البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صفة الوضوء]
المستحب: ألا يستعين على الوضوء بغيره، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعين على الوضوء بأحد» .
وإن استعان بغيره نظرت:
فإن كان بتقريب الوضوء إليه، وما أشبه ذلك.. لم يكره، وإن استعان بغيره بصب الماء عليه جاز..؛ لما روي «أن أسامة، والمغيرة، والربيع بنت معوذ بن عفراء: (صبوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء، فتوضأ» .
وإن وضأه غيره، ولم يوجد منه غير النية.. أجزأه عندنا.
وقال داود: (لا يجزئه) .
دليلنا: أن فعله غير مستحق في الطهارة، ولهذا لو وقف تحت ميزاب أو مطر، ونوى الطهارة، وأمر الماء على أعضاء الطهارة أجزأه.
وأما قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فالمراد به: تحصيل الغسل.

[مسألة: استحباب التسمية عند ابتداء الوضوء]
ويسمي الله تعالى عند ابتداء الطهارة؛ لأن التسمية مشروعة في جميع الأعمال، فالطهارة بذلك أولى.

(1/108)


إذا ثبت هذا: فإنها مستحبة وغير واجبة، وهو قول ربيعة، ومالك، وأبي حنيفة.
وقال إسحاق بن راهويه: هي واجبة في الطهارة، إن تركها عامدًا.. لم تصح طهارته، وإن تركها ناسيًا.. صحت وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال داود، وأهل الظاهر: (هي واجبة وشرط في الطهارة، فإن تركها عامدًا أو ناسيًا.. لم تصح طهارته) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه.. كان طهورًا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه.. كان طهورًا لما مر عليه الماء» .
فصحح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطهارتين: وإنما جعل الطهارة التي ذكر اسم الله عليها.. طهارة لجميع بدنه من الذنوب والتي لم يذكر اسم الله عليها.. طهارة لما مر عليه الماء من الذنوب؛ لأن رفع الحدث لا يتبعض.
فإن نسي التسمية في أول الطهارة.. أتى بها متى ذكرها قبل الفراغ، حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله تعالى.

[مسألة: سنية غسل الكفين]
ثم يغسل كفيه ثلاثًا؛ لأن عثمان وعليا وعبد الله بن زيد وصفوا وضوء رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكلهم قالوا: «غسل كفيه ثلاثًا» .

(1/109)


ثم ينظر فإن قام من النوم، أو شك في نجاسة يده.. فالمستحب: ألا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا. وإن لم يقم من النوم، ولم يشك في نجاسة يده.. فهو بالخيار بين أن يغمس يده في الإناء، وبين أن يفرغ الماء من الإناء على يده.
وهذا كله مستحب غير واجب عندنا.
وقال الحسن: هو واجب؛ لأجل النجاسة، فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها.. نجس الماء.
وقال داود: (هو واجب تعبدًا، فإن خالف وغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها.. صار الماء مهجورًا، وليس بنجس) .
وقال أحمد: (إن قام من نوم النهار.. فهو مستحب، وإن قام من نوم الليل.. فهو واجب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
فمن قال: يجب غسل اليدين قبل الوجه.. فقد خالف ظاهر القرآن.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه.. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده منه. وروي: أين طافت منه» .
وإنما قال: «أين باتت يده منه» ؛ لأن القوم كانوا يستنجون بالحجارة، وكانت بلادهم حارة، فإذا ناموا.. لم يأمنوا أن تطوف أيديهم على الآثار التي لم تقلعها الحجارة، وفي هذا الخبر فوائد:
منها: أن اليد تغسل ثلاثًا قبل الطهارة.
الثانية: أن ذلك مستحب؛ لأنه قال: «أين باتت يده منه» فتبين أنه احتياط للنجاسة.

(1/110)


الثالثة: أن النجاسة إذا وردت على ماء قليل نجسته.
الرابعة: أن الماء القليل، إذا ورد على النجاسة.. أزالها؛ لأنه حكم بطهارة اليد بإيراد بعض ماء الإناء عليها.

[مسألة: استحباب المضمضة والاستنشاق]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ثم يغرف بيده اليمنى غرفة لفيه وأنفه) .
وإنما قال: (بيمينه) ؛ لأن اليمين مما يرجى أن يؤخذ بها الكتاب يوم القيامة، فقدمت في أعمال البر.
و (الغرفة) - بضم الغين - اسم للماء الذي يكون بكفه، وبفتح الغين: مصدر غرف، يغرف، غرفة.
وجملة ذلك: أن المضمضة والاستنشاق.. مشروعان في الطهارة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يستنثر.. إلا خرجت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء» .
قال الشافعي: (والمضمضة: أن يأخذ الماء في فمه، ويديره فيه، ثم يمجه، فإن مجه ولم يدره في الفم.. لم يعتد به) ؛ لأن القصد قطع الرائحة من الفم، وإزالة تغيره، وهذا لا يوجد من غير إدارة. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
و (الاستنشاق) : أن يجعل الماء في أنفه، ويجذبه بنفسه إلى خياشيمه، ويستنثره. والمستحب: أن يبالغ فيهما إلا أن يكون صائمًا.. فيرفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» .

(1/111)


وهل يسن الجمع بينهما، أو الفصل؟ فيه قولان:
[أحدهما] : روى المزني: (أنه يجمع بينهما) وقد نص عليه في " الأم " [1/21] ؛ لما روي: أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد» .
و [الثاني] : قال في " البويطي ": (يفصل بينهما) قال المحاملي: وهو الأصح؛ لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين المضمضة والاستنشاق» ؛ ولأنه أبلغ في النظافة، وأشبه بأعضاء الطهارة، فكان أولى.
واختلف أصحابنا في كيفية الجمع، والفصل:
فقال الشيخ أبو حامد: (الجمع) : هو أن يغرف غرفة واحدة، فيتمضمض ويستنشق منها ثلاثًا، يجمع في كل مرة بينهما.
وأما (الفصل) : فيغرف غرفة، فيتمضمض منها ثلاثًا، ثم يأخذ غرفة ثانية، فيستنشق منها ثلاثًا.
قال القاضي أبو حامد المروروذي، وأبو يعقوب الأبيوردي: (الجمع) هو: أن يأخذ غرفة فيتمضمض منها ويستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم يأخذ غرفة ثالثة يفعل بها كذلك.
و (الفصل) : أن يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق.

