البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الاستطابة]
إذا أراد قضاء الحاجة، ومعه شيء عليه اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فالمستحب له: أن ينحيه عنه؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل الخلاء، وضع خاتمه» . وإنما وضعه؛ لأنه كان مكتوبا عليه: محمد رسول الله. ثلاثة أسطر.
وهل يختص ذلك بالبنيان، أو يشترك فيه البنيان والصحراء؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يختص ذلك بالبنيان.
وقال المحاملي، وصاحب " المذهب ": يشترك فيه البنيان والصحراء.
وقال الشيخ أبو حامد: ومما يختص به البنيان دون الصحراء، إذا أراد دخول الخلاء: أن يقول عند دخوله: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ستر ما بين عورات أمتي، وأعين الجن: بسم الله» .
وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا أراد دخول الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» .

(1/204)


وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث، الرجس النجس الشيطان الرجيم» .
قال أبو عبيد: (الخبث) : الشر، و (الخبائث) : الشياطين، وأما (الخبيث) : فهو الخبيث بنفسه، و (المخبث) : هو المخبث لغيره.
ويستحب إذا خرج أن يقول: «الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك لي ما ينفعني» . لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك) . ويستحب أن يقول مع ذلك: «غفرانك، غفرانك» . لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك.
ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج رجله اليمنى؛ لأن الدخول أدنى فقدمت فيه اليسار، والخروج أعلى فقدمت فيه اليمنى.
ويستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء أن يبعد في المذهب؛ لما روى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذهب إلى الغائط، أبعد، بحيث لا يراه أحد» .

(1/205)


ويستحب أن يستتر عن العيون بشيء؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتي الغائط فليستتر» .
«وروى جابر قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى شجرتين بينهما نحو أربعة أزرع، فقال: " يا جابر، اذهب إلى تلك الشجرة، فقل لها: قال لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي بصاحبتك؛ فإنه يريد أن يجلس وراءكما "، فقلت لها ذلك، فلحقت بصاحبتها، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءهما، فلما قضى حاجته وقام، عادت إلى مكانها» .

[مسألة: حكم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة]
] : وأما استقبال القبلة بالغائط والبول، فاختلف العلماء في جواز ذلك.
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان، ولا يجوز ذلك في الصحراء، فإن فعل ذلك ذاكرا عالما بتحريمه أثم) . وروي ذلك عن العباس بن عبد المطلب، وابن عمر، وبه قال مالك وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة إلى: (أن ذلك لا يجوز في البنيان، ولا في الصحراء) . وبه قال أبو أيوب الأنصاري، والنخعي.
وذهب عروة بن الزبير، وربيعة، وداود إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان والصحراء) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة لغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار» .

(1/206)


ونهى عن الروث والرمة، وهذا دليل على منع ذلك في الصحراء.
وأما الدليل على جواز ذلك في البنيان: فما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أوقد فعلوا ذلك؟ استقبلوا بمقعدتي إلى القبلة» . وكان ذلك في البنيان.
وروى ابن عمر، قال: «اطلعت على إجار ببيت حفصة، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته قاعدا على لبنتين، مستقبل الشام، مستدبرا القبلة» . فإن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تلك الحال؟.
قلنا: يحتمل أنه لم يقصد النظر، ولكن فاجأته النظرة، ويحتمل أنه رأى ظهره وأعالي بدنه.
وإذا ثبت هذا: فروى معقل بن أبي معقل الأسدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استقبال القبلتين» . فتأول أصحابنا ذلك بتأويلين:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهى عن استقبال بيت المقدس، حين كان قبلة، ثم نهى عن استقبال الكعبة، حين صارت قبلة، فجمع الراوي بينهما.

(1/207)


والثاني أن هذا ورد على أهل المدينة، ومن كان في سمتهم من البلدان؛ لأن من هناك إذا استقبل الكعبة، استدبر بيت المقدس، وإذا استدبر الكعبة، استقبل بيت المقدس. وسمي بيت المقدس قبلة؛ لأنه كان قبلة على عادة العرب في استصحاب الاسم بعد زواله.

