البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب نية الطهارة]
الطهارة ضربان: طهارة عن نجس، وطهارة عن حدث.
فأما الطهارة عن النجس: فلا تفتقر إلى النية في قول عامة أصحابنا.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 13] : أن أبا العباس بن سريج قال: لا تصح من غير نية، كطهارة الحدث.
والأول هو المشهور؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك، فلا تفتقر إلى النية، كما لا يفتقر ترك الزنا والغصب إلى النية، ولا يلزم الصوم حيث افتقر إلى النية وإن كان من باب التروك؛ لأنه ترك معتاد، فافتقر إلى النية ليتميز الترك الشرعي عن غيره.
وأما الطهارة عن الحدث - وهو الوضوء، والغسل والتيمم -: فلا يصح شيء من ذلك إلا بالنية. وبه قال ربيعة، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وداود. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال أبو حنيفة: (يصح الوضوء، والغسل بغير نية، ولا يصح التيمم إلا بالنية) .
وقال الحسن بن صالح بن حي: يصح الوضوء، والغسل، والتيمم بغير نية.

(1/99)


وعن الأوزاعي روايتان: إحداهما: كقول الحسن بن صالح. والأخرى: كقول أبي حنيفة.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.. فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها.. فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
قلنا: من الخبر ثلاثة أدلة:
أحدها: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» ولم يرد: أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية؛ لأن صورها قد توجد من غير نية، وإنما أراد: أن حكم الأعمال لا توجد إلا بالنية.
والثاني: قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» دليل خطابه: أن من لم ينو.. فليس له.
والثالث: أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك: أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها: أم قيس، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «إنما الأعمال بالنيات» .. " الخبر إلى آخره. فأخبر: أن الأعمال لا تكون قربة وطاعة إلى بالقصد إلى الطاعة والقربة؛ ولأنها عبادة محضة، وطريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية كالصلاة.
فقولنا: (محضة) احترازًا من العدة، ومن غسل الذمية.
وقولنا: (طريقها الأفعال) احترازًا من الخطبة، والقراءة في الصلاة.

(1/100)


[مسألة: لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام]
فرع: [لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام] :
إذا توضأ الكافر أو تيمم، ثم أسلم.. لم يصح وضوؤه، ولا تيممه.
وقال أبو حنيفة: (يصح وضوؤه، دون تيممه) بناءً على أصله: أن الوضوء يصح من غير نية.
دليلنا: أن الوضوء طهارة، تستباح بها الصلاة، لم تصح من غير نية تنظر من الكافر، كالتيمم.

[مسألة: النية ومحلها وزمنها وكيفيتها]
مسألة: [في النية ومحلها وزمنها وكيفيتها] :
إذا ثبت وجوب النية: فالكلام فيها في أربعة فصول:
في محلها، وفي وقت استحبابها، وفي وقت وجوبها، وفي صفتها.
فأما محلها: فالواجب أن ينوي بقلبه وهو: أن يقصد فعل ذلك بقلبه؛ لأن النية هي القصد - تقول العرب: نواك الله بخير، أي: قصدك الله بخير، وتقول: نويت بلد كذا، أي: قصدت إليه - إلا أن المستحب أن يقصد ذلك بقلبه، ويتلفظ به بلسانه؛ ليكون اللفظ به أعون له على خلوص القصد، فإن تلفظ به بلسانه من غير قصد في القلب.. لم يجزئه؛ لأنه قد يتلفظ بذلك عادة، وإن قصده بقلبه، ولم يتلفظ به.. أجزأه.
وأما وقت استحبابها: فيستحب أن ينوي ذلك أول الطهارة وهي: عند غسل كفيه، ويستصحب ذكرها إلى آخر الوضوء؛ لتشتمل نيته على الفرائض والسنن.
وأما وقت وجوبها: فإنه ينوي مع غسل أول جزء من الوجه، ثم يستصحب حكم النية في باقي أعضائه، وهو: ألا ينوي قطعها ولا ما ينافيها؛ لأن الوجه أول أعضاء الطهارة الواجبة، فأجزأه ذكر النية عنده، كالصلاة.
قال الطبري: إذا غسل كفيه، وتمضمض، واستنشق من غير نية.. لم يحصل له ثواب ذلك.

