لسان الحكام في معرفة الأحكام

الْفَصْل الثَّانِي عشر فِي الْإِكْرَاه
وَهُوَ عبارَة عَن تهديد الْقَادِر غَيره على مَا هدده بمكروه على أَمر بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا
وَفِي المنبع الْإِكْرَاه نَوْعَانِ نوع يرجع إِلَى الْمُكْره وَنَوع يرجع إِلَى الْمُكْره أما الَّذِي يرجع إِلَى الْمُكْره فَهُوَ أَن يكون الْمُكْره قَادِرًا على تَحْقِيق مَا هدد بِهِ لِأَن الضَّرُورَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا عِنْد الْقُدْرَة على الايقاع فَإِنَّهُ إِذا لم يكن قَادِرًا على الْإِكْرَاه يكون هذيانا وَفِي هَذَا الْمَعْنى لَا فرق بَين السُّلْطَان وَغَيره هَذَا على مَذْهَبهمَا ظَاهر لتحَقّق الْإِكْرَاه من السُّلْطَان وَغَيره وَأما على مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى فقد قيل إِنَّه لَا يتَحَقَّق الْإِكْرَاه الا من السُّلْطَان أَي من السُّلْطَان الْأَعْظَم لِأَن الْقُدْرَة لَا تتَحَقَّق الا من السُّلْطَان وَقيل انه يتَحَقَّق مِمَّن يملك الْحُدُود وَالصَّحِيح أَن الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك اخْتِلَاف عصر وزمان لَا حجَّة وبرهان لِأَن زمَان أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لم يكن لغير السُّلْطَان من الْقُوَّة مَا يتَحَقَّق بِهِ الْإِكْرَاه فَأفْتى على حسب مَا عاين وَفِي زمانهما ظهر الْفساد وَصَارَ الْأَمر إِلَى كل متغلب فتحقق الْإِكْرَاه من الْكل
وَفِي البزازي نفس الْأَمر من السُّلْطَان بِلَا تهديد إِكْرَاه لِأَنَّهُ لَو لم يمتثل يُعَاقِبهُ وَقَالا إِن كَانَ الْمَأْمُور يعلم أَنه لَو لم يفعل مَا قَالَه السُّلْطَان يُعَاقِبهُ كَانَ أمره لَهُ بِالْفِعْلِ إِكْرَاها
وَفِي الْبَدَائِع الْبلُوغ وَالْعقل والتمييز الْمُطلق لَيْسَ بِشَرْط لتحَقّق الاكراه حَتَّى يتَحَقَّق من الصَّبِي الْعَاقِل إِذا كَانَ مُطَاعًا مسلطا وَمن الْبَالِغ الْمُخْتَلط الْعقل إِذا كَانَ مُطَاعًا مسلطا للقدرة على الايقاع وَأما النَّوْع الَّذِي يرجع إِلَى الْمُكْره فَهُوَ أَن يكون فِي غَالب رَأْيه أَنه لَو لم يجب إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ تحقق مَا أوعد بِهِ لِأَن غَالب الرَّأْي حجَّة يعْمل بِهِ خُصُوصا عَنهُ تعذر الْوُصُول إِلَى الْيَقِين حَتَّى لَو كَانَ فِي أكبر رَأْيه أَن الْمُكْره لَا يُحَقّق مَا أوعده بِهِ لَا يثبت حكم الاكراه شرعا وَإِن وجدت صُورَة الإيعاد لِأَن الضَّرُورَة لم تتَحَقَّق وَمثله لَو أمره بِفعل وَلم يوعده عَلَيْهِ وَلَكِن فِي أكبر رَأْي الْمُكْره أَنه لَو لم يفعل يتَحَقَّق مَا أوعد بِهِ فَثَبت حكم الاكراه لتحَقّق الضَّرُورَة وَلِهَذَا لَو كَانَ فِي أكبر رَأْيه أَنه لَو امْتنع عَن تنَاول الْميتَة وصبر إِلَى أَن يلْحقهُ الْجُوع المهلك لأزيل عَنهُ الاكراه لَا يُبَاح لَهُ التَّنَاوُل فِي الْحَال وَإِن كَانَ فِي أكبر رَأْيه أَنه لَو صَبر إِلَى تِلْكَ الْحَالة لَا يَزُول عَنهُ الاكراه يُبَاح لَهُ التَّنَاوُل فِي الْحَال فَدلَّ أَن الْعبْرَة لغالب الرَّأْي وأكبر الظَّن دون صُورَة الإيعاد