[فرع: حكم استقبال القبلة في الأبنية]
] : البنيان الذي يجوز فيه استقبال القبلة واستدبارها.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\21] : يجب ألا يكون البناء أقل من مؤخرة الرحل، ويشترط أن يكون بقرب البناء، فإن كان بينه وبين البناء أكثر مما بين الصفين، كان كالصحراء.
ولا يشترط البناء والتسقيف، بل لو كان بينه وبين القبلة دابة، أو أرسل ثوبه من خلفه، كان كالبناء؛ لأن ذلك يستره عن القبلة.
فإن كان في وهدة من الأرض، وبينه وبين القبلة شيء يستره من الأرض، أو كان بينهما شجرة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون ذلك كالبنيان، لأنه يقع عليه اسم الصحراء.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكون كالبنيان؛ لأن ذلك يستره عن القبلة، فهو كالبنيان.
ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع ثوبه، حين رآه من فوق سطح بيت حفصة حتى دنا من الأرض» .

(1/208)


[فرع: تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور]
[تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور] : وإذا أراد أن يبول، ارتاد لبوله موضعا لينا؛ لا يترشش عليه البول: إما رملا، أو ترابا لينا، فإن كان الموضع صلبا، دقه بحجر؛ لما «روى أبو موسى الأشعري، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار، فبال فيه، ثم قال: " إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتد لبوله، ولا يستقبل الريح؛ فإنها ترده عليه» . و (الدمث) : الموضع اللين. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتمخر الريح إذا أراد أن يبول» .
ويستحب أن يجلس إذا أراد أن يبول، ويكره أن يبول قائما من غير عذر؛ لما روي عن عمر: أنه قال: (ما بلت قائما منذ أسلمت) .
وقال ابن مسعود: (من الجفاء أن تبول وأنت قائم) . ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه.
وروي عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يبول تفاج؛ حتى إنا لنأوي له» .

(1/209)


فإن كان له عذر عن الجلوس، لم يكره له البول قائما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال قائما لعلة بمأبضه» و (المأبض) : ما تحت الركبة من كل حيوان.
ويكره أن يبول في جحر من الأرض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الجحر، قيل لقتادة: فما بال الجحر؟ فقال: يقال: إنها مساكن الجن» .
وقيل: إن سعد بن عبادة خرج إلى الشام، فسمع أهله هاتفا يهتف في داره ويقول:
نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده
قد رميناه بسهمي ... ن فلم نخط فؤاده
ففزع أهله من ذلك، وتعارفوا خبره، فكان قد مات في تلك الليلة.
وقيل: إنه قد كان جلس يبول في جحر، فاستلقى ميتا.
ولأنه لا يؤمن أن يخرج من الجحر بالبول شيء يلسعه، أو يرد عليه بوله.
ويكره أن يبول في الماء الراكد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد» ؛ لأنه ربما أفسده.
ويكره أن يبول في الظل، والطريق، والموارد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

(1/210)


«اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل المقصود» .
قال أبو عبيد: فسميت ملاعن؛ لأن من رأى ذلك، قال: من فعل هذا، لعنه الله؟!
ويكره أن يبول في مساقط الثمار؛ لأنه يقع عليه فينجس.
ويكره أن يبول في موضع ويتوضأ فيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه» .
ولا بأس أن يبول في الإناء؛ لما روي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدح يبول فيه بالليل يوضع تحت سريره» .

[فرع: كراهة استقبال النيرين]
] : قال الصيمري: ويكره له استقبال الشمس والقمر، واستدبارهما بفرجه، ولا يحرم.
ويستحب لمن كان في قضاء حاجته أن يقنع رأسه، ولا ينظر إلى فرجه، ولا إلى

(1/211)


ما يخرج منه، ولا يرفع بصره إلى السماء، ولا يعبث بيده.
ويكره أن يتكلم على الخلاء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» .
ويكره له أن يرد السلام؛ لما روي: «أن المهاجر بن قنفذ سلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم رد عليه، وقال: " كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر» .
ويكره أن يحمد الله تعالى إذا عطس، أو يجيب المؤذن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر» .
ويستحب أن يتكئ على رجله اليسرى، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد أحدكم لحاجته، فليعتمد على رجله اليسرى» . ولأنه أسهل في قضاء الحاجة.
ويستحب له ألا يطيل الجلوس على قضاء الحاجة؛ لما روي عن لقمان أنه قال: (إن طول القعود على الحاجة، تتجع منه الكبد، ويأخذ منه الباسور، فاقعد هوينا واخرج) .

(1/212)


وإذا بال، تنحنح ومسح ذكره من مجامع عروقه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم، فلينتر ذكره ثلاث مرات» . ولأنه يخرج إن كان هناك بقية.

