البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب التيمُّم]
الأصل في جواز التيمّم: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] .
[المائدة: 6]
والتيمّم في اللغة: هو القصد، تقول العرب: تيممت فلانًا، أي: قصدته. قال امرؤ القيس:
فلما رأت أنّ الشّريعة همها ... وأنّ البياض من فرائضها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
وكذلك التيمّم في الشرع، هو القصد إلى الصعيد.
وقد اختلف في قدر الممسوح، وعدد المسح:
فذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: أنّ التيمّم هو مسح الوجه واليدين إلى المرفقين، بضربتين أو أكثر. وروي ذلك عن ابن عمر، وجابر وإحدى الروايتين

(1/264)


عن عليّ، وهو قول الشعبي، والحسن، ومالكٍ، والثوري، وأبي حنيفة.
وذهب الزهري إلى: أنه يمسح وجهه بضربةٍ، ويمسح يديه بضربةٍ إلى المنكبين.
وقال ابن المسيب، وابن سيرين: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للكفين، وضربة للذراعين.
وقال عطاءٌ، ومكحولٌ، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن جريرٍ: (ضربةٌ واحدةٌ للوجه، واليدين إلى الكفين) وهو اختيار ابن المنذر.
وروي عن علي: أنه قال: (ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين إلى الكفّين) .

(1/265)


وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وليس بصحيح؛ وإنما قال في القديم: (والتيمّم: أن تضرب ضربة فتمسح بها وجهك، ثمّ تضرب أخرى فتمسح بها يديك إلى المرفقين، وقد روي فيه شيء لم يثبت، ولم ثبت لم أعده) . فخرجوا ذلك قولاً، وليس بشيء.
ودليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمّم فمسح وجهه وذراعيه» . وروى ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» . ولأنه بدل يؤتى به في محلّ

(1/266)


مبدله، فكان حده فيهما واحدًا، كالوجه.
إذا ثبت هذا: فيجوز التيمّم عن الحدث الأصغر، وهو: حدث الغائط، والبول، والريح، ولمس النساء، ومسّ الفرج. وعن الحدث الأكبر وهو: الجنابة، والحيض، والنّفاس. وبه قال علي، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري. وروي عن عمر، وابن مسعود: أنهما قالا: (لا يجوز للجنب أن يتيمّم) . وبه قال النخعي. وقيل: إنهما رجعا عن ذلك.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
قال زيد بن أسلم: وترتيبها: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]ـ يعني: من النوم ـ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى آخر الكلام، ثمّ بيّن حكم الجنب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] يعني: فاغتسلوا، ثمّ بيّن حكم

(1/267)


المحدث والجنب معًا، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، فاشتملت الآية عليهما) .
«وروى عمّارٌ قال: أجنبت فتمعّكت بالتراب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما كان يكفيك هكذا": (وضرب بيديه على الأرض، ومسح بها وجهه وكفيه» .
«وروى عمران بن الحصين قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انفتل من الصلاة رأى رجلا لم يصل.. فقال له: " لم لم تصل؟ "فقال: كنت جنبا، ولم أجد الماء، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصعيد يكفيك» .
«وروى أبو ذرّ قال: اجتويت المدينة ـ يعني: كرهت المقام فيها ـ فأمر لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذود وبغنم، وقال لي: "ابد ابد" يعني: اخرج إلى البادية ـ فخرجت بأهلي إلى الربذة، فكنت أعدم الماء الخمسة الأيام والستة وأنا جنب، فأصلي بغير طهور، ثم قدمت المدينة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أبو ذر؟ " قلت: نعم، هلكت يا رسول الله، قال: "وما أهلكك؟ "، فقصصت عليه القصّة،

(1/268)


وقلت: إني كنت أصلي بغير طهورٍ، فأمر لي بماء، فاستترت براحلته واغتسلت، ثمّ أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أبا ذرّ، الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» .
فإن وجد الجنب الماء بعد التيمّم.. لزمه استعمال الماء، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لا يلزمه استعمال الماء؛ بل له أن يصلي بتيمّمه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» .
ولا يصح التيمّم عن إزالة النجاسة.
وقال أحمد: (يصح) .
دليلنا: أن التيمّم مسح الوجه واليدين، وقد تكون النجاسة في غير الوجه واليدين، فكيف يؤمر بمسح الوجه واليدين عن نجاسة في غيرهما؟! كما لا يجوز أن يغسل وجهه ويديه لنجاسة في غيرهما، ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وذلك لا يزول بالتيمّم.

[مسألة: فيما يتيمّم به]
] : ولا يجوز التيمّم إلا بالتراب الذي له غبارٌ يعلق في العضو، وبه قال أحمد، وداود.
وقال أبو حنيفة: (يجوز التيمّم بالتراب، وبكل ما كان من جنس الأرض، كالكحل، والنّورة، والزرنيخ، والجصّ) . والغبار عنده ليس بشرط، بل لو ضرب يده على صخرة ملساء، أو حائطٍ أملس.. أجزأه. وأما الشجر والذهب، والفضة

(1/269)


والحديد، والرصاص..فلا يجوز التيمّم به.
وقال مالكٌ: (يجوز التيمّم بالأرض، وبما كان متصلاً بالأرض، كالأشجار) ويجوز التيمّم عنده بالملح.
وقال الثوري، والأوزاعي: (يجوز التيمّم بالأرض، وبكل ما كان عليها، سواءٌ كان متصلاً بها، أو غير متَّصلٍ) . وهذا أعمُّ المذاهب.
دليلنا: ما روى حذيفة بن اليمان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فضلنا على النّاس بثلاث خصال: جعلت الأرض لنا مسجدًا، وترابها لنا طهورًا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» . فخصَّ ترابها بجواز التيمّم، فدلّ على: أنه لا يجوز بغيره؛ ولأنه طهارةٌ عن حدثٍ فاختصّت بجنسٍ طاهرٍ، كالوضوء، وفيه احترازٌ من الاستنجاء والدّباغ.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يجوز التيمّم بالتراب من كلّ أرضٍ: سبخها، ومدرها، وبطحائها) .
فأما (السّبخ) : فهي الأرض المالحة.
وحكي عن بعضهم: أنه قال: لا يصح التيمّم به. وهذا ليس بصحيح؛ لـ: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتيمّم بتراب المدينة» ، وهي أرضٌ مالحةٌ.
وأما (المدر) : فهو التراب الذي أصابه الماء، فاستحجر وخفّ، فإذا سحق.. صار ترابًا.
وأمّا (البطحاء) : ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه القضّ من الأرض.

(1/270)


والثاني: أنه التراب المستحجر.
وهل يجوز التيمّم بالطين الأرمنيّ، والتراب المأكول؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه يجوز التيمّم؛ لأنه ترابٌ.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه مأكولٌ.

[فرع: التيمّم بالرمل]
قال في " الأمّ " [1/43] : (ولا يجوز التيمّم بالكثيب الغليظ) ، وقال في " الإملاء ": (يجوز التيمم بالتراب، والرّمل) . وقال في القديم: (يجوز التيمّم بالرّمل) .
واختلف أصحابنا في التيمّم بالرمل: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على الحالين:
والذي قاله في " الأم " في الكثيب الغليظ، أراد به: الرّمل الذي لا يخالطه التراب.
والذي قاله في " الإملاء " والقديم أراد به: الرّمل الذي يخالطه التراب.
وقال ابن القاصّ: بل في الرّمل قولان:
أحدهما: يجوز التيمّم به؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنا نكون بأرض الرّمل، وتصيبنا الجنابة، والحيض، والنفاس، ولا نجد الماء أربعة

(1/271)


أشهر، أو خمسة أشهر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالأرض» .
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، فأشبه الحجارة المدقوقة، وأما حديث أبي هريرة: فمحمول على رمل يخالطه تراب؛ لأن العرب لا تغرب إلا إلى أرض بها نبات، والرّمل لا ينبت إذا كان لا تراب فيه.
وإن أحرق الطين وتيمّم بمدقوقه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه يقع عليه اسم التراب.
والثاني: لا يصح، كما لا يصح بالخزف المدقوق.

[فرع: التيمّم بالطين والتراب النجس]
] : قال في " الأم " [1/43] : (ولو لطخ على وجهه الطين.. لم يجزه) ؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، ولما روى عكرمة: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عن رجل في طين، لا يستطيع أن يخرج منه؟ فقال: (يأخذ من الطين، فيطلي به بعض جسده، فإذا جفّ.. تيمّم به) . ولا يعرف له مخالف. فإن خاف فوت الوقت قبل أن يجفّ.. كان بمنزلة من لم يجد ماءً ولا ترابًا، ويأتي حكمه.
ولا يجوز التيمّم بتراب نجس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
و (الطيب) : يقع على ما تستطيبه النفس؛ كقولهم: هذا طعام طيب.
ويقع على الحلال، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] [المؤمنون: 51] يعني: الحلال. ويقع على الطاهر.

(1/272)


ولا يجوز أن يكون المراد بالآية ها هنا: ما تستطيبه النفس، ولا الحلال؛ لأن التراب لا يوصف بذلك، فثبت أنه أراد به الطاهر. ولأنه طهارةٌ، فلا تصح بنجس، كالوضوء.
ولا فرق بين أن يكون التراب الذي خالطته النجاسة قليلاً أو كثيرًا، بخلاف الماء؛ لأن للماء قوة تدفع النجاسة عن نفسه.
وإن خالط التراب ذريرةٌ أو نورةٌ أو دقيقٌ، فإن استهلك التراب في هذه الأشياء، وغلبت عليه.. لم يجز التيمّم به بلا خلاف على المذهب. وإن استهلكت هذه الأشياء في التراب، وغلب عليها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز التيمّم به، كما تجوز الطهارة بالماء الذي خالطه مائعٌ واستهلك المائع فيه.
والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأن المخالط للتراب يمنع من وصول التراب إلى العضو، والمخالط للماء لا يمنع من وصول الماء إلى العضو؛ لأن الماء يجري بطبعه.

[فرع: تيمّم الجماعة في مكان وصورٌ أخرى]
] : ويجوز أن يتيمّم الجماعة من موضعٍ واحد، كما يجوز أن يتوضأ الجماعة من ماء في إناءٍ واحدٍ.
وإن ضرب يديه على بدنه، أو ثيابه، أو آذانه، أو رأسه، أو ظهره، فعلق بهما غبارٌ، فتيمّم به.. صحّ.
وقال أبو يوسف: لا يصحّ.
دليلنا: أنه يقع عليه اسم التراب، وهو طاهرٌ غير مستعمل، فصحٌ تيمّمه به، كما لو أخذه من الأرض.

(1/273)


وإن تيمّم، فبقي على أعضاء التيمّم غبارٌ من التيمّم، فتيمّم هو به، أو غيره.. لم يصح تيمّمه؛ لأنه مستعمل في التيمّم، فلم يصح التيمّم به، كما لو أخذ الماء من وجهه أو يديه، ومسح به رأسه.
ولو علق على وجهه ترابٌ من غير التيمّم، فمسح به وجهه من غير أن ينقله عنه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : لم يصح تيمّمه.
وإن أخذه من وجهه، ثمّ أعاده إليه.. فهل يصح تيمّمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو مسحه عليه من غير أن ينقله.
والثاني: أنه يصح، كما لو وقع على غير الوجه، فنقله منه إلى وجهه.
وإذا قلنا بالأول، وعلق على يديه ترابٌ من غير التيمّم، فأخذه ومسح به وجهه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه نقله من موضع الفرض، فهو كما لو نقل منه ما بقي عليه من التيمّم.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه غبار ترابٍ طاهرٍ غير مستعملٍ، فهو كما لو أخذه من بطنه أو ظهره.
وإن تيمّم بما يتناثر من أعضاء المتيمّم من الغبار من التيمّم، أو تيمّم به غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن المستعمل من التراب ما بقي على أعضاء التيمّم، دون ما تناثر.
والثاني: لا يصح، كما لا يصح الوضوء بما تساقط من الماء عن أعضاء الطهارة؛ ولأنه لو مسح يديه بالضربة التي مسح بها وجهه..لم يصح وإن كان قد بقي فيهما غبارٌ، فلأن لا يصح فيما تناثر من الوجه أولى.

(1/274)


[مسألة: هل يرفع التيمّم الحدث]
؟] : التيمّم لا يرفع الحدث.
وقال داود وشيعته، وبعض أصحاب مالك: (التيمّم يرفع الحدث) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأنها طهارةٌ عن حدث تستباح بها الصلاة، فوجب أن يرفع الحدث، كالطهارة بالماء.
ودليلنا: ما «روى عمرو بن العاص قال: (كنت في غزوة ذات السّلاسل، فأجنبت في ليلةٍ باردةٍ، فأشفقت على نفسي، إن اغتسلت بالماء.. هلكت، فتيمّمت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا عمرو: صلّيت بأصحابك وأنت جنبٌ؟ " فقلت: سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئًا» .
ففي هذا الخبر فوائد.
منها: أنّ التيمّم يجوز لخوف التّلف من البرد.
ومنها: أنّ الجنب يجوز له التيمّم.
ومنها: أنّ الجنب إذا صلى بالتيمّم في السفر.. لا إعادة عليه.

