تحفة الفقهاء

كتاب النِّكَاح
يحْتَاج إِلَى بَيَان صفة النِّكَاح الْمَشْرُوعَة وَإِلَى بَيَان تَفْسِير النِّكَاح لُغَة وَإِلَى تَفْسِيره فِي عرف الشَّرْع
أما الأول فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ قَالَ دَاوُد بن عَليّ الْأَصْفَهَانِي وَمن تَابعه من أَصْحَاب الظَّوَاهِر إِن النِّكَاح فرض عين حَتَّى إِن من تَركه مَعَ الْقُدْرَة على الْوَطْء والإنفاق فَإِنَّهُ يَأْثَم
وَقَالَ الشَّافِعِي إِنَّه مُبَاح
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فَقَالَ بَعضهم إِنَّه فرض كِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ
وَقَالَ بَعضهم إِنَّه مَنْدُوب ومستحب
وَقَالَ بَعضهم إِنَّه وَاجِب لَكِن بَعضهم قَالُوا يجب على سَبِيل

(2/117)


التَّعْيِين بِمَنْزِلَة الْوتر وَالْأُضْحِيَّة
وَقَالَ بَعضهم هُوَ وَاجِب على سَبِيل الْكِفَايَة
ويبتنى على هَذَا الْخلاف
مَسْأَلَة التخلي
فعندنا الِاشْتِغَال بِالنِّكَاحِ مَعَ أَدَاء الْفَرَائِض وَالسّنَن أولى من التخلي لنوافل الْعِبَادَة مَعَ ترك النِّكَاح خلافًا للشَّافِعِيّ وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما تَفْسِير النِّكَاح لُغَة فَهُوَ الْجمع الْمُطلق يُقَال أَنْكَحنَا الفرا فسنرى أَي جَمعنَا بَينهمَا
وَأما فِي الشَّرْع فعبارة عَن وجود ركن العقد مَعَ شُرُوطه
أما رُكْنه فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول من الزَّوْجَيْنِ وهما لفظان يعبر بهما عَن الْمَاضِي أَو يعبر بِأَحَدِهِمَا عَن الْمَاضِي وَالْآخر عَن الْمُسْتَقْبل وَفِي البيع لَا يَصح مَا لم يكن اللفظان يعبر بهما عَن الْمَاضِي على مَا ذكرنَا فِي الْبيُوع
ثمَّ لَا خلاف بَين الْعلمَاء بِأَن النِّكَاح ينْعَقد بِلَفْظ التَّزْوِيج وَالنِّكَاح
وَاخْتلفُوا فِيمَا سواهُمَا من الْأَلْفَاظ نَحْو لفظ البيع وَالْهِبَة وَالتَّمْلِيك وَنَحْوهَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا ينْعَقد إِلَّا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ

(2/118)


