لسان الحكام في معرفة الأحكام

الْفَصْل السَّادِس فِي الْإِقْرَار
الْإِقْرَار هُوَ إِخْبَار بِحَق لآخر عَلَيْهِ وَحكمه ظُهُور الْمقر بِهِ لَا إثْبَاته ابْتِدَاء فَيصح الْإِقْرَار بِالْخمرِ للْمُسلمِ حَتَّى يُؤمر بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ وَلَا يَصح الْإِقْرَار بِالطَّلَاق وَالْعتاق مكْرها وَلَو كَانَ انشاء يَصح مَعَ الاكراه لِأَن طَلَاق الْمُكْره وإعتاقه واقعان عندنَا وَاسْتدلَّ بعض على كَونه اخبارا بمسائل مِنْهَا إِذا أقرّ بِنصْف دَاره مشَاعا صَحَّ وَلَو كَانَ تَمْلِيكًا لم يَصح وَمِنْهَا إِذا أقرَّت بِالزَّوْجِيَّةِ صَحَّ وَلَو كَانَ تَمْلِيكًا لم يَصح الا بِمحضر من الشُّهُود وَمِنْهَا إِذا أقرّ الْمَرِيض بدين مُسْتَغْرق جَمِيع مَاله صَحَّ وَلَو كَانَ تَمْلِيكًا لم يَصح وَمِنْهَا إِذا أقرّ العَبْد الْمَأْذُون لرجل بِعَين فِي يَده صَحَّ وَلَو كَانَ تَمْلِيكًا لم يَصح وَاسْتدلَّ بعض على كَونه تَمْلِيكًا بمسائل مِنْهَا إِذا أقرّ لرجل فَرد إِقْرَاره ثمَّ قبل لَا يَصح وَلَو كَانَ إِخْبَارًا لصَحَّ وَمِنْهَا إِذا أقرّ الْمَرِيض لوَارِثه بدين لم يَصح وَلَو كَانَ إِخْبَارًا لصَحَّ وَمِنْهَا أَن الْملك الثَّابِت بِسَبَب الْإِقْرَار لَا يظْهر فِي حق الزَّوَائِد المستهلكة حَتَّى لَا يملك الْمقر لَهُ مطالبتها وَلَو كَانَ إِخْبَارًا لكَانَتْ مَضْمُونَة عَلَيْهِ
وَفِي الذَّخِيرَة وَالْمُحِيط ادّعى عينا فِي يَد انسان أَنَّهَا لَهُ ثمَّ إِن صَاحب الْيَد أقرّ لَهُ بِهِ تصح هَذِه الدَّعْوَى عِنْد الْبَعْض وَعند عَامَّة الْمَشَايِخ لَا يَصح لِأَن نفس الْإِقْرَار لَا يصلح سَببا للاستحقاق فَإِن الاقرار كَاذِبًا لَا يثبت الِاسْتِحْقَاق للْمقر لَهُ وَعند من يَقُول يَصح لَو نكل فالفتوى على أَنه لَا يحلف على الْإِقْرَار وَإِنَّمَا يحلف على المَال
قَالَ صَاحب الْفُصُول قَامَت على قَول من يَقُول من الْمَشَايِخ إِنَّه تمْلِيك فِي الْحَال يَنْبَغِي أَن تصح دَعْوَى المَال بِسَبَب الْإِقْرَار وعَلى قَول من يَقُول إِنَّه إِخْبَار لَا تصح وَأَجْمعُوا على أَنه لَو قَالَ هَذَا الْعين ملكي وَهَكَذَا أقرّ بِهِ صَاحب الْيَد تصح هَذِه الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لم يَجْعَل الْإِقْرَار سَبَب الْوُجُوب الْجُمْلَة من شرح الْوِقَايَة لِابْنِ فرشته
وَفِي المنبع وَلَا يَصح إِقْرَار الصَّبِي إِلَّا إِذا كَانَ مَأْذُونا بِالتِّجَارَة فَإِن إِقْرَاره جَائِز بدين لرجل أَو وَدِيعَة أَو عَارِية أَو مُضَارَبَة أَو غصب لِأَنَّهُ الْتحق بِسَبَب الاذن بالبالغ لدلَالَة الاذن على عقله وَلَا يَصح إِقْرَاره بِالْمهْرِ وَالْجِنَايَة وَالْكَفَالَة لِأَنَّهَا غير دَاخِلَة تَحت الاذن إِذْ التِّجَارَة مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ وَالنِّكَاح مُبَادلَة مَا لَيْسَ بِمَال وَالْكَفَالَة تبرع من وَجه فَلم تكن تِجَارَة مُطلقَة وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون لَا يَصح إِقْرَاره وَكَذَلِكَ العَبْد الْمَحْجُور

(1/265)


