الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي الْعَقِيقَة
وَهِي سنة مُؤَكدَة للْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك مِنْهَا خبر الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته تذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع
ويحلق رَأسه وَيُسمى وَمِنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِتَسْمِيَة الْمَوْلُود يَوْم سابعه وَوضع الْأَذَى عَنهُ والعق رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيّ وَمعنى مُرْتَهن بعقيقته قيل لَا يَنْمُو نمو مثله
وَقيل إِذا لم يعق عَنهُ لم يشفع لوَالِديهِ يَوْم الْقِيَامَة
(والعقيقة مُسْتَحبَّة وَهِي) لُغَة اسْم للشعر الَّذِي على رَأس الْمَوْلُود حِين وِلَادَته وَشرعا (الذَّبِيحَة عَن الْمَوْلُود) عِنْد حلق شعر رَأسه تَسْمِيَة للشَّيْء باسم سَببه وَيدخل وَقتهَا بانفصال جَمِيع الْوَلَد وَلَا تسْتَحب قبله بل تكون شَاة لحم وَيسن ذَبحهَا
(يَوْم سابعه) أَي وِلَادَته ويحسب يَوْم الْولادَة من السَّبْعَة
كَمَا فِي الْمَجْمُوع بِخِلَاف الْخِتَان فَإِنَّهُ لَا يحْسب مِنْهَا كَمَا صَححهُ فِي الزَّوَائِد لِأَن المرعي هُنَا الْمُبَادرَة إِلَى فعل الْقرْبَة والمرعي هُنَاكَ التَّأْخِير لزِيَادَة الْقُوَّة ليحتمله
وَيسن أَن يَقُول الذَّابِح بعد التَّسْمِيَة

(2/593)


اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك عقيقة فلَان لخَبر ورد فِيهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن وَيكرهُ لطخ رَأس الْمَوْلُود بدمها لِأَنَّهُ من فعل الْجَاهِلِيَّة وَإِنَّمَا لم يحرم للْخَبَر الصَّحِيح كَمَا فِي الْمَجْمُوع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَعَ الْغُلَام عقيقة فأهرقوا عَلَيْهِ دَمًا وأميطوا عَنهُ الْأَذَى بل قَالَ الْحسن وَقَتَادَة إِنَّه يسْتَحبّ ذَلِك ثمَّ يغسل لهَذَا الْخَبَر وَيسن لطخ رَأسه بالزعفران والخلوق كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع
وَيسن أَن يُسمى فِي السَّابِع كَمَا فِي الحَدِيث الْمَار وَلَا بَأْس بتسميته قبل ذَلِك وَذكر النَّوَوِيّ فِي أذكاره أَن السّنة تَسْمِيَته يَوْم السَّابِع أَو يَوْم الْولادَة وَاسْتدلَّ لكل مِنْهُمَا بأخبار صَحِيحَة وَحمل البُخَارِيّ أَخْبَار يَوْم الْولادَة على من لم يرد العق وأخبار يَوْم السَّابِع على من أَرَادَهُ
قَالَ ابْن حجر شَارِحه وَهُوَ جمع لطيف لم أره لغيره وَيسن أَن يحسن اسْمه لخَبر إِنَّكُم تدعون يَوْم الْقِيَامَة بأسمائكم وَأَسْمَاء آبائكم فحسنوا أسماءكم وَأفضل الْأَسْمَاء عبد الله وَعبد الرَّحْمَن لخَبر مُسلم أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عبد الله وَعبد الرَّحْمَن
وَتكره الْأَسْمَاء القبيحة كشهاب وَشَيْطَان وحمار وَمَا يتطير بنفيه عَادَة كبركة ونجيح وَلَا تكره التَّسْمِيَة بأسماء الْمَلَائِكَة والأنبياء رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أخرج الله أهل التَّوْحِيد من النَّار وَأول من يخرج من وَافق اسْمه اسْم نَبِي وَعنهُ أَنه قَالَ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد أَلا ليقمْ من اسْمه مُحَمَّد فَلْيدْخلْ الْجنَّة كَرَامَة لنَبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحرم تلقيب الشَّخْص بِمَا يكره
وَإِن كَانَ فِيهِ كالأعمش وَيجوز ذكره بِقصد التَّعْرِيف
لمن لَا يعرف إِلَّا بِهِ والألقاب الْحَسَنَة لَا ينْهَى عَنْهَا وَمَا زَالَت الألقاب الْحَسَنَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ إِلَّا مَا أحدثه النَّاس فِي زَمَاننَا من التَّوَسُّع حَتَّى لقبوا السفلة بِالْأَلْقَابِ الْعليا
وَيسن أَن يكنى أهل الْفضل من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَيحرم التكني بِأبي الْقَاسِم وَلَا يكنى كَافِر
قَالَ فِي الرَّوْضَة وَلَا فَاسق وَلَا مُبْتَدع لِأَن الكنية للتكرمة وَلَيْسوا من أَهلهَا إِلَّا لخوف فتْنَة من ذكره باسمه أَو تَعْرِيف كَمَا قيل بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {تبت يدا أبي لَهب} واسْمه عبد الْعُزَّى وَيسن فِي سَابِع ولادَة الْمَوْلُود أَن يحلق رَأسه كُله
وَيكون ذَلِك بعد ذبح الْعَقِيقَة وَأَن يتَصَدَّق بزنة الشّعْر ذَهَبا فَإِن لم يَتَيَسَّر كَمَا فِي الرَّوْضَة ففضة
(ويذبح) على الْبناء للْمَفْعُول حذف فَاعله للْعلم بِهِ
وَهُوَ من تلْزمهُ نَفَقَته كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة (عَن الْغُلَام شَاتَان) متساويتان (وَعَن الْجَارِيَة شَاة) لخَبر عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نعق عَن الْغُلَام بشاتين وَعَن الْجَارِيَة بِشَاة
وَإِنَّمَا كَانَت الْأُنْثَى على النّصْف تَشْبِيها بِالدِّيَةِ ويتأدى أصل السّنة عَن الْغُلَام بِشَاة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن كَبْشًا وكالشاة سبع بَدَنَة أَو بقرة أَنه من مَال الْمَوْلُود فَلَا يجوز للْوَلِيّ أَن يعق عَنهُ من ذَلِك لِأَن الْعَقِيقَة تبرع وَهُوَ مُمْتَنع من مَال الْمَوْلُود
تَنْبِيه لَو كَانَ الْوَلِيّ عَاجِزا عَن الْعَقِيقَة حِين الْولادَة ثمَّ أيسر قبل تَمام السَّابِع
اسْتحبَّ فِي حَقه وَإِن أيسر بهَا بعد السَّابِع وَبعد بَقِيَّة مُدَّة النّفاس أَي أَكْثَره كَمَا قَالَه بَعضهم لم يُؤمر بهَا وَفِيمَا إِذا أيسر بهَا بعد السَّابِع فِي مُدَّة النّفاس تردد للأصحاب وَمُقْتَضى كَلَام الْأَنْوَار تَرْجِيح مخاطبته بهَا وَهُوَ الظَّاهِر
(وَيطْعم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين) الْمُسلمين فَهِيَ كالأضحية فِي جِنْسهَا وسلامتها من الْعَيْب وَالْأَفْضَل مِنْهَا وَالْأكل مِنْهَا
وَقدر

(2/594)


الْمَأْكُول مِنْهَا وَالتَّصَدُّق والإهداء مِنْهَا وتعيينها إِذا عينت وَامْتِنَاع بيعهَا كالأضحية المسنونة فِي ذَلِك لِأَنَّهَا ذَبِيحَة مَنْدُوب إِلَيْهَا
فَأَشْبَهت الْأُضْحِية لَكِن الْعَقِيقَة يسن طبخها كَسَائِر الولائم بِخِلَاف الْأُضْحِية لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه السّنة
وَيسن أَن تطبخ بحلو تفاؤلا بحلاوة أَخْلَاق الْمَوْلُود وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامهم أَنه يسن طبخها وَإِن كَانَت منذورة
وَهُوَ كَذَلِك وَيسْتَثْنى من طبخها رجل الشَّاة
فَإِنَّهَا تُعْطى للقابلة لِأَن فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فعلت ذَلِك بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ الْحَاكِم
وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وَيسن أَن لَا يكسر مِنْهَا عظم بل يقطع كل عظم من مفصله تفاؤلا بسلامة أَعْضَاء الْمَوْلُود
فَإِن كَسره لم يكره
خَاتِمَة يسن أَن يُؤذن فِي أذن الْمَوْلُود الْيُمْنَى ويقام فِي الْيُسْرَى لخَبر ابْن السّني من ولد لَهُ مَوْلُود فَأذن فِي أُذُنه الْيُمْنَى وَأقَام فِي الْيُسْرَى لم تضره أم الصّبيان أَي التابعة من الْجِنّ وليكون إِعْلَامه بِالتَّوْحِيدِ أول مَا يقرع سَمعه عِنْد قدومه إِلَى الدُّنْيَا كَمَا يلقن عِنْد خُرُوجه مِنْهَا
وَأَن يحنك بِتَمْر سَوَاء أَكَانَ ذكرا أم أُنْثَى فيمضغ ويدلك بِهِ حنكه وَيفتح فَاه حَتَّى ينزل إِلَى جَوْفه مِنْهُ شَيْء وَفِي معنى التَّمْر الرطب وَيسن لكل أحد من النَّاس أَن يدهن غبا بِكَسْر الْغَيْن أَي وقتا بعد وَقت بِحَيْثُ يجِف الأول وَأَن يكتحل وترا لكل عين ثَلَاثَة وَأَن يحلق الْعَانَة ويقلم الظفر وينتف الْإِبِط وَأَن يغسل البراجم وَلَو فِي غير الْوضُوء
وَهِي عقد الْأَصَابِع ومفاصلها
وَأَن يسرح اللِّحْيَة لخَبر أبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن من كَانَ لَهُ شعر فليكرمه وَيكرهُ الْفَزع وَهُوَ حلق بعض الرَّأْس وَأما حلق جَمِيعهَا فَلَا بَأْس بِهِ لمن أَرَادَ التنظف وَلَا يتْركهُ لمن أَرَادَ أَن يدهنه ويرجله وَلَا يسن حلقه إِلَّا فِي النّسك أَو فِي حق الْكَافِر إِذا أسلم
أَو فِي الْمَوْلُود إِذا أُرِيد أَن يتَصَدَّق بزنة شعره ذَهَبا أَو فضَّة كَمَا مر وَأما الْمَرْأَة فَيكْرَه لَهَا حلق رَأسهَا إِلَّا لضَرُورَة وَيكرهُ نتف اللِّحْيَة أول طُلُوعهَا إيثارا للمروءة ونتف الشيب واستعجال الشيب بالكبريت أَو غَيره طلبا للشيخوخة

(2/595)


= كتاب السَّبق وَالرَّمْي = السَّبق بِالسُّكُونِ مصدر سبق أَي تقدم وبالتحريك المَال الْمَوْضُوع بَين أهل السباق وَالرَّمْي يَشْمَل الرَّمْي بِالسِّهَامِ والمزاريق وَغَيرهمَا
وَهَذَا الْبَاب من مبتكرات إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا
كَمَا قَالَه الْمُزنِيّ وَغَيره والمسابقة الشاملة للمناضلة سنة للرِّجَال الْمُسلمين بِقصد الْجِهَاد بِالْإِجْمَاع وَلقَوْله تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} وَفسّر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُوَّة بِالرَّمْي وَلخَبَر أنس كَانَت العضباء نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تسبق فجَاء أَعْرَابِي على قعُود لَهُ فسبقها فشق ذَلِك على الْمُسلمين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن حَقًا على الله تَعَالَى أَن لَا يرفع شَيْئا من هَذِه الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه وَيكرهُ لمن علم الرَّمْي تَركه كَرَاهَة شَدِيدَة فَإِن قصد بذلك غير الْجِهَاد كَانَ مُبَاحا لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِن قصد بِهِ محرما كَقطع الطَّرِيق كَانَ حَرَامًا أما النِّسَاء فَصرحَ الصَّيْمَرِيّ بِمَنْع ذَلِك لَهُنَّ وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَمرَاده أَنه لَا يجوز بعوض لَا مُطلقًا فقد روى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سابقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَتَصِح الْمُسَابقَة) بعوض وَغَيره (على الدَّوَابّ) الْخَيل وَالْإِبِل وَالْبِغَال وَالْحمير والفيلة فَقَط لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر فَلَا تجوز على الْكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش لَا بعوض وَلَا بِغَيْرِهِ لِأَن فعل ذَلِك سفه وَمن فعل قوم لوط الَّذين أهلكهم الله بِذُنُوبِهِمْ وَلَا على طير وصراع بعوض لِأَنَّهُمَا ليسَا من آلَات الْقِتَال
فَإِن قيل قد صارع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركَانَة على شِيَاه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
أُجِيب بِأَن الْغَرَض من مصارعته لَهُ أَن يرِيه شدته ليسلم بِدَلِيل أَنه لما صارعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم رد عَلَيْهِ غنمه
فَإِن كَانَ ذَلِك بِغَيْر عوض جَازَ
وَكَذَا كل مَا لَا ينفع فِي الْحَرْب كالشباك والمسابقة على الْبَقر فَيجوز بِلَا عوض وَأما الغطس فِي المَاء فقد جرت الْعَادة بالاستعانة بِهِ فِي الْحَرْب
كالسباحة فَيجوز بِلَا عوض وَإِلَّا فَلَا يجوز مُطلقًا
(و) تجوز (المناضلة) بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة أَي المغالبة (على) رمي (السِّهَام) سَوَاء أَكَانَت عَرَبِيَّة وَهِي النبل أم عجمية

(2/596)


وَهِي النشاب وَتَصِح على مزاريق جمع مزراق وَهُوَ رمح صَغِير وعَلى رماح وعَلى رمي بأحجار بمقلاع أَو بيد وَرمي بمنجنيق وكل نَافِع فِي الْحَرْب مِمَّا يشبه ذَلِك كالرمي بالمسلات والإبر والتردد بِالسُّيُوفِ والرماح وَخرج مِمَّا ذكر المراماة بِأَن يَرْمِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحجر إِلَى صَاحبه وإشالة الْحجر بِالْيَدِ وَيُسمى العلاج فَلَا يَصح العقد على ذَلِك وَأما التقاف بِالْمُثَنَّاةِ وَتقول الْعَامَّة بِالدَّال فَلَا نقل فِيهِ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَالْأَشْبَه جَوَازه لِأَنَّهُ ينفع فِي حَال الْمُسَابقَة وَقد يمْنَع خشيَة الضَّرَر إِذْ كل يحرص على إِصَابَة صَاحبه كاللكام وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَلَا يَصح على رمي ببندق يَرْمِي بِهِ فِي حُفْرَة وَنَحْوهَا
وَلَا على سباحة فِي المَاء وَلَا على شطرنج وَلَا على خَاتم وَلَا على وقُوف على رجل وَلَا على معرفَة مَا بِيَدِهِ من شفع ووتر وَكَذَا سَائِر أَنْوَاع اللّعب كالمسابقة على الْأَقْدَام وبالسفن أَو الزوارق لِأَن هَذِه الْأُمُور لَا تَنْفَع فِي الْحَرْب هَذَا إِذا عقد عَلَيْهَا بعوض وَإِلَّا فمباح وَأما الرَّمْي بالبندق على قَوس فَظَاهر كَلَام الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَنه كَذَلِك لَكِن الْمَنْقُول فِي الْحَاوِي الْجَوَاز قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَا خلاف فِيهِ قَالَ وَهُوَ الْأَقْرَب وشروط الْمُسَابقَة عشرَة أَشْيَاء اقْتصر المُصَنّف مِنْهَا على ذكر اثْنَيْنِ أَولهمَا (إِذا كَانَ الْمسَافَة) أَي مَسَافَة مَا بَين موقف الرَّامِي وَالْغَرَض الَّذِي يَرْمِي إِلَيْهِ (مَعْلُومَة) ابْتِدَاء وَغَايَة وَثَانِيهمَا الْمُحَلّل الْآتِي فِي كَلَامه وَالثَّالِث من بَاقِي الشُّرُوط أَن يكون الْمَعْقُود عَلَيْهِ عدَّة لِلْقِتَالِ وَالرَّابِع تعْيين الفرسين مثلا لِأَن الْغَرَض معرفَة سيرهما وَهِي تَقْتَضِي التَّعْيِين وَيَكْفِي وصفهما فِي الذِّمَّة ويتعينان بِالتَّعْيِينِ فَإِن وَقع هَلَاك انْفَسَخ العقد
فَإِن وَقع العقد على مَوْصُوف فِي الذِّمَّة لم يتعينا كَمَا بَحثه الرَّافِعِيّ فَلَا يَنْفَسِخ العقد بِمَوْت الْفرس الْمَوْصُوف كالأجير غير الْمعِين وَالْخَامِس إِمْكَان سبق كل وَاحِد من الفرسين مثلا فَإِن كَانَ أَحدهمَا ضَعِيفا يقطع بتخلفه أَو فارها يقطع بتقدمه لم يجز وَالسَّادِس أَن يركبا المركوبين وَلَا يرسلاهما فَلَو شَرط إرسالهما ليجريا بأنفسهما لم يَصح لِأَنَّهُمَا لَا يقصدان الْغَايَة وَالسَّابِع أَن يقطع المركوبان الْمسَافَة فَيعْتَبر كَونهمَا بِحَيْثُ يمكنهما قطعهَا بِلَا انْقِطَاع وتعب وَالثَّامِن تعْيين الراكبين فَلَو شَرط كل مِنْهُمَا أَن يركب دَابَّته من شَاءَ لم يجز حَتَّى يتَعَيَّن الراكبان وَلَا يَكْفِي الْوَصْف فِي الرَّاكِب كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ
وَالتَّاسِع الْعلم بِالْمَالِ الْمَشْرُوط جِنْسا وَقدرا وَصفَة كَسَائِر الأعواض عينا كَانَ أَو دينا حَالا أَو مُؤَجّلا فَلَا يَصح عقد بِغَيْر مَال ككلب وَلَا بِمَال مَجْهُول كَثوب غير مَوْصُوف والعاشر اجْتِنَاب شَرط مُفسد فَلَو قَالَ إِن سبقتني فلك هَذَا الدِّينَار بِشَرْط أَن تطعمه أصحدبك فسد العقد لِأَنَّهُ تمْلِيك بِشَرْط يمْنَع كَمَال التَّصَرُّف فَصَارَ كَمَا لَو بَاعه شَيْئا بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن حكم عقد الْمُسَابقَة وَهُوَ لَازم فِي حق مُلْتَزم الْعِوَض وَلَو غير المتسابقين كَالْإِجَارَةِ فَلَيْسَ لَهُ