وَعند أَصْحَابنَا لَا ينْعَقد إِلَّا بِلَفْظ مَوْضُوع للتَّمْلِيك
ثمَّ اخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ عامتهم لَا ينْعَقد إِلَّا بِلَفْظ مَوْضُوع لتمليك الْأَعْيَان كَالْبيع وَالْهِبَة وَلَا ينْعَقد بِلَفْظ مَوْضُوع لتمليك الْمَنَافِع كَالْإِجَارَةِ والإعارة
وَقَالَ الْكَرْخِي ينْعَقد بِلَفْظ وضع للتَّمْلِيك مُطلقًا سَوَاء كَانَ لتمليك الْأَعْيَان أَو لتمليك الْمَنَافِع حَتَّى ينْعَقد بِلَفْظ الْإِجَارَة والإعارة عِنْده
وَأما لفظ الْوَصِيَّة فَإِن ذكر مُطلقًا بِأَن قَالَ أوصيتك بِابْنَتي هَذِه بِأَلف دِرْهَم لَا يَصح لِأَن الْوَصِيَّة تمْلِيك بعد الْمَوْت وَالنِّكَاح الْمُضَاف إِلَى وَقت لَا يجوز بِأَن قَالَت الْمَرْأَة زوجت نَفسِي مِنْك شهر رَمَضَان بِأَلف دِرْهَم
وَأما إِذا قَالَ أوصيتك بِابْنَتي هَذِه الْآن بِأَلف دِرْهَم أَو لم يذكر الْمهْر وَقبل الزَّوْج فَإِنَّهُ ينْعَقد النِّكَاح
وَأما بِلَفْظَة الْإِحْلَال والتحليل وَالْإِبَاحَة فَلَا ينْعَقد لِأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّمْلِيك
وَكَذَا بِلَفْظَة الْمُتْعَة بِأَن قَالَ الزَّوْج أتمتع بك بِكَذَا فرضيت أَو قَالَت نعم لَا ينْعَقد لِأَنَّهَا لم تُوضَع للتَّمْلِيك وَلِأَن الْمُتْعَة صَارَت مَنْسُوخَة وَهِي عبارَة عَن النِّكَاح الْمُؤَقت
وَكَذَا لَو قَالَ زَوجي نَفسك مني إِلَى شهر كَذَا فَقَالَت نعم زوجت لَا ينْعَقد النِّكَاح عندنَا
وَعند زفر ينْعَقد النِّكَاح وَيَلْغُو ذكر الْوَقْت
وَعِنْدنَا هُوَ تَفْسِير نِكَاح الْمُتْعَة وَإنَّهُ مَنْسُوخ
وَأما النِّكَاح الْمُضَاف إِلَى وَقت أَو الْمُعَلق بِشَرْط فَلَا يَصح بِالْإِجْمَاع بِأَن قَالَت زوجت نَفسِي مِنْك غَدا أَو شهر رَمَضَان الْآتِي أَو زوجت نَفسِي مِنْك إِن خلت الدارو فَقَالَ الزَّوْج قبلت

(2/119)


وَلَو قَالَ أتزوجك على أَن أطلقك إِلَى عشرَة أَيَّام فرضيت أَو قَالَت نعم أَو قَالَت زوجت نَفسِي مِنْك على هَذَا فَإِنَّهُ ينْعَقد النِّكَاح وَيبْطل الشَّرْط
هَذَا الَّذِي ذكرنَا هُوَ الحكم فِي الزَّوْجَيْنِ فَأَما إِذا كَانَ أحد الْعَاقِدين مَالِكًا وَالْآخر وليا أَو وَكيلا أَو رَسُولا فَكَذَلِك الْجَواب لِأَنَّهُ لَا بُد من وجود لفظين وَهُوَ الْإِيجَاب من أَحدهمَا وَالْقَبُول من الآخر
وَأما إِذا كَانَ الْوَاحِد وليا من الْجَانِبَيْنِ أَو وَكيلا أَو رَسُولا من الْجَانِبَيْنِ أَو وَكيلا من جَانب ووليا من جَانب فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِكَلَام وَاحِد بِأَن يَقُول زوجت فُلَانَة من فلَان بِكَذَا فَينْعَقد العقد وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يَقُول قبلت عَن فلَان لِأَن كَلَامه يقوم مقَام كلامين
وَهَذَا عندنَا وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ لَا يجوز أَن يكون الْوَاحِد فِي النِّكَاح عاقدا من الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي البيع لَا يجوز أَن يكون الْوَاحِد وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ
وَعِنْدنَا فِي البيع يجوز أَن ينْعَقد بِكَلَام وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ كَالْأَبِ وَالْوَصِيّ لَكِن فِي الْوَكِيل لَا يجوز على مَا عرف فِي الْبيُوع
وَأما شُرُوطه فأنواع مِنْهَا مَا يرجع إِلَى الْأَهْلِيَّة من وجود الْعقل وَالْبُلُوغ وَهُوَ شَرط عَام فِي تَنْفِيذ كل تصرف دائر بَين الضَّرَر والنفع
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة فَإِن العَبْد وَالْأمة إِذا تزوجا بِدُونِ إِذن الْمولى فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد النِّكَاح فِي حق الحكم على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أَيّمَا عبد تزوج بِغَيْر إِذن سَيّده فَهُوَ عاهر
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب

(2/120)


