الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

كتاب الصّيام
تَعْرِيف الصَّوْم وَالْأَصْل مِنْهُ وَالصَّوْم لُغَة الْإِمْسَاك وَمِنْه قَوْله
وَشرعا إمْسَاك عَن الْمُفطر على وَجه مَخْصُوص مَعَ النِّيَّة
وَالْأَصْل فِي وُجُوبه قبل الْإِجْمَاع آيَة {كتب عَلَيْكُم الصّيام} وَخبر بني الْإِسْلَام على خمس وَفرض فِي شعْبَان فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة
وأركانه ثَلَاثَة صَائِم وَنِيَّة وإمساك عَن المفطرات
وَيجب صَوْم رَمَضَان بِأحد أَمريْن بإكمال شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَو رُؤْيَة الْهلَال لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا ووجوبه مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ فَمن جحد وُجُوبه فَهُوَ كَافِر إِلَّا أَن يكون قريب عهد بِالْإِسْلَامِ أَو نَشأ بَعيدا عَن الْعلمَاء وَمن ترك صَوْمه غير جَاحد من غير عذر كَمَرَض وسفر كَأَن قَالَ الصَّوْم وَاجِب عَليّ وَلَكِن لَا أَصوم حبس وَمنع الطَّعَام وَالشرَاب نَهَارا ليحصل لَهُ صُورَة الصَّوْم بذلك
وَتثبت رُؤْيَته فِي حق من لم يره بِعدْل شَهَادَة لقَوْل ابْن عمر أخْبرت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي رَأَيْت الْهلَال فصَام وَأمر النَّاس بصيامه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن حبَان
وَلما روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره أَن أَعْرَابِيًا شهد عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرُؤْيَتِهِ فَأمر النَّاس بصيامه
وَالْمعْنَى فِي ثُبُوته بِالْوَاحِدِ الِاحْتِيَاط للصَّوْم وَهِي شَهَادَة حسبَة
قَالَت طَائِفَة مِنْهُم الْبَغَوِيّ وَيجب الصَّوْم أَيْضا على من أخبرهُ موثوق بِهِ بِالرُّؤْيَةِ إِذا اعْتقد صدقه وَإِن لم يذكرهُ عِنْد القَاضِي وَيَكْفِي فِي الشَّهَادَة أشهد أَنِّي رَأَيْت الْهلَال وَمحل ثُبُوت رَمَضَان بِعدْل فِي الصَّوْم قَالَ الزَّرْكَشِيّ وتوابعه كَصَلَاة التَّرَاوِيح وَالِاعْتِكَاف وَالْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ المعلقين بِدُخُول رَمَضَان لَا فِي غير ذَلِك كَدين مُؤَجل وَوُقُوع طَلَاق وَعتق معلقين بِهِ هَذَا

(1/234)


كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ إِن سبق التَّعْلِيق الشَّهَادَة
فَلَو حكم القَاضِي بِدُخُول رَمَضَان بِشَهَادَة عدل ثمَّ قَالَ قَائِل إِن ثَبت رَمَضَان فَعَبْدي حر أَو زَوْجَتي طَالِق وَقعا وَمحله أَيْضا إِذا لم يتَعَلَّق بِالشَّاهِدِ فَإِن تعلق بِهِ ثَبت لاعْتِرَافه بِهِ
تَنْبِيه يُضَاف إِلَى الرُّؤْيَة وإكمال الْعدة ظن دُخُوله بِالِاجْتِهَادِ عِنْد الِاشْتِبَاه وَالظَّاهِر كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ أَن الْإِمَارَة الدَّالَّة كرؤية الْقَنَادِيل الْمُعَلقَة بالمنائر فِي آخر شعْبَان فِي حكم الرُّؤْيَة وَلَا يجب الصَّوْم بقول المنجم وَلَا يجوز وَلَكِن لَهُ أَن يعْمل بِحِسَابِهِ كَالصَّلَاةِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَقَالَ إِنَّه لَا يُجزئهُ عَن فَرْضه لَكِن صحّح فِي الْكِفَايَة أَنه إِذا جَازَ أَجزَأَهُ وَنَقله عَن الْأَصْحَاب وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر والحاسب وَهُوَ من يعْتَمد منَازِل الْقَمَر بِتَقْدِير سيره فِي معنى المنجم وَهُوَ من يرى أَن أول الشَّهْر طُلُوع النَّجْم الْفُلَانِيّ وَلَا عِبْرَة أَيْضا بقول من قَالَ أَخْبرنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم بِأَن اللَّيْلَة أول رَمَضَان فَلَا يَصح الصَّوْم بِهِ بِالْإِجْمَاع لفقد ضبط الرَّائِي لَا للشَّكّ فِي الرُّؤْيَة
شُرُوط وجوب الصّيام (وشرائط وجوب الصّيام) أَي صِيَام رَمَضَان (ثَلَاثَة أَشْيَاء) بل أَرْبَعَة كَمَا ستعرفه الأول (الْإِسْلَام) وَلَو فِيمَا مضى فَلَا يجب على الْكَافِر الْأَصْلِيّ وجوب مُطَالبَة كَمَا مر فِي الصَّلَاة (و) الثَّانِي (الْبلُوغ) فَلَا يجب على صبي كَالصَّلَاةِ وَيُؤمر بِهِ لسبع إِن أطاقه وَيضْرب على تَركه لعشر
(و) الثَّالِث (الْعقل) فَلَا يجب على الْمَجْنُون إِلَّا إِذا أَثم بمزيل عقله من شراب أَو غَيره فَيجب وَيلْزمهُ قَضَاؤُهُ بعد الْإِفَاقَة
وَالشّرط الرَّابِع الَّذِي تَركه المُصَنّف إطاقة الصَّوْم فَلَا يجب على من لم يطقه حسا أَو شرعا لكبر أَو لمَرض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَو حيض أَو نَحوه
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن شُرُوط الصِّحَّة وَهِي أَرْبَعَة أَيْضا إِسْلَام وعقل ونقاء عَن حيض ونفاس وولادة وَوقت قَابل لَهُ ليخرج العيدان وَأَيَّام التَّشْرِيق كَمَا سَيَأْتِي
(وفرائض الصَّوْم أَرْبَعَة أَشْيَاء) الأول (النِّيَّة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ومحلها الْقلب وَلَا تَكْفِي بِاللِّسَانِ قطعا وَلَا يشْتَرط التَّلَفُّظ بهَا قطعا كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه ظَاهر كَلَام المُصَنّف أَنه لَو تسحر ليتقوى على الصَّوْم لم يكن نِيَّة وَبِه صرح فِي الْعدة وَالْمُعْتَمد أَنه لَو تسحر ليصوم أَو شرب لدفع الْعَطش نَهَارا أَو امْتنع من الْأكل أَو الشّرْب أَو الْجِمَاع خوف طُلُوع الْفجْر كَانَ ذَلِك نِيَّة إِن خطر بِبَالِهِ الصَّوْم بِالصِّفَاتِ الَّتِي يشْتَرط التَّعَرُّض لَهَا لتضمن كل مِنْهَا قصد الصَّوْم
وَيشْتَرط لفرض الصَّوْم من رَمَضَان أَو غَيره كقضاء أَو نذر التبييت وَهُوَ إِيقَاع النِّيَّة لَيْلًا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لم يبيت النِّيَّة قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ وَلَا بُد من التبييت لكل يَوْم لظَاهِر الْخَبَر لِأَن صَوْم كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة لتخلل الْيَوْم بِمَا يُنَاقض الصَّوْم كَالصَّلَاةِ يتخللها السَّلَام وَالصَّبِيّ فِي تبييت النِّيَّة لصِحَّة صَوْمه كَالْبَالِغِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَلَيْسَ على أصلنَا صَوْم نفل يشْتَرط فِيهِ التبييت إِلَّا هَذَا وَلَا يشْتَرط للتبييت النّصْف الْأَخير من اللَّيْل وَلَا يضر الْأكل وَالْجِمَاع بعْدهَا وَلَا يجب تجديدها إِذا نَام

(1/235)