(1/112)


وما قاله الشيخ أبو حامد أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه قال في الجمع: (يغرف غرفة لفيه وأنفه) ، وهذا لا يوجد إلا على ما قاله الشيخ أبو حامد، إلا أن ما ذكره القاضي أبو حامد أمكن وأثبت.
إذا ثبت هذا: فإن المضمضة والاستنشاق.. سنة في الوضوء وغسل الجنابة، وهو قول مالك.
وقال ابن أبي ليلى، وإسحاق: هما واجبان في الوضوء، والغسل.
وقال أحمد، وداود: (الاستنشاق واجب فيهما دون المضمضة) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (هما واجبان في الغسل، سنتان في الوضوء) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء» .
فجعل المضمضة والاستنشاق مع هذه المسنونات، فدل على أن حكم الجميع واحد، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . وليس فيما أمره الله: المضمضة والاستنشاق.
وعلى أبي حنيفة -: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء» . ولأنه عضو باطن دونه حائل معتاد، فلم يجب غسله كالعين.

(1/113)


[مسألة: فرضية غسل الوجه]
ثم يغسل وجهه، وهو واجب؛ لنص الكتاب، والسنة والإجماع.
وكيف يأخذ الماء؟:
روى المزني، عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يغرف الماء بيده) .
وقال الصيمري في " الإيضاح ": يأخذ الماء بكفيه؛ اتباعًا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه لا يتمكن من غسل وجهه إلا هكذا. قال: ويبدأ بأعلاه؛ اتباعًا للسنة، ولأنه أشرف، فبدأ به.
إذا ثبت هذا: فإن المزني قال: حد الوجه: من منابت شعر الرأس إلى أصول أذنيه ومنتهى اللحية، إلى ما أقبل من وجهه وذقنه.
وذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/21] حد الوجه، فقال: (حده: من دون منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين إلى الذقن. وهو مجتمع اللحيين) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو الحد الصحيح، وما ذكره المزني فاسد من وجوه:
أحدها: أنه قال: (من منابت شعر الرأس) . والوجه: إنما هو ما دون منابت شعر الرأس.
والثاني: أنه قال: (إلى منتهى اللحية) ، فإن أراد منتهى النبات.. فمنتهاه تحت الحلق، وليس ذلك من الوجه. وإن أراد منتهى النبات طولا.. فعلى أحد القولين: لا يجب غسله، وعلى الثاني: يجب، وليس من الوجه، وإنما هو في حكمه.
والثالث أنه قال: (إلى ما أقبل من وجهه وذقنه) . فحد الوجه بالوجه، وإنما يحد الشيء بغيره.
والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل الشعر

(1/114)


إلى جبهته. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وذكر المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 17] : إذا نبت الشعر على بعض جبهته كالأغم.. فمن أين يجب الغسل؟ فيه وجهان:
أحدهما: من المنبت، وهو الأصح.
والثاني: من منحدر الرأس.
وأما تفصيل الوجه: فـ (الجبهة) من الوجه، وهي: موضع السجود، قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] [الفتح: 29] .
و (الجبينان) من الوجه، وهما: العظمان المشرفان على الجبهة.
و (النزعتان) من الرأس، وهما، البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال: نزع الرجل، فهو أنزع، وتسمى أيضًا: الجلحة، يقال: رجل أجلح.
و (الناصية) : من الرأس.
و (الصدغان) من الرأس، وهو: الشعر الذي يتجاوز موضع الأذن، المتصل بشعر الرأس.
و (العذاران) : من الوجه، وهو: الشعر الخفيف المقابل للأذن. و (البياض الذي بين العذار والأذن) : من الوجه. وقال مالك: (هو من الرأس) .
و (العارضان) من الوجه، وهو: الشعر الكثيف تحن العذار.
وفي موضع (التحذيف) ، وهو: الشعر الذي بين ابتداء العذار والنزعة، وهو الداخل إلى الجبين من جانبي الوجه.. وجهان:

(1/115)


[أحدهما] : قال أبو العباس: هو من الوجه؛ لأن العادة تحذيفه، فقد جعلوه وجهًا.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: هو من الرأس وهو الصحيح؛ لأنه متصل بشعر الرأس؛ ولأن الله تعالى خلقه رأسًا، فلا يصير وجهًا بفعل الناس له.

[فرع: غسل اللحية والعارض]
إذا كان لا شعر على لحيته أو عارضيه، بأن كان أمرد، أو (أثط) : وهو الذي لم تخلق له لحية.. فإنه يجب عليه غسل جميع الوجه الذي تقدم حده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وهذه المواضع تقع بها المواجهة.
وإن كان قد نبتت على لحيته وعارضيه شعر، فإن كان الشعر خفيفًا.. وجب تخليل الشعر، وإيصال الماء إلى البشرة؛ لأن الواجهة تقع بذلك. وإن كان شعر لحيته وعارضيه كثيفًا.. فالمستحب له: أن يخلل الشعر، ويوصل الماء إلى البشرة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخلل لحيته» .
ولا يجب عليه التخليل.
وقال المزني: وأبو ثور: (يجب عليه التخليل، وإيصال الماء إلى البشرة) .
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فغرف غرفة، فغسل به وجهه» . ومعلوم أنه بغرفة واحدة لا يصل الماء إلى باطن الشعر من

(1/116)


اللحية مع كثافته، وقد «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيف شعر اللحية» ، رواه علي بن أبى طالب في وصف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن كان بعض لحيته خفيفًا، وبعضها كثيفًا.. وجب عليه إيصال الماء إلى ما تحت الخفيف، ولا يجبُ إلى ما تحت الكثيف اعتبارًا بكل واحد منهما. واختلف أصحابنا في حد الكثيف:
فمنهم من قال (الكثيف) : هو الشعر الذي لا يصل الماء إلى باطنه إلا بمشقة.
ومنهم من قال: (الكثيف) : هو الشعر الذي يستر بشرة اللحية أن ترى، وهذا هو المشهور.