وَفِي الْهِدَايَة وَإِذا أكره على بيع مَاله أَو شِرَاء سلْعَة أَو على أَن يقر لرجل بِأَلف أَو يُؤجر دَاره فأكره على ذَلِك بِالْقَتْلِ أَو بِالضَّرْبِ الشَّديد أَو بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَو اشْترى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أمضى البيع وَإِن شَاءَ فَسخه وَرجع بِالْمَبِيعِ لِأَن من شَرط صِحَة هَذِه الْعُقُود التَّرَاضِي قَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} وَالْإِكْرَاه بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِعَدَمِ الرِّضَا فتفسد بِخِلَاف من إِذا أكره بِضَرْب سَوط أَو حبس يَوْم أَو قيد يَوْم لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بهَا بِالنّظرِ إِلَى الْعَادة فَلَا يتَحَقَّق بِهِ الاكراه الا إِذا كَانَ رجلا صَاحب منصب يعلم أَنه يتَضَرَّر بِهِ فَإِنَّهُ يفوت الرِّضَا
وَفِي الْوَلْوَالجيّ إِذا كَانَ الرجل من الْأَشْرَاف أَو من الأجلاء أَو من كبراء الْعلمَاء أَو الرؤساء بِحَيْثُ يستنكف عَن ضرب سَوط أَو حبس سَاعَة لم يجز إِقْرَاره لِأَن مثل هَذَا الرجل يُؤثر ألف دِرْهَم

(1/311)


على مَا يلْحقهُ من الهوان بِهَذَا الْقدر من الْحَبْس والقيد فَكَانَ مكْرها وَكَذَا الْإِقْرَار حجَّة لترجح جَانب الصدْق فِيهِ على جَانب الْكَذِب وَعند الْإِكْرَاه يحْتَمل أَنه يكذب لدفع الْمضرَّة
وَفِي الذَّخِيرَة وَلَو هدد بِضَرْب سَوط أَو سوطين فَهُوَ لَا يعْتَبر إِلَّا أَن يَقُول لأضربنك على عَيْنَيْك أَو على المذاكير
وَفِي الْبَدَائِع الْإِكْرَاه يمْنَع صِحَة الْإِقْرَار سَوَاء كَانَ الْمقر بِهِ مِمَّا يحْتَمل الْفَسْخ أَو لَا يحْتَمل وَسَوَاء كَانَ مِمَّا يسْقط بِالشُّبُهَاتِ كالحدود وَالْقصاص أَو لَا وَلَو أكره على الْإِقْرَار بذلك ثمَّ خلى سَبيله فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يتَوَارَى عَن بصر الْمُكْره حينما خلى سَبيله وَإِمَّا أَن لَا يتَوَارَى عَن بَصَره حَتَّى بعث من أَخذه ورده إِلَيْهِ فَإِن كَانَ قد توارى عَن بَصَره ثمَّ أَخذه فَأقر إِقْرَارا مستأنفا جَازَ إِقْرَاره لِأَنَّهُ لما خلى سَبيله حَتَّى توارى عَن بَصَره فقد زَالَ الْإِكْرَاه عَنهُ فَإِذا أقرّ بِهِ من غير إِكْرَاه جَدِيد فقد أقرّ طَائِعا فصح وَإِن كَانَ لم يتوار عَن بَصَره بعد حَتَّى رده إِلَيْهِ فَأقر بِهِ من غير تَجْدِيد الْإِكْرَاه لم يَصح لِأَنَّهُ لما لم يتوار عَن بَصَره فَهُوَ على الْإِكْرَاه الأول
وَلَو أكرهه على الْإِقْرَار بِالْقصاصِ فَأقر بِهِ فَقتله حَيْثُمَا أقرّ بِهِ من غير بَيِّنَة فَإِن كَانَ الْمقر مَعْرُوفا بالدعارة يدْرَأ عَنهُ الْقصاص اسْتِحْسَانًا وَإِن لم يكن مَعْرُوفا بهَا يجب الْقصاص وَالْقِيَاس أَن يجب الْقصاص على الْمُكْره كَيْفَمَا كَانَ لِأَن الْإِقْرَار بِالْإِكْرَاهِ لما لم يَصح شرعا كَانَ وجوده وَعَدَمه بِمَنْزِلَة وَاحِدَة ح فَصَارَ كَمَا لَو قَتله ابْتِدَاء
