البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب ما يوجب الغسل] [مسألة: إيلاج الحشفة في الفرج]
والذي يوجب الغسل: إيلاج الحشفة في الفرج، وخروج المني، والحيض، والنفاس.
فأما إيلاج الحشفة في الفرج: فإنه يوجب الغسل، سواء أنزل أو لم ينزل، وهو قول كافة العلماء.
وقال سعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، ورافع بن خديج: (لا غسل عليه، ما لم ينزل) . وبه قال عروة، وداود. وقيل: إن أبيًا، وزيد بن أرقم رجعا عن ذلك.

(1/232)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والجنابة عند العرب: الجماع، وإن لم يكن معه إنزال) .
وروي عن عائشة: أنها قالت: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» ، فعلته أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاغتسلنا.

(1/233)


وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع، وألصق ختانه بختانها فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل» . وهذه نص.
قال الزهري: وشعبها الأربع: هي شعبتا رجليها، وشعبتا شفري فرجها.
وإلصاق الختان بالختان لا يوجب الغسل، وإنما عبر به عن إيلاج الحشفة؛ لأن (ختان المرأة) هو: أن يقطع منها جلدة فوق ثقبة البول في أعلى الفرج. و (مدخل الذكر) هو ثقبة في أسفل الفرج. فإذا غيب الحشفة فيه تحاذى (ختانه) ـ وهو: موضع القطع من ذكره المنحسر عن الحشفة ـ وختانها.
قال الشافعي: (والعرب تقول: التقى الفارسان: إذا تحاذيا، وإن لم يتضاما) .
فعبر عن الإيلاج بالتقائهما لتقاربهما.
وإن أولج بعض الحشفة لم يجب الغسل؛ لأن التقاء الختانين لا يحصل بذلك.
فإن كان مقطعوع الحشفة ففيه وجهان، حكاهما الشاشي:
أحدهما: لا يجب عليهما الغسل، إلا بتغييب ما بقي من الذكر؛ لأنه لم يبق حد يعتبر، فاعتبر الجميع.
والثاني: يجب عليهما الغسل، إذا غيب من الباقي قدر الحشفة.
فإن أولج ذكره في دبر امرأة، أو دبر رجل، أو دبر خنثى مشكل، وجب عليهما الغسل، لأنه أحد السبيلين، فوجب الغسل بتغييب الحشفة فيه كالفرج.

(1/234)


وإن أولج ذكره في دبر بهيمة أو فرجها، أو فرج امرأة ميتة أو في دبرها وجب عليه الغسل.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب) .
دليلنا: أنه يقع عليه اسم الفرج، فوجب الغسل بتغييب الحشفة فيه، كفرج المرأة الحية.
وهل يجب غسل المرأة الميتة بذلك؟ فيه وجهان.
وهل يجب الحد على المولج فيها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب؛ لأنه فرج محرم، فوجب بالإيلاج فيه الحد، كالمرأة الأجنبية الحية.
والثاني: لا يجب؛ لأنه فرج غير مقصود.
والثالث: إن كانت زوجته أو جاريته فلا حد عليه؛ للشبهة. وإن كانت أجنبية منه وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيه.

[فرع: الإيلاج في الخنثى]
] : وإن أولج رجل ذكره في فرج خنثى مشكل لم يجب عليهما الغسل ولا الوضوء؛ لجواز أن يكون الخنثى رجلا، وهذه خلقة زائدة فيه.
وإن أولج الخنثى ذكره في دبر رجل لم يجب الغسل على واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة، فلا يجب بإيلاجها الغسل.
قال القاضي: وأما الوضوء: فإنه يجب على الرجل بالإخراج لا بالإيلاج، ويجب الوضوء أيضًا على الخنثى؛ لأن الخنثى إن كان رجلا فقد وجب عليهما الغسل، وإن كان امرأة وجب عليهما الوضوء بالملامسة، فوجوب غسل أعضاء الوضوء متيقن.
وهل يجب الترتيب في الوضوء؟

(1/235)