[فرع: غسل شعور الوجه]
قال الشيخ أبو حامد: فإن نبت له شعر تحت محاجر عينيه.. وجب عليه: إيصال الماء إلى بشرته؛ لأنه نادر، وكذا إن نبت للمرأة لحية.. وجب: إيصال الماء إلى بشرتها وإن كان الشعر كثيفًا؛ لأنه نادر.
ويجب إيصال الماء إلى باطن الأهداب، والحاجبين، والعذارين، والشارب، وإن كان شعرها كثيفًا. واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأن الشعر يخف في هذه الموضوع في الغالب، فإذا كثف.. كان نادرًا، فيلحق بالغالب. وهذا هو الصحيح.
ومنهم من قال: يجب؛ لإحاطة بياض الوجه بهذه الشعور.
وأما (العنفقة) : وهو الشعر الذي على الشفة السفلى إلى اللحية، فإن كانت منفرجة عن اللحية.. وجب إيصال الماء إلى بشرتها وإن كانت كثيفة، كما قلنا في هذه الشعور.

(1/117)


وإن كانت العنفقة متصلة بشعر اللحية، فإن قلنا: العلة في تلك الشعور أنها خفيفة في الغالب.. وجب هاهنا أيضًا؛ لهذه العلة. وإن قلنا: إن العلة هناك إحاطة بياض الوجه بهن.. لم يجب إيصال الماء إلى باطنها؛ لفقد هذه العلة. قال الصيدلاني: ولو خرجت سباله عن حد الوجه.. فالمذهب: أنه يجب غسلها، وكذلك لو كان بوجهه سلعة وخرجت عن حد الوجه.. وجب غسلها.

[فرع: استرسال اللحية]
وإن نبتت له لحيه واسترسلت، ونزلت عن حد الوجه.. وجب غسل ظاهر الشعر الذي لم ينزل عن الوجه. وفيما نزل عن حد الوجه طولًا وعرضًا.. قولان:
أحدهما: لا يجب إفاضة الماء على ظاهره؛ لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض، فلم يكن محلا للفرض، كطرف شعر الذؤابة.
والثاني: يجب؛ لأنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه، فأشبه شعر الحاجب.

[فرع: غسل داخل العينين]
فرع: [لا يجب غسل داخل العينين] :
وأما إدخال الماء في العينين: فلا يجب؛ لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولًا، ولا فعلًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو هيئة في الوضوء، وليس بسنة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إنما ذكرت المضمضة والاستنشاق دون غسل العين؛ للسنة، ولأنهما يتغيران، فيزيل الماء تغيرهما، والعين لا تتغير) .

(1/118)


ومن أصحابنا من قال: يستحب ذلك؛ لما روي: أن ابن عمر كان يغسل عينيه حتى عمي. والأول أصح.
قال ابن الصباغ: إلا أنه يستحب أن يمسح (مآقي العينين) ، وهو: مخصرهما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسح المأقين» ، واحدهما: مأق، ويسمى: المؤق أيضًا، ولأنه قد يجتمع فيهما كحل أو رمص، فيزيل ذلك، ويصل الماء إليه.

[مسألة: فرضية غسل اليدين]
ثم يغسل يديه، وهو واجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
وروي: «أن النبي لما توضأ.. غسل يديه» ، وقال لأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» .
وأجمعت الأمة على وجوب غسلهما.
ويستحب أن يبدأ بيده اليمنى، ثم باليسرى؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم.. فابدؤوا بميامنكم» .

(1/119)


فإن بدأ باليسرى قبل اليمنى.. أجزاه، وبه قال عامة أهل العلم. وقال الفقهاء السبعة: لا يجزئه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولم يفرق.
قال الصيمري: فإن كان هو الغاسل.. أخذ الماء بكفه، ثم أحدره إلى مرفقه مجريًا له بكفه، وكذلك يفعل باليسرى. وإن كان غيره يصب الماء عليه.. أمره بالصب من مرفقه إلى أطراف أصابعه، ويكون مجلس الصاب عن يساره.
ويجب إدخال المرفقين في الغسل، وهو قول كافة العلماء.
وقال زفر، وأبو بكر بن داود: هما حدان، فلا يجب إدخالهما في الغسل.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ.. أمر الماء على مرفقيه» . وهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج مخرج البيان؛ لما ورد به القرآن مجملًا.
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 18] : وفي (المرفق) قولان:
أحدهما: أنه مجتمع العظمين: عظم الساعد، وعظم العضد.
والثاني: أنه عظم الساعد، وإنما يغسل عظم العضد تبعًا.
ومن أصحابنا من قال: المرفق: مجتمع العظمين قولًا واحدًا.
وفي المرفق لغتان: [يقال] : مرفق، بكسر الميم وفتح الفاء. ويقال مرفق، بفتح الميم وكسر الفاء.

(1/120)


[فرع: ما طال من الأظفار]
وإن كانت له أظفار قد طالت، وخرجت عن حد اليد.. فهل يجب غسل ما خرج منها من حد اليد؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كاللحية المسترسلة.
ومنهم من قال: يجب غسل ذلك قولًا واحدًا؛ لأن ذلك نادر، بخلاف اللحية.

