البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صفة الصلاة]
إذا أراد الرجل أن يصلي في جماعة. . لم يقم، حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.
وقال أبو حنيفة: (يقوم إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، ويكبر إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة) .
دليلنا: ما روي: أن بلالا لما أخذ في الإقامة. . قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقامها الله وأدامها» وقال في سائر الإقامة كقوله، وهذا يبطل قول أبي حنيفة.
ولأن قبل الفراغ من الإقامة ليس بوقت للدخول، فلا معنى للقيام.
والقيام فرض في الصلاة المفروضة مع القدرة عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] ، قال الشافعي: (مطيعين) .
وروى عمران بن الحصين قال: «كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة؟ فقال: " صل قائمًا، فإن لم تستطع.. فقاعدًا، فإن لم تستطع.. فعلى جنب» .
وأما النفل: فيصح قاعدا مع القدرة على القيام؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتنفل قاعدًا على راحلته في السفر» .
وهل له أن يتنفل مضطجعا، أو مومئا مع القدرة على القعود؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\64] .

[مسألة النية في الصلاة]
ثم ينوي، والنية واجبة في الصلاة، لا خلاف في وجوبها.

(2/159)


والأصل في وجوبها قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . و (الإخلاص) : هو النية.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
إذا ثبت هذا: فالكلام في محل النية، ووقتها، وكيفيتها.
فأما (محلها) : فالقلب؛ لأن النية الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب.
فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فقد أتى بالأكمل. وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. لم يجزه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزئه؛ لأن الشافعي قال: (وليس الصلاة كالحج؛ لأن الصلاة في أولها نطق واجب) .
وهذا غلط؛ لأن النية هي القصد، وقد وجد منه ذلك، وما قاله الشافعي.. فإنما أراد به: النطق بالتكبير، لا بالنية.
وأما (وقتها) : فإن الشافعي قال: (وإذا أحرم إماما كان أو وحده.. نوى صلاته في حال التكبير لا قبله، ولا بعده) .
قال أصحابنا: لم يرد بهذا: أنه لا يجوز أن تتقدم النية على التكبير، ولا تتأخر عنه، وإنما أراد الشافعي بقوله: (لا قبله) : أنه لا يجوز أن ينوي قبل التكبير، ويقطع نيته قبل التكبير.
وكذلك لم يرد بقوله: (ولا بعده) : أنه لا يجوز استدامتها بعد التكبير، وإنما أراد به لو ابتدأ بالنية بعد التكبير.. لم يجزه، فإن نوى قبل التكبير واستصحب ذكرها إلى آخر التكبير أجزأه، وكذلك لو استدام ذكرها بعد الفراغ من التكبير.. أجزأه، وقد أتى بأكثر مما يجب عليه، ولا يضره ذلك.
وإن نوى قبل التكبير، واستصحب ذكرها في أول التكبير لا غير.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه عري حرف من التكبير عن ذكر النية، فلم يجزئه، كما لو عري أول حرف منها.

(2/160)


والثاني: يجزئه - وهو اختيار صاحب " الفروع " - لأنه يشق استصحاب ذكر النية في جميع التكبير.
ويجب أن يستصحب حكم النية لا ذكرها في جميع الصلاة، كما قلنا في الطهارة. هذا مذهبنا.
وقال داود: (يجب أن تتقدم النية على التكبير، فإن نوى مع التكبير. . لم يجزئه؛ لأنه إذا نوى مع التكبير، فإلى أن تتكامل نيته، يمضي جزء من التكبير عاريا عن النية) .
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إذا تقدمت النية على التكبير بزمان يسير. . جاز) .
دليلنا على داود: أن النية ليست بلفظ يحتاج أن يأتي بها حرفا بعد حرف، فيتكامل ذلك في أزمنة متراخية، وإنما هي اعتقاد، والاعتقاد يمكن في جزء يسير.
وعلى أبي حنيفة، وأحمد: أنها تحريمة عريت عن النية، فلم تصح، كما لو تقدمت على التكبير بزمان طويل.
وأما (كيفية النية) : فإن كانت الصلاة فرضا. . فلا بد أن ينوي: أنها الظهر، أو العصر؛ لتتميز عن غيرها. وهل يجب عليه أن ينوي: أنها فريضة عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يجب عليه ذلك؛ ليتميز عن ظهر الصبي، وظهر من صلى وحده، ثم أدرك جماعة يصلون فصلاها معهم.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي حنيفة -: أنه لا يجب عليه ذلك؛ لأنها لا تكون على هذا إلا فرضا.
ولأن الصبي إذا صلى صلاة الوقت في أول الوقت، ثم بلغ في آخره.. أجزأه عند الشافعي وإن لم ينو الفريضة.
ولأن الشافعي قال: (إذا صلى وحده، ثم أعادها في جماعة. . . إن الله يحتسب له بأيتهما شاء) ، هذا يدل على: أن نية الفرض لا تجب عليه.
وهل يلزمه نية أعداد الركعات، ونية استقبال القبلة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\61\ب] والصحيح: لا يلزمه.

(2/161)


وهل يلزمه أن ينوي: لله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الصلاة لا تكون إلا لله.
الثاني: يلزمه؛ ليتميز عن الصلاة اللغوية التي هي الدعاء.

[فرع نية القضاء]
] . وإذا أراد أن يصلي الفائتة. . . فهل تلزمه نية القضاء؟ فيه وجهان، وحكاهما الشيخ أبو حامد قولين.
أحدهما - قاله في القديم -: (أنه لا بد من نية القضاء؛ ليتميز عن صلاة الوقت) .
والثاني -وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه لا يفتقر إلى نية القضاء؛ لأن الشافعي نص فيمن صلى يوم الغيم، وبان أنه صلى بعد الوقت: (أنه يجزئه) ، ونص في الأسير، إذا تحرى، فوافق صومه ما بعد رمضان: (أنه يجزئه) ، وكذلك لو اعتقد أن وقت الصلاة قد فات، فنوى القضاء، ثم بان أن الوقت باق.. أجزأه، فبان: أن نية القضاء ليست بواجبة.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يجاب القاضي عن هذا، فيقال له: هاهنا نوى صلاة وقت بعينه، وهو ظهر هذا اليوم، فكيف وقعت. .أجزأه؛ لأنه قد عين وقت وجوبها، كمن نوى صلاة أمس فاتته. . فإن يجزئه وإن لم ينو القضاء. وإنما يتصور الخلاف فيمن عليه فائتة الظهر، فصلى في وقت الظهر، ينوي: صلاة الظهر الفريضة، فإن هذه الصلاة تقع بحكم الوقت.
وإذا كان نسى أنه صلى، فصلى ثانيا، ينوي: الظهر الفريضة، فيجيء على ما حكاه الشيخ أبو حامد عن القديم: أنه لا يجزئه عن القضاء، ويقع نافلة، وعلى قول القاضي.. يجزئه.
ولا يشبه هذا ما ذكره الشافعي لما مضى، ويلزم القاضي أن يقول: في رجل صلى قبل الظهر صلاة الظهر، يعتقد أن الوقت قد دخل ولم يكن دخل -: إنها تجزئه عن

(2/162)


فائتة الظهر. وأما من صلى في غير وقت الظهر، ونوى: الظهر الفريضة، وهو عالم بالوقت.. فلا بد أن يكون عالما بسبب الوجوب، وهو فوت الظهر في وقتها، فقد تضمنت نيته القضاء. ومثل ما صورته في الصلاة لا يتصور في الصوم؛ لأنه لا يقضيه. إلا في غير زمانه، فإذا نواه في غير رمضان. . فقد تضمنت نيته القضاء.

[فرع النية لأكثر من صلاة فائتة]
قال في " الأم " [1/186] : (ولو فاتته الظهر والعصر، فدخل في الصلاة ينويهما جميعا.. لم تجزئه) ؛ لأن التعيين واجب، وتشريكه بين الصلاتين يمنع وقوعها لإحداهما.
قال: (ولو دخل بنية إحداهما، ثم شك، فلم يدر أيتهما نوى.. لم يجزئه هذا عن إحداهما، حتى يتيقن أيتهما نوى) .

[فرع الاستثناء وتشريك النية بين فرض وسنة]
قال الصيدلاني: إذا زاد في النية: إن شاء الله. فإن أراد الاستثناء. . . لم تصح؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ينافيها ويرفعها.
وإن أراد إيقاع الصلاة بمشيئة الله. . أجزأه؛ لأن الأفعال لا تقع إلا بمشيئة الله. وإن نوى الفرض والنفل. . لم تنعقد صلاته. وبه قال محمد.
وقال أبو حنيفة: (تنعقد بالفرض) .
دليلنا: أنه نوى صلاتين مختلفتين، فلم تصح، كما لو نوى الفرض والجنازة. ذكره أبو المحاسن.

[فرع نية الإمام والمأموم]
إذا كان إماما. . . فيسن له: أن ينوي الإمامة، فإن لم ينو ذلك. . لم تحصل له فضيلة الجماعة، هكذا ذكره الجويني. وتجوز نية الإمامة بعد التكبيرة.

(2/163)


وإن كان مأمومًا.. قال الجويني، والمسعودي [في " الإبانة " ق\61\ب] : فعليه أن ينوي الاقتداء، فإن لم ينو ذلك، وتابع الإمام. . بطلت صلاته.

[فرع التكبير بغير نية]
إذا كبر مع النية، ثم كبر من غير نية.. لم تبطل الأولى؛ لأن التكبير لا يبطل الصلاة. وإن كبر ثانيًا، ونوى افتتاح الصلاة.. قال ابن القاص: بطلت الأولى، ولا تصح الثانية؛ لأن الشروع لا يتكرر. فإذا نوى الافتتاح ... فلا يكون إلا بعد الخروج من الأولى فتضمنت نيته الخروج من الأولى، ولم تصح له الثانية؛ لأن الشيء الواحد لا يصير به خارجًا من الصلاة، داخلاً به فيها.
فإن كبر ثالثًا: صحت له، فإن كبر رابعا مع النية. . . بطلت الثالثة.
وحكى الصيدلاني وجها آخر: أن الأولى لا تبطل بالثانية؛ لأنه تكرار تكبير لم ينو به الإبطال.
والأول هو المشهور.
فلو قطع نيته الأولى قبل التكبيرة الثانية.. انعقدت الصلاة بالثانية.
قال الطبري: فإن نوى الشروع قبل التكبيرة الثانية، ثم كبر الثانية مستديما لهذه النية. . فهل يصير شارعا بالصلاة في التكبيرة الثانية؟ فيه وجهان، بناء على ما لو قال: إذا لقيت فلانا.. فقد خرجت من الصلاة.. فهل تبطل في الحال، أو حتى يلقاه؟ على جهين:
فإن قلنا: تبطل في الحال. . . صح له الشروع هاهنا بالتكبيرة الثانية؛ لأنه لما نوى الشروع. . صار كأنه نوى قطع الصلاة؛ فإذا كبر مستديما لهذه النية. . انعقدت صلاته.
وإن قلنا: لا تبطل صلاته حتى يلقى فلانا، لم يصر شارعا هاهنا بالتكبيرة الثانية، فإن كبر ثالثا. . انعقدت.

(2/164)


[فرع نية الرواتب وغيرها]
] . وإن كانت الصلاة نافلة، فإن كانت غير راتبة.. أجزأته نية الصلاة، وإن كانت راتبة.. فلا بد أن ينوي سنة الظهر أو الصبح، أو صلاة العيد وما أشبهها، لتتميز بذلك عن النوافل التي ليست براتبة.

[فرع الشك في النية]
] . قال الشافعي: (وإذا شك هل عين النية للفريضة؟ ثم ذكر بعد ذلك، أنه كان قد عين، فإن كان ذلك قبل أن يفعل شيئا من الصلاة.. مضى على صلاته وأجزأه وإن تذكر بعد ما فعل شيئا من الصلاة في حال الشك. . . بطلت) .
وإن كان هذا الشك في أصل النية. . . ففيه وجهان:
أحدهما: أن حكمه حكم ما لو شك في التعيين، وهو الأصح؛ لأن التعيين يجب كما يجب أصل النية.
والثاني: تبطل الصلاة بنفس الشك؛ لأنه لم يتيقن الدخول في الصلاة.
إذا ثبت هذا: فإن قرأ الفاتحة، أو ركع، أو رفع منه، أو سجد، أو رفع منه في حال الشك.. بطلت صلاته؛ لأن فعل الصلاة في حال الشك، لا يصح.
وإن وقف، ولم يفعل شيئا من ذلك، أو سبح في حال الشك إلى أن ذكر. . لم تبطل صلاته؛ لأن الصلاة لو خلت من ذلك الجزء. . . لجازت، بخلاف القراءة، والأفعال التي ذكرناها.

[فرع الشك في نية القصر]
] . ولو كان مسافرًا فشك: هل نوى القصر؟
فإن تذكر في الحال أنه كان قد نواه. . لزمه الإتمام؛ لأنه حصل في جزء من صلاته من غير نية القصر، فيصير في تلك الحال كأنه نوى الإتمام.

(2/165)


وإن صلى الظهر والعصر، ثم تيقن أنه نسي النية في إحداهما.. وجب عليه إعادتهما.

[فرع نية الخروج]
وإن نوى الخروج من الصلاة، أو شك: هل يخرج أم لا. . بطلت صلاته.
وقال أبو حنيفة: (لا تبطل) .
دليلنا: أن استدامة حكم النية واجب في الصلاة، فإذا قطعها.. بطلت، كما لو أحدث فيها عامدًا.
وإن دخل صلاة الظهر، ثم صرفها إلى العصر.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يبطل الظهر؛ لأنه قطع نيته، ولا تصح له العصر؛ لأنه لم ينوها عند الإحرام.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\62] : لا تصح له الظهر والعصر، وهل تصح له نفلا؟ فيه قولان.
قال: وكذا لو كبر للظهر قاعدا مع القدرة على القيام، أو أحرم بالظهر قبل الزوال، أو اقتدى بإمام مريض يصلي قاعدًا، فقدر على القيام، فلم يقم، وعلم بحاله، فلم يخالفه.. فهل تنعقد له نفلا؟ فيه قولان.
قال: ومثله لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج. . لم ينعقد له الحج، وهل تنعقد له العمرة؟ فيه قولان.
وإن صرف الظهر إلى النفل. . قال أصحابنا البغداديون: فإن الظهر لا يصح له؛ لأنه قطع نيته.
وهل يصح له النفل؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يصح له، كما لا تصح العصر إذا انتقل إليه من الظهر.
والثاني: يصح لأن نية الفرض تتضمن النفل، ولهذا لو أحرم بالظهر قبل وقته وهو يظن أن الوقت قد دخل. . . أنها تنعقد له نافلة.

