبطل الْأَجَل

(2/111)


وعَلى قَول أبي يُوسُف يَصح بِمَا ذكرا من الثّمن وشرطا بِهِ من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَالْأَجَل لِأَنَّهَا بيع جَدِيد مَا أمكن وَهُوَ مُمكن
وَأما بَيَان حكم الِاسْتِبْرَاء فَنَقُول الِاسْتِبْرَاء مَشْرُوع
وَهُوَ نَوْعَانِ مَنْدُوب وواجب
فالاستبراء الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُوَ أَن الرجل إِذا وطىء جَارِيَته ثمَّ أَرَادَ بيعهَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يَسْتَبْرِئهَا بِحَيْضَة ثمَّ يَبِيعهَا عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ مَالك وَاجِب لِأَن احْتِمَال الْعلُوق مِنْهُ قَائِم فَيجب عَلَيْهِ صِيَانة مَائه عَن الضّيَاع
وَلَكِن عندنَا لَا يجب لِأَن سَبَب الْوُجُوب لم يُوجد على مَا نذْكر
وَأما الِاسْتِبْرَاء الْوَاجِب فَهُوَ الِاسْتِبْرَاء على من يحدث لَهُ ملك الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين بِأَيّ سَبَب كَانَ من السَّبي وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَالْوَصِيَّة وَالْمِيرَاث وَنَحْوهَا
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس أَلا لَا تُوطأ الحبالى حَتَّى يَضعن حَملهنَّ وَلَا الحيالى حَتَّى يستبرئن بِحَيْضَة أوجب الِاسْتِبْرَاء على السابي والسبي سَبَب حُدُوث ملك الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين فَيكون نصا فِي كل مَا هُوَ سَبَب حل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين دلَالَة

(2/112)


ثمَّ مِقْدَار مُدَّة الِاسْتِبْرَاء هِيَ فِي الْحَيْضَة حق ذَوَات الْأَقْرَاء وَفِي حق ذَوَات الْأَشْهر شهر وَاحِد
لِأَن الِاسْتِبْرَاء إِنَّمَا يجب صِيَانة للْمَاء كي لَا يخْتَلط مَاؤُهُ بِمَاء غَيره فَلَا بُد لَهُ من الْمدَّة وَأَقل الْمدَّة هَذَا
وَإِن كَانَت الْجَارِيَة ممتدة الطُّهْر بِأَن كَانَت شَابة لَا تحيض فَإِن استبراءها لَا يكون بِشَهْر وَاحِد كَمَا فِي الآيسة وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة استبرائها حَتَّى يُبَاح للْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا عِنْد مضيها قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا يَطَأهَا حَتَّى يمْضِي عَلَيْهَا مُدَّة لَو كَانَت حَامِلا لظهر آثَار الْحمل من انتفاخ الْبَطن وَغَيره وَذَلِكَ ثَلَاثَة أشهر وَمَا زَاد عَلَيْهِ
وَقَالَ مُحَمَّد أَولا بِأَنَّهُ لَا يَطَأهَا حَتَّى يمْضِي عَلَيْهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ شَهْرَان وَخَمْسَة أَيَّام
وَقَالَ زفر لَا يَطَأهَا حَتَّى تمْضِي سنتَانِ
ثمَّ مَا لم تمض مُدَّة الِاسْتِبْرَاء لَا يحل للْمَالِك أَن يَطَأهَا وَأَن يقبلهَا ويمسها لشَهْوَة وَأَن ينظر إِلَى عورتها بِالنَّصِّ الَّذِي روينَا
وبالمعنى الَّذِي ذكرنَا من صِيَانة المَاء وَسَوَاء وَطئهَا أَو لَا أَو كَانَ بَائِعهَا مِمَّن لَا يَطَؤُهَا كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ لِأَن احْتِمَال الْوَطْء من غَيره قَائِم
ثمَّ إِنَّمَا يعْتَبر الِاسْتِبْرَاء بعد الْقَبْض حَتَّى لَو مَضَت مُدَّة الِاسْتِبْرَاء بعد البيع قبل الْقَبْض ثمَّ قبضهَا يجب الِاسْتِبْرَاء
هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أَصْحَابنَا جَمِيعًا
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يجْزِيه الِاسْتِبْرَاء قبل الْقَبْض
وَلَو اشْترى جَارِيَة حَامِلا فَوضعت الْحمل بعد الْقَبْض يُبَاح الْوَطْء لِأَن وضع الْحمل كَونه دَلِيلا على بَرَاءَة الرَّحِم فَوق الْقُرْء

