الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي قسم الْفَيْء
وَهُوَ مَال أَو نَحوه
ككلب ينْتَفع بِهِ حصل لنا من كفار مِمَّا هُوَ لَهُم بِلَا قتال
وَبلا إيجَاف أَي إسراع خيل وَلَا سير ركاب أَي إبل وَنَحْوهَا
كبغال وحمير وسفن ورجالة فَخرج بلنا مَا حصله أهل الذِّمَّة من أهل الْحَرْب
فَإِنَّهُ لَا ينْزع مِنْهُم وَمِمَّا هُوَ لَهُم مَا أَخَذُوهُ من مُسلم أَو ذمِّي أَو نَحوه بِغَيْر حق
فإننا لم نملكه بل نرده على مَالِكه إِن عرف وَإِلَّا فيحفظ وَمن الْفَيْء الْجِزْيَة وَعشر تِجَارَة من كفار شرطت عَلَيْهِم إِذا دخلُوا دَارنَا وخراج ضرب عَلَيْهِم على اسْم الْجِزْيَة وَمَا جلوا أَي تفَرقُوا عَنهُ وَلَو لغير خوف كضر أَصَابَهُم وَمن قتل أَو مَاتَ على الرِّدَّة أَو ذمِّي أَو نَحوه مَاتَ بِلَا وَارِث أَو ترك وَارِثا غير جَائِز ثمَّ شرع فِي قسمته بقوله (وَيقسم مَال الْفَيْء)
وَمَا ألحق بِهِ من الاختصاصات (على خمس)
لقَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى} الْآيَة (يصرف خمسه) وجوبا (على من يصرف عَلَيْهِم خمس الْغَنِيمَة) فيخمس جَمِيعه خَمْسَة أَخْمَاس مُتَسَاوِيَة كالغنيمة خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة
حَيْثُ قَالُوا لَا يُخَمّس بل جَمِيعه لمصَالح الْمُسلمين وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} الْآيَة فَأطلق هَا هُنَا وَقيد فِي الْغَنِيمَة فَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد جمعهَا بَينهمَا لِاتِّحَاد الحكم فَإِن الحكم وَاحِد وَهُوَ رُجُوع المَال من الْمُشْركين للْمُسلمين وَإِن اخْتلف السَّبَب بِالْقِتَالِ وَعَدَمه
كَمَا حملنَا الرَّقَبَة فِي الظِّهَار على المؤمنة فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم لَهُ أَرْبَعَة أخماسه وَخمْس خمسه
وَلكُل من الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين مَعَه فِي الْآيَة خمس الْخمس كَمَا مر فِي الْفَصْل قبله
وَأما بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيصْرف مَا كَانَ لَهُ من خمس الْخمس لمصالحنا كَمَا مر أَيْضا فِي الْفَصْل قبله
(وَيُعْطى أَرْبَعَة أخماسها) الَّتِي كَانَت لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته (للمقاتلة) أَي المرتزقة لعمل الْأَوَّلين بِهِ
لِأَنَّهَا كَانَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحُصُول النُّصْرَة بِهِ

(2/567)


والمقاتلون بعده هم المرصدون لِلْقِتَالِ
(فِي مصَالح الْمُسلمين) بِتَعْيِين الإِمَام لَهُم سموا مرتزقة لأَنهم أرصدوا أنفسهم للذب عَن الدّين وطلبوا الرزق من مَال الله
وَخرج بهم المتطوعة وهم الَّذين يغزون إِذا نشطوا وَإِنَّمَا يُعْطون من الزَّكَاة لَا من الْفَيْء عكس المرتزقة
تَتِمَّة يجب على الإِمَام أَن يبْحَث عَن حَال كل وَاحِد من المرتزقة وَعَمن تلْزمهُ نَفَقَتهم من أَوْلَاد وزوجات ورقيق لحَاجَة غَزْو أَو لخدمة إِن اعتادها لَا رَقِيق زِينَة وتجارة وَمَا يكفيهم فيعطيه كِفَايَته وكفايتهم من نَفَقَة وَكِسْوَة وَسَائِر الْمُؤَن بِقدر الْحَاجة ليتفرغ للْجِهَاد ويراعي فِي الْحَاجة حَاله فِي مروءته وضدها وَالْمَكَان وَالزَّمَان والرخص والغلاء وَعَادَة الْبَلَد فِي المطاعم والملابس وَيُزَاد إِن زَادَت حَاجته بِزِيَادَة ولد أَو حُدُوث زَوْجَة وَمن لَا رَقِيق لَهُ يعْطى من الرَّقِيق مَا يَحْتَاجهُ لِلْقِتَالِ مَعَه أَو لخدمته إِذا كَانَ مِمَّن يخْدم وتعطى زَوجته وَأَوْلَاده الَّذين تلْزمهُ نَفَقَتهم فِي حَيَاته إِذا مَاتَ بعد أَخذ نصِيبه لِئَلَّا يشْتَغل النَّاس بِالْكَسْبِ عَن الْجِهَاد إِذا علمُوا ضيَاع عِيَالهمْ بعدهمْ فتعطى الزَّوْجَة حَتَّى تنْكح لاستغنائها بِالزَّوْجِ وَلَو استغنت بكسب أَو إِرْث أَو نَحوه
كوصية لم تعط وَحكم أم الْوَلَد كَالزَّوْجَةِ وَكَذَا الزَّوْجَات وَيُعْطى الْأَوْلَاد حَتَّى يستقلوا بكسب أَو نَحوه
كوصية واستنبط السُّبْكِيّ رَحمَه الله تَعَالَى من هَذِه الْمَسْأَلَة أَن الْفَقِيه أَو المعيد أَو الْمدرس إِذا مَاتَ تُعْطى زَوجته وَأَوْلَاده مِمَّا كَانَ يَأْخُذ مَا يقوم بهم ترغيبا فِي الْعلم كالترغيب هُنَا فِي الْجِهَاد اه
وَفرق بَعضهم بَينهمَا بِأَن الْإِعْطَاء من الْأَمْوَال الْعَامَّة وَهِي أَمْوَال الْمصَالح أقوى من الْخَاصَّة كالأوقاف فَلَا يلْزم من التَّوَسُّع فِي تِلْكَ التَّوَسُّع فِي هَذِه لِأَنَّهُ مَال معِين أخرجه شخص لتَحْصِيل مصلحَة نشر الْعلم فِي هَذَا الْمحل الْمَخْصُوص فَكيف يصرف مَعَ انْتِفَاء الشَّرْط وَمُقْتَضى هَذَا الْفرق الصّرْف لأَوْلَاد الْعَالم من مَال الْمصَالح كفايتهم كَمَا كَانَ يصرف لأبيهم وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر

فصل فِي الْجِزْيَة تطلق
على العقد وعَلى المَال الْمُلْتَزم بِهِ وَهِي مَأْخُوذَة من المجازاة لكفنا عَنْهُم
وَقيل من الْجَزَاء بِمَعْنى الْقَضَاء قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} أَي لَا تقضى
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَة {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} وَقد أَخذهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مجوس هجر
وَقَالَ سنوا بهم سنة أهل الْكتاب كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمن أهل نَجْرَان كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن فِي أَخذهَا مَعُونَة لنا وإهانة لَهُم وَرُبمَا يحملهم ذَلِك على الْإِسْلَام
وَفسّر إِعْطَاء الْجِزْيَة فِي الْآيَة بالتزامها وَالصغَار بِالْتِزَام أحكامنا
وأركانها خَمْسَة عَاقد ومعقود لَهُ وَمَكَان وَمَال وَصِيغَة
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهِي الرُّكْن الأول مَا مر فِي شَرطهَا فِي البيع والصيغة إِيجَابا كأقررتكم أَو أَذِنت فِي إقامتكم بِدَارِنَا مثلا على أَن تلتزموا كَذَا جِزْيَة
وتنقادوا لحكمنا وقبولا نَحْو قبلنَا ورضينا وَشرط فِي الْعَاقِد كَونه إِمَامًا يعْقد بِنَفسِهِ أَو بنائبه
ثمَّ شرع المُصَنّف فِي شُرُوط الْمَعْقُود لَهُ وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي بقوله (وشرائط وجوب) ضرب (الْجِزْيَة) على الْكفَّار الْمَعْقُود

(2/568)


لَهُم (خمس خِصَال) الأولى (الب و) الثَّانِيَة (الْعقل) فَلَا يَصح عقدهَا مَعَ صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا من وليهما لعدم تكليفهما وَلَا جِزْيَة عَلَيْهِمَا
وَإِن كَانَ الْمَجْنُون بَالغا وَلَو بعد عقد الْجِزْيَة إِن أطبق جُنُونه
فَإِن تقطع وَكَانَ قَلِيلا كساعة من شهر لَزِمته وَلَا عِبْرَة بِهَذَا الزَّمن الْيَسِير وَكَذَا لَا أثر ليسير زمن الْإِفَاقَة كَمَا بَحثه بَعضهم
وَإِن كَانَ كثيرا كَيَوْم وَيَوْم فَالْأَصَحّ تلفيق زمن الْإِفَاقَة فَإِذا بلغ سنة وَجَبت جزيتهَا (و) الثَّالِثَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا يَصح عقدهَا مَعَ الرَّقِيق وَلَو مبعضا وَلَا جِزْيَة على متمحض الرّقّ إِجْمَاعًا وَلَا على الْمبعض على الْمَذْهَب
(و) الرَّابِعَة (الذكورية) فَلَا يَصح عقدهَا مَعَ امْرَأَة وَلَا جِزْيَة عَلَيْهَا لقَوْله تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} إِلَى قَوْله {وهم صاغرون} وَهُوَ خطاب للذكور وَحكى ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وروى الْبَيْهَقِيّ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن لَا تَأْخُذُوا الْجِزْيَة من النِّسَاء وَالصبيان وَلَا من خُنْثَى وَلَا جِزْيَة عَلَيْهِ لاحْتِمَال كَونه أُنْثَى فَإِن بَانَتْ ذكورته وَقد عقدت لَهُ الْجِزْيَة طالبناه بجزية الْمدَّة الْمَاضِيَة عملا بِمَا فِي نفس الْأَمر بِخِلَاف مَا لَو دخل حَرْبِيّ دَارنَا وَبَقِي مُدَّة ثمَّ اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ لَا نَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا لما مضى لعدم عقد الْجِزْيَة لَهُ وَالْخُنْثَى كَذَلِك إِذا بَانَتْ ذكورته وَلم تعقد لَهُ الْجِزْيَة وعَلى هَذَا التَّفْصِيل يحمل إِطْلَاق من صحّح الْأَخْذ مِنْهُ وَمن صحّح عَدمه
(و) الْخَامِسَة (أَن يكون) الْمَعْقُود مَعَه (من أهل الْكتاب) كاليهودي وَالنَّصْرَانِيّ من الْعَرَب والعجم الَّذين لم يعلم دُخُولهمْ فِي ذَلِك الدّين بعد نسخه لأصل أهل الْكتاب وَقد قَالَ تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ} إِلَى أَن قَالَ {الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة}
(أَو مِمَّن لَهُ شُبْهَة كتاب) كالمجوس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذهَا مِنْهُم وَقَالَ سنوا بهم سنة أهل الْكتاب وَلِأَن لَهُم شُبْهَة كتاب وَكَذَا تعقد لأَوْلَاد من تهود أَو تنصر قبل النّسخ لدينِهِ وَلَو بعد التبديل
وَإِن لم يجتنبوا الْمُبدل مِنْهُ تَغْلِيبًا لحقن الدَّم وَلَا تحل ذبيحتهم وَلَا مناكحتهم لِأَن الأَصْل فِي الميتات والأبضاع التَّحْرِيم وتقعد أَيْضا لمن شككنا فِي وَقت تهوده أَو تنصره
فَلم نَعْرِف أدخلُوا فِي ذَلِك الدّين قبل النّسخ أَو بعده تَغْلِيبًا لحقن الدَّم كالمجوس وَبِذَلِك حكمت الصَّحَابَة فِي نَصَارَى الْعَرَب وَأما الصابئة والسامرة فتعقد لَهُم الْجِزْيَة إِن لم تكفرهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلم يخالفوهم فِي أصُول دينهم وَإِلَّا فَلَا تعقد لَهُم وَكَذَا تعقد لَهُم لَو أشكل أَمرهم وتعقد لزاعم التَّمَسُّك بصحف إِبْرَاهِيم وصحف شِيث وَهُوَ ابْن آدم لصلبه
وزبور دَاوُد لِأَن الله تَعَالَى أنزل عَلَيْهِم صحفا فَقَالَ {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين}
وَتسَمى كتبا كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فاندرجت فِي قَوْله تَعَالَى {من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} وَمن أحد أَبَوَيْهِ كتابي وَالْآخر وَثني تَغْلِيبًا لحقن الدَّم وَتحرم ذَبِيحَته ومناكحته احْتِيَاطًا

(2/569)


وَأما من لَيْسَ لَهُم كتاب وَلَا شُبْهَة كتاب كعبدة الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَالْمَلَائِكَة وَمن فِي معناهم كمن يَقُول إِن الْفلك حَيّ نَاطِق وَإِن الْكَوَاكِب السَّبْعَة آلِهَة فَلَا يقرونَ بالجزية وَلَو بلغ ابْن ذمِّي وَلم يُعْط الْجِزْيَة ألحق بمأمنه
وَإِن بذلها عقدت لَهُ وَالْمذهب وُجُوبهَا على زمن وَشَيخ وهرم وأعمى وراهب وأجير لِأَنَّهَا كَأُجْرَة الدَّار وعَلى فَقير عجز عَن كسب فَإِذا تمت سنة وَهُوَ مُعسر فَفِي ذمَّته حَتَّى يوسر وَكَذَا حكم السّنة الثَّانِيَة وَمَا بعْدهَا
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ المَال بقوله (وَأَقل الْجِزْيَة دِينَار فِي كل حول) عَن كل وَاحِد لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن معَاذ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما وَجهه إِلَى الْيمن أمره أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله من المعافر وَهِي ثِيَاب تكون بِالْيمن
تَنْبِيه ظَاهر الْخَبَر أَن أقلهَا دِينَار أَو مَا قِيمَته دِينَار وَبِه أَخذ البُلْقِينِيّ وَالْمَنْصُوص الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَاب كَمَا هُوَ ظَاهر عبارَة المُصَنّف أَن أقلهَا دِينَار وَعَلِيهِ إِذا عقدهَا بِهِ جَازَ أَن يعتاض عَنهُ مَا قِيمَته دِينَار وَإِنَّمَا امْتنع عقدهَا بِمَا قِيمَته دِينَار لِأَن قِيمَته قد تنقص عَنهُ آخر الْمدَّة وَمحل كَون أقلهَا دِينَارا عِنْد قوتنا
وَإِلَّا فقد نقل الدَّارمِيّ عَن الْمَذْهَب أَنه يجوز عقدهَا بِأَقَلّ من دِينَار
نَقله الْأَذْرَعِيّ وَقَالَ إِنَّه ظَاهر مُتَّجه وَقَضِيَّة كَلَام المُصَنّف تعلق الْوُجُوب بِانْقِضَاء الْحول
وَقَالَ الْقفال اخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي أَن الْجِزْيَة تجب بِالْعقدِ وتستقر بِانْقِضَاء الْحول أَو تجب بانقضائه وَبنى عَلَيْهِمَا إِذا مَاتَ فِي أثْنَاء الْحول هَل تسْقط فَإِن قُلْنَا بِالْعقدِ لم تسْقط وَإِلَّا سَقَطت حَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن فِي الْأَسْرَار وَلَا حد لأكْثر الْجِزْيَة وَينْدب للْإِمَام مماكسة الْكَافِر الْعَاقِد لنَفسِهِ أَو لمُوكلِه فِي قدر الْجِزْيَة حَتَّى تزيد على دِينَار (و) على هَذَا (يُؤْخَذ من الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ وَمن الْمُوسر أَرْبَعَة دَنَانِير) وَمن الْفَقِير دِينَارا (اسْتِحْبَابا) اقْتِدَاء بعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ

(2/570)


رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
وَلِأَن الإِمَام متصرف للْمُسلمين فَيَنْبَغِي أَن يحْتَاط لَهُم فَإِن أمكنه أَن يعْقد بِأَكْثَرَ مِنْهُ لم يجز أَن يعْقد بِدُونِهِ إِلَّا لمصْلحَة
تَنْبِيه هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ابْتِدَاء العقد فَأَما إِذا انْعَقَد العقد على شَيْء فَلَا يجوز أَخذ شَيْء زَائِد عَلَيْهِ
كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي سير الْوَاقِدِيّ وَنَقله الزَّرْكَشِيّ عَن نَص الْأُم وَلَو عقدت الْجِزْيَة للْكفَّار بِأَكْثَرَ من دِينَار ثمَّ علمُوا بعد العقد جَوَاز دِينَار لَزِمَهُم مَا التزموه كمن اشْترى شَيْئا بِأَكْثَرَ من ثمن مثله
ثمَّ علم الْغبن فَإِن أَبَوا بذل الزِّيَادَة بعد العقد كَانُوا ناقضين للْعهد
كَمَا لَو امْتَنعُوا من أَدَاء أصل الْجِزْيَة
وَلَو أسلم ذمِّي أَو نبذ الْعَهْد أَو مَاتَ بعد سِنِين وَله وَارِث مُسْتَغْرق أخذت جزيتهن مِنْهُ فِي الأولتين وَمِنْه تركته فِي الثَّالِثَة مُقَدّمَة على حق الْوَرَثَة كالخراج وَسَائِر الدُّيُون
أما إِذا لم يخلف وَارِثا فتركته فَيْء أَو أسلم أَو نبذ الْعَهْد أَو مَاتَ فِي خلال سنة
فقسط لما مضى كالأجرة
(وَيجوز) كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَام الْجُمْهُور وَالرَّاجِح كَمَا فِي الْمِنْهَاج أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام (أَن يشْتَرط) بِنَفسِهِ أَو بنائبه (عَلَيْهِم) أَي على غير فَقير من غَنِي أَو متوسط فِي العقد برضاهم (الضِّيَافَة) أَي ضِيَافَة من يمر بهم منا بِخِلَاف الْفَقِير فَإِنَّهَا تَتَكَرَّر فَلَا تتيسر لَهُ (فضلا) أَي فَاضلا (عَن مِقْدَار الْجِزْيَة) لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على الْإِبَاحَة والجزية على التَّمْلِيك وَيجْعَل ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام فَأَقل
وَيذكر عدد ضيفان رجلا وخيلا لِأَنَّهُ أنفى للغرر وأقطع للنزاع بِأَن يشْتَرط ذَلِك على كل مِنْهُم أَو على الْمَجْمُوع كَأَن يَقُول وتضيفون فِي كل سنة ألف مُسلم وهم يتوزعون فِيمَا بَينهم أَو يتَحَمَّل بَعضهم عَن بعض وَيذكر منزلهم ككنيسة أَو فَاضل مسكن وجنس طَعَام وأدم وقدرهم لكل منا وَيذكر الْعلف للدواب وَلَا يشْتَرط ذكر جنسه وَلَا قدره وَيحمل على تبن وَنَحْوه
بِحَسب الْعَادة إِلَّا الشّعير وَنَحْوه كالفول إِن ذكره فيقدره وَلَو كَانَ لوَاحِد دَوَاب وَلم يعين عددا مِنْهَا لم يعلف لَهُ إِلَّا وَاحِدَة على النَّص
وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا روى الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَالح أهل أَيْلَة على ثَلَاثمِائَة دِينَار وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة رجل وعَلى ضِيَافَة من يمر بهم من الْمُسلمين وروى الشَّيْخَانِ خبر الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام وَليكن الْمنزل بِحَيْثُ يدْفع الْحر وَالْبرد
والركن الرَّابِع الْعَاقِد وَشرط فِيهِ كَونه إِمَامًا فيعقد بِنَفسِهِ أَو بنائبه
فَلَا يَصح عقدهَا من غَيره لِأَنَّهَا من الْأُمُور الْكُلية فتحتاج إِلَى نظر واجتهاد
لَكِن لَا يغتال الْمَعْقُود لَهُ بل يبلغ مأمنه وَعَلِيهِ إجابتهم إِذا طلبُوا وَأمن إِذا لم يخف غائلتهم ومكيدتهم

(2/571)


فَإِن خَافَ ذَلِك كَأَن يكون الطَّالِب جاسوسا يخَاف شرهم لم يجبهم
وَالْأَصْل فِي ذَلِك خبر مُسلم عَن بُرَيْدَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو سَرِيَّة أوصاه إِلَى أَن قَالَ فَإِن هم أَبَوا فاسألهم الْجِزْيَة فَإِن هم أجابوا فاقبل مِنْهُم وكف عَنْهُم وَيسْتَثْنى الْأَسير إِذا طلب عقدهَا فَلَا يجب تَقْرِيره بهَا
والركن الْخَامِس الْمَكَان وَيشْتَرط فِيهِ قبُوله للتقرير فِيهِ فَيمْنَع كَافِر وَلَو ذِمِّيا إِقَامَة بالحجاز وَهُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة واليمامة وطرق الثَّلَاثَة وقراها
كالطائف لمَكَّة وخيبر للمدينة فَلَو دخله بِغَيْر إِذن الإِمَام أخرجه مِنْهُ وعزره إِن كَانَ عَالما بِالتَّحْرِيمِ وَلَا يَأْذَن لَهُ فِي دُخُولهَا الْحجاز غير حرم مَكَّة إِلَّا لمصْلحَة لنا كرسالة وتجارة فِيهَا كَبِير حَاجَة فَإِن لم يكن فِيهَا كَبِير حَاجَة لم يَأْذَن لَهُ إِلَّا بِشَرْط أَخذ شَيْء من متاعها كالعشر وَلَا يُقيم فِيهِ بعد الْإِذْن لَهُ إِلَّا ثَلَاثَة أَيَّام فَلَو أَقَامَ فِي مَوضِع ثَلَاثَة أَيَّام
ثمَّ انْتقل إِلَى آخر أَي وَبَينهمَا مَسَافَة الْقصر وَهَكَذَا فَلَا منع فَإِن مرض فِيهِ وشق نَقله مِنْهُ أَو خيف مِنْهُ مَوته ترك مُرَاعَاة لأعظم الضررين فَإِن مَاتَ فِيهِ وشق نَقله مِنْهُ دفن فِيهِ للضَّرُورَة نعم الْحَرْبِيّ لَا يجب دَفنه وَلَا يدْخل حرم مَكَّة وَلَو لمصْلحَة لقَوْله تَعَالَى {فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام} وَالْمرَاد جَمِيع الْحرم لقَوْله تَعَالَى {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} أَي فقرا بمنعهم من الْحرم
وَانْقِطَاع مَا كَانَ لكم بقدومهم من المكاسب {فَسَوف يغنيكم الله من فَضله} وَمَعْلُوم أَن الجلب إِنَّمَا يجلب إِلَى الْبَلَد لَا إِلَى الْمَسْجِد نَفسه
وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَنهم أخرجُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فعوقبوا بِالْمَنْعِ من دُخُوله بِكُل حَال
فَإِن كَانَ رَسُولا خرج إِلَيْهِ الإِمَام بِنَفسِهِ أَو نَائِبه يسمعهُ فَإِن مرض فِيهِ أخرج مِنْهُ وَإِن خيف مَوته فَإِن مَاتَ فِيهِ لم يدْفن فِيهِ فَإِن دفن فِيهِ نبش وَأخرج مِنْهُ إِلَى الْحل لِأَن بَقَاء جيفته فِيهِ أَشد من دُخُوله حَيا
وَلَا يجْرِي هَذَا الحكم فِي حرم الْمَدِينَة لاخْتِصَاص حرم مَكَّة بالنسك
وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدخل الْكفَّار مَسْجده وَكَانَ ذَلِك بعد نزُول بَرَاءَة
(ويتضمن عقد الذِّمَّة) أَي الْجِزْيَة الْمُشْتَملَة على هَذِه الْأَركان الْخَمْسَة
وَقد قَالَ البُلْقِينِيّ نفس العقد يَشْمَل الْإِيجَاب وَالْقَبُول وَالْقدر الْمَأْخُوذ والموجب والقابل فَجعله متضمنا لغالب الْأَركان
ثمَّ بَين مَا تضمنه بقوله (أَرْبَعَة أَشْيَاء) الأول (أَن يؤدوا الْجِزْيَة عَن يَد) أَي ذلة (وصغار) أَي احتقار وأشده على الْمَرْء أَن يحكم عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدهُ ويضطر إِلَى احْتِمَاله قَالَه فِي الزَّوَائِد
فتؤخذ بِرِفْق كَسَائِر الدُّيُون وَيَكْفِي فِي الصغار الْمَذْكُور فِي آياتها أَن يجرى عَلَيْهِ الحكم بِمَا لَا يعْتَقد حلّه كَمَا فسره الْأَصْحَاب بذلك وَتَفْسِيره بِأَن يجلس الْآخِذ وَيقوم الْكَافِر ويطأطىء رَأسه ويحني ظَهره وَيَضَع الْجِزْيَة فِي الْمِيزَان وَيقبض الْآخِذ لحيته وَيضْرب لهزمتيه
وهما مُجْتَمع اللَّحْم بَين الماضغ وَالْأُذن من الْجَانِبَيْنِ مَرْدُود بِأَن هَذِه الْهَيْئَة بَاطِلَة وَدَعوى استحبابها أَو وُجُوبهَا أَشد بطلانا وَلم ينْقل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحدا من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فعل شَيْئا مِنْهَا
(و) الثَّانِي (أَن تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْإِسْلَام) فِي غير الْعِبَادَات من حُقُوق الْآدَمِيّين فِي الْمُعَامَلَات وغرامة الْمُتْلفَات
وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة دون مَا لَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كشرب الْخمر وَنِكَاح الْمَجُوس
وَإِنَّمَا وَجب التَّعَرُّض لذَلِك

(2/572)


فِي الْإِيجَاب لِأَن الْجِزْيَة مَعَ الانقياد والاستسلام كالعوض عَن التَّقْرِير فَيجب التَّعَرُّض لَهُ كَالثّمنِ فِي البيع وَالْأُجْرَة فِي الْإِجَارَة
وَهَذَا فِي حق الرجل وَأما الْمَرْأَة فَيَكْفِي فِيهَا الانقياد لحكم الْإِسْلَام فَقَط
(و) الثَّالِث (أَن لَا يذكرُوا دين الْإِسْلَام إِلَّا بِخَير) لإعزازه
فَلَو خالفوا وطعنوا فِيهِ أَو فِي الْقُرْآن الْعَظِيم أَو ذكرُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا لَا يَلِيق بِقَدرِهِ الْعَظِيم عزروا وَالأَصَح أَنه إِن شَرط انْتِقَاض الْعَهْد بذلك انْتقض وَإِلَّا فَلَا
(و) الرَّابِع (أَن لَا يَفْعَلُوا مَا فِيهِ ضَرَر للْمُسلمين) كَأَن قاتلوهم وَلَا شُبْهَة لَهُم أَو امْتَنعُوا من أَدَاء الْجِزْيَة أَو من إِجْرَاء حكم الْإِسْلَام عَلَيْهِم فَإِن فعلوا شَيْئا من ذَلِك انْتقض عَهدهم وَإِن لم يشرط الإِمَام عَلَيْهِم الانتقاض بِهِ وَيمْنَعُونَ أَيْضا من سقيهم خمرًا وإطعامهم خنزيرا أَو إسماعهم قولا شركا كَقَوْلِهِم الله ثَالِث ثَلَاثَة تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَمن إِظْهَار خمر وخنزير وناقوس وَعِيد وَمَتى أظهرُوا خمورهم أريقت وَقِيَاسه إِتْلَاف الناقوس وَهُوَ مَا يضْرب بِهِ النَّصَارَى لأوقات الصَّلَاة إِذا أظهروه وَمن إِحْدَاث كَنِيسَة وبيعة وصومعة للرهبان وَبَيت نَار للمجوس فِي بلد أحدثناه كبغداد والقاهرة أَو أسلم أَهله عَلَيْهِ كالمدينة الشَّرِيفَة
واليمن لما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تبن كَنِيسَة فِي الْإِسْلَام وَلِأَن إِحْدَاث ذَلِك مَعْصِيّة فَلَا يجوز فِي دَار الْإِسْلَام فَإِن بنوا ذَلِك هدم سَوَاء أشرط عَلَيْهِم أم لَا
وَلَا يحدثُونَ ذَلِك فِي بَلْدَة فتحت عنْوَة كمصر وأصبهان لِأَن الْمُسلمين ملكوها بِالِاسْتِيلَاءِ فَيمْتَنع جعلهَا كَنِيسَة وكما لَا يجوز إحداثها لَا يجوز إِعَادَتهَا إِذا انْهَدَمت وَلَا يقرونَ على كَنِيسَة كَانَت فِيهِ لما مر
وَلَو فتحنا الْبَلَد صلحا كبيت الْمُقَدّس بِشَرْط كَون الأَرْض لنا وَشرط إسكانهم فِيهَا بخراج وإبقاء الْكَنَائِس أَو إحداثها جَازَ
لِأَنَّهُ إِذا جَازَ الصُّلْح على أَن كل الْبَلَد لَهُم فعلى بعضه أولى فَلَو أطلق الصُّلْح وَلم يذكر فِيهِ إبْقَاء الْكَنَائِس وَلَا عَدمه فَالْأَصَحّ الْمَنْع من إبقائها فيهدم مَا فِيهَا من الْكَنَائِس
لِأَن إِطْلَاق اللَّفْظ يَقْتَضِي صيرورة جَمِيع الْبَلَد لنا أَو بِشَرْط الأَرْض لَهُم ويؤدون خراجها قررت كنائسهم لِأَنَّهَا ملكهم وَلَهُم الإحداث فِي الْأَصَح وَيمْنَعُونَ وجوبا من رفع بِنَاء لَهُم على بِنَاء جَار لَهُم مُسلم لخَبر الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَلِئَلَّا يطلع على عوراتنا
وَلَا فرق بَين أَن يرضى الْجَار بذلك أم لَا
لِأَن الْمَنْع من ذَلِك لحق الدّين لَا لمحض حق الدَّار
وَالأَصَح الْمَنْع من الْمُسَاوَاة أَيْضا فَإِن كَانُوا بمحلة مُنْفَصِلَة عَن الْمُسلمين كطرف من الْبَلَد لم يمنعوا من رفع الْبناء (ويعرفون) بِضَم حرف المضارعة مَعَ تَشْدِيد الرَّاء الْمَفْتُوحَة على الْبناء للْمَفْعُول أَي نعرفهم ونأمرهم أَي أهل الذِّمَّة المكلفون فِي دَار الْإِسْلَام
وجوبا أَنهم يتميزون عَن الْمُسلمين (بِلبْس الغيار) بِكَسْر الْمُعْجَمَة وَإِن لم يشرط عَلَيْهِم وَهُوَ أَن يخيط

