البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الأحداث التي تنقض الوضوء] [مسألة: الخارج من السبيلين]
وهي أربعة: الخارج من السبيلين، والغلبة على العقل بنوم أو جنون أو إغماء، ولمس النساء، ومس الفرج.
فأما الخارج من السبيلين: فضربان: معتاد ونادر.
فأما المعتاد فهو: الغائط، والبول، والريح، والصوت، والمذي، والودي، فجيمع ذلك ينقض الضوء.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6) .
وأصل الغائط: الموضع المطمئن من الأرض، وسمي ما يخرج من الإنسان: غائطًا؛ لأن العادة أن من يريد إخراج ذلك، يتحرى الموضع المطمئن من الأرض، فسمي الخارج باسم ذلك الموضع.
ومن السُنَّة: ما روي عن صفوان بن عسال المرادي: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/170)


يأمرنا إذا كنا مسافرين ـ أو: سفرًا ـ أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم، ثم نحدث بعد ذلك وضوءًا» .
والدليل على أن الريح والصوت ينقضان الوضوء: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح» .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان في جماعة، فشم ريحًا، فقال: (عزمت على من خرج منه هذا أن يقوم ويتوضأ، فقال العباس بن عبد المطلب: كلنا نقوم ونتوضأ، فقاموا وتوضؤوا) فدل على أنهم مجمعون على ذلك.
والدليل على أن المذي ينقض الوضوء: ما روي «عن علي كرم الله وجهه: أنه قال: كنت رجلا مذاءً، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنما يكفيك أن تنضح الماء على فرجك، وتتوضأ للصلاة» .

(1/171)


وأما النادر فهو: كالحصى، والدود، وسلس البول، ودم الاستحاضة، وهو ينقض الوضوء عندنا، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال ربيعة: لا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك،
وقال مالك: (لا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك، إلا دم الاستحاضة) .
وقال داود: (لا ينتقض الوضوء إلا بالدود والدم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ، ولم يفرق بين أن يخرج معتادًا أو غير معتادٍ، ولأنه خارج من مخرج الحدث، فأشبه البول والغائط.
قال الصيمري: وأما دم البواسير: فإنه لا ينتقض الوضوء بخروجه، لأنه ليس من نفس الجوف، إلا أن يكون من باسور باطن، فينقض الوضوء.
قال في " الأم " [1/14] : (إذا خرج ريح من فرج المرأة، أو ذكر الرجل فإنه ينقض الوضوء) .
وقال أبو حنيفة: (لا ينقض الوضوء) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح» ، ولم يفرق، ولأنه أحد السبيلين، فانتقض الوضوء بالريح الخارج منه كالدبر.
وكذلك إذا أدخل في فرجه مسبارًا ـ وهو الميل ـ أو قطنًا فخرج منه، أو صب فيه ماء فخرج منه، انتقض الوضوء، لأنه خارج من مخرج الحدث، فهو كالغائط والبول.
قال الشاشي: وإن أطلعت دودة رأسها من أحد السبيلين، ثم رجعت فهل ينتقض الوضوء؟ فيه وجهان.

(1/172)


[فرع: انسداد المخرج المعتاد]
فرع: [انسداد المخرج] : فإن انسد المخرج المعتاد، وانفتح له مخرج من بدنه، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه:
فإن كان دون المعدة انتقض الوضوء بالخارج منه، لأن الله تعالى أجرى العادة: أنه لا بد للإنسان من موضع يخرج منه الغائط والبول. فإذا اسند المعتاد وانفتح له موضع آخر كان ذلك بمنزلة الأصلي.
وإن كان المنفتح فوق المعدة ففيه قولان:
أحدهما: ينتقض الوضوء بالخارج منه، للمعنى الذي ذكرناه، إذا كان دون المعدة.
والثاني: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأن ما فوق المعدة يكون الخارج منه قيئًا، و (الغائط) : ما أحالته المعدة ونزل عنها.
وإن لم ينسد المخرج الأصلي، وانفتح له موضع آخر فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه:
فإن كان دون المعدة، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا ينتقض. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط انسداد الموضع الأصلي؛ ولأن الأصلي إذا كان مفتوحًا كان هذا بمعنى الجائفة، فلم ينتقض الوضوء بالخارج منه.
والثاني: ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأنه مخرج يخرج منه البول والغائط، فهو كالمعتاد.

(1/173)


وإن كان المنفتح فوق المعدة.. فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يبنى على القولين، فيما لو انفتح له مخرج فوق المعدة مع انسداد المعتاد:
فإن قلنا هناك: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا أولى.
وإن قلنا هناك: ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا وجهان، كما لو انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح الأصلي.
وأما صاحب " المهذب " فذكر: أنه إذا انفتح له مخرج فوق المعدة، مع انفتاح الأصلي لم ينتقض الوضوء بالخارج منه، من غير تفصيل، ولعله بنى ذلك على الأصح.