(2/166)


[مسألة تكبيرة الإحرام]
وتكبيرة الإحرام واجبة لا تنعقد الصلاة إلا بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريهما التكبير، وتحليلها التسليم» .
قال الصيمري: والإمام يدخل في الصلاة بفرضين وسنتين:
فالفرضان: النية والتكبير، والسنتان: رفع اليدين، والجهر بالتكبير.
والمأموم يدخل بفرضين وسنة؛ لأنه لا يسن له الجهر بالتكبير، بل يسمع نفسه.
قال الشافعي: (ولا يجزئه إلا قوله: الله أكبر، أو الله الأكبر) .
وقال مالك: (لا تنعقد بقوله الله الأكبر) .
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (تنعقد بكل اسم لله على وجه التعظيم، كقوله: الله العظيم، أو: الله الجليل، وكقوله: الحمد لله، أو: سبحان الله، أو: لا إله إلا الله، فأما الدعاء، كقوله: اللهم اغفر لي وارحمني. . فلا تنعقد به الصلاة) .
وقال الزهري: لا تفتقر الصلاة إلى التكبير، بل إذا نوى الصلاة. . انعقدت وإن لم يكبر، كسائر العبادات.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحريمها التكبير» . وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بقوله: " الله أكبر "، وما روي عنه: أنه عدل إلى غيره، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .

(2/167)


وقوله: الله الأكبر، هو كقوله: الله أكبر، وفيه زيادة لا تحيل المعنى، فإن قال: الله العظيم الخالق أكبر. . أجزأه، وإن قال: الله أكبر وأجل وأعظم وأعز. . . أجزأه؛ لأنه أتى بقوله: الله أكبر، وزاد زيادة لا تحيل المعنى، فهو كقوله: الله أكبر كبيرًا.
قال الشافعي: (وإن قال: الله أكبر من كل شي وأعظم، ونوى به التكبير. . . دخل في الصلاة بقوله: الله أكبر، وكان ما زاد عليه نافلة، وإن قال: الله الكبير، أو الكبير الله. . لم يجزئه؛ لأن ذلك ليس بتكبير) .
وإن قال: أكبر الله، أو الأكبر الله. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما لو قال: عليكم السلام في آخر الصلاة.
والثاني: لا يجوز، كما لو غير الترتيب في الفاتحة.
وقال المسعودي في [" الإبانة " ق\63] : نص الشافعي: (أنه لو قال: الأكبر الله.. لا يجزئه) ، ونص: (لو قال: عليكم السلام. . . أجزأه) .
فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال في التكبير: لا يجزئه، وفي السلام: يجزئه؛ لأنه يسمى مسلما وإن عكسه، ولا يسمى مكبرا إذا عكسه.

[فرع التكبير بالعربية]
] : ولا يجوز أن يكبر بالفارسية، مع قدرته على العربية - وبه قال محمد، وأبو يوسف - وكذلك سائر الأذكار فيها مثل التسبيح والتشهد.
وهل يجوز أن يأتي بالشهادتين في غير الصلاة بالفارسية مع قدرته على العربية؟ وهل يحكم بإسلامه بذلك؟ فيه وجهان.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يكبر بالفارسية، مع قدرته على العربية) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .

(2/168)


فإن لم يحسن العربية. . فعليه أن يتعلم. فإن اتسع الوقت للتعلم، فلم يفعل، وكبر بالفارسية. . لم تصح صلاته؛ لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه.

[فرع تكبير الأخرس ونحوه]
فإن كان بلسانه اضطراب، لا يمكنه أن يفصح بالتكبير، أو كان أخرس، أو مقطوع اللسان. . فإنه يجب عليه أن ينوي التكبير، ويحرك لسانه وشفتيه بقدر ما يمكنه، وكذلك في القراءة والأذكار الواجبة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر. . . فأتوا منه ما استطعتم» .

[فرع الجهر بالتكبير]
] . قال في " الأم " [1/88] : (وأحب للإمام أن يجهر بالتكبير ويبينه، ولا يمططه، وإنما يجهر؛ ليسمع المأموم) .
و (التمطيط) : هو المد، وذلك مثل أن يقول: أكبار، فيزيد ألفا. . فلا يجوز؛ لأن (الأكبار) : جمع كبر، وهو الطبل.
وكذلك إن مد الهمزة التي في قوله: آلله. . . لا يجزئه؛ لأنه يصير استفهامًا.
ولا يقصره أيضا، بحيث ينقص حروفه.
وأما المأموم: فلا يستحب له الجهر به؛ لأنه لا يتعبه غيره، بل يأتي بالواجب، وأقله: أن يسمع نفسه، وإن كان أقل من ذلك. . لم يعتد به؛ لأن ذلك ليس بتكبير، بل هو حديث نفس.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والنساء يسمعن أنفسهن بالتكبير، فإن أمتهن إحداهن. . جهرت بالتكبير؛ لأنه يقتدى بها، وتخفض من صوتها، ليكون دون صوت الرجال)

(2/169)


[فرع نقص لفظ التكبير]
قال في " الأم " [2/87-88] : (فإن بقي من التكبير حرف، فأتى به وهو منحن للركوع. . لم يكن داخلا في الصلاة المكتوبة، وكان في نافلة) .
قال القاضي أبو الطيب: هذا إذا كان جاهلًا بأن ذلك لا يجوز، فأما إذا كان عالما بأن ذلك لا يجوز: فإنها لا تنعقد صلاته بفرض ولا نفل، كما قلنا - فيمن صلى الظهر، يعتقد أن الوقت قد دخل، ولم يكن دخل -: إنها تنعقد له نفلا، وإن صلى الظهر قبل وقتها مع علمه بذلك. . لم تنعقد صلاته.
هذا نقل أصحابنا البغدادين، وقد تقدمت طريقة الخراسانيين.

[فرع التكبير والتسليم من الصلاة]
التكبير من الصلاة - إلا أنه لا يدخل في الصلاة إلا باستكمال التكبير - وهو أول الصلاة، والتسليم من الصلاة وهو آخرها.
وقال أبو حنيفة: (التكبير ليس من الصلاة، وإنما يدخل به فيها، والتسليم ليس من الصلاة، وإنما يخرج به منها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والقراءة والتسبيح» فدل على: أن التكبير من جملتها.
ولأنه ذكر من شرط صحة كل صلاة، فوجب أن يكون منها، كالقراءة.
فقولنا: (من شرط صحة كل صلاة) احتراز من الخطبة، فإنها شرط في الجمعة لا غير.

(2/170)


[فرع تكبير المأموم عقب تكبير الإمام]
] : ولا يكبر المأموم، حتى يفرغ الإمام وبه قال مالك، وأبو يوسف.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: (يكبر مع الإمام، كما يركع مع ركوعه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا كبر الإمام. . فكبروا» .
فإن سبق المأموم الإمام بالتكبيرة. . فإنه ينوي قطعها، ثم يكبر، وينوي الاقتداء بالإمام.
قال ابن الصباغ: وهذا يتصور عندي، إذا اعتقد أنه قد كبر، ولم يكن قد كبر. وإن ألحق صلاته بصلاة الإمام من غير أن ينوي القطع. . ففيه قولان، كما نقول في المنفرد إذا ألحق صلاته بصلاة الإمام، ويأتي توجيههما.
وإن أدرك الإمام في الركوع، فكبر تكبيرة واحدة، نوى بها الافتتاح، وتكبيرة الركوع.. لم تجزئه عن الفرض؛ لأنه أشرك بين الفرض والنفل، وهل تجزئه عن النفل؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنعقد نفلا، كما لو أخرج رجل خمسة دراهم، ودفعها إلى المساكين، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع، فإنها لا تجزئه عن الزكاة، وتقع له تطوعا.
والثاني: لا تنعقد نفلًا، كما لو أحرم بصلاة ونواها عن الفرض والنفل. . فإن صلاته لا تنعقد.

[مسألة رفع اليدين]
ويستحب أن يرفع يديه في تكبيرة الافتتاح، وعند الركوع، والرفع منه، وبه قال

(2/171)


الأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك.
وقالت الزيدية: لا يرفع يديه في شيء من الصلاة.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: (يرفع يديه في تكبيرة الافتتاح، ولا يرفع في الركوع، ولا في الرفع منه) .
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة. . . رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (روى هذا اثنا عشر رجلا من الصحابة، ورواه أبو حميد في عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهم: أبو قتادة) .
إذا ثبت هذا: فإنه يرفع يديه، حتى تحاذي كفاه منكبيه، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (يرفعهما، حتى تحاذي الكفان الأذنين) .
واحتج بما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه، حتى حاذتا أذنيه» .
ودليلنا: ما روي: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما قدم العراق المرة الأولى، جاءه أبو ثور، والكرابيسي - وكانا شيخي العراق - فأرادا أن يستعلما ما عنده، فقالا له:

(2/172)


تكلم، فقال: تكلما، فقالا: ما تقول في رجلين اصطدما، ومع كل واحد منهما بيضة، فانكسرت البيضتان؟ فقال: (هذا سهل، على كل واحد منهما نصف قيمة بيضة صاحبه. ولكن ما تقولان في رفع اليدين عند الافتتاح؟) فقالا: يرفع اليدين إلى المنكبين؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حذو منكبيه» . فقال: (ما تقولان فيما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى حاذتا أذنيه» ؟ . فقالا: نرفع اليدين إلى الأذنين، فقال: (فما تقولان فيما روى وائل بن حجر في خبر آخر: فرجعت إليهم - يعني: الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم؟) فقالا: لا نعلم.
فقال الشافعي: (أما رواية ابن عمر: فأراد أنه رفع الكف إلى المنكب، وأما رواية وائل بن حجر: فأراد أنه رفع أطراف الأصابع إلى أذنيه، وأما روايته الأخرى: أنه رجع إليهم وهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم: فإنما كان رجع إليهم في الشتاء، وكانت عليهم برانس وثياب الصوف الثقال، فلم يمكنهم أن يرفعوا أيدهم إلى المناكب؛ لثقل ما عليهم، فرفعوا إلى صدورهم) . فاستعمل الأخبار الثلاثة.
ومتى يرفع يديه؟
حكى أصحابنا البغداديون فيه وجهين:
أحدهما - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه لا يقدم رفع يديه على التكبير؛ لأن الرفع من هيئات الصلاة، والتكبير أول الصلاة، فلا تتقدم هيئته عليه، بل يرفع يديه عند ابتداء التكبير، فيفرغ من الرفع قبل فراغه من التكبير، فيتركهما مرفوعتين، حتى يفرغ من التكبير، ثم يرسلهما. فإن ترك يديه مرفوعتين بعد التكبير. . قال الشافعي: (لم يضره ذلك، ولا آمره به) .
والثاني: وهو قول الشيخ أبي إسحاق المروزي، وأبي علي الطبري، أنه يبتدئ

(2/173)


بالرفع مع ابتداء التكبير، ويفرغ منه مع فراغه من التكبير.
وليس بشيء؛ لأن من سنة التكبير: أن يأتي به مبنيا مرتلا، ولا يمكنه أن يأتي به على هذه الصفة في حال الرفع؛ لأن الرفع يحصل في وقت يسير لا يتمكن فيه من بيان التكبير وترتيله.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\63] فيه وجهين آخرين.
أحدهما: أنه يرفع يديه من غير تكبير، ثم يرسلهما بتكبير. واستدل بأن أبا حميد الساعدي روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يرفع يديه، ثم يكبر وهما مرفوعتان، ثم يرسلهما بعد التكبير، واستدل بأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[فرع في رفع اليدين]
قال الشافعي في " الأم " [1/90] : (ويرفع يديه في كل فريضة ونافلة، ولا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم، ولا فرق بين أن يصلي قائما أو قاعدا) .
قال الشافعي: (فإن ترك رفع اليدين، حيث أمر به. . كرهت ذلك، ولا إعادة عليه، ولا سجود) .
وقال في " الأم ": (وينشر أصابع يديه للتكبير) ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا كبر في الصلاة. . نشر أصابعه» .
فإن نسي الرفع حتى فرغ من التكبير. . . لم يسن له الإتيان به؛ لأن محله فات وإن ذكره في أثناء التكبير. . أتى به؛ لأن محله باق.
وإن كان بيديه علة لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين. . رفعهما إلى حيث أمكنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر. . فأتوا منه ما استطعتم» .

(2/174)


وإن كانتا قائمتين لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين إلا بأن يعلوا على المنكبين. . رفعهما إلى أعلى المنكبين. وكذلك إن كان يمكنه الرفع إلى ما دون المنكبين، ويمكنه الرفع إلى أعلى المنكبين ولا يمكنه الرفع إلى المنكبين. . فإنه يرفعهما إلى أعلى المنكبين؛ لأنه يأتي بزيادة هو مغلوب عليها.
وإن كانت إحدى يديه صحيحة، والأخرى عليلة. . رفع الصحيحة إلى المنكبين، ورفع العليلة إلى حيث أمكنه؛ لما مضى.

[مسألة موضع اليدين عقب التكبير]
فإذا فرغ من التكبير، وحط يديه. . . فالمستحب: أن يقبض بكفه اليمنى كوعه الأيسر مع الرسغ وبعض الساعد، ويضعهما تحت صدره، وفوق سرته.
وحكى أبو إسحاق في " الشرح ": أن الشافعي قال في " الأم ": (القصد تسكين يديه، فإن أرسل يديه، ولم يعبث بهما. . فلا بأس) . وروي ذلك عن ابن الزبير.
وقال الليث: (إن أعيا في الصلاة. . فعله، وإلا. . لم يفعله) .
وقال الأوزاعي: (من شاء. . فعل، ومن شاء. . ترك) .
وقال أبو إسحاق في " الشرح ": إذا وضع يديه إحداهما على الأخرى. . جعلهما تحت سرته. وهو مذهب أبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه.
دليلنا: ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] قال: (وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت النحر) . وهذا لا يقوله إلا لغة، أو توقيفا.
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نؤخر السحور،

(2/175)


ونعجل الفطر، ونأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة» .
«وروى وائل بن حجر: (أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) » .

[فرع موضع نظر المصلي]
ويتسحب أن يكون نظره في جميع صلاته إلى موضع سجوده، وبه قال أبو حنيفة والثوري.
وقال مالك: (ينظر أمام قبلته) .
وقال شريك بن عبد الله: ينظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود على حجره.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة. . . لم ينظر إلا إلى موضع سجوده» .
ولأنه أبلغ في الخشوع، فكان أولى.

[مسألة دعاء الإفتتاح]
] : وأول ما يأتي به من الذكر - في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام - دعاء الاستفتاح في الفريضة والنافلة.
وقال مالك: (لا يأتي به، بل يبتدئ بالقراءة) .
والذي استحبه الشافعي أن يقول: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استفتح الصلاة. . قال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات

(2/176)


والأرض حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ورب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين» .
وأما المنقول في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنا أول المسلمين» ولكن لا يقوله غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان أول المسلمين من هذه الأمة.
ثم يقول: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهديني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها إنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، إنا بك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» .