(1/101)


[فرع: ذهاب النية]
وإن نوى الطهارة عند المضمضة والاستنشاق، ثم عزبت نيته - أي: انقطعت - فإن كان قد غسل شيئًا من وجهه مع المضمضة والاستنشاق، مثل: رأس أنفه، أو ظاهر شفتيه.. نظرت:
فإن غسل ذلك بنية غسل الوجه.. لم يؤثر انقطاع النية بعد ذلك؛ لأنها قد وجدت مع غسل أول فرض من فروض الطهارة.
وإن غسل ذلك من وجهه لا بنية غسل الوجه.. فهل يكون حكمه حكم من غسله بنية غسل الوجه، أو حكم من لم يغسل شيئًا من وجهه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما: حكمه حكم من غسله بنية غسل الوجه؛ لأنه قد وجد منه غسل جزء من الوجه بنية الطهارة.
والثاني: حكمه حكم من لم يغسل شيئًا من وجهه؛ لأنه لم يغسل ذلك بنية غسل الوجه.
وإن عزبت نيته قبل أن يغسل شيئًا من وجهه.. فهل يجزئه شيء من ذلك؟ فيه وجهان، وحكاهما في " الفروع " قولين:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض، فإذا عزبت النية عنده.. أجزأه كغسل الوجه.
وقولنا: (فعل) احتراز من التسمية، فإنها لو عزبت النية عندها.. لم يجزئه.
وقولنا: (راتب في الوضوء) احتراز من الاستنجاء، فإنه ليس براتب في الوضوء، بل لو استنجى بعد الوضوء.. كان كما لو استنجى قبله؛ ولأن الطهارة قد تخلو من الاستنجاء.
وقولنا: (لم يتقدمه فرض) احتراز من غسل اليدين؛ لأنه لو لم ينو إلا عندهما.. لم يجزئه.

(1/102)


والوجه الثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن نيته عزبت قبل الفرض، فلم يجزئه، كما لو عزبت عند غسل الكف.
وما قاله الأول ينتقض بغسل الكف، فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض، وإن عزبت النية عنده.. لم يجزئه.
وهذه طريقة أكثر البغداديين من أصحابنا: أن نيته إن انقطعت عند غسل الكف.. لم يجزئه.
وأما المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 16] ، وصاحب " الفروع " فقالا: إذا عزبت نيته عند غسل الكف.. هل يجزئه؟ على وجهين أيضًا، كالمضمضة والاستنشاق.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 16] : وكذلك إذا عزبت نيته عند الاستنجاء، أو عند السواك - إذا قلنا: إنهما من سنن الوضوء - فهل يجزئه ذلك؟ على وجهين، كما لو عزبت عند المضمضة والاستنشاق.

[فرع: صفة النية]
وأما صفة النية: فإن نوى رفع الحدث، أو الطهارة عن الحدث، أو الطهارة لأجل الحدث.. أجزأه؛ لأنه قد نوى المقصود.
وإن نوى الطهارة وأطلق.. فقد ذكر ابن الصباغ: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " مختصر البويطي ": (أجزأه) .
قال أصحابنا: أراد: إذا نوى الطهارة عن الحدث، فأما مع الإطلاق: فلا تجزئه الطهارة؛ لأن الطهارة قد تقع عن حدث، أو عن نجس، فلا بد من النية لتميز بينهما.
وإن نوى المحدث رفع الجنابة.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أصحهما: أنه لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه.
وإن نوى الجنب رفع الحدث عن جميع بدنه.. أجزأه، وإن نوى الحدث الأصغر.. أجزأه عن أعضاء الطهارة.

(1/103)


وقال في " الفروع ": وقد قيل: لا معنى لهذه النية.

[فرع: النية وسبب الطهارة]
وإن نوى الطهارة لأمر لا يصح من غير طهارة، بأن ينوي الطهارة للصلاة، أو الطواف، أو سجود التلاوة أو الشكر، أو مس المصحف.. ارتفع حدثه؛ لأن فعل هذه الأشياء لا يصح من غير طهارة، فإذا نوى الطهارة لها.. تضمنت نيته رفع الحدث.
وإن نوى الطهارة لفعل يصح من غير طهارة، ولا تستحب له فيه الطهارة، كأكل الطعام، ولبس الثوب، والدخول إلى السلطان.. لم يرتفع حدثه؛ لأنه يستبيح فعل هذه الأشياء من غير طهارة، فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث.
وإن نوى الطهارة لأمر يصح من غير طهارة، ولكن يستحب له فيه الطهارة كقراءة القرآن، ورواية الحديث وتدريس الفقه والاعتكاف.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرتفع حدثه؛ لأن فعل هذه الأشياء يصح من غير طهارة، فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث، كما لو نوى الطهارة لأكل الطعام.
والثاني: يرتفع حدثه؛ لأنه يستحب له ألا يفعل هذه الأشياء إلا وهو طاهر، فتضمنت نيته لها رفع الحدث، كما لو نوى الطهارة للصلاة، بخلاف ما لو نوى الطهارة لأكل الطعام.
وإن نوى غسل الجمعة.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يجزئه عن الوضوء؛ لأنه مأمور به للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة.. فبها ونعمت، ومن اغتسل.. فالغسل أفضل» . فدل على: أن الغسل ينوب مناب الوضوء.

