تحفة الفقهاء

كتاب الْوَقْف وَالصَّدَقَة
فِي الْكتاب فصلان فصل فِي الْوَقْف وَفصل فِي الصَّدَقَة
أما الأول فقد أجمع الْعلمَاء أَن من وقف أرضه أَو دَاره مَسْجِدا بِأَن قَالَ جعلت هَذِه الأَرْض مَسْجِدا يُصَلِّي فِيهِ النَّاس أَنه جَائِز لِأَن هَذَا إبِْطَال ملكه عَنهُ وَجعله لله تَعَالَى خَالِصا كمن أعتق عَبده
لَكِن التسلم شَرط عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف لَيْسَ بِشَرْط
وتسليمه عِنْدهمَا أَن يَأْذَن للنَّاس بِصَلَاة الْجَمَاعَة فِيهِ فَيصَلي فِيهِ جمَاعَة من النَّاس بِجَمَاعَة فَإِنَّهُ يصير مُسلما إِلَى النَّاس كَذَا ذكر هِلَال الرَّأْي فِي كتاب الْوَقْف الَّذِي صنفه
وَقَالَ بعض الْمَشَايِخ إِذا جعل لَهُ مُتَوَلِّيًا قيمًا يتَصَرَّف فِي مَصَالِحه وَيَأْذَن لَهُ بِقَبْضِهِ بطرِيق النِّيَابَة عَن النَّاس
وَيَأْمُرهُمْ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَيكون التَّسْلِيم صَحِيحا وَلَا يُمكنهُ الرُّجُوع بعد ذَلِك عِنْدهمَا

(3/375)


وَأما إِذا جعل أرضه أَو دَاره وَقفا على الْفُقَرَاء أَو على وُجُوه الْخَيْر فَعِنْدَ أبي حنيفَة إِن جعله وَقفا فِي حَال حَيَاته وَلم يقل وَصِيَّة بعد وَفَاته فَإِنَّهُ يكون هَذَا الْوَقْف صَحِيحا فِي حق التَّصْدِيق بالغلة وبالسكنى فِي الدَّار إِلَى وَقت وَفَاته وَيكون نذرا بالتصدق بذلك وَتَكون رَقَبَة الأَرْض على ملكه يجوز لَهُ بَيْعه والتصرفات فِيهِ
وَإِذا مَاتَ يصير مِيرَاثا للْوَرَثَة وَهَذَا معنى قَول بعض الْمَشَايِخ إِن الْوَقْف لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة أَن الْوَقْف لَا حكم لَهُ عِنْده بل يكون نذرا بالتصدق بغلته ومنافعه
وَأما إِذا وقف فِي حَال حَيَاته وَأوصى بذلك بعد وَفَاته فَإِنَّهُ يجوز بِلَا خلاف لَكِن ينظر إِن خرج من الثُّلُث يجوز فِي الْكل وَإِن لم يخرج من الثُّلُث يجوز الْوَقْف فِيهِ بِقدر الثُّلُث وَيبقى الْبَاقِي إِلَى أَن يظْهر لَهُ مَال آخر أَو يُجِيزهُ الْوَرَثَة
فَإِن لم يظْهر لَهُ مَال وَلم يجز الْوَرَثَة تقسم الْغلَّة بَينهم أَثلَاثًا الثُّلُث للْوَقْف وَالثُّلُثَانِ بَين الْوَرَثَة على قدر أنصبائهم
وَإِن أجَازه الْوَرَثَة يصير جَائِزا ويتأبد الْوَقْف بِحَيْثُ لَا يبطل بعد ذَلِك
وَلَو رفع الْأَمر إِلَى القَاضِي فَأمْضى القَاضِي الْوَقْف بِنَاء على دَعْوَى صَحِيحَة وَشَهَادَة قَائِمَة على ذَلِك وَأنكر الْوَاقِف ذَلِك صَحَّ
وَلَو شهد الشُّهُود على الْوَقْف من غير دَعْوَى قَالُوا إِن القَاضِي يقبل لِأَن الْوَقْف حكمه التَّصَدُّق بالغلة وَهُوَ حق الله تَعَالَى وَفِي حُقُوق الله تَعَالَى لَا يشْتَرط الدَّعْوَى
وَهَذَا إِذا كَانَ من رَأْي القَاضِي أَن الْوَقْف صَحِيح لَازم لَا يجوز نقضه بِحَال كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد حَتَّى يكون قَضَاء فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ فَينفذ قَضَاؤُهُ وَلَا يُمكن نقضه بعد ذَلِك وَلَا يجوز بَيْعه وَلَا يُورث بالِاتِّفَاقِ لِأَن قَضَاء القَاضِي فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ على أحد