[مسألة: حكم الاستنجاء]
] : الاستنجاء واجب من الغائط، فإن صلى قبل أن يستنجي لم تصح صلاته، وبه قال مالك في إحدى الروايتين، وأحمد، وإسحاق، وداود.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل هو مستحب) . وهي الرواية الثانية عن مالك، وحكي ذلك عن المزني. وقدر أبو حنيفة النجاسة التي تصيب البدن والثوب بموضع الاستنجاء، وقال: (لا يجب إزالتها) . وقدرها أيضًا بالدرهم الأسود البغلي.
وإنما يعتبر هذا القدر في المساحة دون السمك، فلو علت أيضًا شبرًا أو أكثر، ولم تزد مساحتها على قدر الدرهم لم يجب إزالتها.
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليستنج بثلاثة أحجار» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالبًا، فلم تصح الصلاة معها، كما لو زادت على قدر الدرهم.
ويجب الاستنجاء من البول، كما يجب من الغائط.

(1/213)


وقال أبو حنيفة: (لا يجب الاستنجاء منه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس رضى الله عنهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: " إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول» . وروي «لا يستبرئ من البول»
وروي أن عبد الله بن عمر خرج في سفر، قال: فدفع بي الطريق إلى مقبرة، فأويت إلى امرأة، فلما جنني الليل سمعت صوتًا من المقبرة وهو يقول: شن وما شن، بول وما بول، فجزعت من ذلك، فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم صائف شديد الحر، فاستسقى ماء، فقال ولدي: قم إلى الشن، فاشرب منه، ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب، فلم ير فيه شيئًا، فوقع فمات، وكان لا يستبرئ من البول، وكنت أنهاه عن ذلك، فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه المقبرة، فكلما جن الليل يصيح: شن وما شن، بول وما بول. فحدث ابن عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فـ: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسافر الرجل وحده» .
قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون نهى عن ذلك؛ لأن ابن عمر جزع مما أصابه، ويحتمل أن يكون لأجل ما أصاب الرجل من العطش.

[فرع: حكم الخارج غير البول والغائط]
] : قال ابن الصباغ: ولا يجب الاستنجاء من المني، ولا من الريح؛ لأنهما طاهران، فلا يجب منهما الاستنجاء.

(1/214)


وإن خرج منه حصاة أو دودة، عليها رطوبة وجب منها الاستنجاء. وإن كان لا رطوبة عليها، فهل يجب منها الاستنجاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لا بلل معه، فهو كالريح.
والثاني: يجب؛ لأنه لا يخلو من بلل. والأول أصح. قال ابن الصباغ: وإن خرجت منه بعرة، لا بلل عليها، فهي كالدودة والحصاة التي لا رطوبة معها.

[مسألة: تقديم الاستنجاء على الوضوء]
] : والمستحب: أن يستنجي أولا، ثم يتوضأ إن كان واجدًا للماء قادرًا على استعماله. وإن كان عاجزًا عن الماء، أو عن استعماله، تيمم بعد الاستنجاء. فإن توضأ ثم استنجى، أو تيمم ثم استنجى، ولم يمس شيئًا من عورته فهل يصح؟ اختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أبو علي في " الإفصاح " قولان.
و [الثاني] : قال أبو العباس ابن القاص: يصح الوضوء قولا واحدًا، وفي التيمم قولان.
و [الثالث] : قال أكثر أصحابنا: يصح الوضوء، ولا يصح التيمم قولا واحدًا. والفرق بينهما: أن الوضوء يرفع الحدث، وذلك يصح مع بقاء النجاسة. والتيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به فعل الصلاة، فلم يصح مع بقاء النجاسة.
فإذا قلنا: لا يصح تيممه قبل أن يستنجي، فكان على بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء، فتيمم قبل إزالتها فهل يصح تيممه؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص في " الأم " ـ: (أنه لا يصح؛ لما ذكرناه في النجاسة في موضع الاستنجاء) .
والثاني ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يصح. والفرق ـ بين النجاسة على موضع الاستنجاء، وبين غيره من البدن ـ: أن خروج النجاسة إلى موضع الاستنجاء

(1/215)


توجب الطهارة، فجاز أن يكون بقاؤها فيه يمنع صحة الطهارة. وليس كذلك النجاسة في غير موضع الاستنجاء، فإن خروجها إليه لا يوجب الطهارة، فكان بقاؤها فيه لا يمنع صحة الطهارة.