[فرع: الخنثى المشكل إذا بال من فرجيه]
فرع: [الخنثى المشكل] : وأما الخنثى المشكل: إذا بال من فرجيه انتقض وضوؤه. وإن بال من أحدهما، ومن عادته أن يبول منهما في بعض الحالات فقد قال الشيخ أبو علي السنجي: ينتقض وضوؤه ببوله من أحدهما.
وقال القاضي أبو الفتوح: يبنى ذلك عندي على من انفتح له مخرج دون المعدة مع انفتاح الأصلي:
فإن قلنا في أحد القولين: إن وضوءه ينتقض بالخارج منه انتقض هاهنا.
وإن قلنا ثم: لا ينتقض فهاهنا مثله.
ولعل السنجي بناه على الأصح عنده.

(1/174)


[مسألة: أحكام النوم]
] : وأما النوم: فعلى أربعة أضرب:
أحدها: أن ينام زائلا عن مستوى الجلوس في غير الصلاة، بأن ينام مضطجعًا على جنبه، أو مستلقيًا على قفاه ـ قال الشيخ أبو حامد: وهو نوم الأنبياء عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أو مكبوبًا على وجهه ـ قال: وهو نوم الشياطين ـ أو متكئًا على أحد جنبيه. أو مستندًا على حائط أو غيره، فينتقض وضوؤه في هذه الحالات، سواء تحقق خروج شيء منه، أو لم يتحقق، وهو قول عامة العلماء.
وقال أبو موسى الأشعري، وأبو مجلز، وحميد الأعرج، وعمرو بن دينار: (النوم لا ينقض الوضوء، حتى يتحقق خروج الخارج منه) . وبه قالت الشيعة الإمامية.
وقال مالك: (النوم اليسير في القعود لا ينقض، والكثير ينقض) .
وقال أبو حنيفة: (إذا نام على حالة من أحوال الصلاة في حال الاختيار: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا لم ينتقض وضوؤه وإن لم يكن في الصلاة. وإن نام مضطجعًا انتقض وضوؤه؛ لأنه لا يصلي مضطجعًا في حال الاختيار) . وبه قال داود.
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\24 ـ 25] : وقد نقل البويطي مثل مذهب أبي حنيفة عن الشافعي، فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا آخر له، ومنهم من قال: غلط البويطي في النقل.
دليلنا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .

(1/175)


قال بعض أهل التفسير: أراد إذا قمتم من النوم، ولأن الآية وردت على سبب، وهو: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزاة، ففقدت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عقدها، فأقاموا يطلبونه، فناموا، فأصبحوا ولا ماء معهم، فجاء إليها أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: حبست القوم ولا ماء معهم؟! فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] » .
والخطاب إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب داخلا فيه، فكان النوم مضمرًا فيها. ويدل على أن النوم ينقض: حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أو نوم ".
وروى علي، ومعاوية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» .
و (السه) : حلقة الدبر.
قال الشاعر:
ادع فعيلا باسمها لا تنسه ... إن فعيلا هي صئبان السه

(1/176)


وقال آخر:
شأتك قعين غثها وسمينها ... وأنت السه السفلى إذا دعيت نصر
والضرب الثاني: أن ينام قاعدًا متمكنًا من القعود، متربعًا كان أو غير متربع، فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " البويطي ": (ينتقض وضوؤه) . وهو قول المزني، وإسحاق، وأبي عبيد، لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صفوان: " أو نوم "، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» . ولم يفرق؛ ولأن ما نقض الوضوء في غير حال القعود، نقضه في حال القعود، كسائر الأحداث.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا ينتقض وضوؤه؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام قاعدًا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء» . وهذا أخص من الخبرين الأولين، فقضى به عليهما.
وروى أنس: قال: «كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرون العشاء، فينامون قعودًا، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون» . ومثل هذا لا يخفى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(1/177)


وإن نام جالسًا، ثم زال عن حالته، نظرت، فإن زالت أليتاه، أو إحداهما، قبل الانتباه بطلت طهارته. وإن انتبه بزوالهما لم تبطل طهارته. فإن تيقن النوم، وشك هل نام قاعدًا، أو زائلا عن مستوى الجلوس لم ينتقض وضوؤه؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة.
الضرب الثالث: إذا نام في حال الصلاة: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : روى الزعفراني: أن الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه) . وهو قول ابن المبارك؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا نام العبد في سجوده، باهى الله به ملائكته، يقول: عبدي روحه عندي، وجسده ساجد بين يدي» . فسماه: ساجدًا، فدل على أن وضوءه لم ينتقض.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ينتقض وضوؤه) . وهو الصحيح؛ لما ذكرناه في حديث علي، وصفوان بن عسال، ولأنه نام زائلا عن مستوى الجلوس، فهو كما لو نام في غير الصلاة. وأما الخبر فالمقصود به: مدحه على الاجتهاد، ومكابرته النوم؛ لأن النائم لا يمدح على فعله.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فحد النوم الذي ينقض الوضوء: هو الذي يغلب على العقل، قليلا كان أو كثيرًا. فأما ما لا يغلب على العقل، مثل: طرق النعاس، وحديث النفس فلا ينقض الوضوء. فإن تيقن الرؤيا، وشك في

(1/178)


النوم، انتقض وضوؤه؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في نوم. وإن خطر بباله شيء، فلم يدر أكان ذلك في حديث نفس، أو رؤيا؟ لم يلزمه الوضوء؛ لأن الأصل الطهارة، ولا يزول ذلك الأصل بالشك) .