(2/597)


فَسخه وَلَا ترك عمل قبل الشُّرُوع وَلَا بعده إِن كَانَ مَسْبُوقا أَو سَابِقًا وَأمكن أَن يُدْرِكهُ الآخر ويسبقه وَإِلَّا فَلهُ ترك حَقه وَلَا زِيَادَة وَلَا نقص فِي الْعَمَل وَلَا فِي الْعِوَض وَقَوله (وَصفَة المناضلة مَعْلُومَة) مَعْطُوف على الْمسَافَة أَي وَكَانَت صفة المناضلة مَعْلُومَة لتصح فَيشْتَرط لَهَا زِيَادَة على مَا مر بَيَان البادىء مِنْهُمَا بِالرَّمْي لاشْتِرَاط التَّرْتِيب بَينهمَا فِيهِ حذرا من اشْتِبَاه الْمُصِيب بالمخطىء لَو رميا مَعًا وَبَيَان قدر الْغَرَض وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة مَا يَرْمِي إِلَيْهِ من نَحْو خشب أَو جلد أَو قرطاس طولا وعرضا وسمكا وَبَيَان ارتفاعه من الأَرْض إِن ذكر الْغَرَض وَلم يغلب عرف فيهمَا
فَإِن غلب فَلَا يشْتَرط بَيَان شَيْء مِنْهُمَا بل يحمل الْمُطلق عَلَيْهِ
وَلَا بَيَان مبادرة بِأَن يبدر أَي يسْبق أَحدهمَا بِإِصَابَة الْعدَد الْمَشْرُوط من عدد مَعْلُوم كعشرين من كل مِنْهُمَا مَعَ استوائهما فِي عدد الرَّمْي أَو الْيَأْس من استوائهما فِي الْإِصَابَة وَلَا بَيَان محاطة بِأَن تزيد إِصَابَته على إِصَابَة الآخر بِكَذَا كواحد من عدد مَعْلُوم كعشرين من كل مِنْهُمَا وَيحمل الْمُطلق عَن التَّقْيِيد بِشَيْء من ذَلِك على الْمُبَادرَة
وعَلى أقل نوبه وَهُوَ سهم سهم لغلبتهما وَلَا يشْتَرط بَيَان قَوس
وَسَهْم لِأَن الْعُمْدَة على الرَّامِي فَإِن عين شَيْئا مِنْهُمَا لَغَا وَجَاز إِبْدَاله بِمثلِهِ من نَوعه وَشرط منع إِبْدَاله مُفسد للْعقد
وَيسن بَيَان صفة إِصَابَته الْغَرَض من قرع وَهُوَ مُجَرّد إِصَابَة الْغَرَض أَو خرق بِأَن يثقبه وَيسْقط أَو خسق بِأَن يثبت فِيهِ وَإِن سقط بعد ذَلِك أَو مرق بِأَن ينفذ مِنْهُ أَو خرم بِأَن يُصِيب طرف الْغَرَض فيخرمه فَإِن أطلقا كفى القرع (وَيخرج الْعِوَض) الْمَشْرُوط (أحد المتسابقين حَتَّى إِذا سبق) بِفَتْح أَوله على الْبناء للْفَاعِل (استرده) مِمَّن هُوَ مَعَه (وَإِن سبق) بِضَم أَوله على الْبناء للْمَفْعُول (أَخذه صَاحبه) السَّابِق وَلَا يشْتَرط حِينَئِذٍ بَينهمَا مُحَلل
(وَإِن أَخْرجَاهُ) أَي المتسابقان الْعِوَض
(مَعًا لم يجز) حِينَئِذٍ (إِلَّا أَن يدخلا) أَي يشرطا (بَينهمَا محللا) بِكَسْر اللَّام الأولى فَيجوز إِن كَانَت دَابَّته كُفؤًا لدابتيهما سمي محللا لِأَنَّهُ يحلل العقد
ويخرجه عَن صُورَة الْقمَار الْمُحرمَة فَإِن الْمُحَلّل
(إِن سبق) المتسابقين (أَخذ) مَا أَخْرجَاهُ من الْعِوَض لنَفسِهِ سَوَاء أجاءا مَعًا أم مُرَتبا لسبقه لَهما
(وَإِن سبق) أَي سبقاه وجاءا مَعًا (لم يغرم) لَهما شَيْئا وَلَا شَيْء لأَحَدهمَا على الآخر وَإِن جَاءَ الْمُحَلّل مَعَ أحد المتسابقين وَتَأَخر الآخر فَمَال هَذَا لنَفسِهِ لِأَنَّهُ لم يسْبقهُ أحد وَمَال الْمُتَأَخر للمحلل وللذمي مَعَه لِأَنَّهُمَا سبقاه وَإِن جَاءَ أَحدهمَا ثمَّ الْمُحَلّل ثمَّ الآخر فَمَال الآخر للْأولِ لسبقه الِاثْنَيْنِ

(2/598)


تَنْبِيه الصُّور الممكنة فِي الْمُحَلّل ثَمَانِيَة أَن يسبقهما ويجيئان مَعًا أَو مُرَتبا أَو يسبقا ويجيئان مَعًا أَو مُرَتبا أَو يتوسط بَينهمَا أَو يكون مَعَ أَولهمَا أَو ثَانِيهمَا أَو يَجِيء الثَّلَاثَة مَعًا وَلَا يخفى الحكم فِي الْجَمِيع وَلَو تسابق جمع ثَلَاثَة فَأكْثر وَشرط الثَّانِي مثل الأول أَو دونه صَحَّ وَيجوز شَرط الْعِوَض من غير المتسابقين وَسَوَاء أَكَانَ من الإِمَام أم من غَيره كَأَن يَقُول الإِمَام من سبق مِنْكُمَا فَلهُ فِي بَيت المَال كَذَا أَوله عَليّ كَذَا وَيكون مَا يُخرجهُ من بَيت المَال من سهم الْمصَالح كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ أَو الْأَجْنَبِيّ من سبق مِنْكُمَا فَلهُ عَليّ كَذَا لِأَنَّهُ بذل مَال فِي طَاعَة وَلَا شكّ أَن حكم إِخْرَاج أحد المتناضلين الْعِوَض
وإخراجهما مَعًا حكم الْمُسَابقَة فِيمَا سبق من غير فرق
وَصُورَة إِخْرَاج أَحدهمَا أَن يَقُول أَحدهمَا ترمي كَذَا فَإِذا أصبت أَنْت مِنْهَا كَذَا فلك عَليّ كَذَا
وَأَن أصبتها أَنا فَلَا شَيْء لِأَحَدِنَا على صَاحبه
وَصُورَة إخراجهما مَعًا أَن يشْتَرط كل وَاحِد على صَاحبه عوضا إِن أصَاب وَلَا يجوز هَذَا إِلَّا بِمُحَلل بَينهمَا كَمَا سبق
خَاتِمَة لَو تراهن رجلَانِ عل اختبار قوتهما بصعود جبل أَو إقلال صَخْرَة أَو أكل كَذَا فَهُوَ من أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَكله حرَام ذكره ابْن كج وَأقرهُ فِي الرَّوْضَة
قَالَ الدَّمِيرِيّ وَمن هَذَا النمط مَا يَفْعَله الْعَوام من الرِّهَان على حمل كَذَا من مَوضِع كَذَا إِلَى مَكَان كَذَا أَو إِجْرَاء السَّاعِي من طُلُوع الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب وكل ذَلِك ضَلَالَة وجهالة مَعَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من ترك الصَّلَوَات وَفعل الْمُنْكَرَات
اه
وَهَذَا أَمر ظَاهر وَينْدب أَن يكون عِنْد الْغَرَض شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ على مَا وَقع من إِصَابَة أَو خطأ وَلَيْسَ لَهما أَن يمدحا الْمُصِيب وَلَا أَن يذما المخطىء لِأَن ذَلِك يخل بالنشاط وَيمْنَع أَحدهمَا من أذية صَاحبه بالتبجح وَالْفَخْر عَلَيْهِ
وَلكُل مِنْهُمَا حث الْفرس فِي السباق بِالسَّوْطِ أَو تَحْرِيك اللجام وَلَا يجلب عَلَيْهِ بالصياح
ليزِيد عدوه لخَبر لَا جلب وَلَا جنب قَالَ الرَّافِعِيّ وَذكر فِي معنى الْجنب أَنهم كَانُوا يجنبون الْفرس حَتَّى إِذا قاربوا الأمد تحولوا عَن المركوب الَّذِي كره بالركوب إِلَى الجنيبة فنهوا عَن ذَلِك

(2/599)


= كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور = الْأَيْمَان بِفَتْح الْهمزَة جمع يَمِين وَأَصلهَا فِي اللُّغَة الْيَد الْيُمْنَى وأطلقت على الْحلف لأَنهم كَانُوا إِذا تحالفوا يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُم بيد صَاحبه
وَفِي الِاصْطِلَاح تَحْقِيق أَمر غير ثَابت مَاضِيا كَانَ أَو مُسْتَقْبلا نفيا أَو إِثْبَاتًا مُمكنا كحلفه ليدخلن الدَّار أَو مُمْتَنعا كحلفه ليقْتلن الْمَيِّت صَادِقَة كَانَت أَو كَاذِبَة مَعَ الْعلم بِالْحَال أَو الْجَهْل بِهِ وَخرج بالتحقيق لَغْو الْيَمين فَلَيْسَتْ يَمِينا وَبِغير ثَابت الثابث كَقَوْلِه وَالله لأموتن لتحققه فِي نَفسه فَلَا معنى لتحقيقه وَلِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْحِنْث وَفَارق انْعِقَادهَا بِمَا لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْبر كحلفه ليقْتلن الْمَيِّت فَإِن امْتنَاع الْحِنْث لَا يخل بتعظيم الله وَامْتِنَاع الْبر يخل بِهِ فيحوج إِلَى التَّكْفِير
وَتَكون الْيَمين أَيْضا للتَّأْكِيد وَالْأَصْل فِي الْبَاب قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} الْآيَة وأخبار كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله لأغزون قُريْشًا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة إِن شَاءَ الله رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَضَابِط الْحَالِف مُكَلّف مُخْتَار قَاصد فَلَا تَنْعَقِد يَمِين الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا الْمُكْره وَلَا يَمِين اللَّغْو

(2/600)


ثمَّ شرع المُصَنّف فِيمَا تَنْعَقِد الْيَمين بِهِ فَقَالَ (وَلَا تَنْعَقِد الْيَمين إِلَّا بِذَات الله تَعَالَى)
أَي بِمَا يفهم مِنْهُم ذَات الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المُرَاد بهَا الْحَقِيقَة من غير احْتِمَال غَيره
(أَو باسم من أَسْمَائِهِ تَعَالَى) المختصة بِهِ وَلَو مشتقا أَو من غير أَسْمَائِهِ الْحسنى
سَوَاء كَانَ اسْما مُفردا كَقَوْلِه وَالله أَو مُضَافا كَقَوْلِه وَرب الْعَالمين وَمَالك يَوْم الدّين أَو لم يكن كَقَوْلِه وَالَّذِي أعبده أَو أَسجد لَهُ أَو نَفسِي بِيَدِهِ أَي بقدرته يصرفهَا كَيفَ يَشَاء أَو الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت إِلَّا أَن يُرِيد بِهِ غير الْيَمين فَلَيْسَ بِيَمِين
فَيقبل مِنْهُ ذَلِك كَمَا فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَلَا يقبل مِنْهُ ذَلِك فِي الطَّلَاق والعناق وَالْإِيلَاء ظَاهرا لتَعلق حق غَيره بِهِ أما إِذا أَرَادَ بذلك غير الله تَعَالَى فَلَا يقبل مِنْهُ إِرَادَته لَا ظَاهرا وَلَا بَاطِنا لِأَن الْيَمين بذلك لَا تحْتَمل غَيره تَعَالَى فَقَوْل الْمِنْهَاج وَلَا يقبل قَوْله لم أرد بِهِ الْيَمين
مؤول بذلك أَو باسم من أَسْمَائِهِ الْغَالِب إِطْلَاقه عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعَلى غَيره
كَقَوْلِه والرحيم والخالق والرازق والرب انْعَقَدت يَمِينه مَا لم يرد بهَا غَيره تَعَالَى
بِأَن أَرَادَهُ تَعَالَى أَو أطلق بِخِلَاف مَا إِذا أَرَادَ بهَا غَيره لِأَنَّهَا تسْتَعْمل فِي غَيره تَعَالَى مُقَيّدا كرحيم الْقلب وخالق الْإِفْك ورازق الْجَيْش وَرب الْإِبِل
وَأما الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ تَعَالَى وعَلى غَيره سَوَاء كالموجود والعالم والحي فَإِن أَرَادَهُ تَعَالَى بِهِ انْعَقَدت يَمِينه بِخِلَاف مَا إِذا أَرَادَ بهَا غَيره أَو أطلق لِأَنَّهَا لما أطلقت عَلَيْهِمَا سَوَاء أشبهت الْكِنَايَات (أَو صفة من صِفَات ذَاته) كوعظمته وعزته وكبريائه وَكَلَامه ومشيئته وَعلمه وَقدرته وَحقه
إِلَّا أَن يُرِيد بِالْحَقِّ الْعِبَادَات وباللذين قبله الْمَعْلُوم والمقدور وبالبقية ظُهُور آثارها فَلَيْسَتْ يَمِينا لاحْتِمَال اللَّفْظ وَقَوله وَكتاب الله يَمِين وَكَذَا وَالْقُرْآن والمصحف إِلَّا أَن يُرِيد بِالْقُرْآنِ الْخطْبَة وَالصَّلَاة

(2/601)