بعْدهَا ثمَّ تنبه لَيْلًا
وَيصِح النَّفْل بنية قبل الزَّوَال وَيشْتَرط حُصُول شَرط الصَّوْم من أول النَّهَار بِأَن لَا يسبقها منَاف للصَّوْم ككفر وجماع
(و) الثَّانِي (تعْيين النِّيَّة) فِي الْفَرْض بِأَن يَنْوِي كل لَيْلَة أَنه صَائِم غَدا عَن رَمَضَان أَو عَن نذر أَو عَن كَفَّارَة لِأَنَّهُ عبَادَة مُضَافَة إِلَى وَقت فَوَجَبَ التَّعْيِين فِي نِيَّتهَا كالصلوات الْخمس وَخرج بِالْفَرْضِ النَّفْل فَإِنَّهُ يَصح بنية مُطلقَة
فَإِن قيل قَالَ فِي الْمَجْمُوع هَكَذَا أطلقهُ الْأَصْحَاب وَيَنْبَغِي اشْتِرَاط التَّعْيِين فِي الصَّوْم الرَّاتِب كعرفة وعاشوراء وَأَيَّام الْبيض وَسِتَّة أَيَّام من شَوَّال كرواتب الصَّلَاة
أُجِيب بِأَن الصَّوْم فِي الْأَيَّام الْمَذْكُورَة منصرف إِلَيْهَا بل لَو نوى بِهِ غَيرهَا حصل أَيْضا كتحية الْمَسْجِد لِأَن الْمَقْصُود وجود صَومهَا
تَنْبِيه قَضِيَّة سكُوت المُصَنّف عَن التَّعَرُّض للفرضية أَنه لَا يشْتَرط التَّعَرُّض لَهَا وَهُوَ كَذَلِك كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع تبعا للأكثرين وَإِن كَانَ مُقْتَضى كَلَام الْمِنْهَاج الِاشْتِرَاط وَالْفرق بَين صَوْم رَمَضَان وَبَين الصَّلَاة أَن صَوْم رَمَضَان من الْبَالِغ لَا يَقع إِلَّا فرضا بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِن الْمُعَادَة نفل وَيتَصَوَّر ذَلِك فِي الْجُمُعَة بِأَن يُصليهَا فِي مَكَان ثمَّ يدْرك جمَاعَة فِي أُخْرَى يصلونها فيصليها مَعَهم فَإِنَّهَا تقع لَهُ نَافِلَة وَلَا يشْتَرط تعْيين السّنة كَمَا لَا يشْتَرط الْأَدَاء لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا وَاحِد وَلَو نوى لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان صَوْم غَد عَن رَمَضَان إِن كَانَ مِنْهُ فَكَانَ مِنْهُ لم يَقع عَنهُ إِلَّا إِذا اعْتقد كَونه مِنْهُ بقول من يَثِق بِهِ من عبد أَو امْرَأَة أَو فَاسق أَو مراهق فَيصح وَيَقَع عَنهُ
قَالَ فِي الْمَجْمُوع فَلَو نوى صَوْم غَد نفلا إِن كَانَ من شعْبَان وَإِلَّا فَمن رَمَضَان وَلَا أَمارَة فَبَان من شعْبَان صَحَّ صَوْمه نفلا لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ وَإِن بَان من رَمَضَان لم يَصح فرضا وَلَا نفلا وَلَو نوى لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من رَمَضَان صَوْم غَد إِن كَانَ من رَمَضَان أَجزَأَهُ إِن كَانَ مِنْهُ لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ
(و) الثَّالِث (الْإِمْسَاك عَن) كل مفطر من (الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع) وَلَو بِغَيْر إِنْزَال لقَوْله تَعَالَى {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} والرفث الْجِمَاع (و) عَن (تعمد الْقَيْء) وَإِن تَيَقّن أَنه لم يرجع شَيْء إِلَى جَوْفه لما سَيَأْتِي (و) الرَّابِع من الشُّرُوط معرفَة طرفِي النَّهَار يَقِينا أَو ظنا لتحقيق إمْسَاك جَمِيع النَّهَار
تَنْبِيه انْفَرد المُصَنّف بِهَذَا الرَّابِع وَكَأَنَّهُ أَخذه من قَوْلهم لَو نوى بعد الْفجْر لم يَصح صَوْمه أَو أكل مُعْتَقدًا أَنه ليل وَكَانَ قد طلع الْفجْر لم يَصح أَيْضا وَكَذَا لَو أكل مُعْتَقدًا أَن اللَّيْل دخل فَبَان خِلَافه لزمَه الْقَضَاء
وَحَاصِل ذَلِك أَنه إِذا أفطر أَو تسحر بِلَا تحر وَلم يتَبَيَّن الْحَال صَحَّ فِي تسحره لَا فِي إفطاره لِأَن الأَصْل بَقَاء اللَّيْل فِي

(1/236)


الأولى وَالنَّهَار فِي الثَّانِيَة فَإِن بَان الصَّوَاب فيهمَا صَحَّ صومهما أَو الْغَلَط فيهمَا لم يَصح وَلَو طلع الْفجْر وَفِي فَمه طَعَام فَلم يبلع شَيْئا مِنْهُ بِأَن طَرحه أَو أمْسكهُ بِفِيهِ صَحَّ صَوْمه أَو كَانَ الْفجْر مجامعا فَنزع حَالا صَحَّ صَوْمه وَإِن أنزل لتولده من مُبَاشرَة مُبَاحَة
مَا يفْطر بِهِ الصَّائِم (وَالَّذِي يفْطر بِهِ الصَّائِم عشرَة أَشْيَاء) الأول (مَا وصل) من عين وَإِن قلت كسمسمة (عمدا) مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ (إِلَى) مُطلق (الْجوف) من منفذ مَفْتُوح سَوَاء أَكَانَ يحِيل الْغذَاء أَو الدَّوَاء أم لَا كباطن الْحلق والبطن والأمعاء
(و) بَاطِن (الرَّأْس) لِأَن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك عَن كل مَا يصل إِلَى الْجوف فَلَا يضر وُصُول دهن أَو كحل بتشرب مسام جَوْفه كَمَا لَا يضر اغتساله بِالْمَاءِ وَإِن وجد أثرا بباطنه وَلَا يضر وُصُول رِيقه من معدنه جَوْفه أَو وُصُول ذُبَاب أَو بعوض أَو غُبَار طَرِيق أَو غربلة دَقِيق جَوْفه لعسر التَّحَرُّز عَنهُ والتقطير فِي بَاطِن الْأذن مفطر
وَلَو سبق مَاء الْمَضْمَضَة أَو الِاسْتِنْشَاق إِلَى جَوْفه نظر إِن بَالغ أفطر وَإِلَّا فَلَا وَلَو بَقِي طَعَام بَين أَسْنَانه فَجرى بِهِ رِيقه من غير قصد لم يفْطر إِن عجز عَن تَمْيِيزه ومجه لِأَنَّهُ مَعْذُور فِيهِ غير مفرط وَلَو أوجر كَأَن صب مَاء فِي حلقه مكْرها لم يفْطر وَكَذَا إِن أكره حَتَّى أكل أَو شرب لِأَن حكم اخْتِيَاره سَاقِط وَإِن أكل نَاسِيا لم يفْطر وَإِن كثر لخَبر الصَّحِيحَيْنِ من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه
(و) الثَّانِي (الحقنة) وَهِي بِضَم الْمُهْملَة إِدْخَال دَوَاء أَو نَحوه فِي الدبر فتعبيره بِأَنَّهَا (من أحد السَّبِيلَيْنِ) فِيهِ تجوز فالتقطير فِي بَاطِن الإحليل وَإِدْخَال عود أَو نَحوه فِيهِ مفطر وكالحقنة دُخُول طرف أصْبع فِي الدبر حَالَة الِاسْتِنْجَاء فيفطر بِهِ إِلَّا إِن أَدخل المبسور مقعدته بِأُصْبُعِهِ فَلَا يفْطر بِهِ كَمَا صَححهُ الْبَغَوِيّ لاضطراره إِلَيْهِ
(و) الثَّالِث (الْقَيْء عمدا) وَإِن تَيَقّن أَنه لم يرجع مِنْهُ شَيْء إِلَى الْجوف كَأَن تقايأ مُنَكسًا لخَبر ابْن حبَان وَغَيره من ذرعه الْقَيْء أَي غَلبه وَهُوَ صَائِم فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء وَمن استقاء فليقض وَخرج بقوله عمدا مَا لَو كَانَ نَاسِيا وَلَا بُد أَن يكون عَالما بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارًا لذَلِك لم يفْطر كَمَا لَو غَلبه الْقَيْء وَكَذَا لَو اقتلع نخامة من الْبَاطِن ورماها سَوَاء اقتلعها من دماغه أَو من بَاطِنه لِأَن الْحَاجة إِلَى ذَلِك تَتَكَرَّر فَلَو نزلت من دماغه وحصلت فِي حد الظَّاهِر من الْفَم وَهُوَ مخرج الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكَذَا الْمُهْملَة على الرَّاجِح فِي الزَّوَائِد فليقطعها من مجْراهَا وليمجها إِن أمكن فَإِن تَركهَا مَعَ الْقُدْرَة على ذَلِك فوصلت الْجوف أفطر لتَقْصِيره وكالقيء التجشؤ فَإِن تَعَمّده وَخرج شَيْء من معدته إِلَى حد الظَّاهِر أفطر وَإِن غَلبه فَلَا
(و) الرَّابِع (الْوَطْء) بِإِدْخَال حشفتة أَو قدرهَا من مقطوعها (عمدا) مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ (فِي الْفرج) وَلَو دبرا من آدَمِيّ أَو غَيره أنزل أم لَا فَلَا يفْطر بِالْوَطْءِ نَاسِيا وَإِن كثر وَلَا بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ إِن قُلْنَا بتصوره وَهُوَ الْأَصَح وَلَا مَعَ جهل تَحْرِيمه كَمَا سبق فِي الْأكل
(و) الْخَامِس (الْإِنْزَال) وَلَو قَطْرَة (عَن مُبَاشرَة) بِنَحْوِ لمس كقبلة بِلَا حَائِل لِأَنَّهُ يفْطر بالإيلاج بِغَيْر إِنْزَال فبالإنزال مَعَ

(1/237)


