تحفة الفقهاء

كتاب أدب القَاضِي
الْقَضَاء فَرِيضَة محكمَة يجب على من وجد فِي حَقه شَرَائِط الْقَضَاء من الْولَايَة على الْمقْضِي عَلَيْهِ بِتَسْلِيم الْمقْضِي بِهِ إِلَى الْمقْضِي لَهُ وَهُوَ السُّلْطَان أَو من يقوم مقَامه لِأَن هَذَا من بَاب إنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم وَهَذَا مفوض إِلَى الْخُلَفَاء والسلاطين غير أَنهم إِذا عجزوا بِأَنْفسِهِم إِمَّا لعدم الْعلم أَو لاشتغالهم بِأُمُور أخر يجب عَلَيْهِم أَن يقلدوه من كَانَ يصلح لَهُ مِمَّن هُوَ من أفقه النَّاس بحضرتهم وأورعهم
فَإِن وجدوا اثْنَيْنِ أَحدهمَا أفقه وَالْآخر أورع فالأورع أولى لِأَنَّهُ يُمكنهُ أَن يقْضِي بِعلم غَيره وَلَا بُد من الْوَرع حَتَّى لَا يتَجَاوَز حد الشَّرْع وَلَا يصور الْبَاطِل بِصُورَة الْحق طَمَعا فِي الرِّشْوَة
وَيجب على من استجمع فِيهِ شَرَائِط الْقَضَاء أَن يقبله إِذا قلدوه حَتَّى لَو امْتنع يَأْثَم إِلَّا إِذا كَانَ فِي الْعلمَاء بحضرتهم مِمَّن يصلح لَهُ كَثْرَة فَلَا بَأْس بِأَن يعْتَذر بِعُذْر فَيدْفَع عَن نَفسه إِلَى غَيره لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتعين لذَلِك وَالَّذِي تعين لَا يحل لَهُ الِامْتِنَاع إِذا قلد وَلَكِن لَا يَنْبَغِي أَن يطْلب لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يُقَلّد فَيذْهب مَاؤُهُ وَحُرْمَة علمه

(3/369)


ثمَّ الْقَضَاء لَهُ وَاجِبَات وآداب فَأَما الْوَاجِبَات فَمِنْهَا أَنه يجب على القَاضِي أَن يقْضِي فِي كل حَادِثَة بِمَا يثبت عِنْده أَنه حكم الله تَعَالَى إِمَّا بِدَلِيل قَطْعِيّ نَحْو نَص الْكتاب مُفَسرًا لَا شُبْهَة فِي مَعْنَاهُ أَو السّنة المتواترة أَو الْمَشْهُورَة أَو الْإِجْمَاع وَإِمَّا بِدَلِيل ظَاهر مُوجب للْعَمَل كظاهر النَّص من الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس وَذَلِكَ فِي مَوضِع لَا إِجْمَاع فِيهِ بَين الْفُقَهَاء
وَإِن كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ أَو لم تكن وَاقعَة أَو كَانَت وَاقعَة وَلَا رِوَايَة فِي جوابها عَن السّلف يجب عَلَيْهِ أَن يعْمل بِرَأْي نَفسه إِن كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد وَإِن لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد يخْتَار قَول من هُوَ أفقههم وأورعهم
وَلَو كَانَ القَاضِي من أهل الِاجْتِهَاد لَكِن لم ينظر فِي دَلِيل الْمَسْأَلَة وَاعْتمد على اجْتِهَاد من هُوَ أفقه مِنْهُ هَل يجوز لَهُ الْقَضَاء بِهِ على قَول أبي حنيفَة جَازَ وعَلى قَوْلهمَا لَا يجوز إِلَّا وَأَن يعْمل بِاجْتِهَاد نَفسه ذكر الِاخْتِلَاف فِي كتاب الْحُدُود
وَمِمَّا يجب عَلَيْهِ أَيْضا أَن يقْضِي بِمَا ثَبت عِنْده بِالْبَيِّنَةِ أَو الْإِقْرَار أَو يكون الْمُدعى بِهِ مِمَّا يدْخل فِيهِ النّكُول لِأَن الشَّرْع جعل هَذِه الْجُمْلَة حجَّة فِي حَقه وَلَكِن لَا بُد من أَن يثبت عَدَالَة الشُّهُود عِنْده بالسؤال عَنْهُم مِمَّن لَهُ علم بأحوالهم فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فعدلوه وَقَالُوا هُوَ جَائِز الشَّهَادَة
وَأما الْقَضَاء بِعلم نَفسه بالمعاينة أَو بِسَمَاع الْإِقْرَار أَو بمشاهدة الْأَحْوَال فَإِن قضى بِعلم حَادث لَهُ فِي زمَان الْقَضَاء وَفِي مَكَانَهُ فِي الْأَمْلَاك الْمُرْسلَة والحقوق من الطَّلَاق وَالْعتاق وَنَحْوهمَا وَفِي

(3/370)