وَنَظِيره مَا إِذا دخل رجل على آخر فِي منزله فخاف صَاحب الْمنزل أَنه داعر دخل عَلَيْهِ ليَقْتُلهُ وَيَأْخُذ مَاله فبادر وَقَتله فَإِن كَانَ الدَّاخِل مَعْرُوفا بالدعارة لَا يجب الْقصاص على صَاحب الْمنزل وَإِن لم يكن مَعْرُوفا بالدعارة يجب الْقصاص على صَاحب الْمنزل كَذَا هَذَا وَإِذا لم يجب الْقصاص يجب الْأَرْش لِأَن سُقُوط الْقصاص للشُّبْهَة وَإِنَّهَا لَا تمنع وجوب المَال وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب الْأَرْش أَيْضا إِذا كَانَ مَعْرُوفا بالدعارة انْتهى كَلَام الْبَدَائِع
وَفِي البزازي وَلَو أكره على شرب الْخمر بإكراه يخَاف مِنْهُ التّلف أَو تلف عُضْو أَو قَالَ لأحبسنك أَو لأضربنك بالسياط يحل لَهُ شربه وَلَو امْتنع يَأْثَم
أكره على الْهِبَة فوهب وَسلم طَائِعا لَا يكون ملكا للْمَوْهُوب لَهُ وَالْإِكْرَاه على الْهِبَة إِكْرَاه على التَّسْلِيم بِخِلَاف البيع فَإِن الْإِكْرَاه على البيع لَا يكون إِكْرَاها على التَّسْلِيم
أكره على البيع بِأَلف فَبَاعَهُ بِأَقَلّ لَا يجوز فِي الِاسْتِحْسَان
أكره على البيع فوهب جَازَ
أكره على البيع وَلم يسم المُشْتَرِي فَبَاعَهُ من إِنْسَان لَا يجوز
طالبوه بِمَال بَاطِل وأكره على أَدَائِهِ فَبَاعَ جَارِيَته بِلَا إِكْرَاه على البيع جَازَ البيع لِأَنَّهُ غير مُتَعَيّن لأدائه وَهَذَا عَادَة الظلمَة إِذا صادروا رجلا أَن يتحكموا بِالْمَالِ وَلَا يذكرُوا بيع شَيْء من مَاله وَالْحِيلَة لَهُ فِيهِ أَن يَقُول من أَيْن أعطي وَلَا مَال لي فَإِذا قَالَ الظَّالِم لَهُ بِعْ جاريتك فقد صَار مكْرها على بيع الْجَارِيَة فَلَا ينْعَقد بيعهَا
أكره على الْإِبْرَاء عَن الْحُقُوق أَو الْكفَالَة بِالنَّفسِ أَو تَسْلِيم الشُّفْعَة أَو ترك طلبَهَا كَانَ بَاطِلا

(1/312)


رجل ضرب زَوجته حَتَّى أقرَّت بِاسْتِيفَاء مهرهَا جَازَ عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لِأَن الْإِكْرَاه لَا يتَحَقَّق إِلَّا من السُّلْطَان قَالَ أَي البزازي وَالزَّوْج سُلْطَان زَوجته فَيتَحَقَّق مِنْهُ الاكراه وَلم يذكر الْخلاف قلت وَسِيَاق اللَّفْظ يدل على الْوِفَاق وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
وَفِي المنبع إِذا أكره انسان رجلا بِالْإِكْرَاهِ التَّام على أَن يُطلق امْرَأَته أَو يعْتق عَبده فَفعل وَقع الطَّلَاق وَالْعِتْق عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَإِذا أكره على التَّوْكِيل بِالطَّلَاق وَالْعتاق فَفعل الْوَكِيل فالتوكيل جَائِز اسْتِحْسَانًا وَقد تصرف الْوَكِيل وَالْقِيَاس أَن لَا تصح الْوكَالَة مَعَ الْإِكْرَاه لِأَن كل عقد يُؤثر فِيهِ الْهزْل يُؤثر فِيهِ الْإِكْرَاه ومالا يُؤثر فِيهِ الْهزْل لَا يُؤثر فِيهِ الْإِكْرَاه لِأَنَّهُمَا ينفيان الرِّضَا وَالْوكَالَة تبطل بِالْهَزْلِ فَكَذَا بِالْإِكْرَاهِ