قال القاضي أبو الفتوح: أما وضوء الرجل: فيجب فيه الترتيب بلا خلاف.
وأما الخنثى: فهل يجب عليه الترتيب في الوضوء؟ فيه وجهان.
والذي يقتضي المذهب: أن الوضوء إنما يجب عليهما بالإيلاج لا بالإخراج؛ لأن الخنثى إن كان رجلا وجب عليه الغسل بالإيلاج، وإن كان امرأة وجب عليهما الوضوء بالتقاء بشرة الذكر وبشرة الدبر.
ولا يجب الترتيب في وضوء الرجل؛ لأن له حالتين: حالة يجب عليه فيها الغسل دون الترتيب، وهو: إذا كان الخنثى رجلا. وحالة يجب عليه فيها الوضوء مرتبًا، وهو: إذا كان الخنثى امرأة، فأوجبنا المتيقن من ذلك، وهو: غسل أعضاء الطهارة، وأسقطنا المشكوك فيه، وهو: غسل ما زاد على أعضاء الطهارة، والترتيب في أعضاء الطهارة.
وإن أولج الخنثى ذكره في فرج امرأة أو دبرها لم يجب على واحد منهما الغسل؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه بضعة زائدة فيه.
وأما الوضوء: فلا يجب على الخنثى؛ لجواز أن يكون امرأة. ويجب على المرأة؛ لأن الخنثى إن كان رجلا وجب عليهما الغسل. وإن كان امرأة فهذا عضو زائد فيهما، فيجب على المرأة الوضوء بإخراج ذلك منها، كما لو أدخلت في

(1/236)


فرجها مسبارًا، وأخرجته. وهل يجب عليها الترتيب في الوضوء؟ يحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما القاضي أبو الفتوح في الأولى.
وإن أولج الخنثى ذكره في قبل خنثى مثله لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل؛ لجواز أن يكونا رجلين، والفرجان زائدان.
وإن أولج الخنثى ذكره في دبر خنثى مثله لم يجب على المولج غسل ولا وضوء؛ لجواز أن يكونا امرأتين.
قال القاضي: ويجب على المولج فيه الوضوء مرتبًا؛ لأن المولج إن كان رجلا فقد وجب عليهما الغسل. وإن كان امرأة صار ذلك خلقة زائدة فيه، فصار كما لو أدخل في دبره مسبارًا وأخرجه فيجب الوضوء بالإخراج لا بالإيلاج.
وإن كان هناك خنثيان، فأولج كل واحد منهما ذكره في فرج صاحبه لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل؛ لجواز أن يكونا رجلين، والفرجان عضوين زائدين، فلا يجب بإيلاجهما شيء.
وإن أولج كل واحد منهما ذكره في دبر صاحبه، قال القاضي: وجب على كل واحد منهما الوضوء مرتبًا؛ لأنهما إن كانا رجلين، أو أحدهما رجلا، وجب عليهما الغسل. وإن كانا امرأتين صار الذكران كالمسبارين، فيجب الوضوء بإخراجهما لا بإيلاجهما على المولج فيه، وكل واحد منهما مولج فيه، فوجب عليهما الوضوء؛ لأنه متيقن.
وإن أولج أحدهما ذكره في فرج صاحبه، وأولج الآخر ذكره في دبر الذي أولج فيه، فذكر القاضي أبو الفتوح: أنه لا يجب على واحد منهما غسل.
وأما الوضوء: فإنه يجب على المولج في دبره بالإخراج لا بالإيلاج، ولا يجب الوضوء على المولج في قبله.

(1/237)


والذي يقتضي المذهب: أنه يجب الوضوء أيضًا على المولج في قبله؛ لأنهما إن كانا رجلين، أو أحدهما رجلا وجب عليهما الغسل. وإن كانا امرأتين كان الذكران كالمسبارين يجب الوضوء بإخراجهما على المولج في دبره، وعلى المولج في قبله، فعلى أي تنزيل نزلتهما فلا بد من غسل أعضاء الوضوء، فوجب غسلهما.

[مسألة: وجوب الغسل من خروج المني]
] : وأما خروج المني: فإنه يوجب الغسل، سواء خرج بشهوة أو بغير شهوة.
وقال مالك، وأبو حنيفة وأحمد: (لا يوجب الغسل، إلا إذا خرج بدفق وشهوة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . ولم يفرق. ولأنه آدمي خرج المني من مخرجه المعتاد، فأوجب الغسل، كما لو خرج بدفق وشهوة.

[فرع: خروج المني من فرج المرأة]
] : وإن خرج المني من فرج المرأة وجب عليها الغسل.
وقال النخعي: لا يجب عليها.
دليلنا: ما روت أم سلمة، «أن أم سليم، قالت: يا رسول الله: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال: " نعم، إذا رأت الماء» .

(1/238)


قال أبو العباس بن القاص: وإن استدخلت المرأة المني، ثم خرج منها لم يجب عليها الغسل، وإنما يجب الوضوء عليها.