وبالمصحف الْوَرق وَالْجَلد
وحروف الْقسم الْمَشْهُورَة بَاء مُوَحدَة وواو وتاء فوقية كبالله وَوَاللَّه وتالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَيخْتَص لفظ الله تَعَالَى بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّة والمظهر مُطلقًا بِالْوَاو وَسمع شاذا ترب الْكَعْبَة وتالرحمن وَتدْخل الْمُوَحدَة عَلَيْهِ وعَلى الْمُضمر فَهِيَ الأَصْل
وتليها الْوَاو ثمَّ التَّاء وَلَو قَالَ الله مثلا بِتَثْلِيث الْهَاء أَو تسكينها لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فكناية كَقَوْلِه أشهد بِاللَّه أَو لعمر الله أَو على عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِن نوى بهَا الْيَمين فيمين وَإِلَّا فَلَا
واللحن وَإِن قيل بِهِ فِي الرّفْع لَا يمْنَع الِانْعِقَاد على أَنه لَا لحن فِي ذَلِك فالرفع بِالِابْتِدَاءِ أَي الله أَحْلف بِهِ لَأَفْعَلَنَّ وَالنّصب بِنَزْع الْخَافِض والجر بحذفه وإبقاء عمله
والتسكين بإجراء الْوَصْل مجْرى الْوَقْف وَقَوله أَقْسَمت أَو أقسم أَو حَلَفت أَو أَحْلف بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ كَذَا يَمِين إِلَّا إِن نوى خَبرا مَاضِيا فِي صِيغَة الْمَاضِي أَو مُسْتَقْبلا فِي الْمُضَارع فَلَا يكون يَمِينا لاحْتِمَال مَا نَوَاه وَقَوله لغيره أقسم عَلَيْك بِاللَّه أَو اسألك بِاللَّه لتفعلن كَذَا يَمِين إِن أَرَادَ بِهِ يَمِين نَفسه بِخِلَاف مَا إِذا لم يردهَا
وَيحمل على الشَّفَاعَة وَعلم من حصر الِانْعِقَاد فِيمَا ذكر عدم انْعِقَاد الْيَمين بمخلوق كالنبي وَجِبْرِيل والكعبة وَنَحْو ذَلِك وَلَو مَعَ قَصده بل يكره الْحلف بِهِ إِلَّا أَن يسْبق إِلَيْهِ لِسَانه وَلَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ أَو بَرِيء من الْإِسْلَام أَو من الله أَو من رَسُوله فَلَيْسَ بِيَمِين وَلَا يكفر بِهِ إِن أَرَادَ تبعيد نَفسه عَن الْفِعْل أَو أطلق كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْأَذْكَار وَليقل لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله ويستغفر الله تَعَالَى وَإِن قصد الرِّضَا بذلك إِذا فعله فَهُوَ كَافِر فِي الْحَال
تَنْبِيه تصح الْيَمين على مَاض وَغَيره وَتكره إِلَّا فِي طَاعَة وَفِي دَعْوَى مَعَ صدق عِنْد حَاكم وَفِي حَاجَة كتوكيد كَلَام فَإِن حلف على ارْتِكَاب مَعْصِيّة عصى بحلفه
وَلَزِمَه حنث وَكَفَّارَة
أَو على ترك أَو فعل مُبَاح سنّ ترك حنثه أَو على ترك مَنْدُوب أَو فعل مَكْرُوه سنّ حنثه وَعَلِيهِ بِالْحِنْثِ كَفَّارَة أَو على فعل مَنْدُوب أَو ترك مَكْرُوه كره حنثه وَله تَقْدِيم كَفَّارَة بِلَا صَوْم على أحد سببيها كمنذور مَالِي
(وَمن حلف بِصَدقَة مَاله) كَقَوْلِه لله عَليّ أَن أَتصدق بِمَالي إِن فعلت كَذَا أَو أعتق عَبدِي
وَيُسمى نذر اللجاج وَالْغَضَب وَمن صوره مَا إِذا قَالَ الْعتْق يلْزَمنِي مَا أفعل كَذَا
(فَهُوَ مُخَيّر) على أظهر الْأَقْوَال (بَين) فعل (الصَّدَقَة) الَّتِي التزمها أَو الْعتْق الَّذِي

(2/602)


الْتَزمهُ
(و) بَين فعل (الْكَفَّارَة) عَن الْيَمين الْآتِي بَيَانه لخَبر مُسلم كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين وَهِي لَا تَكْفِي فِي نذر التبرر بالانفاق فَتعين حمله على نذر اللجاج
وَلَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين أَو كَفَّارَة نذر لَزِمته الْكَفَّارَة عِنْد وجود الصّفة تَغْلِيبًا لحكم الْيَمين فِي الأولى وَلخَبَر مُسلم السَّابِق فِي الثَّانِيَة وَلَو قَالَ فعلي يَمِين فلغو أَو فعلي نذر صَحَّ وَيتَخَيَّر بَين قربَة وَكَفَّارَة يَمِين
(وَلَا شَيْء فِي لَغْو الْيَمين) لقَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} أَي قصدتم بِدَلِيل الْآيَة الآخرى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} ولغو الْيَمين هُوَ كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَول الرجل لَا وَالله وبلى وَالله رَوَاهُ البُخَارِيّ كَأَن قَالَ ذَلِك فِي حَال غضب أَو لجاج أَو صلَة كَلَام
قَالَ ابْن الصّلاح وَالْمرَاد بتفسير لَغْو الْيَمين بِلَا وَالله وبلى وَالله على الْبَدَل لَا على الْجمع
مَا لَو قَالَ لَا وَالله وبلى وَالله فِي وَقت وَاحِد
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ كَانَت الأولى لَغوا وَالثَّانيَِة منعقدة لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاك فَصَارَت مَقْصُودَة
وَلَو حلف على شَيْء فَسبق لِسَانه إِلَى غَيره كَانَ من لَغْو الْيَمين وَجعل صَاحب الْكَافِي من لَغْو الْيَمين مَا إِذا دخل على صَاحبه فَأَرَادَ أَن يقوم لَهُ فَقَالَ وَالله لَا تقوم لي وَهُوَ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى
(وَمن حلف أَن لَا يفعل شَيْئا) معينا كَأَن لَا يَبِيع أَو لَا يَشْتَرِي (فَفعل) شَيْئا (غَيره لم يَحْنَث) لِأَنَّهُ لم يفعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ
أما إِذا فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ بِأَن بَاعَ أَو اشْترى بِنَفسِهِ بِولَايَة أَو وكَالَة فَإِن كَانَ عَالما مُخْتَارًا حنث أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا أَو مكْرها لم يَحْنَث وَمن صور الْفِعْل جَاهِلا أَن يدْخل دَارا لَا يعرف أَنَّهَا الْمَحْلُوف عَلَيْهَا أَو حلف لَا يسلم على زيد فَسلم عَلَيْهِ فِي ظلمَة وَلَا

(2/603)


يعرف أَنه زيد قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه مُطلق الْحلف على الْعُقُود ينزل على الصَّحِيح مِنْهَا فَلَا يَحْنَث بالفاسد قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلم يُخَالف الشَّافِعِي هَذِه الْقَاعِدَة إِلَّا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي مَا إِذا أذن لعَبْدِهِ فِي النِّكَاح فنكح فَاسِدا فَإِنَّهُ أوجب فِيهَا الْمهْر كَمَا يجب فِي النِّكَاح الصَّحِيح وَكَذَا الْعِبَادَات لَا يسْتَثْنى مِنْهَا إِلَّا الْحَج الْفَاسِد
فَإِنَّهُ يَحْنَث بِهِ وَلَو أضَاف العقد إِلَى مَا لَا يقبله كَأَن حلف لَا يَبِيع الْخمر وَلَا الْمُسْتَوْلدَة ثمَّ أَتَى بِصُورَة البيع فَإِن قصد التَّلَفُّظ بِلَفْظ العقد مُضَافا إِلَى مَا ذكره حنث وَإِن أطلق فَلَا
(وَمن حلف أَلا يفعل شَيْئا) كَأَن حلف أَنه لَا يُزَوّج موليته أَو لَا يُطلق امْرَأَته أَو لَا يعْتق عَبده أَو لَا يضْرب غُلَامه
(فَأمر غَيره) بِفِعْلِهِ (فَفعله) وَكيله
وَلَو مَعَ حُضُوره (لم يَحْنَث) لِأَنَّهُ حلف على فعله وَلم يفعل إِلَّا أَن يُرِيد الْحَالِف اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي حَقِيقَته ومجازه وَهُوَ أَن لَا يَفْعَله هُوَ وَلَا غَيره فَيحنث بِفعل وَكيله فِيمَا ذكر عملا بإرادته وَلَو حلف لَا يَبِيع وَلَا يُوكل وَكَانَ وكل قبل ذَلِك بِبيع مَاله فَبَاعَ الْوَكِيل بعد يَمِينه بِالْوكَالَةِ السَّابِقَة فَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن أَنه لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ بعد الْيَمين لم يُبَاشر وَلم يُوكل وَقِيَاسه أَنه لَو حلف على زَوجته أَن لَا تخرج إِلَّا بِإِذْنِهِ
وَكَانَ أذن لَهَا قبل ذَلِك فِي الْخُرُوج إِلَى مَوضِع معِين فَخرجت إِلَيْهِ بعد الْيَمين لم يَحْنَث قَالَ البُلْقِينِيّ وَهُوَ ظَاهر وَلَو حلف لَا يعْتق عَبده فكاتبه وَعتق بِالْأَدَاءِ لم يَحْنَث كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن ابْن قطان
وَأَقَرَّاهُ وَإِن صوب فِي الْمُهِمَّات الْحِنْث وَلَو حلف لَا ينْكح حنث بِعقد وَكيله لَهُ لَا بِقبُول الْحَالِف النِّكَاح لغيره لِأَن الْوَكِيل فِي النِّكَاح سفير مَحْض وَلِهَذَا يجب تَسْمِيَة الْمُوكل وَهَذَا مَا جزم بِهِ فِي الْمِنْهَاج تبعا لأصله وَهُوَ الْمُعْتَمد وَصحح فِي التَّنْبِيه عدم الْحِنْث وَأقرهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي تَصْحِيحه
وَصَححهُ البُلْقِينِيّ فِي تَصْحِيح الْمِنْهَاج نَاقِلا لَهُ عَن الْأَكْثَرين وَقَالَ إِن مَا فِي الْمِنْهَاج من الْحِنْث مُخَالف لمقْتَضى نُصُوص الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ولقاعدته وللدليل وَلما عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ من الْأَصْحَاب وَأطَال فِي ذَلِك
وَيجْرِي هَذَا الْخلاف فِي التَّوْكِيل فِي الرّجْعَة فِيمَا إِذا حلف أَنه لَا يُرَاجِعهَا فَوكل من يُرَاجِعهَا
فروع لَو حَلَفت الْمَرْأَة بِأَن لَا تتَزَوَّج فعقد عَلَيْهَا وَليهَا نظر إِن كَانَت مجبرة فعلى قولي الْمُكْره وَإِن كَانَت غير مجبرة وأذنت فِي التَّزْوِيج فَزَوجهَا الْوَلِيّ فَهُوَ كَمَا لَو أذن الزَّوْج لمن يُزَوجهُ وَلَو حلف الْأَمِير أَن لَا يضْرب زيدا فَأمر الجلاد بضربه فَضَربهُ لم يَحْنَث أَو حلف لَا يَبْنِي بَيته فَأمر الْبناء ببنائه فبناه
فَكَذَلِك أَو لَا يحلق رَأسه فَأمر حلاقا فحلقه لم يَحْنَث كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري لعدم فعله وَقيل يَحْنَث للْعُرْف وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام من شرحيه وَصَححهُ الْإِسْنَوِيّ أَو لَا يَبِيع مَال زيد فَبَاعَهُ بيعا صَحِيحا بِأَن بَاعه بِإِذْنِهِ أَو لظفر بِهِ أَو أذن حَاكم لحجر أَو امْتنَاع أَو أذن ولي لصِغَر أَو لحجر أَو جُنُون حنث لصدق اسْم البيع بِمَا ذكر وَلَو حلف لَا يَبِيع لي زيد مَالا فَبَاعَهُ زيد حنث الْحَالِف سَوَاء أعلم زيد أَنه مَال الْحَالِف أم لَا لِأَن الْيَمين منعقدة

(2/604)


على نفي فعل زيد وَقد فعل باخت وَالْجهل أَو النسْيَان إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْمُبَاشر للْفِعْل لَا فِي غَيره وَوقت الْغَدَاء من طُلُوع الْفجْر إِلَى الزَّوَال وَوقت الْعشَاء من الزَّوَال إِلَى نصف اللَّيْل وقدرهما أَن يَأْكُل فَوق نصف الشِّبَع وَوقت السّحُور بعد نصف اللَّيْل إِلَى طُلُوع الْفجْر وَلَو حلف ليثنين على الله أحسن الثَّنَاء وأعظمه أَو أَجله
فَلْيقل لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك أَو ليحمدن الله تَعَالَى بِمَجَامِع الْحَمد أَو بِأَجل التحاميد فَلْيقل الْحَمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده وَهنا فروع كَثِيرَة ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر وَفِيمَا ذكرته كِفَايَة لأولي الْأَلْبَاب
ثمَّ شرع فِي صفة كَفَّارَة الْيَمين واختصت من بَين الْكَفَّارَات بِكَوْنِهَا مخيرة فِي الِابْتِدَاء مرتبَة فِي الِانْتِهَاء وَالصَّحِيح فِي سَبَب وُجُوبهَا عِنْد الْجُمْهُور الْحِنْث وَالْيَمِين مَعًا فَقَالَ (وَكَفَّارَة الْيَمين هُوَ)
أَي الْمُكَفّر الْحر الرشيد وَلَو كَافِرًا (مُخَيّر فِيهَا) ابْتِدَاء (بَين) فعل وَاحِد من (ثَلَاثَة أَشْيَاء) وَهِي (عتق رَقَبَة مُؤمنَة) بِلَا عيب يخل بِعَمَل أَو كسب (أَو إطْعَام) أَي تمْلِيك (عشرَة مَسَاكِين كل مِسْكين مد) من جنس الْفطْرَة على مَا مر بَيَانه فِيهَا (أَو كسوتهم) بِمَا يُسمى كسْوَة مِمَّا يعْتَاد لبسه وَلَو ثوبا أَو عِمَامَة أَو إزارا أَو طيلسانا أَو منديلا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَالْمرَاد بِهِ الْمَعْرُوف الَّذِي يحمل فِي الْيَد أَو مقنعة أَو درعا من صوف أَو غَيره
وَهُوَ قَمِيص لَا كم لَهُ أَو ملبوسا لم تذْهب قوته أَو لم يصلح للمدفوع لَهُ كقميص صَغِير لكبير لَا يصلح لَهُ وَيجوز قطن وكتان وحرير وَشعر وصوف منسوج كل مِنْهَا لامْرَأَة وَرجل لوُقُوع اسْم الْكسْوَة على ذَلِك
وَلَا يجزىء الْجَدِيد مهلهل النسيج إِذا كَانَ لبسه لَا يَدُوم إِلَّا بِقدر مَا يَدُوم لبس الثَّوْب الْبَالِي لضعف النَّفْع بِهِ وَلَا خف وَلَا قفازان وَلَا مكعب وَلَا منْطقَة وَلَا قلنسوة وَهِي مَا يُغطي بهَا الرَّأْس

(2/605)


وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يُسمى كسْوَة كدرع من حَدِيد
وتجزىء فَرْوَة ولبد اُعْتِيدَ فِي الْبَلَد لبسهما وَلَا يجزىء التبَّان وَهُوَ سروال قصير لَا يبلغ الرّكْبَة وَلَا الْخَاتم وَلَا التكة والعرقية
وَوَقع فِي شرح الْمنْهَج أَنَّهَا تَكْفِي ورد بِأَن القلنسوة لَا تَكْفِي
كَمَا مر وَهِي شَامِلَة لَهَا وَيُمكن حملهَا على الَّتِي تجْعَل تَحت البرذعة وَإِن كَانَ بَعيدا فَهُوَ أولى من مُخَالفَته للأصحاب وَلَا يجزىء نجس الْعين
ويجزىء الْمُتَنَجس وَعَلِيهِ أَن يعلمهُمْ بِنَجَاسَتِهِ ويجزىء مَا غسل مَا لم يخرج عَن الصلاحية كالطعام الْعَتِيق لانطلاق اسْم الْكسْوَة عَلَيْهِ وَكَونه يرد فِي البيع لَا يُؤثر فِي مقصودها كالعيب الَّذِي لَا يضر بِالْعَمَلِ فِي الرَّقِيق وَينْدب أَن يكون الثَّوْب جَدِيدا خاما كَانَ أَو مَقْصُور
الْآيَة {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} وَلَو أعْطى عشرَة ثوبا طَويلا لم يُجزئهُ بِخِلَاف مَا لَو قطعه قطعا قطعا ثمَّ دَفعه إِلَيْهِم قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَهُوَ مَحْمُول على قِطْعَة تسمى كسْوَة وَخرج بقول المُصَنّف عشرَة مَسَاكِين مَا إِذا أطْعم خَمْسَة وكسا خَمْسَة لَا يجزىء كَمَا لَا يجزىء إِعْتَاق نصف رَقَبَة وإطعام خمسه
(فَإِن لم) يكن الْمُكَفّر رشيدا أَو لم (يجد) شَيْئا من الثَّلَاثَة لعَجزه عَن كل مِنْهَا بِغَيْر غيبَة مَاله برق أَو غَيره
(فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام) لقَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} الْآيَة وَالرَّقِيق لَا يملك أَو يملك ملكا ضَعِيفا فَلَو كفر عَنهُ سَيّده بِغَيْر صَوْم لم يجز ويجزىء بعد مَوته بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَة لِأَنَّهُ لَا رق بعد الْمَوْت
وَله فِي الْمكَاتب أَن يكفر عَنهُ بهما بِإِذْنِهِ وللمكاتب أَن يكفر بهما بِإِذن سَيّده أما الْعَاجِز بغيبة مَاله فكغير الْعَاجِز لِأَنَّهُ وَاحِد فينتظر حُضُور مَاله بِخِلَاف فَاقِد المَاء مَعَ غيبَة مَاله فَإِنَّهُ يتَيَمَّم لضيق وَقت الصَّلَاة وَبِخِلَاف الْمُتَمَتّع الْمُعسر بِمَكَّة الْمُوسر بِبَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَصُوم لِأَن مَكَان الدَّم بِمَكَّة فَاعْتبر يسَاره وَعَدَمه بهَا
وَمَكَان الْكَفَّارَة مُطلق فَاعْتبر مُطلقًا فَإِن كَانَ لَهُ هُنَا رَقِيق غَائِب تعلم حَيَاته فَلهُ إِعْتَاقه فِي الْحَال
تَنْبِيه المُرَاد بِالْعَجزِ أَن لَا يقدر على المَال الَّذِي يصرفهُ فِي الْكَفَّارَة كمن يجد كِفَايَته وكفاية من تلْزمهُ مُؤْنَته فَقَط وَلَا يجد مَا يفضل عَن ذَلِك قَالَ الشَّيْخَانِ وَمن لَهُ أَن يَأْخُذ سهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من الزَّكَاة وَالْكَفَّارَات لَهُ أَن يكفر بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ فَقير فِي الْأَخْذ فَكَذَا فِي الْإِعْطَاء وَقد يملك نِصَابا وَلَا يَفِي دخله لحوائجه فَتلْزمهُ الزَّكَاة وَله أَخذهَا وَالْفرق بَين الْبَابَيْنِ أَنا لَو أسقطنا الزَّكَاة خلا النّصاب عَنْهَا بِلَا بدل والتكفير لَهُ بدل وَهُوَ الصَّوْم وَلَا يجب تتَابع فِي الصَّوْم لإِطْلَاق الْآيَة
فَإِن قيل قَرَأَ ابْن مَسْعُود ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات وَالْقِرَاءَة الشاذة كخبير الْوَاحِد فِي وجوب الْعَمَل كَمَا أَوجَبْنَا قطع يَد السَّارِق الْيُمْنَى بِالْقِرَاءَةِ الشاذة فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} أُجِيب بِأَن آيَة الْيَمين نسخت مُتَتَابِعَات تِلَاوَة وَحكما فَلَا يسْتَدلّ بهَا بِخِلَاف آيَة السّرقَة فَإِنَّهَا نسخت تِلَاوَة لَا حكما
تَتِمَّة إِن كَانَ الْعَاجِز أمة تحل لسَيِّدهَا لم تصم إِلَّا بِإِذْنِهِ كَغَيْرِهَا من أمة لَا تحل لَهُ وَعبد وَالصَّوْم يضر غَيرهَا فِي الْخدمَة

(2/606)


وَقد حنث بِلَا إِذن من السَّيِّد فَإِنَّهُ لَا يَصُوم إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِن أذن لَهُ فِي الْحلف لحق الْخدمَة
فَإِن أذن لَهُ فِي الْحِنْث صَامَ بِلَا إِذن وَإِن لم يَأْذَن فِي الْحلف فَالْعِبْرَة فِي الصَّوْم بِلَا إِذن فِيمَا إِذا أذن فِي أَحدهمَا بِالْحِنْثِ وَوَقع فِي الْمِنْهَاج تَرْجِيح اعْتِبَار الْحلف وَالْأول هُوَ الْأَصَح فِي الرَّوْضَة كالشرحين
فَإِن لم يضرّهُ الصَّوْم فِي الْخدمَة لم يحْتَج إِلَى إِذن فِيهِ وَمن بعضه حر وَله مَال يكفر بِطَعَام أَو كسْوَة وَلَا يكفر بِالصَّوْمِ ليساره لَا عتق لِأَنَّهُ يستعقب مِنْك الْوَلَاء المتضمن للولاية وَالْإِرْث وَلَيْسَ هُوَ من أَهلهَا وَاسْتثنى البُلْقِينِيّ من ذَلِك مَا لَو قَالَ لَهُ مَالك بعضه إِذا عتقت عَن كفارتك فنصيبي مِنْك حر قبل إعتاقك عَن الْكَفَّارَة أَو مَعَه فَيصح إِعْتَاقه عَن كَفَّارَة نَفسه فِي الأولى قطعا وَفِي الثَّانِيَة على الْأَصَح

فصل فِي أَحْكَام النذور
جمع نذر وَهُوَ بذال مُعْجمَة سَاكِنة وَحكي فتحهَا لُغَة الْوَعْد بِخَير أَو شَرّ وَشرعا الْوَعْد بِخَير خَاصَّة قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ غَيرهمَا الْتِزَام قربَة لم تتَعَيَّن كَمَا يعلم مِمَّا يَأْتِي وَذكره المُصَنّف عقب الْأَيْمَان لِأَن كلا مِنْهُمَا عقد يعقده الْمَرْء على نَفسه تَأْكِيدًا لما الْتَزمهُ
وَالْأَصْل فِيهِ آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وليوفوا نذورهم} وأخبار كَخَبَر البُخَارِيّ من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَفِي كَونه قربَة أَو مَكْرُوها خلاف وَالَّذِي رَجحه ابْن الرّفْعَة أَنه قربَة فِي نذر التبرر دون غَيره وَهَذَا أولى مَا قيل فِيهِ
وأركانه ثَلَاثَة صِيغَة ومنذور وناذر
(و) شَرط فِي النَّاذِر إِسْلَام وَاخْتِيَار ونفوذ بِصَرْف فِيمَا ينذره فَلَا يَصح (النّذر) من كَافِر لعدم أَهْلِيَّته للقربة وَلَا من مكره لخَبر رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَلَا مِمَّن لَا ينفذ تصرفه فِيمَا ينذره كمحجور سفه أَو فلس فِي الْقرب الْمَالِيَّة الْمعينَة وَصبي وَمَجْنُون وَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بِالْتِزَام وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان كلله عَليّ كَذَا أَو عَليّ كَذَا كَسَائِر الْعُقُود
و (يلْزم) ذَلِك بِالنذرِ بِنَاء على أَنه يسْلك بِهِ مَسْلَك وَاجِب الشَّرْع وَهُوَ مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ هُنَا وَوَقع لَهما فِيهِ اخْتِلَاف

(2/607)


تَرْجِيح وَبَين المُصَنّف مُتَعَلق اللُّزُوم بقوله (فِي المجازاة) أَي الْمُكَافَأَة (على) نذر فعل (مُبَاح) لم يرد فِيهِ ترغيب كَأَكْل وَشرب وقعود وَقيام أَو ترك ذَلِك وَهَذَا من المُصَنّف لَعَلَّه سَهْو أَو سبق
قلم إِذْ النّذر على فعل مُبَاح أَو تَركه لَا ينْعَقد بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب فضلا عَن لُزُومه
وَلَكِن هَل يكون يَمِينا تلْزمهُ فِيهِ الْكَفَّارَة عِنْد الْمُخَالفَة أَو لَا اخْتلف فِيهِ تَرْجِيح الشَّيْخَيْنِ فَالَّذِي رجحاه فِي الْمِنْهَاج وَالْمُحَرر اللُّزُوم لِأَنَّهُ نذر فِي غير مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَالَّذِي رجحاه فِي الرَّوْضَة والشرحين
وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوع أَنه لَا كَفَّارَة فِيهِ وَهُوَ الْمُعْتَمد لعدم انْعِقَاده فَإِن قيل يُوَافق الأول مَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا من أَنه لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَللَّه عَليّ أَن أطلقك
أَو أَن آكل الْخبز أَو لله عَليّ أَن أَدخل الدَّار فَإِن عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي ذَلِك عِنْد الْمُخَالفَة
أُجِيب بِأَن الْأَوَّلين فِي نذر اللجاج وَكَلَام المُصَنّف فِي نذر التبرر وَأما الْأَخِيرَة فلزوم الْكَفَّارَة فِيهَا من حَيْثُ الْيَمين لَا من حَيْثُ النّذر
(و) يلْزم النّذر على فعل (الطَّاعَة) مَقْصُودَة لم تتَعَيَّن كعتق وعيادة مَرِيض وَسَلام وتشييع جَنَازَة
وَقِرَاءَة سُورَة مُعينَة وَطول قِرَاءَة صَلَاة وَصَلَاة جمَاعَة
وَلَا فرق فِي صِحَة نذر الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة بَين كَونهَا فِي فرض أم لَا
فَالْقَوْل بِأَن صِحَّتهَا مُقَيّدَة بِكَوْنِهَا فِي الْفَرْض أخذا من تَقْيِيد الرَّوْضَة
وَأَصلهَا بذلك وهم لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا قيدا بذلك للْخلاف فِيهِ فَلَو نذر غير الْقرْبَة الْمَذْكُورَة من وَاجِب عَيْني كَصَلَاة الظّهْر أَو مُخَيّر كَأحد خِصَال كَفَّارَة الْيَمين وَلَو مُعينَة كَمَا صرح بِهِ

(2/608)


القَاضِي حُسَيْن أَو مَعْصِيّة كَمَا سَيَأْتِي كشرب خمر وَصَلَاة بِحَدَث أَو مَكْرُوه كَصَوْم الدَّهْر لمن خَافَ بِهِ ضَرَرا أَو فَوت حق لم يَصح نَذره أما الْوَاجِب الْمَذْكُور فَلِأَنَّهُ لزم عينا بإلزام الشَّرْع قبل النّذر فَلَا معنى لالتزامه
وَأما الْمَكْرُوه فَلِأَنَّهُ لَا يتَقرَّب بِهِ وَلخَبَر أبي دَاوُد لَا نذر إِلَّا فِيمَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَلم يلْزمه بمخالفة ذَلِك كَفَّارَة
ثمَّ بَين المُصَنّف نذر المجازاة
وَهُوَ نوع من التبرر وَهُوَ الْمُعَلق بِشَيْء بقوله (كَقَوْلِه إِن شفي الله) تَعَالَى (مريضي) أَو قدم غائبي أَو نجوت من الْغَرق أَو نَحْو ذَلِك
(فَللَّه) تَعَالَى (عَليّ أَن أُصَلِّي أَو أَصوم أَو أَتصدق) وأو فِي كَلَامه تنويعية (وَيلْزمهُ) بعد حُصُول الْمُعَلق عَلَيْهِ (من ذَلِك) أَي من أَي نوع الْتَزمهُ عِنْد الْإِطْلَاق (مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم) مِنْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة رَكْعَتَانِ على الْأَظْهر بِالْقيامِ مَعَ الْقُدْرَة حملا على أقل وَاجِب الشَّرْع وَفِي الصَّوْم يَوْم وَاحِد لِأَنَّهُ الْيَقِين فَلَا يلْزمه زِيَادَة عَلَيْهِ وَفِي الصَّدَقَة مَا يتمول شرعا وَلَا يتَقَدَّر بِخَمْسَة دَرَاهِم وَلَا بِنصْف دِينَار وَإِنَّمَا حملنَا الْمُطلق على أقل وَاجِب من جنسه كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَن ذَلِك قد يلْزمه فِي الشّركَة
فرع لَو نذر شَيْئا كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي فشفي ثمَّ شكّ هَل نذر صَدَقَة أَو عتقا أَو صَلَاة أَو صوما
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ يحْتَمل أَن يُقَال عَلَيْهِ الْإِتْيَان بجميعها كمن نسي صَلَاة من الْخمس
وَيحْتَمل أَن يُقَال يجْتَهد بِخِلَاف الصَّلَاة لأَنا تَيَقنا أَن الْجَمِيع لم تجب عَلَيْهِ
وَإِنَّمَا وَجب عَلَيْهِ شَيْء وَاحِد واشتبه فيجتهد كالأواني والقبلة
اه
وَهَذَا أوجه وَإِن لم يعلق النّذر بِشَيْء وَهُوَ النَّوْع الثَّانِي من نَوْعي التبرر كَقَوْلِه ابْتِدَاء لله عَليّ صَوْم أَو حج أَو غير ذَلِك
لزمَه مَا الْتَزمهُ لعُمُوم الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة وَلَو علق النّذر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أَو مَشِيئَة زيد لم يَصح
وَإِن شَاءَ زيد لعدم الْجَزْم اللَّائِق بِالْقربِ نعم إِن قصد بِمَشِيئَة الله تَعَالَى التَّبَرُّك أَو وُقُوع حُدُوث مَشِيئَة زيد نعْمَة مَقْصُودَة كقدوم زيد فِي قَوْله إِن قدم زيد فعلي كَذَا
فَالْوَجْه الصِّحَّة كَمَا صرح بذلك بعض الْمُتَأَخِّرين (وَلَا) يَصح (نذر فِي) فعل (مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن قتلت فلَانا فَللَّه عَليّ كَذَا) لحَدِيث لَا نذرع فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى رَوَاهُ مُسلم وَلخَبَر البُخَارِيّ الْمَار من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَلَا تجب بِهِ كَفَّارَة إِن حنث
وَأجَاب النَّوَوِيّ عَن خبر لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين بِأَنَّهُ ضَعِيف وَغَيره يحملهُ على نذر اللجاج وَمحل عدم لُزُومهَا بذلك
كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ إِذا لم ينْو بِهِ الْيَمين كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الرَّافِعِيّ آخرا
فَإِن نوى بِهِ الْيَمين لَزِمته الْكَفَّارَة بِالْحِنْثِ
تَنْبِيه أورد فِي التوشيح إِعْتَاق العَبْد الْمَرْهُون فَإِن الرَّافِعِيّ حكى عَن التَّتِمَّة أَن نَذره مُنْعَقد إِن نفذنا عتقه فِي الْحَال أَو عِنْد أَدَاء المَال
وَذكروا فِي الرَّهْن أَن الْإِقْدَام على عتق الْمَرْهُون لَا يجوز وَإِن تمّ الكلامان كَانَ نذرا فِي مَعْصِيّة منعقدا وَاسْتثنى غَيره
مَا لَو نذر أَن يُصَلِّي فِي أَرض مَغْصُوبَة صَحَّ النّذر وَيُصلي فِي مَوضِع آخر كَذَا ذكره الْبَغَوِيّ فِي تهذيبه وَصرح باستثنائه

(2/609)