(2/573)


كل مِنْهُم من ذكر أَو غَيره بِموضع لَا يعْتَاد الْخياطَة عَلَيْهِ كالكتف على ثَوْبه الظَّاهِر مَا يُخَالف لَونه لون ثَوْبه ويلبسه وَذَلِكَ للتمييز وَلِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَالحهمْ على تَغْيِير زيهم بِمحضر من الصَّحَابَة كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
فَإِن قيل لم لم يفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا بيهود الْمَدِينَة أُجِيب بِأَنَّهُم كَانُوا قليلين معروفين فَلَمَّا كَثُرُوا فِي زمن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وخافوا من التباسهم بِالْمُسْلِمين احتاجوا إِلَى تمييزهم وإلقاء منديل وَنَحْوه كالخياطة وَالْأولَى باليهود الْأَصْفَر وبالنصارى الْأَزْرَق أَو الأكهب وَيُقَال لَهُ الرَّمَادِي وبالمجوسي الْأَحْمَر أَو الْأسود (وَشد الزنار) أَي ويؤمرون بذلك أَيْضا وَهُوَ بِضَم الْمُعْجَمَة خيط غليظ يشد فِي الْوسط فَوق الثِّيَاب لِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَالحهمْ عَلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ هَذَا فِي الرجل أما الْمَرْأَة فتشده تَحت الْإِزَار كَمَا صرح بِهِ فِي التَّنْبِيه وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن التَّهْذِيب وَغَيره
لَكِن مَعَ ظُهُور بعضه حَتَّى يحصل بِهِ فَائِدَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيَسْتَوِي فِيهِ سَائِر الألوان قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَلَيْسَ لَهُم إِبْدَاله بمنطقة ومنديل وَنَحْوهمَا وَالْجمع بَين الغيار والزنار أولى وَلَيْسَ بِوَاجِب وَمن لبس مِنْهُم قلنسوة يميزها عَن قلانسنا بعلامة فِيهَا وَإِذا دخل الذِّمِّيّ مُجَردا حَماما فِيهِ مُسلمُونَ أَو تجرد عَن ثِيَابه بَين الْمُسلمين فِي غير حمام جعل وجوبا فِي عُنُقه خَاتم حَدِيد أَو رصاص أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يَجعله من ذهب وَلَا فضَّة قَالَ الزَّرْكَشِيّ والخاتم طوق يكون فِي الْعُنُق قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَيجب الْقطع بمنعهم من التَّشَبُّه بلباس أهل الْعلم والقضاة وَنَحْوهم لما فِي ذَلِك من التعاظم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيمْنَعُونَ من التَّخَتُّم بِالذَّهَب وَالْفِضَّة لما فِيهِ من التطاول والمباهاة وَتجْعَل الْمَرْأَة خفها لونين وَلَا يشْتَرط التَّمْيِيز بِكُل هَذِه الْوُجُوه بل يَكْفِي بَعْضهَا قَالَ الْحَلِيمِيّ وَلَا يَنْبَغِي لفعلة الْمُسلمين وصياغهم أَن يعملوا للْمُشْرِكين كَنِيسَة أَو صليبا وَأما نسج الزنانير فَلَا بَأْس بِهِ لِأَن فِيهَا صغَارًا لَهُم
(وَيمْنَعُونَ) أَي الذُّكُور المكلفون فِي بِلَاد الْمُسلمين وجوبا
(من ركُوب الْخَيل) لقَوْله تَعَالَى {وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} فَأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه وَلما فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامه أَنه لَا فرق فِي منع ركُوب الْخَيل بَين النفيس مِنْهَا والخسيس وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور
بِخِلَاف الْحمير وَالْبِغَال وَلَو نفيسة لِأَنَّهَا فِي نَفسهَا خسيسة وَإِن كَانَ أَكثر أَعْيَان النَّاس يركبونها ويركب بإكاف وركاب خشب لَا حَدِيد
وَنَحْوه وَلَا سرج اتبَاعا لكتاب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَالْمعْنَى فِيهِ أَن يتميزوا عَن الْمُسلمين ويركب عرضا بِأَن يَجْعَل رجلَيْهِ من جَانب وَاحِد وظهره من جَانب آخر
قَالَ الرَّافِعِيّ وَيحسن أَن يتوسط فَيُفَرق بَين أَن يركب إِلَى مَسَافَة قريبَة من الْبَلَد أَو بعيدَة وَهُوَ ظَاهر وَيمْنَع من حمل السِّلَاح وَمن اللجم المزينة بالنقدين أما النِّسَاء وَالصبيان وَنَحْوهمَا فَلَا يمْنَعُونَ من ذَلِك كَمَا لَا جِزْيَة عَلَيْهِم
قَالَ ابْن الصّلاح وَيَنْبَغِي مَنعهم من خدمَة الْمُلُوك والأمراء كَمَا يمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل
(ويلجؤون) عِنْد زحمة الْمُسلمين (إِلَى أضيق الطّرق) بِحَيْثُ لَا يقعون فِي وهدة وَلَا يصدمهم جِدَار لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تبدأوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذا لَقِيتُم أحدهم فِي طَرِيق فاضطروهم إِلَى أضيقه أما إِذا خلت الطَّرِيق عَن الزحمة فَلَا حرج
قَالَ فِي الْحَاوِي وَلَا يَمْشُونَ إِلَّا أفرادا مُتَفَرّقين وَلَا يوقرون فِي مجْلِس فِيهِ مُسلم لِأَن الله تَعَالَى أذلّهم وَالظَّاهِر كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ تَحْرِيم ذَلِك
خَاتِمَة تحرم مَوَدَّة الْكَافِر لقَوْله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله}

(2/574)


فَإِن قيل قد مر فِي بَاب الْوَلِيمَة أَن مُخَالطَة الْكفَّار مَكْرُوهَة أُجِيب بِأَن المخالطة ترجع إِلَى الظَّاهِر والمودة إِلَى الْميل القلبي
فَإِن قيل الْميل القلبي لَا اخْتِيَار للشَّخْص فِيهِ
أُجِيب بِإِمْكَان دَفعه بِقطع أَسبَاب الْمَوَدَّة الَّتِي ينشأ عَنْهَا ميل الْقلب كَمَا قيل إِن الْإِسَاءَة تقطع عروق الْمحبَّة
وَالْأولَى للْإِمَام أَن يكْتب بعد عقد الذِّمَّة اسْم من عقد لَهُ وَدينه وحليته
ويتعرض لسنه أهوَ شيخ أم شَاب ويصف أعضاءه الظَّاهِرَة من وَجهه ولحيته وحاجبيه وَعَيْنَيْهِ وشفتيه وَأَنْفه وأسنانه وآثار وَجهه إِن كَانَ فِيهِ آثَار ولونه من سَمُرَة أَو شقرة وَغَيرهمَا
وَيجْعَل لكل من طوائفهم عريفا مُسلما يضبطهم ليعرفه بِمن مَاتَ أَو أسلم أَو بلغ مِنْهُم أَو دخل فيهم
وَأما من يحضرهم ليؤدي كل مِنْهُم الْجِزْيَة أَو يشتكي إِلَى الإِمَام من يعتدي عَلَيْهِم منا أَو مِنْهُم فَيجوز جعله عريفا لذَلِك وَلَو كَانَ كَافِرًا وَإِنَّمَا اشْترط إِسْلَامه فِي الْغَرَض الأول لِأَن الْكَافِر لَا يعْتَمد خَبره
تَعَالَى {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} والذبائح جمع ذَبِيحَة بِمَعْنى

(2/575)


= كتاب الصَّيْد والذبائح = مصدر صَاد يصيد ثمَّ أطلق الصَّيْد على المصيد قَالَ مذبوحة وَلما كَانَ الصَّيْد مصدرا أفرده المُصَنّف وَجمع الذَّبَائِح لِأَنَّهَا تكون بالسكين أَو السهْم أَو الْجَوَارِح
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَقَوله تَعَالَى {إِلَّا مَا ذكيتم} وَقَوله تَعَالَى {أحل لكم الطَّيِّبَات} والمذكى من الطَّيِّبَات
تَنْبِيه ذكر المُصَنّف كالمنهاج وَأكْثر الْأَصْحَاب هَذَا الْكتاب وَمَا بعده هُنَا وفَاقا للمزني
وَخَالف فِي الرَّوْضَة فَذكره آخر ربع الْعِبَادَات تبعا لطائفة من الْأَصْحَاب قَالَ وَهُوَ أنسب
قَالَ ابْن قَاسم وَلَعَلَّ وَجه الأنسبية أَن طلب الْحَلَال فرض عين اه
(وأركان الذّبْح) بِالْمَعْنَى الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ أَرْبَعَة ذبح وَآلَة وذبيح وذابح
وَقد شرع فِي بَيَان ذَلِك فَقَالَ (وَمَا قدر) بِضَم الْقَاف على الْبناء للْمَفْعُول (على ذَكَاته) بِالْمُعْجَمَةِ أَي ذبحه من الْحَيَوَان الْمَأْكُول (فذكاته) اسْتِقْلَالا (فِي حلقه ولبته) إِجْمَاعًا هَذَا هُوَ الرُّكْن الأول وَالثَّانِي وَهُوَ الذّبْح والذبيح وَالْحلق أَعلَى الْعُنُق واللبة بِفَتْح اللَّام وَالْبَاء المشددتين أَسْفَله وقيدت إِطْلَاقه بالاستقلال لِأَنَّهُ مُرَاده فَلَا يرد حل الْجَنِين الْمَوْجُود مَيتا فِي بطن أمه وَلم يذبح وَلم يعقر لِأَن حلّه بطرِيق التّبعِيَّة لذكاة أمه
كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه
وَيشْتَرط فِي الذّبْح قصد فَلَو سَقَطت مدية على مذبح شَاة أَو احتكت بهَا فانذبحت أَو استرسلت جارحة بِنَفسِهَا

(2/576)


فقتلت أَو أرسل سَهْما لَا لصيد فَقتل صيدا حرم كجارحة أرسلها وَغَابَتْ عَنهُ مَعَ الصَّيْد أَو جرحته
وَلم ينْتَه بِالْجرْحِ إِلَى حَرَكَة مَذْبُوح وَغَابَتْ ثمَّ وجده مَيتا فيهمَا فَإِنَّهُ يحرم لاحْتِمَال أَن مَوته بِسَبَب آخر وَمَا ذكر من التَّحْرِيم فِي الثَّانِيَة هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَإِن اخْتَار النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيحه الْحل وَلَو رمى شَيْئا ظَنّه حجرا أَو رمى قطيع ظباء فَأصَاب وَاحِدَة مِنْهُ أَو قصد وَاحِدَة مِنْهُ فَأصَاب غَيرهَا حل ذَلِك لصِحَّة قَصده وَلَا اعْتِبَار بظنه الْمَذْكُور
(وَمَا لم يقدر) بِضَم حرف المضارعة على الْبناء للْمَفْعُول (على ذَكَاته) لكَونه متوحشا كالضبع
(فذكاته عقره) أَي بِجرح مزهق للروح فِي أَي مَوضِع كَانَ الْعقر من بدنه بِالْإِجْمَاع وَلَو توحش إنسي كبعير ند فَهُوَ كالصيد يحل بجرحه فِي غير مذبحه
(حَيْثُ قدر عَلَيْهِ) بالظفر بِهِ وَيحل بإرسال الْكَلْب عَلَيْهِ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه تنَاول إِطْلَاق المُصَنّف مَا لَو تردى بعير فِي بِئْر وَلم يقدر على ذَكَاته فَيحل بجرحه فِي غير المذبح
وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح فِي الزَّوَائِد وَلَا يحل بإرسال الْكَلْب عَلَيْهِ كَمَا صَححهُ فِي الْمِنْهَاج من زِيَادَته وَالْفرق أَن الْحَدِيد يستباح بِهِ الذّبْح مَعَ الْقُدْرَة بِخِلَاف فعل الْجَارِحَة وَلَو تردى بعير فَوق بعير فغرز رمحا فِي الأول حَتَّى نفذ مِنْهُ إِلَى الثَّانِي حلا وَإِن لم يعلم بِالثَّانِي قَالَه القَاضِي فَإِن مَاتَ الْأَسْفَل بثقل الْأَعْلَى لم يحل وَلَو دخلت الطعنة إِلَيْهِ وَشك هَل مَاتَ بهَا أَو بالثقل لم يحل كَمَا هُوَ قَضِيَّة مَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ
(وَيسْتَحب فِي الذَّكَاة)
أَي ذَكَاة الْحَيَوَان الْمَقْدُور عَلَيْهِ (أَرْبَعَة أَشْيَاء) الأول (قطع) كل (الْحُلْقُوم) وَهُوَ مجْرى النَّفس
(و) الثَّانِي قطع كل (المريء) وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَالْمدّ والهمزة فِي آخِره مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب
(و) الثَّالِث وَالرَّابِع قطع كل (الودجين) بِفَتْح الْوَاو وَالدَّال الْمُهْملَة وَالْجِيم وهما عرقان فِي صفحتي الْعُنُق محيطان بالحلقوم وَقيل بالمريء وهما الوريدان من الْآدَمِيّ لِأَنَّهُ أوحى وأسهل لخُرُوج الرّوح فَهُوَ من الْإِحْسَان فِي الذّبْح وَلَا يسْتَحبّ قطع مَا وَرَاء ذَلِك
تَنْبِيه مُرَاد المُصَنّف أَن قطع هَذِه الْأَرْبَعَة مُسْتَحبّ
لَا أَن قطع كل وَاحِد مُسْتَحبّ على انْفِرَاده من غير قطع الْبَاقِي إِذْ قطع الْحُلْقُوم والمريء وَاجِب وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والمجزىء مِنْهَا) أَي الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة فِي الْحل (شَيْئَانِ) وهما (قطع) كل الْحُلْقُوم و (كل المريء) مَعَ وجود الْحَيَاة المستقرة أول قطعهمَا لِأَن الذَّكَاة صادفته وَهُوَ حَيّ كَمَا لَو قطع يَد حَيَوَان ثمَّ ذكاه فَإِن شرع فِي قطعهمَا وَلم تكن فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة بل انْتهى لحركة مَذْبُوح لم يحل لِأَنَّهُ صَار ميتَة فَلَا يفِيدهُ الذّبْح بعد ذَلِك

(2/577)


