تحفة الفقهاء

كتاب الصَّيْد
الاصيطاد مُبَاح فِي الْبَحْر فِي حق كَافَّة النَّاس وَفِي الْبر فِي حق غير الْمحرم على كل حَال إِلَّا فِي الْحرم وَفِي حق الْمحرم لَا يُبَاح فِي الْحل وَلَا فِي الْحَرَام
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {أحل لكم صيد الْبَحْر} وَلِأَن الْكسْب مُبَاح فِي الأَصْل وَمَا يصيده قد يُؤْكَل وَقد ينْتَفع بجلده وبشعره وَنَحْو ذَلِك
ثمَّ مَا يُبَاح أكله من الصَّيْد الْمَأْكُول بِأخذ الْجَوَارِح وَالرَّمْي وَغير ذَلِك من فعل الْعباد إِذا مَاتَ قبل أَن يقدر عَلَيْهِ لَهُ شَرَائِط أَحدهَا أَن تكون الْآلَة الَّتِي بهَا يصطاد جارحة تجرح الصَّيْد وَهُوَ السهْم وَالسيف وَالرمْح وَالْحَيَوَان الَّذِي لَهُ نَاب أَو مخلب فيجرح بِهِ فَيَمُوت هَذَا هُوَ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة
أما إِذا لم يجرح الْكَلْب أَو الْبَازِي فَلَا يحل
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَن الْكَلْب إِذا خنق يحل وَلَو لم يخنفه وَلم يجرحه وَلكنه كَسره فَمَاتَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَلَو أصَاب السهْم ظلف الصَّيْد أَو قرنه فَإِن وصل إِلَى اللَّحْم فأدماه أكل وَإِلَّا فَلَا

(3/73)


وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي الشَّاة إِذا اعتلفت بالعناب فذبحت وَلم يسل مِنْهَا الدَّم فَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الصفار لَا يحل
وَقَالَ أَبُو بكر الإسكاف يحل
وَهَذَا إِذا مَاتَ بجرحه غَالِبا
فَأَما إِذا وَقع الشَّك فَلَا يحل إِذا كَانَ يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ بِأَن رمي صيدا فِي الْهَوَاء فَسقط على جبل أَو سطح أَو شجر أَو على سِنَان رمح مركوز فِي الأَرْض أَو على حرف آجرة أَو صَخْرَة أَو فِي المَاء ثمَّ سقط على الأَرْض لَا يحل احْتِيَاطًا لجَانب الْحُرْمَة
وَإِذا وَقع على آجرة مطبوخة على الأَرْض أَو على أَرض صلبة فَالْقِيَاس أَن لَا يحل وَفِي الِاسْتِحْسَان يحل لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَن الأَرْض
وَالثَّانِي أَن يكون الْحَيَوَان الْجَارِح معلما لقَوْله تَعَالَى {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين}
وَتَعْلِيم ذِي الناب أَنه إِذا أرسل يتبع الصَّيْد وَإِذا أَخذه أمْسكهُ على صَاحبه وَلم يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا
وَتَعْلِيم ذِي المخلب أَن يستجيب إِذا دعِي وَيتبع الصَّيْد إِذا أرسل وَإِن أكل مِنْهُ فَلَا بَأْس بِهِ
ثمَّ أَبُو حنيفَة فِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا يُوَقت فِي التَّعْلِيم وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يَقُول أهل الْعلم بذلك إِنَّه معلم

(3/74)


وروى الْحسن عَنهُ أَنه قَالَ لَا يَأْكُل أول مَا يصيد وَلَا الثَّانِي ثمَّ يُؤْكَل الثَّالِث وَمَا بعده
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا صَاد ثَلَاث مَرَّات وَلم يَأْكُل فَهُوَ معلم
ثمَّ إِذا صَار معلما من حَيْثُ الظَّاهِر وصاد بِهِ صَاحبه ثمَّ أكل بعد ذَلِك من صيد يَأْخُذهُ فقد بَطل تَعْلِيمه وَلَا يُؤْكَل بعد ذَلِك صَيْده حَتَّى يعلم تَعْلِيما ثَانِيًا بِلَا خلاف
فَأَما مَا صَاده قبل ذَلِك هَل يُؤْكَل جديده وقديمه عِنْد أبي حنيفَة لَا يُؤْكَل لِأَنَّهُ ظهر أَنه صَار معلما
وَعِنْدَهُمَا يحل لِأَنَّهُ الْعَالم قد ينسى
وَالثَّالِث أَن لَا يكون الْحَيَوَان الْجَارِح الَّذِي يصطاد بِهِ محرم الْعين كالخنزير فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ معلما لَا يحل صَيْده
فَأَما مَا سواهُ من الْجَوَارِح إِذا علم يحل صَيْده كالفهد والأسد وَالذِّئْب والنمر وَابْن عرس
الرَّابِع أَن يكون الْإِرْسَال مِمَّن هُوَ أهل للذبح لِأَن الْإِرْسَال وَالرَّمْي بِمَنْزِلَة الذّبْح فَلَا بُد من أَن يكون الْمُرْسل أَهلا من مُسلم أَو كتابي مَعَ سَائِر الشَّرَائِط
وَالْخَامِس أَن يكون الْإِرْسَال على مَا هُوَ صيد مشَاهد معاين بِأَن رأى صيدا أَو جمَاعَة فَرمى إِلَيْهِم
فَأَما التَّعْيِين فَلَيْسَ بِشَرْط حَتَّى أَنه لَو أصَاب صيدا آخر سوى مَا عاين يحل لِأَن الْإِرْسَال وجد إِلَى الصَّيْد وَفِي التَّعْيِين حرج
وَلَو أرسل إِلَى مَا لَيْسَ بصيد من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم أَو الْآدَمِيّ فَأصَاب صيدا لَا يحل لِأَنَّهُ لم يُوجد الْإِرْسَال إِلَى الصَّيْد
وَلَو سمع حس صيد فَظَنهُ صيدا فَأرْسل عَلَيْهِ كَلْبه أَو رمى