الْجِرْجَانِيّ فِي إيضاحه
وَلَكِن جزم الْمحَامِلِي بِعَدَمِ الصِّحَّة
وَرجحه الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر الْجَارِي على الْقَوَاعِد
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ إِنَّه الْأَقْرَب ويتأيد بِالنذرِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد على الصَّحِيح
(وَلَا يلْزم النّذر) بِمَعْنى لَا ينْعَقد
(على ترك) فعل (مُبَاح أَو فعله كَقَوْلِه لَا آكل لَحْمًا وَلَا أشْرب لَبَنًا وَمَا أشبه ذَلِك) لخَبر البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس بَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب إِذْ رأى رجلا قَائِما فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنهُ
فَقَالُوا هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يَصُوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل
وَلَا يتَكَلَّم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه
وَفسّر فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا الْمُبَاح بِمَا لم يرد فِيهِ ترغيب وَلَا ترهيب وَزَاد فِي الْمَجْمُوع على ذَلِك واستوى فعله وَتَركه شرعا كنوم وَأكل وَسَوَاء أقصد بِالنَّوْمِ النشاط على التَّهَجُّد وبالأكل التقوي على الْعِبَادَة أم لَا
وَإِنَّمَا لم يَصح فِي الْقسم الأول كَمَا اخْتَارَهُ بعض الْمُتَأَخِّرين لِأَن فعله غير مَقْصُود فالثواب على الْقَصْد لَا الْفِعْل
تَنْبِيه كَانَ الأولى للْمُصَنف التَّعْبِير هُنَا بِنَفْي الِانْعِقَاد الْمَعْلُوم مِنْهُ
بِالْأولَى مَا ذكر وَيُؤْخَذ من الحَدِيث الْمَذْكُور أَن النّذر بترك كَلَام الْآدَمِيّين لَا ينْعَقد وَبِه صرح فِي الزَّوَائِد وَالْمَجْمُوع وَلَا يلْزم عقد النِّكَاح بِالنذرِ كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري هُنَا وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين إِن كَانَ مَنْدُوبًا وَفِي فَتَاوَى الْغَزالِيّ أَن قَول البَائِع للْمُشْتَرِي إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا فَللَّه عَليّ أَن أهبك ألفا لَغْو
لِأَن الْمُبَاح لَا يلْزم بِالنذرِ لِأَن الْهِبَة وَإِن كَانَت قربَة فِي نَفسهَا إِلَّا أَنَّهَا على هَذَا الْوَجْه لَيست قربَة وَلَا مُحرمَة
فَكَانَت مُبَاحَة كَذَا قَالَه ابْن الْمقري وَالْأَوْجه انْعِقَاد النّذر كَمَا لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَللَّه عَليّ أَن أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَفِي فَتَاوَى بعض الْمُتَأَخِّرين أَنه يَصح نذر الْمَرْأَة لزَوجهَا بِمَا وَجب لَهَا عَلَيْهِ من حُقُوق الزَّوْجِيَّة
وَيبرأ الزَّوْج وَإِن لم تكن عَالِمَة بالمقدار قِيَاسا مَا إِذا قَالَ نذرت لزيد ثَمَرَة بستاني مُدَّة حَيَاته فَإِنَّهُ صَحِيح كَمَا أفتى بِهِ البُلْقِينِيّ وَقِيَاسًا على صِحَة وقف مَا لم يره كَمَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وتوبع عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَعم من أَن يكون الْمَوْقُوف عَلَيْهِ معينا أَو جِهَة عَامَّة
خَاتِمَة فِيهَا مسَائِل مهمة تتَعَلَّق بِالنذرِ من نذر إتْمَام نفل لزمَه إِتْمَامه أَو نذر صَوْم بعض يَوْم لم ينْعَقد أَو نذر إتْيَان الْحرم أَو شَيْء مِنْهُ لزمَه نسك من حج أَو عمْرَة
أَو نذر الْمَشْي إِلَيْهِ لزمَه مَعَ نسك مشي من مَسْكَنه أَو نذر أَن يحجّ أَو يعْتَمر مَاشِيا أَو عَكسه لزمَه مَعَ ذَلِك مشي من حَيْثُ أحرم فَإِن ركب وَلَو بِلَا عذر أَجزَأَهُ وَلَزِمَه دم وَإِن ركب بِعُذْر وَلَو نذر صَلَاة أَو صوما فِي وَقت ففاته وَلَو بِعُذْر
وَجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَلَو نذر إهداء شَيْء إِلَى الْحرم لزمَه حمله إِلَيْهِ إِن سهل
وَلَزِمَه صرفه بعد ذبح مَا يذبح مِنْهُ لمساكينه
أما إِذا لم يسهل حمله كعقار فَيلْزمهُ حمل ثمنه إِلَى الْحرم
وَلَو نذر تصدقا بِشَيْء على أهل بلد معِين لزمَه صرفه لمساكينه الْمُسلمين
وَلَو نذر صَلَاة قَاعِدا جَازَ فعلهَا قَائِما لإتيانه بالأفضل لَا عَكسه وَلَو نذر عتقا أَجزَأَهُ رَقَبَة وَلَو نَاقِصَة
بِكفْر أَو غَيره أَو نذر عتق نَاقِصَة أَجزَأَهُ رَقَبَة كَامِلَة فَإِن عين نَاقِصَة كَأَن قَالَ لله عَليّ عتق هَذَا الرَّقِيق الْكَافِر
تعيّنت وَلَو نذر زيتا أَو شمعا لإسراج مَسْجِد أَو غَيره أَو وقف مَا يشتريان بِهِ من غَلَّته صَحَّ كل من النّذر وَالْوَقْف وَإِن كَانَ يدْخل الْمَسْجِد أَو غَيره من ينْتَفع بِهِ من نَحْو مصل أَو نَائِم وَإِلَّا لم يَصح لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال
وَلَو نذر أَن يُصَلِّي فِي أفضل الْأَوْقَات فَقِيَاس مَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاق لَيْلَة الْقدر أَو فِي أحب الْأَوْقَات إِلَى الله تَعَالَى قَالَ الزَّرْكَشِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يَصح نَذره وَالَّذِي يَنْبَغِي الصِّحَّة وَيكون كنذره فِي أفضل الْأَوْقَات وَلَو نذر أَن يعبد الله بِعبَادة لَا يشركهُ فِيهَا أحد
فَقيل يطوف بِالْبَيْتِ وَحده وَقيل يُصَلِّي دَاخل الْبَيْت وَحده وَقيل يتَوَلَّى الْإِمَامَة

(2/610)


الْعُظْمَى وَيَنْبَغِي أَن يَكْفِي وَاحِد من ذَلِك وَمَا رد بِهِ من أَن الْبَيْت لَا يَخْلُو عَن طائف من ملك
أَو غَيره مَرْدُود لِأَن الْعبْرَة بِمَا فِي ظَاهر الْحَال وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره هُنَا فروعا مهمة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر فَمن أرادها فَلْيُرَاجِعهَا فِي ذَلِك

(2/611)


= كتاب الْأَقْضِيَة والشهادات = الْأَقْضِيَة جمع قَضَاء بِالْمدِّ كقباء وأقبية وَهُوَ لُغَة إِمْضَاء الشَّيْء وإحكامه وَشرعا فصل الْخُصُومَة بَين خصمين فَأكْثر بِحكم الله تَعَالَى والشهادات جمع شَهَادَة
وَهِي إِخْبَار عَن شَيْء بِلَفْظ خَاص وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا
وَالْأَصْل فِي الْقَضَاء قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} وَقَوله تَعَالَى {فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ} وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَفِي رِوَايَة فَلهُ عشرَة أجور قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم أجمع الْمُسلمُونَ على أَن هَذَا الحَدِيث يَعْنِي الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَاكم عَالم أهل للْحكم إِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ بِاجْتِهَادِهِ وإصابته وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر فِي اجْتِهَاده فِي طلب الْحق أما من لَيْسَ بِأَهْل للْحكم فَلَا يحل لَهُ أَن يحكم وَإِن حكم فَلَا أجر لَهُ بل هُوَ آثم وَلَا ينفذ حكمه سَوَاء أوافق الْحق أم لَا لِأَن إِصَابَته اتفاقية
لَيست صادرة عَن أصل شَرْعِي فَهُوَ عَاص فِي جَمِيع أَحْكَامه سَوَاء أوافق الصَّوَاب أم لَا
وَهِي مَرْدُودَة كلهَا وَلَا يعْذر فِي شَيْء من ذَلِك وَقد روى الْأَرْبَعَة وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة
فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق وَقضى بِهِ واللذان فِي النَّار رجل عرف الْحق فجار فِي الْحق وَرجل قضى للنَّاس على جهل وَالْقَاضِي الَّذِي ينفذ حكمه هُوَ الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث لَا اعْتِبَار بحكمهما
وتولي الْقَضَاء فرض كِفَايَة فِي حق الصَّالِحين لَهُ فِي نَاحيَة
أما تَوْلِيَة الإِمَام لأَحَدهم فَفرض عين عَلَيْهِ
فَمن تعين عَلَيْهِ فِي نَاحيَة لزمَه طلبه وَلَزِمَه قبُوله (وَلَا يجوز) وَلَا يَصح (أَن يَلِي الْقَضَاء) الَّذِي هُوَ الحكم بَين النَّاس (إِلَّا من استكملت فِيهِ) بِمَعْنى اجْتمع فِيهِ (خمس عشرَة خصْلَة) ذكر المُصَنّف مِنْهَا خَصْلَتَيْنِ على ضَعِيف وَسكت عَن خَصْلَتَيْنِ على الصَّحِيح كَمَا ستعرف ذَلِك
الأولى (الْإِسْلَام) فَلَا تصح ولَايَة كَافِر وَلَو على كَافِر وَمَا جرت بِهِ الْعَادة من نصب شخص مِنْهُم للْحكم بَينهم فَهُوَ تَقْلِيد رئاسة وزعامة لَا تَقْلِيد حكم وَقَضَاء كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(و) الثَّانِيَة (الْبلُوغ و) الثَّالِثَة (الْعقل)
فَلَا تصح ولَايَة غير مُكَلّف لنقصه
(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا تصح ولَايَة رَقِيق وَلَو مبعضا لنقصه
(و) الْخَامِسَة (الذكورية) فَلَا تصح ولَايَة امْرَأَة وَلَا خُنْثَى مُشكل أما الْخُنْثَى الْوَاضِح الذُّكُورَة فَتَصِح ولَايَته كَمَا قَالَه

(2/612)


فِي الْبَحْر
(و) السَّادِسَة (الْعَدَالَة) الْآتِي بَيَانهَا فِي الشَّهَادَات فَلَا تصح ولَايَة فَاسق وَلَو بِمَا لَهُ فِيهِ شُبْهَة على الصَّحِيح كَمَا قَالَه ابْن النَّقِيب فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة
وَإِن اقْتضى كَلَام الدَّمِيرِيّ خِلَافه
(و) السَّابِعَة (معرفَة أَحْكَام الْكتاب) الْعَزِيز
(و) معرفَة أَحْكَام (السّنة) على طَرِيق الِاجْتِهَاد
وَلَا يشْتَرط حفظ آياتها وَلَا أحاديثها المتعلقات بهَا عَن ظهر قلب وآي الْأَحْكَام كَمَا ذكره الْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا خَمْسمِائَة آيَة وَعَن الْمَاوَرْدِيّ أَن عدد أَحَادِيث الْأَحْكَام خَمْسمِائَة كعدد الْآي
وَالْمرَاد أَن يعرف أَنْوَاع الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ مجَال النّظر وَالِاجْتِهَاد وَاحْترز بهَا عَن المواعظ والقصص فَمن أَنْوَاع الْكتاب وَالسّنة الْعَام الْخَاص والمجمل والمبين وَالْمُطلق والمقيد وَالنَّص وَالظَّاهِر والناسخ والمنسوخ وَمن أَنْوَاع السّنة الْمُتَوَاتر والآحاد والمتصل وَغَيره
لِأَنَّهُ بذلك يتَمَكَّن من التَّرْجِيح عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة فَيقدم الْخَاص على الْعَام والمقيد على الْمُطلق والمبين على الْمُجْمل والناسخ على الْمَنْسُوخ والمتواتر على الْآحَاد وَيعرف الْمُتَّصِل من السّنة والمرسل مِنْهَا وَهُوَ غير الْمُتَّصِل وَحَال الروَاة قُوَّة وضعفا فِي حَدِيث لم يجمع على قبُوله
(و) الثَّامِنَة معرفَة (الْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف) فِيهِ فَيعرف أَقْوَال الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ إِجْمَاعًا واختلافا لِئَلَّا يَقع فِي حكم أَجمعُوا على خِلَافه
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَامه أَنه يشْتَرط معرفَة جَمِيع ذَلِك وَلَيْسَ مرَادا بل يَكْفِي أَن يعرف فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يُفْتِي أَو يحكم فِيهَا أَن قَوْله لَا يُخَالف الْإِجْمَاع فِيهَا إِمَّا بِعِلْمِهِ بموافقة بعض الْمُتَقَدِّمين أَو يغلب على ظَنّه أَن تِلْكَ الْمَسْأَلَة لم يتَكَلَّم فِيهَا الْأَولونَ
بل تولدت فِي عصره وعَلى هَذَا تقاس معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن الْغَزالِيّ وَأَقَرَّاهُ
(و) التَّاسِعَة معرفَة (طرق الِاجْتِهَاد) الموصلة إِلَى مدارك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَهِي معرفَة مَا تقدم وَمَا سَيذكرُهُ مَعَ معرفَة الْقيَاس صَحِيحه وفاسده بأنواعه الأولى والمساوي والأدون ليعْمَل بهَا
فَالْأول كقياس ضرب الْوَالِدين على التأفيف وَالثَّانِي كإحراق مَال الْيَتِيم على أكله فِي التَّحْرِيم فيهمَا
وَالثَّالِث كقياس التفاح على الْبر فِي الرِّبَا بِجَامِع الطّعْم
(و) الْعَاشِرَة (معرفَة طرف من لِسَان الْعَرَب) لُغَة وإعرابا وتصريفا لِأَن بِهِ يعرف عُمُوم اللَّفْظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده

(2/613)


وإجماله وَبَيَانه وصيغ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستفهام والوعد والوعيد والأسماء وَالْأَفْعَال والحروف وَمَا لَا بُد مِنْهُ فِي فهم الْكتاب وَالسّنة
(و) الْحَادِيَة عشرَة معرفَة طرف (تَفْسِير) من (كتاب الله تَعَالَى) ليعرف بِهِ الْأَحْكَام الْمَأْخُوذَة مِنْهُ
تَنْبِيه هَذَا مَعَ الَّذِي قبله من جملَة طرق الِاجْتِهَاد وَلَا يشْتَرط أَن يكون متبحرا فِي كل نوع من هَذِه الْعُلُوم حَتَّى يكون فِي النَّحْو كسيبويه وَفِي اللُّغَة كالخليل بل يَكْفِي معرفَة جمل مِنْهَا
قَالَ ابْن الصّباغ إِن هَذَا سهل فِي هَذَا الزَّمَان فَإِن الْعُلُوم قد دونت وجمعت انْتهى
وَيشْتَرط أَن يكون لَهُ من كتب الحَدِيث أصل كصحيح البُخَارِيّ وَسنَن أبي دَاوُد وَلَا يشْتَرط حفظ جَمِيع الْقُرْآن وَلَا بعضه عَن ظهر قلب بل يَكْفِي أَن يعرف مظان أَحْكَامه فِي أَبْوَابهَا فيراجعها وَقت الْحَاجة
وَلَا بُد أَن يعرف الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا كالأخذ بِأَقَلّ مَا قيل وكالاستصحاب وَمَعْرِفَة أصُول الِاعْتِقَاد
كَمَا حُكيَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا عَن الْأَصْحَاب اشْتِرَاطه ثمَّ اجْتِمَاع هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيع أَبْوَاب الشَّرْع
أما الْمُقَلّد بِمذهب إِمَام خَاص فَلَيْسَ عَلَيْهِ معرفَة قَوَاعِد إِمَامه وليراع فِيهَا مَا يُرَاعى الْمُطلق فِي قوانين الشَّرْع فَإِنَّهُ مَعَ الْمُجْتَهد كالمجتهد مَعَ نُصُوص الشَّرْع وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يعدل عَن نَص إِمَامه كَمَا لَا يسوغ الِاجْتِهَاد مَعَ النَّص
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد وَلَا يَخْلُو الْعَصْر عَن مُجْتَهد إِلَّا إِذا تداعى الزَّمَان وَقربت السَّاعَة
وَأما أَقْوَال الْغَزالِيّ والقفال إِن الْعَصْر خلا عَن الْمُجْتَهد المستقل
فَالظَّاهِر أَن المُرَاد مُجْتَهد قَائِم بِالْقضَاءِ فَإِن الْعلمَاء يرغبون عَنهُ فقد قَالَ مَكْحُول لَو خيرت بَين الْقَضَاء وَالْقَتْل لاخترت الْقَتْل
وَامْتنع مِنْهُ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذَا ظَاهر لَا شكّ فِيهِ إِذْ كَيفَ يُمكن الْقَضَاء على الْأَعْصَار بخلوها عَن الْمُجْتَهد وَالشَّيْخ أَبُو عَليّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْن والأستاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيرهم كَانُوا يَقُولُونَ لسنا مقلدين للشَّافِعِيّ بل وَافق رَأينَا رَأْيه
وَيجوز تبعيض الِاجْتِهَاد بِأَن يكون الْعَالم مُجْتَهدا فِي بَاب دون بَاب فيكفيه علم مَا يتَعَلَّق بِالْبَابِ الَّذِي يجْتَهد فِيهِ
(و) الثَّانِيَة عشرَة (أَن يكون سميعا) وَلَو بصياح فِي أُذُنه فَلَا يُولى أَصمّ لَا يسمع أصلا فَإِنَّهُ لَا يفرق بَين إِقْرَار وإنكار
وَالثَّالِثَة عشرَة أَن يكون (بَصيرًا) فَلَا يُولى أعمى وَلَا من يرى الأشباح وَلَا يعرف الصُّور لِأَنَّهُ لَا يعرف الطَّالِب من الْمَطْلُوب فَإِن كَانَ يعرف الصُّور إِذا قربت مِنْهُ صَحَّ وَخرج بالأعمى الْأَعْوَر فَإِنَّهُ يَصح تَوليته
وَكَذَا من يبصر نَهَارا فَقَط دون من يبصر لَيْلًا فَقَط قَالَه الْأَذْرَعِيّ
فَإِن قيل قد اسْتخْلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن أم مَكْتُوم على الْمَدِينَة وَهُوَ أعمى
وَلذَلِك قَالَ مَالك بِصِحَّة ولَايَة الْأَعْمَى أُجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ فِي إِمَامَة الصَّلَاة دون الحكم
تَنْبِيه لَو سمع القَاضِي الْبَيِّنَة ثمَّ عمي
قضى فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة على الْأَصَح وَاسْتثنى أَيْضا لَو نزل أهل قلعة على حكم أعمى
فَإِنَّهُ يجوز كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي مَحَله