[فرع: خروج مني المشكل]
] : وإن خرج المني من قبلي الخنثى المشكل وجب عليه الغسل؛ لأنه قد خرج من الفرج الأصلي بيقين.
وإن خرج من أحدهما، فقد قال أبو علي السنجي: يجب عليه الغسل.
قال القاضي أبو الفتوح: وعندي أنها تكون على وجهين، كما لو خرج المني من دبره، وهذا ـ من قول القاضي ـ يدل على: أن المني إذا خرج من دبر الرجل أو المرأة هل يجب عليه الغسل منه؟ فيه وجهان.

[فرع: تكرار خروج المني]
] : إذا خرج من الإنسان المني فاغتسل، ثم خرج منه المني ثانيًا وجب عليه الغسل، سواء خرج قبل البول، أو بعده.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: (إن خرج قبل البول وجب عليه إعادة الغسل؛ لأنه بقية ماء خرج بدفق وشهوة. وإن خرج بعد البول لم يجب عليه؛ لأنه خرج بغير دفق وشهوة) .
وقال مالك، والزهري، والليث، وعطاء، وأحمد، وإسحاق: (لا غسل عليه، وإنما عليه الوضوء، سواء خرج قبل البول أو بعده) .

(1/239)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . ولم يفرق.
ولأنه مني آدمي خرج من محله، فأوجب الغسل، كما لو خرج ابتداءً.
وإن أحس الإنسان بانتقال المني منه، ولم يخرج فلا غسل عليه.
وقال أحمد: (يجب عليه الغسل) .
دليلنا: أن ما أوجب الطهارة، كان الاعتبار فيه بالظهور لا بالانتقال كالحدث.

[فرع: تيقن وجود المني]
] : وإن وجد المني على فخذه، أو في ثوب لا ينام فيه غيره، ولم يتيقن خروجه منه ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال صاحب " الفروع "، وأبو المحاسن: لا يجب عليه الغسل؛ لأنه لم يتيقن خروجه منه، فلم يجب عليه الغسل.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجب عليه الغسل؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سئل عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر الاحتلام؟ فقال: " يغتسل ". وسئل عن الرجل يرى أنه احتلم، ولم يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه» .

(1/240)


ولأن الظاهر: أنه خرج منه.
فعلى هذا: يجب عليه إعادة كل صلاة صلاها قبل الاغتسال بعد أقرب نومة نامها؛ لأنه اليقين. والمستحب: أن يعيد كل صلاة صلاها من الوقت الذي تيقن أنه لم يكن معه المني إلى أن رآه.
وإن احتلم، ولم يجد البلل، أو شك: هل خرج منه المني؟ لم يجب عليه الاغتسال؛ لما ذكرناه من الخبر.
وإن رأى المني على فراش، أو ثوب يبتذله هو، وغيره، لم يجب عليه الغسل؛ لجواز أن يكون من غيره، والمستحب له: أن يغتسل؛ لجواز أن يكون منه.
وإن تحقق أن المني خرج منه في النوم، ولم يعلم متى خرج منه وجب عليه أن يغتسل، ووجب عليه أن يعيد كل صلاة صلاها بعد أقرب نومة نامها. ويستحب له أن يعيد ما صلى من الوقت الذي تيقن أنه حدث بعده.
قال في " المذهب ": وإن تقدمت منه رؤيا فنسيها، ثم ذكرها عند وجود المني فعليه إعادة ما صلى بعد ذلك؛ لأن معه علامة ودليلا.
و (مني الرجل) : هو الأبيض الثخين الذي تشبه رائحته رائحة طلع النخل في حال رطوبته، وتشبه رائحته رائحة البيض في حال يبوسته، وقد يجهد الرجل نفسه في الجماع فيخرج منيه أحمر وقد تصيب الرجل علة فيخرج منيه أصفر رقيقًا.
وأما (مني المرأة) : فهو أصفر رقيق.

(1/241)


والمني: مشدد لا غير، قال الله تعالى {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] [القيامة: 37] .
وسمي المني منيًا؛ لأنه يمنى، أي: يراق، ولهذا سميت البلد: منى بهذا الاسم؛ لما يراق فيها من الدماء، يقال: منى الرجل وأمنى.

