البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب استقبال القبلة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز لأحد: أن يصلي فريضة، ولا نافلة، ولا سجود قرآن، ولا جنازة، إلا متوجها إلى البيت الحرام) .
وجملة ذلك: أن القبلة كانت في أول الإسلام إلى بيت المقدس، وقد استقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدة إقامته بمكة قبل الهجرة، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يوجه إلى الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه: إبراهيم وإسماعيل، وبيت المقدس: قبلة اليهود. وكان من شدة حبه لذلك يصلي من ناحية الصفا؛ ليستقبل الكعبة وبيت المقدس. فلما تحول إلى المدينة. . . تعذر عليه استقبالهما؛ لأن من استقبل بيت المقدس بها. . استدبر الكعبة، فأقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالمدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، يسأل الله: أن يحول قبلته إلى الكعبة، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبره: أنه يحب استقبال الكعبة، فعرج جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره، ويقلب طرفه نحو السماء، ينتظر نزول الوحي بذلك، فنزل عليه قَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] .
و (المسجد الحرام) هاهنا: الكعبة، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] [المائدة: 97] يعني: مقاما لهم، ولصلاتهم.

(2/133)


وقال الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] [الحج: 26] يعني: المصلين.
ومعنى قوله: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أي نحوه: وتلقاءه.
قال الشاعر:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي: نحو عمرو.
إذا ثبت هذا: فهل استقبال القبلة ركن في الصلاة، أو شرط فيها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 62] : الظاهر: أنها شرط.
فإن كان بحضرة البيت. . لزمه التوجه إليه؛ لما روى أسامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، فلم يصل فيها، ثم خرج وصلى إليها ركعتين، وقال: هذه القبلة» .
فإن استقبل القبلة ببعض وجهه. . ففيه وجهان حكاهما المسعودي.

(2/134)


[في" الإبانة " ق\61\أ] ، بناء على القولين في الطائف، إذا استقبل الحجر ببعض بدنه.
وإن دخل الكعبة، وصلى فيها. . صحت الصلاة، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلًا.
وقال ابن جرير: لا يصح فيها فرض ولا نفل.
وقال مالك: (يصح فيها النفل دون الفرض) .
دليلنا، - على ابن جرير - ما روى بلال: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، وصلى فيها ركعتين» .
وعلى مالك: أنه متوجه إلى جزء من البيت، فجازت فيه صلاة الفرض، كما لو كان خارج البيت.
إذا ثبت هذا: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف

(2/135)


صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» .
فسألت الشيخ الشريف محمد بن أحمد العثماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما المراد بالمسجد الحرام بهذا الخبر؟ فقال: المراد به: الكعبة، والمسجد حولها، وسائر بقاع الحرم لأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] ومعلوم: أنه أسري به من بيت خديجة، وكل موضع أطلق: المسجد الحرام. . فالمراد به: جميع الحرم.
والذي تبين لي أن المراد بهذا الخبر: الكعبة، وما في الحجر من البيت، وهو ظاهر كلام صاحب " المهذب "؛ لأنه قال: الأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت؛ لأنه يكثر فيه الجمع، والأفضل أن يصلي النفل في البيت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» .
ومن الدليل على ما ذكرته، ما وري: أن عائشة قالت: «يا رسول الله، إن نذرت أن أصلي في البيت، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلي في الحجر، فإنه من البيت» .
فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم يساوي الكعبة بذلك. . لم يكن لتخصيصها البيت بالنذر معنى، ولأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصلي في سائر بقاع الحرم.
ولا فرق بين أن يقول: عليه لله أن يصلي في المسجد الحرام، أو في البيت الحرام.
إذا ثبت أن: البيت الحرام: إنما هو الكعبة، فكذلك المسجد الحرام.

(2/136)


وأما الآية: فإنما سمي بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالمسجد الحرام، على سبيل المجاورة.
وإذا صلى في البيت. نظرت.
فإن استقبل شيئا من جدرانه، أو أساطينه. . صح؛ لأنه متوجه إلى جزء منه.
وإن صلى إلى باب البيت، فإن كان مردودا إلى خارج. . صح؛ لأن الباب من البيت.
وإن كان الباب مفتوحا. . . قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، فإن كان للباب عتبة شاخصة وإن قلت. . . صحت صلاته؛ لأنه متوجه إلى جزء من البيت.
وإن لم يكن له عتبة شاخصة. . . لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتوجه إلى جزء من البيت.

[مسألة الصلاة فوق الكعبة]
وإن صلى على ظهر الكعبة، فإن لم يكن بين يديه سترة متصلة بالبيت. . لم تصح صلاته.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: ما روي عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة فذكر فيها: فوق بيت الله العتيق» .
ولأنه صلى عليها، ولم يصل إليها من غير عذر، فأشبه إذا نزل واستدبرها.
فقولنا: (من غير عذر) احتراز من صلاة الخوف، ومن صلاة النفل في السفر.