لَا يَصح إِقْرَاره بِالْمَالِ وَإِن كَانَ يَصح بالحدود وَالْقصاص لِأَن ذمَّته ضعفت برقه فانضمت إِلَيْهَا مَالِيَّة الرَّقَبَة وَالْكَسْب وَهِي ملك الْمولى فَلَا يَصح إِقْرَاره عَلَيْهِ بِخِلَاف العَبْد الْمَأْذُون فَإِن إِقْرَاره بالديون وَبِمَا فِي يَده صَحِيح لِأَن الْمولى رضى بِإِسْقَاط حَقه بالتسليط عَلَيْهِ والنائم والمغمى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ وَإِقْرَار السَّكْرَان جَائِز بالحقوق كلهَا الا بالحدود الْخَالِصَة وَالرِّدَّة وتنفذ سَائِر التَّصَرُّفَات من السَّكْرَان كَمَا تنفذ من الصاحي وَسَيَجِيءُ تَمَامه فِي فصل الطَّلَاق إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وكما يَصح الْإِقْرَار بالمعلوم يَصح بِالْمَجْهُولِ بِخِلَاف الْجَهَالَة فِي الْمقر لَهُ فَإِنَّهُ يمْنَع صِحَة الاقرار بِلَا خلاف
وَفِي الذَّخِيرَة جَهَالَة الْمقر لَهُ إِنَّمَا تمنع صِحَة الْإِقْرَار إِذا كَانَت متفاحشة بِأَن قَالَ هَذَا العَبْد لوَاحِد من النَّاس أما إِذا لم تكن متفاحشة لَا تمنع بِأَن قَالَ هَذَا العَبْد لأحد هذَيْن الرجلَيْن
وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ رَحمَه الله تَعَالَى الْجَهَالَة تمنع أَيْضا فِي هَذِه الصُّورَة لِأَنَّهُ أقرّ للْمَجْهُول وَأَنه لَا يُفِيد لِأَن فَائِدَته الْجَبْر على الْبَيَان وَهَا هُنَا لَا يجْبر على الْبَيَان وَالأَصَح أَنه يَصح لِأَنَّهُ يُفِيد وَفَائِدَته وُصُول الْحق إِلَى الْمُسْتَحق وَطَرِيق الْوُصُول ثَابت لِأَنَّهُمَا لَو اتفقَا على أَخذه فَلَهُمَا حق الْأَخْذ فَالْحَاصِل أَن الْإِقْرَار للْمَجْهُول لَا يَصح إِذا كَانَت الْجَهَالَة متفاحشة وَإِذا لم تكن متفاحشة يجوز وَالْإِقْرَار بِمَجْهُول يَصح مُطلقًا مَعْلُوما كَانَ أَو مَجْهُولا وَأما الْإِبْرَاء عَن الْحُقُوق المجهولة يَصح بعوض وبدونه
وَفِي المنبع الْإِبْرَاء عَن الْأَعْيَان لَا يَصح ثمَّ قَالَ وَفِي الْبَدَائِع لَو ابرأه عَن ضَمَان الْعين وَهِي قَائِمَة فِي يَده صَحَّ الابراء وَسقط عَنهُ الضَّمَان عِنْد أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة وَقَالَ زفر لَا يَصح لِأَن الْإِبْرَاء إِسْقَاط وَإِسْقَاط الْأَعْيَان لَا يعقل فالتحق بِالْعدمِ وَبقيت الْعين مَضْمُونَة كَمَا كَانَت وَإِذا هَلَكت ضمن
رجل فِي يَده دَار ادَّعَاهَا آخر فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْك الْقيَاس أَن يُؤمر بِالدفع إِلَى الْمُدَّعِي إِلَى أَن يبرهن على الشِّرَاء مِنْهُ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُمْهل ثَلَاثَة ايام بعد التكفيل عَلَيْهِ فَإِن برهن وَإِلَّا سلم إِلَى الْمُدَّعِي وعَلى الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان إِذا ادّعى الْمَدْيُون الْإِيفَاء وجحده الْمُدَّعِي فَلَا بُد من برهَان الْمُدَّعِي عَلَيْهِ
وَكَانَ الامام ظهير الدّين يُفْتِي فِيهَا بِالْقِيَاسِ
أقرّ أَنه اقْتضى من فلَان ألفا كَانَت لَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ فلَان لم يكن لَك عَليّ شَيْء يضمن الْمقر بعد مَا يحلف الْمقر لَهُ على أَنه لم يكن لَهُ عَلَيْهِ شَيْء
قَوْله عِنْد دَعْوَى المَال عَلَيْهِ مَا قبضت مِنْك بِغَيْر حق لَا يكون إِقْرَارا وَلَو قَالَ دَفعته إِلَى أَخِيك بِأَمْرك إِقْرَار بِالْقَبْضِ فَلَا يبرأ بِلَا إِثْبَات الْأَمر بالإيصال والاتصال وَلَو قَالَ بِأَيّ سَبَب دَفعته الي قَالُوا يكون إِقْرَارا وَفِيه نظر
قدمه قبل حُلُول الْأَجَل إِلَى الْحَاكِم وَطَلَبه بِهِ فَلهُ أَن يحلف مَا عَليّ الْيَوْم شَيْء وَهَذَا الْحلف لَا يكون إِقْرَارا بِالْمَالِ الْمُدَّعِي بِهِ ويسعه أَن يحلف بِهَذَا الْوَجْه إِن لم يقْصد بِهِ ذهَاب حَقه
قَالَ الْفَقِيه لَا يلْتَفت إِلَى قَول من جعله إِقْرَارا بِوُجُوب المَال الْمُؤَجل وَكَذَلِكَ الْكَلَام إِذا حلف الزَّوْج عِنْد إِنْكَاره دَعْوَى زَوجته الصَدَاق فَإِن المهور فِي زَمَاننَا مُؤَجّلَة بِالْعَادَةِ قلت وَهَذَا دَلِيل على أَن الزَّوْجَة لَيْسَ لَهَا مُطَالبَة زَوجهَا بِالْمهْرِ الْمُؤخر بعد قبضهَا الْمُعَجل ودخوله بهَا الا بعد الْفِرَاق بِمَوْت أَو طَلَاق لِأَن

(1/266)