فَأَما إِذا أذن الْمولى فَهُوَ جَائِز
وَإِذا نفذ بِإِذن الْمولى يجب الْمهْر فِي رقبته وَكَسبه فِي الْقِنّ
وَفِي غَيره يكون فِي الْكسْب لَا فِي الرَّقَبَة إِلَّا فِي الْمكَاتب إِذا عجز فَيكون الْمهْر فِي رقبته وَكَسبه فإمَّا أَن يُبَاع فِيهِ أَو يُؤَدِّي الْمولى ويستخلص الرَّقَبَة لنَفسِهِ
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة محللة فَإِن الْمُحرمَة لَا تكون محلا لحكم النِّكَاح قَالَ الله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} إِلَى أَن قَالَ {الْأُخْت وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم}
ثمَّ تَحْرِيم النِّكَاح يتنوع إِلَى تِسْعَة أَنْوَاع تَحْرِيم بِسَبَب الْقَرَابَة وَتَحْرِيم بالصهرية وَتَحْرِيم بِالرّضَاعِ وَتَحْرِيم الْجمع وَتَحْرِيم تَقْدِيم الْأمة على الْحرَّة وَتَحْرِيم بِسَبَب حق الْغَيْر وَتَحْرِيم بِسَبَب الْملك وَتَحْرِيم بِسَبَب الشّرك وَتَحْرِيم بالطلقات الثَّلَاث
أما التَّحْرِيم بِسَبَب الْقَرَابَة فَنَقُول الْمُحرمَات بِالْقَرَابَةِ سبع فرق الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات والعمات والخالات وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت
وَيثبت فِي حق هَؤُلَاءِ حُرْمَة النِّكَاح وَحُرْمَة الْوَطْء ودواعيه بطرِيق التَّأْبِيد
عرفنَا ذَلِك بقوله {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم}
أما الْأُمَّهَات فَأم الرجل وجداته من قبل أَبِيه وَأمه وَإِن علون

(2/121)


وَأما الْبَنَات فبنت الرجل من صلبه وَبَنَات الابْن وَإِن سفلن
وَأما الْأَخَوَات فَثَلَاثَة أَنْوَاع الْأَخَوَات لأَب وَأم وَالْأَخَوَات لأَب وَالْأَخَوَات لأم
وَأما العمات فَثَلَاثَة أَنْوَاع عمَّة لأَب وَأم وعمة لأَب وعمة لأم
وَكَذَا عمات أَبِيه وعمات أجداده وعمات أمه وعمات جداته وَإِن سفلن
وَأما الخالات فخالة الرجل لأَب وَأم وخالته لأَب وخالته لأم وخالات آبَائِهِ وأمهاته
وَأما بَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت وَبَنَات بَنَات الْأَخ وَالْأُخْت وَبَنَات أَبنَاء الْأَخ وَبَنَات أَبنَاء الْأُخْت وَإِن سفلن
وَأما التَّحْرِيم بالصهرية فَنَقُول الْمُحرمَات بالصهرية أَربع فرق إِحْدَاهَا أم الزَّوْجَة وجداتها من قبل الْأَب وَالأُم وَإِن علون
ثمَّ أم الزَّوْجَة تحرم بِنَفس العقد على الْبِنْت وَلَا يشْتَرط الدُّخُول بالبنت حَتَّى إِن من تزوج امْرَأَة تحرم عَلَيْهِ أمهَا دخل بهَا أَو لم يدْخل وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء وَعَامة الصَّحَابَة
وَقَالَ مَالك وَدَاوُد الْأَصْفَهَانِي وَمُحَمّد بن شُجَاع وَبشر المريسي إِنَّهَا لَا تحرم بِنَفس العقد على الْبِنْت مَا لم يُوجد الدُّخُول بالبنت وحكوا هَذَا الْمَذْهَب عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ
وَالصَّحِيح قَول الْعَامَّة لقَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} من غير فصل
وَمِنْهَا بنت الْمَرْأَة لَكِن يشْتَرط الدُّخُول بِالْأُمِّ
وَلَا تحرم بِنَفس

(2/122)