[مسألة: أفضلية استعمال الحجر والماء معًا]
] : وإذا أراد الاستنجاء، وكان الخارج غائطًا أو بولا، ولم يجاوز الموضع المعتاد، فالأفضل أن يستنجي بالأحجار أولا، ثم بالماء بعده.
وحكى ابن المنذر، عن سعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وحذيفة: أنهم كانوا لا يرون استعمال الماء.
وقال سعيد بن المسيب: ما يفعل ذلك إلا النساء. وقال عطاءٌ: غسل الدبر محدث.
وكان الحسن لا يغسل بالماء.
دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: أنه قال: (إن هذه الآية نزلت في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] [التوبة: 108] . قال: وكانوا يستنجون بالماء) .
وقال جابر، وأنس: لما نزلت هذه الآية دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأنصار، فقال: «إن الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء، فما تصنعون؟ " فقالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: " هل غير هذا؟ " فقالوا: لا، إلا أن أحدنا إذا خرج من الخلاء أحب أن يستنجي بالماء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هو ذاك، فعليكم به» .

(1/216)


وهذا يدل على: أنهم كانوا يستعملون الحجارة أولا؛ لأنهم لا يخرجون إلا بعد استعمال الحجارة. وقد روي: أنهم قالوا: (نتبع الحجارة الماء) .
فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالأفضل: أن يقتصر على الماء؛ لأنه أبلغ في الإنقاء.
وإن أراد الاقتصار على الأحجار جاز، سواء كان الماء موجودًا أو معدومًا.
وقال قوم من الزيدية، والقاسمية: لا يجوز الاقتصار على الأحجار، مع وجود الماء.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار، يستطيب بها، فإنها تجزئ عنه» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: " ما هذا يا عمر؟ "، فقال: ماء تتوضأ به، فقال: " ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت ذلك لكان سنة» . وهذا يبطل ما قالوه.

(1/217)


[فرع: كيفية الإنقاء]
] : إذا استنجى بالماء لزمه إذهاب الأجزاء، وإذهاب الرائحة، لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء الأجزاء.
وإذا استنجى بالأحجار لزمه أبعد الأمرين من الإنقاء، واستيفاء ثلاثة أحجار، فإن لم ينق بالثالث لزمه أن يزيد رابعًا. فإن أنقى بالرابع أجزأه، ولا يلزمه استيفاء ستة أحجار.
وحكى في " الفروع ": أن ابن خيران قال: يلزمه ذلك. وليس بشيء؛ لأن المقصود قد حصل.
وإن أنقى بحجر أو بحجرين لزمه استيفاء الثلاثة.
وقال مالك، وداود: (لا يلزمه ذلك) ، وحكي ذلك عن بعض أصحابنا، وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار» .

(1/218)


فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، فمسح بكل حرف مرة، وأنقى أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل، وهو المسح والإنقاء، فصار كما لو مسح بثلاثة أحجار وأنقى.
و (الإنقاء) ـ في الأحجار ـ هو: أن لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء، فيعفى عن ذلك الأثر؛ لأنا قد بينا أن استعمال الماء غير واجب.
قال الصيدلاني: فلو عرق محل النجو وجاوزه، نجسه، ووجب عليه غسله بالماء. وإن لم يجاوزه عفي عنه، على الأصح.
قال الصيمري: وإن بقيت بعد الأحجار بقية يخرجها حجر صغير، أو ما صغرَ من الخزف ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه إخراجها، كما لو بقيت بقية يخرجها حجر كبير.
والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزمه إخراج الأثر اللاصق الذي لا يزيله إلا الماء.

[فرع: كيفية الاستجمار]
] : قال أصحابنا: وأما كيفية الاستنجاء بالأحجار: فليس فيه تقدير واجب، وإنما يجب أن يمر كل حجر من الأحجار الثلاثة على كل موضع من مواضع الاستنجاء.
وأما كيفية الاستنجاء: ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يأخذ حجرًا فيمره على الصفحة اليمنى ويرمي به، ثم يأخذ حجرا آخر فيمره على الصفحة اليسرى ويرمي به، ثم يأخذ حجرًا فيمره من مقدم على المسربة ويرمي به، لما روى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يكفي أحدكم إذا قضى حاجته أن يستنجي بثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجر للمسربة» .