[فرع: زوال العقل]
] : وأما زوال العقل بالجنون والإغماء فينقض الوضوء على أي حال كان؛ لأن حسه أبعد من حس النائم؛ لأن النائم إذا نبه انتبه.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/32 ـ 33] : وقد قيل: (ما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هكذا، اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له أن يغتسل احتياطًا) .
قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: إن كان الغالب من المجنون الإنزال لزمه أن يغتسل بمجرد الجنون، كالنائم مضطجعًا. وإن لم يكن الغالب من حاله الإنزال لم يجب عليه الاغتسال، إلا أن يتحقق الإنزال، كما قلنا فيمن نام قاعدًا.
وأما من زال عقله بالسكر، فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يجب عليه الوضوء؛ لما ذكرناه في المجنون والمغمى عليه.
وقال المسعودي: [في " الإبانة ": ق\24] : لا يجب عليه الوضوء؛ لأنه كالصاحي في ظاهر المذهب، إلا أن يغشى عليه، فحينئذٍ يجبُ عليه الوضوء. وقال: وعلى هذين الوجهين: هل ينعزل وكيله؟

[مسألة: لمس الأنثى]
] : وأما لمس النساء: فإذا وقعت الملامسة بين رجل وامرأة ـ يحل له الاستمتاع بها بحال ـ بأي عضو كان من أبدانهما لا حائل بينهما، انتقض وضوء اللامس منهما،

(1/179)


سواء كان بشهوة أو بغير شهوة. وبه قال ابن مسعود، وابن عمر. والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا تنتقض الطهارة بذلك) . وبه قال ابن عباس، وعطاء، وطاووس، إلا أن أبا حنيفة، وأبا يوسف قالا: (إذا وطئها فيما دون الفرج وانتشر، انتقضت الطهارة، وكذلك إذا وضع فرجه على فرجها، وإن لم يولج) .
وقال مالك وإسحاق: (وإن لمسها بشهوة انتقض وضوؤه. وإن لمسها بغير شهوة لم ينتقض وضوؤه) .
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\25] : وخرج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولا مثل هذا من لمس ذوات المحارم؛ لأنه لا شهوة فيه.
وقال داود: (إن قصد لمسها، انتقض الوضوء. وإن لم يقصد، لم ينتقض) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وحقيقة اللمس: باليد، ولهذا: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الملامسة» .
وقال الشاعر:
لمست بكفي كفه طلب الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

(1/180)


وإن لمسها من وراء حائل لم ينتقض الوضوء، سواء كان الحائل صفيقًا أو رقيقًا، بشهوة أم بغير شهوة.
وقال مالك: (إن لمسها بشهوة من وراء حائل رقيق انتقض وضوؤه، وإن كان صفيقًا لم ينتقض) .
وقال ربيعة: إذا لمسها بشهوة انتقض وضوؤه وإن كان بينهما حائل، سواء كان صفيقًا أو رقيقًا.
دليلنا: أن اللمس من وراء حائل لا يقع عليه اسم اللمس، ولهذا: لو حلف لا يلمسها، فلمسها من وراء حائل لم يحنث.

[فرع: بيان طهارة الملموس]
] : وإذا لمس أحدهما الآخر من غير حائل فهل ينتقض طهر الملموس؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينتقض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] [النساء: 43] فخصهم بذلك.
«وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: افتقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة في الفراش، فظننت أنه قد ذهب إلى بعض نسائه، فقمت أطلبه، فوقعت يدي على أخمص قدمه، وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: " أتاك شيطانك» . فلو انتقض طهره لقطع الصلاة.

(1/181)


و (الأخمص) : الموضع المنخفض في باطن القدم.
والثاني: ينتقض وضوؤه؛ لأن ما نقض بالتقاء البشرتين استوى فيه اللامس والملموس، كالجماع.
وأما الخبر: فيحتمل أنها لمسته من وراء حائل.
وإن لمس شعرها أو ظفرها أو سنها فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا ينتقض الوضوء بذلك؛ لأنه لا يلتذ بمسه.
والخراسانيون قالوا: هو على وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: ينتقض وضوؤه لأنه لمس جزءًا منها.
وإن لمس يدًا مقطوعة من امرأة، لم ينتقض وضوؤه عند البغداديين من أصحابنا؛ لأنها بالانفصال زال عنها اسم النساء.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: ينتقض، كما لو كانت متصلة.
وإن لمس امرأة لا يحل له الاستمتاع بها، بنسب أو رضاع ففيه قولان:
أحدهما: ينتقض وضوؤه. وهو اختيار المسعودي [في " الإبانة " ق\25] ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وهذه من النساء.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنها ليست بمحل لشهوته، فهو كما لو لمس رجلا.
وإن لمس امرأة كانت حلالا له، ثم حرمت عليه على التأبيد، كأم زوجته، وربيبته، فقد اختلف أصحابنا فيه:

