تحفة الفقهاء

كتاب الْأُضْحِية
يحْتَاج إِلَى بَيَان أَن الْأُضْحِية وَاجِبَة أم لَا وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الْوُجُوب
وَبَيَان شَرَائِط الْأَدَاء وَإِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْقَضَاء وَإِلَى بَيَان مَا يجوز فِي الْأُضْحِية وَمَا لَا يجوز وَإِلَى بَيَان مَا يكره
أما الأول فَنَقُول قَالَ أَصْحَابنَا إِن الْأُضْحِية وَاجِبَة على المقيمين من أهل الْأَمْصَار والقرى والبوادي من الْأَعْرَاب والتركمان
وَقَالَ الشَّافِعِي سنة وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي يُوسُف
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا لَا تجب على الْمُسَافِرين
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لقَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} قَالَ أهل التَّفْسِير المُرَاد مِنْهُ صَلَاة الْعِيد وَنحر الْأُضْحِية وَالْأَمر للْوُجُوب وَالنَّص ورد فِي حق الْمُقِيم لِأَن الْخطاب للرسول عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ حكم لَا يعرف بِالْقِيَاسِ فَلَا يتَعَدَّى إِلَى الْمُسَافِر كَمَا فِي الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ

(3/81)


وَأما شَرَائِط الْوُجُوب فَمِنْهَا الْيَسَار وَهُوَ الْيَسَار الَّذِي تعلق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر دون الْيَسَار الَّذِي تعلق بِهِ وجوب الزَّكَاة على مَا ذكرنَا فِي كتاب الزَّكَاة
وَمِنْهَا الْإِسْلَام لِأَنَّهَا عبَادَة وقربة
وَمِنْهَا الْوَقْت فَإِنَّهَا لَا تجب قبل أَيَّام النَّحْر
وَلِهَذَا لَو ولدت الْمَرْأَة ولدا بعد أَيَّام النَّحْر لَا تجب الْأُضْحِية لأَجله وَلَو مَاتَ الْوَلَد فِي وسط أَيَّام النَّحْر لَا تجب الْأُضْحِية لِأَن الْوُجُوب يتَأَكَّد فِي آخر الْوَقْت
وَكَذَا كل من مَاتَ من أهل وجوب الْأُضْحِية لما ذكرنَا
وَأما الْبلُوغ وَالْعقل هَل يشْتَرط فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَيْسَ بِشَرْط حَتَّى تجب على الصَّغِير إِذا كَانَ غَنِيا فِي مَاله حَتَّى لَو ضحى الْأَب أَو الْوَصِيّ من مَاله لَا يضمن
وَعند مُحَمَّد وَزفر لَا يجب على الصَّغِير حَتَّى يضمن الْأَب وَالْوَصِيّ
وَلَو كَانَ مَجْنُونا مُوسِرًا تجب فِي مَاله ويضحي عَنهُ الْوَلِيّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور كَمَا فِي صَدَقَة الْفطر
وَفِي رِوَايَة فرق بَين صَدَقَة الْفطر وَبَين الْأُضْحِية وَقَالَ لَا تجب الْأُضْحِية فِي مَاله
وَلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا أَنه تجب الْأُضْحِية على الْمُوسر بِسَبَب أَوْلَاده الصغار دون الْكِبَار بِمَنْزِلَة صَدَقَة الْفطر إِذا لم يكن للصغار مَال لَكِن إِذا ضحى من مَال الصَّغِير لَا يتَصَدَّق بِهِ لِأَن الْوَاجِب هُوَ الإراقة فَأَما التَّصَدُّق بِاللَّحْمِ فتطوع وَمَال الصَّغِير لَا يحْتَمل التَّبَرُّع فَيَنْبَغِي أَن يطعم الصَّغِير ويدخر لَهُ أَو يسْتَبْدل لحومه بالأشياء الَّتِي ينْتَفع بهَا الصَّغِير مَعَ بَقَاء أعيانها كَمَا فِي جلد الْأُضْحِية

(3/82)