تَنْبِيه لَو ذبح شخص حَيَوَانا وَأخرج آخر أمعاءه أَو نخس خاصرته مَعًا لم يحل لِأَن التذفيف لم يتمحض بِقطع الْحُلْقُوم والمريء قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة سَوَاء أَكَانَ مَا قطع بِهِ الْحُلْقُوم مَا يذفف أَو انْفَرد أَو كَانَ يعين على التذفيف وَلَو اقْترن قطع الْحُلْقُوم بِقطع رَقَبَة الشَّاة من قفاها بِأَن أجْرى سكينا من الْقَفَا وسكينا من الْحُلْقُوم حَتَّى التقيا فَهِيَ ميتَة كَمَا صرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة لِأَن التذفيف إِنَّمَا حصل بذبحين وَلَا يشْتَرط الْعلم بِوُجُود الْحَيَاة المستقرة عِنْد الذّبْح
بل يَكْفِي الظَّن بوجودها بِقَرِينَة وَلَو عرفت بِشدَّة الْحَرَكَة أَو انفجار الدَّم وَمحل ذَلِك مَا لم يتقدمه مَا يُحَال عَلَيْهِ الْهَلَاك
فَلَو وصل بِجرح إِلَى حَرَكَة الْمَذْبُوح وَفِيه شدَّة الْحَرَكَة ثمَّ ذبح لم يحل
وَحَاصِله أَن الْحَيَاة المستقرة عِنْد الذّبْح تَارَة تتيقن وَتارَة تظن بعلامات وقرائن فَإِن شككنا فِي استقرارها حرم للشَّكّ فِي الْمُبِيح وتغليبا للتَّحْرِيم
فَإِن مرض أَو جَاع فذبحه وَقد صَار فِي آخر رَمق حل لِأَنَّهُ لم يُوجد سَبَب يُحَال الْهَلَاك عَلَيْهِ
وَلَو مرض بِأَكْل نَبَات مُضر حَتَّى صَار آخر رَمق كَانَ سَببا يُحَال عَلَيْهِ الْهَلَاك
فَلم يحل على الْمُعْتَمد وَلَا يشْتَرط فِي الذَّكَاة قطع الْجلْدَة الَّتِي فَوق الْحُلْقُوم والمريء فَلَو أَدخل سكينا بأذن ثَعْلَب مثلا وَقطع الْحُلْقُوم والمريء دَاخل الْجلد لأجل جلده وَبِه حَيَاة مُسْتَقِرَّة حل وَإِن حرم عَلَيْهِ للتعذيب وَيسن نحر إبل فِي اللبة وَهِي أَسْفَل الْعُنُق كَمَا مر لقَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} وللأمر بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه أسهل لخُرُوج الرّوح لطول عُنُقهَا
وَقِيَاس هَذَا كَمَا قَالَ ابْن الرّفْعَة أَن يَأْتِي فِي كل مَا طَال عُنُقه كالنعام والإوز والبط
وَيسن ذبح بقر وغنم وَنَحْوهمَا
كخيل بِقطع الْحُلْقُوم والمريء لِلِاتِّبَاعِ وَيجوز بِلَا كَرَاهَة عَكسه وَيسن أَن يكون نحر الْبَعِير قَائِما معقولة ركبته وَهِي الْيُسْرَى كَمَا فِي الْمَجْمُوع لقَوْله تَعَالَى {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف} قَالَ ابْن عَبَّاس أَي قيَاما على ثَلَاثَة رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
وَأَن يكون نحر الْبَقَرَة أَو الشَّاة مضجعه لجنبها الْأَيْسَر وتترك رجلهَا الْيُمْنَى بِلَا تشد وتشد بَاقِي القوائم وَيسن الذَّابِح أَن يحد سكينه لخَبر مُسلم إِن الله كتب الأحسان على كل شَيْء فَإِذا قُلْتُمْ فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته وَأَن يُوَجه للْقبْلَة ذَبِيحَته وَأَن يَقُول عِنْد ذَبحهَا بِسم الله
وَأَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك وَلَا يقل بِسم الله وَاسم مُحَمَّد لإيهامه التَّشْرِيك
(وَيجوز) لمن تحل ذَكَاته لَا لغيره (الِاصْطِيَاد) أَي أكل المصاد بِالشّرطِ الْآتِي فِي غير الْمَقْدُور عَلَيْهِ
(بِكُل جارحة من

(2/578)


سِبَاع الْبَهَائِم) كَالْكَلْبِ والفهد فِي أَي مَوضِع كَانَ جرحها حَيْثُ لم يكن فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة
بِأَن أدْركهُ مَيتا أَو فِي حَرَكَة الْمَذْبُوح
أما الِاصْطِيَاد بِمَعْنى إِثْبَات الْملك فَلَا يخْتَص بالجوارح بل يحصل بِكُل طَرِيق تيَسّر
والجارحة كل مَا يجرح سمي بذلك لجرحه الطير بظفره أَو نابه
وَقَوله (معلمة) بِالْجَرِّ صفة لجارحة (و) من (جوارح الطير) كالباز والصقر لقَوْله تَعَالَى {أحل لكم الطَّيِّبَات وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح} أَي صيد مَا علمْتُم
(وشرائط تعليمها) أَي جارحة السبَاع وَالطير (أَرْبَعَة) الأول (أَن تكون) الْجَارِحَة معلمة بِحَيْثُ (إِذا أرْسلت) أَي أرسلها صَاحبهَا (استرسلت) أَي هَاجَتْ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع
لقَوْله تَعَالَى {مكلبين} قَالَ الشَّافِعِي إِذا أمرت الْكَلْب فائتمر وَإِذا نهيته فَانْتهى فَهُوَ مكلب
(و) الثَّانِي (إِذا زجرت) أَي زجرها صَاحبهَا فِي ابْتِدَاء الْأَمر وَبعده
(انزجرت) أَي وقفت (و) الثَّالِث (إِذا قتلت) صيدا (لم تَأْكُل من الصَّيْد) أَي من لَحْمه أَو نَحوه كجلده وحشوته شَيْئا قبل قَتله أَو عقبه وَمَا قررت بِهِ كَلَام المُصَنّف من اشْتِرَاط جَمِيع هَذِه الْأُمُور فِي جارحة السبَاع وَالطير
هُوَ مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي كَمَا نَقله البُلْقِينِيّ كَغَيْرِهِ
ثمَّ قَالَ وَلم يُخَالِفهُ أحد من الْأَصْحَاب وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَام الْمِنْهَاج كالروضة يُخَالف ذَلِك حَيْثُ خصها بجارحة السبَاع وَشرط فِي جارحة الطير ترك الْأكل فَقَط
(و) الرَّابِع
(أَن يتَكَرَّر ذَلِك) أَي هَذِه الْأُمُور الْمُعْتَبرَة فِي التَّعْلِيم (مِنْهَا) بِحَيْثُ يظنّ تأدب الْجَارِحَة وَلَا يَنْضَبِط ذَلِك بِعَدَد بل الرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى أهل الْخِبْرَة بالجوارح
(فَإِن عدم أحد هَذِه الشُّرُوط) الْمُعْتَبرَة فِي التَّعْلِيم (لم يحل) أكل (مَا أَخَذته) أَي جرحته من الصَّيْد بِحَيْثُ لم يبْق فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة بِالْإِجْمَاع كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع (إِلَّا أَن يدْرك حَيا) أَي يجد فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة
(فيذكى) حِينَئِذٍ فَيحل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فِي حَدِيثه وَمَا صدت بكلبك غير الْمعلم فأدركت ذَكَاته فَكل مُتَّفق عَلَيْهِ
تَنْبِيه عَلامَة الْحَيَاة المستقرة شدَّة الْحَرَكَة بعد قطع الْحُلْقُوم والمريء على الْأَصَح فِي الزَّوَائِد وَالْمَجْمُوع وَقَالَ فِيهِ يَكْتَفِي بهَا وَحدهَا وَلَو لم يجر الدَّم على الصَّحِيح الْمُعْتَمد وَقد مرت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك مَعَ تَفْصِيل تقدم وَلَو ظهر بِمَا ذكر من الشُّرُوط كَونهَا معلمة ثمَّ أكلت من لحم صيد أَو نَحوه مِمَّا مر لم يحل ذَلِك الصَّيْد فِي الْأَظْهر
هَذَا إِذا أرسلها صَاحبهَا فَإِن استرسلت بِنَفسِهَا فقتلت وأكلت لم يقْدَح ذَلِك فِي تعليمها وَلَا أثر للعق الدَّم
لِأَنَّهُ لَا يقْصد للصائد فَصَارَ كتناوله الفرث ومعض الْكَلْب من الصَّيْد نجس كَغَيْرِهِ مِمَّا يُنجسهُ الْكَلْب وَالأَصَح أَنه لَا يُعْفَى عَنهُ وَأَنه يَكْفِي غسله سبعا بِمَاء وتراب فِي إِحْدَاهَا كَغَيْرِهِ وَأَنه لَا يجب أَن يقور المعض ويطرح لِأَنَّهُ لم يرد وَلَو تحاملت الْجَارِحَة على صيد فَقتلته بثقلها أَو نَحوه كعضها وصدمتها وَلم تجرحه حل فِي الْأَظْهر لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم}

(2/579)


ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الْآلَة فَقَالَ (وَتجوز الذَّكَاة بِكُل مَا يجرح) كمحدد حَدِيد وقصب وَحجر ورصاص وَذهب وَفِضة لِأَنَّهُ أسْرع فِي إزهاق الرّوح
(إِلَّا بِالسِّنِّ وَالظفر) وَبَاقِي الْعِظَام مُتَّصِلا كَانَ أَو مُنْفَصِلا من آدَمِيّ أَو غَيره لخَبر الصَّحِيحَيْنِ مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السن وَالظفر وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِك
أما السن فَعظم
وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة وَألْحق بذلك بَاقِي الْعِظَام
وَالنَّهْي عَن الذّبْح بالعظام قيل تعبدي وَبِه قَالَ ابْن الصّلاح وَمَال إِلَيْهِ ابْن عبد السَّلَام وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم مَعْنَاهُ لَا تذبحوا بهَا فَإِنَّهَا تنجس بِالدَّمِ
وَقد نهيتم عَن تنجسها فِي الِاسْتِنْجَاء لكَونهَا طَعَام إخْوَانكُمْ من الْجِنّ وَمعنى قَوْله وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة أَنهم كفار وَقد نهيتم عَن التَّشَبُّه بهم نعم مَا قتلته الْجَارِحَة بظفرها أَو نابها حَلَال
كَمَا علم مِمَّا مر وَخرج بمحدد مَا لَو قتل بمثقل كبندقة وسوط وَسَهْم بِلَا نصل وَلَا حد أَو بِسَهْم وبندقة أَو انخنق وَمَات بأحبولة مَنْصُوبَة
لذَلِك أَو أَصَابَهُ سهم فَوَقع على طرف جبل ثمَّ سقط مِنْهُ وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَمَات حرم الصَّيْد فِي جَمِيع هَذِه الْمسَائِل أما فِي الْقَتْل بالمثقل
فَلِأَنَّهَا موقوذة فَإِنَّهَا مَا قتل بِحجر أَو نَحوه مِمَّا لَا حد لَهُ وَأما مَوته بِالسَّهْمِ والبندقة وَمَا بعدهمَا فَإِنَّهُ موت بشيئين مُبِيح ومحرم
فغلب الْمحرم لِأَنَّهُ الأَصْل فِي الميتات وَأما المنخنقة بالأحبولة فَلقَوْله تَعَالَى {والمنخنقة}
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الرَّابِع وَهُوَ الذَّابِح فَقَالَ (وَتحل ذَكَاة) وصيد (كل مُسلم) ومسلمة (وكتابي) وكتابية تحل مناكحتنا لأهل ملتهما قَالَ تَعَالَى {وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم وطعامكم حل لَهُم} وَقَالَ ابْن عَبَّاس إِنَّمَا أحلّت ذَبَائِح الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أجل أَنهم آمنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ وَلَا أثر للرق فِي الذَّابِح فَتحل ذَكَاة أمة كِتَابِيَّة وَإِن حرم مناكحتها لعُمُوم الْآيَة الْمَذْكُورَة
(وَلَا تحل ذَكَاة مَجُوسِيّ وَلَا وَثني) وَلَا غَيرهمَا مِمَّا لَا كتاب لَهُ وَلَو شَارك من لَا تحل مناكحته مُسلما فِي ذبح أَو اصطياد حرم الْمَذْبُوح والمصاد تَغْلِيبًا للتَّحْرِيم وَلَو أرسل الْمُسلم والمجوسي كلبين أَو سَهْمَيْنِ على صيد فَإِن سبق آلَة الْمُسلم آلَة الْمَجُوسِيّ فِي صُورَة السهمين أَو كلب الْمُسلم كلب الْمَجُوسِيّ فِي صُورَة الكلبين فَقتل الصَّيْد أَو لم يقْتله
بل أنهاه إِلَى حَرَكَة مَذْبُوح حل وَلَو انعكس مَا ذكر أَو جرحاه مَعًا وَحصل الْهَلَاك بهما أَو جهل ذَلِك أَو جرحاه مُرَتبا وَلَكِن لم يذففه الأول فَهَلَك بهما حرم الصَّيْد فِي مَسْأَلَة الْعَكْس وَمَا عطف عَلَيْهَا تَغْلِيبًا للتَّحْرِيم
فَائِدَة قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم قَالَ بعض الْعلمَاء وَالْحكمَة فِي اشْتِرَاط الذَّابِح وإنهار الدَّم تَمْيِيز حَلَال اللَّحْم والشحم من حرامهما وتنبيه على تَحْرِيم الْميتَة لبَقَاء دَمهَا
وَيحل ذبح وصيد صَغِير مُسلم أَو كتابي مُمَيّز لِأَن قَصده صَحِيح بِدَلِيل صِحَة الْعِبَادَة مِنْهُ إِن كَانَ مُسلما فاندرج تَحت الْأَدِلَّة كَالْبَالِغِ وَكَذَا صَغِير غير مُمَيّز وَمَجْنُون وسكران تحل ذبيحتهم فِي الْأَظْهر لِأَن لَهُم قصدا وَإِرَادَة فِي الْجُمْلَة لَكِن مَعَ

(2/580)