(1/219)


و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يأخذ حجرًا فيمره من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يديره إلى اليسرى من مؤخرها إلى مقدمها، ثم يأخذ حجرًا ثانيًا فيمره من مقدم صفحته اليسرى إلى مؤخرها، ويديره من مؤخر صفحته اليمنى إلى مقدمها، ثم يأخذ حجرًا ثالثًا فيمره على جميعهما وعلى المسربة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقبل بحجر، ويدبر بحجر، ويحلق بالثالث» . وهذا أصح؛ لأنه يستعمل جميع الأحجار، في جميع مواضع الاستنجاء.

[فرع: كيفية استنجاء غير الرجل]
] : واستنجاء المرأة في الدبر كاستنجاء الرجل.
وأما استنجاؤها من البول: فإن كانت بكرًا فإنها تستنجي في مواضع البول بالأحجار والماء كالرجل.
وأما موضع البكارة: فلا تعلق للبول فيه؛ لأنه مسدود تحت ثقبة البول، ولا يصل إليه البول، ولكن يستحب لها: أن تدخل أصبعها في الثقب الذي في الفرج، فإن لم تفعل لم يلزمها شيء.
وأما الثيب: فإنها إذا جلست للبول انفرج ذلك الموضع، فربما ينزل إليه البول، فإن تحققت وصول البول إلى موضع البكارة ـ وهو مدخل الذكر، ومخرج الحيض،

(1/220)


والمني، والولد ـ وجب غسله بالماء. وإن لم يتحقق وصول البول إليه استحب لها: أن تغسله، ولا يجب عليها.
وحكى في " الفروع " وجهًا آخر: أن الثيب لا يجزئها الاستنجاء بالحجر. وليس بشيء.
وأما الخنثى المشكل: فحكمه في الاستنجاء في الدبر حكم غيره.
وإن خرج البول من أحد فرجيه، ومن عادته أن يبول منهما فقد مضى ذكره في الحدث. وإن بال منهما وجب عليه الاستنجاء فيهما؛ لأن أحدهما أصلي بيقين، ولكن لا نعرفه بعينه، فلزمه الاستنجاء فيهما؛ ليسقط الفرض بيقين.
فإن أراد الاستنجاء بالماء فيهما جاز.
وإن أراد الاقتصار فيهما على الحجر فهل يجزئه؟ فيه وجهان ـ بناء على من انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح المعتاد ـ:
إذا قلنا: ينتقض الوضوء بمسه فهل يجزئ فيه الحجر؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: يجزئه فيه الحجر وجب لكل واحد منهما أبعد الأمرين من ثلاثة أحجار، أو الإنقاء، كما قلنا في الأصلي.

[فرع: النهي عن استعمال اليمين في الاستنجاء]
] : ويكره أن يستنجي بيمينه؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا خلا فلا يستنجي بيمينه» .
وروي عن عائشة: أنها قالت: «كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطعامه وشرابه

(1/221)


وطهوره، ويده اليسرى للاستنجاء» .
ويستحب أن لا يستعين بيمينه في الاستنجاء على شيء يمكنه فعله بغيرها، فإن كان يستنجي بالحجر من الغائط أخذها بيساره ومسح بها.
وإن كان يستنجي بالحجر من البول، فإن كان يستنجي على حائط أو أرض أو حجر كبير أخذ ذكره بيساره ومسحه بها.
وإن كان يستنجي بحجر صغير ترك الحجر بين عقبيه أو إبهامي رجليه، ومسح عليه ذكره بيساره، وإن لم يمكنه، أمسكه بيمينه ومسحه بها. وهكذا إن كان يستنجي بالماء فإنه يصب الماء بيمينه على موضع الاستنجاء، ويدلكه بيساره؛ لأنه لا يمكنه غير ذلك.
وإن كان أقطع اليسار لم يكره له أن يستنجي بيمينه؛ لأنه موضع ضرورة.
فإن استنجى بيمينه مع تمكنه من فعله بيساره أجزأه؛ لأن الاستنجاء يقع بما يأخذه بها، لا بها.

[مسألة: ما يقوم مقام الحجر]
] : وإن استنجى بما يقوم مقام الحجر أجزأه.
وقال داود وأهل الظاهر، وزفر، وأحمد: (لا يجزئه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار، أو بثلاثة أعواد، أو بثلاث حثيات من تراب» . ذكره الدارقطني.
إذا ثبت هذا: فإن ما يقوم مقام الحجر ما اجتمع فيه ستة شروط:

(1/222)