الْمُؤخر مُؤَجل عرفا لما مر وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وَلَا بُد من نقل صَرِيح يعْتَمد عَلَيْهِ فِي ذَلِك فيا أَيهَا الطَّالِب لَا تجزم بِشَيْء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الا بعد النَّقْل الصَّرِيح والتأمل الصَّحِيح
ادّعى عَلَيْهِ مَالا فَقَالَ قَبضته لكنه ملكي يُؤمر بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَن يكون على الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ
رجل قَالَ لآخر اقْضِ الْألف الَّتِي لي عَلَيْك أَو غلَّة عَبدِي فَقَالَ نعم أَو قَالَ غَدا أعطيكها أَو اقعد فاقبضها أَو وَزنهَا لَا على وَجه السخرية أَو قَالَ خُذْهَا أَو أرسل غَدا من يقبضهَا أَو يتزنها أَو لَا أزنها لَك الْيَوْم أَو لَا تأخذها مني الْيَوْم أَو حَتَّى يدْخل عَليّ مَالِي أَو يقدم على غلامي أَو قَالَ لم تحل أَو قَالَ صالحني عَنْهَا أَو قَالَ لَا أقضيكها أَو لَا أعطيكها أَو قَالَ أحل غرماءك عَليّ أَو بَعضهم أَو من شِئْت مِنْهُم أَو يحتال بهَا عَليّ أَو قَضَاهَا فلَان عني أَو أبرأتينها أَو أحللتنيها أَو وهبتنيها أَو تَصَدَّقت بهَا عَليّ أَو قَالَ مَالك عَليّ الا مائَة أَو سوى مائَة أَو غير مائَة أَو قَالَ اشْهَدُوا أَن لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم فَإِنَّهُ إِقْرَار فِي ذَلِك كُله وَلَو ادّعى عَلَيْهِ ألفا فَقَالَ لَا أعطكيها أَو قَالَ مَا لفُلَان عَليّ شَيْء فَلَا تخبره أَن لَهُ عَليّ ألفا لَا يكون اقرارا وَلَو لم يبْدَأ بِالنَّفْيِ لَكِن قَالَ لَا تخبر فلَانا أَن لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم أَو لَا تعلمه يكون اقرارا وَمن اصحابنا من قَالَ الصَّحِيح أَنه فِي الاخبار لَا يكون اقرارا وَلَو قَالَ لَا تشهدوا أَن لفُلَان عَليّ ألفا لَا يكون اقرارا وَذكر مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى أَن قَوْله لَا تخبره إِقْرَار وَلَا تشهد لَا يكون اقرارا
وَفِي البزازي أَشَارَ إِلَى أَن قَوْله لَا تخبره لَا يكون اقرارا وَقَوله أخبرهُ يكون إِقْرَارا قَالَ الْكَرْخِي الصَّحِيح هَذَا وَالله أعلم وَمَا ذكر أَن قَوْله لَا تخبره إِقْرَار خطأ قَالَ مَشَايِخ بُخَارى هُوَ الصَّوَاب وَقَالَ فِي الْقنية وَهُوَ الصَّحِيح
رجل قَالَ وجدت فِي كتابي أَن لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم أَو بخطي أَو كتبت بيَدي أَن لَهُ عَليّ ألفا فَهَذَا كُله بَاطِل وَإِذا قَالَ البَائِع وجدت بخطي أَن لفُلَان عَليّ كَذَا لزمَه ذَلِك
قَالَ السَّرخسِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَكَذَا خطّ الصراف والسمسار فعلى هَذَا لَو قَالَ للصكاك اكْتُبْ خطا عَليّ لفُلَان بِأَلف دِرْهَم أَو اكْتُبْ خطا بِبيع هَذِه الدَّار بِأَلف دِرْهَم من فلَان أَو اكْتُبْ لامرأتي صك الطَّلَاق كَانَ إِقْرَارا بِالْمَالِ وَالْبيع وَالطَّلَاق وَحل لِلْكَاتِبِ أَن يشْهد بِمَا سمع سَوَاء كتب أَو لَا
قَالَ لآخر لي عَلَيْك ألف فَقَالَ الآخر ولي عَلَيْك مثلهَا أَو قَالَ طلقت امْرَأَتك فَقَالَ وَأَنت طلقت امْرَأَتك أوقال أعتقت عَبدك فَقَالَ وَأَنت أعتقت عَبدك لَا يكون إِقْرَارا فِي ظَاهر الرِّوَايَة وروى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى إِنَّه إِقْرَار وَبِه يُفْتى وَلَو جعلت زَوجهَا فِي حل يبرأ عَن الْمهْر كَمَا لَو أَبْرَأ غَرِيمه من الدّين الا إِذا كَانَ هُنَاكَ مَا يَخُصُّهُ
رجل قَالَ أبرأت جَمِيع غرمائي لَا يَصح إِلَّا إِذا نَص على قوم مخصوصين قَالَ الْفَقِيه وَعِنْدِي أَنه يَصح
الْإِقْرَار وَالْإِبْرَاء لَا يحتاجان إِلَى الْقبُول ويرتدان بِالرَّدِّ لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف قرض أَو عِنْدِي ألف وَدِيعَة الا أَنِّي لم أَقبض لم يصدق وَلَو قَالَ أقرضتني أَو أودعتني أَو أَعْطَيْتنِي لكني لم أقبضهُ إِن وصل صدق اسْتِحْسَانًا وَإِلَّا لَا
غصبت مِنْهُ هَذَا العَبْد أمس إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَا يلْزم
عَليّ ألف إِن شَاءَ فلَان فشاء فلَان لَا يلْزم

(1/267)