(2/177)


فقوله: «والخير بيديك، والشر ليس إليك» يقتضي: أن الخير من فعل الله، والشر ليس من فعله، ولم يفرق أحد من الأئمة بينهما؛ لأن أصحاب الحديث يقولون: الخير والشر من فعل الله، والمعتزلة يقولون: هما من فعل العبد.
إلا أن للخير تأويلين:
أحدهما - ذكره المزني -: وهو أن معنى: " والشر ليس إليك " أي: لا يضاف إليك وإن كنت خلقته؛ لأنه لا يضاف إليه إلا الحسن من أفعاله، فيقال: يا خالق النور والشمس والقمر، ولا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالقها، كذا لا يضاف إليه الشر وإن كان خالقه.
والتأويل الثاني - ذكره ابن خزيمة - أنه أراد أن الشر لا يُتقرب به إليك، وإنما يتقرب إليك بالخير.
قال ابن الصباغ: فإن كان منفردًا. . أتى بجميع ذلك. وإن كان إماما. . أتى به، إلا أن يكون في ذلك مشقة على المأمومين.
قال الطبري في " العدة ": والمستحب أن يقول: (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا) ، وجهت وجهي. .إلى آخره.
وقال أبو حنيفة: (يستحب أن يقول عقيب التكبيرة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك) . روته عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقرأ.

(2/178)


وقد استحب جماعة من أصحابنا أن يجمع بين هذا. وبين ما رواه الشافعي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو مذهب أبي يوسف.

[مسألة استحباب التعوذ]
ثم يتعوذ قبل القراءة، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وقال النخعي، وابن سرين: يتعوذ بعد القراءة. وبه قال أبو هريرة.
وقال مالك: (لا يتعوذ إلا في قيام رمضان بعد القراءة) .
وقال الثوري: يتعوذ قبل القراءة، ولكن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم.
وقال الحسن بن صالح: يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) .

(2/179)


دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
فإن كان في صلاة يسر بها. . أسر بالتعوذ. وإن كان في صلاة يجهر بها. . فقال الشافعي في " الأم " [1/93] : (كان أبو هريرة يجهر به، وابن عمر يسر به. وأيهما فعل. . جاز) وظاهر هذا: أنهما سواء.
وقال في " الإملاء ": (السنة: أن يجهر به.) .
فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان.
أحدهما: أنه مخير فيه بين الجهر والإسرار.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجهر به؛ لما روي في الخبر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة» . فلولا أنه جهر به.. لما سمع منه.
وقال أبو علي الطبري: السنة: أن يسر به؛ لأن السنة: الجهر للقراءة أو التأمين، دون غيره من الأذكار.
ويستحب ذلك في الركعة الأولى، وهل يستحب فيما سواها؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يستحب في كل ركعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] [النحل: 98] وهذا يريد القراءة.
والثاني: لا يستحب إلا في الركعة الأولى؛ لأنه ذكر شرع قبل القراءة، وبعد الافتتاح، فلم يسن في غير الأولى، كدعاء الاستفتاح.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يستحب في كل ركعة، قولا واحدًا، وإنما في الأولى أشد استحبابا.
فإن قلنا: يستحب في الأولى لا غير، فنسيه فيها. . أتى به في الثانية، ومتى ذكره. .

(2/180)


أتى به في ابتداء القراءة، فمتى تركه ناسيا، أو جاهلًا أو عامدًا. . لم يكن عليه إعادة، ولا سجود سهو.

[مسألة قراءة الفاتحة]
ثم يقرأ فاتحة الكتاب، وهي فرض في الصلاة، فإن تركها عامدا مع القدرة عليها. . لم تصح صلاته، وإن تركها ناسيا. . ففيه قولان:
[أحدهما] قال في القديم: (يجزئه) لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ترك القراءة في الصلاة، فقيل له في ذلك، فقال: (كيف كان الركوع والسجود؟) قالوا: حسنا قال: (فلا بأس به) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجزئه) وهو الأصح؛ لأن ما كان واجبًا في الصلاة.. لم يسقط بالنسيان، كالركوع والسجود.
هذا مذهبنا.
وقال الحسن بن صالح، والأصم: لا تجب القراءة في الصلاة.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (القراءة واجبة في الصلاة، إلا أنها لا تتعين) .
واختلفوا فيما يجزئه منها، فالمشهور من مذهبه: أن الواجب آية، إما طويلة، أو قصيرة، وروي عنه: (ما يقع عليه اسم القراءة) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن قرأ آية طويلة، كآية الكرسي، أو آية الدَّيْن. . أجزأه، وإن كانت قصيرة.. لم تجزئه إلا ثلاث آيات.
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيقرأ في الصلاة؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أو تكون صلاة بلا قراءة؟!» .

(2/181)


وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» .
وروى الشافعي بإسناده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تجزئ صلاة لم يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب» .

[فرع قراءة البسملة]
ويجب أن يبتدئها بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وهي آية منها، بلا خلاف على المذهب.
وهل هي آية من أول كل سورة غير براءة؟
الظاهر من المذهب: أنها آية من أول كل سورة غير براءة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أثبتوها في أول كل سورة غير براءة، ولم يثبتوا بين الدفتين غير القرآن.
ومن أصحابنا من يحكي فيها قولا آخر للشافعي، وبعضهم يحكيه وجهًا لبعض أصحابنا: أنها ليست بآية من أول كل سورة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سورة ثلاثون آية شفعت

(2/182)


لقارئها، وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » . ومعلوم أنها ثلاثون آية غير البسملة.
وهل هي آية من أول الفاتحة وغيرها على سبيل القطع، أو على سبيل الحكم؟
فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إنها آية من أول كل سورة قطعًا، كسائر القرآن.
وهذا القائل لا يقبل في إثباتها خبر الواحد، وإنما يثبتها بالنقل المستفيض؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نقلت إلينا هذه المصاحف، وأثبتوا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، ولم يكونوا يثبتون في المصحف شيئًا إلا ما يقطعون على كونه قرآنًا. ألا ترى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لولا أن يقال: إن عمر زاد في كتاب الله. . لكتبت آية الرجم على حاشية المصحف: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله ") .
و [الثاني] : منهم من قال: إني أثبتها قرآنًا، حكمًا على معنى: أنه يجب قراءتها في الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا بها، ولا أقطع على كونها قرآنًا في أول كل سورة.
وهذا القائل يقبل في إثباتها خبر الواحد؛ لأن خبر الواحد يوجب العمل، ولا يوجب العلم، وهذا مثل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس» .

(2/183)


ولا خلاف على الوجهين: أن رادها ومثبتها. . لا يكفر، وأن تاركها. . لا يفسق؛ لحصول الشبهة في الاختلاف فيها. هذا مذهبنا.
وذهب مالك، والأوزاعي إلى: (أنها ليست من القرآن، إلا في سورة (النمل) ، فإنها بعض آية منها، وفي سائر السور إنما ذكرت تبركًا بها. ولا تقرأ في الصلاة إلا في قيام رمضان، فإنها تقرأ في ابتداء السورة بعد الفاتحة، ولا تقرأ في ابتداء الفاتحة) .
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أنها ليست بآية من فاتحة الكتاب، وليست بشرط في صحة الصلاة؛ لأن القراءة لا تتعين عندهم، إلا أنه يستحب له قراءتها في نفسه سرًا.
واختلف أصحابه في مذهبه: فقال بعضهم: مذهبه كمذهب مالك، وأنها ليست من القرآن، إلا في (النمل) ، فإنها بعض آية، وهو الظاهر من مذهبه.
وقال بعضهم: مذهبه: أنها آية في كل موضع ذكرت فيه، إلا أنها ليست بآية من السورة. ويختارون هذا، ويناظرون عليه.
دليلنا - أنها آية من فاتحة الكتاب وغيرها -: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قرأتم فاتحة الكتاب. . فاقرؤوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ فإنها أم القرآن، والسبع المثاني، وإن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] إحدى آياتها» .
وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنزل علي آنفًا سورة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] » .

(2/184)


[فرع الجهر بالبسملة]
واختلف أهل العلم في الجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فيما يجهر به من الصلوات:
فذهب الشافعي إلى: أنه يجهر بها - بأول الفاتحة، وفي أول السورة - فيما يجهر به من القراءة في الصلاة، ويسر بها فيما يسر بالقراءة في الصلاة.
وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؛ وهي إحدى الروايتين عن عمر. وبه قال من التابعين: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير.
وذهبت طائفة إلى: أنه يسر بها في كل صلاة.
وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وهي إحدى الروايتين عن عمر، وبه قال

(2/185)


الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أحمد يقول: (هي من القرآن، ولكن يسر بها) .
وقال مالك، والأوزاعي: (لا تقرأ في الصلاة) ؛ لأنها ليست من القرآن عندهما، إلا في (النمل) ، فإنها بعض آية.
دليلنا: ما روى علي وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر بها في الصلاة، وبين السورتين» .
وروى نافع، عن ابن عمر قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أبي بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فكانوا يجهرون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » .

[فرع كيفية القراءة]
] : والمستحب: أن يقرأ قراءة مرتلة، من غير عجلة، ولا تمطيط. ويستحب ذلك لكل قارئ في الصلاة وغيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} [المزمل: 4] [المزمل: 3] . إلا أنه في الصلاة أشد استحبابًا؛ لأن القراءة تجب فيها دون غيرها.

(2/186)


قال الشافعي: (فإن أخل ببعض الفاتحة، أو بحرف من حروفها: إما ألف، أو لام، أو غير ذلك. . لم تجزئه صلاته) .
قال أصحابنا: وكذلك إذا ترك بعض التشديد الذي فيها. . لم تصح صلاته. ولم ينص عليه الشافعي، ولكن أهل اللغة والعربية قالوا: التشديد يقوم مقام حرف؛ لأن كل موضع ذكر فيه التشديد، فإنه قد أدغم مكانه حرفًا، فإذا ترك التشديد. . فكأنه قد ترك حرفًا.
وفي الفاتحة أربع عشرة تشديدة:
الأولى: تشديدة اللام في: بسم الله.
الثانية: تشديدة الراء من: الرحمن.
الثالثة: تشديدة الراء من: الرحيم.
الرابعة: تشديدة اللام من: لله.
الخامسة: تشديدة الباء من: رب.
السادسة: تشديدة الراء من: الرحمن.
السابعة: تشديدة الراء من: الرحيم.
الثامنة: تشديدة الدال من: الدين.
التاسعة: تشديدة الياء من: إياك.
العاشرة: تشديدة الياء من: وإياك.
الحادية عشرة: تشديدة الصاد من: الصراط.
الثانية عشرة: تشديدة اللام من: الذين.
الثالثة عشرة: تشديدة الضاد من: الضالين.
الرابعة عشرة: تشديدة اللام الأخيرة من: الضالين.

(2/187)


[فرع ترتيب الفاتحة]
ويجب أن يقرأ الفاتحة على الترتيب، كما أنزلت. فإن بدأ فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . . لم تجزئه حتى يبتدئ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاقرؤوا، كما علمتم» .
فإن قرأ آية على آية، أو حرفًا على حرف، أو قرأ في أثنائها من غيرها، فإن كان فعل ذلك عامدًا. . بطلت قراءته، واستأنفها، ولا تبطل صلاته، وإن كان ساهيًا. . لم تبطل قراءته، وعاد إلى الموضع الذي أخل بالترتيب فيه.
فإن قرأ آية منها مرتين، فإن كانت أول آية منها، أو آخر آية منها. . لم يؤثر ذلك. وإن كان في وسطها. . فالذي يقتضيه القياس: أنه كما لو قرأ في خلالها غيرها، فإن كان عمدًا. . بطلت قراءته، وإن كان ساهيًا. . بنى عليها.

[فرع من قدم على الفاتحة السورة أو سكت أثنائها]
] : فإن ابتدأ، فقرأ السورة، ثم قرأ الفاتحة. . قال الشافعي في " الأم " [1/95] : (أجزأته) . وإنما أراد: أن فاتحة الكتاب تجزئه دون السورة؛ لأنه قرأ السورة في غير موضعها، فكأنه لم يقرأها.
قال في " الأم " [1/95] : (وإن سكت سكوتًا طويلاً ساهيًا، أو تعايا فقطع القراءة. . لم تبطل قراءته. وإن تعمد ذلك. . بطلت قراءته) .
وإن نوى قطع القراءة، فإن سكت مع النية. . بطلت قراءته. وإن لم يسكت،

(2/188)


ومضى على قراءته. . لم تبطل؛ لأنه لو سكت عن القراءة عامدًا ولم ينو قطعها. . بطلت، فإذا نوى القطع مع السكوت. . أولى: أن تبطل. أما إذا نوى قطع القراءة، ولم يسكت. . لم تبطل؛ لأن الواجب عليه الإتيان بها، وقد أتى بها.
والفرق بينها، وبين الصلاة: أن الصلاة يجب في أولها القصد إلى فعلها، ثم يستديم حكم ذلك القصد، فإذا نوى قطعها. . بطلت. والقراءة لا يجب عليه القصد إلى فعلها، فلم تبطل بنية القطع من غير قطع.

[فرع قطع القراءة بتأمين ونحوه]
فإن فتح المأموم على غير الإمام، أو أجاب مؤذنًا في أثناء الفاتحة. . انقطعت قراءته. وإن فتح المأموم على الإمام، أو أمن بتأمينه، أو سجد للتلاوة في أثناء الفاتحة. . فهل تنقطع قراءته؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال القفال، وأبو علي الطبري، والقاضي أبو الطيب: لا تنقطع قراءته بذلك؛ لأن هذا مأمور به، فلم يقطع القراءة.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا مرت به آية رحمة فسأل، أو آية عذاب فاستعاذ، أو قال الإمام: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] [القيامة: 40] . فيقول المأموم: بلى. . لم تنقطع قراءته بذلك.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تنقطع قراءته ويستأنفها، إذا أمن بتأمين الإمام؛ لأن الشافعي قال: (لو عمد فقرأ فيها من غيرها. . استأنفها) .

[فرع النطق في غير اللسان]
] : قال في " الأم " [1/95] : (ولا يجزئه أن ينطق بصدره، ولا ينطلق به لسانه) ؛ لأن عليه: أن يحرك بالقراءة لسانه، ويسمع نفسه. فإن لم يسمع نفسه لشغل قلبه. . أجزأه؛ لأنه قد قرأ بحيث يسمع نفسه.

(2/189)


[مسألة حكم التأمين]
فإذا فرغ من الفاتحة. . أمن، وهو سنة لكل من قرأ الفاتحة في الصلاة وغيرها، وهو أن يقول: (آمين) ؛ لما روي عن وائل بن حجر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقال: " آمين "، ومد بها صوته» ومعناها: اللهم استجب، وفيها لغتان: أمين: بقصر الألف، وآمين: بمدها، والتخفيف فيهما.
وأنشدوا في المقصور:
تباعد عني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وأنشدوا في الممدود:
يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا
وأما بتشديد الميم: فإنهم: القاصدون، قال الله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . أي: قاصدين.