(2/137)


وإن كان بين يديه سترة غير متصلة بالبيت، كالأحجار التي ليست بمبنية. . لم تصح صلاته؛ لأنها ليست من جملة البيت.
وإن كانت مبنية عليه، أو مسمرة. . صحت صلاته؛ لأنها صارت من البيت.
وإن كانت فيه عصا مغروزة. . ففيه وجهان:
أحدهما: يصح استقبالها؛ لأن المغروز من البيت، ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة في بيع البيت.
والثاني: لا يصح؛ لأنها غير متصلة بالبيت.
وإن نبتت شجرة في البيت، وعلت على ظهره، فاستقبلها على ظهره. فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
وهل يعتبر أن تكون السترة فوق ظهر الكعبة مقدرة؟
فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
أحدهما: أنه يعتبر أن تكون بقدر قامة المصلي ليكون مستقبلا لها بجميع بدنه.
والثاني: - وهو قول القفال -: يكفيه أن تكون بقدر مؤخرة الرحل، وإن كان دونها. . لم يصح.
وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن عتبة الباب إذا كانت شاخصة وإن قلت. . . صح استقبالها ولا فرق بين الجميع.
وإن هدمت الكعبة - وأسال الله الكفاية -وبقت عرصة، لا بناء فيها، فإن خرج عن العرصة، وصلى إليها. . جاز، وإن وقف في العرصة، وصلى إلى ما بين يديه منها. . ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يصح؛ لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت، فهو كما لو خرج من العرصة، وصلى إليها.

(2/138)


و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يصح. وهو المنصوص، كما لو صلى على سطحه، ولا سترة قدامه.

[مسألة صلاة من ليس بحضرة البيت]
] . ومن لم يكن بحضرة البيت. . ينقسم على أربعة أضرب:
ضرب: يتيقن إصابة الكعبة وإن لم يكن مشاهدا لها، كمن نشأ بمكة. . . فإنه يعلم - بجري العادة - القبلة، ويتيقنها وإن غاب عنها في بيته. وكذا من صلى إلى محراب مسجد المدينة، أو إلى محراب مسجد صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يقر على الخطأ.
وضرب: يرجع إلى إخبار غيره، فإن أخبره غيره عن علم، بأن يكون على رأس جبل، ويشاهد الكعبة منه. . . فيلزمه قبول خبره ولا يجتهُد؛ لأن الخبر مقدم على الاجتهاد.
قال الشافعي رحمة الله: (وكذلك، إذا ورد رجل على مياه قوم، فأخبروه: بأن القبلة في هذه الجهة. . . رجع إلى قولهم وإخبارهم) .
فإن أخبره صبي عن القبلة. . فحكى الخضري عن الشافعي: (أنه لا يقبل) . وحكى الشيخ أبو زيد: (أنه يقبل) .
فمن أصحابنا من قال: هي على حالين: فحيث قال: (لا يقبل) إذا كان عن اجتهاد. وحيث قال: (يقبل) . . . إذا كان عن مشاهدة.
وقال القفال: في قبول إخباره بذلك، وبالخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجهان.
وأما دلالة المشرك على القبلة: فلا تقبل، وإنما تقبل في الإذن في دخول الدار، وفي قبول الهدية؛ لأن ذلك يقبل من الصبي، فكذلك من الكافر.
وقال القاضي أبو الطيب: وكذلك الفاسق عندي يقبل في هذين؛ لأنه أحسن حالا من الكافر.
والضرب الثالث: من يرجع إلى اجتهاد غيره، وهم العميان، ومن لا بصيرة له ويأتي ذكرهم.

(2/139)


والضرب الرابع: من يرجع إلى استدلاله واجتهاده، وهو إذا لم يتيقن القبلة، ولم يجد من يخبره، وهو ممن يعرف دلائل القبلة. . . فينظر فيه: فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي، كالجبل. . جاز له الاجتهاد، والاستدلال على القبلة بالشمس، والقمر، والنجوم والرياح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] [النحل: 16] .
ولا يلزمه صعود الجبل؛ لأن في تكليف ذلك مشقة. ولأنا لو ألزمناه ذلك. . للزم من كان بينه وبين الكعبة ميل أو ميلان: أن يمضي إليها ويشاهدها، ولو ألزمناه ذلك. . لم ينفصل عمن بينه وبين [الكعبة] مسيرة يوم أو أكثر: أن يمضي إليها، فسقط ذلك عن الجميع.
وإن كان بينه وبين الكعبة حائل طارئ، كالبناء. . . ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز له الاجتهاد - ولم يذكر في " التعليق " و" المجموع " غيره - لأن الاجتهاد كان لا يجوز في هذا الموضع قبل حدوث البناء، فلم يتغير الحكم بحدوثه.
والثاني: يجوز. قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنه لا يرى البيت، فهو كما لو كان الحائل أصليا.
وإذا ثبت هذا: ففي فرض المجتهد قولان:
أحدهما: (أن فرضه إصابة الجهة دون العين) وهو قول أبي حنيفة.
وروي عنه: أن قال (قبلة العراق ما بين مطلع الشمس ومغربها) .
لأنه لو كان الفرض هو إصابة العين. . . لما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم من يخرج عن العين.