جَمِيع مَا فِي يَدي أَو يعرف بِي أَو ينْسب الي لفُلَان يكون إِقْرَارا
وَلَو قَالَ جَمِيع مَالِي أَو مَا أملكهُ لفُلَان فَهُوَ هبة لَا يملك بِلَا تَسْلِيم وَقبُول انْتهى كَلَام البزازي
وَفِي الْقنية اسْتَأْجر مِنْهُ دَارا فَهُوَ إِقْرَار لَهُ بِالْملكِ وَلَو أقرّ أَنه كَانَ يدْفع غلَّة هَذِه الدَّار إِلَى فلَان لم يكن إِقْرَارا بِالدَّار لَهُ وَلَو قَالَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ لَا أقرّ وَلَا أنكر فَهُوَ على صُورَة الْإِنْكَار وَقيل إِقْرَار لقَوْله لَا أنكر وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى يحبس وَلَا يحلف لِأَنَّهُ لم يظْهر مِنْهُ الْإِنْكَار وَعِنْدَهُمَا هُوَ مُنكر حَيْثُ قَالَ لَا أقرّ
قَالَ الآخر لي عَلَيْك كَذَا فادفعه الي فَقَالَ استهزاء نعم أَحْسَنت فَهُوَ إِقْرَار ويؤاخذ بِهِ
ادّعى عَلَيْهِ مَالا مَعْلُوما فَقَالَ مستهزئا بِهِ الْأَمر أَمرك أتفكر الْيَوْم فَهُوَ إِقْرَار بالمدعي
إِذا مَاتَ الْمَدْيُون قبل تَمام الْأَجَل فطالب الدَّائِن ابْنه فَقَالَ اصبر حَتَّى يحل الاجل فَهُوَ إِقْرَار
قَول النَّاس فِي الْعَادة جَمِيع مَا فِي يَدي حق وَملك لفُلَان فَهُوَ فِي عرفنَا مَحْمُول على وَجه الْكَرَامَة وانه حسن
ادّعى على امْرَأَة نِكَاحا فأنكرت التَّزْوِيج ثمَّ طالبته بِالْمهْرِ فَهُوَ إِقْرَار بِهِ وَقَالَ مجد الْأَئِمَّة التركماني الْإِقْرَار بِالْمهْرِ لَا يكون إِقْرَارا بِالنِّكَاحِ وَالْإِقْرَار بِالْوَلَدِ من الْحرَّة إِقْرَار بِالنِّكَاحِ
طلب رب الدّين الْكَفِيل بِالْمَالِ فَقَالَ لَهُ لم لَا تطالب الْأَصِيل فَقَالَ لَا شغل لي مَعَه لَا يكون إِقْرَارا بِالْإِبْرَاءِ لِأَنَّهُ مُحْتَمل
وَذكر فِي الْوَلْوَالجيّ رجل أقرّ لامْرَأَته فِي مَرضه بِمهْر ألف دِرْهَم وَقد تزَوجهَا على ذَلِك ثمَّ اقامت الْوَرَثَة الْبَيِّنَة بعد الْمَوْت على أَن الْمَرْأَة وهبت مهرهَا لزَوجهَا فِي حَيَاة الزَّوْج هبة صَحِيحَة لَا تقبل هَذِه الشَّهَادَة وَالْمهْر لَازم بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لما أقرّ فِي مَرضه وَتلك الْحَالة حَالَة تدارك مَا سبق فَهَذَا دَلِيل على أَن الْإِقْرَار لَازم فيؤاخذ بذلك
رجل يمرض يَوْمًا وَيصِح يَوْمًا ويمرض يَوْمَيْنِ وَيصِح يَوْمًا أقرّ لِابْنِهِ بدين فِي ذَلِك الْمَرَض فَإِن صَحَّ بعد ذَلِك جَازَ مَا صنع لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِمَرَض الْمَوْت فَإِن فعل ذَلِك فِي مرض ثمَّ لم يَصح بعد ذَلِك وَصَارَ صَاحب فرَاش حَتَّى اتَّصل بِالْمَوْتِ فَإِقْرَاره غير جَائِز لِأَن هَذَا إِقْرَار الْمَرِيض فِي مرض مَوته لبَعض ورثته فَيكون بَاطِلا لمَكَان التُّهْمَة وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا وَصِيَّة لوَارث اه
رجل قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم فِي علمي لم يلْزمه شَيْء فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِيمَا علمت لم يلْزمه شَيْء عِنْدهمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى يلْزمه ذَلِك
وَفِي البزازي قَالَ لَهُ عَليّ دَرَاهِم أَو دريهمات فَثَلَاثَة لَو قَالَ دَرَاهِم كَثِيرَة فعلى قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى عشرَة وعَلى قَوْلهمَا مِائَتَا دِرْهَم ودنانير كَثِيرَة عِنْده عشرَة وَعِنْدَهُمَا عشرُون
قَالَ مَال عَظِيم عِنْدهمَا نِصَاب الزَّكَاة مِائَتَان وَلم يذكر مَا عِنْده قيل ينظر إِلَى حَال الْمقر فَرب رجل يستعظم الْمِائَتَيْنِ وَرب آخر لَا يستعظم الْعشْرَة آلَاف
قَالَ كَذَا دِينَارا يُقَال إِن كَذَا تسْتَعْمل فِي الْعدَد وَأَقل الْعدَد اثْنَان عَليّ مَال فدرهم عَليّ مَال لَا قَلِيل وَلَا كثير مِائَتَان عَليّ دَرَاهِم أضعافا مضاعفة أَو مضاعفة أضعافا ثَمَانِيَة عشر عِنْدهمَا عَليّ دَرَاهِم مضاعفة سِتَّة أَكثر الدَّرَاهِم عشرَة عِنْده مِائَتَان عِنْدهمَا شَيْء من الدَّرَاهِم أَو من الدَّنَانِير ثَلَاثَة أَمْوَال عِظَام سِتّمائَة مَا بَين عشرَة إِلَى دِرْهَم أَو مَا بَين دِرْهَم إِلَى عشرَة تِسْعَة عِنْده وَمَا بَين عشرَة إِلَى عشْرين تِسْعَة عشر عِنْده

(1/268)


وَعِنْدَهُمَا عشرَة فِي الأولى وَعِشْرُونَ فِي الثَّانِي مَا بَين دِرْهَم إِلَى دِرْهَم دِرْهَم عِنْد ابي حنيفَة وابي يُوسُف رحمهمَا الله تَعَالَى
رجل قَالَ مَا فِي يَدي من قَلِيل وَكثير من عبيد وَغَيره أَو مَا فِي حانوتي لفُلَان صَحَّ لِأَنَّهُ عَام لَا مَجْهُول
وَإِن تنَازعا فِي شَيْء أَنه كَانَ وَقت الْإِقْرَار فِي يَده أَو حانوته فَقَالَ الْمقر لَا بل حدث بعده القَوْل للْمقر
رجل قَالَ هَذَا الْبَيْت وَمَا أغلق عَلَيْهِ بَابه لامرأتي وَفِيه مَتَاع فلهَا الْبَيْت وَالْمَتَاع بِخِلَاف مَا لَو كَانَ مَكَان الْإِقْرَار بيع فَإِن الْمَتَاع لَا يدْخل فِيهِ لِأَنَّهُ يصير كَأَنَّهُ بَاعَ الْبَيْت بحقوقه
وَفِي الْمُنْتَقى لي عَلَيْك ألف فَقَالَ أخر عني دعواك شهرا أَو أخر الَّذِي ادعيت بِهِ لَا يكون إِقْرَارا وَكَذَا لَو قَالَ أخر دعواك حَتَّى يقدم مَالِي فأعطيكها وَلَو قَالَ بلَى فأعطيكها يكون إِقْرَارا عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى
لي عَلَيْك مِائَتَان فَقَالَ قضيت مائَة بعد مائَة فَلَا حق لَك على لَا يكون إِقْرَارا وَكَذَا لَو قَالَ قضيت خمسين لَا يكون إِقْرَارا لي عَلَيْك ألف فَقَالَ حسبتها لَك أَو قضيتك أَو أحلتك بهَا أَو هبتها أَو أبرأتنى أَو أحللتنى قَالَ الناطفى كُله إِقْرَار
رجل قَالَ لآخر أقرضتك الْفَا فَقَالَ مَا استقرضت من أحد سواك لَا يكون إِقْرَارا وَلَو قَالَ استقرضت مِنْك يكون إِقْرَارا
وَذكر السَّرخسِيّ أَن قَوْله مَا استقرضت من أحد سواك إِذا كَانَ مجيبا لَهُ لِأَن مَعْنَاهُ استقرضت مِنْك لَا من غَيْرك وَلَو صرح بقوله استقرضت مِنْك لَا يكون إِقْرَارا ثمَّ قَالَ هَذَا من أعجب الْمسَائِل فَإِن إِقْرَاره بِفعل الْغَيْر أَعنِي قَوْله أقرضتني إِقْرَار وبفعل نَفسه أَعنِي قَوْله استقرضت مِنْك ابْتِدَاء لَا يكون إِقْرَارا
وَفِي بعض الْفَتَاوَى استقرضت مِنْك فَلم تقرضني صَحَّ إِذا وصل وَإِلَّا لَا
وَذكر شيخ الاسلام أَن تَعْلِيق الْإِقْرَار بِالشّرطِ بَاطِل
وَقَوله إِذا جَاءَ رَأس الشَّهْر أَو إِذا جَاءَ الْأَضْحَى أَو إِذا أفطر النَّاس أَو إِذا مت لَيْسَ بتعليق بل تَأْجِيل إِلَى هَذِه الْأَوْقَات لصلوحه للتأجيل فَإِن الدّين بِالْمَوْتِ يحل وَلَا يصدق فِي دَعْوَى التَّأْجِيل بِخِلَاف قَوْله إِذا قدم فلَان إِلَّا إِذا ادّعى كَفَالَة معلقَة بقدوم فلَان
الْإِشَارَة تقوم مقَام الْعبارَة وَإِن قدر على الْكِتَابَة
كتب كتابا فِيهِ إِقْرَار بَين يَدي الشُّهُود فَهَذَا على اقسام الأول أَن يكْتب وَلَا يَقُول شَيْئا فَإِنَّهُ لَا يكون إِقْرَارا فَلَا تحل الشَّهَادَة بِأَنَّهُ إِقْرَار قَالَ القَاضِي النَّسَفِيّ رَحمَه الله تَعَالَى إِن كتب مصدرا مرسوما وَعلم الشَّاهِد حل لَهُ الشَّهَادَة على إِقْرَاره كَمَا لَو أقرّ كَذَلِك وَإِن لم يقل اشْهَدْ عَليّ بِهِ فعلى هَذَا إِذا كتب للْغَائِب على وَجه الرسَالَة أما بعد فعلي لَك كَذَا يكون إِقْرَارا لِأَن الْكِتَابَة من الْغَائِب كالخطاب من الْحَاضِر فَيكون متكلما وَعَامة الْمَشَايِخ على خِلَافه لِأَن الْكِتَابَة قد تكون للتجربة وَفِي حق الْأَخْرَس يشْتَرط أَن يكون معنونا مصدرا وَإِن لم يكن إِلَى الْغَائِب الثَّانِي كتب وَقَرَأَ عِنْد الشُّهُود لَهُم أَن يشْهدُوا وَإِن لم يقل اشْهَدُوا عَليّ الثَّالِث أَن يقرأه عَلَيْهِ عِنْدهم غَيره فَيَقُول الْكَاتِب هَذَا اشْهَدُوا عَليّ بِهِ الرَّابِع أَن يكْتب عِنْدهم وَيَقُول اشْهَدُوا عَليّ بِمَا فِيهِ إِن عمِلُوا بِمَا فِيهِ كَانَ إِقْرَار وَإِلَّا فَلَا