نوع شَهْوَة أولى بِخِلَاف مَا لَو كَانَ بِحَائِل أَو نظر أَو فكر وَلَو بِشَهْوَة لِأَنَّهُ إِنْزَال بِغَيْر مُبَاشرَة كالاحتلام وَحرم نَحْو لمس كقبلة إِن حركت شَهْوَة خوف الْإِنْزَال وَإِلَّا فَتَركه أولى (و) السَّادِس (الْحيض) للْإِجْمَاع على تَحْرِيمه وَعدم صِحَّته
قَالَ الإِمَام وَكَون الصَّوْم لَا يَصح مِنْهَا لَا يدْرك مَعْنَاهُ لِأَن الطَّهَارَة لَيست مَشْرُوطَة فِيهِ وَهل وَجب عَلَيْهَا ثمَّ سقط أَو لم يجب أصلا وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء بِأَمْر جَدِيد وَجْهَان أصَحهمَا الثَّانِي
قَالَ فِي الْبَسِيط وَلَيْسَ لهَذَا الْخلاف فَائِدَة فقهية
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع يظْهر هَذَا وَشبهه فِي الْأَيْمَان والتعاليق بِأَن يَقُول مَتى وَجب عَلَيْك صَوْم فَأَنت طَالِق
(و) السَّابِع (النّفاس) لِأَنَّهُ دم حيض مُجْتَمع
(و) الثَّامِن (الْجُنُون) لمنافاته الْعِبَادَة
(و) التَّاسِع (الرِّدَّة) لمنافاتها الْعِبَادَة
وَسكت المُصَنّف عَن بَيَان الْعَاشِر وَالظَّاهِر أَنه الْولادَة فَإِنَّهَا مبطلة للصَّوْم على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَهُوَ الْمُعْتَمد خلافًا لما فِي الْمَجْمُوع من إلحاقها بالاحتلام لوضوح الْفرق وَلَعَلَّ المُصَنّف تَركه لهَذَا الْخلاف أَو لنسيان أَو سَهْو
(وَيسْتَحب فِي الصَّوْم) وَلَو نفلا أَشْيَاء كَثِيرَة الْمَذْكُورَة مِنْهَا هُنَا (ثَلَاثَة أَشْيَاء) الأول (تَعْجِيل الْفطر) إِذا تحقق غرُوب الشَّمْس لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا عجلوا الْفطر زَاد الإِمَام أَحْمد وأخروا السّحُور وَلما فِي ذَلِك من مُخَالفَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَيكرهُ لَهُ أَن يُؤَخِّرهُ إِن قصد ذَلِك وَرَأى أَن فِيهِ فَضِيلَة وَإِلَّا فَلَا بَأْس بِهِ نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن نَص الإِمَام
وَيسن كَونه على رطب فَإِن لم يجده فعلى تمر فَإِن لم يجده فعلى مَاء لخَبر كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْطر قبل أَن يُصَلِّي على رطبات فَإِن لم يكن فعلى تمرات فَإِن لم يكن حسا حسوات من مَاء فَإِنَّهُ طهُور رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
وَيسن السّحُور لخَبر الصَّحِيحَيْنِ
تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور بركَة وَلخَبَر الْحَاكِم فِي صَحِيحه اسْتَعِينُوا بِطَعَام السحر على صِيَام النَّهَار وبقيلولة النَّهَار على قيام اللَّيْل
(و) الثَّانِي (تَأْخِير السّحُور) مَا لم يَقع فِي شكّ فِي طُلُوع الْفجْر لخَبر لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا عجلوا الْفطر وأخروا السّحُور وَلِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّقْوَى على الْعِبَادَة فَإِن شكّ فِي ذَلِك كَأَن تردد فِي بَقَاء اللَّيْل لم يسن التَّأْخِير بل الْأَفْضَل تَركه للْخَبَر الصَّحِيح دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك
تَنْبِيه لَو صرح المُصَنّف بسن السّحُور كَمَا ذكرته لَكَانَ أولى فَإِن اسْتِحْبَابه مجمع عَلَيْهِ وَذكر فِي الْمَجْمُوع أَنه يحصل بِكَثِير الْمَأْكُول وقليله فَفِي صَحِيح ابْن حبَان تسحرُوا وَلَو بجرعة مَاء وَيدخل وقته بِنصْف اللَّيْل
(و) الثَّالِث (ترك الهجر) وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء ترك الهجران (من الْكَلَام) جَمِيع النَّهَار لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا قَائِما فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم ويصوم
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مروه أَن يتَكَلَّم وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلِهَذَا يكره صمت الْيَوْم إِلَى اللَّيْل كَمَا جزم بِهِ صَاحب التَّنْبِيه وَأقرهُ
أما الهجر بِضَم الْهَاء وَهُوَ الِاسْم من الإهجار وَهُوَ الإفحاش فِي النُّطْق فَلَيْسَ مُرَاد المُصَنّف إِذْ كَلَامه فِيمَا هُوَ سنة وَترك فحش الْكَلَام من غيبَة وَغَيرهَا وَاجِب

(1/238)


وَبَعْضهمْ ضبط كَلَام المُصَنّف بِالضَّمِّ وَاعْترض عَلَيْهِ كَمَا اعْترض على الْمِنْهَاج فِي قَوْله فِي المندوبات وليصن لِسَانه عَن الْكَذِب والغيبة فَأن صون اللِّسَان عَن ذَلِك وَاجِب
وَأجِيب بِأَن الْمَعْنى أَنه يسن للصَّائِم من حَيْثُ الصَّوْم فَلَا يبطل صَوْمه بارتكاب ذَلِك بِخِلَاف ارْتِكَاب مَا يجب اجتنابه من حَيْثُ الصَّوْم كالاستقاءة
قَالَ السُّبْكِيّ وحديثخمس يفطرن الصَّائِم الْغَيْبَة والنميمة إِلَى آخِره ضَعِيف وَإِن صَحَّ
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَالْمُرَاد بطلَان الثَّوَاب لَا الصَّوْم قَالَ وَمن هُنَا حسن عد الِاحْتِرَاز عَنهُ من آدَاب الصَّوْم وَإِن كَانَ وَاجِبا مُطلقًا
وَيسن ترك شَهْوَة لَا تبطل الصَّوْم كشم الرياحين وَالنَّظَر إِلَيْهَا لما فِيهَا من الترفه الَّذِي لَا يُنَاسب حِكْمَة الصَّوْم وَترك نَحْو حجم كفصد لِأَن ذَلِك يُضعفهُ وَترك ذوق طَعَام أَو غَيره خوف وُصُوله حلقه وَترك علك بِفَتْح الْعين لِأَنَّهُ يجمع الرِّيق فَإِن بلعه أفطر فِي وَجه وَإِن أَلْقَاهُ عطشه وَهُوَ مَكْرُوه كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَيسن أَن يغْتَسل من حدث أكبر لَيْلًا ليَكُون على طهر من أول الصَّوْم وَأَن يَقُول عقب فطره اللَّهُمَّ لَك صمت وعَلى رزقك أفطرت لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول ذَلِك رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَأَن يكثر تِلَاوَة الْقُرْآن ومدارسته بِأَن يقْرَأ على غَيره وَيقْرَأ غَيره عَلَيْهِ فِي رَمَضَان لما فِي الصَّحِيحَيْنِ إِن جِبْرِيل كَانَ يلقى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل سنة فِي رَمَضَان حَتَّى يَنْسَلِخ فَيعرض عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن
وَأَن يعْتَكف فِيهِ لَا سِيمَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر مِنْهُ لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِك ولرجاء أَن يُصَادف لَيْلَة الْقدر إِذْ هِيَ منحصرة فِيهِ عندنَا
أَيَّام يجوز الصّيام فِيهَا (وَيحرم صِيَام خَمْسَة أَيَّام) أَي مَعَ بطلَان صيامها وَهِي (العيدان) الْفطر والأضحى بِالْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَى نهي الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي خبر الصَّحِيحَيْنِ (وَأَيَّام التَّشْرِيق) الثَّلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر وَلَو لمتمتع للنَّهْي عَن صيامها كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي صَحِيح مُسلم أَيَّام منى أكل وَشرب وَذكر الله تَعَالَى
(وَيكرهُ صَوْم يَوْم الشَّك) كَرَاهَة تَنْزِيه
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَهُوَ الْمَعْرُوف الْمَنْصُوص الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب تَحْرِيمه كَمَا فِي الرَّوْضَة والمنهاج وَالْمَجْمُوع لقَوْل عمار بن يَاسر من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى أَبَا الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تَنْبِيه يُمكن حمل كَلَام المُصَنّف على كَرَاهَة التَّحْرِيم فيوافق الْمُرَجح فِي الْمَذْهَب
(إِلَّا أَن يُوَافق) صَوْمه (عَادَة لَهُ) فِي تطوعه كَأَن كَانَ يسْرد الصَّوْم أَو يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا أَو الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَوَافَقَ صَوْمه يَوْم الشَّك وَله صَوْمه عَن قَضَاء أَو نذر كَنَظِيرِهِ من الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة لخَبر لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه وَقيس بالوارد الْبَاقِي بِجَامِع السَّبَب فَلَو صَامَهُ بِلَا سَبَب لم يَصح كَيَوْم الْعِيد بِجَامِع التَّحْرِيم وَقَوله (أَو يصله بِمَا قبله) مَبْنِيّ على جَوَاز ابْتِدَاء صَوْم النّصْف الثَّانِي من شعْبَان تَطَوّعا وَهُوَ وَجه ضَعِيف وَالأَصَح فِي الْمَجْمُوع تَحْرِيمه بِلَا سَبَب إِن لم يصله بِمَا قبله أَو صَامَهُ عَن قَضَاء أَو نذر أَو وَافق عَادَة لَهُ لخَبر إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره
فعلى هَذَا لَا يَكْفِي وصل صَوْم يَوْم الشَّك إِلَّا بِمَا قبل النّصْف الثَّانِي وَلَو وصل النّصْف الثَّانِي بِمَا قبله ثمَّ أفطر فِيهِ حرم عَلَيْهِ الصَّوْم إِلَّا أَن يكون لَهُ عَادَة قبل النّصْف الثَّانِي فَلهُ صَوْم أَيَّامهَا
فَإِن قيل هلا اسْتحبَّ صَوْم يَوْم الشَّك إِذا أطبق الْغَيْم خُرُوجًا من خلاف الإِمَام أَحْمد حَيْثُ قَالَ بِوُجُوب صَوْمه حِينَئِذٍ أُجِيب بِأَنا لَا نراعي الْخلاف إِذا خَالف سنة صَرِيحَة وَهِي هُنَا خبر إِذا غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ وَيَوْم الشَّك هُوَ يَوْم الثَّلَاثِينَ من شعْبَان إِذا تحدث النَّاس بِرُؤْيَتِهِ أَو شهد بهَا عدد ترد شَهَادَتهم كصبيان أَو نسَاء أَو عبيد أَو فسقة وَظن صدقهم كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَإِنَّمَا لم يَصح صَوْمه عَن رَمَضَان لِأَنَّهُ لم يثبت كَونه مِنْهُ
نعم من اعْتقد صدق من قَالَ إِنَّه رَآهُ مِمَّن