[فرع: غسل العضو الزائد]
] : إذا كانت له أصبع زائدة، أو كف زائد في كفة أو ذراعه.. وجب غسلهما؛ لأنهما في محال الفرض.
وإن كانت له يد زائدة، فإن كان أصلها في محال الفرض.. وجب غسلها مع اليد؛ لأنها في محل الفرض.. وإن كان أصلها في منكبه أو عضده، فإن كانت قصيرة لم تحاذ شيئًا من محال الفرض.. لم يجب غسلها. وإن كان فيها شيء قد حاذى محل الفرض.. فهل يجب غسل ما حاذى منها محل الفرض مع اليد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه يجب؛ لأنه يقع عليها اسم اليد.
والثاني: لا يجب؛ لأن أصلها في غير محل الفرض، وهي تابعة له.
وما قاله الأول من: أنه يقع عليها اسم اليد؛ يبطل بها إذا كانت قصيرة لم تحاذ من محال الفرض، فإنه يقع عليها اسم اليد، ومع هذا فلا يجب غسلها.
وإن كان لها يدان متساويان على منكب أو مرفق.. وجب غسلهما؛ لوقوع اسم اليد عليهما.

(1/121)


[فرع: الجلد المنكشط]
وإن انكشطت منه جلدة، وتدلت من محل الفرض في اليد.. وجب غسلها مع اليد، سواء انكشطت من محل الفرض وتدلت منه، أو انكشطت من العضد، وبلغت إلى المرفق أو الساعد فتدلت منه؛ لأنها صارت تابعة لما نزلت منه.
وإن تدلت من العضد.. لم يجب غسلها، سواء انكشطت من العضد وتدلت منه، أو انكشطت من محل الفرض وبلغت إلى العضد؛ لأنها صارت تابعة للعضد.
وهكذا إن انكشطت من الساعد أو العضد، والتزقت بالآخر.. وجب غسل ما حاذى منها محل الفرض، ولا يجب غسل ما علا العضد؛ لأن ما علا محل الفرض تابع له، فوجب غسله، وما علا العضد تابع له، فلم يجب غسله.
وإن سقط طرفها من أحدهما والتحم بالأخرى، وبقي ما تحتها متجافيا.. وجب غسل ما تحتها متجافيا من محل الفرض، ووجب غسل ما حاذى محل الفرض من الجلدة وإن كان متجافيا؛ لأنه تابع له.

[فرع: العضو المبان بعضه]
وإن كان أقطع اليد، فإن كان مقطوعًا من دون المرفق.. وجب غسل ما بقي من الساعد مع المرفق. وإن كان مقطوعًا من فوق المرفق.. فلا فرض عليه، ويستحب له أن يمس ما بقي.. من العضد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة.
وإن كان مقطوعًا من المرفقين.. فنقل المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا فرض عليه) ، ونقل الربيع: (أنه يجب عليه غسل ما بقي من المرفقين) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أكثر البغداديين من أصحابنا: غلط المزني في نقله، وأجاب في هذه المسألة بجواب المسألة قبلها.

(1/122)


ومنهم من قال: بل ما نقله المزني صحيح أيضًا، وأراد بقوله: (من المرفقين) ، أي: مع المرفقين.
وقال الخراسانيون: في المسألة قولان، واختلفوا في أصل القولين:
فمنهم من قال: أصلهما القولان في المرفق:
أحدهما: أنه مجتمع العظمين: عظم الساعد، وعظم العضد، وهو المشهور.
فعلى هذا: يجب عليه غسل عظم العضد.
والثاني: أن المرفق عظم الساعد.
فعلى هذا: لا يجب غسل عظم العضد.
ومنهم من قال: المرفق: هو مجتمع العظمين، وإنما هل يغسل عظم العضد تبعًا، أو قصدًا؟ وفيه قولان:
فإن قلنا: يجب غسله قصدًا.. وجب غسله هاهنا.
وإن قلنا: يجب غسله تبعًا.. لم يجب غسله هاهنا. وكل موضع قلنا: لا يجب غسله.. استحب له أن يمسه ماء؛ حتى لا يخلوا العضو من الطهارة.

[فرع: شرعية استعانة الأقطع]
فإن وجد الأقطع من يوضئه بأجرة المثل، وهو قادر عليها.. لزمه ذلك، كما يلزمه شراء الماء بثمن المثل. وإن بذل له غيره توضيئه بغير أجرة.. قال الصيدلاني: لزمه ذلك؛ لأن عليه التسبب إلى أداء الصلاة.
وإن لم يجد من يوضئه بأجرة، ولا بغير أجرة.. صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر، كما لو لم يجد ماء ولا ترابًا. وإن كان معسرًا بالأجرة.. صلى على حسب حاله وأعاد؛ لأنه نادر.
وإن توضأ، ثم قطعت يده.. لم يلزمه غسل ما ظهر عن الحدث. وكذلك لو مسح رأسه، ثم حلقه.. لم يلزمه مسح ما ظهر.

(1/123)


وقال محمد بن جرير الطبري: يبطل مسح الرأس، كما يبطل مسح الخف. دليلنا: أن الطهارة لم تتعلق بموضوع القطع، وإنما كانت متعلقة بما ظهر من اليد، وقد غسله؛ ولأن ما ظهر ليس ببدل عما تحته، فهو كما لو غسل يده، ثم كشط جلدها.
فإن أحدث بعد ذلك.. لزمه غسل ما ظهر بالقطع. وكذلك إن حصل في بعض أعضاء الطهارة ثقب.. لزمه غسل باطنه؛ لأنه صار ظاهرًا.

[فرع: سنية تحريك الخاتم]
] : قال ابن الصباغ: وإذا كان في إصبعه خاتم.. فيستحب أن يحركه مع علمه بوصول الماء إلى ما تحته، إلا أن يكون الخاتم واسعًا، فلا يحتاج إلى التحريك؛ لما روى أبو رافع: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ.. حرك خاتمه في أصبعه» .

[مسألة: فرضية مسح الرأس]
ثم يمسح رأسه، وهو واجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: [مسح رأسه] .
وأجمعت الأمة على وجوبه. ثم الكلام فيه في ثلاثة فصول: في قدر الواجب، والمستحب، والتكرار.
فأما قدر الواجب منه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: الواجب مسح ثلاث شعرات، كما قلنا في الحلق في التحلل من الإحرام.
والمذهب: أنه لا يتقدر، بل لو مسح ما يقع عليه اسم المسح ولو بعض شعره..