(2/140)


والثاني: (أن الفرض هو إصابة العين) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] ولم يفرق.
ولأن من لزمه فرض القبلة.. لزمه إصابة العين، كالمشاهد للكعبة.
وأما صلاة أهل الصف: فإنما صحت؛ لأن مع البعد يتسع الصف المحاذي، ألا ترى أن الناس إذا صلوا ملاصقين للكعبة. . فإن المستقبل لها عدد يسير، فإذا بعدوا، فصلوا في آخر المسجد. . . استقبلها أكثر؟ وكذلك النقطة إذا دور حولها دائرة. . . كانت صغيرة؛ لقربها من النقطة، فإذا زاد خلف الأولى دائرة ثانية. . . كانت أكبر من الأولى؛ لبعدها من النقطة، وجميع الدائرة في الحالتين مستقبل للنقطة؟

[فرع المجتهدان في القبلة]
وإن اجتهد رجلان في القبلة. . . نظرت: فإن أداهما اجتهادهما: أن القبلة في جهة واحدة. . . استحب لهما: أن يصلي أحدهما بالآخر؛ لأن صلاة الجماعة مندوب إليها.
وإن اختلف اجتهادهما، فأدى اجتهاد أحدهما: أن القبلة في غير الجهة التي أدى اجتهاد الآخر إليها. . صلى كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، ولا يأتم أحدهما بالآخر.
وقال أبو ثور: (يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر، ويصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، كمن يصلي حول الكعبة. . فإنه يجوز لمن يصلي إلى جهة منها: أن يأتم بمن يصلي إلى الجهة الأخرى.
دليلنا: أن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه وبطلان صلاته، فلا يجوز أن يعلق صلاته بصلاة باطلة، بخلاف من يصلي إلى جهتي الكعبة. . فإن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة صاحبه.

(2/141)


[فرع الاجتهاد في القبلة لصلاتين أو صلى شاكا]
] . وإن صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولم يتغير اجتهاده الأول. . فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه أن يعيد الاجتهاد، بل يصلي إلى الجهة الأولى؛ لأنه قد عرف القبلة بالاجتهاد الأول.
والثاني: يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية، كما لو حكم الحاكم بقضية بحكم، ثم حضرت مرة أخرى. . . فإنه يعيد الاجتهاد لها ثانيًا.
فإن أداه اجتهاده: إلى الجهة الأولى. . . صلى إليها، ولا كلام.
وإن أداه اجتهاده: أن القبلة في غير تلك الجهة. . صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الإعادة؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الخضري.
أحدهما - وهو المذهب -: أن لا يلزمه إعادة واحدة منهما؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله. ولأنه لا يؤمن أن يؤديه الاجتهاد إلى القبلة في جهة ثالثة ورابعة، أو أن القبلة في الجهة الأولى.
والثاني: يلزمه أن يعيد الصلاتين؛ لأنه يتيقن أنه صلى إحداهما إلى غير القبلة فلزمه إعادتهما، كمن نسي صلاة من صلاتين، لا يعرف عينها منهما.
والثالث أنه يعيد الأولى؛ لأن الاجتهاد الثاني هو المعول عليه في هذه الحالة، والأول هو المشهور.
وإن اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة، فصلى إلى غيرها، ثم بان أنها القبلة. . لم تصح صلاته. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: تصح.
دليلنا: أنه ترك التوجه إلى ما أداه إليه اجتهاده، وصلى إلى ما ليس بقبله عنده،

(2/142)


فلم يصح بالتبين، كما لو استفتح الصلاة وهو يشك: أنه توضأ، أم لا؟ ثم بان أنه كان متوضئًا.

[فرع التيقن بعد الاجتهاد أو كان له اجتهادان]
إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه صلى إلى غير جهة القبلة. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان.
أحدهما: لا تلزمه الإعادة. وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأراد: حكم الخطأ.
وروى جابر قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، وكنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نبصر معها القبلة، فقالت طائفة منها: قد عرفنا القبلة: قبل الشمال، وصلوا إليها، وخطوا خطا. وقال بعضهم: هكذا القبلة: نحو الجنوب، وصلوا إليها، وخطوا خطا. فلما أصبحنا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من السفر. . . سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسكت، ولم يقل شيئا، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » [البقرة: 115] .
وفي بعض الروايات: قال لهم: " قد أجزأتكم صلاتكم ".