(1/239)


ذكر يجب عَلَيْهِ الصَّوْم كَمَا تقدم عَن الْبَغَوِيّ فِي طَائِفَة أول الْبَاب وَتقدم فِي أَثْنَائِهِ صِحَة نِيَّة المعتقد لذَلِك وَوُقُوع الصَّوْم عَن رَمَضَان إِذا تبين كَونه مِنْهُ فَلَا تنَافِي بَين مَا ذكر فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة لِأَن يَوْم الشَّك الَّذِي يحرم صَوْمه هُوَ على من لم يظنّ الصدْق هَذَا مَوضِع وَأما من ظَنّه أَو اعتقده صحت النِّيَّة مِنْهُ وَوَجَب عَلَيْهِ الصَّوْم وَهَذَانِ موضعان فَقَوْل الْإِسْنَوِيّ إِن كَلَام الشَّيْخَيْنِ فِي الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب متناقض من ثَلَاثَة أوجه فِي مَوضِع يجب وَفِي مَوضِع يجوز وَفِي مَوضِع يمْتَنع مَمْنُوع
أما إِذا لم يتحدث أحد بِالرُّؤْيَةِ فَلَيْسَ الْيَوْم يَوْم شكّ بل هُوَ من شعْبَان وَإِن أطبق الْغَيْم لخَبر فَإِن غم عَلَيْكُم
فرع الْفطر بَين الصومين وَاجِب إِذْ الْوِصَال فِي الصَّوْم فرضا كَانَ أَو نفلا حرَام للنَّهْي عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ أَن يَصُوم يَوْمَيْنِ فَأكْثر وَلَا يتَنَاوَل بِاللَّيْلِ مطعوما عمدا بِلَا عذر ذكره فِي الْمَجْمُوع وَقَضيته أَن الْجِمَاع وَنَحْوه لَا يمْنَع الْوِصَال لَكِن فِي الْبَحْر هُوَ أَن يستديم جَمِيع أَوْصَاف الصائمين
وَذكر الْجِرْجَانِيّ وَابْن الصّلاح نَحوه وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
ثمَّ شرع فِيمَا تجب بِهِ الْكَفَّارَة فَقَالَ (وَمن وطىء) بتغييب جَمِيع الْحَشَفَة أَو قدرهَا من مقطوعها (عَامِدًا) مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ (فِي الْفرج) وَلَو دبرا من آدَمِيّ أَو غَيره (فِي نَهَار رَمَضَان) وَلَو قبل تَمام الْغُرُوب وَهُوَ مُكَلّف صَائِم آثم بِالْوَطْءِ بِسَبَب الصَّوْم (فَعَلَيهِ) وعَلى الْمَوْطُوءَة المكلفة (الْقَضَاء) لإفساد صومهما بِالْجِمَاعِ (و) عَلَيْهِ وَحده (الْكَفَّارَة) دونهَا لنُقْصَان صَومهَا بتعرضه للبطلان بعروض الْحيض أَو نَحوه فَلم تكمل حرمته حَتَّى تتَعَلَّق بهَا الْكَفَّارَة فتختص بِالرجلِ الواطىء وَلِأَنَّهَا غرم مَا لي يتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ كالمهر فَلَا يجب على الْمَوْطُوءَة وَلَا على الرجل الموطوء كَمَا نَقله ابْن الرّفْعَة واللواط وإتيان الْبَهِيمَة حكم الْجِمَاع فِيمَا ذكر كَمَا شَمله مَا ذكر فِي الْحَد
فَخرج بِقَيْد الْوَطْء الْفطر بِغَيْرِهِ كَالْأَكْلِ وَالشرب والاستمناء والمباشرة فِيمَا دون الْفرج المفضية إِلَى الْإِنْزَال فَلَا كَفَّارَة بِهِ وبقيد جَمِيع الْحَشَفَة أَو قدرهَا من مقطوعها إِدْخَال بَعْضهَا فَلَا كَفَّارَة بِهِ لعدم فطره بِهِ وبقيد الْعمد النسْيَان لِأَن صَوْمه لم يفْسد بذلك وبالاختيار الْإِكْرَاه لما ذكر وبعلم التَّحْرِيم جَهله لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ أَو نشئه بمَكَان بعيد عَن الْعلمَاء فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لعدم فطره بِهِ
نعم لَو علم التَّحْرِيم وَجَهل وجوب الْكَفَّارَة وَجَبت عَلَيْهِ إِذْ كَانَ من حَقه أَن يمْتَنع وبالفرج الْوَطْء فِيمَا دونه فَلَا كَفَّارَة فِيهِ إِذا أنزل وبنهار رَمَضَان غَيره كَصَوْم نذر أَو كَفَّارَة فِيهِ لِأَن ذَلِك من خُصُوص رَمَضَان وبالمكلف الصَّبِي فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة لعدم وجوب الصَّوْم عَلَيْهِ وبالصائم مَا لَو أفطر بِغَيْر وَطْء ثمَّ وطىء أَو نسي النِّيَّة وَأصْبح ممسكا ووطىء فَلَا كَفَّارَة حِينَئِذٍ وبالإثم مَا لَو وطىء الْمَرِيض أَو الْمُسَافِر وَلَو بِغَيْر نِيَّة الترخيص وَمَا لَو ظن وَقت الْجِمَاع بَقَاء اللَّيْل أَو شكّ فِيهِ أَو ظن بِاجْتِهَاد دُخُوله فَبَان جمَاعه نَهَارا لم تلْزمهُ كَفَّارَة لانْتِفَاء الْإِثْم وَلَا كَفَّارَة على من جَامع عَامِدًا بعد الْأكل نَاسِيا وَظن أَنه أفطر بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ يعْتَقد أَنه غير صَائِم وَإِن كَانَ الْأَصَح بطلَان صَوْمه بِهَذَا الْجِمَاع كَمَا لَو جَامع على ظن بَقَاء اللَّيْل فَبَان خِلَافه وَلَا على مُسَافر أفطر بِالزِّنَا مترخصا لِأَن الْفطر جَائِز لَهُ وإثمه بِسَبَب الزِّنَا لَا بِالصَّوْمِ
تَنْبِيه قيد فِي الرَّوْضَة الْجِمَاع بالتام تبعا للغزالي احْتِرَازًا من الْمَرْأَة فَإِنَّهَا تفطر بِدُخُول شَيْء من الذّكر فِي فرجهَا وَلَو دون الْحَشَفَة وزيفوه بِخُرُوج ذَاك بِالْجِمَاعِ إِذْ الْفساد فِيهِ بِغَيْرِهِ
وَمن جَامع فِي يَوْمَيْنِ لزمَه كفارتان لِأَن كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة فَلَا تتداخل كفارتان لِأَن كل يَوْم عبَادَة مستقله
فَلَا تتداخل كفارتاهما سَوَاء أكفر عَن الْجِمَاع الأول قبل

(1/240)