العقد على الْأُم لقَوْله تَعَالَى {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} شَرط الدُّخُول بِالْأُمِّ لحُرْمَة الربيبة
وَكَذَا بَنَات بنت الْمَرْأَة وَبَنَات ابْنهَا أَيْضا
وَيَسْتَوِي الْجَواب بَين مَا إِذا كَانَت بنت الْمَرْأَة فِي حجر الزَّوْج أَو لَا خلافًا لبَعض النَّاس
وَمِنْهَا حَلِيلَة الابْن حرَام على أَبِيه
دخل بهَا الابْن أَو لَا
وَكَذَا حَلِيلَة ابْن الابْن وَابْن الْبِنْت
وَإِن سفلن لقَوْله تَعَالَى {فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن}
وَأما حَلِيلَة الابْن المتبنى فَلَا تحرم على الْأَب المتبني لقَوْله {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم}
وَمِنْهَا حَلِيلَة الْأَب وحليلة الأجداد من قبل الْأَب وَالأُم وَإِن علوا لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم}
ثمَّ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة تثبت بطرِيق التأييد بِسَبَب النِّكَاح الصَّحِيح دون الْفَاسِد
وَكَذَا تثبت بِالْوَطْءِ الْحَلَال بِملك الْيَمين وَكَذَا تثبت بِوَطْء عَن شُبْهَة
وَتثبت أَيْضا بِالنّظرِ إِلَى الْفرج عَن شَهْوَة دون النّظر إِلَى سَائِر الْأَعْضَاء وَتثبت باللمس عَن شَهْوَة فِي سَائِر الْأَعْضَاء وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا تثبت بالمس وَالنَّظَر
وَيَعْنِي بالمس عَن شَهْوَة أَن يَشْتَهِي بِقَلْبِه وَهُوَ أَمر لَا يقف عَلَيْهِ إِلَّا

(2/123)


اللامس والناظر فَيعرف بِإِقْرَارِهِ أما تَحْرِيك الْآلَة والانتشار فَلَيْسَ بِشَرْط وَهَذَا هُوَ الْأَصَح فَإِن اللَّمْس عَن شَهْوَة يتَحَقَّق من الْعنين وَلَا ينتشر وَكَذَا الْمَجْبُوب لَا آلَة لَهُ ويتحقق مِنْهُ الْمس وَالنَّظَر عَن شَهْوَة
ونعني بِالنّظرِ إِلَى الْفرج النّظر إِلَى عين الْفرج لَا إِلَى حواليه وَهُوَ الْأَصَح
وَكَذَا تثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة بِالزِّنَا والمس وَالنَّظَر إِلَى الْفرج بِدُونِ الْملك وشبهته عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة بِالزِّنَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما التَّحْرِيم بِسَبَب الرَّضَاع فَنَقُول كل من يحرم من الْفرق السَّبع بِسَبَب الْقَرَابَة يحرم بِسَبَب الرَّضَاع قَالَ الله تَعَالَى {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم من الرضَاعَة} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب
وَكَذَا كل من يحرم بالصهرية من الْفرق الْأَرْبَع بِالنّسَبِ يحرم بِالرّضَاعِ حَتَّى يحرم على الواطىء أم الْمَوْطُوءَة وبنتها من جِهَة الرَّضَاع
وَتحرم الْمَوْطُوءَة على أَب الواطىء وَابْنه من جِهَة الرَّضَاع وَيحرم مَوْطُوءَة أَب الرَّضَاع على ابْنه من الرَّضَاع وَيحرم مَوْطُوءَة ابْن الرَّضَاع على أَب الرَّضَاع لما روينَا من الحَدِيث
وَأما تَحْرِيم الْجمع فنوعان أَحدهمَا تَحْرِيم الْجمع بَين الأجنبيات
وَالثَّانِي تَحْرِيم الْجمع بَين ذَوَات الْأَرْحَام
وكل وَاحِد مِنْهُمَا على وَجْهَيْن الْجمع فِي النِّكَاح وَالثَّانِي الْجمع فِي الْوَطْء ودواعيه

(2/124)