وَفِي جَامع الفتاوي أكره على أَن يكْتب على قرطاس امْرَأَته أَو أمرهَا بِيَدِهَا لم يَصح إِلَّا إِذا نوى وَلَو أكره على أَن يقر بِالطَّلَاق فَأقر لَا يَقع كَذَا ذكره السَّرخسِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي أدب الْقَضَاء
أكره على نذر أَو حد أَو قطع أَو نسب فَأقر لَا يلْزمه شَيْء وَفِي الْمُحِيط من الْمَشَايِخ من قَالَ بِصِحَّة الْإِقْرَار بِالسَّرقَةِ مكْرها
وَعَن الْحسن بن زِيَاد رَحمَه الله تَعَالَى أَنه يحل ضرب السَّارِق حَتَّى يقر وَقَالَ مالم يقطع اللَّحْم أَو يظْهر الْعظم
أمره بقتل رجل وَلم يقل إِن لم تقتله لأَقْتُلَنك لَكِن يعلم أَنه إِن لم يقْتله يَقع مَا يهدد بِهِ كَانَ مكْرها
الْكَافِر إِذا أكره مُسلما على الْكفْر وَله امْرَأَة مسلمة فارتكب وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان لم تبن امْرَأَته لِأَنَّهُ لَا يحكم بِكُفْرِهِ بإجراء الْكَلِمَة على لِسَانه فَإِن قَالَت الْمَرْأَة قد كفرت وَقد بنت مِنْك وَقَالَ الزَّوْج أظهرت ذَلِك بِعُذْر الْإِكْرَاه وقلبي مطمئن بِالْإِيمَان فَالْقَوْل قَوْله اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يكون القَوْل قَوْلهَا وَيحكم بالفرقة
أكره على الاسلام فَأسلم صَحَّ وَلَو ارْتَدَّ يحبس وَلَا يقتل اسْتِحْسَانًا
وَفِي الْعِمَادِيّ رجل سعى إِلَى سُلْطَان ظَالِم حَتَّى غرم رجلا جملَة من المَال إِن كَانَت السّعَايَة بِحَق بِأَن كَانَ يُؤْذِيه وَلَا يُمكنهُ دفع الْأَذَى عَن نَفسه إِلَّا بِالدفع إِلَيْهِ أَو كَانَ فَاسِقًا لَا يمْتَنع بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ فَفِي مثل هَذَا الْموضع لَا يضمن السَّاعِي وَلَو قَالَ إِن فلَانا وجد كنزا أَو لقطَة وَقد ظهر أَنه كَاذِب ضمن إِلَّا إِذا كَانَ السُّلْطَان عادلا لَا يغرم بِمثل هَذِه السّعَايَة أَو قد يغرم وَقد لَا يغرم فَلَا يضمن السَّاعِي
وَفِي الْقنية سعى بِرَجُل إِلَى السُّلْطَان فَأخذ مِنْهُ مَالا ظلما يضمن السَّاعِي روى هَذَا عَن زفر وَبِه قَالَ كثير من مَشَايِخنَا لمصْلحَة الْعَامَّة
وَفِي شرح الصباغي إِن كَانَت السّعَايَة بِحَق كَمَا لَو أَذَاهُ أَو دَامَ على الْفسق وَلَا يتعظ بالعظة فَأخْبر السُّلْطَان فغرمه مَالا لَا يضمن
وَفِي فتاوي قاضيخان رجل ادّعى على آخر سَرقَة وَقدمه إِلَى السُّلْطَان وَطلب مِنْهُ أَن يضْربهُ حَتَّى يقر فَضَربهُ مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو حَبسه فخاف الْمَحْبُوس من التعذيب وَالضَّرْب فَصَعدَ السَّطْح لينفلت فَسقط عَن السَّطْح فَمَاتَ وَقد كَانَت لحقته غَرَامَة فِي هَذِه الْحَادِثَة فظهرت السّرقَة على يَد غَيره كَانَ للْوَرَثَة أَن يَأْخُذُوا صَاحب السّرقَة بدية أَبِيهِم وبالغرامة الَّتِي أَدَّاهَا إِلَى السُّلْطَان

(1/313)


وَفِي الذَّخِيرَة الْمَضْرُوب إِذا شكا إِلَى السُّلْطَان وَأخذ مَالا من الضَّارِب لَا ضَمَان على الْمَضْرُوب