[فرع: لا غسل من المذي]
] : ولا يجب الغسل من المذي) ـ وهو: ماء أصفر رقيق، يخرج بأدنى شهوة من غير دفق، وهو مخفف، يقال: أمذى الرجل يمذي ـ ويجب منه الوضوء، وغسل الموضع الذي يصيبه لا غير.
وقال مالك: (يجب عليه غسل جميع الذكر) .
وقال أحمد ـ في إحدى الروايتين ـ: (يجب عليه غسل جميع الذكر، والأنثيين مع الوضوء؛ لما روي في بعض ألفاظ حديث علي: «يغسل ذكره وأنثييه» .
دليلنا: أنه قد روي في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ينضح الماء على فرجه ويتوضأ» .
ولأن هذا خارج لا يوجب غسل جميع البدن، فلا يوجب غسل ما لم يصبه من الذكر والأنثيين، كالبول.

[فرع: لا غسل من الودي]
] : ولا يجب الغسل من خروج الودي) ـ وهو: ماء كدر ثخين، يخرج عقيب البول ـ لأن الغسل إذا لم يجب لخروج المذي، وهو أقرب إلى صفة المني، فلأن لا يجب بخروج الودي ـ وهو أقرب إلى البول ـ أولى.
والودي بالتخفيف: هو ما يخرج بعد البول، وبالتشديد: صغار النخل.

(1/242)


فإن خرج منه شيء يشبه المذي، أو المني، أو الودي، ولم يتميز له ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب منه الوضوء لا غير؛ لأن غسل أعضاء الوضوء متيقن، فوجب. وما زاد على ذلك مشكوك فيه، فلم يجب.
والثاني: أنه مخير بين أن يجعل حكمه حكم المني، فيجب الغسل منه، ولا يجب غسل الثوب منه. وبين أن يجعل حكمه حكم المذي، فيجب منه الوضوء مرتبًا، ويجب غسل الثوب منه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
والثالث ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يجب عليه أن يجعل حكمه حكم المني وحكم المذي، فيجب عليه غسل جميع بدنه، ويجب عليه الترتيب في الوضوء، ويجب غسل الثوب؛ لأنه ليس لأحدهما مزية على الآخر، فوجب عليه أن يجمع بين حكميهما؛ ليسقط الفرض عنه بيقين.

[مسألة: الغسل من الحيض]
] : وأما الحيض: فإنه يوجب الغسل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] .
فموضع الدليل: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]ـ بالتشديد ـ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] .
والمراد به: الاغتسال.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» .

(1/243)


وهل وجب الغسل برؤية الدم، أو بانقطاعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه وجب بانقطاعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» . فأمر بالاغتسال عند الإدبار، فدل على: أنه وجب بذلك.
والثاني: أنه وجب برؤية الدم، لأن ما أوجب الطهارة، وجب بالخروج لا بالانقطاع، كخروج البول والمني. وأما الخبر: فإنما أمر بالغسل في الوقت الذي يصح فيه الغسل.
وإن خرج الدم من أحد قبلي الخنثى المشكل، أو منهما، لم يجب عليه الغسل، سواء استمر يومًا وليلة، أو لم يستمر؛ لأنه إن خرج الدم من فرج الرجال فهو دم خرج من غير محل الحيض. وإن خرج من فرج النساء أو منهما فيجوز أن يكون الخنثى رجلا، وهذا عضو زائد خرج منه الدم فلم يجب عليه الغسل، كما لو خرج الدم من جروح في بدنه.
وأما دم النفاس: فإنه يوجب الغسل؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الولد.
وهل يجب الغسل برؤيته أو بانقطاعه؟
يحتمل أن يكون على الوجهين في دم الحيض.
وإن ولدت المرأة ولدًا، ولم تر دمًا فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليها الغسل؛ لأن خروج المني منها يوجب الغسل، والولد من المني.
والثاني: لا يجب عليها الغسل؛ لأنه لا يقع عليه اسم المني.
فعلى هذا: يجب عليها الوضوء، كما لو خرج من فرجها قطنة أو مسبار.

(1/244)


[فرع: إيلاج الصغير]
] : وإن أولج صبي ذكره في فرج امرأة فلا أعرف فيه نصًا، والذي يقتضي المذهب: أنه يصير جنبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
و (الجنابة) ـ عند العرب ـ: الجماع، وهذا جماع؛ بدليل أنه يجب على المرأة المولج فيها الغسل؛ ولأنه حدث، فصح من الصبي، كخروج البول، ولكن لا يجب على الصبي الغسل إلا بعد البلوغ؛ لأنها عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي كالصلاة. فإن اغتسل في حال صغره، وهو مميز صح غسله، ولم يجب عليه إعادته بعد البلوغ، كما لو توضأ وهو مميز، ثم بلغ.