أما تَحْرِيم الْجمع بَين الأجنبيات فِي النِّكَاح فَإِنَّهُ تَحْرِيم الْجمع بَين خمس نسْوَة فَصَاعِدا وَيُبَاح الْجمع بَين الْأَرْبَع وَمَا دونهَا وَهَذَا عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ بَعضهم يحل الْجمع بَين تسع نسْوَة
وَقَالَ بَعضهم يحل الْجمع بَين ثَمَانِي عشرَة
فَأَما الْجمع فِي ملك الْيَمين فحلال عقدا ووطئا وَإِن كثرن لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم}
وَأما تَحْرِيم الْجمع بَين ذَوَات الْأَرْحَام فنوعان أَيْضا الْجمع فِي عقد النِّكَاح وَالْجمع فِي الْوَطْء بِملك الْيَمين
أما الأول وَهُوَ تَحْرِيم الْجمع نِكَاحا فَنَقُول لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ نِكَاحا وَتَحْرِيم الْجمع بَين الْأُم وبنتها
فَأَما الْجمع بَين ذواتي رحم محرم نِكَاحا غير الْجمع فِي الولاد
وَغير الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ مِمَّا سواهُمَا
كالجمع بَين امْرَأتَيْنِ لَو كَانَت إِحْدَاهمَا ذكرا لَا يجوز نِكَاح الْأُخْرَى لَهُ من الْجَانِبَيْنِ أَيَّتهمَا كَانَت غير عين كالجمع بَين عمَّة الْمَرْأَة وَبَين بنت أَخِيهَا وَبَين خَالَة الْمَرْأَة وَبَين بنت أُخْتهَا وَنَحْو ذَلِك فَحَرَام عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ عُثْمَان البتي الْجمع فِيمَا سوى الْأُخْتَيْنِ من ذَوَات الْأَرْحَام لَيْسَ بِحرَام
وَإِذا ثَبت أَن الْجمع بَينهمَا نِكَاحا حرَام فَإِذا تزوج إِحْدَاهمَا قبل

(2/125)


الْأُخْرَى فنكاح الأولى جَائِز وَنِكَاح الثَّانِيَة بَاطِل وَلَو تزوجهما مَعًا بَطل نِكَاحهمَا لِأَن الْجمع حصل بهما فَيجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يعتزل عَن صَاحبه وَيتْرك النِّكَاح وَلَو علم القَاضِي بذلك يفرق بَينهمَا
وَإِن كَانَ قبل الدُّخُول فَلَا مهر لَهَا وَلَا عدَّة عَلَيْهَا وَإِن كَانَ بعد الدُّخُول يجب مهر الْمثل مُقَدرا بِالْمُسَمّى وَلَا يجب الْحَد وَإِن قَالَ الزَّوْج علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام وَلَا يَدعِي شُبْهَة الِاشْتِبَاه لِأَن شُبْهَة النِّكَاح قَائِم وَلَو وَطئهَا مرَارًا قبل التَّفْرِيق والمتاركة لَا يجب إِلَّا مهر وَاحِد لِأَن العقد الْفَاسِد مُنْعَقد من وَجه
وَلَو وَطئهَا بعد المتاركة مرّة أُخْرَى لَا يجب مهر آخر وَيجب الْحَد لِأَن هَذَا زنا
وَلَو تزوج أُخْت جَارِيَته الَّتِي وَطئهَا أَو أُخْت أم وَلَده جَازَ النِّكَاح وَلَكِن لَا يَطَأهَا مَا لم يحرم عَلَيْهِ وَطْء إِحْدَاهمَا بِأَن زوج أم وَلَده من إِنْسَان أَو زوج الْأمة أَو بَاعهَا لِأَنَّهُ لَا فرَاش للْأمة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وفراش أم الْوَلَد ضَعِيف يَنْتَفِي بِمُجَرَّد النَّفْي وَلَا يحْتَاج إِلَى اللّعان
فَأَما إِذا تزوج أُخْت امْرَأَة تَعْتَد مِنْهُ فَلَا يجوز عندنَا سَوَاء كَانَت مُطلقَة طَلَاقا رَجْعِيًا أَو بَائِنا أَو ثَلَاثًا أَو بالمحرمية الطارئة وَسَوَاء كَانَت الْعدة عَن النِّكَاح أَو عَن الْوَطْء بِالشُّبْهَةِ
وَقَالَ الشَّافِعِي يجوز إِلَّا فِي الطَّلَاق الرَّجْعِيّ لِأَن النِّكَاح قَائِم من وَجه عندنَا فِي حَالَة الْعدة وَالثَّابِت من وَجه فِي بَاب التَّحْرِيم كَالثَّابِتِ من كل وَجه
وَكَذَلِكَ لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج أَرْبعا أُخْرَى سواهَا عندنَا خلافًا لَهُ