الشرط الأول: أن يكون جامدًا، فإن استنجى بمائع غير الماء، كالخل، واللبن وما أشبههما لم يجز؛ لأن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا بغير الماء، وقد مضى ذكره.
الشرط الثاني: أن يكون الجامد طاهرًا؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالروث، والرمة» . وإنما نهى عنهما لنجاستهما؛ بدليل ما روي: «عن ابن مسعود: أنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجرين وروثة ليستنجي به، فأخذ الحجرين، ورمى بالروثة، وقال: " إنها ركس» . ولأن الماء النجس لا يجوز إزالة النجاسة به، فكذلك الجامد النجس.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال في " المختصر " [1/12] : (فإن استطاب بما يقوم مقام الحجر من الخزف والآجر وأنقى ما هنالك أجزأه) .
وذكر أيضًا في " الأم " [1/19] : (أن الاستنجاء بالآجر يجوز) .
قال الشيخ أبو حامد: فيحتمل أن يكون الآجر عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطرح فيه روث، وقد قيل: إن طرح الروث فيه لم يكن قبل، ثم حدث، ويحتمل أن يكون علم أن فيه روثًا، ولكنه حكم بأن النار أكلته، فإذا غسل طهر ظاهره، فيجوز الاستنجاء به. فإن كسر موضع منه فموضع الكسر نجس، لا يجوز الاستنجاء به وإن غسله؛ لأن الأعيان قائمة فيه لم تحرقها النار.
ولا يستنجي بحجر قد استنجى به هو، أو غيره قبل أن يغسل الحجر بالماء.
فإن غسل بشيء من المائعات، كالخل، وماء الورد فالمشهور من المذهب: أنه لا يحكم بطهارته، ولا يجوز الاستنجاء به؛ لأن إزالة النجاسة لا تجوز بغير الماء.

(1/223)


وحكى الصيمري قولا آخر: أنه يحكم بطهارته، ويجوز الاستنجاء به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأرض يطهر بعضها بعضًا» . ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وقد زالت. وهذا قول أبي حنيفة.
فإن جفت النجاسة بالشمس، وذهبت عينها فهل يحكم بطهارته، ويجوز الاستنجاء به؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يحكم بطهارته بالشمس فهل يحكم بطهارته إذا ذهبت عين النجاسة بالظل والرياح؟ فيه قولان.
وإن استنجى بحجر، ثم وجده وشك: هل جرى عليه ماء طهره أم لا؟ لم يستنج به؛ لأن الأصل بقاؤه على النجاسة.
وإن رأى حجرا وشك: هل استنجى به هو، أو غيره؟
قال الشافعي: (كرهت له أن يستنجي به، فإن فعل به أجزأه؛ لأن الأصل أنه لم يستنج به) .
فإن استنجى بشيء نجس، أو بمائع غير الماء فهل يجزئه الاستنجاء بالأحجار من ذلك؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يجزئه إلا الماء؛ لأن هذه النجاسة من غير الخارج من السبيلين، فلم يجزئه إلا الماء، كما لو وقعت نجاسة على موضع من بدنه غير موضع الاستنجاء.
والثاني: تجزئه الأحجار؛ لأن هذه النجاسة تابعة للنجاسة التي على المحل، فزالت بزوالها.
الشرط الثالث: أن يكون الجامد منقيًا، فإن كان غير منقٍ، كالزجاج، والحديد الصقيل، وما أشبه ذلك لم يجزه الاستنجاء به، لأن المقصود إزالة عين النجو،

(1/224)


وهي لا تزول بذلك. وكذلك اللزج الذي لا يجري على موضع الاستنجاء لا يصح الاستنجاء به، لأن عين النجاسة لا تزول به.
وأما الفحم: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يصح الاستنجاء به؛ لأنه لا يزيل العين، فهو كالزجاج.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\23] : قد اختلف نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه، والصحيح: إن كان صلبًا صح الاستنجاء به، وإن كان رخوًا لم يصح الاستنجاء به.
وإن استنجى بحجر فيه رطوبة فهل يصح؟ فيه وجهان.
قال الصيمري: ويمكن أن يقال: إن كانت الرطوبة يسيرة صح، وإن كانت كثيرة لم يصح.
فإن استنجى بشيء أملس، كالزجاج الأملس، والحديد الصقيل، فهل يصح الاستنجاء بعده بالحجر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القفال: لا يصح.
و [الثاني] : قال غيره: يصح.
الشرط الرابع: أن لا يكون الجامد مطعومًا، فإن استنجى بمطعوم، كالخبز والعظم لم يجز.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز الاستنجاء بالعظم) .
فأما مالك: فلأنه مزيل عنده للعين.
وأما أبو حنيفة: فلأن الاستنجاء عنده غير واجب.
ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرويفع بن ثابت الأنصاري: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من استنجى بعظم، أو رجيع فقد برئ من محمد» .