(2/143)


ولأنها جهة مأمور بالصلاة إليها، فسقط الفرض بالصلاة إليها، كما لو صلى إلى غير جهة القبلة في شدة الخوف.
والقول الثاني: تلزمه الإعادة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] [البقرة: 150] .
ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فوجب أن لا يعتد بما فعله، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه.
فقولنا: (تعين له) احتراز منه إذا صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين. . فإنه تيقن الخطأ في إحداهما، ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يتعين الخطأ في إحداهما.
وقولنا: (يقين الخطأ) احتراز منه إذا صلى إلى جهة، ثم أداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة أخرى. . فإنه قد تعين له الخطأ، ولا تلزمه الإعادة؛ لأنه لم يتيقن ذلك، وإنما ذلك من طريق الاجتهاد.
وقولنا: (فيما يؤمن مثله في القضاء) احتراز من الأكل في الصوم ناسيا، ومن الوقوف بعرفة يوم الثامن، أو يوم العاشر، على وجه الخطأ؛ لأنه لا يؤمن مثله - في القضاء - الخطأ.
وأما حديث جابر: فلا حجة فيه؛ لأن القوم كانوا صلوا تطوعا، هكذا روي عن ابن عمر: أنه قال: (نزلت هذه الآية في التطوع) .
ولنا مثل هذه المسألة مسائل على قولين.
منها: إذا صلى، ثم بان أنه كان في ثوبه نجاسة لم يعلم بها حتى فرغ منها.
ومنها: إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس، فأعتقت في أثناء الصلاة، وبقربها سترة، ولم تعلم بالعتق أو بالسترة إلا بعد الفراغ من الصلاة.
ومنها: إذا ترك فاتحة الكتاب ناسيا. . هل تلزمه الإعادة؟ على قولين.
ومنها: إذا دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني. . فهل يلزمه الضمان؟ قولان.

(2/144)


ومنها: إذا صام الأسير شهرًا بالاجتهاد، ثم بان بعد رمضان أنه صام شعبان. . . هل يجزئه؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون في موضع القولين في القبلة.
فمنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ مع يقين الصواب، فأما إذا بان له يقين الخطأ دون يقين الصواب: فلا يعيد، قولا واحدًا.
ومنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ، دون يقين الصواب، فأما إذا بان له اليقينان معا: فيعيد قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو قول الشيخ أبي حامد.
وإن بان له يقين الخطأ، وهو في أثناء الصلاة. . نظرت.
فإن كان ذلك في جهتين، مثل: أن كان قد استفتح الصلاة إلى جهة الغرب، فبان أن القبلة في الشرق. . . بنى ذلك على القولين - فيمن بان له اليقين بعد الفراغ من الصلاة -.
فإن قلنا: يعيد بعد الفراغ.. استأنف هاهنا الصلاة.
وإن قلنا - هناك -: لا يعيد. . فهاهنا وجهان:
أحدهما: ينحرف إلى الجهة الثانية، ويبني على صلاته؛ لأن ما فعله قد صح.
والثاني: يلزمه أن يستأنف الصلاة؛ لأن الصلاة بعد الفراغ منها كالقضية المبرمة وقبل الفراغ منها كغير المبرمة.
قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان حين بان له الخطأ، بانت له جهة القبلة لوقته. . تحول إليها، وهل يبني، أو يستأنف؟ على ما مضى.
وإن لم يتبين له جهة القبلة، بل يحتاج إلى اجتهاد. . . بطلت صلاته؛ لأنه لا يستديم الصلاة إلى غير القبلة.

(2/145)


وإن كان ذلك في جهة واحدة - مثل: أن كان قد صلى إلى جهة الغرب بالاجتهاد، ثم بان له بعد ذلك أن الكعبة في غير السمت الذي صلى إليه، وإنما هي في غيره في تلك الجهة:
قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي يذهب إلى: أنه لا يتيقن أحد بالاجتهاد عين الكعبة في بعض الجهة دون بعضها، وإنما يتيقن ذلك بالمشاهدة.
فعلى هذا: يلزمه الانحراف إلى الثانية؛ لأنها هي القبلة عند المجتهد في هذه الحالة، ولا يلزمه استئناف الصلاة؛ لأنه لا يتيقن أن الأولى ليست بقبلة.
قال: ومن أصحابنا من قال: يمكن أن يتيقن بالاجتهاد أن عين الكعبة في بعض الجهة دون بعض، فيلزمه الانحراف إلى الثانية، وهل يبني، أو يستأنف؟ .
على القولين في أن فرض المجتهد: هل هو إصابة العين، أو الجهة؟
فإن قلنا: فرضه الجهة. . . لم يلزمه الاستئناف، قولا واحدًا.
وإن قلنا: إن فرضه إصابة العين. . كان على قولين - كما لو صلى إلى جهة، ثم تيقن أنها ليست بجهة القبلة -:
فإن قلنا - هناك -: يعيد.. لزمه هاهنا أن يستأنف.
وإن قلنا - هناك -: لا يعيد. . . فهاهنا وجهان، مضى ذكرهما.
وأما إذا أداه اجتهاده إلى أن القبلة في جهة، ثم بان له باجتهاد ثان أن القبلة في غير تلك الجهة: فإن بان له ذلك قبل الدخول في الصلاة. . . لزمه أن ينحرف إلى الثانية، ويصلي إليها.
وإن بان له ذلك في أثناء التكبيرة. . لزمه أن يستأنف التكبيرة أيضا إلى الجهة الثانية؛ لأنه لم يأت بما يُسمى صلاة.