[مسألة: غسل الكافر للإسلام]
] : إذا أسلم الكافر، ولم يكن وجب عليه الغسل في حال كفره، فالمستحب له: أن يغتسل؛ لما «روي أنه أسلم قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسلا» . ولا يجب عليه الغسل.
وقال أحمد، وأبو ثور، وابن المنذر: (يجب عليه الغسل؛ لحديث قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال) .

(1/245)


دليلنا: أنه أسلم خلق كثير من الناس، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل، ولو أمرهم بذلك لنقل نقلا ظاهرًا.
وأما أمره لقيس وثمامة بن أثال: محمول على الاستحباب، ويحتمل: أنه علم أن عليهما غسلا من جنابة لم يغتسلا منه.
وإن كان قد وجب على الكافر غسل في حال كفره، ثم أسلم قبل أن يغتسل وجب عليه الغسل.
وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجب عليه. وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
وإن كان قد اغتسل في حال كفره فهل يجب عليه إعادته بعد الإسلام؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجب عليه الإعادة؛ لأن غسل الكافر غسل صحيح، بدليل: أن المسلم إذا تزوج ذمية، فاغتسلت من الحيض حل له وطؤها، فلولا أن غسلها صحيح لم يحل له وطؤها.
و [الثاني] : يجب عليه الإعادة، وهو المنصوص؛ لأن الغسل عبادة بدنية تفتقر إلى النية، فلم يصح من الكافر، كالصلاة والصوم؛ ولأن وضوء الكافر لا يصح، فكذلك غسله.
وأما غسل الذمية من الحيض: فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يصح في حق الآدمي، ولا يصح في حق الله تعالى، فيجب عليها إعادته بعد الإسلام؛ لأن غسلها يتعلق به حقان:
حق الآدمي لاستباحة الوطء، فصح منها؛ لأنه لا يفتقر إلى النية.
وحق الله تعالى، وذلك قربة يفتقر إلى النية، ولا تصح منها النية، فإذا أسلمت لزمها إعادته لحق الله تعالى، كما تقول فيمن وجبت عليه الزكاة فامتنع من بذلها، فإن الإمام يأخذها منه قهرًا، فإذا أخذها منه سقط بها حق الآدمي، ولا يجب عليه الدفع

(1/246)


إليهم ثانيًا، ولا يسقط بذلك حق الله تعالى، وهو القربة.
وقال ابن الصباغ: لا يجب على الذمية إعادة الغسل لحق الله تعالى؛ لأنه لا حق للآدمي في غسلها، وإنما حقه في الوطء، ومن شرط استباحة الوطء صحة الغسل لحق الله تعالى، فلو لم يصح غسلها في حق الله تعالى لما استباح وطأها، ولأنه لو كان للآدمي حق في غسلها لسقط عنها بترك الزوج له، وإنما صح غسلها في حال كفرها لموضع الحاجة إليه، كما أن من شرط دفع الزكاة النية، وإذا امتنع من عليه الزكاة أخذها منه الإمام قهرًا من غير نية لموضع الحاجة.
قال الشافعي: (وينبغي أن يقال: إن الذمية إذا اغتسلت، ولم تنو أنه للحيض لم يستبح الزوج وطأها، كالذمي إذا وجبت عليه الكفارة في الظاهر، فأعتق من غير نية لم يجزئه. وإن نوى العتق عن الظهار أجزأه عنه، واستباح وطء المظاهر منها) .

[مسألة: فيما يحرم بالجنابة]
] : ولا يجوز للجنب: أن يصلي، ولا أن يطوف بالبيت، ولا يمس المصحف، ولا يحمله؛ لأنه إذا لم يجز ذلك للمحدث فالجنب بذلك أولى.
ولا يجوز له: أن يقرأ شيئًا من القرآن.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يقرأ صدر الآية، ولا يقرأ إتمامها، ولا يكون المقصود من ذلك القراءة، وإنما هو بمنزلة التسبيح والذكر) .
وقال مالك: (يقرأ الجنب الآية والآيتين، على سبيل التعوذ) .
وقال داود: (يقرأ الجنب ما شاء من القرآن) .
وحكي عن ابن عباس: (أنه كان يقرأ ورده وهو جنب) .
وقال ابن المسيب لابن عباس: أيقرأ الجنب القرآن؟

(1/247)


فقال: (نعم، أليس هو في صدره) .
وقال الأوزاعي: (لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب والنزول، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] [الزخرف: 13] ، وكقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] الآية [المؤمنون: 29] .
دليلنا: ما «روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت: يا رسول الله، إنك تأكل وتشرب، وأنت جنب؟! فقال: " أنا آكل وأشرب وأنام وأنا جنب، ولا أقرأ وأنا جنب» .
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحجزه عن قراءة القرآن شيء، ليس الجنابة» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقرأ الجنب، ولا الحائض شيئًا من القرآن» .