(1/225)


وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالروث والرمة» : وهي العظم البالي.
وروى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالعظام، وقال: " هي زاد إخوانكم من الجن» .
إذا ثبت هذا: فإن استنجى بالخبز وأنقى، أو بعظم طاهر وأنقى، فقد فعل فعلا محرمًا، ويأثم به إذا علم تحريمه. وهل يصح استنجاؤه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين، فصح استنجاؤه، وإنما منع منه للحرمة، كما لو صلى في ثوب حرير.
والثاني: لا يصح، وهو صحيح؛ لأن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخص لا تتعلق بالمعاصي. فإذا قلنا بهذا. أجزأه الاستنجاء بالأحجار وجهًا واحدًا، هكذا ذكره في " الفروع ".
الشرط الخامس: أن لا يكون للجامد حرمة. فإن كان له حرمة، بأن استنجى بما فيه قرآن، أو حديث، أو فقه لم يجز؛ لأن فيه استخفافًا بالشريعة. فإن استنجى بشيء من ذلك وأنقى فهل يصح؟ فيه وجهان، كما ذكرنا في الخبز والعظم. فإذا قلنا: لا يصح، أجزأه الإعادة بالأحجار وجهًا واحدًا.
وإن استنجى بقطعة خشنة من ذهب، أو فضة، فهل يصح؟ فيه وجهان:

(1/226)


أحدهما: يصح؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين غير مطعوم، فأجزأه كالحجر.
والثاني: لا يصح؛ لأن فيه سرفًا.
فعلى هذا: يصح إعادة الاستنجاء بالحجر وجهًا واحدًا.
وإن استنجى بقطعة ديباج أجزأه؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين، لا حرمة له، فأجزأه كالحجر.
قال في " حرملة ": (وإن استنجى بخرقة من أحد جانبيها، وكانت رقيقة بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر، لم يجز الاستنجاء في الجانب الآخر؛ لأنها تتندى بالرطوبة النجسة، فتصير نجسة، إلا أن تلف الخرقة بعضها على بعض، بحيث لا تتندى النجاسة إلى الجانب الآخر، أو تكون ثخينة لا تصل النجاسة إلى الجانب الآخر منها، فيجوز حينئذ أن يستنجي بالجانب الآخر؛ لأن النجاسة من الجانب الآخر لا تصل إليه) .
الشرط السادس: أن لا يكون جزءًا من حيوان متصل به؛ لأن له حرمة.
فإن استنجى بشيء طاهر من ذلك، مثل أن يستنجي بيده، أو عقبه، أو بيد غيره، أو بذنب حمار متصل به، فهل يصح؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يصح؛ لأنه جامد طاهر منق غير مطعوم، فأجزأه كالحجر.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يصح؛ لأن له حرمة، فلم يصح الاستنجاء به، كالعظم.

[فرع: الاستنجاء بالصوف]
] : قال في " حرملة ": (وإذا نتف الصوف من ظهر الحيوان المأكول، واستنجى به، كرهته، وأجزأه) .
قال أصحابنا: إنما كره النتف؛ لأن فيه تعذيب الحيوان. فأما الاستنجاء بالصوف من الحيوان المأكول: فلا يكره؛ لأنه جامد طاهر منق غير مطعوم، فهو كالحجر.

(1/227)


[فرع: الاستنجاء بالجلد]
] : وهل يجوز الاستنجاء بالجلد بعد الدباغ؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " البويطي "، و" حرملة ": (لا يجوز) ؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالرمة» . وهذا الجلد في معنى الرمة.
والثاني: يجوز؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين غير مطعوم، فأشبه الحجر.
فإن قيل: هلا قلتم: لا يجوز؛ لأنه مأكول؟
قلنا: هو في العادة لا يقصد أكله، ولهذا يجوز بيع جلدين بجلد.
وإن استنجى بجلد حيوان مأكول مذكى، غير مدبوغ، فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح، كما يصح بالخرق.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يقلع النجو للزوجته.

[مسألة: تجاوز الخارج المخرج]
] : وإذا خرج منه الغائط، فكان على المخرج وما حوله مما ينتشر إليه في العادة، أجزأه فيه الحجر، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن هذا هو المعتاد في عموم الناس، فحمل لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
قال أصحابنا: وقد روى المزني: (إذا عدى المخرج لم يجزئه إلا الماء) . وهذا غير صحيح، بل الصحيح: ما نقله عن القديم: (أنه يستطيب بالأحجار، إذا لم ينتشر منه إلا ما ينتشر في العادة من العامة، في ذلك الموضع وحوله) .