الثَّانِي أم لَا كحجتين جَامع فيهمَا فَلَو جَامع فِي جَمِيع أَيَّام رَمَضَان لزمَه كَفَّارَات بعددها فَإِن تكَرر الْجِمَاع فِي يَوْم وَاحِد فَلَا تعدد وَإِن كَانَ بِأَرْبَع زَوْجَات وحدوث السّفر وَلَو طَويلا بعد الْجِمَاع لَا يسْقط الْكَفَّارَة لِأَن السّفر المنشأ فِي أثْنَاء النَّهَار لَا يُبِيح الْفطر فَلَا يُؤثر فِيمَا وَجب من الْكَفَّارَة وَكَذَا حُدُوث الْمَرَض لَا يُسْقِطهَا لِأَن الْمَرَض لَا يُنَافِي الصَّوْم فَيتَحَقَّق هتك حرمته
(وَهِي) أَي الْكَفَّارَة الْمَذْكُورَة مرتبَة فَيجب أَولا (عتق رَقَبَة مُؤمنَة) سليمَة من الْعُيُوب الْمضرَّة بِالْعَمَلِ وَالْكَسْب كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الظِّهَار (فَإِن لم يجدهَا فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين فَإِن لم يسْتَطع) صومهما (فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا) أَو فَقير لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَلَكت قَالَ وَمَا أهْلكك قَالَ واقعت امْرَأَتي فِي رَمَضَان
قَالَ هَل تَجِد مَا تعْتق رَقَبَة قَالَ لَا
قَالَ فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين قَالَ لَا قَالَ فَهَل تَجِد مَا تطعم سِتِّينَ مِسْكينا قَالَ لَا
ثمَّ جلس فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرق فِيهِ تمر فَقَالَ تصدق بِهَذَا فَقَالَ على أفقر منا يَا رَسُول الله فوَاللَّه مَا بَين لابتيها أَي جبليها أهل بَيت أحْوج إِلَيْهِ منا
فَضَحِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت أنيابه ثمَّ قَالَ اذْهَبْ فأطعمه أهلك والعرق بِفَتْح الْعين وَالرَّاء مكتل ينسج من خوص النّخل وَكَانَ فِيهِ قدر خَمْسَة عشر صَاعا وَقيل عشرُون
وَلَو شرع فِي الصَّوْم ثمَّ وجد الرَّقَبَة ندب عتقهَا وَلَو شرع فِي الْإِطْعَام ثمَّ قدر على الصَّوْم ندب لَهُ فَلَو عجز عَن جَمِيع الْخِصَال الْمَذْكُورَة اسْتَقَرَّتْ الْكَفَّارَة فِي ذمَّته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الْأَعرَابِي بِأَن يكفر بِمَا دَفعه إِلَيْهِ مَعَ إخْبَاره بعجزه فَدلَّ على أَنَّهَا ثَابِتَة فِي الذِّمَّة لِأَن حُقُوق الله تَعَالَى الْمَالِيَّة إِذا عجز عَنْهَا العَبْد وَقت وُجُوبهَا فَإِن كَانَت لَا بِسَبَب مِنْهُ كَزَكَاة الْفطر لم تَسْتَقِر وَإِن كَانَت بِسَبَب مِنْهُ اسْتَقَرَّتْ فِي ذمَّته سَوَاء أَكَانَت على وَجه الْبَدَل كجزاء الصَّيْد وفدية الْحلق أَو لَا ككفارة الْقَتْل وَالظِّهَار وَالْيَمِين وَالْجِمَاع وَدم التَّمَتُّع وَالْقرَان
فَإِن قيل لَو اسْتَقَرَّتْ لأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المواقع بإخراجها بعد
أُجِيب بِأَن تَأْخِير الْبَيَان لوقت الْحَاجة جَائِز وَهُوَ وَقت الْقُدْرَة فَإِذا قدر على خصْلَة مِنْهَا فعلهَا كَمَا لَو كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا وَقت الْوُجُوب فَإِن قدر على أَكثر رتب وَله الْعُدُول عَن الصَّوْم إِلَى الْإِطْعَام لشدَّة الغلمة وَهِي بغين مُعْجمَة وَلَام سَاكِنة شدَّة الْحَاجة للنِّكَاح وَلَا يجوز للْفَقِير صرف كَفَّارَته إِلَى عِيَاله كالزكوات وَسَائِر الْكَفَّارَات
وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخَبَر أطْعمهُ أهلك فَفِي الْأُم كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ يحْتَمل أَنه لما أخبرهُ بفقره صرفه لَهُ صَدَقَة وَفِي ذَلِك أجوبة أخر ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره (وَمن مَاتَ) مُسلما كَمَا قيد بِهِ فِي الْقُوت (وَعَلِيهِ صِيَام) من رَمَضَان أَو نذر أَو كَفَّارَة قبل إِمْكَان الْقَضَاء بِأَن اسْتمرّ مَرضه أَو سَفَره الْمُبَاح إِلَى مَوته فَلَا تدارك للفائت بالفدية وَلَا بِالْقضَاءِ لعدم تَقْصِيره وَلَا إِثْم بِهِ لِأَنَّهُ فرض لم يتَمَكَّن مِنْهُ إِلَى الْمَوْت فَسقط حكمه كَالْحَجِّ هَذَا إِذا كَانَ الْفَوات بِعُذْر كَمَرَض وَسَوَاء اسْتمرّ إِلَى الْمَوْت أم حصل الْمَوْت فِي رَمَضَان وَلَو بعد زَوَال الْعذر أما غير الْمَعْذُور وَهُوَ الْمُتَعَدِّي بِالْفطرِ فَإِنَّهُ يَأْثَم ويتدارك عَنهُ بالفدية كَمَا صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب النّذر وَإِن مَاتَ بعد التَّمَكُّن من الْقَضَاء وَلم يقْض (أطْعم عَنهُ وليه) من تركته (لكل يَوْم) فَاتَهُ صَوْمه (مد طَعَام) وَهُوَ رَطْل وَثلث بالرطل الْبَغْدَادِيّ كَمَا مر وبالكيل الْمصْرِيّ نصف قدح من غَالب قوت بَلَده لخَبر من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام شهر فليطعم عَنهُ وليه مَكَان كل يَوْم مِسْكينا وَلَا يجوز أَن

(1/241)


يَصُوم عَنهُ وليه فِي الْجَدِيد لِأَن الصَّوْم عبَادَة بدنية لَا تدْخلهَا النِّيَابَة فِي الْحَيَاة فَكَذَلِك بعد الْمَوْت كَالصَّلَاةِ
وَفِي الْقَدِيم يجوز لوَلِيِّه أَن يَصُوم عَنهُ بل ينْدب لَهُ وَيجوز لَهُ الْإِطْعَام فَلَا بُد من التَّدَارُك على الْقَوْلَيْنِ وَالْقَدِيم هُنَا هُوَ الْأَظْهر الْمُفْتى بِهِ للْأَخْبَار الصَّحِيحَة الدَّالَّة عَلَيْهِ كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه قَالَ النَّوَوِيّ وَلَيْسَ للجديد حجَّة من السّنة وَالْخَبَر الْوَارِد بِالْإِطْعَامِ ضَعِيف وَمَعَ ضعفه فالإطعام لَا يمْتَنع عِنْد الْقَائِل بِالصَّوْمِ وعَلى الْقَدِيم الْوَلِيّ الَّذِي يَصُوم عَنهُ كل قريب للْمَيت وَإِن لم يكن عاصبا وَلَا وَارِثا وَلَا ولي مَال على الْمُخْتَار لما فِي خبر مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لامْرَأَة قَالَت لَهُ إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم نذر أفأصوم عَنْهَا قَالَ صومي عَن أمك قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهَذَا يبطل احْتِمَال ولَايَة المَال والعصوبة وَقد قيل بِكُل مِنْهُمَا فَإِن اتّفقت الْوَرَثَة على أَن يَصُوم وَاحِد جَازَ فَإِن تنازعوا فَفِي فَوَائِد الْمُهَذّب للفارقي أَنه يقسم على قدر مواريثهم
وعَلى الْقَدِيم لَو صَامَ عَنهُ أَجْنَبِي بِإِذْنِهِ بِأَن أوصى بِهِ أَو بِإِذن قَرِيبه صَحَّ قِيَاسا على الْحَج
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمذهب الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَو صَامَ عَنهُ ثَلَاثُونَ بِالْإِذْنِ يَوْمًا وَاحِدًا أَجزَأَهُ
قَالَ وَهُوَ الظَّاهِر الَّذِي اعتقده وَخرج بِقَيْد الْمُسلم فِيمَا مر مَا لَو ارْتَدَّ وَمَات لم يصم عَنهُ وَيتَعَيَّن الْإِطْعَام قطعا كَمَا قَالَه فِي الْقُوت
وَلَو مَاتَ الْمُسلم وَعَلِيهِ صَلَاة أَو اعْتِكَاف لم يفعل ذَلِك عَنهُ وَلَا فديَة لَهُ لعدم وُرُودهَا وَيسْتَثْنى من ذَلِك رَكعَتَا الطّواف فَإِنَّهُمَا تجوزان تبعا لِلْحَجِّ وَمَا لَو نذر أَن يعْتَكف صَائِما فَإِن الْبَغَوِيّ قَالَ فِي التَّهْذِيب إِن قُلْنَا لَا يفرد الصَّوْم عَن الِاعْتِكَاف أَي وَهُوَ الْأَصَح وَقُلْنَا بِصَوْم الْوَلِيّ فَهَذَا يعْتَكف عَنهُ صَائِما وَإِن كَانَت النِّيَابَة لَا تجزىء فِي الِاعْتِكَاف (وَالشَّيْخ) وَهُوَ من جَاوز الْأَرْبَعين والعجوز وَالْمَرِيض الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ (إِن عجز) كل مِنْهُم (عَن الصَّوْم) بِأَن كَانَ يلْحقهُ بِهِ مشقة شَدِيدَة (يفْطر وَيطْعم) إِن كَانَ حرا (عَن كل يَوْم مدا) لقَوْله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} فَإِن كلمة لَا مقدرَة أَي لَا يطيقُونَهُ أَو أَن المُرَاد يطيقُونَهُ حَال الشَّبَاب ثمَّ يعجزون عَنهُ بعد الْكبر
تَنْبِيه قَضِيَّة إِطْلَاق المُصَنّف أَنه لَا فرق فِي وجوب الْفِدْيَة بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَفَائِدَته استقرارها فِي ذمَّة الْفَقِير وَهُوَ الْأَصَح على مَا يَقْتَضِيهِ كَلَام الرَّوْضَة وَأَصلهَا
وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري
وَقَول الْمَجْمُوع يَنْبَغِي أَن يكون الْأَصَح هُنَا عَكسه لِأَنَّهُ عَاجز حَالَة التَّكْلِيف بالفدية مَرْدُود بِأَن حق الله تَعَالَى المالي إِذا عجز عَنهُ العَبْد وَقت الْوُجُوب يثبت فِي ذمَّته وَهل الْفِدْيَة فِي حق من ذكر بدل عَن الصَّوْم أَو وَاجِبَة ابْتِدَاء وَجْهَان فِي أصل الرَّوْضَة أصَحهمَا فِي الْمَجْمُوع الثَّانِي وَخرج بِالْحرِّ الرَّقِيق فَلَا فديَة عَلَيْهِ إِذا أفطر لكبر أَو مرض وَمَات رَقِيقا
(وَالْحَامِل) وَلَو من زنا (والمرضع) وَلَو مستأجرة أَو متبرعة (إِذا خافتا) الْوَلَد (أفطرتا) أَي وَجب عَلَيْهِمَا الْإِفْطَار (و) وَجب (عَلَيْهِمَا الْقَضَاء) بِلَا فديَة كَالْمَرِيضِ
فَإِن قيل إِذا خافتا على أَنفسهمَا مَعَ ولديهما فَهُوَ فطر ارتفق بِهِ شخصان فَكَانَ يَنْبَغِي الْفِدْيَة قِيَاسا على مَا سَيَأْتِي
أُجِيب بِأَن الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {وَمن كَانَ مَرِيضا} إِلَى آخرهَا وَردت من حُصُول ضَرَر بِالصَّوْمِ كالضرر الْحَاصِل للْمَرِيض

(1/242)