وَفِي الْقنية رجل أخبر الظلمَة أَن لفُلَان حِنْطَة فِي مطمورة فَأَخَذُوهَا مِنْهُ فَلهُ أَن يرجع بهَا على الْمخبر وَكَذَا إِذا علمهَا الظَّالِم لَكِن أمره السَّاعِي بِالْأَخْذِ يضمن وَلَو قَالَ النمام للظالم لفُلَان فرس جيد فَأَخذه الظَّالِم مِنْهُ فالنمام هُنَا ضَامِن اه
نوع فِي الْحجر وَسَببه الصغر وَالْجُنُون وَالرّق فَلم يَصح طَلَاق صبي وَمَجْنُون غلب على عقله وعتقهما وإقرارهما وَصَحَّ طَلَاق العَبْد وَإِقْرَاره فِي حق نَفسه لَا فِي حق سَيّده فَلَو أقرّ بِمَال آخر إِلَى عتقه وبحد وقود عجل وَمن عقد مِنْهُم وَهُوَ يعقله أجَاز وليه أَو رد وَإِن أتلفوا شَيْئا ضمنُوا كَذَا فِي الْوِقَايَة
وَفِي الْهِدَايَة قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لَا أحجر على الْحر الْعَاقِل الْبَالِغ السَّفِيه وتصرفه فِي مَاله جَائِز وَإِن كَانَ مبذرا مُفْسِدا يتْلف مَاله فِيمَا لَا غَرَض لَهُ فِيهِ وَلَا مصلحَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى يحْجر عَلَيْهِ وَيمْنَع من التَّصَرُّف فِي مَاله
وَإِذا حجر القَاضِي عَلَيْهِ ثمَّ رفع إِلَى قَاض آخر فَأبْطل حجره وَأطلق عَنهُ جَازَ لِأَن الْحجر مِنْهُ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاء أَلا ترى أَنه لم يُوجد الْمقْضِي لَهُ والمقضي عَلَيْهِ وَلَو كَانَ قَضَاء فَنَفْس الْقَضَاء مُخْتَلف فِيهِ فَلَا بُد من الْإِمْضَاء حَتَّى لَو رفع تصرفه بعد الْحجر إِلَى القَاضِي الحاجر أَو إِلَى غَيره فَقضى بِبُطْلَان تصرفه ثمَّ رفع إِلَى قَاض آخر نفذ إِبْطَاله لاتصال الْإِمْضَاء بِهِ فَلَا يقبل النَّقْض بعد ذَلِك ثمَّ عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى إِذا بلغ الْغُلَام غير رشيد لم يسلم إِلَيْهِ مَاله حَتَّى يبلغ خمْسا وَعشْرين سنة فَإِن تصرف فِيهِ قبل ذَلِك نفذ تصرفه فَإِذا بلغ خمْسا وَعشْرين سنة سلم إِلَيْهِ مَاله وَإِن لم يؤنس مِنْهُ الرشد وَقَالا لَا يدْفع إِلَيْهِ مَاله أبدا حَتَّى يؤنس مِنْهُ الرشد وَلَا يجوز تصرفه فِيهِ لِأَن عِلّة الْمَنْع السَّفه فيبقي مَا بقيت الْعلَّة وَصَارَ كَالصَّبِيِّ
وَلَا يحْجر على الْفَاسِق المصلح لمَاله خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الْحجر عَلَيْهِ زجر وعقوبة كَمَا فِي السَّفِيه وَلِهَذَا لم يَجْعَل أَهلا للشَّهَادَة وَالْولَايَة عِنْده وَلنَا أَنه مصلح لمَاله فَيكون الرشد مأنوسا مِنْهُ فَيدْفَع مَاله إِلَيْهِ لقَوْله تَعَالَى {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} وَقد علق الرشد بإيناس رشد وَاحِد لِأَنَّهُ نكرَة فِي الاثبات والرشد فِي المَال مُرَاد بقول ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَلَا يكون الرشد فِي الدّين مرَادا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مُعَلّقا برشدين