(2/614)


وَالرَّابِعَة عشرَة أَن يكون (كَاتبا) على أحد وَجْهَيْن اخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيّ وَالزَّرْكَشِيّ لاحتياجه إِلَى أَن يكْتب إِلَى غَيره وَلِأَن فِيهِ أمنا من تَحْرِيف القارىء عَلَيْهِ وأصحهما كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا عدم اشْتِرَاط كَونه كَاتبا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب
وَلَا يشْتَرط فِيهِ معرفَة الْحساب لتصحيح الْمسَائِل الحسابية الْفِقْهِيَّة كَمَا صَوبه فِي الْمطلب لِأَن الْجَهْل بِهِ لَا يُوجب الْخلَل فِي غير تِلْكَ الْمسَائِل والإحاطة بِجَمِيعِ الْأَحْكَام لَا تشْتَرط
وَالْخَامِسَة عشرَة أَن يكون (مستيقظا) بِحَيْثُ لَا يُؤْتى من غَفلَة وَلَا يخدع من غرَّة كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام ابْن الْقَاص وَصرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيّ فِي الْوَسِيط واستند فِيهِ إِلَى قَول الشَّيْخَيْنِ وَيشْتَرط فِي الْمُفْتِي التيقظ وَقُوَّة الضَّبْط قَالَ وَالْقَاضِي أولى بِاشْتِرَاط ذَلِك وَإِلَّا لضاعت الْحُقُوق انْتهى مُلَخصا وَلَكِن المجزوم بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا اسْتِحْبَاب ذَلِك لَا اشْتِرَاطه
تَنْبِيه هَاتَانِ الخصلتان الضعيفتان الْمَوْعُود بهما وَأما المتروكتان فَالْأولى كَونه ناطقا فَلَا تصح تَوْلِيَة الْأَخْرَس على الصَّحِيح لِأَنَّهُ كالجماد
وَالثَّانيَِة أَن يكون فِيهِ كِفَايَة للْقِيَام بِأَمْر الْقَضَاء فَلَا يُولى مختل نظر بكبر أَو مرض أَو نَحْو ذَلِك وَفسّر بَعضهم الْكِفَايَة اللائقة بِالْقضَاءِ بِأَن يكون فِيهِ قُوَّة على تَنْفِيذ الْحق بِنَفسِهِ فَلَا يكون ضَعِيف النَّفس جَبَانًا فَإِن كثيرا من النَّاس يكون عَالما دينا وَنَفسه ضَعِيفَة عَن التَّنْفِيذ
والإلزام والسطوة فيطمع فِي جَانِبه بِسَبَب ذَلِك وَإِذا عرف الإِمَام أَهْلِيَّة أحد ولاه وَإِلَّا بحث عَن حَاله كَمَا اختبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا وَلَو ولى من لَا يصلح للْقَضَاء مَعَ وجود الصَّالح لَهُ وَالْعلم بِالْحَال أَثم الْمولي بِكَسْر اللَّام وَالْمولى بِفَتْحِهَا وَلَا ينفذ قَضَاؤُهُ وَإِن أصَاب فِيهِ فَإِن تعذر فِي شخص جَمِيع هَذِه الشُّرُوط السَّابِقَة فولى السُّلْطَان لَهُ شَوْكَة فَاسِقًا مُسلما أَو مُقَلدًا نفذ قَضَاؤُهُ للضَّرُورَة لِئَلَّا تتعطل مصَالح النَّاس فَخرج الْمُسلم الْكَافِر إِذا ولي بِالشَّوْكَةِ
وَأما الصَّبِي وَالْمَرْأَة فَصرحَ ابْن عبد السَّلَام بنفوذه مِنْهُمَا
وَمَعْلُوم أَنه يشْتَرط فِي غير الْأَهْل معرفَة طرف من الْأَحْكَام وللعادل أَن يتَوَلَّى الْقَضَاء من الْأَمِير الْبَاغِي
فقد سُئِلت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن ذَلِك لمن استقضاه زِيَاد فَقَالَت إِن لم يقْض لَهُم خيارهم قضى لَهُم شرارهم
فروع ينْدب للْإِمَام أَن يَأْذَن للْقَاضِي فِي الِاسْتِخْلَاف إِعَانَة لَهُ فَإِن أطلق التَّوْلِيَة اسْتخْلف فِيمَا عجز عَنهُ
فَإِن أطلق الْإِذْن فِي الِاسْتِخْلَاف اسْتخْلف مُطلقًا فَإِن خصصه بِشَيْء لم يتعده وَشرط الْمُسْتَخْلف بِفَتْح اللَّام كَشَرط القَاضِي السَّابِق إِلَّا أَن يسْتَخْلف فِي أَمر خَاص كسماع بَيِّنَة فَيَكْفِي علمه بِمَا يتَعَلَّق بِهِ
وَيحكم بِاجْتِهَادِهِ إِن كَانَ مُجْتَهدا أَو اجْتِهَاد مقلده إِن كَانَ مُقَلدًا
وَجَاز نصب أَكثر من قَاض بِمحل إِن لم يشرط اجْتِمَاعهم على الحكم وَإِلَّا فَلَا يجوز لما يَقع بَينهمَا من الْخلاف فِي مَحل الِاجْتِهَاد وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل أَن عدم الْجَوَاز مَحَله فِي غير الْمسَائِل الْمُتَّفق عَلَيْهَا وَهُوَ ظَاهر وَيجوز تحكيم اثْنَيْنِ فَأكْثر أَهلا للْقَضَاء فِي غير عُقُوبَة الله تَعَالَى وَلَو مَعَ وجود قَاض وَخرج بالأهل غَيره فَلَا يجوز تحكيمه مَعَ وجود الْأَهْل وَلَا ينفذ حكمه إِلَّا بِرِضا الْخَصْمَيْنِ قبل الحكم إِن لم يكن أَحدهمَا قَاضِيا وَإِلَّا فَلَا يشْتَرط رضاهما وَلَا يَكْفِي رضَا جَان فِي ضرب دِيَة على عَاقِلَة وَلَو رَجَعَ أحد الْخَصْمَيْنِ قبل الحكم امْتنع وَلَو زَالَت أَهْلِيَّة القَاضِي بِنَحْوِ جُنُون كإغماء انْعَزل وَلَو

(2/615)


عَادَتْ لم تعد ولَايَته وَله عزل نَفسه كَالْوَكِيلِ وَللْإِمَام عَزله بخلل وَأفضل مِنْهُ وبمصلحة كتسكين فتْنَة
فَإِن لم يكن شَيْء من ذَلِك حرم وَنفذ عَزله إِن وجد ثمَّ صَالح وَإِلَّا فَلَا ينفذ وَلَا يَنْعَزِل قبل بُلُوغه عَزله
فَإِن علق عَزله بقرَاءَته كَاتبا انْعَزل بهَا وبقراءته عَلَيْهِ وينعزل بانعزاله نَائِبه لَا قيم يَتِيم
ووقف وَلَا من اسْتَخْلَفَهُ بقول الإِمَام اسْتخْلف عني وَلَا يَنْعَزِل قَاض ووال بانعزال الإِمَام وَلَا يقبل قَول متول فِي غير مَحل ولَايَته وَلَا مَعْزُول حكمت بِكَذَا وَلَا شَهَادَة كل مِنْهُمَا بِحكمِهِ إِلَّا إِن شهد بِحكم حَاكم وَلم يعلم القَاضِي أَنه حكمه
وَلَو ادّعى على متول جورا فِي حكمه لم يسمع ذَلِك إِلَّا بِبَيِّنَة
فَإِن ادّعى عَلَيْهِ بِشَيْء لَا يتَعَلَّق بِحكمِهِ أَو على مَعْزُول بِشَيْء فكغيرهما وَتثبت تَوْلِيَة القَاضِي بِشَاهِدين يخرجَانِ مَعَه إِلَى مَحل ولَايَته يخبران أَو باستفاضة
وَيسن أَن يكْتب موليه لَهُ كتابا بالتولية وَأَن يبْحَث القَاضِي عَن حَال عُلَمَاء الْمحل وعدوله قبل دُخُوله وَأَن يدْخل يَوْم الِاثْنَيْنِ فخميس فسبت
(وَيسْتَحب أَن يجلس) للْقَضَاء (فِي وسط الْبَلَد) ليتساوى أَهله فِي الْقرب مِنْهُ هَذَا إِن اتسعت خطته وَإِلَّا نزل حَيْثُ تيَسّر
وَهَذَا إِذا لم يكن فِيهِ مَوضِع يعْتَاد النُّزُول فِيهِ وَأَن ينظر أَولا فِي أهل الْحَبْس لِأَنَّهُ عَذَاب فَمن أقرّ مِنْهُم بِحَق فعل بِهِ مُقْتَضَاهُ وَمن قَالَ ظلمت فعلى خَصمه حجَّة
فَإِن كَانَ خَصمه غَائِبا كتب إِلَيْهِ ليحضر هُوَ أَو وَكيله ثمَّ ينظر فِي الأوصياء فَمن وجده عدلا قَوِيا فِيهَا أقره أَو فَاسِقًا أَخذ المَال مِنْهُ أَو عدلا ضَعِيفا عضده بِمعين ثمَّ يتَّخذ كَاتبا للْحَاجة إِلَيْهِ عدلا ذكرا حرا عَارِفًا بِكِتَابَة محَاضِر وسجلات شرطا فِيهَا فَقِيها عفيفا وافر الْعقل جيد الْخط ندبا وَأَن يتَّخذ مترجمين
وَأَن يتَّخذ قَاض أَصمّ مسمعين للْحَاجة إِلَيْهِمَا أَهلِي شَهَادَة وَلَا يضرهما الْعَمى لِأَن التَّرْجَمَة والإسماع تَفْسِير
وَنقل اللَّفْظ لَا يحْتَاج إِلَى مُعَاينَة بِخِلَاف الشَّهَادَات وَأَن يتَّخذ درة للتأديب وسجنا لأَدَاء حق ولعقوبة
وَيكون جُلُوسه (فِي مَوضِع) فسيح (بارز للنَّاس) أَي ظَاهر لَهُم ليعرفه من أَرَادَهُ من مستوطن وغريب مصونا من أَذَى حر وَبرد بِأَن يكون فِي الصَّيف فِي مهب الرّيح وَفِي الشتَاء فِي كن لائقا بِالْحَال فيجلس فِي كل فصل من الصَّيف والشتاء وَغَيرهمَا بِمَا يُنَاسِبه وَيكرهُ للْقَاضِي أَن يتَّخذ حاجبا كَمَا قَالَ (لَا حَاجِب لَهُ) أَي للْقَاضِي (دونهم) أَي الْخُصُوم أَي حَيْثُ لَا زحمة وَقت الحكم لخَبر من ولي من أُمُور النَّاس شَيْئا فاحتجب حجبه الله يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح فَإِن لم يجلس للْحكم بِأَن كَانَ فِي وَقت خلوته أَو كَانَ ثمَّ زحمة لم يكره نَصبه والبواب وَهُوَ من يقْعد بِالْبَابِ للإحراز وَيدخل على القَاضِي للاستئذان كالحاجب فِيمَا ذكر
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ أما من وظيفته تَرْتِيب الْخُصُوم والإعلام بمنازل النَّاس أَي وَهُوَ الْمُسَمّى الْآن بالنقيب فَلَا بَأْس باتخاذه وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره باستحبابه
تَنْبِيه من الْآدَاب أَن يجلس على مُرْتَفع كدكة ليسهل عَلَيْهِ النّظر إِلَى النَّاس وَعَلَيْهِم الْمُطَالبَة وَأَن يتَمَيَّز عَن غَيره بفراش ووسادة وَإِن كَانَ مَشْهُورا بالزهد والتواضع ليعرفه النَّاس وليكون أهيب للخصوم وأرفق بِهِ فَلَا يمل وَأَن يسْتَقْبل الْقبْلَة لِأَنَّهَا أشرف الْمجَالِس كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
وَأَن لَا يتكىء بِغَيْر عذر وَأَن يَدْعُو عقب جُلُوسه بالتوفيق والتسديد
وَالْأولَى مَا روته أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا خرج من بَيته قَالَ بِسم الله توكلت على الله اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من أَن أضلّ أَو أضلّ أَو أزل أَو أزل أَو أظلم أَو أظلم أَو أَجْهَل أَو يجهل عَليّ قَالَ فِي الْأَذْكَار حَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
قَالَ ابْن الْقَاص وَسمعت أَن الشّعبِيّ كَانَ يَقُوله إِذا خرج إِلَى مجْلِس الْقَضَاء وَيزِيد فِيهِ أَو أعتدي أَو يعتدى عَليّ اللَّهُمَّ أَعنِي بِالْعلمِ وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى حَتَّى لَا أنطق إِلَّا بِالْحَقِّ

(2/616)