(1/275)


ومنها: أنّ من تيمّم لأجل البرد في السفر.. لا إعادة عليه.
ومنها: أنّ التيمّم لا يرفع الحدث؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جنبًا مع علمه أنه قد تيمّم.
ومنها: أنه يجوز للمتيمّم أن يؤم المتوضئين؛ لأن أصحابه كانوا متوضئين.
ومنها: أنّ هذا المتلو كلام الله؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول، ولم يسمع إلا المتلوّ.
ومنها: أنّ الجنب إذا تيمّم.. يجوز له أن يقرأ في غير الصلاة؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن الدليل على أن التيمّم لا يرفع الحدث: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذرّ: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، وإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . فلو ارتفع حدثه..لم يجب عليه استعمال الماء.

[مسألة: نية التيمّم]
] : ولا يصح التيمّم إلا بالنية.
وقال الأوزاعي، والحسن بن صالح: (يصح من غير نية) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والتيمّم في اللغة: القصد. والنية: هي القصد أيضًا.
إذا ثبت هذا: فإن نوى بتيمّمه: رفع الحدث، وقلنا: إن التيمّم لا يرفع الحدث.. ففيه وجهان:

(1/276)


أحدهما: ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، فقد نوى ما لا يفيده.
والثاني ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه يصح؛ لأنه يتضمن استباحة الصلاة.
وإن نوى بتيمّمه استباحة الصلاة المفروضة، أو نوت الحائض إذا انقطع دمها: استباحة الوطء.. صح التيمّم؛ لأن التيمّم يراد لذلك.
وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاةٍ نافلة.. صح تيمّمه على المذهب؛ لأن كلّ طهارة صحت بنية استباحة الفرض.. صحت بنية استباحة النفل، كالطهارة بالماء.
وحكى الطبري: أن ابن القاص قال: لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم طهارة ضرورة، ولا ضرورة به إلى النفل.
فإذا قلنا بالأول، ونوى بتيمّمه استباحة الصلاة، ولم ينو الفريضة، أو نوى صلاة نفلٍ..استباح به النّفل. وهل يستبيح بذلك التيمّم صلاة الفرض؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال عامة أصحابنا: لا يستبيح به الفريضة قولاً واحدًا.
و [الثاني] : قال
المسعودي [في " الإبانة " ق\15] ، وأبو حاتم القزويني: هي على قولين:
أحدهما: يستبيح به الفرض، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن كل طهارة استباح بها النّفل.. استباح بها الفرض، كالطهارة بالماء.
والثاني: لا يستبيح به الفرض، وبه قال مالك؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، وإن استباح به الصلاة.. فلم يستبح به ما لم ينوه، بخلاف الطهارة بالماء.
فإذا قلنا بهذا: أنه لا يصح تيمّمه للفرض حتى ينويه.. فهل يفتقر إلى تعيين الفريضة بنية التيمّم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك، لأن كل موضع افتقر إلى نية الفرض.. افتقر إلى تعيين الفرض، كالإحرام في الصلاة، ونّية الصّوم.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو ظاهر النّصّ؛ لأن الشافعي قال: (وينوي

(1/277)


بتيممه الفريضة) . وأطلق، ولم يشترط التعيين. وقال في " البويطي ": (فلو تيمّم ونوى المكتوبتين.. لم تجزه إلا لصلاةٍ واحدةٍ) . ولو كان التعيين شرطًا.. لم تجزئه لواحدةٍ منهما، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة لا يحتاج إلى تعيينها، فلم يفتقر إلى تعيين المستباح.
وإذا نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ ونافلةٍ.. جاز له أن يصلي به الفريضة التي نواها، ويصلي به ما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها، في وقتها وفي غير وقتها؛ لأنه قد نوى استباحة النّفل بتيمّمه، والنفل لا ينحصر.
وإن نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ، ولم ينو النفل..فهل يستبيح به النفل؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\15] : فيه قولان.
وقال البغداديون من أصحابنا: يستبيح به النفل قولاً واحدًا؛ لأن الفرض أعلى من النفل، فإذا استباح الفرض بتيمّمه.. استباح به النفل.
فعلى هذا: له أن يصلي به النفل بعد الفريضة، ما دام وقتها فيها باقيًا على سبيل التبع لها. وإن خرج وقت الفريضة..فهل له أن يصلي النّفل بذلك التيمّم؟
فيه وجهان؛ حكاهما المحاملي:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن النافلة من أتباع الفريضة، فلم تصح له النافلة بذلك التيمّم بعد ذهاب وقت المتبوع.
والثاني: يجوز؛ لأنها طهارة استباح بها النفل في وقت الفريضة، فاستباح بها النفل بعد خروج وقت الفرض، كالوضوء.
وهل له أن يتنفل بذلك التيمّم قبل صلاة الفريضة؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة.. جاز له قبلها، كالوضوء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه إنما استباح النافلة بهذا التيمّم تبعًا للفرض، فلا يجوز أن يتقدم التابع على المتبوع.

(1/278)


[فرع: ما يفعل بنّية النفل]
] : وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاة النفل.. جاز له أن يصلي به على الجنازة إذا لم تتعيّن عليه؛ لأنها كالنافلة. ويستبيح به مسّ المصحف وحمله.
وإن كان جنبًا، أو حائضًا، ونوى التيمّم للنافلة.. استباح به قراءة القرآن، واللبث في المسجد، والوطء؛ لأن النافلة أكد من هذه الأشياء، لأن الطهارة شرط فيها بالإجماع، والطهارة مختلف فيها لهذه الأشياء، فإذا استباح النافلة.. استباح ما دونها.
وإن نوى بتيمّمه استباحة هذه الأشياء.. فهل له أن يصلي به النفل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يستبيح به النفل؛ لأن هذه الأشياء نوافل، فاستباح صلاة النفل بالتيمّم لهذه الأشياء.
والثاني: لا يستبيح به صلاة النفل؛ لأنها آكد في باب الطهارة، على ما تقدم.

[مسألة: كمال كيفية التيمم]
وإذا أراد التيمّم.. فإنه يسمي الله تعالى، كما قلنا في الوضوء، وينوي على ما مضى، ثمّ يتيمّم.
والكلام فيه في فصلين: في الاستحباب، وفي المجزئ منه.
فأما الاستحباب: فإن المزني روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " (1/28) قال: (يضرب على التراب ضربةً، ويفرق بين أصابعه) . وقال في موضعٍ آخر: (يضع يديه على التراب) .
قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما أراد بقوله (يضع يديه) : إذا كان التراب ناعمًا دقيقًا؛ لأنه يعلق غباره من غير ضربٍ.

(1/279)


وأما إذا كان التراب غير ناعمٍ.. فإنه يضرب ويفرق بين أصابعه؛ لأنه لا يعلق الغبار بكفيه إلا بالضرب.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : لا يفرق بين أصابعه في الضربة الأولى؛ لئلا يحصل التراب بين أصابعه في الأولى، فيكون ماسحًا لجزء من يديه قبل وجهه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن حصل على كفّيه تراب كثير.. نفخ التراب؛ ليخففه من على يديه، ويبقي عليهما أثره) ؛ لما «روى أسلع، قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا جنب، فنزلت آية التيمّم، فقال: "يكفيك هكذا": (فضرب بكفيه الأرض، ثمّ نفضهما، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ أمرهما على اللحية، ثمّ أعادهما إلى الأرض، فمسح بهما الأرض، ثمّ دلك إحداهما بالأخرى، ثمّ مسح ذراعيه: ظاهرهما وباطنهما» .
وإنما نفضهما؛ لأنه علق بهما غبار أكثر مما يحتاج إليه فخففهما، ثمّ يمسح بيديه على وجهه الذي وصفناه في الوضوء، ويمرهما، على ظاهر شعر الوجه.
وهل يجب عليه إيصال التراب إلى باطن الشعر في الوجه الذي يجب إيصال الماء إليه في الوضوء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ذلك، كما قلنا في الوضوء.
والثاني: لا يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف التيمّم، ومسح وجهه بضربة، وبذلك لا يصل التراب إلى باطن شعر الشارب، والعذار، والعنفقة وإن كان خفيفا. ويخالف الوضوء؛ لأنه لا مشقة عليه في إيصال الماء إلى باطن هذه الشعور، فوجب، وعليه مشقة في إيصال التراب إلى باطنها، فلم يجب.

(1/280)


ثم يضرب ضربة ثانية، ويفرق بين أصابعه. وإن كان عليه خاتم.. نزعه قبل الضربة الثانية؛ لئلا يمنع من وصول التراب إلى ما تحتها، فإذا فعل ذلك.. فقد سقط الفرض عن الراحتين، وعما بين الأصابع بما وصل إليها من التراب.
فإن قيل: إذا سقط الفرض به.. فقد صار مستعملا، فكيف يجوز مسح الذراعين به، وعندكم: لا يجوز نقل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى؟
فالجواب: أنه لو انفصل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى، لكان في صحة ذلك وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنهما كالعضو الواحد، ولهذا يجوز البداية بما شاء منهما.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، كما لو انفصل الماء من وجهه إلى يديه.
فعلى هذا: الفرق بين الماء والتراب: أن الماء ينفصل من إحدى اليدين إلى الأخرى، والتراب لا ينفصل من إحداهما إلى الأخرى، ولأن هاهنا به حاجة إلى ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ييمم ذراعا من يد بكفها، بل لا بد من كف أخرى، فصار ذلك بمنزلة نقل الماء في العضو الواحد من بعضه إلى بعض.
وأما مسح إحدى اليدين بالأخرى.. فذكر المزني [في " المختصر " 1/28-29] فيها ترتيبا، فقال: يضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعهما، ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن كف الذراع، ثم يقبل بها إلى كوعه فيمرها على ظهر إبهامه، ويكون باطن كفه اليمنى لم يمسها شيء من يده، فيمسح بها اليسرى كما وصفت في اليمنى، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وخلل بين أصابعهما.

(1/281)


وإنما قال: يضع [ذراعه اليمنى في بطن] كفه اليسرى؛ لأنها هي الماسحة، فاستحب له أن يضع الماسح على الممسوح.
وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/42] ترتيبا آخر، فقال: (يضع ذراعه اليمنى في باطن كفه اليسرى على ظاهر أصابعه اليمنى، ويضم إبهامه إلى أصابعه، ثم يمر بطن يده، فإذا بلغ الكوع أدار إبهامه على ذراعه، وقبض بإبهامه وأصابعه على باطن ذراعه، ثم يمر ذلك إلى المرفق، فإن بقي شيء من ذراعه لم يمر التراب عليه.. أدار يده عليه حتى يصل التراب إلى جميعه) .
قال أصحابنا: وما ذكره المزني أحسن.
و (الكوع) : هو العظم الناتئ الذي في معصم اليد تحت الإبهام.
و (الكرسوع) : هو العظم المقابل له تحت الخنصر.
قال الجويني: ويستحب أن لا يفصل يديه، بل تكونان متصلتين حين يمسحهما إلى أن يفرغ. والأصل في ذلك: ما ذكرناه من حديث الأسلع.
وأما المجزئ من ذلك: فأن ينوي، ويوصل التراب إلى وجهه ويديه إلى المرفقين بضربتين أو أكثر - وسواء أوصل ذلك بيديه أو بخشبة أو بغير ذلك ـ وتقديم الوجه على اليدين. وما زاد على ذلك سنة.

[مسألة: فيمن ييممه آخر]
وإن أمر غيره فيممه، ونوى هو.. فالمنصوص: (أنه يجزئه، كما يجزئه في الوضوء) .
وقال ابن القاص: لا يجزئه، قلته: تخريجا.
هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

(1/282)


وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : إذا يممه غيره، فإن كان لعجز.. صح، وإن كان لغير عجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان.

[فرع: الوقوف في مهب الريح]
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/42] : (وإن سفت الريح عليه ترابا ناعما، فأمر يده على وجهه.. لم يجزئه؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، ولو أخذ ما على رأسه لوجهه، فأمره عليه..أجزأه) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال القاضي أبو حامد: هذا إذا لم يعمد الريح وينو التيمّم، فأما إذا عمد الريح، ونوى التيمم..أجزأه، كما يجزئ في الوضوء إذا جلس تحت ميزاب ماء، فنوى الوضوء، وجرى الماء على أعضاء الطهارة.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب أن يحمل هذا على: أنه لم يتيقن وصول التراب إلى جميع أعضاء التيمم، فأما إذا تيقن ذلك.. أجزأه، ولم يحتج إلى إمرار اليد.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأن الشافعي لم يفصل.
قال ابن الصباغ: ولأنه يتعذر وصول التراب إلى الوجه من غير مسح، ولأن الله تعالى أمر بالمسح، وهذا لم يمسح، ولا يدخل عليه: إذا غسل رأسه مكان المسح.. فإنه يجزئه وإن لم يمر يده عليه لقيام الدليل على ذلك؛ لأنه إذا أجزأه ذلك عن

(1/283)


الجنابة.. فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى، بخلاف التيمم.
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\35] : وإن أدنى وجهه من الأرض، أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز.. صح. وإن كان لا لعجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان.