(1/269)


قَالَ أَعْطِنِي الْألف الَّتِي لي عَلَيْك فَقَالَ اصبر أَو سَوف تأخذها لَا يكون إِقْرَارا
قَالَ مَال نَفِيس أَو كريم أَو حظير لَا رِوَايَة فِيهِ وَكَانَ الْجِرْجَانِيّ رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول مِائَتَان أُلُوف دَرَاهِم ثَلَاثَة آلَاف أُلُوف كَثِيرَة عشرَة آلَاف أَشْيَاء كَثِيرَة أَرْبَعُونَ إبل كَثِيرَة خَمْسَة وَعِشْرُونَ
قَالَ لَهُ أَعطيتك مِقْدَار كَذَا فَقَالَ بِأَيّ سَبَب أَعْطَيْتنِي يكون إِقْرَارا بِالدفع إِلَيْهِ لِأَنَّهُ صرح بِالدفع إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن السَّبَب
قَالَ لي عَلَيْك كَذَا فَقَالَ صدقت يلْزمه إِذا لم يقلهُ على وَجه الِاسْتِهْزَاء وَيعرف ذَلِك بالنغمة
إِذا أقرّ أَنه قبض مِنْهُ كَذَا قَالَ شيخ الاسلام لَا يلْزمه مالم يقل قَبضته بِغَيْر حق قبضا يُوجب الرَّد وَالْأَشْبَه أَنه يلْزم الرَّد لِأَن الْقَبْض الْمُطلق سَبَب يُوجب الرَّد وَالضَّمان كالأخذ فَإِنَّهُ نَص فِي الأَصْل أَنه إِذا قَالَ أخذت مِنْك ألفا وَدِيعَة وَقَالَ الْمقر لَهُ وَالْمقر ضَامِن مَعَ أَن الْمقر نَص على الْأَخْذ وَدِيعَة فَهَذَا أولى
طلب الصُّلْح وَالْإِبْرَاء عَن الدَّعْوَى لَا يكون إِقْرَارا وَطلب الصُّلْح وَالْإِبْرَاء عَن المَال يكون إِقْرَارا
ادّعى الْإِقْرَار فِي الصغر وَأنْكرهُ الْمقر لَهُ فَالْقَوْل للْمقر لاستناده إِلَى حَالَة معهودة مُنَافِيَة للضَّمَان
أَخَذته مِنْك عَارِية وَقَالَ لَا بل بيعا فَالْقَوْل للآخذ لإنكاره البيع وَكَذَا لَو قَالَ أخذت الدَّرَاهِم مِنْك وَدِيعَة وَقَالَ لَا بل قرضا وَكَذَا الثَّوْب لَو قَالَ أَخَذته مِنْك عَارِية وَقَالَ بل أَخَذته بيعا فَلَا يكون إِقْرَارا وَهَذَا إِذا لم يلْبسهُ فَإِن كَانَ لبسه وَهلك ضمن
صب دهنا لإِنْسَان عِنْد الشُّهُود فَادّعى مَالِكه ضَمَانه فَقَالَ كَانَ نجسا لوُقُوع فَأْرَة فِيهِ فَالْقَوْل للصاب لإنكاره الضَّمَان وَالشُّهُود يشْهدُونَ على الصب لَا على عدم النَّجَاسَة
وَفِي المنبع إِذا قَالَ الْمقر فِي إِقْرَاره لَهُ عَليّ أَو قبلي ألف دِرْهَم فقد أقرّ بِالدّينِ وَلَو قَالَ عِنْدِي أَو معي أَو فِي بَيْتِي أَو فِي صندوقي أَو فِي كيسي فَهُوَ إِقْرَار بالأمانة فِي يَده لِأَن هَذِه الْمَوَاضِع إِنَّمَا تكون محلا للعين لَا للدّين إِذْ مَحَله الذِّمَّة
رجل أقرّ لآخر بِأَلف دِرْهَم مُؤَجّلَة إِلَى شهر وَقَالَ الْمقر لَهُ بل هِيَ حَالَة فَالْقَوْل قَول الْمقر لَهُ عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد رحمهمَا الله تَعَالَى لزمَه مُؤَجّلا
إِذا أقرّ بِمِائَة على نَفسه لرجل واشهد شَاهِدين ثمَّ أقرّ فِي مَوضِع آخر لذَلِك الرجل بِمِائَة أَو أقل أَو أَكثر أَو اشْهَدْ شَاهِدين فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى هما مالان إِذا ادّعى الطَّالِب الْمَالَيْنِ وَعِنْدَهُمَا مَال وَاحِد إِلَّا إِذا تَفَاوتا فَيلْزمهُ الْأَكْثَر
وَمحل الْخلاف فِي الْإِقْرَار الْمُجَرّد عَن السَّبَب وَعَن الصَّك إِذْ فِي الْمُقَيد بِالسَّبَبِ المتحد بِأَن قَالَ فِي الكرتين ثمن هَذِه الْجَارِيَة المَال وَاحِد مُتحد على كال حَال وَفِي الْمُقَيد بِالسَّبَبِ الْمُخْتَلف بِأَن قَالَ ثمن هَذِه الْجَارِيَة فِي الكرة الأولى وَثمن هَذَا العَبْد فِي الكرة الْأُخْرَى المَال مُخْتَلف على كل حَال
وَكَذَا إِذا كَانَ الْإِقْرَار مُطلقًا عَن السَّبَب لَكِن مَعَ الصَّك فَإِن كَانَ بِهِ صك وَاحِد فَالْمَال وَاحِد سَوَاء كَانَ الْإِقْرَار وَالْإِشْهَاد فِي موطن وَاحِد أَو موطنين وَإِن كَانَ صكان فمالان فِي الْوَجْهَيْنِ وَكَذَا إِذا أقرّ بِمِائَة مُطلقًا وَكتب فِي صك ثمَّ أقرّ وَكتب فِي صك فهما مالان
إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم بل الْفَا دِرْهَم يلْزمه ألفا دِرْهَم عِنْد عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة وَقَالَ زفر يلْزمه