الْقصاص وَفِي حد الْقَذْف جَازَ
وَإِن كَانَ فِي سَائِر الْحُدُود لَا يجوز وَهَذَا عندنَا
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِي قَول لَا يجوز فِي الْكل وَفِي قَول يجوز فِي الْكل
وَأما إِذا قضى بِعلم كَانَ قبل أَن يُقَلّد الْقَضَاء أَو بِعلم بعد التَّقْلِيد لَكِن قبل أَن يصل إِلَى الْبَلَد الَّذِي ولي قَضَاءَهُ فقد أجمع أَصْحَابنَا أَنه لَا يجوز فِي الْحُدُود غير حد الْقَذْف
فَأَما فِي سَائِر الْأَحْكَام وَفِي حد الْقَذْف وَالْقصاص فقد اخْتلفُوا قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يجوز
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز وفروع هَذَا الْفَصْل ودلائله تعرف فِي الْمَبْسُوط إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَلَا يجوز للْقَاضِي أَن يقْضِي لنَفسِهِ وَلَا لِأَبَوَيْهِ وَإِن علوا وَلَا لزوجته وَلَا لأولاده وَإِن سفلوا وَلَا لكل من لَا تجوز شَهَادَته لَهُم
وَهل يقْضِي بِكِتَاب قَاضِي ورد إِلَيْهِ من قُضَاة الْبلدَانِ لَيْسَ لَهُ أَن يقْضِي فِي الْحُدُود وَالْقصاص وَأما فِي الدُّيُون وَالْعرُوض وَالْعَقار فقد جَازَ الْقَضَاء بِهِ
وَلَا يجوز فِي الْحُدُود وَالْقصاص الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة
وَفِي الْغُلَام وَالْجَارِيَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا يكْتب إِلَى الْقَضَاء وَلَا يقبل
وَعَن أبي يُوسُف يقبل وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَعمل الْقُضَاة على هَذَا لأجل الضَّرُورَة الْعَامَّة
ثمَّ فِيمَا يقبل فِيهَا الْكتاب إِذا ورد الْكتاب إِلَى القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَن لَا يفك الْكتاب وَلَا يقرأه إِلَّا بِحَضْرَة الْخصم كي لَا يتهم فِي ذَلِك

(3/371)


وَأما آدَاب الْقُضَاة فللقاضي أَن يجلس مَعَ نَفسه قوما من الْفُقَهَاء ليشاور مَعَهم إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ
فَإِن اتَّفقُوا عَلَيْهِ والحادثة مَعْرُوفَة فِي السّلف يقْضِي بِهِ
وَإِن اخْتلفُوا فعلى مَا ذكرنَا
فَإِن بدا لَهُ أَن يرجع فِيمَا اعْتمد على قَول بَعضهم وَرَأى الصَّوَاب فِي قَول الآخر فَلهُ ذَلِك لِأَن لَهُ أَن يقْضِي فِي الْمُجْتَهد فِيهِ بِمَا لَاحَ لَهُ من دَلِيل الِاجْتِهَاد إِن كَانَ مُجْتَهدا
فَأَما بعد الحكم فَلَيْسَ لَهُ أَن يبطل ذَلِك الْقَضَاء لِأَن صَار بِالْقضَاءِ كالمتفق عَلَيْهِ وَلَكِن يعْمل فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَافِهِ إِذا رأى ذَلِك صَوَابا
وَيَنْبَغِي أَن يعدل بَين الْخَصْمَيْنِ فِي مجلسهما مِنْهُ لَا يقرب أَحدهمَا دون الآخر وَإِن كَانَ لَهُ شرف الْعلم وَالنّسب
وَإِن كَانَ يُرِيد تَعْظِيم ذَلِك فِي الْمجْلس يَنْبَغِي أَن يجلس خَصمه مَعَه أَيْنَمَا أَجْلِس الأول
وَكَذَلِكَ يعدل بَينهمَا النّظر والمنطق وَلَا يُشِير إِلَى أحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر
وَكَذَلِكَ لَا يَخْلُو بِأَحَدِهِمَا دفعا للتُّهمَةِ
وَلَا يرفع صَوته على أَحدهمَا مَا لم يرفع على الآخر عِنْد الشغب والمنازعة
فَأَما إِذا وجد من أَحدهمَا فَإِنَّهُ يرفع صَوته عَلَيْهِ تأديبا لَهُ
وَلَا يَنْبَغِي أَن يلقن أحد الْخَصْمَيْنِ حجَّته
وَلَا بَأْس بِأَن يلقن الشَّاهِد إِذا كَانَ يستحي ويهاب مجْلِس القَاضِي بِشَيْء هُوَ حق
وَإِذا تكلم أَحدهمَا أسكت الآخر حَتَّى يسمع كَلَامه وَيفهم ثمَّ يستنطق الآخر حَتَّى يكون أقرب إِلَى الْفَهم
وَلَا يَنْبَغِي أَن يجلس للْقَضَاء وَبِه مَا يشْغلهُ عَنهُ نَحْو الْهم