(2/146)


وإن بان له بعد فراغه من تكبيرة الإحرام. . . فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، وهل يستأنف الصلاة، أو يبني على إحرامه؟ فيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يلزمه أن يستأنف؛ لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى باجتهادين، كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة باجتهادين.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يبني على إحرامه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، ويخالف حكم الحاكم؛ لأن حكم الحاكم هو قوله: حكمت، وأمضيت. ولا يتصور تبعيض ذلك؛ لأن اجتهاده إن تغير قبله. . . فإنه يحكم بالثاني، وإن تغير بعده. . فإنه لا ينقض الأول، وليس كذلك ما فعل من الصلاة؛ لأنه كالحكم الذي نفذ، فلا ينقض باجتهاد ثان.

[فرع تغير الاجتهاد للجماعة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/82] : (وإذا اجتهد جماعة في القبلة، فأداهم اجتهادهم إلى جهة واحدة، فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد بعضهم في أثناء الصلاة، فإن تغير اجتهاد الإمام. . . فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية، ولا يلزم المأمومين اتباعه، بل ينوون مفارقته؛ لأن اعتقادهم بطلان اجتهاده، وإن تغير اجتهاد المأمومين.. فعليهم أن ينووا مفارقته، وينحرفوا إلى الثانية) .
وهل يبنون، أو يستأنفون على ما مضى.
فإذا قلنا: يبنون. . لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم فارقوه بعذر.

[فرع لو شك أثناء الصلاة أو دخل بلدًا فيها محاريب]
] : قال في " الأم " [1/82] : (وإذا دخل في الصلاة بالاجتهاد، ثم شك في أثناء الصلاة: أن تلك جهة القبلة، أم لا؟ فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لأنه دخل في الصلاة بالاجتهاد، والاجتهاد إنما يتغير باجتهاد، أو يقين، فأما الشك: فلا يؤثر فيه) .

(2/147)


قال في " الفروع " إذا دخل بلدا، ووجد فيها محاريب، فإن لم يعرف أن تلك المحاريب مما بناها المسلمون. . . فلا يجوز له استقبالها، ويجتهد.
وإن عرف أنها من بناء المسلمين، فإن كان ذلك البلد من البلاد التي صلى فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.. وجب اتباعهم.
وإن كانوا لم يصلوا فيها، فإن كان القوم الذين بنوها في الكثرة بحيث يقع التواتر في خبرهم، ويصير إجماعهم قاطعا لوجوه الاجتهاد. . صلى إليها.
وإن كان عددهم قليلًا، أو كانت في بلد مختلفة. . فعلى المصلي أن يجتهد فيها.

[مسألة تقليد الأعمى ونحوه لجهة القبلة]
] . وإن كان ممن لا يعرف الدلائل، ولا يعرفها إذا عرف بها. . فهو كالأعمى، وفرضهما: التقليد؛ لأنه لا فرق في ذلك بين أن يعدم البصر، أو يعدم البصيرة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقلد من يصدقه: من حر، وعبد، وامرأة؛ لأنهم من أهل الاجتهاد) .
فإن كان هناك جماعة، واتفقوا على جهة واحدة. . . كان له أن يقلد أيهم شاء.
وإن اختلفوا في الجهات. . . استحب أن يقلد أوثقهم وأعلمهم، وأيهم قلد.. جاز؛ لأنه قلد من يجوز له تقليده.
وإن لم يجد - من فرضه: التقليد - من يقلده. . صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر وإن كان قد أصاب القبلة؛ لأنه استفتح الصلاة وهو شاك في القبلة.