(2/126)


وَأما إِذا تزوج أُخْت أم وَلَده وَهِي تَعْتَد مِنْهُ بِأَن أعْتقهَا وَوَجَبَت عَلَيْهَا الْعدة فَإِنَّهُ لَا يجوز وَيجوز أَن يتَزَوَّج أَرْبعا سواهَا وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا يجوز ذَلِك كُله
وَقَالَ زفر لَا يجوز ذَلِك كُله
وَأما الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي ملك الْيَمين فَجَائِز عندنَا خلافًا ل مَالك
وَأما الْجمع بَينهمَا وطئا فَلَا يجوز
لَكِن يطَأ إِحْدَاهمَا لَا غير
وَلَا يجمع بَينهمَا فِي الْمس عَن شَهْوَة وَالنَّظَر إِلَى الْفرج
وَإِن أَزَال الْمَوْطُوءَة عَن ملكه أَو زَوجهَا من إِنْسَان يُبَاح لَهُ الِاسْتِمْتَاع بِالْأُخْرَى
وَهَذَا قَول عَامَّة الصَّحَابَة وَعَامة الْعلمَاء
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان بن عَفَّان أَنه قَالَ يحل الْجمع بَينهمَا وطئا وَلَكِن أَنا لَا أفعل
وَأما تَحْرِيم تَقْدِيم الْأمة على الْحرَّة فَنَقُول من كَانَت تَحْتَهُ حرَّة لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج الْأمة
وَمن كَانَت تَحْتَهُ أمة جَازَ لَهُ أَن يتَزَوَّج الْحرَّة
وَلَو جمع بَين نِكَاح الْأمة والحرة لَا يجوز نِكَاح الْأمة وَيجوز نِكَاح الْحرَّة
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تنْكح الْأمة على الْحرَّة وَتنْكح الْحرَّة على الْأمة
وَإِذا كَانَ قَادِرًا على مهر الْحرَّة ونفقتها جَازَ لَهُ أَن يتَزَوَّج الْأمة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز

(2/127)


وَإِن كَانَ لَهُ وَالِد وَابْن مُوسر تجب على الابْن لِأَنَّهُمَا اسْتَويَا فِي الْقرب ويرجح الابْن لِأَنَّهُ كَسبه فَيكون لَهُ حق فِي كَسبه
وَلَو كَانَ لَهُ جد وَابْن مُوسر تجب عَلَيْهِمَا النَّفَقَة على قدر الْمِيرَاث على الْجد السُّدس وَالْبَاقِي على ابْن الابْن
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ لَهُ أم وَعم أَو أم وَأَخ لأَب وَأم أَو لأَب فعلى الْأُم الثُّلُث وعَلى الْعم أَو الْأَخ الثُّلُثَانِ على قدر الْمِيرَاث
وَلَو كَانَ لَهُ عَم وخال فالنفقة على الْعم لِأَنَّهُمَا تَسَاويا فِي الْقَرَابَة وَالْعم هُوَ الْوَارِث فَيجب عَلَيْهِ
وَلَو كَانَ لَهُ خَال وَابْن عَم فالنفقة على الْخَال دون ابْن الْعم لِأَنَّهُمَا لم يستويا فِي الرَّحِم الْمحرم بل الْخَال هُوَ ذُو الرَّحِم الْمحرم فَيجب عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاق الْمِيرَاث للترجيح وَذَلِكَ عِنْد الاسْتوَاء فِي سَبَب الِاسْتِحْقَاق
وَلَو كَانَ لَهُ عمَّة وَخَالَة وَابْن عَم فعلى الْخَالَة الثُّلُث وعَلى الْعمة الثُّلُثَانِ وَلَا شَيْء على ابْن الْعم لِأَنَّهُ لم يُوجد فِي حق ابْن الْعم سَبَب الِاسْتِحْقَاق والعمة وَالْخَالَة اسْتَويَا فِي سَبَب الِاسْتِحْقَاق وَفِي اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث فَيكون بَينهمَا على قدر الْمِيرَاث
وَلَو كَانَ لَهُ عَم وعمة وَخَالَة فالنفقة على الْعم لَا غير لِأَنَّهُ ساواهما فِي الرَّحِم وَالتَّحْرِيم وَهُوَ الْوَارِث دونهمَا فَتكون النَّفَقَة عَلَيْهِ
وعَلى هَذَا الأَصْل مسَائِل
ثمَّ النَّفَقَة لَا تجب مَعَ اخْتِلَاف الدّين إِلَّا للْوَالِدين والمولودين وَالزَّوْجَة وَالْجد وَالْجدّة فِي حَال عدم الْأَبَوَيْنِ وَمن سوى هَؤُلَاءِ تجب نَفَقَته عِنْد اتِّفَاق الدّين لَا غير لِأَن نَفَقَة الْولادَة تجب بِاعْتِبَار البعضية