وَأما شَرَائِط الْأَدَاء وَكَيْفِيَّة الْقَضَاء فَمِنْهَا وَقت الْفجْر فَإِنَّهُ لَا يَصح التَّضْحِيَة إِلَّا فِي أَيَّام النَّحْر وَلَو ذهب الْوَقْت تسْقط التَّضْحِيَة
إِلَّا أَن فِي حق المقيمين فِي الْأَمْصَار يشْتَرط شَرط آخر وَهُوَ أَن يكون بعد صَلَاة الْعِيد بِالْحَدِيثِ حَتَّى إِن فِي حق أهل الْقرى تجوز التَّضْحِيَة فِي أول الْوَقْت
وَإِن دخل الرستاقي الْمصر لصَلَاة الْعِيد وَأمر أَهله بِأَن يضحوا عَنهُ لَهُم أَن يضحوا عَنهُ قبل صَلَاة الْعِيد
وَالْمُعْتَبر مَكَان الذَّبِيحَة لَا مَكَان الْمَذْبُوح عَنهُ فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَفِي رِوَايَة مَكَان الْمَذْبُوح عَنهُ وَهُوَ قَول الْحسن
وَكَذَلِكَ إِذا ترك الصَّلَاة يَوْم النَّحْر لعذر أَو لغير عذر يجوز أَن يُضحي بعد انتصاف النَّهَار
وَفِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث سَوَاء صلوا صَلَاة الْعِيد أَو لم يصلوا لَهُم أَن يضحوا قبل صَلَاة الْعِيد لِأَن التَّرْتِيب فِي الْيَوْم الأول ثَبت بِالْحَدِيثِ غير مَعْقُول الْمَعْنى فاقتصر عَلَيْهِ إِذا صلى أَو مضى وَقت الصَّلَاة
ثمَّ أَيَّام النَّحْر ثَلَاثَة يَوْم الْأَضْحَى وَهُوَ الْعَاشِر من ذِي الْحجَّة وَالْحَادِي عشر وَالثَّانِي عشر يجوز التَّضْحِيَة فِي نَهَار هَذِه الْأَيَّام ولياليها بعد طُلُوع الْفجْر من الْيَوْم الأولى إِلَى غرُوب الشَّمْس من الْيَوْم الثَّانِي عشر غير أَنه يكره الذّبْح بِاللَّيْلِ وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي أَرْبَعَة أَيَّام وَزَاد الْيَوْم الثَّالِث عشر

(3/83)


وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم أَنهم قَالُوا أَيَّام النَّحْر ثَلَاثَة أفضلهَا أَولهَا فَإِذا مَضَت هَذِه الْأَيَّام فقد فَاتَ الذّبْح فِي حق من لم يذبح حَتَّى لَا يجوز لَهُ أَن يذبح
ثمَّ إِن كَانَ أوجب شَاة بِعَينهَا أَو اشْتَرَاهَا ليضحي بهَا فمضت أَيَّام النَّحْر قبل أَن يذبحها تصدق بهَا حَيَّة وَلَا ينقص مِنْهَا شَيْئا من الشّعْر وَاللَّبن وَلَا يَأْكُل من لَحمهَا لِأَنَّهُ انْتقل الْوَاجِب من إِرَاقَة الدَّم إِلَى التَّصَدُّق
وَإِن لم يُوجب أَو لم يشتر وَالرجل مُوسر وَقد مَضَت أَيَّام النَّحْر فَإِن عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق بِقِيمَة الشَّاة الَّتِي تجوز فِي الْأُضْحِية لما قُلْنَا
وَأما بَيَان مَا يجوز فِي الْأُضْحِية وَمَا لَا يجوز وَمَا يكره وَذَلِكَ أَنْوَاع مِنْهَا أَنه لَا يجوز فِي الضَّحَايَا والهدايا إِلَّا الثني من الْإِبِل الْبَقر وَالْغنم والجذع من الضَّأْن خَاصَّة إِذا كَانَ عَظِيما
ثمَّ الثني من الْإِبِل عِنْد الْفُقَهَاء ابْن خمس سِنِين وَمن الْبَقر ابْن سنتَيْن وَمن الْغنم ابْن سنة والجذع من الْإِبِل ابْن أَربع سِنِين وَمن الْبَقر ابْن سنة وَمن الْغنم ابْن سِتَّة أشهر هَكَذَا حكى الْقَدُورِيّ
وَذكر الزَّعْفَرَانِي فِي الْأَضَاحِي وَقَالَ الْجذع ابْن سَبْعَة أشهر أَو ثَمَانِيَة فَأَما ابْن سِتَّة أشهر فَهُوَ حمل
وَلَا يجوز الْحمل والجدي والعجل والفصيل فِي الْأُضْحِية
وَلَا يجوز فِي الْأَضَاحِي شَيْء من الْوَحْش لعدم وُرُود الشَّرْع وَإِن