[فرع: استيعاب المسح لأعضاء التيمم]
إذا بقي لمعة من الوجه لم يمر عليها التراب..لم يجزئه.
وحكى الحسن بن زياد الوضاحي عن أبي حنيفة: (أنه إذا مسح أكثر وجهه..أجزأه) .
دليلنا: أن أكثر العضو لا يقوم مقام جميعه في الوضوء في الماء القليل، فكذلك في التيمم.
فعلى هذا: إن كان قد مسح يديه..لم يجزئه مسحهما، فيعيد اللمعة وحدها، ثم اليدين إن لم يتطاول الفصل. وإن تطاول الفصل.. فهل الفصل يبطل ما مسحه من وجهه؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في الوضوء.

[مسألة: للمسافر والراعي أن يتيمما]
قال في " الأم " [1/39] : (وللمسافر الذي لا ماء معه، وللمعزب في إبله أن يجامع أهله، وإن لم يكن معه ماء) . وروي ذلك عن ابن عباس.

(1/284)


وروي عن علي، وابن عمر، وابن مسعود: أنهم قالوا: (ليس له أن يصيب أهله) .
وقال مالك: (أحب أن لا يصيب أهله إلا ومعه الماء) .
وقال الزهري: المسافر لا يصيب أهله، والمعزب يصيب أهله.
دليلنا: أنا قد دللنا على: أنه يجوز للجنب التيمم، فلم يمنع من أهله، كما لو وجد الماء.
قال الشافعي: (ويجزئه التيمم إذا غسل ما أصاب ذكره، وغسلت المرأة ما أصاب فرجها) . وهذا نص الشافعي [في " الأم " 1/39] : على أن رطوبة فرج المرأة نجسة.
ومن أصحابنا من قال: إنها طاهرة، ويأتي ذكر ذلك.

[فرع: تيمم عن حدث فبان جنبا]
فإن تيمم للفريضة، معتقدا: أنه محدث، ثم ذكر: أنه كان جنبا.. أجزأه.
وقال مالك وأحمد: (لا يجزئه) .
دليلنا: أنه لو ذكر الجنابة.. لم يكن عليه أكثر مما فعل، وهو: نية استباحة

(1/285)


الصلاة، فأجزأه، كما لو اغتسلت المرأة عن الحيض، ثم بان: أنها كانت جنبا، أو توضأ عن حدث البول، فبان: أنه كان ريحا.

[فرع: التيمم في السفر والحضر]
يجوز التيمم في السفر الطويل، بلا خلاف على المذهب.
وأما في الحضر والسفر القصير: فأكثر أصحابنا قالوا: يجوز قولا واحدا.
وحكى ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: أن فيه قولين:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن استباحة الصلاة بالتيمم رخصة، فاختص بالسفر الطويل، كالقصر، والفطر.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
ولم يفرق بين الحضر والسفر، ولا بين السفر القصير والسفر الطويل، وإنما يختلف الحكم في الإعادة.

مسألة: [يتيمم بعد دخول الوقت] :
ولا يصح التيمم للصلاة إلا بعد دخول الوقت. وبه قال مالك، وأحمد، وداود.
وقال أبو حنيفة: (يصح التيمم لها قبل دخول وقتها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
فأجاز التيمم للقائم إلى الصلاة، وإنما يصح القيام إليها بعد دخول وقتها.

(1/286)


وأما الطهارة بالماء: فظاهر الآية يدل على: أنه لا يجوز قبل دخول الوقت، إلا أنا تركناه بالسنة والإجماع، وبقي التيمم على ظاهر الآية. ولأن التيمم طهارة ضرورة، فلم يصح للصلاة قبل دخول وقتها، كطهارة المستحاضة.
إذا ثبت هذا: فقال المسعودي [في " الإبانة ": ق\29] : وقت التيمم لصلاة الخسوف: عند الخسوف. ولصلاة الاستسقاء: عند خروج الناس إلى الصحراء. وللصلاة على الميت: إذا غسل. ولتحية المسجد: بعد الدخول. وللفوائت: عند تذكرها.
وإن تيمم لنافلة لا سبب لها في الوقت المنهي عن الصلاة فيه.. لم يصح تيممه، ولم يستبح به النافلة بعد دخول وقتها، كما لو تيمم لفريضة قبل دخول وقتها.

[فرع: تيمم لفائتة وصلى حاضرة]
وإن تيمم لفائتة عليه قبل دخول وقت الفريضة، فلم يصل الفائتة حتى وقت الفريضة.. فهل له أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت؟ ينظر فيه:
فإن كانت الصلاتان مختلفتين، بأن كانت الفائتة عليه الصبح، والتي دخل وقتها الظهر، أو العصر، فإن قلنا: إن تعيين الصلاة التي تيمم لها شرط في صحة التيمم

(1/287)


لها.. لم يصح له أن يصلي بتيممه الصلاة التي دخل وقتها؛ لأنه لم يعينها في التيمم.
وإن قلنا: إن تعيين الصلاة لا يشترط في نية التيمم لها، أو كانت الفائتة عليه موافقة للداخل وقتها، بأن كانت الفائتة ظهر أمسه، والتي دخل وقتها ظهر يومه.. فهل له أن يصلي بتيممه الصلاة التي دخل وقتها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يجوز. وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ؛ لأنه يجوز له أن يصلي به الفائتة بعد دخول وقت الحاضرة، فجاز له أن يصلي به الحاضرة بعد دخول وقتها، كما لو تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها، فأراد أن يصلي به مكانها فائتة عليه، ولأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم، فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها، فهو كما لو تيمم للحاضرة قبل دخول وقتها.

[مسألة: من يحق له التيمم]
ولا يصح التيمم للصلاة بعد دخول وقتها إلا لعادم للماء، أو لخائف من استعماله.
فأما الواجد للماء، القادر على استعماله.. فلا يصح تيممه، سواء خاف فوت وقت الصلاة، أو لم يخف.
وقال أبو حنيفة: (إذا خاف فوت وقت صلاة العيد أو الجنازة.. جاز له أن يتيمم لهما، وإن كان واجدا للماء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .

(1/288)


وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء» . وهذا واجد للماء.
وإن وجد ماء يحتاج إليه للشرب، ويخاف إن استعمله في الطهارة التلف من العطش؛ لأنه يقطع مفازة لا يكون فيها ماء.. جاز له أن يتيمم؛ لأن المريض الذي يخاف من استعمال الماء يجوز له تركه وإن كان لا يتلف في الحال، فكذلك هذا مثله.

[مسألة: حكم طلب الماء]
ولا يصح التيمم للعادم للماء إلا بعد الطلب وإعواز الماء.
وقال أبو حنيفة: (لا يحتاج إلى الطلب، بل إذا كان مسافرا لا يعلم وجود الماء.. جاز له أن يتيمم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . ولا يثبت له أنه غير واجد إلا بعد الطلب.
ولا يجزئه الطلب إلا بعد دخول الوقت؛ لأنه وقت جواز التيمم. فإن طلب قبل دخول الوقت..أعاد الطلب بعد دخول الوقت.
قال ابن الصباغ: فإن قيل: فإذا كان قد طلب قبل دخول الوقت، ثم دخل الوقت ولم يتجدد حدوث ماء.. كان طلبه عبثا؟
فالجواب: أنه إنما يتحقق أنه لم يحدث ماء إذا كان ناظرا إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء.. فهذا يجزئه بعد دخول الوقت؛ لأن هذا هو الطلب. وأما إذا غابت عنه.. جاز له أن يتجدد فيها حدوث ماء، فيحتاج إلى الطلب.

(1/289)


فأما إذا طلب بعد دخول الوقت، ولم يتيمم عقبه..جاز له أن يتيمم بعد ذلك، ولا يلزمه إعادة الطلب، إلا أن يتجدد أمر؛ لأنه لما طلبه في وقته.. لم يكلف تجديد الطلب؛ لما فيه من المشقة. وإذا طلب قبل الوقت.. كلف إعادته؛ لتفريطه.
وإن كان في مفازة لا يوجد في مثلها الماء غالبا.. فهل يلزمه الطلب؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\30] :
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه غير مفيد.
والثاني: يلزمه تعبدا.

[فرع: من تيمم وأخر الصلاة]
قال في" البويطي ": (فإن تيمم بعد الطلب في أول الوقت، وأخر الصلاة إلى آخر الوقت..أجزأه؛ لأنه تيمم في وقت يمكنه فعل الصلاة فيه) .
قال ابن الصباغ: فإن سار بعد تيممه إلى موضع آخر، وطلع عليه ركب يجوز أن يكون معهم ماء بتفتيش ما.. احتاج إلى تجديد الطلب.
وأما كيفية الطلب: فهو أن يبدأ بتفتيش رحله؛ لأنه أقرب الأشياء إليه، ثم ينظر في الناحية التي هو فيها يمينا وشمالا، وأماما وخلفا، وهذا إذا كان في سهل من الأرض لا يحول دون نظره شيء. فإن كان دونه حائل صعد إليه ونظر حواليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " البويطي ": (وليس عليه أن يدور في طلب الماء؛ لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في الموضع البعيد) .
فإذا نظر ولم ير الماء..قال ابن الصباغ: سأل واستخبر من يظن أن عنده علما من الماء، فإن دل على ماء.. لزمه أن يأتيه بثلاث شرائط:
إحداهن: أن لا ينقطع عن رفقته.
الثانية: أن لا يخاف على نفسه، أو ثيابه، أو رحله.
الثالثة: أن لا يخاف فوت وقت الصلاة.

(1/290)


وإن وجد بئرا ولا حبل معه، فإن كان يقدر أن يوصل إليها ثيابا حتى يصل إلى أن يأخذ الماء بإناء أو دلو به، أو قدر على ثوب يبله بالماء ثم يعصره ويتوضأ به..لم يكن له أن يتيمم، وسواء قدر على ذلك بنفسه أو بغيره.
وإن قدر على نزول البئر بأمر ليس عليه خوف.. نزلها، وإن كان عليه ضرر.. تيمم.

[فرع: لا يتيمم لخوف فوات الوقت وبقربه ماء]
قال في " الإبانة " [ق\30] : وإن كان بقربه ماء، وهو يخاف فوت وقت الصلاة لو اشتغل به.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجوز له التيمم) ، وقال في العراة ـ إذا كان بينهم ثوب يتداولونه، فخاف بعضهم فوت وقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه ـ: (إنه يصبر حتى تنتهي النوبة إليه) .
وقال ـ في جماعة معهم دلو ينزحون به الماء، وخاف فوت وقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه ـ: (يصبر ولا يتيمم) .
وهذه نصوص متفقة.
وقال ـ في جماعة في سفينة، فيها موضع واحد يمكن أن يصلي فيه واحد قائما، وخاف أن يفوته الوقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه-: (إنه يصلي قاعدا، ولا يلزمه الصبر) .
وهذا نص مخالف للنصوص الأولى.
فمن أصحابنا من عسر عليه الفرق، وجعل الجميع على قولين.
ومنهم من حمل الجميع على ما نص عليه، وفرق بينهما: بأن القيام أخف؛ لأنه يسقط في النافلة مع القدرة، بخلاف الطهارة بالماء، والسترة، فإنه لا يجوز تركها بحال.

(1/291)


[فرع: حكم قبول الماء أو ثمنه]
وإن بذل له غيره الماء، فإن كان بغير عوض.. فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه في " الفروع " ـ: أنه لا يلزمه قبوله، كما لا يلزمه قبول الرقبة في الكفارة.
والثاني: يلزمه قبوله، وهو المشهور؛ لأنه لا منة عليه في قبوله؛ لأن العادة جرت أن الفقير يبذله للغني، بخلاف الرقبة.
وإن بذل له ثمن الماء.. لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه منة في قبول الماء.
وإن بذل له الماء بثمن مثله، وهو واجد للثمن غير محتاج إليه في سفره.. لزمه شراؤه، ولا يجوز له التيمم. وإن كان غير واجد لثمن مثله، أو كان واجدا له إلا أنه محتاج إليه لسفره..جاز له أن يتيمم؛ لأن المال الذي معه هو محتاج إليه لإحياء نفسه، فهو كما لو كان معه ماء يحتاج إليه للعطش.
فإن بيع الماء منه بثمن المثل، وأنظره البائع إلى بلده، وكان له في بلده مال.. وجب عليه شراؤه ولم يجز له التيمم؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
وإن كان مع غيره ماء، وهو غير محتاج إليه، ولم يبذله له..لم يجز له أن يكابده على أخذه منه؛ لأن له بدلا، وهو التيمم.
وفى كيفية اعتبار ثمن مثل الماء، ثلاثة أوجه، حكاها في " الإبانة " [ق\32] :

(1/292)


أحدها ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يعتبر ثمنه في موضعه الذي هو فيه، مع وجود العذر.
والثاني: يعتبر ثمنه عند السلامة، ووجود الماء غالبا.
والثالث: لا ثمن له، ولكن يراعي أجرة مثل من يأتي به إلى ذلك الموضع.
وإن وهب له الماء هبة فاسدة، فقبضه.. لم يملكه بذلك. فإن توضأ به.. صح وضوؤه، ولا يجب عليه ضمانه؛ لأن الهبة الفاسدة تجري مجرى الصحيحة في باب الضمان، كما في البيع.