الْكَرَاهَة كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم خوفًا من عدولهم عَن مَحل الذّبْح وَتكره ذَكَاة الْأَعْمَى لذَلِك وَيحرم صَيْده برمي وكلب وَغَيره من جوارح السبَاع لعدم صِحَة قَصده لِأَنَّهُ لَا يرى الصَّيْد
وَأما صيد الصَّغِير غير الْمُمَيز وَالْمَجْنُون والسكران فَمُقْتَضى عبارَة الْمِنْهَاج أَنه حَلَال
وَهُوَ مَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع أَنه الْمَذْهَب وَقيل لَا يَصح لعدم الْقَصْد وَلَيْسَ بِشَيْء انْتهى (وذكاة الْجَنِين) حَاصِلَة (بِذَكَاة أمه) فَلَو وجد جَنِين مَيتا أَو عيشه عَيْش مَذْبُوح سَوَاء أشعر أم لَا فِي بطن مذكاة سَوَاء أَكَانَت ذكاتها بذبحها أَو إرْسَال سهم أَو نَحْو كلب عَلَيْهَا لحَدِيث ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه أَي ذكاتها الَّتِي أحلتها أحلته تبعا لَهَا وَلِأَنَّهُ جُزْء من أَجْزَائِهَا وذكاتها ذَكَاة لجَمِيع أَجْزَائِهَا وَلِأَنَّهُ لَو لم يحل بِذَكَاة أمه لحرم ذكاتها مَعَ ظُهُور الْحمل كَمَا لَا تقتل الْحَامِل قودا أما إِذا خرج وَبِه حَيَاة مُسْتَقِرَّة كَمَا قَالَ (إِلَّا أَن يُوجد حَيا) حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَأمكنهُ ذَكَاته
(فيذكى) وجوبا فَلَا يحل بِذَكَاة أمه وَلَا بُد أَن يسكن عقب ذبح أمه فَلَو اضْطربَ فِي الْبَطن بعد ذبح أمه زَمَانا طَويلا ثمَّ سكن لم يحل قَالَه الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد فِي الفروق وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَالظَّاهِر أَن مُرَاد الْأَصْحَاب إِذا مَاتَ بِذَكَاة أمه فَلَو مَاتَ قبل ذكاتها كَانَ ميتَة لَا محَالة لِأَن ذَكَاة الْأُم لم تُؤثر فِيهِ والْحَدِيث يُشِير إِلَيْهِ انْتهى
وعَلى هَذَا لَو خرج رَأسه مَيتا ثمَّ ذبحت أمه قبل انْفِصَاله لم يحل وَقَالَ البُلْقِينِيّ وَمحل الْحل مَا إِذا لم يُوجد سَبَب يُحَال عَلَيْهِ مَوته فَلَو ضرب حَامِلا على بَطنهَا وَكَانَ الْجَنِين متحركا فسكن حِين ذبحت أمه فَوجدَ مَيتا لم يحل
وَلَو خرج رَأسه وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة لم يجب ذبحه حَتَّى يخرج لِأَن خُرُوج بعضه كَعَدم خُرُوجه فِي الْغرَّة وَنَحْوهَا فَيحل إِذا مَاتَ عقب خُرُوجه بِذَكَاة أمه وَإِن صَار بِخُرُوج رَأسه مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَلَو لم تتخطط المضغة لم تحل بِنَاء على عدم وجوب الْغرَّة فِيهَا وَعدم ثُبُوت الِاسْتِيلَاد لَو كَانَت من آدَمِيّ وَلَو كَانَ للمذكاة عُضْو أشل حل كَسَائِر أَجْزَائِهَا
(وَمَا قطع من حَيّ فَهُوَ ميت) أَي فَهُوَ كميتته طَهَارَة ونجاسة لخَبر مَا قطع من حَيّ فَهُوَ ميت رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ فجزء الْبشر والسمك وَالْجَرَاد طَاهِر دون جُزْء غَيرهَا
(إِلَّا الشُّعُور) الساقطة من الْمَأْكُول وأصوافه وأوباره المنتفع بهَا فِي المفارش والملابس وَغَيرهَا من سَائِر أَنْوَاع الانتفاعات فطاهرة
قَالَ تَعَالَى {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} وَخرج بالمأكول نَحْو شعر غَيره فنجس وَمِنْه نَحْو شعر عُضْو أبين من مَأْكُول لِأَن الْعُضْو صَار غير مَأْكُول
تَتِمَّة تتَعَلَّق بالصيد لَو أرسل كَلْبا وَسَهْما فأزمنه الْكَلْب ثمَّ ذبحه السهْم حل
وَإِن أزمنه السهْم ثمَّ قَتله الْكَلْب حرم وَلَو أخبرهُ فَاسق أَو كتابي أَنه ذبح هَذِه الشَّاة مثلا حل أكلهَا لِأَنَّهُ من أهل الذّبْح فَإِن كَانَ فِي الْبِلَاد مجوس ومسلمون وَجَهل ذابح الْحَيَوَان
هَل هُوَ مُسلم أَو مَجُوسِيّ لم يحل أكله للشَّكّ فِي الذّبْح الْمُبِيح وَالْأَصْل عَدمه نعم إِن كَانَ الْمُسلمُونَ أغلب كَمَا فِي بِلَاد الْإِسْلَام فَيَنْبَغِي أَن يحل وَفِي معنى الْمَجُوسِيّ كل من لم تحل ذَبِيحَته

فصل فِي الْأَطْعِمَة
جمع طَعَام أَي بَيَان مَا يحل أكله وشربه مِنْهَا وَمَا يحرم فقد ورد فِي الْخَبَر أَي لحم نبت من حرَام فَالنَّار أولى بِهِ وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة إِذْ معرفَة أَحْكَامهَا من الْمُهِمَّات لِأَن فِي تنَاول الْحَرَام الْوَعيد

(2/581)


الشَّديد وَقَوله تَعَالَى {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث}
(وكل حَيَوَان) لَا نَص فِيهِ من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع لَا خَاص وَلَا عَام بِتَحْرِيم وَلَا تَحْلِيل وَلَا ورد فِيهِ أَمر بقتْله وَلَا بِعَدَمِهِ (استطابته الْعَرَب) وهم أهل يسَار أَي ثروة وخصب وَأهل طباع سليمَة سَوَاء كَانُوا سكان بِلَاد أَو قرى فِي حَال رفاهية
(فَهُوَ حَلَال إِلَّا مَا) أَي حَيَوَان (ورد الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ) كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يرجع فِيهِ لاستطابتهم
(وكل حَيَوَان استخبثته الْعَرَب) أَي عدوه خبيثا (فَهُوَ حرَام إِلَّا مَا) أَي حَيَوَان (ورد الشَّرْع بإباحته) كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يكون حَرَامًا لِأَن الله تَعَالَى أناط الْحل بالطيب وَالتَّحْرِيم بالخبيث
وَعلم بِالْعقلِ أَنه لم يرد مَا يستطيبه ويستخبثه كل الْعَالم لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاعهم على ذَلِك عَادَة لاخْتِلَاف طبائعهم فَتعين أَن يكون المُرَاد بَعضهم وَالْعرب بذلك أولى لأَنهم أولى الْأُمَم إِذْ هم المخاطبون أَولا وَلِأَن الدّين عَرَبِيّ وَخرج بِأَهْل يسَار المحتاجون
وبسليمة أجلاف الْبَوَادِي الَّذين يَأْكُلُون مَا دب ودرج من غير تَمْيِيز فَلَا عِبْرَة بهم وبحال الرَّفَاهِيَة حَال الضَّرُورَة فَلَا عِبْرَة بهَا
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَام المُصَنّف أَنه لَا بُد من إِخْبَار جمع مِنْهُم بل ظَاهره جَمِيع الْعَرَب
وَالظَّاهِر كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ الِاكْتِفَاء بِخَبَر عَدْلَيْنِ وَيرجع فِي كل زمَان إِلَى الْعَرَب الْمَوْجُودين فِيهِ فَإِن استطابته فحلال وَإِن استخبثته فَحَرَام وَالْمرَاد بِهِ مَا لم يسْبق فِيهِ كَلَام الْعَرَب الَّذين كَانُوا فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن بعدهمْ
فَإِن ذَلِك قد عرف حَاله
وَاسْتقر أمره فَإِن اخْتلفُوا فِي استطابته اتبع الْأَكْثَر فَإِن اسْتَووا فقريش لِأَنَّهَا قطب الْعَرَب فَإِن اخْتلفُوا وَلَا تَرْجِيح أَو شكوا أَو لم نجدهم وَلَا غَيرهم من الْعَرَب اعتبروا بأقرب الْحَيَوَان شبها بِهِ صُورَة أَو طبعا أَو طعما فَإِن اسْتَوَى الشبهان أَو لم يُوجد مَا يُشبههُ فحلال لآيَة {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} وَلَا يعْتَمد فِيهِ شرع من قبلنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شرعا لنا فاعتماد ظَاهر الْآيَة الْمُقْتَضِيَة للْحلّ أولى من اسْتِصْحَاب الشَّرَائِع السالفة
وَإِن جهل اسْم حَيَوَان سُئِلَ الْعَرَب عَن ذَلِك الْحَيَوَان
وَعمل بتسميتهم لَهُ مَا هُوَ حَلَال أَو حرَام لِأَن الْمرجع فِي ذَلِك إِلَى الِاسْم وهم أهل اللِّسَان
وَإِن لم يكن لَهُ اسْم عِنْدهم اعْتبر بالأشبه بِهِ من الْحَيَوَان فِي الصُّورَة أَو الطَّبْع أَو الطّعْم فِي اللَّحْم فَإِن تساوى الشبهان أَو فقد مَا يُشبههُ حل على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع فمما ورد النَّص بِتَحْرِيمِهِ الْبَغْل للنَّهْي عَن أكله فِي خبر أبي دَاوُد ولتولده بَين حَلَال وَحرَام
فَإِنَّهُ متولد بَين فرس وحمار أَهلِي فَإِن كَانَ الذّكر فرسا فَهُوَ شَدِيد الشّبَه بالحمار أَو حمارا كَانَ شَدِيد الشّبَه بالفرس فَإِن تولد بَين فرس وحمار وَحشِي أَو بَين فرس وبقر حل بِلَا خلاف وَالْحمار الأهلي للنَّهْي عَنهُ فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ

(2/582)


وكنيته أَبُو زِيَاد وكنية الْأُنْثَى أم مَحْمُود
(وَيحرم من السبَاع) كل (مَا لَهُ نَاب قوي يجرح بِهِ) أَي يَسْطُو بِهِ على غَيره من الْحَيَوَان كأسد ذكر لَهُ ابْن خالويه خَمْسمِائَة اسْم وَزَاد عَليّ بن جَعْفَر عَلَيْهِ مائَة وَثَلَاثِينَ اسْما
ونمر بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم وَهُوَ حَيَوَان مَعْرُوف أَخبث من الْأسد
سمي بذلك لتنمره وَاخْتِلَاف لون جسده يُقَال تنمر فلَان أَي تنكر وَتغَير
لِأَنَّهُ لَا يُوجد غَالِبا إِلَّا غَضْبَان معجبا بِنَفسِهِ إِذا شبع نَام ثَلَاثَة أَيَّام ورائحة فِيهِ طيبَة وذئب بِالْهَمْز وَعَدَمه حَيَوَان مَعْرُوف مَوْصُوف بالانفراد والوحدة وَمن طبعه أَنه لَا يعود إِلَى فريسة شبع مِنْهَا وينام بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ وَالْأُخْرَى يقظة حَتَّى تكتفي الْعين النائمة من النّوم ثمَّ يفتحها وينام بِالْأُخْرَى ليحرس باليقظى ويستريح بالنائمة
ودب بِضَم الدَّال الْمُهْملَة
وَقيل وكنيته أَبُو الْعَبَّاس والفيل الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن كنيته ذَلِك واسْمه مَحْمُود وَهُوَ صَاحب حقد وَلسَانه مقلوب
وَلَوْلَا ذَلِك لتكلم وَيخَاف من الْهِرَّة خوفًا شَدِيدا وَفِيه من الْفَهم مَا يقبل بِهِ التَّأْدِيب والتعليم
ويعمر أَي يعِيش كثيرا والهند تعظمه لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْخِصَال المحمودة
وقرد وَهُوَ حَيَوَان ذكي سريع الْفَهم يشبه الْإِنْسَان فِي غَالب حالاته
فَإِنَّهُ يضْحك وَيضْرب ويتناول الشَّيْء بِيَدِهِ ويأنس بِالنَّاسِ
وَمن ذَوي الناب الْكَلْب وَالْخِنْزِير والفهد وَابْن آوى بِالْمدِّ بعد الْهمزَة وَهُوَ فَوق الثَّعْلَب وَدون الْكَلْب طَوِيل المخالب فِيهِ شبه من الذِّئْب وَشبه من الثَّعْلَب
وَسمي بذلك لِأَنَّهُ يأوي إِلَى عواء أَبنَاء جنسه
وَلَا يعوي إِلَّا لَيْلًا إِذا استوحش والهرة وَلَو وحشية
(وَيحرم من الطُّيُور) كل (مَا لَهُ مخلب قوي) بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الْمُعْجَمَة وَهُوَ للطير كالظفر للْإنْسَان (يجرح بِهِ) كالصقر والباز والشاهين والنسر وَالْعِقَاب وَجَمِيع جوارح الطير كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة وَمِمَّا ورد فِيهِ النَّص بِالْحلِّ الْأَنْعَام وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَإِن اخْتلفت أَنْوَاعهَا لقَوْله تَعَالَى {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} وَالْخَيْل وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه
كقوم لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل وَفِيهِمَا عَن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَت نحرنا فرسا على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكلناه وَنحن بِالْمَدِينَةِ وَأما خبر خَالِد فِي النَّهْي عَن أكل لُحُوم الْخَيل فَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره مُنكر
وَقَالَ أَبُو دَاوُد مَنْسُوخ
وبقر وَحش وَهُوَ أشبه شَيْء بالمعز الْأَهْلِيَّة وحمار وَحش لِأَنَّهُمَا من الطَّيِّبَات وَلما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الثَّانِي كلوا من لَحْمه وَأكل مِنْهُ وَقيس بِهِ الأول
وظبي وظبية بِالْإِجْمَاع
وضبع لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يحل أكله وَلِأَن نابه ضَعِيف لَا يتقوى بِهِ وَهُوَ من أَحمَق الْحَيَوَان
لِأَنَّهُ يتناوم حَتَّى يصاد وَهُوَ اسْم للْأُنْثَى قَالَ الدَّمِيرِيّ وَمن عَجِيب أمرهَا أَنَّهَا تحيض وَتَكون سنة ذكرا وَسنة أُنْثَى وَيُقَال للذّكر ضبعان وضب لِأَنَّهُ أكل على مائدته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَتِهِ
وَلم يَأْكُل مِنْهُ فَقيل لَهُ أحرام هُوَ قَالَ لَا
وَلكنه لَيْسَ بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه وَهُوَ حَيَوَان للذّكر مِنْهُ ذكران وللأنثى فرجان
وأرنب وَهُوَ حَيَوَان يشبه العناق قصير الْيَدَيْنِ طَوِيل الرجلَيْن قصير عكس الزرافة لِأَنَّهُ بعث بوركها إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبله وَأكل مِنْهُ
رَوَاهُ البُخَارِيّ وثعلب لِأَنَّهُ من الطَّيِّبَات وَلَا يتقوى بنابه وكنيته أَبُو الْحصين وَالْأُنْثَى ثَعْلَبَة وكنيتها أم هويل ويربوع لِأَن الْعَرَب تستطيبه ونابه ضَعِيف وفنك بِفَتْح الْفَاء وَالنُّون لِأَن الْعَرَب تستطيبه
وَهُوَ حَيَوَان يُؤْخَذ من جلده الفرو للينه وَخِفته وسمور بِفَتْح الْمُهْملَة وَضم الْمِيم الْمُشَدّدَة
وسنجاب لِأَن الْعَرَب تستطيب ذَلِك
وهما نَوْعَانِ من ثعالب

(2/583)