(1/248)


وروى ابن عباس قال: (كان عبد الله بن رواحة نائمًا مع امرأته في الفراش، فقام إلى جارية له في جانب البيت فأتاها، فانتبهت امرأته، فطلبته فلم تجده، فقامت تطلبه، فوجدته مع الجارية، فرجعت وأخذت الشفرة، فتلقاها فقال: ما هذه الشفرة؟! فقالت له: لو وجدتك في الموضع الذي رأيتك لوجأتك بها بين كتفيك، فقال: وأين كنت؟! فقالت: مع الجارية. فقال: ما كنت معها، أليس قد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجنب عن القراءة؟ فقالت: اقرأ، فأنشدها:
أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من النجم طالع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو المشهور. وذكر بعضهم: أنه أنشدها:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
فقالت زوجته: صدق الله وكذب بصري. ثم غدا عبد الله بن رواحة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فضحك حتى بدت نواجذه. فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك) .

(1/249)


وإن لم يجد الجنب ماء ولا ترابًا فإنه يصلى على حسب حاله، ويقرأ ما لا بدَّ له منه من القرآن؛ لموضع الحاجة والضرورة.

[فرع: ما يكره في الحمَّام]
] : ولا تكره قراءة القرآن في الحمَّام، وبه قال محمَّد.
وقال أبو حنيفة: (تكره) .
دليلنا: أنه موضعٌ نظيفٌ ' فلم تكره فيه قراءة القرآن، كغير الحمَّام.
وإن نجس فوه ولسانه بدم أو غيره كره له قراءة القرآن، وهل يحرم؟ فيه وجهان، حكاهما أبو المحاسن من أصحابنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يكره) .
دليلنا: أن فيه استهانة بالقرآن، فأشبه القراءة على الخلاء، وعلى الجنابة.

[فرع: اللبث في المسجد]
] : ولا يجوز للجنب اللبث في المسجد، ويجوز له العبور فيه. وبه قال ابن عباسٍ، وابن مسعودٍ.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز له اللبث فيه، ولا العبور، إلا أن يحتلم في المسجد فيعبر فيه ليخرج) .
وقال الثوري: يتيمَّم، ثمَّ يخرج منه.
وقال أحمد، وإسحاق: (إذا توضأ الجنب جاز له اللبث في المسجد) .

(1/250)


وقال المزني، وداود: (يجوز له اللبث فيه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وأراد به: موضع الصلاة ـ فعبّر بـ (الصَّلاةِ) عن موضعها، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] [الحج: 40] . والصلوات: لا تهدّم، وإنما أراد به: مواضع الصلوات، وهي المساجد ـ لأن العبور لا يمكن في الصلاة، فثبت أنه أراد موضعها.
وقال جابٌر: (كان أحدنا يمرُّ في المسجد، وهو جنبٌ مجتازًا) . ولا يفعلون ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بإذنه.
والدليل ـ على من جوز اللبث ـ: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أحل المسجد لجنب، ولا لحائض» .

[فرع: النوم مع الجنابة]
] : ويجوز للجنب: أن ينام قبل أن يغتسل؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنَّها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وهو جنبٌ لا يمس ماء» .
والمستحبُّ له: أن يتوضَّأ، ثمَّ ينام؛ لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيرقد أحدنا وهو جنبٌ؟ فقال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» .

(1/251)


قال أبو عليّ الطبريُّ: وكذلك يستحبُّ له: أن يتوضأ إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو يطأ ثانيًا؛ لأن هذه الأسباب في معنى النوم. ولا يستحب ذلك للحائض؛ لأن حدثها لا يتخفَّف بالوضوء، بخلاف الجنب.
ولا يكره للجنب: أن يصافح غيره؛ لما روي «عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وهو جنبٌ، قال: (فانخنست) ـ يعنى: تنحَّيت ـ فاغتسلت ثم جئت، فقال: " أين كنت "؟ قلت: كنت نجسًا، فقال: " إن المسلم لا ينجس» .
وبالله التوفيق

(1/252)