[فرع: إعادة طلب الماء]
فإن طلب الماء للصلاة الحاضرة، فلم يجده، فتيمم وصلى، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى.. قال الشيخ أبو حامد: فعليه أن يعيد الطلب، ولا يلزمه الطلب في رحله؛ لأنه قد علم بالطلب الأول أنه لا ماء فيه، ولا يجوز حدوثه بعد ذلك فيه، ويفارق خارج الرحل؛ لأنه قد يجوز حدوث الماء فيه بعد الطلب.
وعلى قياس ما حكيناه عن ابن الصباغ -قبل هذا-: لا يلزمه الطلب فيما لم يغب عن عينه من الموضع الذي طلب فيه للصلاة الأولى.

[فرع: هبة فضل الماء]
قال الصيدلاني: ولا يلزمه أن يهب فضل مائه لمن لا يجده ـ خلافا لأبي عبيد بن حربويه ـ لأنه ماء يحتاج إليه لإحياء نفسه.

(1/293)


[فرع: تعجيل الصلاة بتيمم]
وإذا طلب الماء بعد دخول الوقت فلم يجده.. جاز له أن يتيمم ويصلي، سواء علم أنه يجد الماء من آخر الوقت، أو لا يجده.
وقال الزهري: لا يجوز له التيمم، إلا إذا خاف فوت الوقت قبل وجود الماء.
دليلنا: أن الله تعالى أجاز التيمم لمن قام إلى الصلاة عند عدم الماء، وهذا موجود فيمن قام إليها في أول وقتها.
وهل الأفضل أن يقدم الصلاة بالتيمم، أو يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت؟
فيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يتيقن أنه يجد الماء في آخر الوقت.. فالأفضل أن يؤخر الصلاة ليصليها بالوضوء في آخر الوقت؛ لأن الصلاة في أول الوقت فضيلة، والطهارة بالماء فريضة، فكان مراعاة الفريضة أولى.
الثانية: إذا كان على إياس من وجود الماء.. فتقديم الصلاة في أول وقتها بالتيمم أفضل؛ لأن الظاهر أنه لا يجد الماء.
الثالثة: إذا كان يرجو وجود الماء.. ففيه قولان:
أحدهما: التأخير أفضل؛ لأن مراعاة الفريضة ـ وهي الطهارة بالماء ـ أولى من مراعاة الفضيلة، وهي الصلاة في أول الوقت.
والثاني: أن تقديم الصلاة في أول الوقت بالتيمم أفضل، وهو الأصح؛ لأنه فضيلة متيقنة، فلا يجوز تركها لأمر مشكوك فيه.
قال أصحابنا: وهكذا المريض العاجز عن القيام، إذا رجا القيام في آخر الوقت. أو رجا العريان وجود السترة في آخر الوقت. أو رجا المنفرد وجود الجماعة في آخر الوقت.. هل الأفضل لهم تقديم الصلاة في أول وقتها، على حالتهم التي هم عليها، أو تأخيرها لما يرجونه؟ فيه وجهان مبنيان على هذين القولين.

(1/294)


ولا يترك الترخص بالقصر في السفر وإن علم إقامته في آخر الوقت، وجها واحدا؛ لأن ترك الرخصة غير مستحب.
قال صاحب " الفروع ": فإن خاف فوات الجماعة لو أسبغ الوضوء.. فإدراك الجماعة أولى من الاحتباس على إسباغ الوضوء وإكماله.

[مسألة: التيمم حالة نسيان الماء]
إذا نسي الماء في رحله، فتيمم وصلى، ثم علم به فيه.. فالمنصوص ـ في عامة كتبه ـ: (أن عليه الإعادة) .
وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله عمن نسي الماء في رحله، فتيمم، وصلى؟ فقال: (لا يعيد) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: هي على قولين، كما قال فيمن ترك فاتحة الكتاب ناسيا.
ومنهم: من لم يثبت رواية أبي ثور عن الشافعي في هذا، وقال: يحتمل أنه أراد بذلك مالكا أو أحمد.
ومنهم: من تأول رواية أبي ثور على: أنه قد فتش رحله فلم يجد، وكان قد خبأه غيره.
والطريقة الأولى أصح؛ فإن أبا ثور لم يلق مالكا، وهو يروي عن أحمد، فيكون على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه الإعادة. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد؛ لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء، فصار كما لو حال بينه وبين الماء سبع.
والثاني: يجب عليه الإعادة. وبه قال أحمد، وأبو يوسف، وهو الأصح؛ لقوله

(1/295)


تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وهذا لا يقال له: غير واجد، وإنما يقال له: غير ذاكر. ولأنها طهارة تجب مع الذكر، فلم تسقط مع النسيان، كما لو نسي بعض أعضائه فلم يغسلها.

[فرع: إذا كان حائل عن الماء أو أخطأ رحله]
قال في " الأم " [1/40] : (فإن كان في رحله ماء، فحال العدو بينه وبين رحله، أو حال بينهما سبع، أو حريق؛ حتى لا يصل إليه.. تيمم وصلى، وهذا غير واجد للماء) .
قال أصحابنا: معناه: أنه لا قضاء عليه؛ لأنه فيه في حكم العادم.
وإن كان في رحله ماء، فأخطأ رحله وضل عنه، فحضرت الصلاة، فطلبه فلم يجده.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تيمم وصلى) . ولم يذكر الإعادة.
فاختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: تجب عليه الإعادة؛ لأنه غير عادم، وإنما هو ناس.
ومنهم من قال: لا تجب عليه الإعادة؛ لأنه غير منسوب إلى التفريط في طلب الماء، بخلاف الناسي، فإنه مفرط.
فأما إن ضل هو عن القافلة، أو عن الماء.. تيمم وصلى، ولا إعادة عليه.

[فرع: علم بوجود الماء بعد الصلاة]
] : قال في " البويطي ": (وكذلك يكون إلى جنب المسافر بئر أو بركة في الموضع الذي عليه أن يطلب الماء فيه، فتيمم، ثم علم.. فعليه الإعادة) .
وقال في " الأم " [1/40] : (لا إعادة عليه؛ لأنه كلف ـ فيما ليس معه ـ الطلب المؤدي على الظاهر، وغلبة الظن دون الإحاطة به) .
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا: قولان.

(1/296)


قال: ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين؛ وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (لا إعادة عليه) ؛ إذا كانت البئر خفية، مثل أن كانت في بسيط من الأرض لا علامة عليها.
والموضع الذي قال: (عليه الإعادة) ؛ إذا كانت علامتها ظاهرة، فيكون قد فرط في طلبها.

[مسألة: وجد ماء لا يكفيه]
إذا وجد من الماء ما لا يكفيه: بأن كان محدثا، فوجد ماء لا يكفيه لأعضاء الوضوء، أو كان جنبا، فوجد ماء لا يكفيه لغسل جميع بدنه.. جاز له استعمال ما وجد من الماء، بلا خلاف.
وهل يلزمه استعماله، أو يجوز له الاقتصار على التيمم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه استعماله، ولكن يستحب له. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وداود، والمزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وأراد به: الماء الذي تغسل به الأعضاء، وهذا غير واجد له. ولأن هذا ماء لا يطهره، فلم يلزمه استعماله، كالماء المستعمل. ولأنه لو وجد بعض الرقبة في الكفارة.. جعل كالعاجز في جواز الاقتصار على البدل، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يلزمه استعماله. وبه قال معمر بن راشد، وعطاء، والحسن بن صالح، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . فمنها دليلان:
أحدهما: أنه أمر بغسل هذه الأعضاء، فإذا قدر على غسل بعضها..لزمه ذلك بظاهر الآية.

(1/297)


والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] [النساء: 43] . فذكر الماء منكرا، فاقتضى: أنه إذا وجد ماء ما..لم يجز له التيمم؛ لأنه لو أراد ما يغسل به جميع الأعضاء.. لقال: (فلم تجدوا الماء) .
فاختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين.
فمنهم من قال: هما مأخوذان من القولين في جواز تفريق الوضوء:
فإن قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يلزمه استعمال ما معه من الماء.
وإن قلنا: يجوز التفريق.. لزمه استعماله.
ومنهم من قال: القولان أصل في أنفسهما، وهو الأصح.
فإذا قلنا: يلزمه استعماله.. نظرت: فإن كان محدثا.. فإنه يلزمه استعمال الماء في وجهه، ثم في يديه، إلى حيث بلغ، على الترتيب في أعضاء الوضوء. وإن كان جنبا.. فالمستحب: أن يستعمل الماء في رأسه، وفي أعالي بدنه. هكذا قال أصحابنا. ولو قيل: المستحب أن يستعمله في أعضاء الطهارة؛ لأنه هو المستحب في ابتداء غسل الجنابة..كان محتملا.
وفي أي موضع من بدنه استعمله.. جاز؛ لأن الترتيب غير مستحق في الغسل. ويجب أن يستعمل الماء أولا، ثم يتيمم بعده، بخلاف الجريح؛ لأن التيمم هاهنا لعدم الماء، فلا يصح مع وجوده.
وإن كان على بدنه نجاسة.. لزمه استعمال ما معه من الماء في إزالتها، أو في إزالة ما قدر عليه منها، قولا واحدا؛ لأن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة.

[فرع: تيمم ثم وجد ماء لا يكفي]
إذا لم يجد الجنب والمحدث ماء، فتيمم، ثم وجد من الماء ما لا يكفيه:

(1/298)


فإن قلنا: إن من وجد من الماء ما لا يكفيه، لا يلزمه استعماله.. فتيممه باق بحاله.
وإن قلنا يلزمه استعماله.. بطل تيممه.
وإن أجنب ولم يجد الماء، فتيمم وصلى به فريضة، ثم أحدث.. لم يجز له: أن يصلي فريضة ولا نافلة. فإن وجد من الماء ما لا يكفيه لغسل جميع بدنه، ولكن يكفيه لأعضاء الوضوء: فإن قلنا: يلزمه استعماله لو وجده للجنابة.. بطل تيممه؛ لوجوده، ولم يجز له أن يصلي بالتيمم الأول نافلة، ولا فريضة، بل يجب عليه أن يستعمله، ثم يتيمم.
وإن قلنا: لا يجب عليه استعماله للجنابة.. فإن أبا عباس بن سريج قال: إن توضأ به.. ارتفع حدثه، وجاز له أن يصلي به النافلة دون الفريضة؛ لأن التيمم الذي ناب عن غسل الجنابة أباح له فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، فلما أحدث.. حرم عليه أن يصلي النوافل. فإذا توضأ.. ارتفع تحريم النوافل فاستباحها، ولم يستبح الفريضة؛ لأن هذا الوضوء لا ينوب عن الجنابة، وهذا وضوء تستباح به النافلة دون الفريضة.
وإن أراد أن يتيمم للفريضة الثانية بعد دخول وقتها.. صح تيممه لها، واستباح به الفريضة، ويستبيح به النافلة أيضا؛ لأنه إذا استباح به الفريضة.. فلأن يستبيح به النافلة أولى.
وإن أراد أن يتيمم للنافلة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يصح؛ لأنه يصح أن يتيمم به للفريضة، ويستبيح به النافلة، فصح تيممه للنافلة مفردة.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا يصح تيممه للنافلة؛ لأنه يقدر على الوضوء لها، فلا يستبيحها بالتيمم. ويفارق الفريضة؛ لأنه لا يقدر على استباحتها بالوضوء؛ ولأن تيممه للفريضة ينوب عن الجنابة، فاستباح به النافلة، وتيممه للنافلة ينوب عن الوضوء، فلم يصح مع قدرته على الوضوء.