وَتخرج الزَّكَاة من مَال السَّفِيه لِأَنَّهُ وَاجِب عَلَيْهِ وَينْفق على أَوْلَاده وَزَوجته وَمن يجب عَلَيْهِ نَفَقَته من ذَوي أرحامه لِأَن إحْيَاء وَلَده وَزَوجته من حَوَائِجه والإنفاق على ذَوي الرَّحِم وَاجِب عَلَيْهِ حَقًا لقريبه والسفه لَا يبطل حق النَّاس إِلَّا أَن القَاضِي يدْفع قدر الزَّكَاة إِلَيْهِ ليصرفها إِلَى مصرفها لِأَنَّهُ لَا بُد من نِيَّته لكَونهَا عبَادَة لَكِن يبْعَث أَمينا مَعَه كي لَا يصرفهَا فِي غير وَجههَا وَفِي النَّفَقَة تدفع إِلَى أَمِينه ليصرفها لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعبَادة فَلَا يحْتَاج إِلَى نِيَّته وَإِن أَرَادَ حجَّة الاسلام لم يمْنَع مِنْهَا لِأَنَّهُ وَاجِب عَلَيْهِ بِإِيجَاب الله تَعَالَى من غير صنعه وَلَا يسلم القَاضِي النَّفَقَة إِلَيْهِ ويسلمها إِلَى ثِقَة من الْحَاج ينفقها عَلَيْهِ فِي طَرِيق الْحَج كي لَا يتلفها فِي غير هَذَا الْوَجْه اه كَلَام الْهِدَايَة

(1/314)


وَفِي نِصَاب الذرائع وَلَا يحْجر على الْمَدْيُون عِنْده وَلَكِن يحبس بِالدّينِ إِن كَانَ لَهُ مَال حَتَّى يقْضِي دينه وَالْقَاضِي يقْضِي دينه بدراهمه ودنانيره بِغَيْر أمره لِأَنَّهَا معدة لقَضَاء الدّين وَقَالا يحْجر عَلَيْهِ بِطَلَب الْغُرَمَاء الْحجر وَيبِيع مَاله لقَضَاء دينه بِدَرَاهِم وَيقسم ثمن مَا بَاعَ من مَاله بَين غُرَمَائه بِالْحِصَصِ وَينْفق عَلَيْهِ من مَاله كَمَا ينْفق من مَال السَّفِيه لِأَن الْإِنْفَاق لَا بُد مِنْهُ دفعا للهلاك
نوع فِي معرفَة حد الْبلُوغ وَفِي العمادى الْبلُوغ يكون تَارَة بِالسِّنِّ وَتارَة يكون بالعلامة والعلامة فِي الْجَارِيَة الْحيض والاحتلام وَالْحَبل وَأدنى الْمدَّة تسع سِنِين هُوَ الْمُخْتَار والعلامة فِي الْغُلَام الِاحْتِلَام والإحبال وَأدنى الْمدَّة اثْنَتَا عشرَة سنة وَأما السن فِي الْغُلَام فَهُوَ إِذا دخل فِي التَّاسِعَة عشر وَفِي الْجَارِيَة إِذا دخلت فِي السَّابِعَة عشر وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى أَنه اعْتبر نَبَات الشّعْر وَهُوَ قَول مَالك رَحمَه الله تَعَالَى
وَفِي الْهِدَايَة وَإِذا راهق الْغُلَام أَو الْجَارِيَة وأشكل أَمرهمَا فِي الْبلُوغ فَقَالَا قد بلغنَا فَالْقَوْل قَوْلهمَا وأحكامهما أَحْكَام الْبَالِغين لِأَنَّهُ معنى لَا يعرف الا من جهتهما ظَاهرا فَإِذا أخبرا بِهِ وَلم يكذبهما الظَّاهِر قبل قَوْلهمَا كَمَا يقبل قَول الْمَرْأَة فِي الْحيض
وَفِي فتاوي قاضيخان امْرَأَة وهبت مهرهَا من زَوجهَا وَقَالَت أَنا مدركة ثمَّ قَالَت لم أكن مدركة وكذبت فِيمَا قَالَت قَالُوا إِن كَانَت تشبه المدركات فِي ذَلِك الْوَقْت أَو كَانَت بهَا عَلامَة المدركات لَا تصدق لِأَنَّهَا لم تكن مدركة وَإِن لم تكن كَذَلِك فَإِن القَوْل قَوْلهَا
وَفِي فتاوي النَّسَفِيّ سُئِلَ عَن قوم اصْطَلحُوا على شَيْء وَفِيهِمْ مراهق وَأقر الْمُرَاهق عِنْد الصُّلْح أَنه بَالغ ثمَّ قَالَ بعض الْوَرَثَة بعد ذَلِك إِنَّه لم يكن بَالغا وَلم يَصح هَذَا الصُّلْح قَالَ القَوْل قَول الصَّبِي بِالْبُلُوغِ بِشَرْط أَن يكون ابْن ثَلَاث عشرَة سنة لِأَن الْأَقَل من ذَلِك نَادرا