(2/190)


وأما الجهر به: فإن كان في صلاة يسر بها. . أسر به المنفرد، والإمام، والمأموم؛ لأنه تابع للقراءة.
وإن كان في صلاة يجهر بها، فإن كان منفردًا، أو إمامًا. . جهر به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام. . فأمنوا» .
قال الصيمري: أي لا تتقدموا عليه بالتأمين.
وإن كان مأمومًا. . فهل يجهر به؟
ينظر فيه: فإن نسي الإمام التأمين، أو الجهر به. . جهر المأموم به؛ لينبه الإمام وغيره.
وإن جهر به الإمام. . فهل يجهر به المأموم؟
قال في الجديد: (لا يجهر به، بل يسمع نفسه) .
وقال في القديم: (يجهر) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجهر به؛ لما روي: (أنهم كانوا يؤمنون خلف ابن الزبير، حتى إن للمسجد للجة) .
والثاني: لا يجهر به، كالتكبيرات.
ومنهم من قال: إن كان المسجد ضيقًا يبلغهم تأمين الإمام. . لم يجهر به المأموم، وإن كان كبيرًا لا يبلغهم تأمين الإمام. . جهر به المأموم. وحمل القولين على هذين الحالين. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (يؤمن الإمام والمأموم، ولكن يسران به) .

(2/191)


وعن مالك روايتان:
إحداهما: (لا يؤمن الإمام، ويؤمن المأموم) .
والثانية: (يخفيها الإمام) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام. . فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن بتأمين الإمام، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة. . غفر له ما تقدم من ذنبه» .

[فرع تأخير التأمين وفصله والدعاء بما شاء]
قال الشافعي: (وإذا أخر التأمين عن موضعه. . لم يأت به فيما بعد) .
وهذا كما قال: إذا قال المصلي: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ولم يأت بالتأمين، ودخل في غيره. . لم يأت بالتأمين؛ لأنه سنة مرتبة في مكان، فإذا فات موضعها. . لم يقض؛ كالتشهد الأول إذا حصل في القيام.
قال الشافعي: (والإذن بالتأمين يدل على: أن لكل مصل أن يدعو في صلاته بما شاء وأحب من دين ودنيا، مع ما فيه من الأخبار والآثار) ؛ لأن معناه: اللهم: افعل لي ما سألتك. فدل على: جواز الدعاء فيها.
والمستحب: أن لا يصل: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بـ: " آمين "، بل يفصل بينهما بسكتة يسيرة؛ ليعلم أنه ليس من كلام الله تعالى.

[مسألة وجوب القراءة]
وتجب القراءة في كل ركعة. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (تجب القراءة في معظم الصلاة، فإن كانت رباعية. . قرأ في ثلاث منها، وإن كانت ثلاثية. . قرأ في ركعتين، وإن كانت ركعتين. . قرأ فيهما) .
وقال أبو حنيفة، والثوري: (القراءة إنما تجب في الركعتين الأوليين، فأما الأخريان: فهو فيهما بالخيار، إن شاء. . قرأ، وإن شاء.. سبح، أو سكت. فإن لم يقرأ في الأوليين. . قرأ في الأخريين) .

(2/192)


وقال الحسن، وبعض أهل الظاهر: تجب القراءة في الصلاة دفعة واحدة. وروي ذلك عن أحمد.
دليلنا: ما روي عن عبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري: أنهما قالا: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة» .
وروى رفاعة بن [رافع بن] مالك قال: «دخل رجل المسجد، فصلى بقرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم جاء فسلم عليه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل " فصلى لنحو ما صلى أولاً، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل "، فقال: يا رسول الله، علمني كيف أصلي، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة. . فكبر، ثم اقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا. . . " وذكر الخبر، إلى أن قال: " وهكذا فاصنع في كل ركعة» .

(2/193)


ولأنها ركعة يجب فيها القيام، فوجبت فيها القراءة مع القدرة، كالركعة الأولى، وفيه احتراز ممن أدرك الإمام راكعًا.
وهل يقرأ المأموم؟ ينظر فيه:
فإن كان في صلاة يسر فيها. . قرأ المأموم.
وإن كان في صلاة يجهر فيها. . فهل تجب على المأموم قراءة الفاتحة؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه القراءة) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب عليه القراءة) .
وقال أبو حنيفة: (لا تجب على المأموم القراءة، سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية) . وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس.
فمن قال بالقديم: احتج بما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة يجهر فيها بالقراءة، فلما فرغ من صلاته. . قال: " هل فيكم من قرأ معي؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله، فقال: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ ! " قال: فانتهى الناس عن القراءة في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ سمعوا ذلك منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ودليلنا - للقول الجديد -: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» .
وروى عبادة بن الصامت قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف. . قال: " إنكم تقرؤون خلفي إذا جهرت؟ " فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، فقال: " لا تقرؤوا خلفي إذا جهرت، إلا بفاتحة الكتاب» .

(2/194)


وأما الخبر الأول: فقيل: إن قوله: (فانتهى الناس. . .) من كلام الزهري، فلا حجة فيه. على أنه وإن صح. . فإنما أراد: انتهى الناس عن المنازعة بالجهر بالقراءة. وخبر عبادة أولى؛ لأنه أزيد ومثبت، والإثبات أولى.
فإذا قلنا: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة. . فهل يسن له: أن يتعوذ؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يأتي به، وبه قال أبو حنيفة كما لا يأتي بالفاتحة.
والثاني: يأتي به؛ لأنه شارك الإمام في الذكر الذي يسر به.

[فرع تفسير القراءة بغير العربية]
] : ولا يقوم تفسير القراءة، ولا العبارة عنها بالفارسية مقامها، ولا يجزئ في الصلاة. وبه قال مالك، وعامة الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: (المصلي بالخيار، إن شاء. . قرأ القرآن، وإن شاء. . قرأ معنى القرآن، وتفسيره بالفارسية أو العربية، وغير ذلك، سواء كان يحسن قراءة القرآن، أو لا يحسنها) .
واختلف أصحابه، إذا قرأ المصلي معنى القرآن، وتفسيره: هل يكون قد قرأ القرآن؟
فمنهم من قال: إذا قرأ معنى القرآن. . فقد قرأ القرآن. وعلى هذا يناظرون.
ومنهم من قال: لا يكون قد قرأ القرآن، وإنما يكون في الحكم: يقوم مقامه.
وقال محمد بن الحسن، وأبو يوسف: إن كان هذا المصلي يحسن القرآن. . لم يجز أن يقرأ معنى القرآن. وإن كان لا يحسن القرآن. . جاز أن يقرأ معنى القرآن،

(2/195)


ويعبر عن القراءة بعبارة. كما قالا في التكبير.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: 20] .
وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» :

[مسألة فيمن لا يحسن الفاتحة أو بعضها]
وإن كان لا يحسن الفاتحة، وضاق الوقت عن التعلم، فإن كان يحسن غيرها من القرآن. . فإنه يقرأ سبع آيات من غيرها، سواء كن من سورة، أو من سور.
وهل يعتبر أن يكون بقدر حروف الفاتحة؟
منهم من يقول: فيه قولان. ومنهم من يقول: وجهان:
أحدهما: يعتبر أن يكون بقدر حروف الفاتحة، كما يعتبر عدد الآيات.
والثاني: لا يعتبر، كما لا يعتبر في قضاء الصوم عدد الساعات.
وإن كان يحسن آية من الفاتحة. . أتى بها. وهل يلزمه تكرارها، أو يقرؤها مرة، ثم يأتي بغيرها من القرآن إن كان يحسنه، أو من الذكر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكررها؛ لأنها أقرب إلى الفاتحة من غيرها.
والثاني: يأتي ببقية الآيات من غيرها؛ لأن هذه الآية قد سقط فرضها بقراءتها، فينبغي أن لا يعيدها، ويأتي بغيرها؛ كما إذا وجد بعض الماء. . فإنه يغتسل به، ويتيمم.
قال ابن الصباغ: وهذا الوجه يدل على صحة السنة، في الرجل الذي قال: لا أستطيع أن أحفظ شيئًا من القرآن، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي بالذكر، وفيه: " الحمد لله ".

(2/196)


ولا يتعذر عليه أن يقول: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكرارها.
وإن كان يحسن أقل من الفاتحة من غيرها من القرآن. . فهل يلزمه تكراره، أو يلزمه أن يأتي بتمامه من الذكر؟ على الوجهين فيمن يحسن آية من الفاتحة.
قال ابن الصباغ: وذكر الشيخ أبو حامد: أن في ذلك قولين نص عليهما في " الأم ".
فإن كان يحسن النصف الأول من الفاتحة لا غير، وقلنا: " لا يلزمه تكراره. . فإنه يأتي به أولا، ثم يأتي بالبدل بعده.
وإن كان يحسن النصف الأخير منها. . فإنه يأتي بالبدل أولاً، ثم بالنصف الذي يحسنه؛ لأن الترتيب شرط في القراءة.
ولو تعلم الفاتحة في إتيانه بالبدل. . ففيه وجهان:
الصحيح: أنه يترك البدل، ويشتغل بالفاتحة.
والثاني: يمضي في البدل، ولا يشتغل بالفاتحة.
ولو تعلم الفاتحة بعد فراغه من البدل، وقبل الركوع. . فمنهم من قال: فيه وجهان، كالأولى.
ومنهم من قال: لا يلزمه قراءة الفاتحة، وجهًا واحدًا.
وإن كان لا يحسن شيئًا من الفاتحة، ولا من غيرها. . فإنه يأتي مكانها بالذكر.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه، ويقوم ساكتًا) .
وقال مالك: (لا يلزمه الذكر، ولا القيام) .
دليلنا: ما روى رفاعة [بن رافع] بن مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة. . فليتوضأ كما أمره الله، ثم ليكبر، فإن كان معه شيء من القرآن. . قرأ به، وإن لم يكن معه شيء. . فليحمد الله، وليكبر» .

(2/197)


وروى عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لا أستطيع أن أحفظ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في الصلاة. فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
وهل يتعين عليه هذا الذكر؟
فيه ثلاثة أوجه:
[الأول] : منهم من قال: يتعين عليه هذا الذكر، ولكن يضيف إليه كلمتين أخريين؛ ليكون بقدر سبع آيات، والأولى أن يضيف إليه ما روي في بعض الأخبار: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) . ولا يعتبر - على هذا -: عدد الحروف.
و [الثاني]- وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يتعين عليه هذا الذكر، بل يجب عليه أن يأتي من ذكر الله تعالى ما شاء، ويعتبر أن تكون حروفه بقدر حروف الفاتحة، ويسقط اعتبار الآيات؛ لأنه لا يمكن اعتبارها من الذكر.
و [الثالث] : وهو قول أبي علي في " الإفصاح " -: إنما يجب الذكر الذي نص عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الخمس الكلمات، ولا تجب الزيادة عليه. وهو الصحيح؛ لأن الرجل قال: يا رسول الله، علمني ما يجزئني في الصلاة، فعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا، ولم يأمره بالزيادة:
وقد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من الخمس الكلمات. . قال الرجل: هذا لله تعالى، فما لي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل: اللهم ارحمني، وعافني، وارزقني» .
وإن لم يحسن شيئًا من القرآن، ولا من الذكر. . وجب عليه أن يقوم بقدر قراءة الفاتحة، وعليه أن يتعلم.

(2/198)


[مسألة القراءة بعد الفاتحة]
ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة، وذلك سنة.
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تجب القراءة بعد الفاتحة، وأقله ثلاث آيات) .
وقال عثمان بن أبي العاص: (تجب القراءة بعد الفاتحة، وأقله ما يقع عليه الاسم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» . فنفى الصلاة بعدمها، وأثبتها بوجودها، فدل على: أنه لا يجب غيرها.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «كل صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب. . فهي خداج» .
و (الخداج) : الناقص، فدل على: أن الصلاة التي يقرأ فيها بفاتحة الكتاب تمام.
إذا ثبت هذا: فإن المستحب عندنا - إن كان في صلاة الصبح -: أن يقرأ بـ: (طوال المفصل) ؛ وهو: السبع الأخير من القرآن، مثل: (الحجرات) ، و (ق) ، و (الواقعة) .

(2/199)


وقال أبو حنيفة: (يقرأ في الأولى من: ثلاثين آية، إلى ستين آية. وفي الثانية من: عشرين آية، إلى ثلاثين آية) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] » [ق: 10] يعني: سورة ق.)
وإن كان يوم جمعة. . قرأ فيها: {الم} [السجدة: 1] * {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] [السجدة] ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] [الدهر] ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ ذلك فيها يوم الجمعة» .
فإن قرأ فيها أوساط المفصل، أو قصاره. . جاز؛ لما روى عمرو بن حريث أنه قال: «كأني اسمع صوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في صلاة الغداة: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] » [التكوير: 15] ) .

(2/200)


وروى أبو داود: «أن رجلاً من جهينة سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] » [الزلزلة] .
قال الشافعي: (ويقرأ في الظهر شبيهًا مما يقرأ في الصبح) - وحكى الكرخي مثل ذلك عن أبي حنيفة - لما روى أبو سعيد الخدري قال: «حزرنا قيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، قدر: {الم} [السجدة: 1] * {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] [السجدة] ، وحزرنا قيامه في الأخريين منها على النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك» .
ومعنى قوله: (حزرنا) أي: قدرنا.
فإن قرأ غيرها. . جاز؛ لما روي عن جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان يقرأ في الظهر، والعصر بـ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ، و {الطَّارِقُ} [الطارق: 2] وما أشبههما، ويقرأ في العصر، والعشاء بأوساط المفصل، كسورة (الجمعة) و (المنافقين) ، وما أشبههما» .
وقال أبو حنيفة: (يقرأ في العصر في الأوليين في كل ركعة بعد الفاتحة عشرين آية، وكذلك في العشاء) .
دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء سورة الجمعة والمنافقين» .

(2/201)


فإن قرأ غيرهما. . جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء الآخرة بـ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] و {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] » .
ويستحب أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيها بقصار المفصل» .
وروى: (أن ابن مسعود كان يقرأ فيها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [الإخلاص: 1] ) .
فإن قرأ فيها غيرها. . جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها بـ: الأعراف» .
وروى جبير بن مطعم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها: {وَالطُّورِ} [الطور: 1] » .

(2/202)


وروت أم الفضل قالت: «خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، فقرأ بـ: {وَالْمُرْسَلاتِ} [المرسلات: 1] فما صلاها بعد، حتى لقي الله تعالى» .