التّرْك وقنفذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة
والوبر بِإِسْكَان الْمُوَحدَة دويبة أَصْغَر من الهر كحلاء الْعين لَا ذَنْب لَهَا
والدلدل وَهُوَ دويبة قدر السخلة ذَات شوك طَوِيل يشبه السِّهَام وَابْن عرس وَهُوَ دويبة رقيقَة تعادي الفأر تدخل جُحْره وتخرجه
والحواصل وَيُقَال لَهُ حوصل وَهُوَ طَائِر أَبيض أكبر من الكركي ذُو حوصلة عَظِيمَة يتَّخذ مِنْهَا فرو وَيحرم كل مَا ندب قَتله لإيذائه كحية وعقرب وغراب أبقع وحدأة وفأرة والبرغوث والزنبور بِضَم الزَّاي والبق وَإِنَّمَا ندب قَتلهَا لإيذائها
كَمَا مر إِذْ لَا نفع فِيهَا وَمَا فِيهِ نفع ومضرة لَا يسْتَحبّ قَتله لنفعه وَلَا يكره لضرره
وَيكرهُ قتل مَا لَا ينفع وَلَا يضر كالخنافس والجعلان وَهُوَ دويبة مَعْرُوفَة تسمى الزعقوق
وَالْكَلب غير الْعَقُور الَّذِي لَا مَنْفَعَة فِيهِ مُبَاحَة وَتحرم الرخمة وَهُوَ طَائِر أَبيض والبغاثة لِأَنَّهَا كالحدأة وَهِي طَائِر أَبيض بطيء الطيران والببغاء بِفَتْح الموحدتين وَتَشْديد الثَّانِيَة وَهُوَ الطَّائِر الْمَعْرُوف بِالدرةِ والطاووس وَهُوَ طَائِر فِي طبعه الْعِفَّة وَيُحب الزهو بِنَفسِهِ وَالْخُيَلَاء والإعجاب بريشه وَهُوَ مَعَ حسنه يتشاءم بِهِ
وَوجه تَحْرِيمه وَمَا قبله خبثهما وَلَا يحل مَا نهى عَن قَتله كخطاف وَيُسمى عُصْفُور الْجنَّة لِأَنَّهُ زهد مَا فِي أَيدي النَّاس من الأقوات ونمل وذباب وَلَا تحل الحشرات وَهِي صغَار دَوَاب الأَرْض كخنفساء ودود وَلَا مَا تولد من مَأْكُول وَغَيره كمتولد بَين كلب وشَاة فَلَو لم نر ذَلِك وَولدت شَاة سخلة تشبه الْكَلْب
قَالَ الْبَغَوِيّ لَا تحرم لِأَنَّهُ قد يحصل الْخلق على خلاف صُورَة الأَصْل وَمن الْمُتَوَلد بَين مَأْكُول وَغَيره السّمع بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة فَإِنَّهُ متولد بَين الذِّئْب والضبع والبغل لتولده بَين فرس وحمار كَمَا مر
والزرافة وَهِي بِفَتْح الزَّاي وَضمّهَا وبتحريمها جزم صَاحب التَّنْبِيه وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه لَا خلاف فِيهِ
وَمنع ابْن الرّفْعَة التَّحْرِيم وَحكي أَن الْبَغَوِيّ أفتى بحلها قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ الصَّوَاب ومنقول اللُّغَة أَنَّهَا مُتَوَلّدَة بَين مأكولين من الْوَحْش
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ مَا فِي الْمَجْمُوع سَهْو وَصَوَابه الْعَكْس اه
وَهَذَا الْخلاف يرجع فِيهِ إِلَى الْوُجُود إِن ثَبت أَنَّهَا مُتَوَلّدَة بَين مأكولين فَمَا يَقُول هَؤُلَاءِ ظَاهر وَإِلَّا فَالْمُعْتَمَد مَا فِي الْمَجْمُوع وَيحل كركي وبط وإوز ودجاج وحمام وَهُوَ كل مَا عب وهدر وَمَا على شكل عُصْفُور
وَإِن اخْتلف لَونه كعندليب وَهُوَ الهزار وصعوة وَهِي صغَار العصافير وَيحل غراب الزَّرْع على الْأَصَح وَهُوَ أسود صَغِير يُقَال لَهُ الزاغ وَقد يكون محمر المنقار وَالرّجلَيْنِ لِأَنَّهُ مستطاب يَأْكُل الزَّرْع يشبه الفواخت
وَأما مَا عدا الأبقع الْحَرَام وغراب الزَّرْع الْحَلَال فأنواع أَحدهَا العقعق
وَيُقَال لَهُ القعقع وَهُوَ ذُو لونين أَبيض وأسود طَوِيل الذَّنب قصير الْجنَاح عَيناهُ يشبهان الزئبق صَوته العقعقة
كَانَت الْعَرَب تتشاءم بِصَوْتِهِ ثَانِيهَا الغداف الْكَبِير وَيُسمى الْغُرَاب الْجبلي لِأَنَّهُ لَا يسكن إِلَّا الْجبَال فهذان حرامان لخبثهما ثَالِثهَا الغداف الصَّغِير وَهُوَ أسود رمادي اللَّوْن
وَهَذَا قد اخْتلف فِيهِ فَقيل يحرم كَمَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة
وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري لِلْأَمْرِ بقتل الْغُرَاب فِي خبر مُسلم وَقيل بحله كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ وَهُوَ الظَّاهِر
وَقد صرح بحله الْبَغَوِيّ والجرجاني وَالرُّويَانِيّ
وَعلله بِأَنَّهُ يَأْكُل الزَّرْع وَاعْتَمدهُ الْإِسْنَوِيّ والبلقيني (وَيحل للْمُضْطَر) أَي يجب عَلَيْهِ إِذا خَافَ على نَفسه
(فِي) حَال (المخمصة) بميمين مفتوحتين بَينهمَا خاء مُعْجمَة وبعدهما صَاد أَي المجاعة موتا أَو مَرضا مخوفا أَو زِيَادَته أَو طول مدَّته أَو انْقِطَاعه عَن رفقته أَو خوف ضعف عَن مشي أَو ركُوب
وَلم يجد حَلَالا يَأْكُلهُ
(أَن يَأْكُل من الْميتَة الْمُحرمَة) عَلَيْهِ قبل اضطراره لِأَن تَاركه ساع فِي هَلَاك نَفسه وكما يجب دفع الْهَلَاك

(2/584)


بِأَكْل الْحَلَال وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} فَلَا يشْتَرط تحقق وُقُوعه لَو لم يَأْكُل بل يَكْفِي فِي ذَلِك الظَّن كَمَا فِي الْإِكْرَاه على أكل ذَلِك فَلَا يشْتَرط فِيهِ التيقن وَلَا الإشراف على الْمَوْت بل لَو انْتهى إِلَى هَذِه الْحَالة لم يحل لَهُ أكله فَإِنَّهُ غير مُفِيد كَمَا صرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك العَاصِي بِسَفَرِهِ فَلَا يُبَاح لَهُ الْأكل حَتَّى يَتُوب قَالَ البُلْقِينِيّ وكالعاصي بِسَفَرِهِ مراق الدَّم كالمرتد
وَالْحَرْبِيّ فَلَا يأكلان من ذَلِك حَتَّى يسلما قَالَ وَكَذَا مراق الدَّم من الْمُسلمين وَهُوَ مُتَمَكن من إِسْقَاط الْقَتْل بِالتَّوْبَةِ كتارك الصَّلَاة
وَمن قتل فِي قطع الطَّرِيق قَالَ وَلم أر من تعرض لَهُ وَهُوَ مُتَعَيّن
تَنْبِيه أفهم إِطْلَاق المُصَنّف الْميتَة الْمُحرمَة التَّخْيِير بَين أَنْوَاعهَا كميتة شَاة وحمار لَكِن لَو كَانَت الْميتَة من حَيَوَان نجس فِي حَيَاته كخنزير وميتة حَيَوَان طَاهِر فِي حَيَاته كحمار وَجب تَقْدِيم ميتَة الطَّاهِر كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالفه الْإِسْنَوِيّ ثمَّ إِن توقع الْمُضْطَر حَلَالا على قرب لم يجز أَن يَأْكُل غير (مَا يسدد رمقه) لاندفاع الضَّرُورَة بِهِ وَقد يجد بعده الْحَلَال وَلقَوْله تَعَالَى {غير متجانف لإثم} قيل أَرَادَ بِهِ الشِّبَع قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَمن تبعه والرمق بَقِيَّة الرّوح كَمَا قَالَه جمَاعَة وَقَالَ بَعضهم إِنَّه الْقُوَّة وَبِذَلِك ظهر لَك أَن الشد الْمَذْكُور بالشين الْمُعْجَمَة لَا بِالْمُهْمَلَةِ قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَغَيره الَّذِي نَحْفَظهُ أَنه بِالْمُهْمَلَةِ
وَهُوَ كَذَلِك فِي الْكتب وَالْمعْنَى عَلَيْهِ صَحِيح لِأَن المُرَاد سد الْخلَل الْحَاصِل فِي ذَلِك بِسَبَب الْجُوع نعم إِن خَافَ تلفا أَو حُدُوث مرض أَو زِيَادَته إِن اقْتصر على سد الرمق جَازَت لَهُ الزِّيَادَة بل وَجَبت لِئَلَّا يهْلك نَفسه
تَنْبِيه يجوز لَهُ التزود من الْمُحرمَات وَلَو رجا الْوُصُول إِلَى الْحَلَال وَيبدأ وجوبا بلقمة حَلَال ظفر بهَا فَلَا يجوز أَن يَأْكُل مِمَّا ذكر حَتَّى يأكلها لتحَقّق الضَّرُورَة وَإِذا وجد الْحَلَال بعد تنَاوله الْميتَة وَنَحْوهَا لزمَه الْقَيْء أَي إِذا لم يضرّهُ كَمَا هُوَ قَضِيَّة نَص الْأُم فَإِنَّهُ قَالَ وَإِن أكره رجل حَتَّى شرب خمرًا أَو أكل محرما فَعَلَيهِ أَن يتقايأ إِذا قدر عَلَيْهِ وَلَو عَم الْحَرَام جَازَ اسْتِعْمَال مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يقْتَصر على الضَّرُورَة قَالَ الإِمَام بل على الْحَاجة قَالَ ابْن عبد السَّلَام هَذَا إِن توقع معرفَة الْمُسْتَحق إِذْ المَال عِنْد الْيَأْس مِنْهَا للْمصَالح الْعَامَّة وللمضطر أكل آدَمِيّ ميت إِذا لم يجد ميتَة غَيره كَمَا قَيده الشَّيْخَانِ فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة لِأَن حُرْمَة الْحَيّ أعظم من حُرْمَة الْمَيِّت
واستثني من ذَلِك مَا إِذا كَانَ الْمَيِّت نَبيا فَإِنَّهُ لَا يجوز الْأكل مِنْهُ جزما
فَإِن قيل كَيفَ يَصح هَذَا الِاسْتِثْنَاء والأنبياء أَحيَاء فِي قُبُورهم يصلونَ كَمَا صحت بِهِ الْأَحَادِيث
أُجِيب بِأَنَّهُ يتَصَوَّر ذَلِك من مُضْطَر وجد ميتَة نَبِي قبل دَفنه وَأما إِذا كَانَ الْمَيِّت مُسلما والمضطر كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يجوز الْأكل

(2/585)


مِنْهُ لشرف الْإِسْلَام
وَحَيْثُ جَوَّزنَا أكل ميتَة الْآدَمِيّ لَا يجوز طبخها وَلَا شيها لما فِي ذَلِك من هتك حرمته وَيتَخَيَّر فِي غَيره بَين أكله نيئا وَغَيره
وَله قتل مُرْتَد وَأكله وَقتل حَرْبِيّ وَلَو صَغِيرا أَو امْرَأَة وَأكله لِأَنَّهُمَا غير معصومين
وَإِنَّمَا حرم قتل الصَّبِي الْحَرْبِيّ وَالْمَرْأَة الحربية فِي غير الضَّرُورَة لَا لحرمتهما بل لحق الْغَانِمين وَله قتل الزَّانِي الْمُحصن والمحارب
وتارك الصَّلَاة وَمن لَهُ عَلَيْهِ قصاص وَإِن لم يَأْذَن الإِمَام فِي الْقَتْل لِأَن قَتلهمْ مُسْتَحقّ
وَإِنَّمَا اعتبروا إِذْنه فِي غير حَال الضَّرُورَة تأدبا مَعَه وَحَال الضَّرُورَة لَيْسَ فِيهَا رِعَايَة أدب وَحكم مجانين أهل الْحَرْب وأرقائهم وخنثاهم كصبيانهم قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَلَو وجد الْمُضْطَر صَبيا مَعَ بَالغ حربيين أكل الْبَالِغ وكف عَن الصَّبِي لما فِي أكله من ضيَاع المَال
وَلِأَن الْكفْر الْحَقِيقِيّ أبلغ من الْكفْر الْحكمِي انْتهى
وَكَذَا يُقَال فِيمَا شبه بِالصَّبِيِّ وَمحل الْإِبَاحَة كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ إِذا لم يستول على الصَّبِي وَالْمَرْأَة أَي وَنَحْوهمَا وَإِلَّا صَارُوا أرقاء معصومين لَا يجوز قَتلهمْ لحق الْغَانِمين وَلَا يجوز قتل ذمِّي ومعاهد لحُرْمَة قَتلهمَا وَلَو وجد مُضْطَر طَعَام غَائِب أكل مِنْهُ وَغرم بدله أَو حَاضر مُضْطَر إِلَيْهِ لم يلْزمه بذله لغيره إِن لم يفضل عَنهُ بل هُوَ أَحَق بِهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابدأ بِنَفْسِك وإبقاء لمهجته
نعم إِن كَانَ غير الْمَالِك نَبيا وَجب بذله لَهُ فَإِن آثر الْمُضْطَر مُضْطَرّا مُسلما مَعْصُوما جَازَ بل سنّ وَإِن كَانَ أولى بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة لقَوْله تَعَالَى {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} وَهُوَ من شيم الصَّالِحين وَخرج بِالْمُسلمِ الْكَافِر والبهيمة وبالمعصوم مراق الدَّم فَيجب عَلَيْهِ أَن يقدم نَفسه على هَؤُلَاءِ أَو وجد طَعَام حَاضر غير مُضْطَر لزمَه بذله لمعصوم بِثمن مثل مَقْبُوض إِن حضر وَإِلَّا فَفِي ذمَّته وَلَا ثمن لَهُ إِن لم يذكرهُ وَإِن امْتنع غير الْمُضْطَر من بذله بِالثّمن فللمضطر قَبره وَأخذ الطَّعَام وَإِن قَتله وَلَا يضمنهُ بقتْله إِلَّا إِن كَانَ مُسلما والمضطر كَافِر مَعْصُوم فَيضمنهُ كَمَا بَحثه ابْن أبي الدَّم أَو وجد مُضْطَر ميتَة وَطَعَام غَيره لم يبذله لَهُ أَو ميتَة وصيدا حرم بِإِحْرَام أَو حرم تعيّنت الْميتَة
وَيحل قطع جُزْء نَفسه لأكله إِن فقد نَحْو ميتَة وَإِن كَانَ خوف قطعه أقل وَيحرم قطع بعضه لغيره من الْمُضْطَرين لِأَن قطعه لغيره لَيْسَ فِيهِ قطع الْبَعْض لاستبقاء الْكل نعم إِن كَانَ ذَلِك الْغَيْر نَبيا لم يحرم بل يجب وَيحرم على الْمُضْطَر أَيْضا أَن يقطع لنَفسِهِ قِطْعَة من حَيَوَان مَعْصُوم لما مر
(وَلنَا ميتَتَانِ حلالان) وهما (السّمك وَالْجَرَاد) وَلَو بقتل مَجُوسِيّ لخَبر أحلّت لنا ميتَتَانِ السّمك وَالْجَرَاد فَيحل أكلهما وبلعهما
وَإِن لم يشبه السّمك الْمَشْهُور ككلب وخنزير وَفرس وَكره قطعهمَا حيين
وَيكرهُ ذبحهما إِلَّا سَمَكَة كَبِيرَة يطول بَقَاؤُهَا

(2/586)