(على أَنفسهمَا) وَلَو مَعَ فِي عدم الْفِدْيَة فِيمَا إِذا أفطرتا خوفًا على أَنفسهمَا فَلَا فرق بَين أَن يكون الْخَوْف مَعَ غَيرهمَا أم لَا (وَإِن خافتا) مِنْهُ (على أولادهما) فَقَط بِأَن تخَاف الْحَامِل من إِسْقَاطه أَو الْمُرْضع بِأَن يقل اللَّبن فَيهْلك الْوَلَد (أفطرتا) أَيْضا (و) وَجب (عَلَيْهِمَا الْقَضَاء) للافطار (وَالْكَفَّارَة) وَإِن كَانَتَا مسافرتين أَو مريضتين لما روى أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} أَنه نسخ حكمه إِلَّا فِي حَقّهمَا حِينَئِذٍ وَالْقَوْل بنسخه قَول أَكثر الْعلمَاء
وَقَالَ بَعضهم إِنَّه مُحكم غير مَنْسُوخ بتأويله بِمَا مر فِي الِاحْتِجَاج بِهِ
تَنْبِيه يلْحق بالمرضع فِي إِيجَاب الْفِدْيَة مَعَ الْقَضَاء من أفطر لإنقاذ آدَمِيّ مَعْصُوم أَو حَيَوَان مُحْتَرم مشرف على الْهَلَاك بغرق أَو غَيره فَيجب عَلَيْهِ الْفطر إِذا لم يُمكنهُ تخليصه إِلَّا بفطره فَهُوَ فطر ارتفق بِهِ شخصان وَهُوَ حُصُول الْفطر للْمُضْطَر والخلاص لغيره فَلَو أفطر لتخليص مَال فَلَا فديَة لِأَنَّهُ لم يرتفق بِهِ إِلَّا شخص وَاحِد وَلَا يجب الْفطر لأَجله بل هُوَ جَائِز بِخِلَاف الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم فَإِنَّهُ يرتفق بِالْفطرِ شخصان وَإِن نظر بَعضهم فِي الْبَهِيمَة لأَنهم نزلُوا الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم فِي وجوب الدّفع عَنهُ منزلَة الْآدَمِيّ الْمَعْصُوم وَلَا يلْحق بالحامل والمرضع فِي لُزُوم الْفِدْيَة مَعَ الْقَضَاء الْمُتَعَدِّي بفطر رَمَضَان بِغَيْر جماع بل يلْزمه الْقَضَاء فَقَط وَمن أخر قَضَاء رَمَضَان مَعَ إِمْكَانه حَتَّى دخل رَمَضَان آخر لزمَه مَعَ الْقَضَاء لكل يَوْم مد لِأَن سِتَّة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم قَالُوا بذلك وَلَا مُخَالف لَهُم وَيَأْثَم بِهَذَا التَّأْخِير
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيلْزمهُ الْمَدّ بِدُخُول رَمَضَان أما من لم يُمكنهُ الْقَضَاء

(1/243)


لاستمرار عذره حَتَّى دخل رَمَضَان فَلَا فديَة عَلَيْهِ بِهَذَا التَّأْخِير
فَائِدَة وجوب الْفِدْيَة هُنَا للتأخير وفدية الشَّيْخ الْهَرم وَنَحْوه لأصل الصَّوْم وفدية الْمُرْضع وَالْحَامِل لتفويت فَضِيلَة الْوَقْت وبتكرير الْمَدّ إِذا لم يُخرجهُ بِتَكَرُّر السنين لِأَن الْحُقُوق الْمَالِيَّة لَا تتداخل وَلَو أخر قَضَاء رَمَضَان مَعَ إِمْكَانه حَتَّى دخل رَمَضَان آخر فَمَاتَ أخرج من تركته على الْجَدِيد السَّابِق لكل يَوْم مدان مد لفَوَات الصَّوْم وَمد للتأخير وعَلى الْقَدِيم وَهُوَ صَوْم الْوَلِيّ إِذا صَامَ حصل تدارك أصل الصَّوْم وَوَجَب فديَة للتأخير
(وَالْكَفَّارَة) أَن يخرج (عَن كل يَوْم مد وَهُوَ) كَمَا سبق (رَطْل وَثلث بالعراقي) أَي الْبَغْدَادِيّ وبالكيل نصف قدح بالمصري ومصرف الْفِدْيَة الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فَقَط دون بَقِيَّة الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَارَّة فِي قسم الصَّدقَات لقَوْله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} وَالْفَقِير أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فَإِذا جَازَ صرفهَا إِلَى الْمِسْكِين فالفقير أولى وَلَا يجب الْجمع بَينهمَا وَله الصّرْف أَمْدَاد من الْفِدْيَة إِلَى شخص وَاحِد لِأَن كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة فالأمداد بِمَنْزِلَة الْكَفَّارَات بِخِلَاف الْمَدّ الْوَاحِد لَا يجوز صرفه إِلَى شَخْصَيْنِ لِأَن كل مد فديَة تَامَّة وَقد أوجب الله تَعَالَى صرف الْفِدْيَة إِلَى الْوَاحِد فَلَا ينقص عَنْهَا وَلَا يلْزم مِنْهُ امْتنَاع صرف فديتين إِلَى شخص وَاحِد كَمَا لَا يمْتَنع أَن يَأْخُذ الْوَاحِد من زكوات مُتعَدِّدَة وجنس الْفِدْيَة جنس الْفطْرَة ونوعها وصفتها وَقد سبق بَيَان ذَلِك فِي زَكَاة الْفطر
وَيعْتَبر فِي الْمَدّ الَّذِي توجبه هُنَا فِي الْكَفَّارَات أَن يكون فَاضلا عَن قوته كَزَكَاة الْفطر قَالَه الْقفال فِي فَتَاوِيهِ وَكَذَا عَمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ من مسكن وخادم
تَنْبِيه تَعْجِيل فديَة التَّأْخِير قبل دُخُول رَمَضَان الثَّانِي ليؤخر الْقَضَاء مَعَ الْإِمْكَان جَائِز فِي الْأَصَح كتعجيل الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث الْمحرم وَيحرم التَّأْخِير وَلَا شَيْء على الْهَرم وَلَا الزَّمن وَلَا من اشتدت مشقة الصَّوْم عَلَيْهِ لتأخير الْفِدْيَة إِذا أخروها عَن السّنة الأولى وَلَيْسَ لَهُم وَلَا للحامل وَلَا للمرضع تَعْجِيل فديَة يَوْمَيْنِ فَأكْثر كَمَا لَا يجوز تَعْجِيل الزَّكَاة لعامين بِخِلَاف مَا لَو عجل من ذكر فديَة يَوْم فِيهِ أَو فِي ليلته فَإِنَّهُ جَائِز
(وَالْمَرِيض) وَإِن تعدى بِسَبَبِهِ (وَالْمُسَافر) سفرا طَويلا مُبَاحا (يفطران) بنية الترخيص (ويقضيان) لقَوْله تَعَالَى {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} أَي فَأفْطر {فَعدَّة من أَيَّام أخر} وَلَا بُد فِي فطر الْمَرِيض من مشقة تبيح لَهُ التَّيَمُّم فَإِن خَافَ على نَفسه الْهَلَاك أَو ذهَاب مَنْفَعَة عُضْو وَجب عَلَيْهِ الْفطر قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}

(1/244)


ثمَّ إِن كَانَ الْمَرَض مطبقا فَلهُ ترك النِّيَّة أَو متقطعا كَأَن كَانَ يحم وقتا دون وَقت نظر إِن كَانَ محموما وَقت الشُّرُوع جَازَ لَهُ ترك النِّيَّة وَإِلَّا فَعَلَيهِ أَن يَنْوِي فَإِن عَاد الْمَرَض وَاحْتَاجَ إِلَى الْإِفْطَار أفطر وَلمن غلب عَلَيْهِ الْجُوع أَو الْعَطش حكم الْمَرِيض
وَأما الْمُسَافِر السّفر الْمَذْكُور فَيجوز لَهُ الْفطر وَإِن لم يتَضَرَّر بِهِ وَلَكِن الصَّوْم أفضل لما فِيهِ من بَرَاءَة الذِّمَّة وَعدم إخلاء الْوَقْت عَن الْعِبَادَة وَلِأَنَّهُ الْأَكْثَر من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما إِذا تضرر بِهِ لنَحْو مرض أَو ألم يشق عَلَيْهِ احْتِمَاله فالفطر أفضل لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا صَائِما فِي السّفر قد ظلل عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ من الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر
نعم إِن خَافَ من الصَّوْم تلف نفس أَو عُضْو أَو مَنْفَعَة حرم عَلَيْهِ الصَّوْم كَمَا قَالَه الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى
وَلَو لم يتَضَرَّر بِالصَّوْمِ فِي الْحَال وَلَكِن يخَاف الضعْف لَو صَامَ وَكَانَ سفر حج أَو غَزْو فالفطر أفضل كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي كتاب الصَّوْم عَن التَّتِمَّة وَأقرهُ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن صَوْم التَّطَوُّع وَهُوَ مُسْتَحبّ لما فِي الصَّحِيحَيْنِ من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله باعد الله وَجهه عَن النَّار سبعين خَرِيفًا
ويتأكد صَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتحَرَّى صومهما وَقَالَ إنَّهُمَا يَوْمَانِ تعرض فيهمَا الْأَعْمَال فَأحب أَن يعرض عَمَلي وَأَنا صَائِم
وَصَوْم يَوْم عَرَفَة وَهُوَ تَاسِع ذِي الْحجَّة لغير الْحَاج لخَبر مُسلم صِيَام يَوْم عَرَفَة يكفر السّنة الَّتِي قبله وَالَّتِي بعده وَصَوْم عَاشُورَاء وَهُوَ عَاشر الْمحرم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوْم يَوْم عَاشُورَاء أحتسب على الله أَن يكفر السّنة الَّتِي قبله وَصَوْم تاسوعاء وَهُوَ تَاسِع الْمحرم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَئِن بقيت إِلَى قَابل لأصومن التَّاسِع فَمَاتَ قبله وَصَوْم سِتَّة من شَوَّال لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صَامَ رَمَضَان ثمَّ أتبعه بست من شَوَّال كَانَ كصيام الدَّهْر وتتابعها عقب الْعِيد
وَيكرهُ إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بِالصَّوْمِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يصم أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم يَوْمًا قبله أَو يَوْمًا بعده
وَكَذَا إِفْرَاد السبت أَو الْأَحَد لخَبر لَا تَصُومُوا يَوْم السبت إِلَّا فِيمَا افْترض عَلَيْكُم
وَلِأَن الْيَهُود تعظم يَوْم السبت وَالنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد
وَصَوْم الدَّهْر غير يومي الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق مَكْرُوه لمن خَافَ بِهِ ضَرَرا أَو فَوت حق وَاجِب أَو مُسْتَحبّ ومستحب لغيره لإِطْلَاق الْأَدِلَّة
وَيحرم صَوْم الْمَرْأَة تَطَوّعا وَزوجهَا حَاضر إِلَّا بِإِذْنِهِ لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا يحل لامْرَأَة أَن تَصُوم وَزوجهَا شَاهد إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمن تلبس بِصَوْم تطوع أَو صَلَاة فَلهُ قطعهمَا أما الصَّوْم فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّائِم المتطوع أَمِير نَفسه إِن شَاءَ صَامَ وَإِن شَاءَ أفطر وَأما الصَّلَاة