(2/167)


وصيانة نَفسه عَن الْهَلَاك وَاجِب فَكَذَلِك صِيَانة بعضه فَأَما نَفَقَة ذِي الرَّحِم الْمحرم فَتجب بِاعْتِبَار الصِّلَة وَإِنَّهَا تجب عِنْد اتِّفَاق الدّين
فَشرط وجوب نَفَقَة الْمَحَارِم الْيَسَار واتفاق الدّين بِخِلَاف نَفَقَة الزَّوْجَات والوالدين والمولودين
ثمَّ مَا حد الْيَسَار الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب النَّفَقَة ذكر ابْن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف أَنه اعْتبر نِصَاب الزَّكَاة
وروى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه إِذا كَانَ لَهُ فضل عَن نَفَقَة شهر لَهُ ولعياله فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ نَفَقَة ذِي الرَّحِم الْمحرم وَإِلَّا فَلَا
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه من لَا شَيْء لَهُ من المَال وَهُوَ يكْتَسب كل يَوْم درهما وَيَكْفِي لَهُ أَرْبَعَة دوانيق فَإِنَّهُ يرفع لنَفسِهِ وَعِيَاله مَا يَتَّسِع فِيهِ وَينْفق فَضله على من يجْبر على نَفَقَته
وَقَول مُحَمَّد أوفق
وَأما نَفَقَة الرَّقِيق فسبب وُجُوبهَا الْملك
وَلِهَذَا لَا يجب على العَبْد نَفَقَة وَلَده الْحر لِأَن كَسبه مَال مَوْلَاهُ
وَكَذَا لَا يجب على الْحر نَفَقَة وَلَده الرَّقِيق لِأَنَّهُ ملك غَيره فَتكون نَفَقَته عَلَيْهِ
وَقَالُوا فِي الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة إِذا جَاءَت بِولد وادعاه الموليان فنفقة هَذَا الْوَلَد عَلَيْهِمَا
وعَلى الْوَلَد إِذا كبر نَفَقَة كل وَاحِد مِنْهُمَا لِأَنَّهُ أَب كَامِل فِي حَقه
وَقَالُوا فِي الْمَفْقُود إِن القَاضِي يفْرض فِي مَاله لِأَبَوَيْهِ ولامرأته وَالصغَار من وَلَده وَالْبَنَات والذكور الزمنى فينصب عَنهُ خصما وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِنَفَقَة هَؤُلَاءِ

(2/168)


وَقَالُوا يقْضِي فِي مَال الْمَفْقُود للْجدّ وَولد الْوَلَد فِي حَال عدم الْأَب وَالْولد
فَأَما فِي حَال قيامهما فَلَا يقْضِي لأَنهم حِينَئِذٍ فِي حكم ذَوي الْأَرْحَام وَلَا يقْضِي بِنَفَقَة ذَوي الْأَرْحَام فِي مَال الْمَفْقُود وَالله تَعَالَى أعلم

(2/169)