(2/113)


وَإِن كَانَ الْوَضع قبل الْقَبْض فَلَا عِبْرَة لما ذكرنَا أَنه إِنَّمَا يجب سَبَب حُدُوث حل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين وَإِنَّمَا يحل الْوَطْء بعد الْقَبْض فَلَا يجب قبل وجود سَبَب الْوُجُوب
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى جَارِيَة لَهَا زوج وَقَبضهَا وَطَلقهَا زَوجهَا قبل الدُّخُول بهَا فَلَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهِ لِأَن السَّبَب غير مُوجب الِاسْتِبْرَاء عِنْد الْقَبْض بِسَبَب كَونهَا حَلَالا لزوج فَلَا يجب بعد ذَلِك
وعَلى هَذَا إِذا اشْتَرَاهَا وَهِي مُعْتَدَّة من زوج فانقضت عدتهَا بعد الْقَبْض لِأَنَّهَا لَا تجب حَال وجود السَّبَب لمَانع فَلَا يجب بعد ذَلِك
وَلَو انْقَضتْ الْعدة قبل الْقَبْض يجب الِاسْتِبْرَاء بعد الْقَبْض لما قُلْنَا
وَلَو حرم فرج الْأمة على مَوْلَاهَا على وَجه لَا يخرج عَن ملكه لمَانع بَعْدَمَا كَانَ حَلَالا واستبرأها بعد الْقَبْض ثمَّ زَالَ ذَلِك الْمَانِع بعد الشِّرَاء حل الْوَطْء وَلَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهِ كَمَا إِذا كاتبها فتعجز أَو زَوجهَا فيطلقها الزَّوْج قبل الدُّخُول أَو ترتد عَن الْإِسْلَام ثمَّ تسلم أَو أَحرمت بِالْحَجِّ بِإِذن سَيِّدهَا ثمَّ حلت لِأَن هَذَا تَحْرِيم عَارض مَعَ بَقَاء الْملك الْمُبِيح فَلَا يمْنَع صِحَة الِاسْتِبْرَاء فَصَارَ كَمَا لَو حَاضَت ثمَّ طهرت
وَلَو اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو مسلمة فكاتبها قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا أَو اشْترى جَارِيَة مُحرمَة فَحَاضَت فِي حَال كتَابَتهَا ومجوسيتها وَحَال إحرامها بعد الْقَبْض ثمَّ عجزت الْمُكَاتبَة وَأسْلمت الْمَجُوسِيَّة وحلت الْمُحرمَة عَن الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يجتزىء تِلْكَ الْحَيْضَة من الِاسْتِبْرَاء لِأَنَّهَا وجدت بعد وجود سَبَب الِاسْتِبْرَاء وَهُوَ حُدُوث ملك الْيَمين الْمُوجب لملك الِاسْتِمْتَاع إِلَّا أَنه لَا يحل الِاسْتِيفَاء لمَانع وَهَذَا لَا يمْنَع من الِاعْتِدَاد كالحيض بِخِلَاف مَا إِذا اشْترى جَارِيَة بيعا فَاسِدا وَقَبضهَا ثمَّ حَاضَت حَيْضَة ثمَّ اشْتَرَاهَا بعد ذَلِك شِرَاء صَحِيحا حَيْثُ لَا يعْتد

(2/114)