(1/299)


فيقال في هذه المسألة: هل تعلم على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وضوءًا يصح بنيته رفع الحدث، ولم تستبح به الفريضة، واستبيح به النافلة؟ فقل: نعم، وهو هذا على هذا القول.
فإن قيل: هل تعلم وضوءًا لا يصح بنية استباحة الفرض، ويصح بنية استباحة النفل؟ فقل: نعم، وهو هذا الوضوء؛ لأنه لا يصح أن يستبيح به الفرض، فلا يصح أن ينوي به استباحته. ويستبيح به النقل، فصح بنية استباحته.
فإن قيل: هل تعلم محدثًا ممنوعًا من الفرض والنفل، لحدثه، فإن تيمم للفرض.. صح، وإن تيمم للنقل ... لم يصح؟ فقل: نعم، وهو هذا، على قول القاضي أبي الطيب.
فإن قيل: هل تعلم جنبًا يجوز له: أن يقعد في المسجد ويقرأ القرآن، ولا يجوز له مس المصحف، وفعل الصلاة؟ فقل: نعم، وهو هذا.
وكذلك الجنب: إذا عدم الماء، فتيمم، وأحدث، ولم يجد ماء، فإنه يجوز له: أن يقعد في المسجد، ويقرأ القرآن، ولا يجوز له: مس المصحف، ولا فعل الصلاة.

[مسألة: فيمن أولى بالماء]
وإذا اجتمع ميت، وجنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ما يكفي أحدهم ... فإن كان لأحد الحيين
كان أحق به، ولا يجب عليه بذله للميت.
وقال أبو إسحاق في " الشرح ": من أصحابنا من قال: فيه قول آخر، إن عليه أن يقدم الميت به، ويأخذ ثمنه من مال الميت.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه محتاج إليه لنفسه، فلا يجب عليه أن يبذله لغيره.
فإن خالف مالك الماء، فبذله للميت، أو للحي الآخر ... فحكى المحاملي في

(1/300)


" المجموع "، عن أبي إسحاق: أنه لا يزول ملكه عن الماء، وهكذا ذكره الصيدلاني.
فإن تيمم وصلى ... نظرت: فإن تيمم مع بقاء الماء
لم يصح تيممه؛ لأنه تيمم مع وجود الماء.
وإن تيمم بعد أن غسل الميت بالماء، أو اغتسل به الحي الآخر ... فهل يلزم باذل الماء إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى.
فإذا قلنا: يلزمه الإعادة، فكم يعيد من الصلوات؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\32] :
أحدهما: يعيد صلاة واحدة.
والثاني: يعيد من الصلوات التي صلاها بالتيمم ما كان يصليها في غالب أحواله بالطهارة لو تطهر.
وهكذا لو بذل له غيره الماء بغير عوض، أو بعوض مثله وهو واجد له غير محتاج إليه، فلم يقبل، وتيمم وصلى ... فإنه يعيد، وفي القدر الذي يعيده هذان الوجهان.
وإن كان الماء للميت ... كان أحق به منهما؛ لأنه ملكه، إلا أن يحتاج إليه الحيان لعطش يخافان منه التلف
فلهما أن يشربا ذلك وييمما الميت؛ لأن حفظ الحي آكد من تطهير الميت.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: ويجب عليهما قيمة الماء للوارث في ذلك الموضع.
وهكذا قال المسعودي [في " الإبانة " ق\33] ، غير أنه قال: لأن الماء وإن كان من ذوات الأمثال، إلا أنه لا قيمة للماء في البلد.

(1/301)


قال: فإذا رجع الورثة بقيمة الماء، ثم عادوا يومًا إلى ذلك المكان ... فهل لهم أن يردوا قيمة ما أخذوه من الماء، ويطالبوا بمثل الماء؟
فيه وجهان، بناء على ما لو أتلف عليه شيء من ذوات الأمثال، ففقد المثل فانتقل إلى قيمة، ثم وجد المثال ... هل له أن يرد القيمة، ويأخذ المثل؟ فيه وجهان.
وكذلك: لو وجد بالمبيع عيبًا بعدما حدث عنده عيب آخر، ثم زال العيب الجديد ... هل له أن يرد بالعيب الأول؟ فيه وجهان.
وإن كان الماء مباحًا أو لغيرهم، وأراد أن يجود به على أحدهم ... فالميت أولى؛ وعلله الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بأن هذا خاتمة أمر الميت، ولا يرجى له طهارة بعدها، والحيان يرجى لهما طهارة بعد هذا.
ومن أصحابنا من علله بعلة أخرى، وقال: لأن غسل الميت لا يراد لرفع الحدث والصلاة به، وإنما يراد للتنظيف، وذلك لا يحصل بالتراب. والقصد من طهارة الحيين استباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقام الماء في استباحة الصلاة.
فإن اجتمع حي على بدنه نجاسة، وميت، والماء يكفي أحدهما:
فإن قلنا بتعليل الشافعي في الأولى ... فالميت أولى.
وإن قلنا بتعليل غيره فيها ... فصاحب النجاسة أولى.
وإن اجتمع جنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ماء يكفي أحدهما ... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أن الجنب أولى؛ لأن وجوب غسله معلوم بنص القرآن، وغسل الحائض مستفاد بخبر الآحاد، والاجتهاد.
والثاني: أن الحائض أولى، لأنها تستبيح بالغسل أكثر مما يستبيحه الجنب، وهو إباحة الوطء، ولأن الحائض لا تخلو من نجاسة، والجنب قد يخلو منها، ولأن

(1/302)


غسلها قد ورد به القرآن، وثبت به الإجماع.
والثالث: أنهما سواء لأن التيمم بدل عن غسل كل واحد منهما، فاستويا.
وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء فإن كان يكفي المحدث، ولا يكفي الجنب ... فالمحدث أولى؛ لأنه يرفع حدثه، ويسقط به فرضه، والجنب لا يرفع حدثه، ولا يسقط به عنه فرضه على قول بعض الناس.
وإن كان الماء يكفي الجنب، ويفضل عنه ما يغسل به المحدث بعض أعضائه، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما لا يكفي الجنب ... فالجنب أولى؛ لأن حدث الجنب أغلظ؛ لأنه لا يقدر على اللبث في المسجد، ولا على قراءة القرآن.
وإن كان الماء يكفي الجنب، ولا يفضل عنه شيء، ويكفي المحدث، ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض أعضائه ... ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الجنب أولى؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها من أن حدثه أغلظ.
والثاني: أن المحدث أولى؛ لأن فيه تشريكًا بينهما.
والثالث: أنهما سواء؛ لأنه يرتفع به حدث كل واحد منهما.
وإن كان على بدنه نجاسة، وهو محدث ومعه من الماء ما يكفي أحدهما ... فإنه يغسل النجاسة بالماء، ويتيمم للحدث؛ لأنا قد بينا: أن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة، ولا بدل لها، والتيمم ينوب عن الحدث، فوجب استعمال الماء فيما لا يقوم غيره مقامه.

[مسألة: فاقد الطهورين]
وإن عدم الماء والتراب، بأن حبس في موضع لا يجدهما، أو لم يجد إلا ترابًا نجسًا ... فالمشهور من المذهب: أنه يجب عليه أن يصلي على حسب حاله. وبه قال الليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد.

(1/303)


وقال أبو حنيفة: (يحرم عليه أن يصلي، ولكن يقضي) :
وحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (يعجبني أن يصلي حتى لا يخلو الوقت من الصلاة، ولا يجب عليه؛ لأنه لا يفيد، ولكن يقضي) .
وقال مالك، وداود: (لا يجب عليه أن يصلي، ولا يقضي) .
ودليلنا للأول: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أسيد بن حضير، وأناسًا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فحضرت الصلاة ولا ماء معهم، فصلوا بغير طهارة، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه بذلك، فنزلت آية التيمم» ، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم بغير طهارة. ولأن الصلاة لا تسقط عن المكلف بتعذر شرط من شرائطها، كتعذر السترة، وإزالة النجاسة.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه القضاء؟.
وقال البغداديون من أصحابنا: تجب عليه الإعادة؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فلم يسقط فرض الصلاة معه؛ كما لو صلى بنجاسة نسيها.
وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين فيها قولين:
أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر أسيد بن حضير وأصحابه بالإعادة.
والأول أصح؛ لأن الإعادة على التراخي، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وإن انقطع دم الحائض، ولم تجد ماء، ولا ترابًا ... فحكمها في الصلاة حكم غيرها، على ما بينا.

(1/304)


قال الصيدلاني: ولا يباح وطؤها على الأصح؛ لأنها ما أتت على حدثها بأصل، ولا بدل.

[مسألة: تيمم المريض]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتيمم مريض في شتاء ولا صيف، إلا من به قرح له غور، أو به ضنى من مرض، يخاف إن مس الماء أن يكون منه التلف) . وجملته: أن المرض على ثلاثة أضرب.
ضرب: لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف نفس، ولا عضو، ولا حدوث مرض مخوف، ولا إبطاء البرء، مثل: الصداع، ووجع الضرس، والحمى ... فهذا لا يجوز التيمم لأجله، وهو قول كافة العلماء.
وقال داود، وبعض أصحاب مالك: (يجوز) .
واستدلوا: بعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] [النساء: 43] الآية.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه» .
وهذا عموم يعارض عمومهم. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» ، وروي: «فأبردوها بالماء» . فندب إلى إطفاء حرها بالماء، فلا يجوز أن يكون ذلك سببًا لترك استعمال الماء؛ لأن هذا واجد للماء

(1/305)


لا يخاف التلف من استعماله، فأشبه الصحيح. وأما الآية: فالمراد بها: إذا خاف التلف من استعمال الماء.
الضرب الثاني ـ من الأمراض ـ: هو أن يخاف من استعمال الماء تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو.. فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء.
وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن، وعطاء، أنهما قالا: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، واحتجا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، فأباح للمريض التيمم عند عدم الماء.
ودليلنا: ما ذكرناه من حديث عمرو بن العاص: (أنه تيمم لخوف التلف من البرد، مع وجود الماء، فعلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك، فلم ينكر عليه) .
وروي: أن رجلاً أصابته شجة في رأسه في بعض الغزوات، ثم أجنب، فسأل الناس، فقالوا: لا بد لك من الغسل، فاغتسل، فمات، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها ويغسل سائر بدنه» . وهذا نص.
وأما الآية: ففيها إضمار، وتقديرها: وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال

(1/306)


الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء.. فتيمموا.
وإن سلمنا: أنه لا إضمار فيها.. فالمراد بها: المرض الذي يخاف من استعمال الماء فيه التلف، بدليل ما رويناه.
والضرب الثالث: ـ من الأمراض ـ: أن لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف النفس، ولا تلف عضو، ولكن يخاف منه إبطاء البرء، أو زيادة الألم.. فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/38] ، و" المختصر " [1/34] : (أنه لا يجوز له التيمم) .
وقال في القديم، في " الإملاء "، و" البويطي ": (يجوز له التيمم) .
واختلف أصحابنا على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أكثرهم: هي على قولين:
أحدهما: لا يجوز له التيمم، وبه قال أحمد، وعطاء، والحسن.
ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . [النساء: 43]
قال ابن عباس، في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] [النساء: 43] : (إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله، أو قروح، أو جدري، فيجنب، ويخاف إن اغتسل أن يموت.. فإنه يتيمم بالصعيد) . بشرط خوف الموت.
والقول الثاني: أنه يجوز له أن يتيمم. وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

(1/307)


قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] [النساء: 43] . فعم ولم يخص. ولأنه يستضر باستعمال الماء، فأشبه إذا خاف منه التلف.
وما روي عن ابن عباس.. فليس بتفسير، بدليل: أن من كانت به جراحة في غير سبيل الله يخاف منها التلف.. جاز له أن يتيمم، بلا خلاف.
و [الطريق الثاني] : قال أبو العباس، وأبو سعيد الإصطخري: يجوز له التيمم، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه على ما قاله في القديم، و" البويطي "، و" الإملاء "، وما قاله في " الأم "، و" المختصر " محمول عليه: إذا كان لا يخاف التلف، ولا الزيادة في العلة.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: لا يجوز التيمم، قولاً واحدًا، وما قاله في القديم، و" البويطي "، و" الإملاء " محمول عليه: إذا خاف زيادة يكون منها التلف.

[مسألة: حصول عيب على عضو ظاهر]
فرع: [حصول عيب على عضو ظاهر] :
وإن كان يخاف من استعمال الماء لحوق الشين لا غير.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له أن يتيمم لأجل ذلك بحال؛ لأنه لا يخاف التلف، ولا الألم، ولا إبطاء البرء، فهو كما لو خاف وجود البرد.
وقال أكثر أصحابنا: إن كان شينًا يسيرًا لا يشوه خلقة الإنسان، ولا يقبحها، مثل آثار الجدري، أو قليل حمرة، أو خُضرة.. لم يجز له: أن يتيمم قولاً واحدًا؛ لأنه لا يستضر بذلك. وإن كان يحصل به شينٌ كبيراٌ، مثل: أن يسود بعض وجهه،

(1/308)


أو يخضر، أو يحصل به آثار يقبح منظرها.. فهو كما لو خاف الزيادة في المرض، على ما مضى من الخلاف؛ لأنه يألم قلبه بذلك، كما يألم بزيادة المرض.