(1/104)


وإن نوى رفع الحدث، والتبرد، والتنظيف.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه أشرك في النية بين القربة وغيرها.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يصح) ؛ لأنه قد نوى رفع الحدث، وضم إليه ما لو لم ينوه.. لحصل له، فوزانه من الصلاة: أن ينوي الصلاة، ودفع خصمه باشتغاله بها.. فتصح، أو ينوي صلاة الظهر، وتحية المسجد.. فتصح، كما لو نوى الإحرام بالحج عن الفرض، وعن دخول الحرم.
وإن فرق النية على أعضائه.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنها عبادة واحدة، فلم يصح تفريق النية على أبعاضها، كالصلاة والصوم.
والثاني: يجزئه؛ لأن تعيين النية في أثنائها لا يبطله حكم ما فعله منها.

[فرع: نية رفع جملة الأحداث]
وإن أحدث أحداثًا، ونوى رفع بعضها.. قال صاحب " الفروع ": ارتفع الجميع.
وإن نوى رفع واحد منها، وإبقاء غيره.. فهل يصح؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث.
والثاني: أنه يصح وضوؤه، وهو الصحيح؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى رفع واحدٍ منها.. ارتفع الجميع.
والثالث: إن نوى رفع الحدث الأول.. ارتفع الجميع، وإن نوى غيره.. لم يصح وضوؤه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول فإذا نواه.. ارتفع الجميع.

(1/105)


والرابع - حكاه ابن الصباغ -: إن نوى رفع الحدث الأخير.. ارتفع الجميع، وإن نوى غيره.. لم يصح؛ لأنها تتداخل في الآخر منها.
وإن نوى رفع حدث بعينه ثم بان أنه غيره.. قال الصيدلاني: فالمذهب: أنه يجزئه؛ لأنه من جنسه.

[فرع: نية الوضوء لصلاة بعينها]
وإن نوى بطهارته أن يصلي بها صلاة بعينها، أو أطلق.. ارتفع حدثه، واستباح به جميع الصلوات؛ لأن ذلك يتضمن رفع حدثه. وإن نوى أن يصلي به صلاة، وألا يصليها.. قال في " الفروع ": كان ذلك متناقضًا، ولا يرتفع حدثه.
وإن نوى أن يصلي به صلاة بعينها، ولا يصلي به غيرها.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لم يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو نية صحيحة.
والثاني: يرتفع حدثه للصلاة التي عينها دون غيرها، اعتبارا بنيته.
والثالث: يرتفع حدثه في حق جميع الصلوات، وهو الصحيح؛ لأنه لما نوى ليصلي به صلاة بعينها.. ارتفع حدثه في حق الجميع، ونيته: ألا يصلي غيرها.. لا حكم لها، فتصير كما لو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها.

[فرع: نية قطع الطهارة بعد الفراغ منها]
إذا فرغ من الطهارة ثم نوى قطعها.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أن طهارته لا تبطل، كما لو فرغ من الصلاة، ثم نوى قطعها.
والثاني - حكاه الصيدلاني -: أن طهارته تبطل، كما لو ارتد.
وإن غسل بعض أعضائه، ثم نوى قطع الطهارة، فإن قلنا بما حكاه الصيدلاني: أنها تبطل، إذا نوى قطعها بعد الفراغ.. فهاهنا أولى. وإن قلنا بالمشهور: وأنها لا تبطل فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ:

(1/106)


أحدهما: تبطل طهارته، كما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يبطل ما مضى منها قبل نية القطع؛ لأنه قد صح، فلا يبطل إلا بالحدث، كما لو فرغ منها ثم نوى قطعها.
فعلى هذا: إن أراد تمام الطهارة قبل تطاول الفصل.. فلا بد من تجديد النية لما بقي من أعضائه؛ لأن حكم الأولى.. قد بطل بما بقي، وإن طال الفصل.. فعلى القولين في تفريق الوضوء.
فإن نوى رفع الحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم غسل رجليه بنية التنظيف والتبرد.. لم يصح غسله لهما، وإن نوى بغسله لهما التبرد والتنظيف ورفع الحدث.. فعلى ما مضى من الوجهين.
وبالله التوفيق

(1/107)