[فرع قراءة السورة للمأموم وفيما زاد على الركعتين]
والتسوية بين الأوليين ويوجز في الأخرين] : وهل يسن قراءة السورة للمأموم؟ ينظر فيه:
فإن كان في صلاة جهرية، تسمع فيها قراءة الإمام. . فلا يسن له؛ لما مضى في حديث عبادة.
وإن كان في صلاة سرية، أو جهرية لا يسمع فيها قراءة الإمام. . فوجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 65] . وكذا الوجهان فيمن تباعد عن الخطيب، بحيث لا يسمع الخطبة: هل الأولى له أن يقرأ القرآن، أو يسكت؟
وهل تستحب قراءة السورة فيما زاد على ركعتين؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يستحب)
قال أبو إسحاق المروزي: وهو الصحيح - وبه قال مالك، وأبو حنيفة - لما روى أبو قتادة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ السورة في الأوليين دون الأخريين» .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يستحب أن يقرأ السورة فيهما) .
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لحديث أبي سعيد الخدري.

(2/203)


إذا ثبت هذا: فيستحب عندنا أن يسوي بين الركعات في القراءة، ولا يفضل أوله على ثانيه، وأما الأخريان: فالمستحب فيهما: الحذف والإيجاز، على القولين.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (يستحب أن تفضل الأولى على الثانية في الفجر خاصة) .
وقال الثوري، ومحمد: يستحب في جميع الصلوات أن يطيل الركعة الأولى على التي بعدها. وبه قال الماسرجسي، من أصحابنا.
دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري: «أنه كان يقرأ في الظهر في كل ركعة ثلاثين آية» .

[فرع قراءة المسبوق]
] : قال الشافعي: (وإن فات رجلاً ركعتان مع الإمام من الظهر. . قضاهما بأم القرآن وسورة) . واختلف أصحابنا في صورة ذلك:
فقال أبو إسحاق: إنما قال ذلك؛ لأنه لم يقرأها في الأوليين، ولا أدرك قراءة الإمام لها، فاستحب له أن يأتي بها؛ لتحصل له فضيلتها.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": إنما قال هذا على القول الذي يقول: إنه يقرأ السورة في جميع الركعات. فأما على القول الآخر: فلا يقرأ. وإلى هذا ذهب القاضي أبو حامد.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.
فإن كان ذلك في صلاة جهرية. . فهل يجهر المأموم، أو يسر في الأخريين؟
فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجهر؛ لأن سنة القراءة في الأخريين الإسرار.
والثاني: يجهر؛ ليدرك ما فاته من الجهر بالقراءة.

(2/204)


[فرع ما يجهر به من الصلوات للرجل والمرأة وتلقين الإمام]
] : والسنة: أن يجهر الإمام، والمنفرد في: الصبح، والأوليين من المغرب، والأوليين من العشاء، ويسر فيما سوى ذلك من الصلوات الخمس؛ لأنه نقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلاً متواترًا، وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن فاتته في صلاة سرية، فقضاها. . أسر بها القضاء، سواء قضى في وقت الجهرية، أو في وقت السرية.
وإن فاتته صلاة جهرية، فإن قضاها في وقت الجهرية. . جهر بها. وإن قضاها في وقت السرية. . ففيه وجهان:
أحدهما: يسن له الجهر في القضاء، كما لو قضى السرية في وقت الجهرية.
والثاني: لا يسن له الجهر بها؛ لأنه يقال: صلاة النهار عجماء.
ولا تجهر المرأة في موضع فيه رجال أجانب؛ لأنه يخاف الافتتان بصوتها.
قال في " الأم ": (ولا بأس بتلقين الإمام إذا أحصر) ؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام. . فأطعموه) و (استطعامه) : سكوته.

[مسألة تكبيرات الانتقال ورفع اليدين]
] : فإذا فرغ من السورة. . ركع، ولا يصل تكبيرة الركوع بآخر السورة؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسكت سكتة إذا افتتح القراءة، وسكتة إذا فرغ

(2/205)


من القراءة، فرآه، فأنكر عليه عمران بن الحصين هذه الرواية، فكتبوا بذلك إلى أبي بن كعب، فقال: صدق سمرة بن جندب» .
والركوع واجب بنص الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {ارْكَعُوا} [الحج: 77] [الحج: 77] .
وأما السنة: فإنه نقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلاً متواترًا.
وأجمعت الأمة على وجوبه.
ويستحب أن يكبر للركوع، فيبتدئ التكبير قائمًا، ويرفع يديه، ويأتي بهما في حالة واحدة، فيكون ابتداء رفع يديه - وهو قائم - مع ابتداء التكبيرة، فإذا حاذى كفاه منكبيه. . انحنى - حينئذ - للركوع، ومد تكبيره، حتى يكون انقضاؤه مع ركوعه؛ لأن الرفع هيئة للتكبير، فلهذا قلنا: يأتي به مع التكبير.
وقال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير: لا يكبر المصلي، إلا عند افتتاح الصلاة.

(2/206)


وقال أبو حنيفة: (لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح، وإذا كبر للركوع. . فإنه يكبر قائمًا، فإذا فرغ من التكبير. . انحنى للركوع) .
دليلنا: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر إذا افتتح الصلاة، وفي كل خفض، ورفع، وقيام، وقعود. وكذلك أبو بكر، وعمر» .
وروي عن عكرمة: أنه قال: «صليت خلف شيخ بـ: مكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فأتيت ابن عباس، فقلت له: إني صليت خلف شيخ أحمق، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقال: (ثكلتك أمك، تلك صلاة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ودليلنا - على أبي حنيفة -: حديث ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند الرفع منه» .
فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير، ثم ذكر. . لم يرفع يديه؛ لأنه هيئة في محل، فإذا فات. . لم يؤت به. وإن ذكر ذلك قبل الفراغ من التكبير. . فإنه يرفع؛ لأن محله باق.
قال الشافعي: (فإن ترك رفع اليدين. . فلا سجود عليه للسهو؛ لأنه هيئة) .

[فرع كيفية الركوع]
وأقل ما يجزئ في الركوع: أن ينحني إلى حد لو أراد أن يقبض بيديه على ركبتيه. . أمكنه ذلك. ويطمئن، وهو أن يلبث - بعد أن يبلغ حد الإجزاء - لبثا ما.

(2/207)


وقال أبو حنيفة: (لا تجب الطمأنينة) ؟
دليلنا: ما روي في خبر الأعرابي المسيء صلاته: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «ثم اركع، حتى تطمئن " إلى أن قال في آخر الخبر: " فإذا فعلت ذلك. . فقد تمت صلاتك» .
فإذا رفع رأسه من الركوع، وشك: هل بلغ ركوعه إلى حد الإجزاء. . لم يجزئه ذلك، وعليه أن يرجع إلى حد الإجزاء؛ لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته.
وأما الكمال في الركوع: فهو أن يقبض على ركبتيه بيديه، ويفرق بين أصابعه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد ظهره وعنقه، ولا يقنع رأسه، ولا يخفضه، ولا يطبق يديه بين ركبتيه.
وقال ابن مسعود: (يطبق يديه، ويجعلهما بين ركبتيه) . وروي ذلك عن صاحبيه: الأسود بن يزيد، وعبد الرحمن بن الأسود.
دليلنا: ما روي: (أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمحضر جماعة من الصحابة) - فذكر نحو ما قلناه - فقالوا: (صدقت) .

(2/208)


وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يذبح الرجل في الصلاة كما يذبح الحمار» .
و (التذبيح) : هو أن يخفض رأسه في الركوع، كما يخفض الحمار رأسه، وقد روي بالدال والذال.
وروي «عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص: أنه قال: (صليت إلى جنب أبي، فطبقت يدي، وجعلتهما بين ركبتي، فضرب أبي في يدي، فلما انصرف، قال: يا بني: إنا كنا نفعل هذا، فنهينا عنه، وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب» وهذا يدل على النسخ.
وإن كان المصلي امرأة. . لم تجاف، بل تضم المرفقين إلى الجنبين؛ لأن ذلك أستر لها.
وإن كان خنثى مشكلاً. . قال القاضي: لم نأمره بالضم، كما نأمر المرأة، ولا نأمره بالتجافي، بل أيهما فعل. . فهو مجزئ؛ لأنه ليس أمرنا له بأحدهما، بأولى من الآخر.
قال: وكذلك لا يجهر الخنثى بالقراءة في الصلاة الجهرية، بل من سنته الإسرار؛ خوف الافتتان بصوته، إن كان امرأة.
ويستحب أن يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، ثلاث مرات، وذلك أدنى الكمال؛ لما روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات. . فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد

(2/209)


فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات. . فقد تم سجوده، وذلك أدناه» .
وقيل لأحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هل يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده؟ فقال: (أما أنا: فلا أقول: وبحمده) .
قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: الأولى أن يقوله؛ وقد رواه حذيفة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن فيه زيادة حمد.
قال الشيخ أبو حامد: وقد غلط بعض أصحابنا، وقال: أكمل الكمال أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، خمسًا، أو سبعًا، وهو قول الحسن البصري، واختاره صاحب " الفروع "، وليس بشيء، بل أكمل الكمال أن يقول في ركوعه - مع التسبيح ثلاث مرات - ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، خشع سمعي وبصري، وعظامي، وشعري، وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح» .

(2/210)


قال الشافعي: (وأستحب ذلك كله؛ لأنه يخف، ولا يثقل) .
ولا يجب التسبيح في الركوع والسجود، وهو قول كافة أهل العلم.
وقال بعض أهل الظاهر: (هو واجب فيهما) . وحكي ذلك، عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وليس بصحيح عنه.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] [الحج: 77] . ولم يذكر التسبيح، وكذلك المسيء صلاته، لم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسبيح فيهما.

[فرع قصد فعل الأركان]
قال الشافعي: (فإن ركع رجل، وبلغ الموضع الذي لو أراد أن يقبض بيديه على ركبته أمكنه، ثم أراد أن يرفع رأسه، فسقط على وجهه. . أجزأه ركوعه، وكان عليه أن ينتصب قائمًا، ثم يهوي ساجدًا) .

[مسألة الرفع من الركوع]
ثم يرفع رأسه من الركوع، ويعتدل، وذلك واجب.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود. . أجزأه) .
واختلف أصحاب مالك في مذهبه:
فمنهم من قال: هو واجب عنده. كقولنا.
ومنهم من قال: مذهبه: أنه ليس بواجب عنده. كقول أبي حنيفة.
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا» .
وروى أبو مسعود الأنصاري البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم

(2/211)


الرجل فيها صلبه من الركوع والسجود» .
إذا ثبت هذا: فإن السنة عندنا أن يجمع بين ثلاثة أشياء:
أن يبتدئ مع الرفع بقول: سمع الله لمن حمده، وأن يرفع يديه مع رفع صلبه، حتى يحاذي بهما منكبيه.
فإذا استوى قائمًا. . قال: ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملئ ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء، والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.

(2/212)


وإن قال: (ربنا ولك الحمد) . . فقد روي ذلك، وذكر الشيخ أبو حامد: ما يقوله العبد حق، وكل لك عبد.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإن قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو الحمد لربنا، أو قال: من حمد الله سمع له. . جاز) ؛ لأن معنى الجميع واحد، إلا أن الأولى أن يأتي بالأول؛ لما روى أبو سعيد الخدري: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك) .
ومعنى قوله: (سمع الله لمن حمده) أي: تقبل الله منه حمده، وأجاب حمده. تقول العرب: اسمع دعائي، أي: أجب دعائي.
ومعنى قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح.

[فرع الذكر في الإعتدال]
ويستحب للإمام والمأموم أن يأتي بجميع هذا الذكر.
وقال أبو حنيفة: (الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يزيد عليه، والمأموم يقول: ربنا لك الحمد، ولا يقول: سمع الله لمن حمده) .
واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد» .
وقال مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد: (يأتي الإمام بهما، والمأموم يقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك كله، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
ولأنه ذكر مسنون في الانتقال للإمام، فسن للمأموم، كالتكبيرات.

(2/213)


وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. . قولوا: ربنا لك الحمد» . . فيحتمل: أن يكون قال لهم ذلك؛ لأنهم لا يسمعون الإمام يقولها، وإنما يجهر بقوله: سمع الله لمن حمده. ولم يأمرهم بها؛ لأن المأمومين مقتدون بالإمام في جميع الأذكار، فاقتصر على تعريفهم ما لا يجهر به، دون ما يجهر به.
ويجب أن يطمئن قائمًا: فلو سجد، ثم شك، هل رفع رأسه من الركوع أم لا؟ وجب عليه أن ينتصب، فإذا انتصب. . سجد.
وإن أتى بقدر الركوع الواجب، فاعترضته علة منعته عن الانتصاب. . فإنه يسجد من ركوعه، ويسقط عنه الرفع؛ لتعذره.
فإن زالت العلة. . نظرت:
فإن زالت قبل أن يبلغ بجبهته إلى الأرض. . فإنه يرتفع، وينتصب، ويسجد؛ لأن العلة زالت قبل فعله لركن، أو فعل مقصود.
وإن زالت بعد ما حصلت جبهته على الأرض ساجدًا. . فإنه لا ينتصب، ويسقط عنه؛ لأن السجود قد صح، فسقط ما قبله.
فإن خالف، وانتصب من السجود قبل تمامه، فإن كان عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً. . لم تبطل، ويعود ويجلس للفصل بين السجدتين، ويسجد للسهو.

[مسألة فرضية السجود]
ثم يسجد، وهو فرض.
والدليل عليه: الكتاب، والسنة، والإجماع الذي ذكرناه في الركوع.

(2/214)


ويكبر؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود.
ويستحب أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء انحنائه إلى السجود، حتى يكون آخر التكبيرة مع أول السجود، هذا نقل أصحابنا البغداديين، وهو المشهور، وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 65] فيه قولين:
أحدهما: هذا، وهو قوله الجديد.
والثاني: لا يمده، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: أن الهوي إلى السجود فعل في الصلاة، فاستحب مد التكبير فيه؛ لئلا يخلو من ذكر، كسائر أفعال الصلاة.
والمستحب: أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في السجود: ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، وبهذا قال عمر بن الخطاب، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال الأوزاعي: (المستحب أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في سجوده: يداه، ثم ركبتاه) .
وقال مالك: (إن شاء وضع اليدين أولا، وإن شاء وضع الركبتين أولاً) .
دليلنا: ما روى مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين» .
وروى وائل بن حجر، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض، رفع يديه قبل ركبتيه» .

(2/215)


والأكمل في السجود: أن يسجد على جبهته، وأنفه، وكفيه، وركبتيه، وقدميه؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته» .
وروى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، ومكن جبهته وأنفه من الأرض» .
والواجب عندنا: هو السجود على الجبهة، دون الأنف، وبه قال الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وإسحاق: يجب السجود عليهما، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما.