(3/75)


سَهْمه إِلَيْهِ فَأصَاب صيدا وَبَان لَهُ أَن مَا ظَنّه صيدا فَهُوَ غنم أَو آدَمِيّ لَا يحل لِأَنَّهُ مَا أرسل إِلَى الصَّيْد لكنه ظَنّه كَذَلِك
وَلَو سمع حسا وَلَا يعلم أَنه حس صيد أَو آدَمِيّ فَأرْسل فَأصَاب صيدا لَا يحل
وَلَو سمع حسا فَظَنهُ آدَمِيًّا فَرَمَاهُ وَأصَاب الَّذِي سمع حسه فَإِذا هُوَ صيد قَالُوا يحل لِأَنَّهُ رمى إِلَى محسوس معِين لكنه ظن أَنه آدَمِيّ وَقصد الْآدَمِيّ فَظهر أَنه بَطل قَصده وَلَكِن الرَّمْي صَادف مَحَله وَهُوَ الْإِرْسَال إِلَى محسوس معِين وَهُوَ الصَّيْد فصح إرْسَاله وتسميته كمن أَشَارَ إِلَى امْرَأَته وَقَالَ هَذِه الكلبة طَالِق تطلق وَإِن أَخطَأ الِاسْم
وَلَو ظن حسن صيد فَرَمَاهُ أَو أرسل فَإِذا هُوَ حسن صيد غير مَأْكُول أَو مَأْكُول وَأصَاب صيدا آخر يحل
وَقَالَ زفر إِن كَانَ صيدا لَا يُؤْكَل لَحْمه وَلَا يحل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِن كَانَ خنزيرا لَا يحل خَاصَّة
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الصَّيْد اسْم للمأكول وَغَيره
وَالسَّادِس أَن يكون فَور الْإِرْسَال بَاقِيا وَلَا يَنْقَطِع إِلَى وَقت الْأَخْذ والإصابة حَتَّى إِنَّه إِذا أرسل إِلَى صيد وسمى فَمَا أَخذ فِي ذَلِك الْفَوْر من الصَّيْد فَقتله يحل فَإِذا انْقَطع الْفَوْر بِأَن جثم على صيد طَويلا ثمَّ مر بِهِ صيد آخر فَقتله لَا يحل الثَّانِي
وَكَذَلِكَ فِي الرَّمْي إِذا تغير بِأَن رمى إِلَى الصَّيْد فَذهب بِهِ الرّيح يمنه أَو يسرة فَأصَاب صيدا لَا يحل
وَلَو أصَاب السهْم حَائِطا أَو صَخْرَة فَرجع السهْم وَأصَاب الصَّيْد فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَل وَهَذَا لِأَن الْإِرْسَال انْقَطع فَاحْتمل أَنه حصل بِقُوَّة

(3/76)