(1/182)


فمنهم من قال: فيه قولان، كذوات المحارم.
ومنهم من قال: ينتقض وضوؤه قولا واحدًا؛ لأنها كانت تحل له، فهي كأم من وطئها بشبهة.
وإن لمس صغيرة لا تُشتهى، أو عجوزًا لا تُشتهى، فإن كانت أجنبية منه، قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا يحكون فيها قولين. قال: ولا أعرف للشافعي نصًا في هذا، ولكن أظنهم بنوا ذلك على القولين في ذوات المحارم. وأما الصغائر والعجائز من المحارم، فمبني على القولين في الكبار منهن.
فإن قلنا: لا ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن، فالصغار والعجائز منهن أولى.
وإن قلنا: ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن فهل ينتقض بلمس الصغائر منهن والعجائز؟ على قولين، كالصغائر والعجائز الأجنبيات.

[فرع: لمس الميتة]
] : وإن لمس امرأة ميتة، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تنتقض طهارته بذلك؛ لأن اللمس إذا نقض الوضوء استوى فيه الحي والميت، كما لو مس فرج ميت.
ومنهم من قال: فيه قولان، كلمس الصغائر والعجائز الأجنبيات. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الميتة لا تشتهى في العادة.

[فرع: لمس الخنثى المشكل]
] : وإن لمس الخنثى المشكل رجلا أو امرأة، أو خنثى مثله لم ينتقض وضوء أحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى على صفة من لامسه.
فإن لمس الخنثى رجلا وامرأة في حالة واحدة، أو في حالتين من غير أن يحدث بينهما وضوء، انتقض وضوؤه، ولم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لأنا نتيقن أنه لمس

(1/183)


من ليس كمثله، ولم نتيقن في حق أحدهما أنه لمس من ليس كمثله.
والذي يقتضي المذهب: أنه لا يجوز لهذه المرأة أن تأتم بهذا الرجل؛ لأن طهارة أحدهما منتقضة بيقين، فهما كالمجتهدين في إناءين: أحدهما طاهر، والآخر نجس.
وإن لمس الخنثى رجلا وخنثى، أو امرأة وخنثى، لم ينتقض وضوء واحد منهم؛ لجواز أن يكون اللامس مثل الملموس.
وإن لمس الخنثى رجلا، فصلى الظهر، ثم لمس امرأة، فصلى العصر، قال القاضي: وجب عليه قضاء العصر دون الظهر؛ لأنا نتيقن أن طهره قد انتقض في العصر بيقين.
وإن لمس الخنثى رجلا، فصلى الظهر، ثم جدد الطهارة، ثم لمس امرأة، ثم صلى العصر فلا يلزمه إعادة الظهر. وأما العصر:
فإن قلنا: إن تجديد الوضوء يرفع الحدث لم يلزمه إعادتها.
وإن قلنا: لا يرفع الحدث لزمه إعادتها.

[مسألة: مس الفرج]
] : وأما مس الفرج: فقد اختلف العلماء فيه:
فذهب الشافعي إلى: (أن الرجل إذا مس ذكره ببطن كفه، أو مست المرأة فرجها ببطن كفها، انتقض وضوؤهما بذلك) . وهو قول عمر، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس. وبه قال عطاء، وابن المسيب، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والزهري، ومجاهد. وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (ينتقض وضوء الرجل، ولا ينتقض وضوء المرأة) .
وذهبت طائفة إلى: (أنه لا ينتقض الوضوء بذلك) . ذهب إليه علي، وابن مسعود،

(1/184)


وعمار بن ياسر، والحسن البصري، وربيعة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال جابر بن زيد: إن تعمد مسه انتقض وضوؤه، وإن لم يتعمد مسه لم ينتقض وضوؤه.
دليلنا: ما روت بسرة بنت صفون: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون ". قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بأبي وأمي، هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: " إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ» .
ورواه بضعة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعمل به أصحاب الحديث.

[فرع: أي مس ينقض الطهارة]
؟] : وإن مس فرجه بظهر كفه، أو ساعده لم ينتقض وضوؤه.

(1/185)


وقال عطاء، والأوزاعي: ينتقض.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ» .
و (الإفضاء) ـ عند أهل اللغة ـ: بباطن الكف، تقول العرب: أفضيت بيدي مبايعًا، وأفضيت بيدي ساجدًا.
وإن مسه بحرف يده، أو بما بين الأصابع، أو برؤوس الأصابع، ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المذهب ـ: أنه لا ينتقض لأنه ليس بآلة لمسه، فهو كما لو مس بظهر الكف.
والثاني: ينتقض؛ لأن خلقته كخلقة الباطن.
وإن كان له أصبع زائدة، أو كف زائدة في محل الفرض، فمس الفرج بباطنها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن الخبر ورد في المس، وذلك ينصرف إلى اليد المعهودة، وهي الأصلية.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه ينتقض؛ لأن الزائدة تدخل في اسم اليد، ولهذا يجب غسلها في الوضوء مع الأصلية.