(1/124)


أجزأه؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح، وأقله ما يقع عليه الاسم. هذا مذهبنا.
وقال مالك، والمزني، وأحمد - في إحدى الروايتين -: (يجب مسح جميعه) .
وقال محمد بن مسلمه: إن ترك الثلث.. جاز. وهي الرواية الثانية عن أحمد. وقال بعض أصحاب مالك: إن ترك اليسير منه ناسيًا.. جاز.
وعن أبى حنيفة ثلاث روايات: إحداهن: (الواجب مسح قدر ربعه) . والثانية: (الواجب مسح قدر الناصية) . والثالثة: (الواجب مسح قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والباء: للتبعيض.
وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بناصيته، وعلى عمامته» .
وهذا يبطل قول من أوجب مسح الكل، ويبطل التقدير الذي قدره أبو حنيفة بالربع، فإن الناصية ما بين النزعتين، وهو ما دون الربع.
أما المستحب: فهو أن يمسح جميعه، ويجعل الماء في كفيه، ثم يرسله، ثم يضع إبهاميه على صدغيه، وسبابتيه على مقدم رأسه، ثم يذهب بيده إلى قفاه، ثم

(1/125)


يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه؛ لما روي: (أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوصف: أنه مسح رأسه كما ذكرنا) ؛ ولأن منابت الشعر مختلفة، ففي ذهابه يقع المسح على باطن شعر مقدم رأسه وعلى ظاهر مؤخره، وفي رد يديه يقع على باطن مؤخره وظاهر مقدمه.

[فرع: ما يقوم بدل المسح]
وإن وضع إصبعه على رأسه ولم يمرها عليه، أو قطر على رأسه ماء، أو غسل رأسه مكان المسح.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه، وهو اختيار القفال؛ لأنه لم يمسح.
والثاني: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه قد حصل فيه المسح وزيادة في الغسل.

[فرع مسح المحلوق والأصلع]
فإن كان محلوقا أو أصلع، فمسح على البشرة.. أجزأه؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس.
وإن كان له شعر قد نزل عن حد الرأس، فمسح على ما نزل عن حد الرأس منه.. لم يجزئه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الرأس.
وإن رد الشعر النازل عن حد الرأس إلى وسط الرأس، ومسح عليه هناك.. لم يجزئه أيضًا؛ لأنه كالعمامة.
وإن كان له شعر قد زايل منبته، إلا أنه لم ينزل عن حد الرأس، فمسح على ما زايل منبته.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه مسح على شعر في غير منبته، فهو كما لو مسح على الشعر النازل عن حد الرأس.

(1/126)


والثاني: يجزئه، وهو المذهب؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس، فهو كما لو مسح على رؤوس الشعر الذي لم يزايل منبته.
فإذا قلنا بهذا، ولم يمسح على الشعر، بل مسح على البشرة التي تحت هذا الشعر.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجزئه؛ لأنه لم يمسح على ما برأس.
قال ابن الصباغ: وإنما هذا يتصور أن يمسح أصول الشعر دون أعلاه، وإلا فمتى كان تحت الشعر بشرة لا شعر عليها، وإنما عليها شعر غيرها.. جاز المسح عليها، كما لو كانت مكشوفة.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يجزئه؛ لأنه محل للمسح، بدليل أنه لو لم يكن عليه شعر، فمسح عليه.. أجزأه.
وإن كان بعض رأسه محلوقًا، أو أصلع وعلى بعضه شعر لم ينزل عن منبته، فإن مسح على المحلوق أو الأصلع.. أجزأه، وإن مسح على الشعر الذي لم ينزل عن منبته.. أجزأه؛ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فيخير بينهما.

[فرع: المسح على العمامة]
فرع: [ندب المسح على العمامة] :
فإن كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها.. فالمستحب: أن يمسح بناصيته، ويتم المسح على العمامة؛ لما روى المغيرة بن شعبة: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بناصيته، وعلى عمامته» .
فإن اقتصر على مسح العمامة.. لم يجزئه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وقال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وداود: (يجوز) ، إلا أن أحمد والأوزاعي قالا: (إنما يجوز إذا لبسها على طهارة، كالخف) .
وقال بعض أصحاب أحمد: إنما يجوز إذا كانت تحت الحنك.

(1/127)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والعمامة لا يقع عليها اسم الرأس؛ ولأنه عضو لا يلحقه المشقة في إيصال الماء إليه.. فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه، كالوجه واليد.
فقولنا: (لا يلحقه المشقة في إيصال الماء إليه) احتراز من الخف والجبيرة.
وقولنا: (على حائل منفصل عنه) احتراز من مسح الشعر النابت على الرأس.

[فرع: استحباب تكرار مسح الرأس]
وأما تكرار مسح الرأس: فاختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلى أن السنة: أن يمسحه ثلاثًا، كل مرة بماء جديد) . وروى ذلك عن أنس، وهو قول عطاء.
و [الثاني] : قال الحسن، ومجاهد، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد وأبو ثور: (السنة: أن يمسحه مرة واحدة) . وهو اختيار الشيخ أبي نصر البندنيجي صاحب " المعتمد ".
و [الثالث] : قال ابن سيرين: يمسحه مرتين، مرة فرضًا، ومرة سنة.
دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: "من توضأ مرتين مرتين.. آتاه الله أجره مرتين"، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم» . ولم يفرق بين الرأس وغيره؛ ولأنه أحد أعضاء الطهارة، فسن فيه التكرار، كسائر الأعضاء.