(1/228)


فإن تغوط وقام، أو جف الغائط لم يجزئه إلا الماء؛ لأن بقيامه يزول الغائط الخارج عن موضعه بفعله. وبجفافه لا يزول بالحجر، فانحتم الماء فيه.
وإن انتشر الغائط إلى باطن الأليتين، ولم يخرج شيء منه إلى ظاهرهما فهل يجزئه الحجر؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القدم: (لا يجزئه إلا الماء؛ لأن ذلك يندر ويقل، فلا حاجة به إلى استعمال الأحجار فيه) .
و [الثاني] : قال في " الأم " [1/19] : يجزئه الأحجار؛ لأن المهاجرين لما قدموا المدينة أكلوا التمر - وكانت أقواتهم الحنطة والشعير - والتمر يرق بطن من لا يعتاد أكله.
ومعلوم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهم في الاستنجاء بالأحجار. ولأن ذلك يتعذر ضبطه، فجعل الباطن كله حدًا.
وإن خرج الغائط إلى ظاهر الأليتين لم يجزئه فيما خرج عن الأليتين إلا الماء قولا واحدًا؛ لأن ذلك نادر، فلم يجزئه إلا الماء، كالنجاسة على سائر بدنه.
فإن قلنا بقوله في " الأم "، وأن المنتشر إلى باطن الألية يجزئ فيه الحجر. قال الشيخ أبو حامد: وجب عليه استعمال الماء فيما ظهر على ظاهر الأليتين، وأجزأه الحجر في المخرج وفي باطن الأليتين.
وإن قلنا بقوله القديم، وأنه لا يجزئه الحجر في باطن الأليتين، فلا يمكن ـ هاهنا ـ أن يقال: يستعمل الحجر في المخرج وما حوله، والماء فيما زاد على ذلك؛ لأنه لا يتأتى الفصل بينهما، فإن أمكنه ذلك أجزأه.

[فرع: حكم انتشار البول فوق المعتاد]
] : وأما البول: فإن كان على ثقب الذكر وما حوله، مما جرت العادة بانتشار البول إليه، أجزأه الحجر قولا واحدًا؛ لأنه هو المعتاد في عموم الناس.

(1/229)


وإن جاوز البول موضع الطوق من باطن الذكر، أو ظاهره، لم يجزئه فيما جاوز الطوق إلا الماء؛ لأن ذلك نادر.
وإن جاوز البول الثقب وما حوله، ولم يتجاوز الطوق، فهل يجزئ فيه الحجر؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين في الغائط إذا جاوز المخرج وما حوله إلى باطن الأليتين:
أحدهما: لا يجزئه إلا الماء؛ لأنه يندر.
والثاني: يجزئه الحجر؛ لأنه قد ينتشر إليه في العادة، فجعل الطوق كله حدًا، ووجب الماء فيما زاد.
و [الطريق الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجزئه إلا الماء قولا واحدًا؛ لأن ما ينتشر من البول نادر بخلاف الغائط.

[فرع: حكم الخارج غير المعتاد]
] : وإن كان الخارج من السبيلين غير الغائط والبول، فإن كان دم حيض، أو نفاس، أو منيًا، فإن هذا لا مدخل لاستعمال الأحجار فيه؛ لأن ذلك يوجب الطهارة الكبرى.
وإن كان دما غير الحيض والنفاس، أو قيحًا، أو صديدًا، فإن ذلك يوجب الاستنجاء؛ لأنه مائع نجس، فأوجب الاستنجاء كالغائط والبول. وهل يجزئ فيه الأحجار؟ فيه قولان.
وكذلك إذا خرج منه دودة أو حصاة لا رطوبة معها، وقلنا: يجب منها الاستنجاء، ففيه قولان:

(1/230)


أحدهما: يجزئ فيه الحجر؛ لأنه نجس خارج من السبيلين، فأشبه البول والغائط.
والثاني: لا يجزئ فيه الحجر؛ لأن الأحجار إنما أجزأت في الغائط والبول؛ لتكررهما ولخوف المشقة باعتياد الماء فيهما، وهذا لا يوجد في هذه الأشياء النادرة، فانحتم فيها الماء.
وبالله التوفيق

(1/231)