فَيسنّ ذَبحهَا وَيحرم مَا يعِيش فِي بر وبحر كضفدع وسرطان
وَيُسمى عقرب المَاء وحية ونسناس وتمساح وسلحفاة بِضَم السِّين وَفتح اللَّام لخبث لَحمهَا وللنهي عَن قتل الضفدع
فَائِدَة روى الْقزْوِينِي عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله خلق فِي الأَرْض ألف أمة سِتّمائَة فِي الْبَحْر وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبر وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان لله تَعَالَى ثَمَانُون ألف عَالم أَرْبَعُونَ ألفا فِي الْبَحْر وَأَرْبَعُونَ ألفا فِي الْبر (وَدَمَانِ حلالان) وهما (الكبد) بِكَسْر الْمُوَحدَة على الْأَفْصَح (وَالطحَال) بِكَسْر الطَّاء لحَدِيث أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ السّمك وَالْجَرَاد والكبد وَالطحَال رَفعه ابْن مَاجَه بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَصحح الْبَيْهَقِيّ وَقفه عَلَيْهِ وَقَالَ حكمه حكم الْمَرْفُوع
وَلذَا قَالَ فِي الْمَجْمُوع الصَّحِيح أَن ابْن عمر هُوَ الْقَائِل أحلّت لنا
وَأَنه يكون بِهَذِهِ الصِّيغَة مَرْفُوعا
تَتِمَّة أفضل مَا أكلت مِنْهُ كسبك من زراعة لِأَنَّهَا أقرب إِلَى التَّوَكُّل ثمَّ من صناعَة لِأَن الْكسْب فِيهَا يحصل بكد الْيَمين ثمَّ من تِجَارَة لِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يكتسبون بهَا
وَيحرم مَا يضر الْبدن أَو الْعقل كالحجر وَالتُّرَاب والزجاج والسم كالأفيون وَهُوَ لبن الخشخاش لِأَن ذَلِك مُضر وَرُبمَا يقتل وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}
قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي شرح التَّنْبِيه وَيحرم أكل الشواء المكمور وَهُوَ مَا يكفأ عَلَيْهِ غطاء بعد استوائه لإضراره بِالْبدنِ
وَيسن ترك التبسط فِي الطَّعَام الْمُبَاح فَإِنَّهُ لَيْسَ من أَخْلَاق السّلف هَذَا إِذا لم تدع إِلَيْهِ حَاجَة كقرى الضَّعِيف وأوقات التَّوسعَة على الْعِيَال كَيَوْم عَاشُورَاء ويومي الْعِيد وَلم يقْصد بذلك التفاخر وَالتَّكَاثُر بل لطيب خاطر الضَّعِيف والعيال وَقَضَاء وطرهم مِمَّا يشتهونه وَفِي إِعْطَاء النَّفس شهواتها الْمُبَاحَة مَذَاهِب حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيّ منعهَا وقهرها لِئَلَّا تطغى وَالثَّانِي إعطاؤها تحيلا على نشاطها وبعثا لروحانيتها
قَالَ وَالْأَشْبَه التَّوَسُّط بَين الْأَمريْنِ لِأَن فِي إعطائها الْكل سلاطة عَلَيْهِ وَفِي منعهَا بلادة
وَيسن الحلو من الْأَطْعِمَة وَكَثْرَة الْأَيْدِي على الطَّعَام وَأَن يحمد الله تَعَالَى عقب الْأكل وَالشرب
وروى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أكل أَو شرب قَالَ الْحَمد لله الَّذِي أطْعم وَسَقَى وسوغه وَجعل لَهُ مخرجا

فصل فِي الْأُضْحِية
مُشْتَقَّة من الضحوة وَسميت بِأول زمَان فعلهَا
وَهُوَ الضُّحَى وَهِي بِضَم همزتها وَكسرهَا وَتَشْديد يائها وتخفيفها مَا يذبح
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} فَإِن أشهر

(2/587)


من الْغنم تقربا إِلَى الله تَعَالَى من يَوْم الْعِيد إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق الْأَقْوَال أَن المُرَاد بِالصَّلَاةِ صَلَاة الْعِيد وبالنحر الضَّحَايَا وَخبر التِّرْمِذِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا عمل ابْن آدم يَوْم النَّحْر من عمل أحب إِلَى الله تَعَالَى من إِرَاقَة الدَّم إِنَّهَا لتأتي يَوْم الْقِيَامَة بقرونها وأظلافها وَإِن الدَّم ليَقَع من الله بمَكَان قبل أَن يَقع على الأَرْض فطيبوا بهَا نفسا (وَالْأُضْحِيَّة) بِمَعْنى التَّضْحِيَة كَمَا فِي الرَّوْضَة لَا الْأُضْحِية كَمَا يفهمهُ كَلَامه لِأَن الْأُضْحِية اسْم لما يضحى بِهِ
(سنة) مُؤَكدَة فِي حَقنا على الْكِفَايَة إِن تعدد أهل الْبَيْت فَإِذا فعلهَا وَاحِد من أهل الْبَيْت كفى عَن الْجَمِيع وَإِلَّا فَسنة عين والمخاطب بهَا الْمُسلم الْحر الْبَالِغ الْعَاقِل المستطيع
وَكَذَا الْمبعض إِذا ملك مَالا بِبَعْضِه الْحر قَالَه فِي الْكِفَايَة
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَا بُد أَن تكون فاضلة عَن حَاجته وحاجة من يمونه لِأَنَّهَا نوع صَدَقَة وَظَاهر هَذَا أَنه يَكْفِي أَن تكون فاضلة عَمَّا يَحْتَاجهُ فِي ليلته ويومه وَكِسْوَة فَصله كَمَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع وَيَنْبَغِي أَن تكون فاضلة عَن يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فَإِنَّهُ وقتهما كَمَا أَن يَوْم الْعِيد وَلَيْلَة الْعِيد وَقت زَكَاة الْفطر واشترطوا فِيهَا أَن تكون فاضلة عَن ذَلِك وَأما الْمكَاتب فَهِيَ مِنْهُ تبرع فَيجْرِي فِيهَا مَا يجْرِي فِي سَائِر تبرعاته
تَنْبِيه شَمل كَلَام المُصَنّف أهل الْبَوَادِي والحضر وَالسّفر والحاج وَغَيره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى فِي منى عَن نِسَائِهِ بالبقر
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ والتضحية أفضل من صَدَقَة التَّطَوُّع للِاخْتِلَاف فِي وُجُوبهَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا أرخص فِي تَركهَا لمن قدر عَلَيْهَا
انْتهى أَي فَيكْرَه للقادر تَركهَا وَيسن لمن يريدها أَن لَا يزِيل شعره وَلَا ظفره فِي عشر ذِي الْحجَّة حَتَّى يُضحي وَلَا تجب إِلَّا بِالنذرِ
وَيسن أَن يذبح الْأُضْحِية الرجل بِنَفسِهِ إِن أحسن الذّبْح لِلِاتِّبَاعِ
أما الْمَرْأَة فَالسنة لَهَا أَن توكل كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَالْخُنْثَى مثلهَا وَمن لم يذبح لعذر أَو لغيره فليشهدها لما روى الْحَاكِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لفاطمة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قومِي إِلَى أضحيتك فاشهديها فَإِنَّهُ بِأول قَطْرَة مِنْهَا أَي من دَمهَا يغْفر لَك مَا سلف من ذنوبك
قَالَ عمرَان بن حُصَيْن هَذَا لَك وَلأَهل بَيْتك فَأهل ذَلِك أَنْتُم أم للْمُسلمين عَامَّة قَالَ بل للْمُسلمين عَامَّة وَشرط التَّضْحِيَة نعم إبل وبقر وغنم لقَوْله تَعَالَى {وَلكُل أمة جعلنَا منسكا لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} وَلِأَن التَّضْحِيَة عبَادَة تتَعَلَّق بِالْحَيَوَانِ فاختصت بِالنعَم كَالزَّكَاةِ
(ويجزىء فِيهَا) من النعم (الْجذع من الضَّأْن) وَهُوَ مَا اسْتكْمل سنة وَطعن فِي الثَّانِيَة وَلَو أجذع قبل تَمام السّنة
أَي سَقَطت أَسْنَانه أَجْزَأَ لعُمُوم خبر أَحْمد ضحوا بالجذع من الضَّأْن فَإِنَّهُ جَائِز أَي وَيكون ذَلِك كالبلوغ بِالسِّنِّ أَو الِاحْتِلَام فَإِنَّهُ يَكْفِي أسبقهما كَمَا صرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة (والثني من الْمعز) وَهُوَ مَا اسْتكْمل سنتَيْن وَطعن فِي الثَّالِثَة (و) الثني من (الْإِبِل) وَهُوَ مَا اسْتكْمل خمس سِنِين وَطعن فِي السَّادِسَة
(و) الثني من (الْبَقر) الْإِنْسِي وَهُوَ مَا اسْتكْمل سنتَيْن وَطعن فِي الثَّالِثَة

(2/588)


وَخرج بِقَيْد الْإِنْسِي والوحشي فَلَا يجزىء فِي الْأُضْحِية وَإِن دخل فِي اسْم الْبَقر وتجزىء التَّضْحِيَة بِالذكر وَالْأُنْثَى بِالْإِجْمَاع وَإِن كثر نزوان الذّكر وولادة الْأُنْثَى نعم التَّضْحِيَة بِالذكر أفضل على الْأَصَح الْمَنْصُوص لِأَن لَحْمه أطيب
كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَنقل فِي الْمَجْمُوع فِي بَاب الْهَدْي عَن الشَّافِعِي أَن الْأُنْثَى أحسن من الذّكر لِأَنَّهَا أرطب لَحْمًا وَلم يحك غَيره
وَيُمكن حمل الأول على مَا إِذا لم يكثر نزوانه
وَالثَّانِي على مَا إِذا كثر
تَنْبِيه لم يتَعَرَّض كثير من الْفُقَهَاء لإجزاء الْخُنْثَى فِي الْأُضْحِية وَقَالَ النَّوَوِيّ إِنَّه يجزىء لِأَنَّهُ ذكر أَو أُنْثَى وَكِلَاهُمَا يجزىء وَلَيْسَ فِيهِ مَا ينقص اللَّحْم (وتجزىء الْبَدنَة) عِنْد الِاشْتِرَاك فِيهَا (عَن سَبْعَة) لما رَوَاهُ مُسلم عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهلين بِالْحَجِّ فَأمرنَا أَن نشترك فِي الْإِبِل وَالْبَقر كل سَبْعَة منا فِي بَدَنَة وَسَوَاء اتَّفقُوا فِي نوع الْقرْبَة أَو اخْتلفُوا كَمَا إِذا قصد بَعضهم التَّضْحِيَة وَبَعْضهمْ الْهَدْي وَكَذَا لَو أَرَادَ بَعضهم اللَّحْم وَبَعْضهمْ الْأُضْحِية وَلَهُم قسْمَة اللَّحْم لِأَن قسمته قسْمَة إِفْرَاز على الْأَصَح كَمَا فِي الْمَجْمُوع
(و) كَذَا
(الْبَقَرَة) تجزىء (عَن سَبْعَة) للْحَدِيث الْمَار
تَنْبِيه لَا يخْتَص إِجْزَاء الْبَدنَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة بالتضحية بل لَو لزم شخصا سبع شِيَاه بِأَسْبَاب مُخْتَلفَة كالتمتع وَالْقرَان والفوات ومباشرة مَحْظُورَات الْإِحْرَام جَازَ عَن ذَلِك بَدَنَة أَو بقرة
(و) تجزىء (الشَّاة) الْمعينَة من الضَّأْن أَو الْمعز (عَن وَاحِد) فَقَط فَإِن ذَبحهَا عَنهُ وَعَن أَهله أَو عَنهُ وأشرك غَيره فِي ثَوَابهَا جَازَ وَعَلِيهِ حمل خبر مُسلم ضحى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكبشين وَقَالَ اللَّهُمَّ تقبل من مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَمن أمة مُحَمَّد قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ لذَلِك الْخَبَر الصَّحِيح فِي الْمُوَطَّأ أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ كُنَّا نضحي بِالشَّاة الْوَاحِدَة يذبحها الرجل عَنهُ وَعَن أهل بَيته
ثمَّ تباهى النَّاس بعد فَصَارَت مباهاة وَخرج بمعينة الِاشْتِرَاك فِي شَاتين مشاعتين بَين اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَصح
وَكَذَا لَو اشْترك أَكثر من سَبْعَة فِي بقرتين مشاعتين أَو بدنتين كَذَلِك لم يجز عَنْهُم ذَلِك لِأَن كل وَاحِد لم يَخُصُّهُ سبع بَدَنَة أَو بقرة من كل وَاحِدَة من ذَلِك والمتولد بَين إبل وغنم أَو بقر وغنم يَنْبَغِي أَنه لَا يجزىء عَن أَكثر من وَاحِد
وَأفضل أَنْوَاع التَّضْحِيَة بِالنّظرِ لإِقَامَة شعارها بَدَنَة ثمَّ بقرة لِأَن لحم الْبَدنَة أَكثر ثمَّ ضَأْن ثمَّ معز لطيب الضَّأْن على الْمعز ثمَّ الْمُشَاركَة فِي بَدَنَة أَو بقرة أما بِالنّظرِ للحم فلحم الضَّأْن خَيرهَا وَسبع شِيَاه أفضل من بَدَنَة أَو بقرة وشَاة أفضل من مُشَاركَة فِي بَدَنَة أَو بقرة للانفراد بإراقة الدَّم وَأَجْمعُوا على اسْتِحْبَاب السمين فِي الْأُضْحِية فالسمينة أفضل من غَيرهَا ثمَّ مَا تقدم من الْأَفْضَلِيَّة

(2/589)


فِي الذَّات
وَأما فِي الألوان فالبيضاء أفضل ثمَّ الصَّفْرَاء ثمَّ العفراء وَهِي الَّتِي لَا يصفو بياضها ثمَّ الْحَمْرَاء ثمَّ البلقاء ثمَّ السَّوْدَاء قيل للتعبد وَقيل لحسن المنظر وَقيل لطيب اللَّحْم وروى الإِمَام أَحْمد خبر لدم عفراء أحب إِلَى الله تَعَالَى من دم سوداوين (وَأَرْبع لَا تجزىء فِي الضَّحَايَا) الأولى (العوراء) بِالْمدِّ (الْبَين عورها) بِأَن لم تبصر بِإِحْدَى عينيها وَإِن بقيت الحدقة
فَإِن قيل لَا حَاجَة لتقييد العور بالبين لِأَن الْمدَار فِي عدم إِجْزَاء العوراء على ذهَاب الْبَصَر من إِحْدَى الْعَينَيْنِ
أُجِيب بِأَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أصل العور بَيَاض يُغطي النَّاظر وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَتَارَة يكون يَسِيرا فَلَا يضر
فَلَا بُد من تَقْيِيده بالبين كَمَا فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ الْآتِي
تَنْبِيه قد علم من كَلَامه عدم إِجْزَاء العمياء بطرِيق الأولى وتجزىء العمشاء وَهِي ضَعِيفَة الْبَصَر مَعَ سيلان الدمع غَالِبا والمكوية لِأَن ذَلِك لَا يُؤثر فِي اللَّحْم والعشواء وَهِي الَّتِي لَا تبصر لَيْلًا لِأَنَّهَا تبصر وَقت الرَّعْي غَالِبا
(و) الثَّانِيَة (العرجاء) بِالْمدِّ (الْبَين عرجها) بِأَن يشْتَد عرجها بِحَيْثُ تسبقها الْمَاشِيَة إِلَى المرعى
وتتخلف عَن القطيع فَلَو كَانَ عرجها يَسِيرا بِحَيْثُ لَا تتخلف بِهِ عَن الْمَاشِيَة لم يضر كَمَا فِي الرَّوْضَة
(و) الثَّالِثَة (الْمَرِيضَة الْبَين مَرضهَا) بِأَن يظْهر بِسَبَبِهِ هزالها وَفَسَاد لَحمهَا فَلَو كَانَ مَرضهَا يَسِيرا لم يضر وَيدخل فِي إِطْلَاق المُصَنّف الهيماء بِفَتْح الْهَاء وَالْمدّ فَلَا تجزىء لِأَن الهيام كالمرض يَأْخُذ الْمَاشِيَة فتهيم فِي الأَرْض وَلَا ترعى كَمَا قَالَه فِي الزَّوَائِد
(و) الرَّابِعَة (الْعَجْفَاء) بِالْمدِّ وَهِي (الَّتِي ذهب لَحمهَا) السمين بِسَبَب مَا حصل لَهَا (من الهزال) بِضَم الْهَاء وَهُوَ كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي ضد السّمن وَيدل لما قَالَه المُصَنّف مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَربع لَا تجزىء فِي الْأَضَاحِي العوراء الْبَين عورها والمريضة الْبَين مَرضهَا والعرجاء الْبَين عرجها والعجفاء الَّتِي لَا تنقى مَأْخُوذَة من النقي بِكَسْر النُّون وَإِسْكَان الْقَاف وَهُوَ المخ أَي لَا مخ لَهَا من شدَّة الهزال
وَعلم من هَذَا عدم إِجْزَاء الْمَجْنُونَة وَهِي الَّتِي تَدور فِي المرعى وَلَا ترعى إِلَّا قَلِيلا فتهزل وَتسَمى أَيْضا التواء بل هُوَ أولى بهَا
تَنْبِيه قد عرفت مَا تنَاوله كَلَام المُصَنّف من أَن العمياء والهيماء والمجنونة لَا تجزىء وَبِه صَارَت الْعُيُوب الْمَذْكُورَة سَبْعَة وَبَقِي مِنْهَا مَا لَا يتَنَاوَلهُ كَلَام المُصَنّف الجرباء وَإِن كَانَ الجرب يَسِيرا على الْأَصَح الْمَنْصُوص
لِأَنَّهُ يفْسد اللَّحْم والودك وَالْحَامِل فَلَا تجزىء
كَمَا حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَتَبعهُ عَلَيْهِ فِي الْمُهِمَّات وتعجب من ابْن الرّفْعَة حَيْثُ صحّح فِي الْكِفَايَة الْإِجْزَاء
فَائِدَة ضَابِط المجزىء فِي الْأُضْحِية السَّلامَة من عيب ينقص اللَّحْم أَو غَيره مِمَّا يُؤْكَل (ويجزىء الْخصي) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى بكبشين موجوءين أَي خصيين رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا وجبر مَا قطع