(1/270)


ثَلَاثَة آلَاف لِأَنَّهُ أقرّ بِأَلف ثمَّ رَجَعَ وَأقر بِأَلفَيْنِ فصح الْإِقْرَار وَلم يَصح الرُّجُوع كَمَا فِي قَوْله أَنْت طَالِق وَاحِدَة لَا بل ثِنْتَيْنِ
رجل قَالَ غصبنا من فلَان ألف دِرْهَم ثمَّ قَالَ وَكُنَّا عشرَة أنفس وَالْمقر لَهُ يعدعي أَنه هُوَ الْغَاصِب مِنْهُ الْألف وَحده لزمَه الْألف كَامِلا وَقَالَ زفر لَا يلْزمه إِلَّا عشر الْألف وعَلى هَذَا الْخلاف مَا لَو قَالَ أقرضنا أَو أودعنا أَو أعارنا
رجل ادّعى على الْمَيِّت دينا لَا يزِيد على تركته وَله ابْنَانِ فَصدقهُ أَحدهمَا وَكذبه الآخر فعندنا يُؤْخَذ جَمِيع الدّين مِمَّا فِي يَد الْمُصدق إِن كَانَ وافيا بِالدّينِ وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى على الْمُصدق نصف الدّين لِأَنَّهُ أبعد عَن الضَّرَر وَلنَا أَنه أقرّ بِالدّينِ وَهُوَ مقدم على الْمِيرَاث فَمَا لم يقْض جَمِيع الدّين لَا تصير التَّرِكَة فارغة عَن الدّين فَلَا يكون لَهُ مِنْهَا شَيْء بِالْإِرْثِ
وَفِي الْحَقَائِق قَالَ الْحلْوانِي قَالَ مَشَايِخنَا رَحِمهم الله تَعَالَى فِيمَا روينَا فِي ظَاهر رِوَايَة أَصْحَابنَا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة شَيْء لم يشْتَرط فِي الْكتب وَهُوَ أَن يقْضِي عَلَيْهِ القَاضِي بِإِقْرَارِهِ وبمجرد الْإِقْرَار لَا يحل الدّين فِي نصِيبه ثمَّ قَالَ صَاحب الْحَقَائِق تحفظ هَذِه الزِّيَادَة انْتهى
نوع فِي الِاسْتِثْنَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ الِاسْتِثْنَاء فِي الأَصْل نَوْعَانِ أَحدهمَا أَن يكون الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَالثَّانِي أَن يكون من خلاف جنسه فَالْأول على ثَلَاثَة أوجه اسْتثِْنَاء الْقَلِيل من الْكثير واستثناء الْكثير من الْقَلِيل واستثناء الْكل من الْكل أما اسْتثِْنَاء الْقَلِيل من الْكثير فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف لِأَن الِاسْتِثْنَاء تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا فَإِذا قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة يلْزمه سَبْعَة كَأَنَّهُ قَالَ لفُلَان عَليّ سَبْعَة لِأَن للسبعة اسْمَيْنِ أَحدهمَا سَبْعَة وَالْآخر عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة
وَفِي الذَّخِيرَة محالا على الْمُنْتَقى قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لَو قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة دِرْهَم الا قَلِيلا فَعَلَيهِ أحد وَخَمْسُونَ درهما وَكَذَا فِي نَظَائِره نَحْو قَوْله إِلَّا شَيْئا لِأَن اسْتثِْنَاء الشَّيْء اسْتثِْنَاء الْأَقَل عرفا فأوجبنا النّصْف وَزِيَادَة دِرْهَم فقد اسْتثْنى الْأَقَل
وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى لَو قَالَ عَليّ عشرَة إِلَّا بَعْضهَا فَعَلَيهِ أَكثر من النّصْف وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا مائَة أَو خمسين قَالَ أَبُو سُلَيْمَان عَلَيْهِ تِسْعمائَة وَخَمْسُونَ لِأَنَّهُ ذكر كلمة الشَّك فِي الِاسْتِثْنَاء فَيثبت أقلهما فَكَذَا فِي هَذَا وَفِي رِوَايَة أبي حَفْص يلْزمه تِسْعمائَة لِأَن الشَّك فِي الِاسْتِثْنَاء يُوجب الشَّك فِي الْإِقْرَار فَكَأَنَّهُ قَالَ عَليّ تِسْعمائَة أَو تِسْعمائَة وَخَمْسُونَ فَيثبت الْأَقَل قَالُوا وَالْأول أصح لِأَن الشَّك حصل فِي الِاسْتِثْنَاء ظَاهرا
وَأما اسْتثِْنَاء الْكثير من الْقَلِيل بِأَن قَالَ لفُلَان عَليّ تِسْعَة إِلَّا عشرَة فَجَائِز فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَيلْزمهُ دِرْهَم إِلَّا مَا روى عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى أَنه لَا يَصح وَعَلِيهِ الْعشْرَة الْحَد وَهُوَ مَذْهَب الْفراء لِأَن الْعَرَب لم تَتَكَلَّم بِهِ وَالصَّحِيح ظَاهر الرِّوَايَة
وَأما اسْتثِْنَاء الْكل من الْكل فَبَاطِل بِأَن يَقُول لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا فَيلْزم عشرَة وَيَقَع ثَلَاث لِأَنَّهُ لَا يُمكن فِيهِ معنى الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا فَمَا لم يبْق شَيْء بعد الِاسْتِثْنَاء لم يُمكن جعله متكلما بِمَا بقى فَلم يَصح فَبَقيَ كَلَامه الأول بَاقِيا على حَاله كَمَا كَانَ