[فرع: يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح]
] : لو كان بعض بدنه صحيحًا، وبعضه جريحًا.. غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح.
وقال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: يحتمل أن يكون فيه قول آخر: أنه يقتصر على التيمم، كما لو وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة.
وقال عامة أصحابنا: بل هي على قول واحدٍ، وهذا التخريج لا يصح؛ لأن عدم بعض الأصل يجري مجرى عدم جميعه، كما تقول فيمن وجد بعض الرقبة، بخلاف عجزه في نفسه، فإنه لو كان بعضه حرًا، وبعضه عبدًا، ووجبت عليه الكفارة في اليمين.. فإنه يكفر بالمال هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (عن كان أكثر بدنه صحيحًا.. اقتصر على غسل الصحيح، ولا يلزمه التيمم. وإن كان أكثر بدنه جريحًا.. اقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح) .
ودليلنا: ما روى جابر، في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه فاحتلم، فاغتسل فمات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما كان يكفيه أن يعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويتيمم، ويغسل سائر بدنه» .
إذا ثبت هذا: فإن كان جنبًا.. فهو بالخيار؛ إن شاء تيمم عن الجريح، ثم غسل

(1/309)


الصحيح، وإن شاء غسل الصحيح، ثم تيمم عن الجريح؛ لأن الترتيب لا يجب في الغسل.
فإن كانت الجراحة في وجهه وقال: إن غسلت رأسي فاض الماء على وجهي.. لم يكن له ترك غسل الرأس، بل يجب عليه أن يستلقي، أو يقنع رأسه، فيمر عليه الماء.
فإن خاف إذا صب عليه الماء أن ينتشر الماء إلى القرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أمسه الماء إمساسًا، وناب التيمم عما تركه) .
وإن كان الجرح في ظهره، ومعه من يضبطه منه. فعليه أن يأمره بذلك، ويغسل الصحيح. وكذلك إن كان أعمى.. أمر بصيرا بذلك.
فإن كان في موضع لا يجد فيه من يضبطه منه.. غسل ما يقدر عليه من بدنه، وتيمم، وأعاد إذا قدر؛ لأن ذلك نادر، كما نقول في الأقطع إذا لم يجد من يوضئه. ولا يلزمه أن يعصب على الجراحة، ويمسح على العصابة، إلا إن كان محتاجًا إلى العصابة؛ لشد الدواء على الجراحة، أو يخشى انبعاث الدم.. فإنه يعصب على الجراحة، وعلى ما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح.
فإن خاف من حل العصابة.. لم يلزمه حلها، ويلزمه المسح على العصابة؛ لأجل ما تحتها من الصحيح الذي لا بد أن يكون عليه، لا لأجل موضع الجراحة، كما قلنا في الجبيرة.
وإن كان القرح على موضع التيمم.. أمر التراب على موضع القرح؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.

(1/310)


وإن كان للقرح هناك أفواه منفتحة.. لزمه أن يمر التراب على ما انفتح منها؛ لأنه صار ظاهرًا، ثم يغسل الصحيح.
وبدأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هاهنا بالتيمم؛ ليكون الغسل بعده، فيزيل التراب عن صحيح الوجه واليدين. وإن بدأ بالغسل قبل التيمم.. جاز.
وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فهل يلزمه الترتيب بين الطهارة بالماء، والتيمم؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب " الإبانة " [ق\34] :
أحدها: يجب الترتيب. فعلى هذا: يغسل، ثم يتيمم.
والثاني: لا يجب الترتيب. فعلى هذا: لا يجوز له التيمم أولاً، ثم الغسل.
والثالث: ـ وهو الأصح ـ ولم يذكر المحاملي، وابن الصباغ غيره: أنه لا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته.
فعلى هذا: إن كانت الجراحة في بعض وجهه، فإن شاء.. غسل صحيح وجهه، ثم تيمم عن جريحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه. وإن شاء.. تيمم عن جريح وجهه أولاً، ثم غسل صحيحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه.
وإن كانت الجراحة في إحدى يديه.. فعليه أن يغسل وجهه أولاً، ثم هو بالخيار: إن شاء تيمم عن جريح يده، ثم غسل صحيحها والأخرى، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه. وإن شاء غسل صحيح يده بعد غسل وجهه، ثم تيمم عن جريحها.
وإن كانت الجراحة في يديه.. فالمستحب: أن يجعل كل يد بمنزلة عضو منفرد، فيغسل وجهه، ثم يغسل صحيح يده اليمنى، ثم يتيمم عن جريحها، ثم يغسل صحيح يده اليسرى، ثم يتيمم عن جريحها. وإن شاء قدم التيمم لكل يد على غسل صحيحها. وإن شاء جعل اليدين كالعضو الواحد، فيتيمم لجريحيهما تيممًا واحدًا، ثم يغسل صحيحيهما. أو يغسل صحيحيهما ثم يتيمم عن جريحيهما تيممًا واحدًا، وعلى هذا التنزيل في رجليه.
فإن كان في بعض وجهه جراحة، وفي يده جراحة، وفي رجله جراحة.. فهو بالخيار: إن شاء غسل صحيح وجهه، ثم يتيمم عن جريحه. وإن شاء تيمم عن

(1/311)


جريحه، ثم غسل صحيحه، ثم ينتقل إلى اليدين، كما ذكرنا في الوجه، ثم يمسح برأسه ثم ينتقل إلى الرجلين، كما ذكرنا في الوجه واليدين. فيلزمه هاهنا ثلاثة تيممات.
قال ابن الصباغ: فإن قيل: فهلا قلتم: إذا غسل صحيح وجهه أولاً، ثم تيمم عن جريحه.. أجزأه هذا التيمم عن جريح وجهه، وعن جريح يديه، بدليل: أنه لو أراد أن يوالي بين التيممين ـ على ما قلتم ـ لصح؟!
فالجواب: أنَّا لا نقول ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزءٍ من الوجه، وجزءٍ من اليد في حالة واحدة، وذلك يبطل الترتيب.
فإن قيل: أليس التيمم يقع عن جميع الأعضاء، فيسقط به الفرض مرة واحدة، ولا يحصل الترتيب؟!
فالجواب: أنه إذا وقع عن جملة الطهارة.. كان الحكم له دونها، وهاهنا وقع عن بعضها، فاعتبر ـ فيما يفعله من ذلك ـ الترتيب.
فإذا دخل عليه وقت فريضة أخرى، فإن كان جنبًا.. أعاد التيمم دون الغسل.
وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فقد قال ابن الحداد: أعاد التيمم.
قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل:
فإن كانت الجراحة في رجله.. أعاد التيمم وأجزأه.
وإن كانت في وجهه أو يديه.. فينبغي على الأصل الذي قدمناه أن يعيد التيمم، وما بعد موضع الجراحة من الغسل؛ ليحصل الترتيب.
فإن قيل: فبحضور الفريضة الثانية، لم يعد حدث إلى موضع الجرح، وحكم التيمم باقٍ فيه، ولهذا يصلي به النافلة؟

(1/312)


فالجواب: أن حكم الحدث عاد إليه في حق الفريضة الثانية، ولهذا منعناه من أن يصليها، فإذا أراد استباحتها. تيمم لها، فينوب هذا التيمم عن غسل العضو المجروح في حق الفريضة، فيحتاج إلى إعادة ما بعده ليحصل الترتيب.
فإذا برئ موضع الجراحة.. بطل حكم التيمم فيه، ووجب غسله.
وهل يحتاج إلى إعادة ما غسله من الصحيح؟ نظرت:
فإن كان في الوضوء.. غسل ما بعد ذلك العضو.
فأما ما قبله من أعضاء الطهارة.. ففيه، وفي غسل بقية بدنه إن كان جنبًا قولان، كما قلنا في ماسح الخفين: إذا نزعهما، أو انقضت مدة المسح، وهو على طهارة.. فإنه يبطل مسحه، وهل يحتاج إلى استئناف الطهارة؟. فيه قولان.

[فرع: من لا يستطيع الطهارة بنفسه لا يتيمم]
] : إذا لم يجد المريض من يناوله الماء.. صلى على حسب حاله، وأعاد ولا يتيمم!
فإذا لم يستطع أن يتوضأ بنفسه.. وضأه غيره. فإن لم يجد من يوضئه.. صلى وأعاد، ولا يتيمم.
وقال مالك: (إذا لم يجد من يناوله الماء.. تيمم) .
وقال الحسن: إذا لم يجد من يوضئه، وخاف خروج الوقت.. تيمم.

(1/313)


وقال إسحاق: إذا لم يستطع المريض الوضوء بنفسه.. تيمم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] وهذا واجد للماء لا يخاف الضرر من استعماله، فأشبه إذا كان قادرًا على استعماله.

[مسألة: جمع فرضين بتيمم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجمع بين صلاتي فرض) .
وجملة ذلك: أنه لا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد فريضتين من فرائض الأعيان، سواء كان ذلك في وقت أو وقتين. وقد روي ذلك عن علي، وابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنخعي، وقتادة، وربيعة، ومالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والمزني: (يجوز له أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض إلى أن يحدث، كالطهارة بالماء) .
وقال أبو ثور: (له أن يجمع بين فوائت في وقتٍ، ولا يجمع بين فرائض في أوقات) .

(1/314)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] الآية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فكان الظاهر من هذا يقتضي: أن كل من قام إلى الصلاة، فعليه الغسل إن كان واجدًا للماء، أو التيمم إن كان عادمًا للماء أو خائفًا من استعماله كلما قام إليه، وإنما تركنا هذا الظاهر بالوضوء؛ بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين صلوات عام الفتح بطهارة» . فخرج هذا من مقتضى دليل الآية، وبقي التيمم على ما اقتضته الآية) .
وروي «عن ابن عباس: أنه قال: (من السُنَّة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى» وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن التيمم طهارة ضرورية، فلا يجمع فيها بين فريضتين من فرائض الأعيان، كطهارة المستحاضة.

[فرع: لا يجمع بين واجبين بتيمم]
ولا يجوز أن يجمع فيها بين صلاة فريضة وطواف واجب بتيمم، ولا بين طوافين واجبين.
وهل يجوز أن يجمع بين صلاة فريضة وبين صلاة منذورة، أو بين صلاتين منذورتين بتيمم واحدٍ؟
فيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\36] ، بناءً على أنه: هل يسلك

(1/315)


بالمنذور مسلك المفروض، أو مسلك المندوب؟ فيه قولان.
فإن أراد أن يجمع بين صلاة مفروضة وبين ركعتي الطواف، أو بين طوافٍ واجبٍ وبين ركعتي الطواف بتيمم.. فيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: إن ركعتي الطواف واجبتان.. لم يكن له ذلك.
و [الثاني] : إن قلنا: إنهما سُنَّة.. كان له ذلك.

[فرع: التيمم للفوائت]
وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتيمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية.. أعاد الطلب لها، ثم يتيمم وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحدٍ، لأن ذلك شرط في التيمم.

[فرع: حكم نسيان صلاة من يوم]
] : وإن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عنها.. لزمه أن يصلي صلوات اليوم والليلة ليسقط الفرض عنه بيقين.
فإن كان عادما للماء، فأراد فرض القضاء بالتيمم.. فكم يلزمه أن يتيمم؟
فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الخضري ـ من أصحابنا ـ يلزمه أن يتيمم لكل صلاة تيممًا؛ لأن كل صلاة قد صارت فرضًا.

