لسان الحكام في معرفة الأحكام

الْفَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِي الْكَرَاهِيَة
الْمَكْرُوه عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى حرَام وَلم يتَلَفَّظ بِهِ لعدم الْقَاطِع فنسبه الْمَكْرُوه الى الْحَرَام كنسبة الْوَاجِب الى الْفَرْض وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله تَعَالَى لَيْسَ بِحرَام لكنه الى الْحَرَام أقرب لِأَنَّهُ إِذا تعَارض دَلِيل الْحل بِدَلِيل الْحُرْمَة يغلب جَانب الْحُرْمَة على جَانب الْحل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ السَّلَام

(1/377)


إِذا اجْتمع الْحَلَال وَالْحرَام يغلب الْحَرَام على الْحَلَال وَهَذَا هُوَ الْمَكْرُوه كَرَاهَة تَحْرِيم وَأما الْمَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه فَإلَى الْحَلَال أقرب كَذَا فِي الْوِقَايَة وَشَرحهَا
وَفِي الْجَامِع الصَّغِير قَالَ وَيكرهُ أكل لُحُوم الأتن وَأَلْبَانهَا لما روى عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ السَّلَام حرم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر وَإِذا ثَبت حكم اللَّحْم ثَبت حكم اللَّبن لِأَنَّهُ متولد مِنْهُ وَالْمرَاد بِالْكَرَاهَةِ هُنَا التَّحْرِيم وَكَذَلِكَ أَبْوَال الْإِبِل وَلحم الْفرس وَقَالا لَا بَأْس بأبوال الْإِبِل وَلحم الْفرس
وَتَأْويل قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى فِي أَبْوَال الْإِبِل أَنه لَا بَأْس بهَا للتداوي لما فِي حَدِيث جَابر أَنه قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ السَّلَام عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة واذن فِي لُحُوم الْخَيل وَلأبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير لتركبوها} وَلِأَنَّهُ آلَة لإرهاب الْعَدو فَيكْرَه أكله للاحترام
وَفِي الْوِقَايَة الْأكل فرض إِن دفع بِهِ هَلَاكه ومأجور عَلَيْهِ إِذا تمكن من صلَاته قَائِما وَمن صَوْمه ومباح الى الشِّبَع لتزيد قوته وَحرَام فَوْقه الا لقصده صَوْم الْغَد أَو لِئَلَّا يستحي ضَيفه وَالْأكل وَالشرب والأدهان والتطيب من إِنَاء ذهب وَفِضة حرَام للرِّجَال وَالنِّسَاء وَحل من إِنَاء رصاص وبلور وزجاج وعقيق وَمن إِنَاء مفضض وجلوسه على مفضض متقيا مَوضِع الْفضة
وَلَا يلبس رجل حَرِيرًا الا بِقدر أَرْبَعَة أَصَابِع ويتوسده ويفترشه قَالَ صدر الشَّرِيعَة هَذَا عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لما روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ السَّلَام جلس على مرفقة حَرِير وَقَالا يكره قلت المرفقة بِكَسْر الْمِيم وسَادَة الاتكاء وَالله تَعَالَى أعلم
ويلبس مَا سداه ابريسم وَلحمَته غَيره وَعَكسه فِي حَرْب فَقَط وَفِي الْقنية عَن برهَان الدّين صَاحب الْمُحِيط قَالَ لبس الْحَرِير فَوق الدثار إِنَّمَا لَا يكره عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لِأَنَّهُ اعْتبر حُرْمَة اسْتِعْمَال الْحَرِير إِذا كَانَ يتَّصل بِبدنِهِ صُورَة وَأَبُو يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى اعْتبر الْمَعْنى يَعْنِي اللّبْس قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى فَهَذَا تنصيص وَبِه قلت يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ برهَان الدّين صَاحب الْمُحِيط على أَن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لَا يكره لبس الْحَرِير إِذا لم يتَّصل بجلده حَتَّى لَو لبسه فَوق قَمِيص من غزل أَو نَحوه لَا يكره عندنَا فَكيف إِذا لبسه فَوق قبَاء أَو شَيْء آخر محشو أَو كَانَت جُبَّة من حَرِير بطانتها لَيست بحرير وَقد لبسهَا فَوق قَمِيص غزل وَفِي هَذَا رخصَة عَظِيمَة فِي مَوضِع عَمت فِيهِ الْبلوى وَلَكِن تطلبت هَذَا القَوْل عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى فِي كثير من الْكتب فَلم أجد سوى هَذَا
وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي وَمن النَّاس من يَقُول إِنَّمَا يكره إِذا كَانَ الْحَرِير يمس الْجلد وَمَا لَا فَلَا وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه كَانَ عَلَيْهِ جُبَّة من حَرِير فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أما ترى الى مَا يَلِي الْجَسَد وَكَانَ تَحْتَهُ ثوب من قطن ثمَّ قَالَ بديع الدّين إِلَّا أَن الصَّحِيح مَا ذكرنَا أَن الْكل حرَام
وَفِي شرح الْجَامِع الصَّغِير للبزدوي رَحمَه الله تَعَالَى وَمن النَّاس من أَبَاحَ لبس الْحَرِير والديباج للرِّجَال وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حرَام على النِّسَاء أَيْضا وَعَامة الْفُقَهَاء على أَنه يحل للنِّسَاء دون الرِّجَال اه وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
وَهَذَا آخر مَا انْتهى اليه تأليف مُصَنفه رَحمَه الله تَعَالَى ويليه تكملته إِن شَاءَ الله تَعَالَى

(1/378)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله المتصف بالكمال المنزه عَن النَّقْص فِي صِفَات الْجلَال وَأفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام على نبيه النبيه الْبَدْر التَّمام وعَلى آله وَصَحبه الْأَئِمَّة الْأَعْلَام صَلَاة وَسلَامًا أَرْجُو بفضلهما حسن الختام
أما بعد فَيَقُول العَبْد الْعَاجِز الْفَقِير الى مَوْلَاهُ الْغَنِيّ الْقَدِير برهَان الدّين ابراهيم الخالفي الْحلَبِي الْعَدوي الْحَنَفِيّ عَامله الله بِلُطْفِهِ الْخَفي لما رَأَيْت الْكتاب الْمُحكم الْأَحْكَام الْمُسَمّى بِلِسَان الْحُكَّام مَشْهُورا فِي بِلَاد الْإِسْلَام ومقبولا عِنْد الْعلمَاء الْأَعْلَام وَقد توفّي مُؤَلفه قبل الْإِتْمَام عَلَيْهِ رَحْمَة الْملك العلام وَكَانَ النَّاقِص من فصوله الثَّلَاثِينَ تِسْعَة فُصُول فَأَحْبَبْت أَن أجمعها من كتب الْأَئِمَّة الفحول من غير أَن أتصرف بِنَقْض حرف وَلَا زِيَادَة عَمَّا هُوَ الْمَكْتُوب فِي كتب السَّادة وصرخت فِي كل فصل من الْفُصُول بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَنهُ مَنْقُول طَالبا من الله تَعَالَى الغفران وسائلا الدُّعَاء بِخَير من الإخوان وَستر مَا يعثرون عَلَيْهِ من الزلل وَإِصْلَاح مَا يَجدونَ فِي الْخط من الْخلَل