وَلَا أَقْْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ
وَأَن يَأْتِي الْمجْلس رَاكِبًا وَأَن يسْتَعْمل مَا جرت بِهِ الْعَادة من الْعِمَامَة والطيلسان وَينْدب أَن يسلم على النَّاس يَمِينا وَشمَالًا وَأَن يشاور الْفُقَهَاء عِنْد اخْتِلَاف وُجُوه النّظر وتعارض الْأَدِلَّة فِي حكم قَالَ تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وشاورهم فِي الْأَمر} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستغنيا عَنْهَا وَلَكِن أَرَادَ أَن تكون سنة للحكام
أما الحكم الْمَعْلُوم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس جلي فَلَا
وَالْمرَاد بالفقهاء كَمَا قَالَه جمع من الْأَصْحَاب الَّذين يقبل قَوْلهم فِي الْإِفْتَاء فَيدْخل الْأَعْمَى وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَيخرج الْفَاسِق وَالْجَاهِل (وَلَا يقْعد للْقَضَاء فِي الْمَسْجِد) أَي يكره لَهُ اتِّخَاذه مَجْلِسا للْحكم صونا لَهُ عَن ارْتِفَاع الْأَصْوَات واللغظ الواقعين بِمَجْلِس الْقَضَاء عَادَة
وَلَو اتّفقت قَضِيَّة أَو قضايا وَقت حُضُوره فِيهِ لصَلَاة أَو غَيرهَا فَلَا بَأْس بفصلها وعَلى ذَلِك يحمل مَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن خلفائه فِي الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد وَكَذَا إِذا احْتَاجَ لجُلُوس فِيهِ لعذر من مطر وَنَحْوه
فَإِن جلس فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَة أَو دونهَا منع الْخُصُوم من الْخَوْض فِيهِ بالمخاصمة والمشاتمة وَنَحْوهمَا
بل يَقْعُدُونَ خَارجه وَينصب من يدْخل عَلَيْهِ خصمين وَإِقَامَة الْحُدُود فِيهِ أَشد كَرَاهَة كَمَا نَص عَلَيْهِ
ثمَّ شرع فِي التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ فَقَالَ (وَيُسَوِّي) أَي القَاضِي (بَين الْخَصْمَيْنِ) وجوبا على الصَّحِيح (فِي ثَلَاثَة) بل سَبْعَة (أَشْيَاء) كَمَا ستعرفه الأول (فِي الْمجْلس) فيسوي بَينهمَا فِيهِ بِأَن يجلسهما بَين يَدَيْهِ أَو أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره وَالْجُلُوس بَين يَدَيْهِ أولى وَلَا يرْتَفع الْمُوكل عَن الْوَكِيل والخصم لِأَن الدَّعْوَى مُتَعَلقَة بِهِ أَيْضا بِدَلِيل تَحْلِيفه إِذا وَجَبت يَمِين حَكَاهُ ابْن الرّفْعَة عَن الزبيلي وَأقرهُ قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَغَيره وَهُوَ حسن والبلوى بِهِ عَامَّة وَقد رَأينَا من يُوكل قرارا من التسويه بَينه وَبَين خَصمه وَالصَّحِيح جَوَاز رفع مُسلم على ذمِّي فِي الْمجْلس كَأَن يجلس الْمُسلم أقرب إِلَيْهِ من الذِّمِّيّ لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ قَالَ خرج عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى السُّوق
فَإِذا هُوَ بنصراني يَبِيع درعا فعرفها عَليّ فَقَالَ هَذِه دِرْعِي بيني وَبَيْنك قَاضِي الْمُسلمين فَأتيَا إِلَى القَاضِي شُرَيْح فَلَمَّا رأى القَاضِي عليا قَامَ من مَجْلِسه وَأَجْلسهُ
فَقَالَ لَهُ عَليّ لَو كَانَ خصمي مُسلما لجلست مَعَه بَين يَديك وَلَكِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا تساووهم فِي الْمجَالِس اقْضِ بيني وَبَينه
فَقَالَ شُرَيْح مَا تَقول يَا نَصْرَانِيّ فَقَالَ الدرْع دِرْعِي فَقَالَ شُرَيْح لعَلي هَل من بَيِّنَة فَقَالَ عَليّ صدق شُرَيْح فَقَالَ النَّصْرَانِي إِنِّي أشهد أَن هَذِه أَحْكَام الْأَنْبِيَاء ثمَّ أسلم النَّصْرَانِي فَأعْطَاهُ عَليّ الدرْع وَحمله على فرس عَتيق قَالَ الشّعبِيّ فقد رَأَيْته يُقَاتل الْمُشْركين عَلَيْهِ
وَلِأَن الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَيُشبه كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَن يجْرِي ذَلِك فِي سَائِر وُجُوه الْإِكْرَام حَتَّى فِي التَّقْدِيم فِي الدَّعْوَى كَمَا بَحثه بَعضهم وَهُوَ ظَاهر إِذا قلت خصوم الْمُسلمين
وَإِلَّا فَالظَّاهِر خِلَافه لِكَثْرَة ضَرَر الْمُسلمين
قَالَ الأسنوي وَلَو كَانَ أَحدهمَا ذِمِّيا وَالْآخر مُرْتَدا فَيتَّجه تَخْرِيجه على التكافؤ فِي الْقصاص
وَالصَّحِيح أَن الْمُرْتَد يقتل بالذمي دون عَكسه وتعجب البُلْقِينِيّ من هَذَا التَّخْرِيج فَإِن التكافؤ فِي الْقصاص لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ بسبيل وَلَو اعتبرناه لرفع الْحر على العَبْد وَالْوَالِد على الْوَلَد

(2/617)


(و) الثَّانِي فِي اسْتِمَاع (اللَّفْظ) مِنْهُمَا لِئَلَّا ينكسر قلب أَحدهمَا
(و) الثَّالِث فِي (اللحظ) بالظاء المشالة وَهُوَ النّظر بمؤخر الْعين كَمَا قَالَه فِي الصِّحَاح وَالْمعْنَى فِيهِ مَا تقدم
وَالرَّابِع فِي دخولهما عَلَيْهِ فَلَا يدْخل أَحدهمَا قبل الآخر
وَالْخَامِس فِي الْقيام لَهما فَلَا يخص أَحدهمَا بِقِيَام إِن علم أَنه فِي خُصُومَة فَإِن لم يعلم إِلَّا بعد قِيَامه لَهُ فإمَّا أَن يعْتَذر لخصمه مِنْهُ وَإِمَّا أَن يقوم لَهُ كقيامه للْأولِ
وَهُوَ الأولى وَاخْتَارَ ابْن أبي الدَّم كَرَاهَة الْقيام لَهما جَمِيعًا فِي آدَاب الْقَضَاء لَهُ أَي إِذا كَانَ أَحدهمَا مِمَّن يُقَام لَهُ دون الآخر لِأَنَّهُ رُبمَا يتَوَهَّم أَن الْقيام لَيْسَ لَهُ
وَالسَّادِس فِي جَوَاب سلامهما إِن سلما مَعًا فَلَا يرد على أَحدهمَا وَيتْرك الآخر فَإِن سلم عَلَيْهِ أَحدهمَا انْتظر الآخر أَو قَالَ لَهُ سلم ليجيبهما مَعًا إِذا سلم قَالَ الشَّيْخَانِ وَقد يتَوَقَّف فِي هَذَا إِذا طَال الْفَصْل وَكَأَنَّهُم احتملوا هَذَا الْفَصْل لِئَلَّا يبطل معنى التَّسْوِيَة
وَالسَّابِع فِي طلاقة الْوَجْه وَسَائِر أَنْوَاع الْإِكْرَام فَلَا يخص أَحدهمَا بِشَيْء مِنْهَا وَإِن اخْتلف بفضيلة أَو غَيرهَا
تَنْبِيه ينْدب أَن لَا يَشْتَرِي وَلَا يَبِيع بِنَفسِهِ لِئَلَّا يشْتَغل قلبه عَمَّا هُوَ بصدده
وَلِأَنَّهُ قد يحابي فيميل قلبه إِلَى من يحابيه إِذا وَقع بَينه وَبَين غَيره حُكُومَة والمحاباة فِيهَا رشوة أَو هَدِيَّة وَهِي مُحرمَة وَأَن لَا يكون لَهُ وَكيل مَعْرُوف كي لَا يحابي أَيْضا فَإِن فعل ذَلِك كره والمعاملة فِي مجْلِس حكمه أَشد كَرَاهَة
(وَلَا يجوز) للْقَاضِي (أَن يقبل الْهَدِيَّة) وَإِن قلت فَإِن أهدي إِلَيْهِ من لَهُ خُصُومَة فِي الْحَال عِنْده سَوَاء أَكَانَ مِمَّن يهدى إِلَيْهِ قبل الْولَايَة سَوَاء أَكَانَ (من أهل عمله) أم لَا أَو لم يكن لَهُ خُصُومَة لكنه لم يهد لَهُ قبل ولَايَته الْقَضَاء ثمَّ أهدي إِلَيْهِ بعد الْقَضَاء هَدِيَّة حرم عَلَيْهِ قبُولهَا
أما فِي الأولى فلخبر هَدَايَا الْعمَّال سحت وَرُوِيَ هَدَايَا السُّلْطَان سحت وَلِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْميل إِلَيْهِ وينكسر بهَا قلب خَصمه وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن سَببهَا الْعَمَل ظَاهرا وَلَا يملكهَا فِي الصُّورَتَيْنِ لَو قبلهَا ويردها على مَالِكهَا فَإِن تعذر وَضعهَا فِي بَيت المَال وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَو أرسلها إِلَيْهِ فِي مَحل ولَايَته وَلم يدْخل بهَا حرمت وَهُوَ كَذَلِك وَإِن ذكر فِيهَا الْمَاوَرْدِيّ وَجْهَيْن
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك هَدِيَّة أَبْعَاضه كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ إِذْ لَا ينفذ حكمه لَهُم وَلَو أهدي إِلَيْهِ من لَا خُصُومَة لَهُ وَكَانَ يهدى إِلَيْهِ قبل ولَايَته جَازَ لَهُ قبُولهَا إِن كَانَت الْهَدِيَّة بِقدر الْعَادة السَّابِقَة
وَالْأولَى إِذا قبلهَا أَن يردهَا أَو يثيب عَلَيْهَا لِأَن ذَلِك أبعد من

(2/618)


التُّهْمَة أما إِذا زَادَت على الْعَادة فَكَمَا لَو لم يعْهَد مِنْهُ ذَلِك كَذَا فِي أصل الرَّوْضَة وَقَضيته تَحْرِيم الْجَمِيع
لَكِن قَالَ الرَّوْيَانِيّ نقلا عَن الْمُهَذّب إِن كَانَت الزِّيَادَة من جنس الْهَدِيَّة جَازَ قبُولهَا لدخولها فِي المألوف وَإِلَّا فَلَا وَفِي الذَّخَائِر يَنْبَغِي أَن يُقَال إِن لم تتَمَيَّز الزِّيَادَة أَي بِجِنْس أَو قدر حرم قبُول الْجَمِيع وَإِلَّا فَالزِّيَادَة فَقَط
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر فَإِن زَادَت فِي الْمَعْنى كَأَن أهْدى من عَادَته قطن حَرِيرًا هَل يبطل فِي الْجَمِيع أَو يَصح مِنْهَا بِقدر الْمُعْتَاد فِيهِ نظر استظهر الْإِسْنَوِيّ الأول وَهُوَ ظَاهر إِن كَانَ للزِّيَادَة وَقع وَإِلَّا فَلَا عِبْرَة بهَا والضيافة وَالْهِبَة كالهدية وَالْعَارِية إِن كَانَت مِمَّا يُقَابل بِأُجْرَة فَحكمهَا كالهدية وَإِلَّا فَلَا كَمَا بَحثه بَعضهم وَبحث بَعضهم أَيْضا أَن الصَّدَقَة كالهدية وَأَن الزَّكَاة كَذَلِك إِن لم يتَعَيَّن الدّفع إِلَيْهِ وَمَا بَحثه ظَاهر وَقبُول الرِّشْوَة حرَام وَهِي مَا يبْذل للْقَاضِي ليحكم بِغَيْر الْحق أَو ليمتنع من الحكم بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لخَبر لعن الله الراشي والمرتشي فِي الحكم
فروع لَيْسَ للْقَاضِي حُضُور وَلِيمَة أحد الْخَصْمَيْنِ حَالَة الْخُصُومَة وَلَا يحضر وليمتهما
وَلَو فِي غير مَحل ولَايَته لخوف الْميل وَله تَخْصِيص إِجَابَة من اعْتَادَ تَخْصِيصه قبل الْولَايَة وَينْدب لَهُ إِجَابَة غير الْخَصْمَيْنِ إِن عمم المولم النداء لَهَا وَلم يقطعهُ كَثْرَة الولائم عَن الحكم وَإِلَّا فَيتْرك الْجَمِيع وَلَا يضيف أحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر وَلَا يلْتَحق فِيمَا ذكر الْمُفْتِي والواعظ ومعلموا الْقُرْآن وَالْعلم إِذْ لَيْسَ لَهُم أَهْلِيَّة الْإِلْزَام وللقاضي أَن يشفع لأحد الْخَصْمَيْنِ ويزن عَنهُ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ينفعهما وَأَن يُعِيد المرضى وَيشْهد الْجَنَائِز ويزور القادمين وَلَو كَانُوا متخاصمين لِأَن ذَلِك قربَة
(ويجتنب) القَاضِي (الْقَضَاء) أَي يكره لَهُ ذَلِك (فِي عشرَة مَوَاضِع) وأهمل مَوَاضِع كَمَا ستعرفها
وَضَابِط الْمَوَاضِع الَّتِي يكره للْقَاضِي الْقَضَاء فِيهَا كل حَال يتَغَيَّر فها خلقه وَكَمَال عقله الْموضع الأول (عِنْد الْغَضَب) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا يحكم أحد بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان وَظَاهر هَذَا أَنه لَا فرق بَين الْمُجْتَهد وَغَيره وَلَا بَين أَن يكون لله تَعَالَى أَو لَا
وَهُوَ كَذَلِك لِأَن الْمَقْصُود تشويش الْفِكر وَهُوَ لَا يخْتَلف بذلك نعم تَنْتفِي الْكَرَاهَة إِذا دعت الْحَاجة إِلَى الحكم فِي الْحَال وَقد يتَعَيَّن الحكم على الْفَوْر فِي صور كَثِيرَة
(و) الثَّانِي عِنْد (الْجُوع و) الثَّالِث عِنْد (الْعَطش) المفرطين وَكَذَا عِنْد الشِّبَع المفرط وَأَهْمَلَهُ المُصَنّف

(2/619)


(و) الرَّابِع عِنْد (شدَّة الشَّهْوَة) أَي التوقان إِلَى النِّكَاح
(و) الْخَامِس عِنْد (الْحزن) المفرط فِي مُصِيبَة أَو غَيرهَا
(و) السَّادِس عِنْد (الْفَرح المفرط) وَلَو قَالَ المفرطين لَكَانَ أولى لِأَنَّهُ قيد فِي الْحزن أَيْضا كَمَا مر
(و) السَّابِع عِنْد (الْمَرَض) المؤلم كَمَا قيد بِهِ فِي الرَّوْضَة (و) الثَّامِن عِنْد (مدافعة) أحد (الأخبثين) أَي الْبَوْل وَالْغَائِط وَلَو ذكر أحد كَمَا قدرته فِي كَلَامه لَكَانَ أولى لإِفَادَة الِاكْتِفَاء بِهِ وكراهته عِنْد مدافعتهم بِالْأولَى وَكَذَا يكره عِنْد مدافعة الرّيح
كَمَا ذكره الدَّمِيرِيّ وَأَهْمَلَهُ المُصَنّف
(و) التَّاسِع عِنْد (النعاس) أَي غلبته كَمَا قيد بِهِ فِي الرَّوْضَة (و) الْعَاشِر عِنْد شدَّة (الْحر و) شدَّة (الْبرد) وأهمل المُصَنّف عِنْد الْخَوْف المزعج وَعند الملال وَقد جزم بهما فِي الرَّوْضَة وَإِنَّمَا كره الْقَضَاء فِي هَذِه الْأَحْوَال لتغير الْعقل والخلق فِيهَا فَلَو خَالف وَقضى فِيهَا نفذ قَضَاؤُهُ كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة لقصة الزبير الْمَشْهُورَة
وَلَا ينفذ حكم القَاضِي لنَفسِهِ لِأَنَّهُ من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يحكم لرقيقه وَلَا لشَرِيكه فِي المَال الْمُشْتَرك بَينهمَا للتُّهمَةِ
وَيحكم للْقَاضِي وَلمن ذكر مَعَه الإِمَام أَو قَاض آخر أَو نَائِبه وَإِذا أقرّ الْمُدعى عَلَيْهِ عِنْد القَاضِي أَو نكل عَن الْيَمين فَحلف الْمُدَّعِي الْيَمين الْمَرْدُودَة وَسَأَلَ القَاضِي أَن يشْهد على إِقْرَاره عِنْده فِي صُورَة الْإِقْرَار أَو على يَمِينه فِي صُورَة النّكُول أَو سَأَلَ الحكم بِمَا ثَبت عِنْده وَالْإِشْهَاد بِهِ لزمَه إجَابَته لِأَنَّهُ قد يُنكر بعد ذَلِك
(وَلَا يسْأَل) القَاضِي (الْمُدعى عَلَيْهِ) الْجَواب أَي لَا يجوز لَهُ ذَلِك (إِلَّا بعد كَمَال الدَّعْوَى) الصَّحِيحَة
وَيشْتَرط لصِحَّة كل دَعْوَى سَوَاء أَكَانَت بِدَم أم بِغَيْرِهِ كغصب وسرقة وَإِتْلَاف سِتَّة شُرُوط الأول أَن تكون مَعْلُومَة غَالِبا بِأَن يفصل الْمُدَّعِي مَا يَدعِيهِ كَقَوْلِه فِي دَعْوَى الْقَتْل قَتله عمدا أَو شبه عمد أَو خطأ إفرادا أَو شركَة فَإِن أطلق مَا يَدعِيهِ كَقَوْلِه هَذَا قتل ابْني يسن للْقَاضِي استفصاله عَمَّا ذكر
وَالثَّانِي أَن تكون ملزمة فَلَا تسمع دَعْوَى هبة شَيْء أَو بَيْعه أَو إِقْرَار بِهِ حَتَّى يَقُول الْمُدَّعِي وقبضته بِإِذن الْوَاهِب وَيلْزم البَائِع أَو الْمقر التَّسْلِيم
وَالثَّالِث أَن يعين مدعى عَلَيْهِ فَلَو قَالَ قَتله أحد هَؤُلَاءِ لم تسمع دَعْوَاهُ لإبهام الْمُدعى عَلَيْهِ
وَالرَّابِع وَالْخَامِس أَن يكون كل من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ غير حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ مُكَلّفا وَمثله
السَّكْرَان فَلَا تصح دَعْوَى حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ وَلَا صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا دَعْوَى عَلَيْهِم
وَالسَّادِس أَن لَا تناقضها دَعْوَى أُخْرَى فَلَو ادّعى على أحد انفرادا بِالْقَتْلِ ثمَّ ادّعى على آخر شركَة أَو انفرادا لم تسمع الدَّعْوَى الثَّانِيَة لِأَن الأولى تكذبها نعم إِن صدقه الآخر فَهُوَ مؤاخذ بِإِقْرَار وَتسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ على الْأَصَح فِي أصل الرَّوْضَة وَلَا يُمكن من العودة إِلَى الأولى لِأَن الثَّانِيَة تكذبها
(وَلَا يحلفهُ) أَي لَا يجوز للْقَاضِي أَن يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ
(إِلَّا بعد سُؤال) أَي طلب (الْمُدَّعِي) تَحْلِيفه فَلَو حلفه قبل طلبه لم يعْتد بِهِ فعلى هَذَا يَقُول القَاضِي للْمُدَّعِي حلفه وَإِلَّا فاقطع طَلَبك عَنهُ قَالَ ابْن النَّقِيب فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة وَلَو حلف بعد طلب الْمُدَّعِي وَقبل إحلاف القَاضِي لم يعْتد بِهِ صرح بِهِ القَاضِي حسن اه
تَنْبِيه قد علم مِمَّا ذكره المُصَنّف أَنه لَا يجوز للْقَاضِي الحكم على الْمُدعى عَلَيْهِ إِلَّا بعد طلب الْمُدَّعِي وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي بَاب الْقَضَاء على الْغَائِب (وَلَا يلقن خصما) مِنْهُمَا (حجَّة) يستظهر بهَا على خَصمه أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك لإضراره بِهِ
(وَلَا يفهمهُ) أَي وَاحِدًا مِنْهُمَا (كلَاما) يعرف بِهِ كَيْفيَّة الدَّعْوَى وَكَيْفِيَّة الْجَواب أَو الْإِقْرَار أَو الانكار لما مر وَخرج بِقَيْد الْخصم فِي كَلَامه الشَّاهِد فَيجوز