(2/216)


وحكاه أبو زيد المروزي قولاً لنا، وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة: (إذا اقتصر في السجود على أحدهما. . أجزأه) .
قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا سبقه بهذا القول.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته» ، ولم يذكر الأنف، وما كان مأمورًا به لا يجوز تركه.
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت. . فمكن جبهتك من الأرض» ، ولم يذكر الأنف.
وروي عن جابر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر» .
ومعلوم: أنه إذا سجد كذلك. . لم يسجد على الأنف.
فإن كان بجبهته جراحة، فعصبها بعصابة، وسجد على العصابة. . أجزأه؛ لأنه لما جاز ترك أصل السجود؛ لعذر. . فلأن يجوز ترك مباشرة الجبهة لعذر أولى.
والمستحب: أن يسجد على جميع جبهته؛ لحديث أبي حميد، فإن سجد على بعض الجبهة. . أجزأه؛ لحديث جابر.
وكذلك لو عصب على جبهته بعصابة مشقوقة، وسجد عليها، وماس بعض جبهته الأرض من شق العصابة. . أجزأه، كما لو سجد بأعلى جبهته.
وإن سجد على حائل متصل به، مثل كور عمامته، أو طرف منديله، أو ذيله، أو بسط كفه، فسجد عليه. . لم يجزئه ذلك، وبه قال مالك، وأحمد بن حنبل.

(2/217)


وقال أبو حنيفة: (يصح سجوده على ذلك كله) .
دليلنا: ما روى رفاعة بن رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ، حتى يضع الوضوء مواضعه. . .» ، إلى أن قال: «ثم يسجد، فيمكن جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله» .
وهل يجب السجود على اليدين، والركبتين، والقدمين؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، وأكثر الفقهاء. قال في " المهذب ": وهو الأشهر.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سجد وجهي» ، فأضاف السجود إلى الوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجدت. . فمكن جبهتك من الأرض» ، ولم يذكر ما عداها، فدل على أنه لا يجب السجود على ما عداها.
ولأنه لا يجب الإيماء بباقي الأعضاء في السجود عند العجز، فدل على أنه لا يجب السجود عليها.
والثاني: يجب السجود عليها. قال الشافعي: (وهذا قول يوافق الحديث) .
ووجهه: حديث ابن عباس: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة. . .» الخبر.
فإذا قلنا: لا يجب السجود عليها، إلا أنه لا يمكنه أن يسجد، إلا بأن يعتمد على بعض هذه الأعضاء. . فله أن يعتمد على أيها شاء، ويرفع أيها شاء.
وإذا قلنا: يجب السجود عليها. . . قال الشافعي في " الأم " [1/99] : (فإن سجد على ظهر كفيه. . لم يجزئه، وكذلك إن سجد على حرف راحته، مما يلي ظهر كفه. .

(2/218)


لم يجزئه، وإن سجد على بعض كفيه. . جاز، كما يجزئ بعض جبهته) .
قال في " الفروع ": وإن سجد على ظاهر قدميه. . أجزأه.
وأما كشف هذه الأعضاء في السجود: فلا يجب كشف القدمين والركبتين؛ لأن كشف ذلك يؤدي إلى بطلان الصلاة، وذلك أن الركبتين من العورة، وقد يكون لابسًا للخف. . فتبطل الطهارة بكشف القدم، فتبطل الصلاة بذلك.
وهل يجب كشف الكفين؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب؛ لما روي عن خباب بن الأرت: أنه قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» .
ولأنه عضو له مدخل في التيمم. . فوجب كشفه في السجود، كالوجه.
والثاني: لا يجب؛ لأنه عضو لا يبرز في العادة إلا لحاجة، فلم يجب كشفه في السجود، كالركبتين والقدمين.
وأما الخبر: فيرجع إلى الجباه، دون الأكف.
قال في " الأم " [1/99] : (فإن هوى الرجل ليسجد، فسقط على جنبه، ثم انقلب، فماست جبهته الأرض، فإن كان بانقلابه نوى السجود. . أجزأه، وإن لم ينوه. . لم يجزئه) ؛ لأنه إذا سقط على جنبه ... فقد خرج عن سمت السجود، فلا يرجع إليه إلا بفعل، أو نية.
فالفعل: هو أن يعود جالسًا، ثم يسجد. والنية: أن ينوي بانقلابه السجود.

(2/219)


وتجب الطمأنينة في السجود، وهو أن يلبث لبثا ما.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم اسجد، حتى تطمئن ساجدًا» .
والكمال في السجود: أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، حتى لو لم يكن عليه ثوب رؤيت عفرة إبطيه؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . جافى عضديه عن جنبيه، حتى يرى بياض إبطيه» .
ويقل بطنه عن فخذيه؛ لما روى البراء بن عازب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . جخ» ، وروي: (جخى) . و (الجخ) : الخاوي.
وروي عن ميمونة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد. . جافى يديه، حتى لو أرادت بهمة أن تمر تحته. . لمرت» .

(2/220)


وإن كانت امرأة. . ضمت بطنها إلى فخذيها؛ لأن ذلك أستر لها.
ويضع يديه حذو منكبيه، ويضم أصابعهما، ويضم إبهامه إليها، ويستقبل بها القبلة؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . ضم أصابعه، وجعل يديه حذو منكبيه» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . وضع أصابعه تجاه القبلة» .
والفرق بين الركوع والسجود في ضم الأصابع: أنه إذا فرق أصابع يديه في الركوع على ركبتيه. . كان أمكن لركوعه، وأمن من السقوط، وفي السجود لا يخاف السقوط.
ولأنه إذا ضم أصابعه في السجود. . استقبل بها القبلة، ولو فرقها.. لم يستقبل بها القبلة، وفي الركوع لا يستقبل بها القبلة، سواء ضمها، أو فرقها.
ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه؛ لما روى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت. . فضم كفيك، وارفع مرفقيك» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجد أحدكم. . فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب» .

(2/221)


ويفرج بين رجليه؛ لما روى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . فرج بين رجليه» .
وينصب قدميه؛ لما روى سعد بن أبي وقاص: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين» ، يعني: في السجود.
ولا يكف شعره، ولا ثوبه عن الأرض؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة، وألا يكف شعرًا ولا ثوبًا» . وروى: (ولا يكفت) ، والكفت: الجمع.
ويستحب أن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود.
وروى عن عقبة بن عامر: أنه قال: «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96] [الواقعة: 96] : قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلوها في ركوعكم "، ولما نزل قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى: 1] . . قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في سجودكم» .
قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: ويزيد: (وبحمده) ؛ لما مضى في الركوع.
وأكمل الكمال: أن يقول مع ذلك، ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين» .

(2/222)


ويستحب أن يدعو في سجوده بما أحب من أمر دينه ودنياه؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو في سجوده، فيقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، آخره وأوله، علانيته وسره» .
قال الشافعي في بعض كتبه: (يقول في سجوده: سجد وجهي حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا) .
قال الشافعي في " الأم " [1/100] : (ويجتهد في الدعاء، رجاء الإجابة، ما لم يكن إمامًا، فيثقل على من خلفه، أو مأمومًا، فيخالف إمامه) .
وقال في " الإملاء ": لا يزيد على الدعاء الذي ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» .
ومعنى قوله: " فقمن "، أي: جدير، وحقيق، وحري أن يستجاب لكم، وقد روي بفتح الميم وكسرها.
ويكره أن يقرأ في الركوع أو السجود؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني نهيت أن أقرأ راكعًا، أو ساجدًا» .

[مسألة الرفع من السجود]
ثم يرفع رأسه مكبرًا؛ لحديث أبي هريرة، ويكون ابتداء التكبير مع ابتداء الرفع،

(2/223)


ويمده، حتى ينتهي إلى آخره مع انتهاء الرفع؛ لئلا يخلو فعل من ذكر. ويجب عليه أن يطمئن في هذا الاعتدال.
وقال أبو حنيفة ومالك: (لا يجب عليه الطمأنينة فيه، فمتى رفع رأسه رفعًا ما. . أجزأه) ، حتى حكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لو رفع جبهته بقدر ما يدخل بين جبهته والأرض سمك سيف. . أجزأه) . وقال مالك: (يعتبر ما كان أقربه إلى الجلوس) ، وكذلك يقول في الاعتدال عن الركوع: (ما كان أقربه إلى القيام) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يرفع رأسه من السجود، حتى يطمئن جالسًا» .
وأما الكلام في صفة هذا الجلوس: فقال الشافعي: (هو أن يثني رجله اليسرى، ويقعد عليها، وينصب قدمه اليمنى) .
وحكى أبو علي في " الإفصاح "، عن الشافعي قولاً آخر: (أنه يجلس على صدور قدميه) ، والأول هو المشهور؛ لما روي: أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأولى. . ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه» .

[فرع كراهة الإقعاء]
ويكره الإقعاء في الجلوس، وروي عن العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير: أنهم قالوا: (هو من السنة) ، وبه قال نافع، وطاوس، ومجاهد.

(2/224)


دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الإقعاء في الصلاة» ، وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: يا علي، أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين» .
واختلف في تأويله: فقال أبو عبيدة: هو أن ينصب ساقيه معًا على الأرض، ويجلس على أليتيه.
وقال أبو عبيد: وسمعت أهل العلم يقولون: (الإقعاء) : هو أن يفترش رجليه، ويجلس على عقبيه.
هكذا ذكر في " التعليق "، وذكر في " المهذب " تأويلاً آخر، فقال: هو أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه.
وأما الذكر في الجلوس بين السجدتين: فلم يذكر الشافعي فيه شيئًا، ولكن قد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارفعني، واهدني، وارزقني» ،

(2/225)


وفي رواية أم سلمة: «واهدني للسبيل الأقوم، وعافني» .
والمستحب: أن يقول ذلك.
وقال أبو حنيفة: (ليس فيه ذكر مسنون) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، ولأن أفعال الصلاة مبنية على أن لا ينفك شيء منها من ذكر الله.

[مسألة السجدة الثانية]
ثم يسجد سجدة ثانية على ما ذكرناه في الأولى من التكبير وغيره.
فإذا رفع رأسه منها. . فروى المزني: (أنه يستوي قاعدًا، ثم ينهض) ، وقال في " الأم " [1/101] : (يقوم من السجدة الثانية) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجلس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من السجود. . استوى قائمًا بتكبيرة» .
والثاني: يجلس؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي عن مالك بن الحويرث: «أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فكان إذا كان في وتر من صلاته. . لم ينهض، حتى يستوي جالسًا» .

(2/226)


وقال أبو إسحاق: هي على حالين: فإن كان ضعيفًا.. جلس؛ لأنه يحتاج إليها للاستراحة، وإن كان قويًا. . لم يجلس؛ لأنه لا يحتاج إليها.
فإذا قلنا: لا يجلس. . فإنه يبتدئ بالتكبير مع ابتداء الرفع، وينتهي به مع انتهاء الرفع، وذلك عند أول حالة القيام.
وإذا قلنا يجلس للاستراحة. . فإنه يجلس مفترشًا؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومتى يبتدئ بالتكبير؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يبتدئ بالتكبير عند ابتداء رفع رأسه من السجود، وينتهي به إلى حالة الجلوس، ثم يقوم من غير تكبير؛ لأن التكبير - هاهنا - للرفع من السجود، لا للقيام.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يطيل التكبير، ولا يطيل الجلوس، ويتم التكبير في حال النهوض إلى القيام، وهذا أشبه بأفعال الصلاة؛ لأن أفعالها لا تخلو من ذكر.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 66] : أن القفال كان يقول: لا يكبر عند رفع الرأس من السجود، بل عند الرفع من الجلسة، ثم رجع عنه.
وهل تكون هذه الجلسة فصلاً بين الأولى والثانية؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن الصباغ -: أنها لا تكون من الأولى، ولا من الثانية، بل تكون فضلا بينهما، كالتشهد الأول.
والثاني - يحكى عن الشيخ أبي حامد -: أنها من الثانية؛ لأنه يبتدئ بالتكبير بعد الفراغ من الأولى، وهذا مخالف لأصل الصلاة؛ لأنه ليس في الصلاة الواجبة جلوس في ابتداء ركعة، فثبت أنها فصل بينهما.
وإذا أراد القيام إلى الركعة الثانية، إما من السجدة الثانية، أو من جلسة الاستراحة. .

(2/227)


فإنه يقوم معتمدًا على الأرض بيديه، وحكي ذلك عن ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يعتمد على الأرض بيديه، وإنما يعتمد على صدور قدميه) . وروي ذلك عن علي، وابن مسعود.
دليلنا: ما روي عن مالك بن الحويرث، في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، واستوى قاعدًا. . قام، واعتمد على الأرض بيديه» .
قال الشافعي: (ولأن ذلك أشبه بالتواضع، وأعون للمصلي) .
قال ابن الصباغ: ويرفع يديه من الأرض قبل ركبتيه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض. . رفع يديه قبل ركبتيه» .
ولأن اليدين، لما تأخر وضعهما. . تقدم رفعهما، كالجبهة.
ولا يرفع يديه إلا في المواضع الثلاثة التي ذكرناها، وهي: عند تكبيرة الإحرام، وعند تكبيرة الركوع، وعند الرفع منه.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يستحب ذلك كلما قام إلى الصلاة من سجود، أو تشهد. وهو قول ابن المنذر.
قال ابن المنذر: هذا باب أغفله كثير من أصحابنا، وقد ثبت فيه حديث أبي حميد

(2/228)


الساعدي، وروي في حديث علي أمير المؤمنين أيضًا.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة. . رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين» ، ولأنها تكبيرة يتصل طرفها بسجود أو قعود، فلم يرفع فيها يديه، كتكبيرة السجود من القيام.
فإن ركع، أو سجد في الفرض بنية النفل. . لم يجزئه عن الفرض، وتبطل صلاته.
وقال أبو حنيفة: (يقع عن فرضه) .
دليلنا: أنه ركن في الصلاة، فإذا أداه بنية النفل. . لم تجزئه، كتكبيرة الإحرام.

[مسألة عن أحكام الركعة الثانية]
ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فيصليها مثل الأولى، إلا في النية، ودعاء الاستفتاح؛ لأن ذلك يراد للدخول، فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين. . جلس، وتشهد، وهذا الجلوس والتشهد فيه سنتان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبو ثور: (هما واجبان) .
دليلنا: ما روي عن ابن بحينة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من اثنتين من الظهر، أو العصر ولم يجلس، فلما قضى صلاته. . سجد سجدتين للسهو، ثم سلم» ، ولو كانتا واجبتين. . لما جبرهما بالسجود، كالركوع.