(1/128)


[مسألة: سنية مسح الأذنين]
] : ثم يمسح أذنيه ظاهرهما، وباطنهما.
قال الصيمري: وظاهرهما: مما يلي الرأس، وباطنهما: مما يلي الوجه ليس الصماخين؛ لما روى المقدام بن معدي كرب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه» قال صاحب " الفروع ": ويدخل أصبعيه في صماخي أذنيه، ويمر اليد مع تلك البلة على عنقه، وقد قيل: يعود إلى الصماخين بماء.
وقد اختلف الناس في الأذنين، على خمسة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنهما ليستا من الوجه فلا يغسلان معه، ولا من الرأس فلا يمسحان معه، وإنما هما عضوان منفردان، فيأخذ لهما ماء جديدا غير الذي مسح به الرأس) . وروي ذلك عن ابن عمر، والحسن، وعطاء.
و [الثاني] : ذهب مالك، وأحمد: (إلى أنهما من الرأس، إلا أنه يأخذ لهما ماء غير الماء الذي مسح به الرأس) . فوافقانا في الحكم دون الاسم.
و [الثالث] : ذهب أبو حنيفة، وأصحابه: (إلى أنهما من الرأس ... فيمسحان بالماء الذي مسح به الرأس) . فخالفونا في الاسم والحكم.

(1/129)


و [الرابع] : قال الزهري: هما من الوجه، فيجب غسلهما مع الوجه. وحكى الشاشي: أن أبا العباس بن سريج كان يغسل أذنيه مع الوجه، ويمسحهما مع الرأس احتياطًا. وهذا ليس بمشهور عنه.
و [الخامس] : قال الشعبي، والحسن بن صالح، وإسحاق: ما أقبل منهما من الوجه فيغسل مع الوجه، وما أدبر منهما مع الرأس فيمسح معه.
دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد بن عاصم ـ وليس بصاحب الأذان ـ من " التعليقة " لعطاء: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ، فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه» ؛ ولأن كل ما لم يجز مسحه عن مسح الرأس، انفرد بحكمه، كالجبهة.
ومسحهما: سنة غير واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . ولم يأمر الله بمسحهما.

[مسألة: فرضية غسل الرجلين]
] : ثم يغسل رجليه ـ وهو واجب ـ في قول أكثر العلماء.
وقالت الإمامية ـ من الرافضة ـ: يجب مسحهما، ولا يجزئ غسلهما.
وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين أن يغسلهما، وبين أن يمسحهما.
وقال بعض أهل الظاهر: يجب عليه أن يجمع بين غسلهما ومسحهما.
دليلنا قولة تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] بنصب قوله: (وأرجلكم) ، فتكون عطفًا على الغسل.

(1/130)


وقراءة من قرأ بخفض (وأرجلكم) ، فإنما هو جر بالجوار، لا بحكم العطف. [كما] قال الشاعر:
فظل طهاة اللحم من بين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
فجر: أو (قديرٍ) بالجوار مع واو العطف. وتقول العرب: (هذا جحر ضب خربٍ) .

(1/131)


ولأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: غسل رجليه، ولم يذكر أحد منهم: أنه مسحهما. وقال جابر: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا» .
قال الصيمري: فإن كان هو الغاسل بنفسه، بدأ بصب الماء من أطراف أصابعه إلى كعبيه. وإن كان غيره هو الغاسل له، صب الماء من كعبيه إلى أطراف أصابعه.

[فرع: الكعبان من الرجلين]
] : ويجب إدخال الكعبين في الغسل.
وقال زفر بن الهذيل، وأبو بكر بن داود: هما حدان، فلا يجب إدخالهما في الغسل.
دليلنا قولة تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . قال أهل التفسير: مع الكعبين.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ويل للأعقاب من النار» يعني: التي لم يصبها الماء.
و (الكعبان) : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم.
وقال محمد بن الحسن، وبعض أصحاب الحديث: الكعبان: هما العظمان الناتئان في ظهر القدم موضع الشراك.

(1/132)


دليلنا: قولة تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، ولم يرد به حد جميعهما؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: إلى الكعاب، كما قال تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فدل على: أنه أراد حد الرجل الواحدة، وليس للرجل الواحدة كعبان إلا على ما قلنا، وعلى قولهم لا يكون لها إلا كعب واحد.
وروى النعمان بن بشير قال: «أقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه، وقال: " أقيموا صفوفكم ". فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه» . وهذا لا يكون إلا على ما قلناه.

[فرع: وجوب تخليل الأصابع الملتوية]
] : فإن كانت أصابعه ملتفة لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالتخليل ... وجب عليه إيصال الماء إلى باطنها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خللوا بين أصابعكم، لا يخلل الله بينها النار» . وإن كانت منفرجة يصل الماء إليها من غير تخليل.. استحب له التخليل بينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبره: «وخلل بين الأصابع» .
وكيفية استحباب التخليل: أن يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختمها بإبهامها، ويبدأ بإبهام رجله اليسرى، ويختمها بخنصرها، ويكون ذلك من أسفل الرجل في باطن القدم.

(1/133)


وإن خلقت أصابعه مرتتقة، فلا يجب عليه أن يفتقها.
ويستحب له أن يغسل فوق المرفقين، وفوق الكعبين؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تأتي أمتي يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» .

[مسألة: تكرار الغسل في الوضوء]
مسألة: [تكرار الغسل] : والواجب في الوضوء الغسل والمسح مرة مرة، والمرتان فضيلة، والثلاث سنة، والزيادة على ذلك مكروهة.
وقال بعض الناس: الثلاث واجبة.
وقال مالك: (السنة: مرة مرة) .
دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء، لا يقبل الله الصلاة إلا به " ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: " من توضأ مرتين.. آتاه الله أجره مرتين "، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» ففي الخبر دليل على الفريقين. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: " هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» .

(1/134)


فمعنى قوله: (فقد أساء) : لمخالفته السنة إذا نقص عن الثلاث.
ومعنى قوله: (ظلم) : إذا زاد عليها، يعني جاوز الحد؛ لأن الظلم: مجاوزة الحد، وهي إساءة وظلم لا تقتضي العصيان والإثم.