(3/372)


وَالْغَصْب وَالنُّعَاس وَغَيرهَا على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان
وَيَنْبَغِي أَن يقدم الرِّجَال على حِدة وَالنِّسَاء على حِدة الأول فَالْأول
وَلَا يخلط النِّسَاء بِالرِّجَالِ لِأَنَّهُ سَبَب للفتنة
وَيَنْبَغِي أَن يتَّخذ كَاتبا من أهل العفاف وَالصَّلَاح وَهُوَ فَقِيه عَالم بصنعة الْكِتَابَة ثمَّ يقعده حَيْثُ يرى مَا يكْتب وَمَا يصنع
وَفِي عَادَة السّلف أَن القَاضِي هُوَ الَّذِي يكْتب خُصُومَة كلا الْخَصْمَيْنِ على كاغذ السُّؤَال وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب ثمَّ يكْتب شَهَادَة الشُّهُود على حسب مَا شهدُوا بعد كِتَابَة جَوَاب الْخصم ثمَّ يطوي الْكتاب ثمَّ يختمه ثمَّ يكْتب على ظَهره خُصُومَة فلَان وَفُلَان فِي شهر كَذَا فِي سنة كَذَا ويضعه فِي قمطرة على حِدة
وَفِي زَمَاننَا الْعَادة أَن الْكَاتِب هُوَ الَّذِي يكْتب كتاب الدَّعْوَى وَيتْرك مَوضِع التَّارِيخ وَلَا يكْتب جَوَاب الْخصم وَيكْتب أَسمَاء الشُّهُود بعد ذَلِك وَيتْرك فِيمَا بَين الخطين فُرْجَة فَإِذا رفع الدَّعْوَى عِنْد القَاضِي فَيكْتب التَّارِيخ بِنَفسِهِ وَيكْتب جَوَاب الْخصم على الْوَجْه الَّذِي تقرر
وَإِذا شهد الشُّهُود فِي الْمجْلس على مَا يَدعِيهِ الْمُدَّعِي يكْتب شَهَادَة كل وَاحِد تَحت اسْمه على الْوَجْه الَّذِي تقرر وَيخْتم الْكتاب ثمَّ يكْتب بِنَفسِهِ فِي ذَلِك الْيَوْم أَسمَاء الشُّهُود أَو يَأْمر الْكَاتِب حَتَّى يَكْتُبهُ بَين يَدَيْهِ وَيخْتم وَيبْعَث بذلك على يَد رجل من أهل الثِّقَة فِي السِّرّ إِلَى أهل الثِّقَة وَالسِّلَاح عِنْده حَتَّى يعدلُوا الشُّهُود
فَإِذا اتّفق اثْنَان أَو أَكثر على تَزْكِيَة رجل قبل قَوْله وَعمل بِهِ
وَإِن اجْتمع جمَاعَة على أَنه ثِقَة وَاثْنَانِ على جرحه يَأْخُذ بِالْجرْحِ
وَالْعدَد شَرط عِنْدهمَا فِي المزكين
وَأما عِنْد أبي حنيفَة فالواحد كَاف

(3/373)


وَكَذَا الْخلاف فِي الَّذِي يبْعَث المستورة يشْتَرط فِيهِ الْعدَد عِنْدهمَا خلافًا لَهُ
ثمَّ يسْأَل عَن التَّزْكِيَة عَلَانيَة بَعْدَمَا يسْأَل فِي السِّرّ حَتَّى لَا يَقع فِيهِ رِيبَة على القَاضِي فيتهم بذلك
وَلَا يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يقبل الْهَدِيَّة إِلَّا من ذِي رحم محرم مِنْهُ أَو من صديق قديم الصُّحْبَة قد كَانَ بَينهمَا التهادي قبل زمَان الْقَضَاء فَأَما من غير هذَيْن فَلَا يقبل الْهَدِيَّة وَيكون ذَلِك فِي معنى الرِّشْوَة
وَأما الدعْوَة فَإِن كَانَ دَعْوَة عَامَّة مثل دَعْوَة الْعرس والختان فَلَا بَأْس بذلك
فَأَما الدعْوَة الْخَاصَّة فَإِن كَانَت من ذِي الرَّحِم الْمحرم أَو الصّديق الْقَدِيم الَّذِي كَانَ يضيفه قبل الْقَضَاء فَلَا بَأْس بالإجابة
وَفِي غَيرهمَا لَا يَنْبَغِي أَن يحضر لِأَن ذَلِك يُوجب تُهْمَة فِيهِ
وَلَا بَأْس للْقَاضِي أَن يبْعَث الْخَصْمَيْنِ إِلَى الْمُصَالحَة إِن طمع مِنْهُمَا الْمُصَالحَة
وَإِن لم يطْمع وَلم يرضيا بذلك فَلَا يردهما إِلَى الصُّلْح ويتركهما على الْخُصُومَة وَينفذ الْقَضَاء فِي حق من قَامَت الْحجَّة لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم

(3/374)