(3/376)


الْوَجْهَيْنِ بِرَأْيهِ وَهُوَ من أهل الِاجْتِهَاد ينفذ بِالْإِجْمَاع
هَذَا الَّذِي ذكرنَا على مَذْهَب أبي حنيفَة
أما عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَعَامة الْفُقَهَاء فَإِن الْوَقْف صَحِيح فِي حق الرَّقَبَة وَيَزُول عَن ملكه كَمَا فِي الْمَسْجِد
لَكِن اخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِيمَا بَينهمَا قَالَ مُحَمَّد إِنَّمَا يجوز بِأَرْبَع شَرَائِط أَحدهَا أَن يُخرجهُ من يَده ويسلمه إِلَى الْمُتَوَلِي حَتَّى يتَصَرَّف فِيهِ فَيصْرف أَولا إِلَى مصَالح الْوَقْف وَيصرف الْبَاقِي إِلَى الْمُسْتَحقّين
وَالثَّانِي أَن يكون فِي المفروز دون الْمشَاع
وَالثَّالِث أَن لَا يشْتَرط لنَفسِهِ شَيْئا من مَنَافِع الْوَقْف
وَالرَّابِع أَن يكون مُؤَبَّدًا بِأَن يَجْعَل آخِره إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين
وعَلى قَول أبي يُوسُف لَا يشْتَرط شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا وقف فِي حَالَة الصِّحَّة
فَأَما إِذا وقف فِي حَالَة الْمَرَض فَإِن وقف وَأوصى بهَا بعد وَفَاته فَهَذَا وَحَالَة الصِّحَّة مَعَ الْوَصِيَّة سَوَاء يعْتَبر خُرُوجه من الثُّلُث وَلَا يكون مِيرَاثا للْوَرَثَة
وَإِن لم يَجعله وَصِيَّة بعد وَفَاته فَفِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة هَذَا وَالْوَقْف فِي حَالَة الصِّحَّة سَوَاء
وَذكر الطَّحَاوِيّ هُوَ بِمَنْزِلَة الْوَقْف بعد وَفَاته
والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَو مُرَاد مُحَمَّد أَن وقف الْمَرِيض نَافِذ للْحَال غير مُضَاف إِلَى مَا بعد الْمَوْت كَالْوَصِيَّةِ فَإِن الْمَرِيض إِذا أعتق فِي حَالَة الْمَرَض ينفذ عتقه وَإِن كَانَ لَا يخرج من الثُّلُث عِنْدهمَا وَيسْعَى وَهُوَ حر
وَعند أبي حنيفَة ينفذ بِقدر الثُّلُث دون الثُّلثَيْنِ وَيسْعَى

(3/377)