(1/316)


و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يلزمه إلا تيمم واحد، وهو الأصح؛ لأن وجوب ما زاد على المنسية؛ ليتوصل به إلى تأدية المنسية، فهي كالتابعة للمنسية، فلم تفتقر إلى تيمم تنفرد به.
وأما إذا نسي صلاتين من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عينها.. فإنه يلزمه أن يصلي خمس صلوات أيضًا.
فإن كان عادمًا للماء، وأراد أن يصليهما بالتيمم، فإن قلنا بقول الخضري في الأولى.. لزمه هاهنا أن يتيمم لكل صلاة، على ما مضى.
وإن قلنا بقول الأكثرين في الأولى.. فإن ابن القاص قال: يتيمم لكل صلاة من الخمس؛ لأنه ما من صلاة من الخمس يصليها بالتيمم الأول، إلا ويجوز أن تكون هي المنسية، ويجوز أن تكون المنسية الثانية هي التي تليها، وقد زال حكم التيمم الأول بفعل الأولى، فلا يجوز أداء الثانية بتيمم مشكوك في صحته.
وقال ابن الحداد: يكفيه أن يصلي ثماني صلوات بتيممين: فيتيمم، ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم، ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فعلى أي تنزيل نزلت المنسيتين.. فإنه قد أدى إحداهما بالتيمم الأول، والثانية بالتيمم الثاني.
قال أصحابنا: وما قاله ابن القاص وابن الحداد صحيح كله على قول الأكثرين من أصحابنا في المسألة الأولى.
وأما على قول الخضري: فلا يصح هاهنا إلا قول ابن القاص، غير أن ابن القاص اجتهد في تقليل الصلوات وتكثير التيممات، وابن الحداد اجتهد في تكثير الصلوات وتقليل التيممات.
فإن غير هذا الترتيب الذي ذكره ابن الحداد، فصلى بالتيمم الأول الظهر والعصر

(1/317)


والمغرب والعشاء، ثم تيمم وصلى الصبح والظهر والعصر والمغرب.. لم يجزئ؛ لاحتمال: أن عليه العشاء مع الظهر، أو مع العصر، أو مع المغرب، فزال حكم التيمم الأول بفعل الأولى، فلم تصح له العشاء. فإن أراد أن يجزئه. صلى العشاء بالتيمم الثاني.
وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول: العشاء والمغرب والعصر والظهر، ثم تيمم، فصلى المغرب والعصر والظهر والصبح.. أجزأه.
وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول: المغرب والعصر والظهر والصبح، ثم تيمم، وصلى: العشاء والمغرب والعصر والظهر.. لم يجز له إلا أن يعيد الصبح بهذا التيمم الثاني.
وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول من الصبح إلى المغرب، ثم صلى بالثاني من العشاء إلى الظهر.. فذلك جائز.
وقد ذكر بعض أصحابنا لما قال ابن الحداد أصلاً في الحساب، وهو: أنك تضرب المنسي في عدد المنسي منه، ثم تزيد المنسي على ما صح لك من الضرب، فتحفظ مبلغ ذلك كله، ثم تضرب المنسي في نفسه، فما بلغ من ضربه.. نزعته من الجملة التي حفظتها، فما بقي بعد ذلك.. فهو عدد الصلوات التي يصليها، وعدد التيمم بقدر عدد المنسي.
مثال ذلك في مسألتنا: أنك تضرب اثنين في خمسة، فذلك عشرة، ثم تزيد عدد المنسيتين على ذلك، فتجتمع لك اثنا عشر، ثم تضرب اثنين في اثنين، فذلك أربعة، فإذا نزعت ذلك من اثني عشر.. بقي لك ثمانية، وهو عدد ما تصلي به، بتيممين عدد المنسيتين.
وإن نسي ثلاث صلوات من خمس صلوات، ولم يعرف عينها.. فالعمل فيه على ذلك: أن تضرب ثلاثة في خمسة، فذلك خمسة عشر، ثم تزيد عليها ثلاثة، فذلك ثمانية عشر، ثم تضرب ثلاثة في ثلاثة، فذلك تسعة، فتنزعه من ثمانية عشر.. فيبقى لك تسعة، وهو عدد ما يصلي بثلاث تيممات.

(1/318)


فعلى هذا: يتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي العصر والمغرب والعشاء.
وإن نسي أربع صلوات من خمس.. فالعمل فيه: أنك تضرب أربعة في خمسة، فذلك عشرون، ثم تزيد عليها أربعة، فتجتمع لك أربعة وعشرون، ثم تضرب أربعة في أربعة، فذلك ستة عشر، فتنزع ذلك من أربعة وعشرين.. ويبقى لك ثمانية، وهي عدد ما تصلي من الصلوات بأربع تيممات، فيتيمم ويصلي الصبح والظهر، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر، ثم يتيمم ويصلي العصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي المغرب والعشاء، وعلى هذا: التنزيل.
فإن نسي صلاتين من صلوات يومين وليلتين، فإن كانتا مختلفتين، بأن قال: هما صبح وظهر، أو ظهر وعصر، أو صبح ومغرب، أو ما أشبه ذلك.. فهو كما لو نسي صلاتين من صلوات يوم وليلة على ما مضى.
وإن كانتا متفقتين، بأن قال: هما صبحان، أو ظهران، أو عصران، أو مغربان، أو عشاءان.. لزمه أن يصلي عشر صلوات. وفي التيمم وجهان:
[أحدهما] : ـ على قول الخضري ـ: يتيمم لكل صلاة من العشر.
و [الثاني] : ـ على قول الأكثرين من أصحابنا ـ: يصلي صلوات يوم وليلة بتيمم، وصلوات يوم وليلة بتيمم.
فإن شك: هل هما متفقان، أو مختلفان.. لزمه أن يأخذ بالأشد، وهو: أنهما متفقان؛ لأنه أغلظ.

[فرع: صلوات الجنائز والنوافل بتيمم]
وإن أراد أن يصلي على جنائز صلوات بتيمم واحدٍ، فإن لم يتعين عليه.. جاز؛ لأنها كالنافلة في حقه، بدليل: أنه يجوز له تركها.
وإن تعينت عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها إذا تعينت عليه.. صارت كفرائض الأعيان.

(1/319)


والثاني: يجوز، وهو المنصوص؛ لأنها لو كانت كفرائض الأعيان.. لم يكن له أن يصلي بتيمم على جنائز وإن لم تتعين عليه؛ لأنها بالفعل تتعين وتقع فريضة. هكذا ذكر ابن الصباغ.
ويجوز له أن يصلي بتيمم ما شاء من النوافل؛ لأن أمرها أخف؛ بدليل: أنه يجوز له تركها، ويجوز ترك القيام فيها مع القدرة عليه، بخلاف الفرائض.

[مسألة: تيمم ثم أحدث]
إذا تيمم عن الحدث الأصغر.. استباح به ما كان يستبيحه بالوضوء. فإن أحدث.. مُنع مما كان يمنع منه قبل التيمم، كالمتوضئ إذا أحدث.
وإن تيمم الجنب.. استباح الصلاة وقراءة القرآن، وجميع ما يستبيحه بالغسل.
فإن أحدث الحدث الأصغر.. لم يجز له أن يصلي، ولا يمس المصحف، وجاز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد، كما لو اغتسل ثم أحدث.
فإن قيل: هلا قلتم لا يجوز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد؛ لأن الحدث أبطل التيمم، فإذا بطل التيمم، عاد حكم الجنابة؟.
قلنا: التيمم هاهنا نائب عن الغسل، والحدث لا يبطل الغسل، فلا يبطل ما ناب عنه.

[مسألة: رأى الماء بعد تيمم وقبل الصلاة]
إذا تيمم لعدم الماء، ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة.. بطل تيممه، خلافًا لأبي سلمة بن عبد الرحمن.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء، ولو عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . ولأن التيمم لا يراد لنفسه، وإنما يراد لاستباحة الصلاة. فإذا قدر على الأصل قبل الشروع في المقصود منه.. لزمه العود إليه، كالحاكم إذا اجتهد، فتغير اجتهاده قبل تنفيذ الحكم.

(1/320)


وإن عدم الماء في الحضر.. تيمم وصلى، وبه قال أبو يوسف، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة.
وقال زفر: لا يصلي. وروي ذلك عن أبي حنيفة، وهو قول مخرج لنا، قد مضى.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء» . ولم يفرق بين السفر والحضر.
فإذا وجد الماء بعد ذلك.. لزمه أن يعيد الصلاة.
وقال مالك: (لا إعادة عليه) . وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\33] : أنه أحد قولي الشافعي.
والأول أصح؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل، فلم يسقط عنه فرض الإعادة، كما لو صلى بنجاسة نسيها.
فقولنا: (نادر) احتراز من عدم الماء في السفر.
وقولنا: (غير متصل) احتراز من الاستحاضة، ومن سلس البول؛ لأن الأعذار على ثلاثة أضرب:
[الأول] : عذر معتاد: وهو السفر، والمرض.
و [الثاني] : عذر نادر متصل: وهو الاستحاضة، وسلس البول.. فهذان العذران يسقط معهما فرض الإعادة.
و [الثالث] : عذر نادر منقطع: وهو عدم الماء في الحضر، وخوف البرد في الحضر، ومثل أن يحبس في موضع لا يمكنه فيه القيام.. فيصلي قاعدًا. أو يجبر على الصلاة قاعدًا، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يسقط معه فرض إعادة الصلاة.

[فرع: وجد المسافر الماء بعد صلاته بتيمم]
وإن تيمم في السفر لعدم الماء وصلى، ثم وجد الماء، فإن كان السفر طويلاً.. لم يجب عليه إعادة الصلاة.

(1/321)


وبه قال عامة العلماء، إلا ما حكي عن طاووس، فإنه قال: عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة.
دليلنا: ما روي: «أن رجلين كانا في سفر، فعدما الماء، فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه بذلك، فقال للذي لم يعد: "أصبت السُنَّة"، وقال للذي أعاد: "لك أجران» .
ولأن عدم الماء في السفر عذر عام، فهو كما لو صلى مع سلس البول.
وإن كان السفر قصيرًا.. فهل يلزمه الإعادة؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه الإعادة؛ لأنه سفر لا يجوز له فيه القصر والفطر، فهو كالحضر.
والثاني: ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأنه موضع يعدم فيه الماء غالبًا، فهو كالسفر الطويل.
وقال الشيخ أبو حامد: وإذا خرج الرجل إلى ضيعته وبستانه، فعدم الماء.. كان له أن يتيمم، وينتفل على الراحلة، ويأكل الميتة إذا اضطر إليها.
فعلى مقتضى ما قاله: يكون سفرًا قصيرًا، وفي إعادة ما صلى فيه بالتيمم القولان.

[فرع: التيمم في سفر المعصية]
وإن كان في سفر معصية فعدم الماء.. فهل يستبيح الصلاة بالتيمم؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه في " الفروع " ـ: أنه لا يستبيحها، ولكن يقال له: تب

(1/322)


واستبح الصلاة بالتيمم، كما يقال له: تب وكل الميتة، إن كنت مضطرًا إليها.
والثاني: يستبيحها، وهو المشهور؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] ولم يفرق.
فعلى هذا: هل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تختص بالسفر، فلم يستبح ذلك في سفر المعصية، كالفطر والقصر.
والثاني: لا يلزمه الإعادة، لأنه صلى صلاة صحيحة بتيمم في سفر، فلم يلزمه الإعادة، كما لو كان السفر مباحًا.

[فرع: تيمم لفقد الماء فجاء ركبٌ]
ٌ] : قال في " الأم " [1/41] : (فإن تيمم، فلم يدخل في الصلاة، حتى طلع عليه ركبٌ.. لزمه أن يسألهم عن الماء، سواء علم أن معهم ماء أو لم يعلم، فإن كان معهم ماء، فلم يبذلوه له، أو وجد ماء فحيل بينه وبين الماء.. بطل تيممه الأول) .
قال في " الأم " [1/41] : (ولو ركب البحر، ولم يكن معه ماء في مركبه، ولم يقدر على استعمال ماء البحر لشدة.. تيمم وصلى، ولا إعادة عليه؛ لأنه غير قادر على الماء) .

(1/323)


[فرع: إعادة طلب الماء إذا تيمم وثم حائل]
] : ذكر في " العدة ": ولو تيمم لعدم الماء، ثم رأى الماء ودونه سبع، فإن رآهما معًا، أو عرف مكان السبع أولاً، ثم رأى الماء.. فتيممه باقٍ.
وإن رأى الماء، ثم عرف أنه محول دونه.. أعاد الطلب والتيمم؛ لأن الطلب والمصير إليه قد لزمه.
وكذلك لو رأى ماء في قعر بئر، وليس معه رشاء ولا دلو، فإن علم مكان الماء، وهو عالم بأنه لا آلة معه ذاكرٌ لذلك.. لم يبطل تيممه.
وإن رأى الماء وعنده أن معه آلة النزح، فلا طلب، أو تأمل [و] لم يجد.. أعاد التيمم.
قال في " المذهب ": وإن تيمم، ثم وجد الماء وهو محتاج إليه لعطشه، أو لبهائمه.. لم يبطل تيممه؛ لأنه لو كان موجودًا معه.. لم يلزمه استعماله.

[فرع: إراقة ما معه من الماء]
وإن كان معه ماء فأراقه، وتيمم وصلى، فإن أراقه قبل دخول الوقت.. لم يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؛ لأنه أراقه قبل توجه فرض الطهارة عليه.
وإن أراقه بعد دخول الوقت.. فهل تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لأنه فرط في إتلاف الماء، وترك الطهارة به مع القدرة عليها.
والثاني: لا يجب عليه الإعادة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه بعد الإراقة عادم للماء إن كان قد عصى بالإراقة.. فهو كمن قطع رجله، فإنه يعصي بذلك، وإذا صلى جالسًا ... أجزأه.

(1/324)


[فرع: رأى الماء أثناء الصلاة]
وإن تيمم لعدم الماء، ودخل في الصلاة، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة، فإن كان ذلك في الحضر، أو في سفر قصير وقلنا: يلزمه الإعادة.. بطلت صلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة.
وإن كان سفرٍ طويلٍ، أو في سفر قصير وقلنا: لا تلزمه الإعادة.. لم تبطل صلاته. وبه قال مالك، وداود.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وأبو العباس ابن سريج: (تبطل صلاته) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (لا تبطل صلاة الجنازة والعيدين، ولا تبطل أيضًا الصلاة برؤية سؤر البغل والحمار) .
وقال الأوزاعي: (تصير نفلاً) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته، فينفخ بين أليتيه، ويقول: أحدثت، أحدثت.. فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» .