(1/245)


فقياسا على الصَّوْم
وَمن تلبس بِصَوْم وَاجِب أَو صَلَاة وَاجِبَة حرم عَلَيْهِ قطعه سَوَاء كَانَ قَضَاؤُهُ على الْفَوْر كَصَوْم من تعدى بِالْفطرِ أَو أخر الصَّلَاة بِلَا عذر أم لَا بِأَن لم يكن تعدى بذلك
تَتِمَّة أفضل الشُّهُور بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم ثمَّ رَجَب ثمَّ بَاقِي الْأَشْهر الْحرم ثمَّ شعْبَان

فصل فِي الِاعْتِكَاف
هُوَ لُغَة اللّّبْث وَالْحَبْس
وَشرعا اللّّبْث فِي الْمَسْجِد من شخص مَخْصُوص بنية
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} وَخبر الصَّحِيحَيْنِ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتكف الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان ثمَّ اعْتكف الْعشْر الْأَوَاخِر مِنْهُ ولازمه حَتَّى توفاه الله تَعَالَى ثمَّ اعْتكف أَزوَاجه من بعده
وَهُوَ من الشَّرَائِع الْقَدِيمَة قَالَ تَعَالَى {وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا بَيْتِي للطائفين والعاكفين} وَالِاعْتِكَاف سنة مُؤَكدَة وَهِي (مُسْتَحبَّة) أَي مَطْلُوبَة فِي كل وَقت فِي رَمَضَان وَغَيره بِالْإِجْمَاع ولإطلاق الْأَدِلَّة
قَالَ الزَّرْكَشِيّ فقد رُوِيَ من اعْتكف فوَاق نَاقَة فَكَأَنَّمَا أعتق نسمَة وَهُوَ فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان أفضل مِنْهُ فِي غَيره لطلب لَيْلَة الْقدر فيحييها بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَة وَكَثْرَة الدُّعَاء فَإِنَّهَا أفضل ليَالِي السّنة
قَالَ تَعَالَى {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} الْقدر 3 أَي الْعَمَل فِيهَا خير من الْعَمَل فِي ألف شهر لَيْسَ فِيهَا لَيْلَة الْقدر وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من قَامَ لَيْلَة الْقدر إِيمَانًا واحتسابا غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه
وَهِي منحصرة فِي الْعشْر الْأَوَاخِر كَمَا نَص عَلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَعَلِيهِ الْجُمْهُور وَأَنَّهَا تلْزم لَيْلَة بِعَينهَا وَقَالَ الْمُزنِيّ وَابْن خُزَيْمَة إِنَّهَا منتقلة فِي ليَالِي الْعشْر جمعا بَين الْأَحَادِيث وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمُوع وَالْمذهب الأول
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَلَا ينَال فَضلهَا إِلَّا من أطلعه الله عَلَيْهَا
لَكِن قَالَ الْمُتَوَلِي يسْتَحبّ التَّعَبُّد فِي كل ليَالِي الْعشْر حَتَّى يجوز الْفَضِيلَة على الْيَقِين فَظَاهر هَذَا أَنه يجوز فَضلهَا سَوَاء اطلع عَلَيْهَا أم لَا وَهَذَا أولى
نعم حَال من اطلع عَلَيْهَا أكمل إِذا قَامَ بوظائفها وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا من صلى الْعشَاء الْأَخِيرَة فِي جمَاعَة من رَمَضَان فقد أدْرك لَيْلَة الْقدر وميل الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين أَو الثَّالِث وَالْعِشْرين
وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَأبي هِيَ لَيْلَة سبع وَعشْرين وَهُوَ مَذْهَب أَكثر أهل الْعلم وفيهَا نَحْو الثَّلَاثِينَ

(1/246)


قولا وَمن علاماتها أَنَّهَا طَلْقَة لَا حارة وَلَا بَارِدَة وتطلع الشَّمْس فِي صبيحتها بَيْضَاء لَيْسَ فِيهَا كثير شُعَاع
وَينْدب أَن يكثر فِي لَيْلَتهَا من قَول اللَّهُمَّ إِنَّك عَفْو كريم تحب الْعَفو فَاعْفُ عني وَأَن يجْتَهد فِي يَوْمهَا كَمَا يجْتَهد فِي لَيْلَتهَا وخصت بهَا هَذِه الْأمة وَهِي بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيسن لمن رَآهَا أَن يكتمها
(وَله) أَي الِاعْتِكَاف (شَرْطَانِ) أَي ركنان فمراده بِالشّرطِ مَا لَا بُد مِنْهُ بل أَرْكَانه أَرْبَعَة كَمَا ستعرفه
الأول (النِّيَّة) بِالْقَلْبِ كَغَيْرِهِ من الْعِبَادَات وَتجب نِيَّة فَرضِيَّة فِي نَذره ليتميز عَن النَّفْل وَإِن أطلق الِاعْتِكَاف بِأَن لم يقدر لَهُ مُدَّة كفته نِيَّة وَإِن طَال مكثه لَكِن لَو خرج من الْمَسْجِد بِلَا عزم عود وَعَاد جددها سَوَاء أخرج لتبرز أم لغيره لِأَن مَا مضى عبَادَة تَامَّة فَإِن عزم على الْعود كَانَت هَذِه الْعَزِيمَة قَائِمَة مقَام النِّيَّة
وَلَو قَيده بِمدَّة كَيَوْم وَشهر وَخرج لغير تبرز وَعَاد جدد النِّيَّة أَيْضا وَإِن لم يطلّ الزَّمن لقطعه الِاعْتِكَاف بِخِلَاف خُرُوجه لتبرز فَإِنَّهُ لَا يجب تجديدها وَإِن طَال الزَّمن فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ فَهُوَ كالمستثنى عِنْد النِّيَّة لَا إِن نذر مُدَّة متتابعة فَخرج الْعذر لَا يقطع التَّتَابُع فَلَا يلْزمه تَجْدِيد سَوَاء أخرج لتبرز أم لغيره
(و) الثَّانِي (اللّّبْث) بِقدر مَا يُسمى عكوفا أَي إِقَامَة بِحَيْثُ يكون زَمَنهَا فَوق زمن الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَنَحْوه فَلَا يَكْفِي قدرهَا وَلَا يجب السّكُون بل يَكْفِي التَّرَدُّد فِيهِ
وَأَشَارَ إِلَى الرُّكْن الثَّالِث بقوله (فِي الْمَسْجِد) فَلَا يَصح فِي غَيره لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وللإجماع وَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} وَالْجَامِع أولى من بَقِيَّة الْمَسَاجِد لِكَثْرَة الْجَمَاعَة فِيهِ وَلِئَلَّا يحْتَاج إِلَى الْخُرُوج للْجُمُعَة وخروجا من خلاف من أوجبه بل لَو نذر مُدَّة متتابعة فِيهَا يَوْم جُمُعَة وَكَانَ مِمَّن تلْزمهُ الْجُمُعَة وَلم يشْتَرط الْخُرُوج لَهَا وَجب الْجَامِع لِأَن خُرُوجه لَهَا يبطل تتابعه وَلَو عين النَّاذِر فِي نَذره مَسْجِد مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو الْأَقْصَى تعين فَلَا يقوم غَيرهَا مقَامهَا لمزيد فَضلهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَيقوم مَسْجِد مَكَّة مقَام الآخرين لمزيد فَضله عَلَيْهِمَا وَيقوم مَسْجِد الْمَدِينَة مقَام الْأَقْصَى لمزيد فَضله عَلَيْهِ فَلَو عين مَسْجِدا غير الثَّلَاثَة لم يتَعَيَّن وَلَو عين زمن الِاعْتِكَاف فِي نَذره تعين
والركن الرَّابِع معتكف وَشَرطه إِسْلَام وعقل وخلو عَن حدث أكبر فَلَا يَصح اعْتِكَاف من اتّصف بضد شَيْء مِنْهَا لعدم صِحَة نِيَّة الْكَافِر وَمن لَا عقل لَهُ وَحُرْمَة مكث من بِهِ حدث أكبر بِالْمَسْجِدِ (وَلَا يخرج من) الْمَسْجِد فِي (الِاعْتِكَاف الْمَنْذُور) وَلَو غير مُقَيّد بِمدَّة وَلَا تتَابع (إِلَّا لحَاجَة الْإِنْسَان) من بَوْل وغائط وَمَا