غَيره وَلَا يحل مَعَ الشَّك
فَأَما إِذا مر على سنَنه فَإِن أصَاب الْحَائِط فَلَا بَأْس بِهِ
وَلَو أرسل رجلَانِ كلبين أَو رميا سَهْمَيْنِ فأصابا مَعًا صيدا فقتلاه فَهُوَ بَينهمَا ولوجود السَّبَب مِنْهُمَا جَمِيعًا
وَلَو سبق أَحدهمَا فَهُوَ لَهُ لِأَن سَبَب الْملك وَالذّبْح وجد مِنْهُ سَابِقًا وَهُوَ الْإِرْسَال بأثره فَكَانَ أولى
وَالسَّابِع التَّسْمِيَة فِي حَال الْإِرْسَال إِذا كَانَ ذَاكِرًا لَهَا لِأَن الْإِرْسَال وَالرَّمْي ذبح من الْفَاعِل تَقْديرا فَيشْتَرط التَّسْمِيَة عِنْده كَمَا فِي الذّبْح أَلا أَنه لَا يشْتَرط على كل صيد بِعَيْنِه بِخِلَاف الذّبْح على مَا مر
وَالثَّامِن أَن يلْحقهُ الْمُرْسل والرامي أَو من يقوم مقامهما قبل انْقِطَاع الطّلب أَو التواري عَنهُ وَهَذَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس أَن لَا يحل لاحْتِمَال أَنه مَاتَ بِسَبَب آخر لَكِن ترك الْقيَاس بالأثر والضرورة لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
فَأَما إِذا قعد عَن طلبه ثمَّ وجده بعد ذَلِك مَيتا فَلَا يُؤْكَل لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كل مَا أصميت ودع مَا أنميت وَقَالَ أَبُو يُوسُف الإصماء مَا عاينه والإنماء مَا توارى عَنهُ
وَالتَّاسِع أَن لَا يدْرك ذبحة الِاخْتِيَار بِأَن كَانَ مَيتا
فَإِن كَانَ بِحَال لَا يعِيش وَلم يذبحه فَفِيهِ اخْتِلَاف بِنَاء على مَسْأَلَة المتردية والنطيحة

(3/77)


والموقوذة إِذا ذبحت هَل تحل أم لَا وَهِي على وَجْهَيْن إِن كَانَ فِيهَا حَيَاة مُسْتَقِرَّة حلت بِالذبْحِ فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَإِن كَانَت فِيهَا حَيَاة وَلكنهَا غير مُسْتَقِرَّة تحل بِالذبْحِ عِنْد أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِن كَانَ فِيهَا من الْحَيَاة مَا يعِيش مثلهَا تحل وَإِن كَانَ لَا يعِيش مثلهَا لَا تحل
وَقَالَ مُحَمَّد إِن بَقِي حَيا أَكثر من بَقَاء الْمَذْبُوح بعد الذّبْح يحل
إِذا ثَبت هَذَا فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا وجد حَيا تبطل الذَّكَاة الاضطرارية عِنْد أبي حنيفَة وَإِن لم يكن فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَعِنْدَهُمَا على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا
وَلَو أبان رَأس الصَّيْد وَسمي يحل كُله
وَلَو قطع عضوا مِنْهُ سوى الرَّأْس فَمَاتَ لم يُؤْكَل الْعُضْو المبان وَيحل الْبَاقِي لِأَن الْأَوْدَاج تَنْقَطِع بإبابنة الرَّأْس فَيكون ذبحا
وَإِذا قطع عضوا غَيره لَا يُؤْكَل الْجُزْء المبان لِأَن الْمَوْت حصل والجزء مبان قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا أبين من الْحَيّ فَهُوَ ميت
وَلَو قطع نِصْفَيْنِ طولا أَو عرضا يحل أكله لِأَن الْمَوْت يحصل بِهَذَا الْفِعْل فَيكون الْكل مذكى ذَكَاة اضطرار
وَإِن كَانَ أحد النصفين أَكثر فَإِن كَانَ مِمَّا يَلِي الرَّأْس أقل يُؤْكَل كُله وَإِن كَانَ أَكثر أكل مِمَّا يَلِي الرَّأْس وَلَا يُؤْكَل مَا سواهُ لِأَن الْأَوْدَاج مُتَّصِلَة من الْقلب إِلَى الدِّمَاغ فَمَتَى كَانَ النّصْف الَّذِي يَلِي الرَّأْس أقل يكون ذَكَاة بِقطع الْأَوْدَاج وَمَتى كَانَ أَكثر كَانَ ذَكَاة الِاضْطِرَار فَيكون ذَلِك عِنْد الْمَوْت فَيكون الْجُزْء الَّذِي بَان فَاتَ حَيَاته قبل الذَّكَاة فَيكون ميتَة
وَلَو قطع أقل الرَّأْس لَا يحل المبان وَيحل الْبَاقِي لِأَن هَذَا ذَكَاة الِاضْطِرَار فَلَا يحل المبان قبل الْمَوْت

(3/78)


وَلَو بَقِي أقل الرَّأْس وَقطع الْأَكْثَر يحل كُله لِأَنَّهُ صَار ذَكَاة بِقطع الْعُرُوق
وَلَو قطع الرَّأْس نِصْفَيْنِ فعلى قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد يحل كُله وَهُوَ قَول أبي يُوسُف الأول ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا يحل المبان فَكَانَ عِنْده أَن الْعُرُوق مُتَّصِلَة بِالنِّصْفِ الَّذِي يَلِي الْبدن وَعِنْدَهُمَا مُتَّصِلَة بالدماغ فَتَصِير مَقْطُوعَة بِقطع النّصْف

(3/79)