(1/186)


[فرع: من له ذكران]
] : وإن خلق له ذكران، فمس أحدهما قال المسعودي [في " الإبانة " ق\25 ـ 26] : فإن كانا عاملين انتقض وضوؤه؛ لأنه يقع عليه اسم الذكر. وإن كان أحدهما غير عامل، فمس غير العامل لم ينتقض وضوؤه.
وإن مس ذكرًا مسدودًا لا يخرج منه مني، ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أصحهما: أنه ينتقض وضوؤه؛ لأنه يقع عليه اسم الذكر.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه؛ لأنه لا يخرج منه مني، فهو كسائر الأعضاء. وهذا يبطل بذكر الصبي والعنين.

[فرع: مس حلقة الدبر]
] : وإن مس حلقة دبره، أو دبر غيره انتقض وضوؤه.
وحكى ابن القاص: أن الشافعي قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه) . وهو قول مالك، وداود؛ لأنه لا يقصد إلى مسه بشهوة.
قال أصحابنا: لم يوجد هذا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قديم ولا جديد.
والدليل على أنه ينقض: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل مس فرجه، فليتوضأ» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والدبر في معنى الفرج، فوجب أن يقاس عليه) .
قال ابن الصباغ: وإن مس بذكره دبر غيره انتقض وضوؤه؛ لأنه آلة مسه.
مس المخرج غير الأصلي

(1/187)


فرع: [مس المخرج غير الأصلي] : وإن انفتح له مخرج غير الأصلي فهل ينتقض الوضوء بمسه؟
كل موضع قلنا: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه، لم ينتقض الوضوء بمسه.
وكل موضع قلنا: ينتقض الوضوء بالخارج منه، فهل ينتقض الوضوء بمسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينتقض الوضوء بمسه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الفرج.
والثاني: ينتقض؛ لأنه مخرج ينتقض الوضوء بالخارج منه، فأشبه الأصلي.
وهكذا الوجهان: في وجوب الغسل من الإيلاج فيه، وفي جواز استنجائه منه بالأحجار، وفي وجوب ستره من الرجل إذا كان فوق السرة، وفي وجوب المهر بالإيلاج فيه، وفي حصول الإحلال بالإيلاج فيه.

[فرع: انتقاض الوضوء بمس الفرج]
] : وإن مس فرج غيره من كبير، أو صغير، أو حي، أو ميت، انتقض وضوء الماس.
وقال داود: (لا ينتقض وضوؤه بمس ذلك من غيره) .
وقال الزهري، والأوزاعي، ومالك: (لا ينتقض الوضوء بمس ذلك من الصغير) .
وقال إسحاق بن راهويه: لا ينتقض بمس ذلك من ميت.
دليلنا: ما روي في بعض ألفاظ حديث بسرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فعليه الوضوء» ، ولأنه مس فرج آدمي متصل به، فانتقض وضوؤه، كما

(1/188)


لو مس ذلك بنفسه، ولأنه إذا انتقض وضوؤه بمسه ذلك من نفسه، ولم يهتك به حرمة، فلأن ينتقض بمسه لذلك من غيره، وقد هتك به حرمة ذلك الغير أولى.
وهل ينتقض وضوء الممسوس؟
من أصحابنا الخراسانيين من قال: فيه قولان، كالملموس.
وأكثرهم قالوا: لا ينتقض وضوؤه قولا واحدًا. وهو الأصح؛ لأنه علق الطهارة على المماسة، ولم تحصل هاهنا إلا من واحد، بخلاف الملامسة، فإنها تحصل بين اثنين، وإن كانت من واحد.
وإن مس ذكرًا مقطوعًا ففيه وجهان:
أحدهما: ينتقض وضوؤه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مس الذكر فعليه الوضوء» . ولأنه يقع عليه اسم الذكر، وإن كان مقطوعًا.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن المقطوع لا يقصد مسه في العادة، فهو كما لو مسه بظهر كفه.

[فرع: مس الخصيتين]
] : وإن مس أنثييه، وأليته، أو عانته لم ينتقض وضوؤه.
وحكي عن عروة بن الزبير: أنه قال: (ينتقض وضوؤه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفضى منكم بيده إلى ذكره فليتوضأ» . فخص الذكر بذلك، ولأنه مس من بدنه غير السبيلين، فلم ينتقض وضوؤه، كما لو مس فخذه.
وإن مس فرج بهيمة لم ينتقض وضوؤه.
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي: أنه قال: (ينتقض وضوؤه) . وهو قول

(1/189)


الليث؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس الفرج الوضوء» ووجه القول المشهور: أنه لما لم ينتقض الوضوء بمس الأنثى من البهائم، لم ينتقض بمس فرج البهيمة، ولأن البهيمة لا حرمة لها، ولا تعبد عليها.
وأما الخبر: فلا يعرف هذا اللفظ فيه، وإن صح فإن إطلاق ذلك لا ينصرف إلى البهيمة.