(2/620)


للْقَاضِي تَعْرِيفه كَيْفيَّة أَدَاء الشَّهَادَة
كَمَا صَححهُ القَاضِي أَبُو المكارم وَالرُّويَانِيّ وَأقرهُ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَة خلافًا للشرف الْغَزِّي فِي ادعائه الْمَنْع مِنْهُ فَلَعَلَّهُ انْتقل نظره من منع التَّلْقِين إِلَى ذَلِك فَإِن القَاضِي لَا يلقن الشَّاهِد الشَّهَادَة كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة
(وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ) أَي لَا يشق عَلَيْهِم كَأَن يَقُول لَهُم لم شهدتم وَمَا هَذِه الشَّهَادَة وَنَحْو ذَلِك
فَرُبمَا يُؤَدِّي إِلَى تَركهم الشَّهَادَة فيتضرر الْخصم الْمَشْهُود لَهُ بذلك
(وَلَا يقبل) القَاضِي (الشَّهَادَة) إِذا لم يعرف عَدَالَة الشَّاهِد (إِلَّا مِمَّن ثبتَتْ عَدَالَته) عِنْد حَاكم سَوَاء أطعن الْخصم فِيهِ أم سكت لِأَنَّهُ حكم بِشَهَادَة تَتَضَمَّن تعديله
وَالتَّعْدِيل لَا يثبت إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَسَيَأْتِي بَيَان الْعَدَالَة فِي فصل بعد ذَلِك
فَإِذا ثبتَتْ عَدَالَة الشَّاهِد ثمَّ شهد فِي وَاقعَة أُخْرَى قَالَ فِي الرَّوْضَة إِن لم يطلّ الزَّمَان حكم بِشَهَادَتِهِ وَلَا يطْلب تعديله ثَانِيًا وَإِن طَال فَوَجْهَانِ أصَحهمَا يطْلب تعديله ثَانِيًا لِأَن طول الزَّمَان يُغير الْأَحْوَال ثمَّ يجْتَهد الْحَاكِم فِي طوله وقصره انْتهى
قَالَ فِي الْخَادِم إِن الْخلاف فِي الطول فِي غير الشُّهُود المرتبين عِنْد الْحَاكِم أما هم فَلَا يجب طلب التَّعْدِيل قطعا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين فِي قَوَاعِده انْتهى وَهُوَ حسن وَقَالَ فِي الْعدة إِذا استفاض فسق الشَّاهِدين بَين النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَى الْبَحْث وَالسُّؤَال
(وَلَا تقبل شَهَادَة عَدو على عدوه) لحَدِيث لَا تقبل شَهَادَة ذِي غمر على أَخِيه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن والغمر بِكَسْر الْغَيْن الغل والحقد وَلما فِي ذَلِك من التُّهْمَة
تَنْبِيه المُرَاد بالعداوة الْعَدَاوَة الدُّنْيَوِيَّة الظَّاهِرَة لِأَن الْبَاطِنَة لَا يطلع عَلَيْهَا إِلَّا علام الغيوب وَفِي مُعْجم الطَّبَرَانِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَيَأْتِي قوم فِي آخر الزَّمَان إخْوَان الْعَلَانِيَة أَعدَاء السريرة بِخِلَاف شَهَادَته لَهُ إِذْ لَا تُهْمَة
ومليحة شهِدت لَهَا ضراتها وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وعدو الشَّخْص من يحزن لفرحه ويفرح لحزنه
وَقد تكون الْعَدَاوَة من الْجَانِبَيْنِ وَقد تكون من أَحدهمَا فَيخْتَص برد شَهَادَته على الآخر
وَلَا يشْتَرط ظُهُورهَا بل يَكْفِي مَا دلّ عَلَيْهَا من الْمُخَاصمَة وَنَحْوهَا
كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ نَاقِلا لَهُ عَن نَص الْمُخْتَصر أما الْعَدَاوَة الدِّينِيَّة فَلَا توجب رد الشَّهَادَة فَتقبل بِشَهَادَة الْمُسلم على الْكَافِر
وَشَهَادَة السّني على المبتدع وَتقبل من مُبْتَدع لَا نكفره ببدعته كمنكري صِفَات الله تَعَالَى وخلقه أَفعَال عباده وَجَوَاز رُؤْيَته يَوْم الْقِيَامَة لاعتقادهم أَنهم مصيبون فِي ذَلِك لما قَامَ عِنْدهم بِخِلَاف من نكفره ببدعته كمنكري حُدُوث الْعَالم والبعث والحشر للأجسام وَعلم الله بالمعدوم وبالجزئيات لإنكارهم مَا علم مَجِيء الرَّسُول بِهِ ضَرُورَة فَلَا تقبل شَهَادَتهم
وَلَا شَهَادَة من يَدْعُو النَّاس إِلَى بدعته كَمَا لَا تقبل رِوَايَته بل أولى وَلَا شَهَادَة خطابي لمثله
إِن لم يذكر فِيهَا مَا يَنْفِي احْتِمَال اعْتِمَاده على قَول الْمَشْهُود لَهُ لاعْتِقَاده أَنه لَا يكذب فَإِن ذكر فِيهَا ذَلِك كَقَوْلِه رَأَيْت أَو سَمِعت أَو شهد لمُخَالفَة قبلت لزوَال الْمَانِع

(2/621)


(وَلَا) تقبل (شَهَادَة وَالِد) وَإِن علا (لوَلَده) وَإِن سفل (وَلَا) تقبل شها (ولد) وَإِن سفل (لوالده) وَإِن علا للتُّهمَةِ
وَلَو قَالَ المُصَنّف وَلَا تقبل شَهَادَة الشَّخْص لبعضه
لَكَانَ أخصر وَأفهم كَلَامه قبُول شَهَادَة الْوَالِد على وَلَده وَعَكسه وَهُوَ كَذَلِك لانْتِفَاء التُّهْمَة
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَ بَينه وَبَين أَصله أَو فَرعه عَدَاوَة فَإِن شَهَادَته لَا تقبل لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَمَا جزم بِهِ فِي الْأَنْوَار وَإِذا شهد بِحَق لفرع أَو أصل لَهُ وأجنبي كَأَن شهد برقيق لَهما قبلت الشَّهَادَة للْأَجْنَبِيّ على الْأَصَح من قولي تَفْرِيق الصَّفْقَة
وَتقبل الشَّهَادَة لكل من الزَّوْجَيْنِ من الآخر لِأَن الْحَاصِل بَينهمَا عقد يطْرَأ وَيَزُول نعم لَو شهد لزوجته بِأَن فلَانا قَذفهَا لم تصح شَهَادَته فِي أحد وَجْهَيْن رَجحه البُلْقِينِيّ وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَته عَلَيْهَا بِالزِّنَا لِأَنَّهُ يَدعِي خيانتها فرَاشه وَلَا تقبل شَهَادَة الشَّخْص لأحد أصليه أَو فرعيه على الآخر
كَمَا جزم بِهِ الْغَزالِيّ وَيُؤَيِّدهُ منع الحكم بَين أَبِيه وَأمه وَإِن خَالف ابْن عبد السَّلَام فِي ذَلِك مُعَللا بِأَن الْوَازِع الطبيعي قد تعَارض فَظهر الصدْق لضعف التُّهْمَة وَلَا تقبل تَزْكِيَة الْوَالِد لوَلَده وَلَا شَهَادَته لَهُ بِالرشد سَوَاء أَكَانَ فِي حجره أم لَا وَإِن أخذناه بِإِقْرَارِهِ برشد من فِي حجره
تَنْبِيه قد علم من كَلَام المُصَنّف أَن مَا عدا الأَصْل وَالْفرع من حَوَاشِي النّسَب تقبل شَهَادَة بَعضهم لبَعض فَتقبل شَهَادَة الْأَخ لِأَخِيهِ وَهُوَ كَذَلِك
وَكَذَا تقبل شَهَادَة الصّديق لصديقه وَهُوَ من صدق فِي ودادك بِأَن يهمه مَا أهمك
قَالَ ابْن الْقَاسِم وَقَلِيل ذَلِك أَي فِي زَمَانه ونادر فِي زَمَاننَا أَو مَعْدُوم (وَلَا يقبل) القَاضِي (كتاب قَاض) كتب بِهِ (إِلَى قَاض) وَلَو غير معِين أَي لَا يعْمل بِهِ (فِي) مَا أنهاه فِيهِ من (الْأَحْكَام)
كَأَن حكم فِيهِ لحاضر على غَائِب بدين (إِلَّا بعد شَهَادَة شَاهِدين) على شَهَادَة (يَشْهَدَانِ) عِنْد من وصل إِلَيْهِ من الْقُضَاة (بِمَا فِيهِ) أَي الْكتاب من الحكم
تَنْبِيه صُورَة الْكتاب كَمَا هُوَ حَاصِل كَلَام الرَّوْضَة حضر فلَان وَادّعى على فلَان الْغَائِب الْمُقِيم ببلدة كَذَا بدين وحكمت لَهُ بِحجَّة أوجبت الحكم وسألني أَن أكتب إِلَيْك بذلك فأجبته وأشهدت بالحكم شَاهِدين ويسميهما إِن لم يعدلهما وَإِلَّا فَلهُ ترك تسميتهما وَيسن خَتمه بعد قِرَاءَته على الشَّاهِدين بِحَضْرَتِهِ وَيَقُول أشهدكم أَنِّي كتبت إِلَى فلَان بِمَا سمعتما ويضعان خطيهما فِيهِ وَلَا يَكْفِيهِ أَن يَقُول أشهدكما أَن هَذَا خطي وَأَن مَا فِيهِ حكمي وَيدْفَع للشاهدين نُسْخَة أُخْرَى بِلَا ختم ليطالعاها ويتذكرا عِنْد الْحَاجة ويشهدان عِنْد القَاضِي الآخر على القَاضِي الْكَاتِب بِمَا جرى عِنْده من ثُبُوت أَو حكم إِن أنكر الْخصم

(2/622)


الْمحْضر أَن المَال الْمَذْكُور فِيهِ عَلَيْهِ فَإِن قَالَ لَيْسَ الْمَكْتُوب اسْمِي صدق بِيَمِينِهِ إِن لم يعرف بِهِ لِأَنَّهُ أخبر بِنَفسِهِ وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة
فَإِن عرف بِهِ لم يصدق بل يحكم عَلَيْهِ أَو قَالَ لست الْخصم وَقد ثَبت بِإِقْرَارِهِ أَو بِحجَّة أَنه اسْمه
حكم عَلَيْهِ إِن لم يكن ثمَّ من يشركهُ فِيهِ أَو كَانَ وَلم يعاصر الْمُدَّعِي لِأَن الظَّاهِر أَنه الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فَإِن كَانَ ثمَّ من يشركهُ فِيهِ صرعا وَالْمُدَّعِي فَإِن مَاتَ أَو أنكر الْحق بعث الْمَكْتُوب إِلَيْهِ لِلْكَاتِبِ ليطلب من الشُّهُود زِيَادَة تَمْيِيز للْمَشْهُود عَلَيْهِ ويكتبها وينهيها
ثَانِيًا لقَاضِي بلد الْغَائِب فَإِن لم يجد زِيَادَة تَمْيِيز وقف الْأَمر حَتَّى ينْكَشف فَإِن اعْترف المشارك بِالْحَقِّ طُولِبَ بِهِ وَيعْتَبر أَيْضا مَعَ المعاصرة إِمْكَان الْمُعَامَلَة كَمَا صرح بِهِ الْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيره
تَتِمَّة لَو حضر قَاضِي بلد الْغَائِب بِبَلَد الْحَاكِم للْمُدَّعِي الْحَاضِر فشافهه بِحكمِهِ على الْغَائِب أَمْضَاهُ إِذا عَاد إِلَى مَحل ولَايَته وَهُوَ حِينَئِذٍ قَضَاء بِعِلْمِهِ بِخِلَاف مَا لَو شافهه بِهِ فِي غير عمله فَلَيْسَ لَهُ إمضاؤه إِذا عَاد إِلَى مَحل ولَايَته
كَمَا قَالَه الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَلَو قَالَ قَاضِي بلد الْحَاضِر وَهُوَ فِي طرف ولَايَته لقَاضِي بلد الْغَائِب فِي طرف ولَايَته حكمت بِكَذَا على فلَان الَّذِي ببلدك نفذه لِأَنَّهُ أبلغ من الشَّهَادَة وَالْكتاب فِي الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ والإنهاء وَلَو بِغَيْر كتاب بِحكم يمْضِي مُطلقًا عَن التَّقْيِيد بفوق مَسَافَة الْعَدْوى والإنهاء بِسَمَاع حجَّة يقبل فِيمَا فَوق مَسَافَة الْعَدْوى لَا فِيمَا دونه وَفَارق الإنهاء بالحكم بِأَن الحكم قد تمّ وَلم يبْق إِلَّا الِاسْتِيفَاء بِخِلَاف سَماع الْحجَّة إِذْ يسهل إحضارها مَعَ الْقرب وَالْعبْرَة بالمسافة بِمَا بَين القاضيين لَا بِمَا بَين القَاضِي الْمنْهِي والغريم ومسافة الْعَدْوى مَا يرجع مِنْهَا مبكرا إِلَى مَحَله يَوْمه المعتدل وَسميت بذلك لِأَن القَاضِي يعدي أَي يعين من طلب خصما مِنْهَا على إِحْضَاره وَيُؤْخَذ من تَعْلِيلهم السَّابِق إِنَّه لَو عسر إِحْضَار الْحجَّة مَعَ الْقرب بِنَحْوِ مرض قبل الإنهاء كَمَا ذكره فِي الْمطلب