(2/148)


[فرع اختلاف قول المقلد أو خطأه غيره]
] : وإن دخل المقلد في الصلاة بالتقليد وفرغ منها، ثم قال له من قلده: القبلة في غير الجهة التي صليت إليها، فإن بان له ذلك باجتهاد. . . لم يجب على المصلي الإعادة؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وإن بان له بيقين. . كان في وجوب الإعادة عليه قولان.
وإن قال له آخر - في أثناء الصلاة -: قد أخطأ بك الأول، والقبلة في جهة أخرى - وكان قول الثاني عن اجتهاد - فإن كان الثاني كاذبا عنده. . لم يجز له الرجوع إلى قوله.
وإن كان الثاني أصدق من الأول عنده. . فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية؛ لأن الثاني أولى من الأول عنده، ولا يستأنف الإحرام؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
وإن كان الثاني عنده مثل الأول في الصدق. . . فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لان الاجتهاد لا ينقص بمثله.
وإن قال الثاني ذلك له على وجه الإخبار عن مشاهدة. . . لزمه الانحراف إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الاستئناف؟
على القولين في البصير إذا تيقن الخطأ.

[فرع معرفة الأعمى القبلة]
] . وإن عرف الأعمى القبلة باللمس، فصلى إليها. . . أجزأه؛ لأن ذلك بمنزلة الخبر.
وإن دخل الأعمى في الصلاة بالتقليد، ثم أبصر في حال الصلاة، فإن بان له حين أبصر: أن الجهة التي يصلي إليها جهة القبلة.. أتم صلاته.
وإن احتاج إلى الاجتهاد. . بطلت صلاته؛ لأنه صار من أهل الاجتهاد.
وإن دخل البصير باجتهاده في الصلاة، ثم عمي في أثنائها. . . مضى على صلاته؛ لأن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره، فإن تحول عنها. . . بطلت صلاته؛ لأنه لا يمكنه الرجوع إليها، ويحتاج أن يقلد، وذلك لا يمكنه في الصلاة.

(2/149)


[مسألة خفاء دلائل القبلة بغيم وحكم تعلم ذلك]
] : وإن كان ممن يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه؛ لظلمة، أو غيم. . فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فهو كالأعمى) وظاهر هذا أنه يجوز له التقليد.
وقال في موضع: (ولا يسع بصيرا خفيت عليه الدلائل أن يقلد غيره) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: لا يقلد، قولا واحدًا، بل عليه أن يتعلم ويجتهد؛ لأنه يمكنه ذلك. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو كالأعمى) أراد: في وجوب الإعادة، إذا ضاق الوقت عن الاجتهاد. . فإنه يصلي ويعيد، كالأعمى إذا لم يجد من يقلده.
وقال أبو العباس: هي على حالين: إن ضاق الوقت. . قلد غيره، وإن اتسع. . تعلم واجتهد.
وقال أكثر أصحابنا: هي على قولين - وهو الصحيح -.
أحدهما: يقلد لأنه خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى.
والثاني: لا يقلد؛ لأنه من أهل الاجتهاد.
وإن كان من ممن لا يعرف الدلائل، ولكن إذا عرفها عرف، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يتعرفها، ولا يقال: إن ذلك تقليد، كما أن العامي إذا أخبر العالم بخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستدل به.. لا يقال: قلده فيما حكم به.
فإن أمكنه التعلم، فأخره حتى ضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد. . . صلى بالتقليد، وهل يعيد؟ فيه وجهان، كمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت وتيمم.

(2/150)


وإن لم يجد من يتعلم منه إلا في آخر الوقت، وضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد، أو كان محبوسا في موضع لا يتمكن فيه من الاجتهاد. . فهل يجزئه أن يقلد غيره؟ على الطرق الثلاث في المسألة قبلها.
إذا ثبت هذا: فإن تعلم ما يكفي من دلائل القبلة فرض من الفرائض الأعيان؛ لأنه لا يمكنه أداء الصلاة إلا بذلك.

[فرع الغريق والمريض]
] . قال في " الإبانة " [ق\60] : إذا بقي الغريق على خشبة في البحر. . فإن يصلي على حسب حاله، وهل يعيد؟ فيه قولان.
وإن لم يجد المريض من يوجهه إلى القبلة. . صلى كيف أمكنه، فمن أصحابنا من قال في وجوب الإعادة عليه القولان في الغريق.
ومنهم من قال: يعيد، قولا واحدا؛ لأن ذلك نادر.

[مسألة في التنفل على الراحلة]
] : يجوز التنفل في السفر على الراحلة حيثما توجه إلى جهة مقصده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] [البقرة: 115] ، قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع.
وروى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على حماره متوجها إلى خيبر» .
ومن توجه إلى خيبر من المدينة. . فإنه يستدبر القبلة.
ويجوز ذلك في السفر الطويل والقصير.