[فرع: مس الخنثى أحد فرجيه]
] : وأما الخنثى المشكل: إذا مس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه؛ لجواز أن يكون ذلك خلقة زائدة.
فإن مس أحدهما، وصلى الظهر، ثم مس الآخر، وصلى العصر، لزمه إعادة العصر دون صلاة الظهر؛ لأن بمسه الثاني انتقضت طهارته بيقين.
وإن مس أحدهما، وصلى الظهر، ثم توضأ، ومس الثاني، وصلى العصر ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\26] :
أحدهما: يلزمه إعادة الصلاتين؛ لأنه قد صلى إحداهما بغير طهارة بيقين، فإذا أشكل عينها لزمه إعادتهما، كما لو نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا يلزمه قضاء واحدة منها؛ لأنهما حادثتان لم يتعين الخطأ في واحدة منهما، فهما كرجلين قال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابًا فنسائي طوالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فنسائي طوالق، فطار ولم يعرف فإنه لا يطلق نساء واحد منهما.
وإن مس الخنثى ببطن كفه ذكر رجل، أو فرج امرأة انتقض وضوء الخنثى، سواء كان الممسوس أجنبيًا منه، أو من ذوي محارمه؛ لأنه قد وجد منه المس لا اللمس. ولا ينتقض وضوء الممسوس؛ لجواز أن يكون الخنثى مثل من مسه.
وإن وضع الخنثى ذكره على فرج امرأة، أو دبرها، لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة فيه.

(1/190)


[فرع: مس الخنثى]
] : وإن مس رجل ذكر خنثى مشكل انتقض وضوء الرجل؛ لأنه إن كان الخنثى رجلا فقد وجد المس، وإن كان امرأة فقد وجد اللمس. ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن يكون رجلا.
وإن مس رجل فرج خنثى لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى رجلا، وهذه خلقة زائدة فيه.
وإن مست امرأة فرج خنثى انتقض وضوء المرأة؛ لأنه قد وجد: إما المس، وإما اللمس، ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن تكون امرأة.
وإن مست امرأة ذكر خنثى لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة فيها.
وإن مس ماس فرجي الخنثى انتقض وضوء الماس؛ لأنه قد وجد مس الفرج الأصلي بيقين، ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن يكون كمن مسه.
وإن كان هناك خنثيان مشكلان، فمس أحدهما أحد فرجي الآخر لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكونا على صفة واحدة، والفرج الممسوس خلقة زائدة.
وإن مس هذا ذكر هذا، ومس هذا فرج هذا، فإنا لا نوجب الطهارة على أحدهما؛ لأنهما إن كانا رجلين، فقد انتقض وضوء ماس الذكر. وإن كانا امرأتين، انتقض وضوء ماس الفرج. وإن كان أحدهما رجلا، والآخر امرأة انتقض وضوؤهما.
فإذا احتمل هذه الاحتمالات فإنا نتيقن أن أحدهما قد انتقض طهره، ولكنا لا نعرفه بعينه، فلم نوجب على أحدهما الطهارة، وهذا مراد صاحب " المهذب " [1/23] بقوله: و (كذا) لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما، ولم نعرفه بعينه.

(1/191)


[فرع: السهو كالعمد في النقض]
] : وما أوجب الطهارة فعمده وسهوه سواء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب الطهارة من النوم، والنائم لا يحس بما يخرج منه، ولا يقصد إليه.
«وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: كنت رجلا مذاءً، وكنت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فاستحييت أن أسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته مني، فسألت المقداد أن يسأله، فسأله، فقال: " ينضح فرجه بالماء، ويتوضأ» . وقال: «كل فحل مذاء» ، فأوجب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوضوء من المذي، وإن كان يخرج بغير اختياره.

[مسألة: أمور لا تنقض الوضوء]
] : وأما دم الفصد، والحجامة، والرعاف، والقيح، والقيء، فلا ينقض الوضوء، سواء كان قليلا أو كثيرًا.
وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وابن عباس، وابن أبي أوفى، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر بن زيد، وبه قال سعيد بن المسيب، ومكحول، وربيعة، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (كل نجس خرج من البدن فإنه ينقض الوضوء إذا سال. وإن وقف على رأس الجرح لم ينقض) . وقال في القيء: (إن ملأ الفم نقض

(1/192)


الوضوء، وإن كان دونه لم ينقض) . وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وصلى، ولم يزد على غسل محاجمه» .
وروى أبو الدرداء، قال: «قاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفطر» ، وقال ثوبان: «وأنا صببت له وضوءًا» ، فقلت: يجب الوضوء من القيء؟ فقال: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) .
ولأنه لو انتقض الوضوء بالكثير من ذلك لانتقض باليسير منه، كالغائط. ولما لم ينتقض باليسير منه لم ينتقض بالكثير منه، كالبصاق والمخاط.