(1/271)


وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم اسْتغْفر الله الا مائَة دِرْهَم كَانَ الِاسْتِثْنَاء بَاطِلا وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة دِرْهَم يَا فلَان الا عشرَة كَانَ الِاسْتِثْنَاء جَائِزا
إِذا قَالَ لزيد عَليّ عشرَة الا تِسْعَة الا ثَمَانِيَة الا سَبْعَة الا سِتَّة الا خَمْسَة الا أَرْبَعَة الا ثَلَاثَة الا اثْنَيْنِ إِلَّا وَاحِدَة يلْزمه خَمْسَة فَالْأَفْضَل فِيهِ أَن يصرف كل اسْتثِْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ لكَونه أقرب الْمَذْكُور إِلَيْهِ فَيبْدَأ من الِاسْتِثْنَاء الْأَخير فيستثنى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثمَّ ينظر إِلَى الثَّانِي هَكَذَا إِلَى الِاسْتِثْنَاء الأول ثمَّ ينظر الْبَاقِي من الِاسْتِثْنَاء الأول فَيَسْتَثْنِي ذَلِك من الْجُمْلَة الملفوظة فَمَا بقى مِنْهَا فَهُوَ الْقدر الْمقر بِهِ
فَالْحَاصِل أَن الاستثناءات إِذا تعدّدت لَا تَخْلُو من أَن تكون متعاطفة أَو لَا تكون متعاطفة فَإِن كَانَت متعاطفة يعود الْكل إِلَى الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة فِي صدر الْكَلَام وَإِن لم تكن متعاطفة فَإِن استغرق الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي الأول فَيَعُود الْكل إِلَى الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة فِي صدر الْكَلَام ايضا وَإِن لم يسْتَغْرق فَيَعُود الآخر إِلَى مَا يَلِيهِ وهلم جرا
وَفِيه طَرِيق آخر وَهُوَ أَن يُؤْخَذ الْمُثبت فِي الْيَمين والمنفي فِي الْيَسَار ثمَّ بعد الْجمع وفراغ الْإِقْرَار يسْقط المنفيات من المثبتات فَمَا بَقِي يكون مقرا بِهِ كَمَا فِي مثالك لفُلَان عَليّ عشرَة الا تِسْعَة الا ثَمَانِيَة إِلَى آخِره فالمثبتات عشرَة وَثَمَانِية وَسِتَّة وَأَرْبَعَة وَاثْنَانِ فالمجموع ثَلَاثُونَ والمنفيات تِسْعَة وَسَبْعَة وَخَمْسَة وَثَلَاثَة وَوَاحِد فالمجموع خَمْسَة وَعِشْرُونَ فَإِذا أسقطت المنفيات من المثبتات يبْقى خَمْسَة وَهُوَ الْجَواب
قَالَ صَاحب المنبع ثمَّ إِنِّي تحيرت فِي ضبط إِعْرَاب هَذِه المستثنيات هَل تكون كلهَا وَاجِبَة النصب أَو مَا وَجب نَصبه هُوَ المنفيات لَا المثبتات فعرضت ذَلِك على فحول النُّحَاة فتحيروا وَمَا جسر أحدهم مِنْهُم على الرِّوَايَة غير أَن شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ الشَّافِعِي رَحمَه الله قد روى أَن وَالِده رَحمَه الله تَعَالَى كَانَ يلقنه هَذِه الْمَسْأَلَة بَعْضهَا مَنْصُوبًا وَبَعضهَا غير مَنْصُوب اه
رجل قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِن شَاءَ الله تَعَالَى بَطل إِقْرَاره لِأَنَّهُ علقه بِشَرْط وَإِنَّمَا يَصح التَّعْلِيق فِي الإنشاءات لَا الإخبارات وَالْإِقْرَار إِخْبَار فَلَا يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ
وَلَو قَالَ اشْهَدُوا عَليّ أَن لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِن مت فَهِيَ عَلَيْهِ عَاشَ أَو مَاتَ لِأَن هَذَا لَيْسَ باستثناء وَلَا مخاطرة فَإِن مَوته كَائِن لَا محَالة ثمَّ اخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى فِي أَن التَّعْلِيق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى إبِْطَال أَو تَعْلِيق فَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تَعْلِيق وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى إبِْطَال فعلى هَذَا قَوْله إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِن كَانَ إبطالا لإِقْرَاره فقد بَطل وَلَا يجب شَيْء وَإِن كَانَ تَعْلِيقا فالإقرار لَا يحْتَمل التَّعْلِيق لما بَينا وَلِأَنَّهُ شَرط لَا يُوقف عَلَيْهِ واثر الشَّرْط فِي إعدام الحكم قبل وجوده وَهَذَا لَا يعلم وجوده فَيكون إعداما لَهُ من الأَصْل بِخِلَاف قَوْله لفُلَان عَليّ مائَة دِرْهَم إِذا مت أَو إِذا جَاءَ راس الشَّهْر أَو الْفطر لِأَنَّهُ أجل بَيَان الْمدَّة فَيكون تأجيلا لَا تَعْلِيقا أَلا ترى أَنه لَو كذبه فِي التَّأْجِيل يصير المَال حَالا
نوع فِي الْإِقْرَار فِي الْمَرَض صَحِيح أقرّ بدين ثمَّ مرض فَأقر بدين يقدم دين الصِّحَّة على دين الْمَرَض عندنَا حَتَّى لَو مَاتَ من ذَلِك الْمَرَض يقْضِي دين غَرِيم الصِّحَّة أَولا فَإِن فضل شَيْء يقْضِي بِهِ دين غَرِيم الْمَرَض وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى تقسم تركته على دين الصِّحَّة وَالْمَرَض بِالنِّسْبَةِ
وَفِي الْبَدَائِع إِقْرَار الْمَرِيض فِي الأَصْل نَوْعَانِ إِقْرَاره بِالدّينِ لغيره وَإِقْرَاره بِاسْتِيفَاء الدّين من غَيره
أما إِقْرَاره بِالدّينِ فعلى وَجْهَيْن لأَجْنَبِيّ وَقد بَيناهُ أَو لوَارث بِالْعينِ أَو بِالدّينِ فَلَا يَصح إِلَّا بِتَصْدِيق البَاقِينَ