(2/151)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصر البويطي ": (وقد قيل: لا يتنفل أحد على ظهر دابة، إلا في سفر تقصر فيه الصلاة) .
فقال البغداديون من أصحابنا: هذا على قول مالك، وليس بقول له.
والخراسانيون من أصحابنا: جعلوه قولا ثانيا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ودليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلى على راحلته، حيثما توجهت به» . ولم يفرق بين: الطويل والقصير.
ولأنه إنما جوز له ذلك في السفر؛ حتى لا ينقطع عن النافلة، وهذا المعنى موجود في السفر الطويل والقصير.
إذا ثبت هذا: فإن كان راكبًا في كنيسة واسعة أو عمارية يمكنه أن يدور فيها. . . فإنه يصلي إلى جهة القبلة، ويركع، ويسجد، كما يفعل بالسفينة، ولا يومئ.
فإن أمكنه القيام فيها، وأراد أن يصلي عليها الفريضة. . . ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز - وهو المنصوص في " الأم " - لأن البهيمة لها اختيار بنفسها، ولا تكاد تثبت على حالة واحدة، فيؤدي ذلك إلى تغيره عن القبلة، بخلاف السفينة؛ لأنها لا تسير بنفسها وإنما يسيرها مسير إلى جهة واحدة لا تختلف.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يصح، كما لو صلى على سرير يحمله أربعة.
قال ابن الصباغ: وهذا إنما يكون إذا كانت راحلته واقفة، أو كان لها من يسيرها فتتبعه.

(2/152)


فأما إذا كان راكبا في كنيسة ضيقة، أو على: قتب، أو زاملة، أو سرج، وأراد أن يصلي عليها النافلة، وكانت الدابة واقفة، فإن كانت مقطرة. . . فله، أن يصلي حيثما توجه. وإن كانت منفردة. . . لزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة؛ لأنه يمكنه ذلك.
قال ابن الصباغ: والذي يقتضيه القياس: أنه ما دام واقفا. . فإنه لا يصلي إلا إلى القبلة، فإذا أراد السير.. انحرف إلى طريقه.
وإن كانت الدابة سائرة، فإن كانت مقطرة. . افتتح الصلاة، وأتمها إلى جهة مقصده.
وإن كانت منفردة، فإن كانت صعبة يشق إدارتها. . لم يلزمه إدارتها.
وإن كانت سهلة. . ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه إدارتها إلى القبلة، لافتتاح الصلاة، والركوع، والسجود؛ لأن ذلك يمكنه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن ذلك يقطعه عن سفره.
فإذا أراد أن يركع ويسجد. . أومأ إيماء إلا أنه يجعل السجود أخفض من الركوع.
فإن سجد على مقدمة سرجه أو رحله. . . جاز، ولا يلزمه ذلك.
وإذا استفتح الصلاة إلى جهة مقصده، ثم انحرف عنها إلى جهة ثانية، وثالثة، وكل ذلك جهات مقصده. . صحت صلاته.

(2/153)


وإن انحرف إلى غير جهة مقصده، فإن كان جهة القبلة.. صحت صلاته؛ لأن القبلة هي الأصل. وإن كانت غير جهة القبلة، فإن كان عالما بذلك.. بطلت صلاته؛ لأنه عدل عن القبلة بما لا حاجة به إليه.
وإن كان مخطئا، بأن نسي أنه في الصلاة، أو ظن أنها جهة مقصده، أو غلبته الدابة. . قال الشافعي رحمه: (فإن رجع عن قريب. . بنى على صلاته، ولم يسجد للسهو، وإن تمادى ساهيا، ثم ذكر. . عاد وبنى على صلاته، وسجد للسهو) .

[فرع المسافر يدخل بلدًا مصليًا]
] . وإذا دخل الراكب بلدا وهو في الصلاة، فإن كان بلد إقامته، أو نوى الإقامة فيه. . . فعليه أن ينزل، ويتم صلاته إلى القبلة، ولا يؤثر النزول في الصلاة؛ لأنه عمل يسير.
وإن كان مجتازا فيه.. فإنه يتم صلاته إلى جهة مقصده، ولا تأثير للبنيان.
وإن دخله لينزل فيه، ثم يرتحل. . فإنه يمضي على صلاته، ما دام سائرًا، فإذا نزل. . صلى إلى القبلة.
وإن كان له فيه أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيه.. ففيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\61\أ] :
أحدهما: حكمها حكم دار إقامته؛ تغليبا لأهله وماله.
والثاني: حكمها حكم الصحراء؛ لأنه مسافر فيها.

[فرع تنفل المسافر الماشي]
] : وإن كان المسافر ماشيا. . . جاز له أن يتنفل إلى جهة مقصده.