(2/229)


والجلسات في الصلاة أربع: الجلسة بين السجدتين، وجلسة الاستراحة، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير.
والسنة عندنا: أن يجلس في الجلسات الثلاث الأول مفترشًا، وهو أن يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب قدمه اليمنى.
قال الشافعي: (ويفضي ببطون أصابعه إلى الأرض) .
وفي الجلسة الأخيرة يجلس متوركا، وهو أن يخرج رجله اليسرى من تحت وركه، ويفضي بمقعدته إلى الأرض، وينصب قدمه اليمنى.
وقال مالك: (السنة: أن يتورك في جميعها) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (السنة: أن يفترش في جميعها) .
دليلنا: أن أبا حميد وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «لما جلس في الأوليين، وبين السجدتين. . ثنى رجله اليسرى، وجلس عليها، ونصب اليمنى، فلما جلس في الرابعة. . أماط رجله من تحت وركه، وأفضى بمقعدته إلى الأرض، ونصب قدمه اليمنى» .
وإن كانت الصلاة صبحًا، فإنه إذا جلس للتشهد. . تورك فيه؛ لأنها الجلسة الأخيرة فيها.
قال الشافعي: (فإن أدرك المأموم الإمام في الركعة الأخيرة من الصبح. . فإنه يجلس مع الإمام تبعًا له، ويفترش رجله اليسرى؛ لأن عليه أن يتبع الإمام في فعله، لا في صفته، ألا ترى أنه يتبع الإمام في القراءة، ولا يتبعه بالجهر بها) .
وكذلك إذا أدركه في الثانية من المغرب بعد الركوع. . فإن هذا المأموم يجلس أربع جلسات للتشهد، يفترش في ثلاث منها، ويتورك في الأخيرة منها؛ لما ذكرناه.

(2/230)


[مسألة الجلوس للتشهد]
وإذا جلس للتشهد. . فإنه يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويبسط أصابعه.
قال المحاملي: ويضمها.
وقال ابن الصباغ: ويفرقها.
وأما اليد اليمنى: ففي كيفية وضعها ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو المشهور -: أنه يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع، إلا المسبحة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قعد للتشهد. . وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة» .
وروى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس للتشهد. . افترش رجله اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع إبهامه عند الوسطى، وأشار بالسبابة، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى» . ذكره البغوي.
وكيف يصنع بالإبهام على هذا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يضعها في وسط كفه، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين؛ لما ذكرناه في رواية ابن عمر.
والثاني: يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين؛ لما ذكرناه في رواية ابن الزبير.

(2/231)


والقول الثاني: أنه يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق بالإبهام والوسطى، ويشير بالسبابة؛ لما روى وائل بن حجر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا.
والقول الثالث: أنه يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويبسط الإبهام والسبابة، ويشير بها؛ لما روى أبو حميد الساعدي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا.
قال ابن الصباغ: وهذه الأخبار تدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضعها تارة كذا، وتارة كذا، فكيفما وضع يده من ذلك. . أتى بالسنة، ويشير بالسبابة، على الأقوال كلها عند الشهادة؛ لما ذكرناه من الأخبار، ولكن يشير بها عند كلمة الإثبات، وهو قوله: (إلا الله) ، لا عند كلمة النفي.
قال ابن الصباغ: ولا يجاوز طرفه إشارته.
وهل يحركها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يحركها، وإنما يشير بها فقط؛ لما روى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير بها، ولا يحركها، ولا يجاوز بصره إشارته» .
والثاني: يحركها؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير بها، وقال: «إنها مذعرة للشيطان» .

(2/232)


قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا بهذا: فإنه يحركها في جميع التشهد، ولا تبطل صلاته بذلك؛ لأنه عمل قليل، فهو كما لو غمض عينيه وفتحهما.
وحكى الصيدلاني، عن أبي علي بن أبي هريرة: أن صلاته تبطل بذلك؛ لأنه عمل كثير، وليس بشيء.

[مسألة ألفاظ التشهد]
ويتشهد، وأفضل التشهد عندنا: ما رواه ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن يقول: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» .
وهذه رواية الشافعي، عن ابن عباس، ورواه عنه أبو داود، وقال: " السلام ". بزيادة الألف واللام فيهما.

(2/233)


قال الشيخ أبو حامد: والجميع واحد؛ لأن التنوين يقوم مقام الألف واللام.
وقال أبو حنيفة: (الأفضل: أن يتشهد بما رواه ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو: «التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله» ، وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن المنذر.
وقال مالك: (الأفضل: أن يتشهد بما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه علم الناس التشهد على المنبر، وهو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ".

(2/234)


وإنما اختار الشافعي رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن» ، وذكر ما قلناه، وهذا يدل على حفظه وضبطه، وكل موضع ذكر الله التحية، فإنه قال: " سلام " من غير ألف ولام.
إذا ثبت هذا: فإن أبا علي الطبري، حكى عن بعض أصحابنا: أن الأفضل أن يقول: بسم الله وبالله، التحيات المباركات الزاكيات، والصلوات والطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ليجمع بذلك بين الروايات، وليس بشيء؛ لأن التسمية غير ثابتة في الحديث، والواجب من ذلك خمس كلمات وهي: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأن كل من روى التشهد روى هؤلاء الكلمات.
وفي قوله: (ورحمة الله) وجهان:
[الأول] : قال ابن سريج: لا تجب.
و [الثاني - وهو] المذهب -: أنه يجب.
وفي قوله: (وبركاته) وجهان:
[الأول] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب.
و [الثاني] : أنه واجب. حكاه الصيدلاني، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 66] .
قال الشافعي: (ويقول: وصلى الله على محمد) . فيكون ستًا.
قال الشيخ أبو حامد: أو يقول: اللهم صل على محمدٍ.

(2/235)


وأما قوله: (المباركات) فلا يجب؛ لأنه نعت للتحيات.
وقوله: (الصلوات الطيبات) لا يجب؛ لأن قوله: التحيات يقوم مقامه.
قال في " الأم ": (ولو قدم بعض ألفاظها على بعض. . أجزأه، كما يجزئه في الخطبة) .
وأما تفسير (التحيات لله) : فروي عن ابن عباس، وابن مسعود: أنهما قالا: أنهما قالا: (معنى: (التحيات لله) : العظمة لله) .
وقال أبو عمر: (التحيات لله) : الملك لله. وأنشد قول زهير:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية
يعني: إلا الملك.
وقال بعضهم: (التحيات لله) ، يعني: سلام الخلق لله. مأخوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] [يونس: 10] . وأما (الصلوات) : فيريد: الصلوات الخمس. (والطيبات) يريد: الأعمال الصالحة.
وقيل: (الطيبات) الثناء على الله.
وأما (السلام) : فقيل: معناه: اسم السلام، والسلام هو الله، كما يقال: اسم الله عليك. وقيل: معناه: سلم الله عليك تسليمًا وسلامًا.
وهل تسن الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسن؛ لما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس في التشهد الأول. . كأنما يجلس على الرضف» . يعني: الحجارة المحماة، وهذا يدل على أنه كان لا يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.

(2/236)


والثاني: تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يسن فيه الدعاء؛ لأنه تشهد، فسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كالأخير، وقال مالك: (يصلي فيه ويدعو) .
دليلنا عليه: حديث ابن مسعود.
وهل يسن الصلاة على آله في هذا التشهد؟
قال أكثر أصحابنا: لا يسن ذلك، كما لا يسن الدعاء فيه.
وقال صاحب " الفروع ": إن قلنا: لا تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . لم تسن الصلاة فيه على آله.
وإن قلنا: تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . فهل تسن فيه الصلاة على آله؟ فيه وجهان.

[مسألة حكم الصلاة غير الثنائية]
ثم يقوم إلى الثالثة معتمدًا على الأرض بيديه؛ لما ذكرناه من رواية مالك بن الحويرث، ويكره أن يقدم إحدى رجليه على الأخرى عند النهوض في الصلاة.
وقال مالك: (لا بأس به) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (هذه الخطوة الملعونة) .
ثم يصلي ما بقي من صلاته مثل الثانية، إلا في الجهر بالقراءة، فإذا بلغ إلى آخر صلاته. . جلس، وتشهد فيه، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجب، وبه قال عمر، وابن عمر، وأبو مسعود البدري.
وذهب علي بن أبي طالب، والزهري، ومالك، والثوري إلى: (أن هذا

(2/237)


الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجب شيء من ذلك، بل إذا فرغ من الركعة الأخيرة. . فقد تمت صلاته) .
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أن التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجبان، وأما الجلوس: فيجب منه بقدر قراءة التشهد) .
دليلنا: ما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات» . . . ". فموضع الدليل: أنه قال: قبل أن يفرض علينا التشهد، فدل على أنه قد فرض عليهم، ولأنه أمرهم بالتشهد، والأمر يقتضي الوجوب.
وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] [الأحزاب: 56] .
قال الشافعي: (أمر الله بالصلاة على نبيه، وظاهره يقتضي الوجوب، ولا موضع تجب فيه الصلاة عليه أولى من الصلاة) .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور، وبالصلاة علي» .
وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في الصلاة: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .

(2/238)


وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
والأفضل أن يقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد؛ لما روى أبو حميد: «أنه قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
والواجب: اللهم صل على محمد.
وهل تجب الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه وجهان:
أحدهما: تجب، وبه قال أحمد؛ لحديث أبي حميد.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب) ؛ لأن من لم يكن ذكره شرطًا في صحة الأذان. . لم يكن شرطًا في صحة الصلاة، كالصحابة.
وقال صاحب " الفروع ": إن قلنا. تسن الصلاة عليهم في الأول. . وجبت هاهنا.

(2/239)


قال: وكذلك الوجهان في الصلاة على إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
واختلف الناس في آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمنهم من قال: هم بنو هاشم، وبنو المطلب؛ لأنهم أهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وآل: منقلب من: أهل.
ومنهم من قال: آله من كان على دينه، كقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] [غافر: 46] . وأراد: من كان على دينه.
وسئل الشافعي عن أفضل الأنبياء، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -؟ فقال: (نبينا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ، فقيل له: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم ". فسأل الله تعالى أن يصلي عليه، كما صلى على إبراهيم، وهذا يدل على أن إبراهيم كان أفضل منه؟ ! فقال: (لا؛ لأن قوله: " اللهم صل على محمد " كلام تام، " وعلى آل محمد " كلام مبتدأ، " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم "، فيكون معناه: وصل على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) .

[مسألة الدعاء آخر الصلاة]
فإذا فرغ من التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله. . فله أن يدعو بما شاء من دين ودنيا، والأفضل أن يدعو بما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع: من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» ، وبما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان

(2/240)


يقول بين التشهد والسلام: اللهم اغفر لي ما قدم وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» .
وروى أبو داود، عن ابن مسعود: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا كلمات، ولم يكن يعلمناهن كما يعلمنا التشهد: اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا، إنك أن التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا» .
ويجوز أن يقول: اللهم ارزقني جارية حسنة، وزوجة صالحة، وضيعة،

(2/241)


وخلص فلانا من الحبس، وأهلك فلانًا، وغير ذلك مما يجوز أن يدعو به خارج الصلاة.
وقال أبو حنيفة: (لا يدعو إلا بالأدعية المأثورة، أو ما أشبه ألفاظ القرآن) .
ومن أصحابه من قال: ما لا يطلب إلا من الله، يجوز أن يدعو به في الصلاة، وما يجوز أن يطلب من المخلوقين، إذا سأله الله في الصلاة. . أفسدها.
دليلنا: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد إلى قوله: " وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "، ثم قال: وليدع بعد ذلك بما شاء» .
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع رأسه من الركوع الأخير في الصبح، وقال: اللهم نج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، وأهلك رعل وذكوان، واجعل سنيهم كسني يوسف» .
وروى عن أبي الدرداء: أنه قال: (إني لأدعو لسبعين صديقًا في كل صلاة بأسمائهم، وأسماء آبائهم) .
قال الشافعي: (ويدعو قدر أقل التشهد) .
وقال في " الإملاء ": (ويدعو بقدر التشهد) .
قال أصحابنا: وليس بينهما اختلاف؛ لأن أقل التشهد مع الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأكثر التشهد بغير الصلاة.
فقوله: (بقدر أقل التشهد) ، يعني: مع الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (بقدر التشهد) ، يعني: بغير صلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(2/242)


فإن كان إمامًا. . فإنه يدعو بقدر التشهد؛ لكي لا يثقل على من وراءه، وإن كان منفردًا. . فيطيل ما شاء. ويكره أن يقرأ القرآن في التشهد؛ لأنها حالة في الصلاة، لم تشرع فيها القراءة، فكرهت فيها، كالركوع، والسجود.
قال الشافعي: (وأحب للإمام أن يرتل القراءة والتشهد، ويزيد عليها، حتى لو كان خلفه من في لسانه ثقل. . أدركه، وأحب له أن يتمكن في الركوع والسجود؛ لكي يلحقه الكبير والضعيف) .

[مسألة في السلام]
ثم يسلم، والسلام واجب في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، وهو من الصلاة، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (السلام ليس بواجب، وإنما على المصلي إذا قعد قدر التشهد. . أن يخرج من الصلاة بما ينافيها من قيام، أو كلام، أو حدث، أو سلام) .
دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . فجعل تحليلها التسليم، فدل على أنه لا تحليل إلا به، ولأنه أضافه إليها، فدل على أنه منها.
وروى جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم في الصلاة، أومأ أحدنا بيده يمينًا وشمالاً: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لي أراكم تؤمنون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم وشمالكم: السلام عليكم ورحمة الله» .

(2/243)


فإن كان المسجد كبيرًا مثل الجوامع، والناس كثيرًا، وهناك ضجة وكلام حول المسجد. . فإن المستحب أن يسلم الإمام تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، هي من الصلاة، والأخرى: عن شماله، وليست من الصلاة.
وإن كان المسجد صغيرًا، ولا لغط هناك، أو كان منفردًا. . ففيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (السنة أن يسلم تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، والأخرى: عن شماله) .
وروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه؛ لما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمتين: عن يمينه، وشماله» .
و [الثاني] : قال في القديم: (السنة أن يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه) ؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» .

(2/244)


وروي عن ابن عمر، وأنس، وسلمة بن الأكوع، وعائشة: (أن السنة أن يسلم تسليمة واحدة بكل حال) . وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعي.
ودليلنا عليهم: حديث ابن مسعود.
والواجب: تسليمة واحدة، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال الحسن بن صالح، وأحمد - في أصح الروايتين عنه -: (الواجب تسليمتان) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحليلها التسليم» . وهذا يقع على تسليمة واحدة.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» .
والسلام هو أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله؛ لما ذكرناه من حديث جابر بن سمرة.
وروى أبو هريرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم هكذا) .