[فرع: لا يجب الوضوء مما مست النار]
] : ولا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار، وهو قول الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وأبي أمامة، وأبي الدرداء.
وذهب الحسن البصري، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز، وأبو قلابة إلى: (أنه يجب الوضوء من ذلك) . وروي ذلك: عن ابن عمر، وأبي

(1/193)


طلحة، وأنس، وأبي موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا مما مسته النار، أو مما غيرته النار» .
دليلنا: ما روي عن جابر: أنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الوضوء مما مسته النار» ، وهذا يدل على أن الأول منسوخ بهذا.
ولا ينتقض الوضوء بأكل لحم الجزور.
وقال أحمد بن حنبل: (ينتقض الوضوء بذلك) . وحكى ابن القاص في " التلخيص ": أن هذا قول الشافعي في القديم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: أنتوضأ من لحم الغنم؟ فقال: " لا "، فقيل له: أنتوضأ من لحم الإبل، فقال: " نعم» .

(1/194)


والأول هو المشهور: لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوضوء مما يخرج، لا مما يدخل» .
وما رووه محمول على غسل اليد؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى ذلك غسل اليد، لما روي عن بعض الصحابة: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بالوضوء قبل الطعام وبعده» ، وإنما فرق بين لحوم الإبل والغنم؛ لأن لحوم الغنم في الحجاز لا زهومة لها، بخلاف لحوم الإبل.

[فرع: القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء]
] : ولا ينتقض الوضوء بقهقهة المصلي، وبه قال جابر، وأبو موسى، وعطاء، وعروة، والزهري، ومكحول، ومالك.
وقال الشعبي، والنخعي، والثوري وأبو حنيفة: (ينتقض الوضوء به، ويبطل الصلاة) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قهقه في صلاته فليعد الوضوء والصلاة» .

(1/195)


وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بقوم من أصحابه، فأتى ضرير فتردى في بئر، فقهقه بعض من كان خلفه، فلما فرغ أمره بإعادة الوضوء والصلاة» .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المقهقه في الصلاة يعيد الصلاة، ولا يعيد الوضوء» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الضاحك في الصلاة كالمتكلم» .
ولأن كل ما لا ينقض الوضوء خارج الصلاة، لم ينقضه داخل الصلاة، كالكلام.
وأما خبرهم الأول: فنحمله على أنه يعيد الصلاة وجوبًا، والوضوء استحبابًا، بدليل ما رويناه. وخبرهم الثاني: مرسل على أنه لا يظن ذلك بالصحابة؛ لأنهم كانوا خيار الأمة، ووصفهم الله بالرحمة والرأفة، فكيف يضحكون من رجل وقع في بئر؟.
وإن صح حملناه على الاستحباب، بدليل ما ذكرناه.

[فرع: لا وضوء من فحش الكلام]
] : قال في " الأم " [1/18] : (ولا وضوء من الكلام، وإن عظم، ولا في إيذاء أحدٍ، ولا في قذف) .

(1/196)


قال ابن الصباغ: وهذا إجماع، غير أنه قد روي عن ابن مسعود: أنه قال: (لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب) .
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء؟!) .
وقال ابن عباس: (الحدث حدثان: حدث الفرج، وحدث اللسان، وأشدهما: حدث اللسان) .
فقال ابن الصباغ: الأشبه بذلك: أنهم أرادوا غسل الفم. وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق في " المهذب "، والشيخ أبي نصر: أنهم أرادوا به الوضوء الكامل.

[مسألة: لا يؤثر الشك في الحدث]
] : ومن تيقن بحدث، وشك في الطهارة بنى على تيقن الحدث، بلا خلاف؛ لأن الحدث يقين، فلا يرتفع بالشك.
وإن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة عندنا، سواء كان في الصلاة أو خارجًا منها.
وقال مالك: (يبني على الحدث، سواء كان في الصلاة، أو خارجًا منها) .
وقال الحسن: إن كان في الصلاة بنى على يقين الطهارة، وإن كان في غير الصلاة بنى على يقين الحدث، وتوضأ.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئل عن الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة؟

(1/197)


فقال: " لا ينفتل حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة، فينفخ بين أليتيه، فيقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» .
وإن تيقن الطهارة والحدث، وشك في السابق منهما، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب عليه الوضوء؛ لأنه قد تيقنهما، وليس لأحدهما مزية على الآخر، فلم يجز له دخول الصلاة بطهارة مشكوك فيها.
والثاني: ذكره ابن القاص، وهو المشهور: أنه ينظر إلى الحال التي يتيقنها من نفسه قبلهما: فإن كانت حالة حدث فهو الآن متطهر، لأنه قد تيقن أن الطهارة وردت على الحدث السابق فأزالته، وهو يشك في ارتفاع هذه الطهارة بحدث، والأصل: بقاؤها.
وإن كانت حالته قبلهما حالة طهر فهو الآن محدث؛ لأنه قد تيقن أن الحدث ورد على الطهارة فأزالها، ثم صار يشك: هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده؟ والأصل: أنه لم يرتفع.
والوجه الثالث: حكاه الطبري في " العدة ": أنه ينظر إلى الحالة التي تيقنها من نفسه قبلهما فيبني الأمر عليها؛ لأنه يتعارض اليقينان بعده بالطهارة والحدث فيسقطان، ويبقى على الحالة الأولى، وهذا أضعف الوجوه.