(2/154)


وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه إحدى حالتي مسير السفر، فجاز فيه التنفل، كحالة الركوب.
إذا ثبت هذا: فإن الماشي يلزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع والسجود؛ لأن ذلك لا يقطعه عن السير. وهل يلزمه السجود على الأرض، أو يكفيه الإيماء، كالركب؟ فيه وجهان، حكاها في " الإبانة " [ق\61\أ] :
الصحيح: يلزمه ذلك على الأرض. وهل يلزمه استقبال القبلة في السلام؟
فيه وجهان.
ويجوز له القراءة والتشهد، وهو يمشي إلى جهة مقصده؛ لأن مدته تطول.

[فرع حكم غير الفرائض في السفر]
ويجوز سجود التلاوة والشكر، والسنن الرواتب في السفر في حال السير؛ لأنها نوافل.
وهل تصح فيه صلاة النذر؟ فيه قولان، بناء على أنه: هل يسلك به مسلك النفل، أو الفرض؟
وفي ركعتي الطواف قولان، بناء على القولين في وجوبهما.
قال الصيدلاني: ولا تصح صلاة العيد، والخسوف والاستسقاء في حال السير في السفر؛ لأنها تندر.
وأما صلاة الجنازة، فإن تعينت عليه.. لم يجز فعلها في السير في السفر؛ لأنها واجبة عليه، فهي كفرائض الأعيان.
وإن لم تتعين عليه.. فوجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: تصح؛ لأنها غير واجبة عليه، فهي كسائر النوافل.
والثاني: لا تصح - وهو المنصوص - لأنها وإن لم تتعين عليه، فإنها تقع واجبة، وليست بتطوع.

(2/155)


[فرع تنفل الحاضر]
فأما إذا أراد الحاضر أن يتنفل، فإن كان واقفا. . . لم يجز له ترك الاستقبال.
وإن كان سائرًا.. فهل يجوز له ترك الاستقبال في النفل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز له؛ لأن عادة الناس في الحضر المشي في حوائجهم أكثر النهار، فجوز لهم ترك الاستقبال في النفل، لئلا ينقطعوا عنه، كما قلنا في السفر.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يجوز؛ لأن الغالب من حال الحاضر اللبث والمقام.

[مسألة سترة المصلي]
المستحب لمن يصلي إلى السترة أن يدنو منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم إلى السترة. . . فليدن منها» .
قال الشافعي: (والمستحب أن يكون بينه وبينها ثلاثة أذرع، أو أقل) ؛ لما وري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بينه وبين قبلته قدر ممر العنز» : وهي الشاة.
وقد يكون ثلاثة أذرع أو أقل، ولا يتباعد منها أكثر من ذلك؛ لما روى ابن المنذر: أن مالكا كان يصلي مباينا عن السترة، فمر به رجل لا يعرفه، فقال: أيها المصلي، ادن من سترتك، فجعل مالك يتقدم، ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] [النساء: 113] .

(2/156)


فإن كان يصلي في الصحراء.. فالمستحب: أن ينصب بين يديه عصا، ويكون طولها ذراعا، لما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل. . فلا يبالي من مر وراء ذلك» .
قال عطاء: مؤخرة الرحل ذراع.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى العيد. . تنصب له الحربة، فيصلي إليها، وكذلك كان يفعل في السفر» .
قال الشيخ أبو حامد: ومن هناك اتخذ الولاة ينصبون الحربة في العيد.
قال في " مختصر البويطي ": (ولا يستتر بامرأة، ولا دابة) .
وقد ذكر ابن المنذر، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بعير» .
قال في " البويطي ": (ولا يخط المصلي بين يديه خطا، إلا أن يكون فيه حديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . فيتبع) .
وكرهه مالك، وأبو حنيفة.
وقال الشافعي في القديم: (أستحب له أن يخط بين يديه خطا) لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يكن معه عصا. . فليخط خطًا» .

(2/157)


قال أصحابنا: يسن ذلك، قولا واحدًا؛ لهذا الحديث.
قال أبو داود: ويكون الخط كهيئة الهلال.

[فرع المرور بين يدي المصلي والتوجه لوجه آدمي]
] . قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويكره المرور بين يدي المصلي، إذا كان يصلي إلى سترة أو عصا أو خط، وكان بينهما ثلاثة أذرع، أو ذراعان. فإن مر بين يديه مار في هذه الحالة. . فله منعه.
وإن لم يجعل المصلي تلقاءه شيئا من ذلك. لم يكره المرور بين يديه؛ لأن المصلي فرط في حق نفسه.
وإن مر بين يدي المصلي مار. . لم تبطل صلاته.
وقال أحمد، وإسحاق: (إن مر بين يديه كلب أسود، أو امرأة حائض، أو أتان. . بطلت صلاته) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقطع صلاة المرء شيء، فادرؤوا ما استطعتم» .
ويكره أن يجلس رجل مستقبل القبلة للمصلي، لما روي: " أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب رجلين فعلا ذلك ".
وبالله التوفيق.

(2/158)