(1/272)


عندنَا وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى يَصح فِي أحد قوليه وَأما إِقْرَاره بِاسْتِيفَاء دين الصِّحَّة أَو دين الْمَرَض فَإِن أقرّ بِاسْتِيفَاء دين وَجب لَهُ فِي حَال الصِّحَّة يَصح وَيصدق فِي إِقْرَاره حَتَّى يبرأ الْغَرِيم عَن الدّين أَي دين كَانَ وَإِن أقرّ الْمَرِيض بِاسْتِيفَاء دين وَجب لَهُ فِي حَال الْمَرَض فَإِن وَجب لَهُ بَدَلا عَمَّا هُوَ مَال لم يَصح إِقْرَاره وَلَا يصدق فِي حق غُرَمَاء الصِّحَّة وَيجْعَل ذَلِك تَبَرعا مِنْهُ بِالدّينِ لِأَنَّهُ لما مرض فقد تعلق حق الْغُرَمَاء بِالْبَدَلِ وَكَذَا لَو أتلف رجل على الْمَرِيض شَيْئا فِي مَرضه فَأقر الْمَرِيض بِقَبض الْقيمَة مِنْهُ لم يصدق على ذَلِك إِذا كَانَ عَلَيْهِ دين الصِّحَّة لما ذكرنَا وَإِن وَجب لَهُ بَدَلا عَمَّا لَيْسَ بِمَال يَصح إِقْرَاره لِأَن بِالْمرضِ لَا يتَعَلَّق حق غُرَمَاء الصِّحَّة بِالْبَدَلِ لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل التَّعْلِيق لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال فَلَا يتَعَلَّق بالمبدل وَأما إِقْرَار الْمَرِيض بِالْإِبْرَاءِ بِأَن أقرّ أَنه كَانَ أَبْرَأ فلَانا من الدّين الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي صِحَّته لَا يجوز لِأَنَّهُ أقرّ بِقَبض الدّين وَأَنه لَا يملك إنْشَاء الْإِبْرَاء للْحَال فَلَا يملك الْإِقْرَار بِهِ بِخِلَاف الْإِقْرَار بِاسْتِيفَاء الدّين لِأَنَّهُ أقرّ بِقَبض الدّين وَأَنه يملك إنْشَاء الْقَبْض فَيملك الْإِخْبَار عَنهُ بِالْقَبْضِ انْتهى كَلَام الْبَدَائِع
مَرِيض أقرّ بِمَال لأجنبية ثمَّ تزَوجهَا بعد الْإِقْرَار لم يبطل الْإِقْرَار عندنَا وَقَالَ زفر رَحمَه الله تَعَالَى يبطل لِأَنَّهُ طَرَأَ على الْإِقْرَار مَا ابطله
مَرِيض مرض مرض الْمَوْت أقرّ بِأَلف دِرْهَم بِعَينهَا أَنَّهَا لقطَة عِنْده وَلَا مَال لَهُ غَيرهَا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تصدقه الْوَرَثَة أَو تكذبه فَإِن صدقته الْوَرَثَة تصدقوا بهَا اتِّفَاقًا وَإِن كذبوه فَهُوَ مَحل الْخلاف فَعِنْدَ أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى يتصدقون بثلثها بعد مَوته وَالْبَاقِي مِيرَاث لَهُم وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى إِذا كذبوه فِي ذَلِك كَانَت كلهَا مِيرَاثا لَهُم
وَفِي حيل الْخصاف امْرَأَة قَالَت فِي الْمَرَض لم يكن لي على زَوجي مهر أَو قَالَ فِي الْمَرَض لم يكن لي على فلَان شَيْء يبرأ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَفِي الذَّخِيرَة قَوْلهَا فِي الْمَرَض لَا مهر لي عَلَيْهِ أَو لَا شَيْء لي عَلَيْهِ أَو لم يكن لي عَلَيْهِ مهر قيل لَا يَصح وَقيل يَصح وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح
وَفِي الْقنية لَو قَالَ الْمَجْرُوح لم يجرحني فلَان ثمَّ مَاتَ لَيْسَ لوَرَثَة الْمَجْرُوح أَن يدعوا على الْجَارِح بِهَذَا السَّبَب قَالَ برهَان الدّين صَاحب الْمُحِيط وَهَذِه الْمَسْأَلَة على التَّفْصِيل إِن كَانَ الْجرْح مَعْرُوفا عِنْد القَاضِي أَو النَّاس لم يقبل إِقْرَار الْمَرِيض
مَرِيض قَالَ فِي حَال مَرضه لَيْسَ لي فِي الدُّنْيَا شَيْء ثمَّ مَاتَ فلبعض الْوَرَثَة أَن يحلفوا زَوْجَة الْمُتَوفَّى وَابْنَته على أَنَّهُمَا لَا يعلمَانِ شَيْئا من تَرِكَة الْمُتَوفَّى انْتهى