[فرع: طهارة المرتد]
] : وإن توضأ أو تيمم، ثم ارتد ففيه ثلاثة أوجه:

(1/198)


أحدها: يبطلان؛ لأن ذلك أعظم من الحدث.
والثاني: لا يبطلان؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «إلا من غائط، أو بول، أو نوم» فاقتضى أن جميع ذلك نواقض الوضوء.
والثالث: يبطل التيمم، ولا يبطل الوضوء؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، فضعف أمره، فبطل بالردة، والوضوء يرفع الحدث فقوي أمره، فلم يبطل بالردة.

[مسألة: لا صلاة ونحوها إلا بطهارة]
] : لا يجوز للمحدث فعل الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» .
ولا يصح له الطواف، خلافًا لأبي حنيفة، ويأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

(1/199)


ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة» .
ولا يجوز للمحدث مس المصحف، ولا مس حواشيه، ولا مس جلده المتصل به.
ولا يجوز له حمله بعلاقة، ولا بغير علاقة.
وقال داود: (يجوز له مسه) .
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة الخراسانيين: يجوز له مس حواشيه التي لا كتاب فيها، ويجوز له مس جلده.
وقال أحمد: (يجوز له حمله بعلاقة، أو بغير علاقة) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز له حمله بعلاقة، ولا يجوز له حمله بغير علاقة) . وبه قال حماد، وعطاء، والحسن.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] [الواقعة: 79] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في كتاب عمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» .

(1/200)


وأما الدليل على أنه لا يجوز مس حواشيه، ودفتيه؛ فلأنه جزء من المصحف فلم يجز للمحدث مسه، كموضع الكتابة.
وأما الدليل على من أجاز حمله؛ فلأن الحمل أعظم في الهتك من المس، فإذا منع المحدث من مسه، فلأن يمنع من حمله أولى.

[فرع: حكم ما زين بآيات القرآن]
] ويجوز للمحدث: أن يمس ثوبا أو بساطا نقش عليه القرآن؛ لأن القصد منه التزين، دون القرآن.
وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز. وليس بشيءٍ.
وهل يجوز للمحدث: أن يقلب أوراق المصحف بين يديه بخشبة من غير أن يحمله، أو يكتب القرآن علي شيء غير حامل له؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. وهو اختيار المسعودي في [" الإبانة " ق\20] ؛ لأن ما بيده منسوب إليه، فلم يجز له مس القرآن به، كما لا يجوز له مسه بيده.
والثاني: يجوز. وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأنه غير ماس له، ولا حامل.
وهل يجوز للصبيان حمل الألواح التي فيها القرآن وهم محدثون؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. كما لا يجوز ذلك لغيرهم.

(1/201)


فعلى هذا: على الولي والمعلم أن يأمرهم بالطهارة لذلك، فإن لم يفعل ـ أثم بذلك هو دون الصبي.
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم إلي ذلك كثيرة، وطهارتهم لا تنحفظ، فلو اشترطنا طهارتهم، لأدى ذلك إلى تنفيرهم.
وإن حمل متاعًا وفي جملته مصحف، فهل يجوز؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\20] :
أحدهما: لا يجوز. لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز. وهو قول أصحابنا البغداديين؛ لأن المقصود منه حمل المتاع، فعفي عما فيه من القرآن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى المشركين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64] [آل عمران: 64] .
وإن حمل كتابا من كتب الفقه، وفيه شيء من القرآن، أو حمل دنانير أو دراهم عليها نقش القرآن، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز؛ لأن المقصود بها غير القرآن، ولأن ذلك يشق.
وهل يجوز للمحدث حمل تفسير القرآن؟
قال الشاشي: اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن كان القرآن أكثر، لم يجز. وإن كان التفسير أكثر، ففيه وجهان، ككتب الفقه التي فيها آيات من القرآن.

(1/202)


ومنهم من قال: إن كان القرآن متميزًا عن التفسير، بأن كتب القرآن صدرا في خط غليظ، وتفسيره تحته بخط أدق منه، لم يجز حمله. وإن لم يتميز عنه في الخط، كره له حمله.
قال الشاشي: وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا لم يترك شيئا من القرآن، فهو مصحف أودع فيه، فلم يجز للمحدث حمله.
وإن كان في موضع من بدنه نجاسة، فمس المصحف بغيره من بدنه وهو متطهر، فهل يجوز؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو القاسم الصيمري: لا يجوز، كما لا يجوز للمحدث مس المصحف بظهره.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز. وهو الصحيح؛ لأن النجاسة لا تتعدى محلها، بخلاف الحدث.
وبالله التوفيق

(1/203)