(3/84)


كَانَ متولدا من الْوَحْش والإنسى فَالْمُعْتَبر فِيهِ جَانب الْأُم
وَالْإِبِل وَالْبَقر يجوز من سَبْعَة نفر على مَا روى جَابر أَنه قَالَ نحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة
وَلَا تجوز الشَّاة عَن أَكثر من الْوَاحِد وَإِن كَانَت عَظِيمَة قيمتهَا قيمَة شَاتين لِأَن الْقرْبَة إِرَاقَة الدَّم وَذَلِكَ لَا يتَفَاوَت
وَلَكِن إِنَّمَا يجوز بِشَرْط أَن يكون قصدهم من التَّضْحِيَة التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى سَوَاء كَانَ من نوع وَاحِد كَمَا إِذا كَانُوا شُرَكَاء فِي الْأُضْحِية أَو فِي الْهَدْي أَو من أَنْوَاع مُخْتَلفَة بِأَن كَانَ نوى أحدهم الْأُضْحِية وَالْآخر الْهَدْي وَالْآخر دم الْكَفَّارَة وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن الْأَفْضَل أَن تكون الشّركَة فِي نوع وَاحِد
فَأَما إِذا كَانَ أحد الشُّرَكَاء أَرَادَ بِالذبْحِ اللَّحْم لَا التَّقَرُّب أَو كَانَ أحدهم ذِمِّيا لم يَقع عَن الْأُضْحِية لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يتَجَزَّأ فَإِذا لم يكن الْبَعْض قربَة بَطل الْكل
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا لَا يجوز بِسَبَب الْعَيْب وَمَا يكره فَنَقُول الْعَيْب الْقَلِيل لَا يمْنَع وَالْكثير يمْنَع فذاهبة الْعين الواحداة وَهِي العوراء ومقطوعة الْأذن الْوَاحِدَة ومقطوعة الإلية والذنب كلهَا لَا تجوز
فَأَما إِذا كَانَ الذَّاهِب بعض بصر الْعين أَو بعض الْأذن الإلية والذنب فَفِيهِ ثَلَاث رِوَايَات فِي ظَاهر الرِّوَايَة الثُّلُث وَمَا دونه قَلِيل وَمَا زَاد عَلَيْهِ فَهُوَ كثير
وَفِي رِوَايَة الثُّلُث وَمَا زَاد فَهُوَ كثير وَمَا دون الثُّلُث قَلِيل
وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف وَهُوَ قَوْله النّصْف وَمَا زَاد فَهُوَ كثير وَمَا دون النّصْف قَلِيل

(3/85)


وَلَا يجوز السكاء الَّتِي لَا أذن لَهَا فِي الْخلقَة وَإِن كَانَت صَغِيرَة يجوز
والهتماء الَّتِي لَا أَسْنَان لَهَا لَا يجوز فَإِذا كَانَ لَهَا بعض الْأَسْنَان فَإِن كَانَت لَا تعتلف وَيصب فِي حلقها لَا يجوز وَإِن كَانَت تعتلف يجوز
والعجفاء الَّتِي لَا تنقي لَا يجوز
وَكَذَلِكَ العرجاء الَّتِي لَا تمشي إِلَى المنسك وَإِن كَانَت تقدر على الْمَشْي مَعَ العرج جَازَ
والثولاء وَهِي الْمَجْنُونَة جَازَ وَكَذَا الجرباء السمينة جَازَ
وَكَذَلِكَ الْخصي جَازَ وَعَن أبي حنيفَة إِنَّه أحب إِلَيّ لِأَنَّهُ أطيب لَحْمًا
وَمَا جَازَ مَعَ الْعَيْب فَهُوَ مَعَ الْكَرَاهَة وَإِنَّمَا الْمُسْتَحبّ هُوَ السليمة عَن الْعُيُوب الظَّاهِرَة
وَلَو اشْترى سليمَة للأضحية أَو أوجب على نَفسه ذبح شَاة بِعَينهَا ثمَّ ظهر بهَا عيب يمْنَع عَن الْجَوَاز يَوْم النَّحْر فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الْعبْرَة لوقت الذّبْح لَكِن إِذا اعترضت آفَة عِنْد الذّبْح بِإِصَابَة السكين عينهَا وَنَحْو ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ من ضرورات الذّبْح وَهَذَا فِي حق الْمُوسر لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ أضْحِية كَامِلَة بِإِيجَاب الله تَعَالَى
فَأَما إِذا كَانَ مُعسرا اشْتَرَاهَا للأضحية أَو أوجبهَا بِعَينهَا ثمَّ اعترضت آفَة مَانِعَة عَن الْجَوَاز يجوز لَهُ أَن يُضحي بهَا لِأَنَّهَا مُعينَة فِي حَقه ففوات بَعْضهَا كفوات كلهَا حَتَّى لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء لكَونهَا