(1/247)


فِي مَعْنَاهُمَا كَغسْل من جَنَابَة وَلَا يضر ذَهَابه لتبرز بدار لَهُ لم يفحش بعْدهَا عَن الْمَسْجِد وَلَا لَهُ دَار أُخْرَى أقرب مِنْهَا أَو فحش وَلم يجد بطريقه مَكَانا لائقا بِهِ فَلَا يَنْقَطِع التَّتَابُع بِهِ فَلَا يجب تبرزه فِي غير دَاره كسقاية الْمَسْجِد وَدَار صديقه المجاور لَهُ للْمَشَقَّة فِي الأولى والْمنَّة فِي الثَّانِي
أما إِذا كَانَ لَهُ دَار أُخْرَى أقرب مِنْهَا أَو فحش بعْدهَا وَوجد بطريقه مَكَانا لائقا بِهِ فَيَنْقَطِع التَّتَابُع بذلك لاغتنائه بالأقرب فِي الأولى وَاحْتِمَال أَن يَأْتِيهِ الْبَوْل فِي رُجُوعه فِي الثَّانِيَة فَيبقى طول يَوْمه فِي الذّهاب وَالرُّجُوع وَلَا يُكَلف فِي خُرُوجه لذَلِك الْإِسْرَاع بل يمشي على سجيته الْمَعْهُودَة وَإِذا فرغ مِنْهُ واستنجى فَلهُ أَن يتَوَضَّأ خَارج الْمَسْجِد لِأَنَّهُ يَقع تَابعا لذَلِك بِخِلَاف مَا لَو خرج لَهُ مَعَ إِمْكَانه فِي الْمَسْجِد فَلَا يجوز
وَضبط الْبَغَوِيّ الْفُحْش بِأَن يذهب أَكثر الْوَقْت فِي التبرز إِلَى الدَّار وَلَو عَاد مَرِيضا فِي طَرِيقه أَو زار قادما فِي طَرِيقه لقَضَاء حَاجته لم يضر مَا لم يعدل عَن طَرِيقه وَلم يطلّ وُقُوفه فَإِن طَال أَو عدل انْقَطع بذلك تتابعه
وَلَو صلى فِي طَرِيقه على جَنَازَة فَإِن لم ينتظرها وَلم يعدل إِلَيْهَا عَن طَرِيقه جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يَنْقَطِع التَّتَابُع بِخُرُوجِهِ بِعُذْر كنسيان لاعتكافه وَإِن طَال زَمَنه (أَو عذر من حيض) أَو نِفَاس إِن طَالَتْ مُدَّة الِاعْتِكَاف بِأَن كَانَت لَا تَخْلُو عَنهُ غَالِبا أَو جَنَابَة من احْتِلَام لتَحْرِيم الْمكْث فِيهِ حِينَئِذٍ (أَو) عذر (مرض) وَلَو جنونا أَو إِغْمَاء (لَا يُمكن الْمقَام مَعَه) أَي يشق مَعَه الْمقَام فِي الْمَسْجِد لحَاجَة فرش وخادم وَتردد طَبِيب أَو يخَاف مِنْهُ تلويث الْمَسْجِد كإسهال وكإدرار بَوْل بِخِلَاف مرض لَا يحوج إِلَى الْخُرُوج كصداع وَحمى خَفِيفَة فَيَنْقَطِع التَّتَابُع بِالْخرُوجِ لَهُ
وَفِي معنى الْمَرَض الْخَوْف من لص أَو حريق وَلَا يَنْقَطِع التَّتَابُع بِخُرُوج مُؤذن راتب إِلَى مَنَارَة مُنْفَصِلَة عَن الْمَسْجِد قريبَة مِنْهُ للأذان لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة لَهُ مَعْدُودَة من توابعه وَقد اعْتَادَ الرَّاتِب صعودها وَألف النَّاس صَوته فيعذر فِيهِ وَيجْعَل زمن الْأَذَان كالمستثنى من اعْتِكَافه
وَيجب فِي اعْتِكَاف منذور متتابع قَضَاء زمن خُرُوجه من الْمَسْجِد لعذر لَا يقطع التَّتَابُع كزمن حيض ونفاس وجنابة غير مفطرة لِأَنَّهُ غير معتكف فِيهِ إِلَّا زمن نَحْو تبرز مِمَّا يطْلب الْخُرُوج لَهُ وَلم يطلّ زَمَنه عَادَة كَأَكْل وَغسل جَنَابَة وأذان مُؤذن راتب فَلَا يجب قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنى إِذْ لَا بُد مِنْهُ وَلِأَنَّهُ معتكف فِيهِ بِخِلَاف مَا يطول زَمَنه كَمَرَض وعدة وحيض ونفاس
(وَيبْطل) الِاعْتِكَاف الْمَنْذُور وَغَيره (بِالْوَطْءِ) من عَالم بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرًا للاعتكاف سَوَاء أوطىء فِي الْمَسْجِد أم خَارجه عِنْد

(1/248)


خُرُوجه لقَضَاء حَاجَة أَو نَحْوهَا لمنافاته الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة
وَأما الْمُبَاشرَة بِشَهْوَة فِيمَا دون الْفرج كلمس وقبلة فتبطله إِن أنزل وَإِلَّا فَلَا تبطله لما مر فِي الصَّوْم وَخرج بِالْمُبَاشرَةِ مَا إِذا نظر أَو تفكر فَأنْزل فَإِنَّهُ لَا يبطل وبالشهوة مَا إِذا قبل بِقصد الْإِكْرَام أَو نَحوه أَو بِلَا قصد فَلَا يُبطلهُ إِذا أنزل والاستمناء كالمباشرة وَلَو جَامع نَاسِيا للاعتكاف أَو جَاهِلا فكجماع الصَّائِم نَاسِيا صَوْمه أَو جَاهِلا فَلَا يضر كَمَا مر فِي الصّيام وَلَا يضر فِي الِاعْتِكَاف التَّطَيُّب والتزين وقص شَارِب وَلبس ثِيَاب حَسَنَة وَنَحْو ذَلِك من دواعي الْجِمَاع لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَركه وَلَا أَمر بِتَرْكِهِ وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ على الْإِبَاحَة وَله أَن يتَزَوَّج ويزوج بِخِلَاف الْمحرم وَلَا تكره لَهُ الصَّنَائِع فِي الْمَسْجِد كالخياطة وَالْكِتَابَة مَا لم يكثر مِنْهَا فَإِن أَكثر مِنْهَا كرهت لِحُرْمَتِهِ إِلَّا كِتَابَة الْعلم فَلَا يكره الْإِكْثَار مِنْهَا لِأَنَّهَا طَاعَة كتعليم الْعلم ذكره فِي الْمَجْمُوع
وَله أَن يَأْكُل وَيشْرب وَيغسل يَدَيْهِ فِيهِ وَالْأولَى أَن يَأْكُل فِي سفرة أَو نَحْوهَا وَأَن يغسل يَده فِي طست أَو نَحْوهَا ليَكُون أنظف لِلْمَسْجِدِ وَيجوز نضحه بمستعمل خلافًا لما جرى عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ من الْحُرْمَة لاتفاقهم على جَوَاز الْوضُوء فِيهِ وَإِسْقَاط مَائه فِي أرضه مَعَ أَنه مُسْتَعْمل وَيجوز الاحتجام والفصد فِي إِنَاء مَعَ الْكَرَاهَة إِذا أَمن تلويث الْمَسْجِد وَيحرم الْبَوْل فِيهِ فِي إِنَاء وَالْفرق بَينه وَبَين مَا تقدم أَن الدَّم أخف مِنْهُ لما مر أَنه يُعْفَى عَنْهَا فِي محلهَا وَإِن كثرت إِذا لم تكن بِفِعْلِهِ وَإِن اشْتغل الْمُعْتَكف بِالْقُرْآنِ وَالْعلم فَزِيَادَة خير لِأَنَّهُ طَاعَة فِي طَاعَة
خَاتِمَة يسن للمعتكف الصَّوْم لِلِاتِّبَاعِ وللخروج من خلاف من أوجبه وَلَا يضر الْفطر بل يَصح اعْتِكَاف اللَّيْل وَحده لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي نذرت أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة قَالَ أوف بِنَذْرِك فاعتكف لَيْلَة وَلخَبَر أنس لَيْسَ على الْمُعْتَكف صِيَام إِلَّا أَن يَجعله على نَفسه وَلَو نذر اعْتِكَاف شهر بِعَيْنِه فَبَان إِنَّه انْقَضى قبل نَذره لم يلْزمه شَيْء لِأَن اعْتِكَاف شهر قد مضى محَال
وَهل الْأَفْضَل للمتطوع بالاعتكاف الْخُرُوج لعيادة الْمَرِيض أَو دوَام الِاعْتِكَاف قَالَ الْأَصْحَاب هما سَوَاء
وَقَالَ ابْن الصّلاح إِن الْخُرُوج لَهَا مُخَالف للسّنة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يخرج لذَلِك وَكَانَ اعْتِكَافه تَطَوّعا
وَقَالَ البُلْقِينِيّ يَنْبَغِي أَن يكون مَوضِع التَّسْوِيَة فِي عِيَادَة الْأَجَانِب أما ذَوُو الرَّحِم والأقارب والأصدقاء وَالْجِيرَان
فَالظَّاهِر أَن الْخُرُوج لعيادتهم أفضل لَا سِيمَا إِذا علم أَنه يشق عَلَيْهِم وَعبارَة القَاضِي الْحُسَيْن مصرحة بذلك وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَالله تَعَالَى أَعلَى وَأعلم

(1/249)