[مسألة: وجوب الترتيب في الوضوء]
] : ويجب الترتيب في الوضوء مع الذكر، وهو: أن يبدأ بغسل وجهه، ثم بيديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
فإن نسي الترتيب فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نسي الفاتحة حتى ركع، الصحيح: لا يجزئه.
وذهبت طائفة إلى: أن الترتيب ليس بواجب، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومكحول. والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، والمزني. وهو اختيار الشيخ أبي نصر في " المعتمد ".
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6]
قلنا: من هذه الآية أدلة:
منها قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، والفاء: للتعقيب، فمن قال: إنه يبدأ بغسل اليد، فقد خالف ظاهر القرآن.
والثاني: أن الله تعالى، بدأ بالوجه، ثم باليد بعده، والرأس أقرب إلى الوجه، فلو جازت البداية بالرأس لذكره بعد الوجه؛ لأنه أقرب إليه.
والثالث: أنه أدخل مسح الرأس بين غسل اليدين، وغسل الرجلين، وقطع النظير عن نظيره، فدل على: أنه قصد إيجاب الترتيب.

(1/135)


وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرتبًا مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.» ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة في أصل وضعها، يرتبط بعضها ببعض، فوجب فيها الترتيب، كالصلاة والحج.
فقولنا: (تشتمل على أفعال) احتراز من الخطبة، فإنها تشتمل على أقوال متغايرة، ولا يجب فيها الترتيب.
وقولنا: (متغايرة) ـ يعني: نفلا وفرضًا، ومغسولا وممسوحًا ـ احتراز من غسل الجنابة والنجاسة، والعضو الواحد في الوضوء.
وقولنا: (في أصل وضعها) احتراز ممن وضع الجبيرة على بعض العضو، فإنه لا يجب عليه الترتيب بين المسح على الجبيرة، وغسل الصحيح من العضو؛ لأن المسح لم يجب في أصل وضع الطهارة على جميع الناس.
وقولنا: (يرتبط بعضها ببعضٍ) احتراز من جلد البكر وتغريبه في الزنا؛ فإنه لو تقدم التغريب على الجلد أجزأه.

[مسألة: استحباب الولاء]
] : ويوالي بين أعضائه، فإن فرق تفريقًا يسيرًا لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.

(1/136)


وإن فرق تفريقًا كثيرًا فهل تصح طهارته؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تصح طهارته) . وبه قال عمر؛ لما روى خالد بن معدان، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا على قدمه لمعة قدر درهم، لم يصبها الماء، فأمره بإعادة الوضوء، والصلاة» .
ولأنها عبادة يبطلها الحدث، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة. أو عبادة يرجع إلى شطرها مع العذر، فكانت الموالاة شرطًا فيها، كالصلاة، وفيها احتراز من تفرقة الزكاة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تصح طهارته) . وبه قال ابن عمر، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فأمر بغسل هذه الأعضاء، والأمر يقتضي إيجاد المأمور به، سواء أوجده متواليًا أو متفرقًا.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد، فدعا بماء، فمسح على خفيه وصلى عليها» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبين ذهابه من السوق إلى المسجد تفريق كثير) ؛ ولأنها عبادة لا يبطلها التفريق اليسير، فلم يبطلها التفريق الكثير، كالحج، وتفرقة الزكاة. وفيه احتراز من أفعال الصلاة.

(1/137)


واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا فرق لغير عذر، فأما إذا فرق لعذر، بأن ينقلب الوضوء، فيمضي في طلبه، أو ما أشبه ذلك، فيجوز قولا واحدًا. وهو قول مالك، والليث، وأحمد، واختاره المسعودي [" في الإبانة " ق\19] .
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو نقل البغداديين من أصحابنا.
واختلف أصحابنا في حد التفريق الكثير:
فذهب أكثرهم إلى: أن حده هو: أن يجف الماء على العضو قبل أن يغسل ما بعده، في زمان معتدل، مع استواء الحال، ولا اعتبار بشدة الحر والريح، فإن الجفاف يسارع فيهما، ولا بشدة البرد، فإن الجفاف يبطئ فيه. ويعتبر: استواء حال المتوضئ، فإنه إذا كان محموما، فإن الجفاف يسارع إليه لأجل الحمى.
ومنهم من قال: التفريق الكثير: هو التطاول المتفاحش.

[فرع: عدم الموالاة بين الغسل والتيمم]
] : وإن فرق في الغسل والتيمم تفريقًا كثيرًا، فهل يبطل؟
قال ابن الحداد، وابن القاص: لا يبطل قولا واحدًا.
وقال أكثر أصحابنا: هو على قولين: كالوضوء، وهو الأصح.
فإذا فرق تفريقًا كثيرًا، وقلنا بقوله القديم، لزمه استئناف الطهارة، ولا كلام.
وإن قلنا بقوله الجديد، لم يلزمه استئناف الطهارة، ولكن هل يلزمه استئناف النية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، لأن النية قد انقطعت بطول الزمان.
والثاني: لا يلزمه.

(1/138)


قال ابن الصباغ: وهو الأظهر، لأن التفريق إذا جاز، لم ينقطع حكم الأول.

[مسألة: ما يقال عقب الوضوء]
] : والمستحب: لمن فرغ من الوضوء: أن يستقبل القبلة، ويقول ما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ـ صادقًا من قلبه ـ اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أي باب شاء» .
ويقول ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق، وطبع عليها بطابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة» أي: ختم بخاتم.
قال أبو علي في " الإفصاح ": ويستحب له ألا ينفض يده، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان» .

(1/139)


قال ابن الصباغ: وقد روت ميمونة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل، فجعل ينفض يديه» .
ولما فرغ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ذكر الوضوء، قال: (وذلك أكمل الوضوء إن شاء الله) .
فإن قيل: أفتراه كان شاكا فيما ذكر؟ والمشيئة تكون في المستقبل لا في الماضي، لا يقول الرجل: قمت إن شاء الله، وإنما يقول: أقوم إن شاء الله.
فعن ذلك جوابات:
[الأول] : قيل: أي ذلك أكمل الوضوء بمشيئة الله تعالى، أي: إن شاء الله تعالى أن يكون هذا أكمل الوضوء.
و [الثاني] : قيل: هذه الجملة مشتملة على المفروضات والمسنونات، وليس يقطع على الله بصحة جميعها، ولا أنه على يقين من سائرها، فلهذا حسُن أن يقول: إن شاء الله.
و [الثالث] : قيل: لأن من الناس من خالفه في أكمل الوضوء، لأن بعضهم يرى أن يجعل شيء من الماء فيما يلي حلقه ومؤخر الرأس، وكان ابن عمر يدخل الماء في عينيه.