(2/590)


مِنْهُ زِيَادَة لَحْمه طيبا وَكَثْرَة وَأَيْضًا الخصية المفقودة مِنْهُ غير مَقْصُودَة بِالْأَكْلِ فَلَا يضر فقدها
وَاتفقَ الْأَصْحَاب إِلَّا ابْن الْمُنْذر على جَوَاز خصاء الْمَأْكُول فِي صغره دون كبره وتحريمه فِيمَا لَا يُؤْكَل كَمَا أوضحته فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
(و) تجزىء (الْمَكْسُورَة الْقرن) مَا لم يعب اللَّحْم وَإِن دمي بِالْكَسْرِ لِأَن الْقرن لَا يتَعَلَّق بِهِ كَبِير غَرَض وَلِهَذَا لَا يضر فَقده خلقَة فَإِن عيب اللَّحْم ضرّ كالجرب وَغَيره وَذَات الْقرن أولى لخَبر خير الضحية الْكَبْش الأقرن وَلِأَنَّهُ أحسن منْظرًا بل يكره غَيرهَا
كَمَا نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَلَا يضر ذهَاب بعض الْأَسْنَان لِأَنَّهُ لَا يُؤثر فِي الاعتلاف وَنقص اللَّحْم فَلَو ذهب الْكل ضرّ لِأَنَّهُ يُؤثر فِي ذَلِك
وَقَضِيَّة هَذَا التَّعْلِيل أَن ذهَاب الْبَعْض إِذا أثر يكون كَذَلِك وَهُوَ الظَّاهِر وَيدل لذَلِك قَول الْبَغَوِيّ ويجزىء مكسور سنّ أَو سِنِين ذكره الْأَذْرَعِيّ وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيّ
(وَلَا يجزىء مَقْطُوع) بعض (الْأذن) وَإِن كَانَ يَسِيرا لذهاب جُزْء مَأْكُول
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِن كَانَ الْمَقْطُوع دون الثُّلُث أَجْزَأَ وَأفهم كَلَام المُصَنّف منع كل الْأذن بطرِيق الأولى وَمنع المخلوقة بِلَا أذن وَهُوَ مَا اقْتصر عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ بِخِلَاف فاقدة الضَّرع أَو الألية أَو الذَّنب خلقَة فَإِنَّهُ لَا يضر
وَالْفرق أَن الْأذن عُضْو لَازم غَالِبا بِخِلَاف مَا ذكر فِي الْأَوَّلين وكما يجزىء ذكر الْمعز وَأما فِي الثَّالِث فقياسا على ذَلِك أما إِذا فقد ذَلِك بِقطع وَلَو لبَعض مِنْهُ كَمَا يُؤْخَذ من قَوْله (وَلَا مَقْطُوع) بعض (الذَّنب) وَإِن قل أَو بِقطع بعض لِسَان فَإِنَّهُ يضر لحدوث مَا يُؤثر فِي نقص اللَّحْم وَبحث بَعضهم أَن شلل الْأذن كفقدها وَهُوَ ظَاهر أَن خرج عَن كَونه مَأْكُولا وَلَا يضر شقّ أذن وَلَا خرقها بِشَرْط أَن لَا يسْقط من الْأذن شَيْء بذلك كَمَا علم مِمَّا مر لِأَنَّهُ لَا ينقص بذلك شَيْء من لَحمهَا وَلَا يضر التطريف وَهُوَ قطع شَيْء يسير من الألية لجبر ذَلِك بسمنها وَلَا قطع فلقَة يسيرَة من عُضْو كَبِير كفخذ لِأَن ذَلِك لَا يظْهر بِخِلَاف الْكَبِيرَة بِالْإِضَافَة إِلَى الْعُضْو فَلَا يجزىء لنُقْصَان اللَّحْم
(و) يدْخل (وَقت الذّبْح) للأضحية المندوبة والمنذورة (من وَقت) مُضِيّ قدر (صَلَاة) رَكْعَتي (الْعِيد) وَهُوَ طُلُوع الشَّمْس يَوْم النَّحْر
ومضي قدر خطبتين خفيفتين وَيسْتَمر (إِلَى غرُوب الشَّمْس من آخر أَيَّام التَّشْرِيق) الثَّلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر بِحَيْثُ لَو قطع الْحُلْقُوم والمريء قبل تَمام غرُوب شمس آخرهَا صحت أضحيته
فَلَو ذبح قبل ذَلِك أَو بعده لم يقطع أضْحِية لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا نصلي ثمَّ نرْجِع فننحر
من فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا وَمن ذبح قبل
فَإِنَّمَا هُوَ لحم قدمه لأَهله لَيْسَ من النّسك فِي شَيْء وَخبر ابْن حبَان فِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح وَالْأَفْضَل تَأْخِيرهَا إِلَى مُضِيّ ذَلِك من ارْتِفَاع شمس يَوْم النَّحْر كرمح خُرُوجًا من الْخلاف وَمن نذر أضْحِية مُعينَة أَو فِي ذمَّته كلله عَليّ أضْحِية ثمَّ عين الْمَنْذُورَة لزمَه ذبحه فِي الْوَقْت الْمَذْكُور
فَإِن تلفت الْمعينَة فِي الثَّانِيَة وَلَو بِلَا تَقْصِير بَقِي الأَصْل عَلَيْهِ أَو تلفت فِي الأولى بِلَا تَقْصِير فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِن تلفت بتقصير لزمَه الْأَكْثَر من مثلهَا يَوْم النَّحْر وَقيمتهَا يَوْم التّلف ليَشْتَرِي بهَا كَرِيمَة أَو مثلين للمتلفة فَأكْثر فَإِن أتلفهَا أَجْنَبِي لزمَه دفع قيمتهَا للناذر يَشْتَرِي بهَا مثلهَا فَإِن لم يجد فدونها
(وَيسْتَحب عِنْد الذّبْح) مُطلقًا (خَمْسَة) بل تِسْعَة (أَشْيَاء) الأول (التَّسْمِيَة) بِأَن يَقُول بِسم الله وَلَا يجوز أَن يَقُول بِسم الله وَاسم مُحَمَّد
(و) الثَّانِي (الصَّلَاة) وَالسَّلَام (على) سيدنَا (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) تبركا بهما
(و) الثَّالِث (اسْتِقْبَال الْقبْلَة بالذبيحة)

(2/591)


أَي بمذبحها فَقَط على الْأَصَح دون وَجههَا ليمكنه الِاسْتِقْبَال أَيْضا
(و) الرَّابِع (التَّكْبِير ثَلَاثًا) بعد التَّسْمِيَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(و) الْخَامِس (الدُّعَاء بِالْقبُولِ) بِأَن يَقُول اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَإِلَيْك فَتقبل مني وَالسَّادِس تَحْدِيد الشَّفْرَة فِي غير مقابلتها
وَالسَّابِع إمرارها وتحامل ذهابها وإيابها وَالثَّامِن إضجاعها على شقها الْأَيْسَر وَشد قَوَائِمهَا الثَّلَاث غير الرجل الْيُمْنَى
وَالتَّاسِع عقل الْإِبِل وَقد مرت الْإِشَارَة إِلَى بعض ذَلِك
(وَلَا يَأْكُل من الْأُضْحِية الْمَنْذُورَة) وَالْهَدْي الْمَنْذُور كَدم الجبرانات فِي الْحَج (شَيْئا) أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك فَإِن أكل من ذَلِك شَيْئا غرمه
(وَيَأْكُل من الْأُضْحِية المتطوع بهَا) أَي ينْدب لَهُ ذَلِك قِيَاسا على هدي التَّطَوُّع الثَّابِت بقوله تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير} أَي الشَّديد الْفقر وَفِي الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْكُل من كبد أضحيته
وَإِنَّمَا لم يجب الْأكل مِنْهَا
كَمَا قيل بِهِ لظَاهِر الْآيَة لقَوْله تَعَالَى {وَالْبدن جعلناها لكم من شَعَائِر الله} فَجَعلهَا لنا وَمَا جعل للْإنْسَان فَهُوَ مُخَيّر بَين أكله وَتَركه
قَالَه فِي الْمُهَذّب (وَلَا يَبِيع من الْأُضْحِية شَيْئا) وَلَو جلدهَا أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا يَصح سَوَاء أَكَانَت منذورة أم لَا
وَله أَن ينْتَفع بجلد أضْحِية
التَّطَوُّع كَمَا يجوز لَهُ الِانْتِفَاع بهَا
كَأَن يَجعله دلوا أَو نعلا أَو خفا وَالتَّصَدُّق بِهِ أفضل
وَلَا يجوز بَيْعه وَلَا إِجَارَته لِأَنَّهَا بيع الْمَنَافِع لخَبر الْحَاكِم وَصَححهُ من بَاعَ جلد أضحيته فَلَا أضْحِية لَهُ وَلَا يجوز إِعْطَاؤُهُ أُجْرَة للجزار وَيجوز لَهُ إعارته كَمَا تجوز لَهُ إعارتها
أما الْوَاجِبَة فَيجب التَّصَدُّق بجلدها
كَمَا فِي الْمَجْمُوع والقرن مثل الْجلد
فِيمَا ذكر وَله جز صوف عَلَيْهَا إِن ترك إِلَى الذّبْح ضرّ بهَا للضَّرُورَة وَإِلَّا فَلَا يجزه إِن كَانَت وَاجِبَة لانتفاع الْحَيَوَان بِهِ فِي دفع الْأَذَى وانتفاع الْمَسَاكِين بِهِ عِنْد الذّبْح
وكالصوف فِيمَا ذكر الشّعْر والوبر وَولد الْأُضْحِية الْوَاجِبَة يذبح حتما كَأُمِّهِ وَيجوز لَهُ كَمَا فِي الْمِنْهَاج أكله قِيَاسا على اللَّبن وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
وَقيل لَا يجوز كَمَا لَا يجوز لَهُ الْأكل من أمه وَله شرب فَاضل لَبنهَا عَن وَلَدهَا مَعَ الْكَرَاهَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ (وَيطْعم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين) من الْمُسلمين على سَبِيل التَّصَدُّق من أضْحِية التَّطَوُّع بَعْضهَا وجوبا وَلَو جُزْءا يَسِيرا من لَحمهَا بِحَيْثُ ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وَيَكْفِي الصّرْف لوَاحِد من الْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين
وَإِن كَانَت عبارَة المُصَنّف تَقْتَضِي خلاف ذَلِك بِخِلَاف سهم الصِّنْف الْوَاحِد من الزَّكَاة لَا يجوز صرفه لإقل من ثَلَاثَة لِأَنَّهُ يجوز هُنَا الِاقْتِصَار على جُزْء يسير لَا يُمكن صرفه لأكْثر من وَاحِد وَيشْتَرط فِي اللَّحْم أَن يكون نيئا ليتصرف فِيهِ من يَأْخُذهُ بِمَا شَاءَ من بيع وَغَيره
كَمَا فِي الْكَفَّارَات فَلَا يَكْفِي جعله طَعَاما وَدُعَاء الْفُقَرَاء إِلَيْهِ لِأَن حَقهم فِي تملكه وَلَا تمليكهم لَهُ مطبوخا وَلَا تمليكهم غير اللَّحْم من جلد وكرش وطحال وَنَحْوهَا وَلَا الْهَدِيَّة عَن التَّصَدُّق وَلَا الْقدر التافه من اللَّحْم كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْمَاوَرْدِيّ وَلَا كَونه قديدا كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ
وَلَو تصدق بِقدر الْوَاجِب وَأكل وَلَدهَا كُله جَازَ
وَلَو أعطي الْمكَاتب جَازَ كَالْحرِّ قِيَاسا على الزَّكَاة وَخَصه ابْن الْعِمَاد بِغَيْر سَيّده وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَو صرفه إِلَيْهِ من

(2/592)


زَكَاته انْتهى
وَهُوَ ظَاهر وَخرج بِقَيْد الْمُسلمين غَيرهم فَلَا يجوز إطعامهم مِنْهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَوَقع فِي الْمَجْمُوع جَوَاز إطْعَام فُقَرَاء أهل الذِّمَّة من أضْحِية التَّطَوُّع دون الْوَاجِبَة وتعجب مِنْهُ الْأَذْرَعِيّ
تَتِمَّة الْأَفْضَل التَّصَدُّق بكلها لِأَنَّهُ أقرب للتقوى وَأبْعد عَن حَظّ النَّفس إِلَّا لقْمَة أَو لقمتين أَو لقما يتبرك بأكلها عملا بِظَاهِر الْقُرْآن والاتباع وللخروج من خلاف من أوجب الْأكل وَيسن أَن يجمع بَين الْأكل وَالتَّصَدُّق والإهداء وَأَن يَجْعَل ذَلِك أَثلَاثًا وَإِذا أكل الْبَعْض وَتصدق بِالْبَعْضِ فَلهُ ثَوَاب التَّضْحِيَة بِالْكُلِّ وَالتَّصَدُّق بِالْبَعْضِ وَيشْتَرط النِّيَّة للتضحية عِنْد ذبح الْأُضْحِية أَو قبله عِنْد تعْيين مَا يُضحي بِهِ كالنية فِي الزَّكَاة لَا فِيمَا عين لَهَا بِنذر فَلَا يشْتَرط لَهُ نِيَّة وَإِن وكل بِذبح كفت نِيَّته وَلَا حَاجَة لنِيَّة الْوَكِيل وَله تفويضها لمُسلم مُمَيّز وَلَا تضحية لأحد عَن آخر بِغَيْر إِذْنه وَلَو كَانَ مَيتا كَسَائِر الْعِبَادَات بِخِلَاف مَا إِذا أذن لَهُ كَالزَّكَاةِ
وَلَا لرقيق وَلَو مكَاتبا فَإِن أذن لَهُ سَيّده فِيهَا وَقعت لسَيِّده إِن كَانَ غير مكَاتب وَإِن كَانَ مكَاتبا وَقعت لَهُ لِأَنَّهَا تبرع وَقد أذن لَهُ سَيّده فِيهِ