(1/325)


فمن قال: ينصرف إذا رأى الماء.. خالف ظاهر الخبر. ولأنه دخل في صلاة معتد بها، فلم تبطل برؤية الماء، كصلاة الجنازة والعيد.
فقولنا: (معتد بها) احترازًا منه إذا رأى الماء في صلاة الحضر.
إذا ثبت هذا: فهل له الخروج منها؟
من أصحابنا من قال: الأفضل له أن يخرج منها؛ لأن الشافعي قال في (الكفارات) : (إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم.. الأفضل أن يرجع إلى العتق) . ولأنه يخرج بذلك من الخلاف.
ومنهم من قال: لا يجوز له الخروج منها؛ لأنها صلاة فريضة صحيحة، فلا ينصرف عنها.
والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحب لمن دخل في الصلاة منفردًا، ثم رأى الجماعة يصلون ... أن يخرج منها؛ ليصلي مع الجماعة. والخروج إلى الطهارة أولى.

[فرع: تيمم ورعف في الفرض]
قال في " الأم " [1/41] : (وإن تيمم، فدخل في المكتوبة، ثم رعف.. انصرف، فإن وجد الماء.. لزمه أن يغسل الدم ويتوضأ. وإن لم يجد من الماء إلا ما يغسل به الدم عنه.. غسله واستأنف تيممًا؛ لأنه لما لزمه طلب الماء.. بطل تيممه) .
وإن صلى متيمم بمتوضئين، ومتيممين، فرأى المتوضئ الماء في أثناء الصلاة.. لم تبطل صلاته؛ لأن رؤية المأموم المتوضئ للماء ليست برؤية للإمام المتيمم، فلم تبطل به صلاة المتوضئ، كما لو كان منفردًا.

(1/326)


[فرع: صلى بتيمم فرأى الماء ونوى الإقامة]
وإن دخل المسافر في الصلاة المفروضة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها، ثم نوى الإقامة بعد ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أن تيممه يبطل، وتبطل صلاته؛ لأنه صحيح مقيمٌ واجد للماء، فبطلت صلاته، كما لو عدم الماء في الحضر، فتيمم وصلى، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة.
والثاني ـ حكاه في " العدة " ـ: لا تبطل صلاته؛ لأنه افتتحها مع عدم الماء، فكان مأذونًا فيه، فوجود الماء لا يؤثر في إبطال الصلاة، وجواز التيمم يفترق في الحضر والسفر، وإنما يختلفان في الإعادة.
وأما إذا نوى الإقامة دون رؤية الماء.. لم تبطل صلاته.
وقال القفال: إن كان في موضع لا يوجد فيه الماء غالبًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان في بلد أو قرية.. بطلت صلاته.
فإذا قلنا: لا تبطل صلاته.. فهل يلزمه الإعادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تلزمه؛ لأنه يصير في حكم المتيمم للصلاة حال الإقامة لعدم الماء، فلزمته الإعادة.
والثاني: لا تلزمه الإعادة، وهو قول ابن الصباغ؛ لأن الاعتبار في التيمم بالموضع الذي يوجد فيه الماء نادرًا أو معتادًا، وهذا لا يقف على النية.

(1/327)


[فرع: رأى الماء حال صلاته بتيمم]
وإن دخل في الفريضة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة، فلم يفرغ من الصلاة حتى فني الماء.. فهل يجوز له أن يتنفل بذلك التيمم؟ فيه طرق:
أحدها ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يجوز له؛ لأنه إذا رأى الماء، لم يكن له استفتاح الصلاة، كما لو رآه قبل الدخول.
والثاني: ـ وإليه أشار ابن الصباغ ـ: أنه يجوز له التنفل؛ لأن هذا الماء لم يلزمه استعماله لهذه الصلاة، ولا قدر على استعماله، فلم يبطل تيممه.
قال: ويلزم من قال: لا يصلي النافلة بالتيمم، أن يقول: إذا مر عليه ركب، وهو في الصلاة، ففرغ منها، وقد ذهب الركب.. لا يجوز له أن يصلي النافلة.
والثالث ـ حكاه أبو علي السنجي ـ: إن لم يعلم بتلفه قبل الفراغ.. لم يتنفل به، وإن علم بتلفه قبل الفراغ فوجهان.

[فرع: رؤية الماء أثناء النافلة]
وإن دخل في صلاة نافلة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها.. ففيه خمسة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المشهور ـ: إن كان قد نوى عددًا.. أتمه كالفريضة، وإن لم ينو عددًا.. سلم من ركعتين، ولم يزد عليهما؛ لأن هذا هو الشرع في النافلة.
والثاني: ـ وهو قول أبي علي السنجي، وأبي زيد المروزي ـ: أنه لا يزيد على ركعتين، وإن نوى أكثر منهما.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه يقتصر على ما صلى منها؛ لأن ما مضى من النافلة يثاب عليه، والفريضة لا يثاب عليها إلا بإكمالها.

(1/328)


والرابع ـ وهو قول القفال ـ: أنه يزيد ما يشاء من عدد الركعات بعد رؤية الماء؛ لأنه قد صح دخوله فيها.
والخامس ـ وهو قول صاحب " الفروع " و" المذهب " ـ: إن نوى عددًا.. أتمه، وإن لم ينو.. بنى على القولين فيمن نذر صلاة: فإن قلنا: يلزمه ركعتان.. صلى ركعتين، وإن قلنا: يلزمه ركعة.. لم يزد عليها.

[فرع: لا يلزم المتيمم المريض إعادة صلاته]
وإن تيمم للمرض، وصلى.. لم تلزمه الإعادة؛ لأنا قد قلنا: إنه من الأعذار العامة، فهو كمن يصلي مع سلس البول.
وإن خاف من استعمال الماء في البرد تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يكون منه ذلك، فإن كان في موضع يمكنه تسخين الماء، وأمكنه أن يغسل من بدنه عضوًا ويدثره حتى يأتي على الكل.. لم يجز له التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء.
وإن لم يمكنه ذلك، بأن لم يجد ما يسخنه به، أو كانت الرفقة سائرة، أو كان الماء في موضع لا يمكنه الانغماس فيه.. جاز له التيمم؛ لحديث عمرو بن العاص.
وهل يلزمه الإعادة؟
إن كان ذلك في الحضر.. لزمته الإعادة قولاً واحدًا؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كما لو صلى بنجاسة نسيها.
وإن كان ذلك في السفر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تلزمه الإعادة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة.
والثاني: تلزمه الإعادة؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء في الحضر، وأما الخبر: فيجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ويجوز أنه لم يأمره بذلك؛ لعلمه أن عمرًا يعلم ذلك.

(1/329)


[مسألة: حكم الجبيرة على عضو التيمم]
قال الشافعي: (ولو ألصق على موضع التيمم لصوقًا.. نزع اللصوق وأعاد) .
واختلف أصحابنا في مراد الشافعي بذلك:
فمنهم من قال: أراد إذا كان على موضع التيمم قرح أو جرح، فألصق عليه الدواء بخرق أو غيرها، ولا يخاف الضرر من نزعها.. فإنه يلزمه نزع اللصوق، وغسل الصحيح الذي تحتها، والتيمم في موضع القرح، فيصلي ولا يعيد الصلاة.
ومعنى قول الشافعي: (وأعاد) يرجع إلى اللصوق، أي: إذا نزع اللصوق، وغسل الصحيح.. تيمم، وأعاد اللصوق على موضعها.
ومنهم من قال: بل يراد أن يكون القرح على موضع التيمم، وعليه اللصوق، ويخاف من نزعه الضرر.. فإنه يمسح عليه. فإذا نزع اللصوق.. تيمم على القرح، وأعاد الصلاة؛ لأن التيمم لا يجزئ على حائل دون العضو.
وقوله: (أعاد) يرجع إلى الصلاة.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح.
وقال ابن الصباغ: أي المسألتين أراد.. فالحكم على ما ذكرناه.

[مسألة: حكم الجبيرة]
مسألة أخرى: [حكم الجبيرة] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعدو بالجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلا على وضوء) .

(1/330)


وجملة ذلك: أن (الجبائر) هي الخشب التي توضع على الكسر.
وقوله: (لا يعدو موضع الكسر) يريد: لا يتجاوز. وليس هذا على ظاهره؛ لأن الكسر لا توضع عليه الجبائر خاصة، بل لا بد أن يضعها على شيء من الصحيح معه للحاجة إليه. أراد: أي: أن لا يضع على شيء من الصحيح لا حاجة به إليه.
فإذا وضع الجبيرة، ثم أراد الغسل أو الوضوء، فإن كان لا يخاف من نزعها ضررًا.. نزعها وغسل ما يقدر عليه من ذلك، وتيمم عما لا يقدر عليه.
وإن خاف من نزعها تلف النفس، أو تلف عضو، أو إبطاء البرء أو الزيادة في الألم إذا قلنا: إنه كخوف التلف.. لم يلزمه حلها، ولزمه غسل ما جاوز موضع الشد، والمسح على الجبيرة.
والأصل فيه: ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: (انكسر زندي، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرني أن أمسح على الجبائر» .
وهل يلزمه أن يمسح جميعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسح الجميع؛ لأنه لا ضرر عليه في استيعاب مسحها، فلزمه كالتيمم.
والثاني: يجزئه ما يقع عليه اسم المسح؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف.
وهل يتقدر المسح؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\35] :

(1/331)


أحدهما: أنه يتقدر؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف.
والثاني: لا يتقدر، بل يمسح عليه إلى أن يبرأ، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو الصحيح؛ لأن الحاجة تدعو إلى استدامة اللبس والمسح إلى البرء، بخلاف الخفين، فإنه إذا استدام لبسهما.. تشوشت لفائفه وحميت رجلاه، فكان به حاجة إلى نزعهما.
وواضع الجبيرة ما لم ينجبر.. حاجته باقية إلى اللبس، ويجوز لواضع الجبيرة المسح عليها مع الجنابة، بخلاف لابس الخف؛ لما ذكرناه من الفرق.
وهل يجب عليه أن يتيمم مع المسح؟ ذكر أصحابنا البغداديون فيها قولين:
[الأول] قال في القديم: (لا يتيمم؛ لأنه لا يجب عليه بدلان من مبدل، كما لا يلزم ماسح الخف) .
و [الثاني] قال في الجديد: (يتيمم؛ «لحديث جابر في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويغسل سائر بدنه» .
ولأن واضع الجبيرة أخذ شبهًا من الجريح؛ لأنه يخاف الضرر من غسل العضو، كما يخافه الجريح، وأخذ شبهًا من لابس الخف؛ لأن المشقة تلحقة في نزع الجبيرة، كلابس الخف، فلما أشبههما.. وجب عليه أن يجمع بين حكميهما، وهما المسح والتيمم.
وأما صاحب " الإبانة " فقال [في ق\35] : هل يلزمه التيمم؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه.
والثاني: لا يلزمه.

(1/332)


والثالث: إن كان تحت الجبيرة جراحة. لزمه، وإن لم يكن تحتها جراحه.. لم يلزمه.
فإن برئ الموضع.. لزمه حل الجبيرة، وغسل الموضع.
وإن سقطت عنه الجبيرة في الصلاة.. بطلت الصلاة في مدة المسح، كالخف إذا سقط عنه في الصلاة في مدة المسح.
وهل يلزمه إعادة ما صلى بالمسح؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وضع الجبيرة على طهر.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو الأشبه بالسنة ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر علينا بالإعادة.
والثاني: عليه الإعادة. قال أصحابنا: وهو الأحوط؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء الحضر.
وأما حديث علي: فلا يصححه أهل النقل.
وإن كان قد وضعها على غير طهر.. مسح عليها، وصلى، وأعاد قولاً واحدًا، كما لو لبس الخف على غير طهارة.

(1/333)


قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: في الإعادة قولان، وليس بشيء.
قال ابن الصباغ: وهكذا الحكم فيه إذا كان على جرحه عصابة يخاف من نزعها.
وإن كانت الجبيرة على موضع التيمم.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: يكفيه المسح بالماء.. أجزأه. وإن قلنا: يحتاج إلى التيمم.. فإنه يمسح بالماء ويتيمم، ويمسح بالتراب على الجبيرة وتلزمه الإعادة قولاً واحدًا؛ لأن الجبائر لا يجزئ مسحها في التيمم؛ لأن البدل لا يكون على بدل.
وأما تجديد الطهارة لكل صلاة: فإن قلنا: لا يتيمم.. كفته طهارة من الحدث إلى الحدث. وإن قلنا: يتيمم.. احتاج إلى الطهارة عند كل صلاة مفروضة، ولا يجوز أن يجمع بين فرضين بتيمم.
وبالله التوفيق

(1/334)