وَهُوَ رَقِيق فَيعتق الْبَاقِي
وَمُرَاد الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يَصح من جَمِيع المَال بل من الثُّلُث بِمَنْزِلَة الْوَصِيَّة
وبمنزلة الْوَقْف وَالْوَصِيَّة بعد الْمَوْت هَذَا هُوَ الصَّحِيح
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي الْعقار
فَأَما فِي الْمَنْقُول هَل يجوز وَقفه إِن كَانَ تبعا للعقار كالثيران وآلا الحراثة وَالْعَبِيد فَإِنَّهُ يجوز ويعجل وَقفا وَيكون ملكا لعامة الْفُقَرَاء كعبيد الْخمس فِي الْغَنَائِم
وَأما إِذا كَانَ مَقْصُودا فَإِن كَانَ مِمَّا يجْرِي فِيهِ التَّعَامُل وَهُوَ مُعْتَاد فِيمَا بَين النَّاس يجوز عِنْدهمَا خلافًا لأبي حنيفَة وَذَلِكَ نَحْو الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله وَلَا نَحْو المر والقدوم لحفر الْقُبُور وكثياب الْجِنَازَة وَنَحْوهَا
وَأما وقف الْكتب فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ على قَوْلهمَا وَعَن نصير بن يحيى أَنه وقف كتبه على الْفُقَهَاء من أَصْحَاب أبي حنيفَة
وَلَو جعل أرضه أَو دَاره رِبَاطًا أَو مَقْبرَة أَو سِقَايَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يجوز
وَعِنْدَهُمَا يجوز غير أَن مُحَمَّدًا يشْتَرط الشَّرَائِط الَّتِي ذكرنَا وَالتَّسْلِيم عِنْده هُوَ أَن ينزل فِي الرِّبَاط بعض الْمَارَّة وَأَن يدْفن فِيهَا الْمَوْتَى وَأَن يسقى مِنْهَا النَّاس وَسقي الْوَاحِد كَاف أَو يسلم إِلَى الْمُتَوَلِي ويأمره أَن يَأْذَن للمارة بالنزول فِيهَا والدفن فِي الْمقْبرَة وَالشرب من السِّقَايَة بَعْدَمَا صب المَاء فِيهَا
وَلَو وقف أَرضًا على عمَارَة الْمَسَاجِد وَمَرَمَّة الرِّبَاط والمقابر جَازَ عِنْدهمَا

(3/378)


فَأَما الْوَقْف على مَسْجِد بِعَيْنِه هَل يجوز اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قَالَ بَعضهم على الْخلاف على قَول مُحَمَّد لَا يجوز لِأَن هَذَا لَا يتأبد عِنْده فَإِن الْمَسْجِد إِذا خرب وَاسْتغْنى النَّاس عَن الصَّلَاة فِيهِ يعود ملكا لصَاحبه إِن كَانَ حَيا وَيصير مِيرَاثا لوَرَثَة الْوَاقِف بعد وَفَاته
وعَلى قَول أبي يُوسُف يجوز لِأَن عِنْده لَا يصير مِيرَاثا بالخراب فَإِنَّهُ يبْقى مَسْجِدا أبدا
وَقَالَ أَبُو بكر الْأَعْمَش يَنْبَغِي أَن يجوز بالِاتِّفَاقِ
وَقَالَ أَبُو بكر الإسكاف يَنْبَغِي أَن لَا يجوز بالِاتِّفَاقِ
وَأما حكم الصَّدَقَة إِذا قَالَ دَاري هَذِه صَدَقَة فِي الْمَسَاكِين فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق إِن شَاءَ بِعَين الدَّار وَإِن شَاءَ بَاعهَا وَتصدق بِثمنِهَا على الْفُقَرَاء لِأَن الصَّدَقَة عِنْد الْإِطْلَاق تقع على تمْلِيك الرَّقَبَة دون التَّصَدُّق بِالسُّكْنَى وَالْغلَّة بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ دَاري هَذِه صَدَقَة مَوْقُوفَة على الْمَسَاكِين أَنه ينْصَرف عِنْد أبي حنيفَة إِلَى التَّصَدُّق بالغلة لوُجُود التعارف
وَلَو قَالَ جَمِيع مَا أملك فَهُوَ صَدَقَة فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَى أَمْوَال الزَّكَاة من السوائم وأموال التِّجَارَة والصامت دون الْعقار وَالرَّقِيق وَعَلِيهِ أَن يتَصَدَّق بِالْكُلِّ ويمسك نَفَقَة نَفسه وَعِيَاله
ثمَّ إِذا ملك مَالا يتَصَدَّق بِمثل مَا أنْفق من المَال الَّذِي نذر بالتصدق بِهِ

(3/379)


وَلَو قَالَ مَا لي صَدَقَة فِي الْمَسَاكِين فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِيهِ السوائم وَالْعَقار وَالرَّقِيق وَيدخل أَمْوَال التِّجَارَة والصامت وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق نَظَائِره وَبينا الْفرق فَلَا نعيده
وَالله تَعَالَى أعلم
انْتهى بِحَمْد الله تَعَالَى

(3/380)