(1/140)


و [الرابع] : قيل: ليس يعود إلى الأكمل، لكن تقدير الكلام: وذلك أكمل الوضوء الذي من فعله.. حاز الفضل ورجا الثواب من الله إن شاء الله تعالى.
و [الخامس] : قيل: معناه المستقبل لا الماضي، أي: الذي وصفته هو الكمال فتوضؤوا كذلك إن شاء الله.

[مسألة: القول في تنشيف الأعضاء]
] : وأما تنشيف الأعضاء من بلل الوضوء والغسل: قال أصحابنا البغداديون: فلا خلاف أنه جائز، ولا خلاف أنه ليس بمستحب، ولكن هل يكره؟ اختلف الصحابة فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ[الأول] : روي عن عثمان، وأنس وبشير بن أبي مسعود، والحسن بن علي، أنهم قالوا: (لا بأس به في الوضوء والغسل) ، وهو قول مالك، والثوري، لما روى قيس بن سعد، قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فالتحف بها، فرأيت أثر الورس على عكنه» ، وروي «على كتفه» .
و [الثاني] : روي عن عمر: أنه كرهه في الوضوء والغسل، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روت ميمونة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعت له غسلا فاغتسل، فلما فرغ ناولته المنديل، فلم يأخذه، وجعل ينفض يديه» .

(1/141)


و [الثالث] : قال ابن عباس: (لا بأس به في الغسل دون الوضوء) .
قال أصحابنا: وليس للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه نص، والذي يقتضيه المذهب: أنه لا يحرم فعله، لحديث قيس بن سعد، والأولى أن يتركه، لحديث ميمونة، ولأنه أثر عبادة، فاستحب تركها، كخلوف فم الصائم.
وقال المسعودي [في الإبانة: ق\19] : هل يستحب المسح بالخرقة؟ فيه وجهان.

[مسألة: واجبات وسنن الطهارة]
] : قال أصحابنا: الطهارة تشتمل على واجبات، ومسنونات، وهيئات.
فالواجبات: ما كان شرطًا في الطهارة، وذلك ستة أشياء، لا خلاف فيها على المذهب، وهي: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، وفي السابع ـ وهو الموالاة ـ قولان.
وأما المسنونات: فكل ما كان ليس بشرط في الطهارة، ولكنه راتب فيها، وهي أشياء:
المضمضة، والاستنشاق، وتخليل اللحية، واستيعاب مسح الرأس، ومسح الأذنين والعنق، والدفعة الثانية والثالثة، والبداية باليمين، وفي التسمية وغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء وجهان:
أحدهما: أنهما سُنَّة، والثاني: أنهما هيئة.
وأما الهيئات: فرتبتها دون رتبة المسنونات، وذلك كتخليل الأصابع، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتطويل الغرة.

(1/142)


ويدعو عند غسل الوجه، فيقول: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه.
وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني.
وعند غسل اليد اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري، ولا تغلل يدي إلى عنقي.
وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار.
وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم.

[مسألة: الشك بعد انتهاء الوضوء]
] : إذا فرغ من الطهارة، ثم شك: هل مسح رأسه، أو غسل عضوًا من أعضاء الطهارة؟ ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا تأثير لهذا الشك، لأن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا تأثير له، كما لو فرغ من الصلاة، ثم شك: هل ترك رُكنًا منها؟
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لهذا الشك تأثير، كما لو طرأ عليه الشك في أثناء الطهارة، ولأن الطهارة تقصد للصلاة، ولهذا: ظهور أصلها بعد الفراغ منها،

(1/143)


كظهوره قبل الفراغ منها، وهو الماء، ولأنا لو لم نجعل لهذا الشك تأثيرًا لأدى إلى أن يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.
ومن قال بالأول، قال: لا يمتنع ذلك، كما لو توضأ وشك: هل أحدث أم لا؟ فإنه يجوز له الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.

[فرع: الشك في الطهارتين]
] : وإن توضأ عن حدث فصلى به الظهر، ثم أحدث وتوضأ، فصلى به العصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس، في إحدى الطهارتين، ولا يعلم عينها، وجب عليه إعادة الصلاتين، لأنه تيقن أن إحداهما لم تسقط عنه فلزمه إعادتهما، ليسقط الفرض عنه بيقين.
وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز التفريق في الطهارة، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق استأنف الطهارة.
فلو لم يحدث بعد الظهر، ولكن جدد الطهارة للعصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارتين، قال الشيخ أبو حامد: لزمه إعادة الظهر، لأنه يشك: هل صلاها بطهارة صحيحة أو فاسدة، فلا يسقط عنه بالشك.
وأما العصر: فإن قلنا: إن من توضأ لمندوب، مثل: قراءة القرآن، والجلوس في المسجد، أو لتجديد الطهارة، يرتفع حدثه، لم يلزمه إعادة العصر.
وإن قلنا: لا يرتفع حدثه، أعاد العصر أيضًا، وما حكم الطهارة على هذا الوجه؟
إن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه وغسل رجليه.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة.

(1/144)


[فرع: رفع الحدث بتجديد الوضوء]
] : وإن توضأ للصبح عن حدث فصلاها، ثم جدد الطهارة للظهر فصلاها، ثم أحدث فتوضأ للعصر فصلاها، ثم جدد الطهارة للمغرب فصلاها، ثم أحدث وتوضأ للعشاء فصلاها، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارات ولا يعرف عينها.
فإن قلنا: إن تجديد الطهارة يرفع الحدث، صحت له صلاة الظهر والمغرب، ووجب عليه إعادة الصبح والعصر والعشاء.
وإن قلنا: إن التجديد لا يرفع الحدث، أعاد جميع الصلوات.
وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة.
وبالله التوفيق.

(1/145)