بِتِلْكَ الْحَيْضَة عَن الِاسْتِبْرَاء لِأَن الشِّرَاء الْفَاسِد لَا يُوجب ملك الِاسْتِمْتَاع وَإِن اتَّصل بِهِ الْقَبْض
وَأما التَّفْرِيق بَين الصَّغِير وَبَين ذَوي الْأَرْحَام المجتمعة فِي الْملك فَنَقُول لَا خلاف أَن التَّفْرِيق فِي الولاد مَكْرُوه كالتفريق بَين الْأَب وَابْنه وَنَحْو ذَلِك
وَأما فِيمَن سواهُم من ذَوي الرَّحِم الْمحرم كالإخوة وَالْأَخَوَات والأعمام والعمات والأخوال والخالات فَإِنَّهُ يكره التَّفْرِيق أَيْضا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من فرق بَين وَالِدَة وَوَلدهَا فرق الله بَينه وَبَين الْجنَّة وذوو الْأَرْحَام مُلْحقَة بالولاد فِي بَاب الْمُحرمَات احْتِيَاطًا لحُرْمَة النِّكَاح
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يلْحق ذُو الْأَرْحَام بالولاد كَمَا فِي الْعتْق وَالنَّفقَة
وَإِنَّمَا يُبَاح التَّفْرِيق بعد الْبلُوغ
وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا بلغ سبع سِنِين جَازَ التَّفْرِيق
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما روى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا يجمع عَلَيْهِم السَّبي والتفريق حَتَّى يبلغ الْغُلَام وتحيض الْجَارِيَة
ثمَّ مَتى فرق بَينهمَا بِالْبيعِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي البيع بَاطِل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ فِي الولاد البيع بَاطِل وَفِي غَيرهم جَائِز مَعَ الْكَرَاهَة

(2/115)


وَهَذَا بِنَاء على أَن النَّهْي عَن الْمَشْرُوع يَقْتَضِي بطلَان التَّصَرُّف عِنْد الشَّافِعِي وَعِنْدنَا بِخِلَافِهِ لَكِن هَذَا نهي لِمَعْنى فِي غَيره بِمَنْزِلَة البيع وَقت النداء
وَإِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير عدد من أقربائه من الرَّحِم الْمحرم فِي ملك وَاحِد فَعَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة بشر أَنه لَا يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُم اخْتلفت جِهَات قرابتهم كالعمة وَالْخَالَة أَو اتّفقت كالعمين والخالين والأخوين وَكَذَا لَا يفرق بَينه وَبَين الْأَبْعَد وَإِن وجد الْأَقْرَب حَتَّى إِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير أَبَوَاهُ وجداه لم يفرق بَينه وَبَين الجدين لِأَن لكل شخص شَفَقَة على حِدة
وَفِي رِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَنهُ أَنه يجوز التَّفْرِيق بَين الصَّغِير وَبَين الْأَبْعَد إِذا وجد من هُوَ أقرب مِنْهُ
وَذكر مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات إِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير أَبَوَاهُ لم يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُمَا وَجَاز أَن يفرق بَينه وَبَين من سواهُمَا مَعَهُمَا
وَإِذا اجْتمعت الْقرَابَات غير الْأَب وَالأُم فَإِن كَانَت من جِهَات مُخْتَلفَة كَأُمّ الْأَب وَأم الْأُم وَالْخَالَة والعمة لم يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُم
وَإِن كَانُوا من جِهَة وَاحِدَة كالإخوة أَو العمات أَو الخالات جَازَ بيعهم من غير كَرَاهَة إِلَّا بيع وَاحِد مِنْهُم
وَيجوز بيع الْبعيد إِذا وجد من هُوَ أقرب مِنْهُ لِأَن فِي الْجِنْس الْوَاحِد الشَّفَقَة من جنس وَاحِد فيكتفي بِوَاحِد
وَعند اخْتِلَاف الْجِهَات يخْتَلف الشَّفَقَة فَلِكُل نوع شَفَقَة تخَالف النَّوْع الآخر فَلَا بُد من اجْتِمَاع الْكل

(2/116)