(2/245)


فإن قال: السلام عليكم. . أجزأه. وإن قال: السلام، ولم يقل: عليكم. . لم يجزئه.
فإن قال: سلام عليكم. . ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أنه لا يجزئه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي قال في السلام: (السلام عليكم) .
فإن نقص من هذا حرفًا. . أعاد، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم، وعن شمائلكم: السلام عليكم ورحمة الله» .
والثاني: يجزئه، وهو اختيار ابن الصباغ، كما يجزئه في التشهد.
ومن قال بالأول. . قال: قد روي في التشهد بغير ألف ولام، وهاهنا لم يرو إلا بالألف واللام.
وإن قال: عليكم السلام. . فإن الشافعي قال: (كرهته، ولم يقطع صلاته) ؛ لأن ذكر الله لا يقطع الصلاة.
فمن أصحابنا من قال: لا تجزئه؛ لأن الشافعي قال: (ولم يقطع صلاته) . فثبت: أنه لم يخرج به من الصلاة، ولأن الخبر لم يرد به.
ومنهم من قال: يجزئه، وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد؛ لأنه ذكر ليس في جنسه إعجاز، فلم يجب فيه الترتيب، كالتشهد، ولو لم يجزئه عند الشافعي. . لقطع ذلك صلاته.

[فرع نية السلام]
وأما النية في السلام: فلا يخلو: إما أن يكون إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا:
فإن كان إمامًا. . فإنه ينوي بالتسليمة الأولى ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، وهم الملائكة، والسلام على المأمومين عن يمينه.
وينوي بالتسليمة الثانية شيئين: السلام على الحفظة، وعلى من على يساره من المأمومين.

(2/246)


وإن كان مأمومًا عن يسار الإمام. . نوى بالتسليمة الأولى أربعة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، والرد على الإمام، والسلام على المأمومين عن يمينه.
وينوي بالتسليمة الثانية شيئين: السلام على الحفظة، وعلى من على يساره من المأمومين.
وإن كان عن يمين الإمام. . نوى بالأولى ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، وعلى المأمومين عن يمينه.
ونوى بالثانية ثلاثة أشياء: السلام على الحفظة، والسلام على المأمومين عن يساره، والرد على الإمام. .
وإن كان الإمام محاذيًا له. . نوى الرد عليه في أي التسليمتين شاء.
وإن كان منفردًا. . نوى بالتسليمة الأولى شيئين: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة.
ونوى بالثانية: السلام على الحفظة، لا غير.
والدليل عليه: ما روى سمرة قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نسلم على أنفسنا، وأن يسلم بعضنا على بعض» .
وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعًا، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين، ومن معهم من المؤمنين» .

(2/247)


قال الجويني: وتكون نية الخروج ممتزجة بالسلام، ولا يجب ما سوى نية الخروج.
وفي نية الخروج وجهان:
أحدهما: - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر النص -: أنها واجبة؛ لأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة، فوجبت مقارنة النية له، كتكبيرة الإحرام.
والثاني - وهو قول أبي حفص بن الوكيل، وأبي عبد الله ختن الإسماعيلي -: أنها غير واجبة، وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن نية الصلاة قد اشتملت على جميع أفعالها، وأقوالها، فلا معنى لإعادة النية، ولأن نية الخروج لو وجبت. . لوجب تعيين الصلاة التي يخرج منها، كنية الإحرام.

[فرع نية التسليم]
] : إذا سلم من الظهر، ونوى الخروج من العصر، فإن قلنا: إن نية الخروج واجبة. . بطلت صلاته، وإن قلنا: لا تجب. . لم يضره ذلك، كما لو شرع في الظهر، وظن في الركعة الثانية أنه في العصر، ثم تذكر في الثالثة أنه في الظهر. . لم يضره ذلك.

[مسألة الدعاء بعد الصلاة]
ويستحب للإمام وغيره إذا فرغ من الصلاة أن يدعو.
قال الشافعي: (وأحب أن يخفت صوته، ويسمع به نفسه، ولا يجهر، إلا أن يكون إماما، فيريد أن يتعلم الناس منه، فيجهر به حتى يعلم أنهم تعلموا، ثم يخفت؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] [الإسراء: 110] . يعني: لا تجهر بدعائك، ولا تخفت حتى لا تسمع نفسك) .

(2/248)


وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من صلاته مكث قليلاً، وانصرف» .
وروى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» .
وروى معاوية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم بعد السلام: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» .
وروى ثوبان: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن ينصرف من الصلاة.. استغفر ثلاث مرات، ثم قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .

(2/249)


وروي: «أنه كان يقول: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين» .
فتحمل رواية من روى أنه دعا وجهر: على أنه أراد بذلك ليتعلم الناس، وتحمل رواية من روى أنه مكث قليلاً، ثم انصرف: على أنه دعا سرًا، بحيث يُسمع نفسه.

[فرع انتظار خروج النساء]
قال الشافعي: (ويَثْبُتُ ساعةَ يُسَلِّم، إلا أن يكون معه نساء فيلبث؛ لينصرفن قبل الرجال) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان خلف الإمام رجال ونساء. . فالمستحب له إذا سلم: أن يقف في مكانه ساعة، بقدر ما لو خرج سرعان الرجال. . لم يلحقوا النساء؛ لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة.. انصرف النساء حين يقضي سلامه، ويمكث في مكانه يسيرًا» . قال الزهري: أرى ذلك؛ لئلا يلحق الرجال بالنساء.
وإن كان خلفه رجال، ولا نساء معهم.. استحب له أن يثبت ساعة يسلم، ولا يقف؛ لمعنيين:

(2/250)


أحدهما: أنه إذا ثبت في مكانه، ربما وقع عليه السهو أنه سلم أم لا؟
والثاني: ربما دخل داخل، فيظن أنه في السلام، فيدخل معه في الصلاة، فإن لم يثبت.. فالأولى للمأمومين أن يقفوا معه؛ لكي يتذكر سهوًا، فيتبعونه.
قال أصحابنا: ويستحب للإمام والمأموم إذا قضى فرضه، أن يصلي النافلة في بيته؛ لما روى أسامة بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة» . وهذا مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» .
وروى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورًا» .

[فرع الانصراف من الصلاة]
فإذا أراد أن ينصرف، فإن كانت له حاجة.. توجه في جهتها، سواء كانت يمينًا أو شمالاً؛ لما روى أبو هريرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوجه يمينًا وشمالاً) .

(2/251)


وروى ابن مسعود: (أن أكثر انصراف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات الشمال؛ لأن منازله كانت ذات الشمال) .
وإن لم يكن للمصلي غرض ولا حاجة.. فالمستحب له: أن ينصرف ذات اليمين؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في كل شيء، حتى في طهوره، وانتعاله» . هكذا ذكر أصحابنا البغداديون، ويريدون بذلك: الانصراف في الجهات، عند الخروج من المسجد.
وأما صاحب " الإبانة " [ق \ 67] : فقال: تفسير الانصراف عن اليمين عند أكثر أصحابنا: أن يفتل يده اليسرى، ويجلس على الجانب الأيمن من المحراب.
وقال القفال: الانصراف عن اليمين هو: أن يفتل يده اليمنى، ويجلس على الجانب الأيسر من المحراب، كما قلنا في الطائف: أنه يبتدئ من الحجر، وتكون يده اليسرى إلى الكعبة، واليمنى إلى الناس.

[مسألة القنوت في الصلاة]
والسنة: أن يقنت في صلاة الصبح عندنا في جميع الدهر، وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ورواه الشافعي عن الخلفاء الأربعة، وأنس.

(2/252)


وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أنه غير مسنون في الصبح) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي الدرداء.
وقال أبو يوسف: إذا قنت الإمام. . فاقنت معه.
وقال الإمام أحمد: (القنوت للأئمة، يدعون للجيوش، فإن ذهب إليه ذاهب. . فلا بأس) .
ودليلنا: ما روى أبو داود في " سننه "، «عن أنس: أنه سئل: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: قبل الركوع، أو بعده؟ فقال: بل بعد الركوع» .
وفي رواية عن أنس: «ما زال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في صلاة الصبح، حتى فارق الدنيا» . أخرجه الدارقطني.
إذا ثبت هذا: فإن محل القنوت في الصبح عندنا، بعد الركوع في الثانية، وبعد ما يقول: سمع الله لمن حمده. . . . إلى آخره.
وذهب مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، إلى: (أن محله قبل الركوع) .

(2/253)


ودليلنا: حديث أنس الذي مضى.
وأما صفة القنوت: قال الشافعي: فأحب أن يقنت بالثمان الكلمات المنقولة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت» ؛ لما روي عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت» . . . . ". وذكر الكلمات الثمان. وإن كان إمامًا. . قال: اللهم اهدنا. . . إلى آخره.
قال أصحابنا: وقد زاد بعض أهل العلم: ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك.
قال الشيخ أبو حامد: وهو حسن.
وقال القاضي أبو الطيب: قوله: ولا يعز من عاديت. ليس بحسن؛ لأنه لا يضاف العداوة إلى الله تعالى.
قال ابن الصباغ: ومثل ما قالوه قد جاء في القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] [البقرة: 98] . ولا بأس بهذه الألفاظ.
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن قنت بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. . كان حسنًا.
وذكر الشيخ أبو نصر: أن مالكًا اختار القنوت في الصبح بالمروي عن عمر، وهو

(2/254)


ما روى أبو رافع: أن عمر قنت في الصبح بعد الركوع، فسمعته يقول: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع من يفجرك - أي: يعصيك، ويخالفك - اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك الجد، إن عذابك بالكفار ملحق. اللهم عذِّب الكفرة كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم: إله الحق، واجعلنا منهم) .
قوله: (نحفد) أي: نخدم، والحفد: الخدمة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] [النحل: 72] . قيل: الحفدة: الخدم.
وقوله: (ملحق) أي: لاحق.
ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد القنوت؛ لما روي في حديث الحسن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تباركت وتعاليت، وصلى الله على النبي وسلم» .

(2/255)


وهل يستحب رفع اليدين في القنوت؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أن ذلك غير مستحب؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع يديه إلا في الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة) .
والثاني: أن ذلك مستحب، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: عند رؤية البيت، وعلى الصفا، والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف بعرفة، وعند الجمرتين» .
وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان يرفع يديه حتى يبدو ضبعاه) .

(2/256)


وعن ابن مسعود، وابن عباس: (أنهما كانا يرفعان أيديهما إلى صدورهما) .
فعلى هذا: يستحب أن يمسح يديه على وجهه عند الفراغ من الدعاء؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعوت. . فادع الله ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت. . فامسح راحتيك على وجهك» .
قال ابن الصباغ: ولا يمسح بيديه على غير وجهه من جميع بدنه، فإن فعل ذلك كان مكروهًا.
قال في " الإبانة " [ق 77] : وهل يجهر بالقنوت، أو يسر به؟ فيه وجهان.
وقال البغداديون من أصحابنا: يجهر به.
وإذا قنت الإمام. . فهل يقنت المأموم، أو يؤمن؟
قال ابن الصباغ: لا يحفظ فيه نص للشافعي، غير أنه قال: (إذا مرت به آية رحمة، سألها، وكذلك المأموم) . فشرك بينهما في الدعاء، فينبغي ها هنا مثله.
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو، ويؤمن من خلفه» وهذا يدل على أنه يؤمن، ولا يدعو.
قال: فينبغي أن يكون المأموم - ها هنا - بالخيار بين أن يدعو، وبين أن يؤمن؛ لأن التأمين دعاء.

(2/257)


قال: وقد قال بعض أصحابنا: يؤمن المأموم على الدعاء، ويشاركه في الثناء. ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غير هذا.
وأما سائر الصلوات غير الصبح: فإن نزل بالمسلمين نازلة. . جاز القنوت فيها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت، إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد» .
وإن لم تنزل بالمسلمين نازلة. . فهل يجوز القنوت فيها؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في جميع الصلوات» .
والثاني: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قنت فيها لنازلة) ، وهي: أن قومًا قتلوا أصحابه، أهل بئر معونة، فكان يدعو عليهم، ثم أسلموا فترك مسألة ذلك.
إذا ثبت ما ذكرناه: فالصلاة تشتمل على أركان، ومسنونات، وهيئات، وشرائط.
فالشرائط: ما تتقدم الصلاة، وهي خمس متفق عليها، والسادسة مختلف فيها.

(2/258)


فأما الخمس المتفق عليها: فهي: الطهارة عن حدث، وستر العورة، والطهارة عن النجس: في الثوب، والبدن، والمكان، والعلم بدخول الوقت بيقين، أو غلبة الظن، واستقبال القبلة.
والسادسة: النية، وفيها وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: إنها من الشرائط.
و [الثاني] : منهم من قال: إنها من الأركان، هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: في استقبال القبلة أيضًا وجهان، كالنية.
الصحيح: أن النية من الأركان، وأن استقبال القبلة من الشرائط.
وأما الأركان: فكل ما كان واجبًا في أثناء الصلاة.
وكل ركن شرط؛ لأن الصلاة لا تصح إلا به. وليس كل شرط ركنًا؛ لأن الشرائط ما وجبت خارج الصلاة.
قال أصحابنا: ففي الركعة الأولى من كل صلاة واجبة أربعة عشر ركنًا:
تكبيرة الإحرام، والنية على قول من يجعلها ركنًا، والقيام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والطمأنينة فيه، والرفع من الركوع، والطمأنينة فيه، والسجدة الأولى، والطمأنينة فيها، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه، والسجدة الثانية، والطمأنينة فيها، هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: في السجدة الثانية وجهان:
الصحيح: أنها ليست بركن؛ لأنها متكررة.
وأما الركعة الثانية: ففيها اثنا عشر ركنًا على طريقة البغداديين؛ لأنه تسقط منها النية، وتكبيرة الإحرام، وكذلك في الثالثة والرابعة.

(2/259)


وفي الجلوس الأخير خمسة أركان: الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، والتسليمة الأولى، ونية الخروج من الصلاة، على قول من يوجبها.
وزاد الشيخ أبو إسحاق ركنًا مع ذلك كله، وهو: ترتيب أفعالها، على ما ذكرناه. فيكون في الصلاة الرباعية: ستة وخمسون ركنًا، وفي الثلاثية: أربعة وأربعون ركنًا، وفي الصبح: اثنان وثلاثون ركنًا.
فإن قلنا: إن الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجبة. . زاد في عدد أركان كل صلاة ركناً، وقد يختصر، فيقال: في الركعة الأولى تسعة أركان، وتجعل الطمأنينة صفة للركن.
وأما المسنونات في الصلاة - وقد يسميها بعض أصحابنا: الأبعاض - وهي التي تجبر بالسجود: فهي أربعة:
الجلوس الأول، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، على القول الذي يقول: إنه سنة فيه، والقنوت في الصبح.
وأما الهيئات: فهي ما عدا ذلك، والفرق بين المسنونات والهيئات: أنه إذا أتى بالهيئات. . أكمل صلاته، وإن تركها. . لم يسجد للسهو.
وإذا ترك شيئًا من المسنونات. . نقصت صلاته، وجبرها بسجود السهو. هذه عبارة أكثر أصحابنا.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فعد ما ليس بركن في الصلاة من المسنونات.
ولا فائدة في هذا الاختلاف إلا في التسمية.
وبالله التوفيق
* * *

(2/260)