(3/86)


معنية حَتَّى لَو أوجب الْفَقِير أضْحِية بِغَيْر عينهَا فَاشْترى صَحِيحَة ثمَّ تعيبت قبل الذّبْح بِعَيْب مَانع فضحى لَا يسْقط عَنهُ الْوَاجِب لما قُلْنَا
وَلَو ذبح إِنْسَان أضْحِية صَاحبه بِغَيْر أَمر جَازَ من صَاحبه اسْتِحْسَانًا
وَكَذَلِكَ لَو غَلطا فضحى كل وَاحِد مِنْهُمَا أضْحِية صَاحبه لِأَن الْإِذْن ثَابت من حَيْثُ الْعَادة دلَالَة يوترادان اللَّحْم فَإِن جَوَاز ذَلِك لصَاحبه بِالْإِذْنِ فَإِن لم يرض كل وَاحِد مِنْهُمَا بِفعل صَاحبه صَرِيحًا يكون أضْحِية كل وَاحِد مَا ضحى بِنَفسِهِ وَجَاز عَنهُ وَيضمن لصَاحبه وَصَارَ غَاصبا لَهُ بِالْأَخْذِ وَيصير مَالِكًا سَابِقًا على الذّبْح فَيصير مضحيا ملك نَفسه فَجَاز
وَكَذَا من غصب شَاة إِنْسَان وضحى بهَا يضمن قيمتهَا وَتجوز عَن أضحيته فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة لما ذكرنَا بِخِلَاف الْمُودع إِذا ذبح الشَّاة الْوَدِيعَة وَضمن لَا يجوز لِأَنَّهَا لم تكن مَضْمُونَة وَقت الذّبْح لهَذَا افْتَرقَا
وَيكرهُ لَهُ أَن يحلب لبن الْأُضْحِية وَأَن يجز صوفها قبل التَّضْحِيَة لِأَنَّهَا من أَجزَاء الْأُضْحِية وَلَو فعل يتَصَدَّق بهَا
وَلَو بَاعَ شَيْئا مِنْهَا يتَصَدَّق بِثمنِهَا
وَأما بعد الذّبْح فَلَا بَأْس بذلك وَلَو ولدت قَالُوا يذبح وَلَدهَا مَعهَا
وَقَالَ بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يذبح وَلَكِن يتَصَدَّق بِالْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمحل للأضحية
وللمضحي أَن يَأْكُل من أضحيته إِن شَاءَ كلهَا وَإِن شَاءَ أطْعم الْكل والأحب أَن يتَصَدَّق بالثلثين وَيَأْكُل الثُّلُث إِن كَانَ مُوسِرًا
وَإِن

(3/87)


كَانَ ذَا عِيَال وَهُوَ وسط الْحَال فِي الْيَسَار فَلهُ أَن يتوسع بهَا على عِيَاله ويدخر مِنْهَا مَا شَاءَ وَينْتَفع بجلدها وشعرها وَله أَن يستبدلها بِشَيْء ينْتَفع بِعَيْنِه كالجراب والمنخل وَالثَّوْب
وَلَو بَاعَ ذَلِك أَو بَاعَ لَحمهَا فَإِنَّهُ يجوز بَيْعه وَلَا ينْقض البيع فِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة لَكِن يتَصَدَّق بِالثّمن وعَلى قَول أبي يُوسُف لَهُ أَن ينْقض البيع لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْوَقْف عِنْده فِي قَول

(3/88)