البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها]
وهي خمس ساعات: ثلاث منها نهي عن الصلاة فيها لأجل الوقت، وهي: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين، وعند استواء الشمس في كبد السماء، حتى نزول، وعند ابتدائها في المغيب حتى تغرب.
وساعتان منها نهي عن الصلاة فيهما لأجل الفعل، وهما: بعد الصبح، وبعد العصر، فمن صلَّى صلاة الصبح في وقتها. . لا يجوز له التنفل بعدها إلى أن ترتفع الشمس، ومن صلَّى صلاة العصر في وقتها. . لا يجوز له التنفل بعدها إلى أن تغرب الشمس، وروي عن عليَّ: (أنه دخل فسطاطه بعد العصر، فصلَّى ركعتين) .
وقال ابن المنذر: لا يكره فعل النوافل بعد العصر، ما لم تصفر الشمس.
وقال داود: (يجوز فعل النوافل إلى غروب الشمس) .
دليلنا: ما روي «عن ابن عباس: أنه قال: (شهد عندي رجالٌ مرضيون أرضاهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس» .
وروي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلّي فيها، أو نقبر أمواتنا: إذا طلعت الشمس، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب» .

(2/351)


وقوله: (تضيف) أي: تميل، ومنه قولهم: ضفت فلانًا: إذا ملت إليه.
وروى الشافعي بإسناده، عن الصنابحي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن الشمس تطلع، ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها» . فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في تلك الأوقات.
وقد اختلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: معناه أن قرن الشيطان ناحية رأسه، والعرب تسمِّي ناحيتي رأس الإنسان: قرنين.
وقيل: يحتمل أنه أراد: أن الكفار كانوا يعبدونها في تلك الأوقات، وسمَّاهم قرن الشيطان، كما قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74] [مريم: 74] .
وحُكي عن إبراهيم الحربي، أن معنى ذلك: أن في تلك الأوقات يتحرك الشيطان، ويتسلَّط، فيكون كالمعين لهم.

(2/352)


وكذلك الحديث الآخر: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم» . أي: يقويه على المعاصي.
وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد العصر، حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح، حتى تطلع الشمس» .
وإذا ثبت هذا: فإن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ليس بعام عندنا، وإنما يختص ببعض الصلوات وبعض الأزمان وبعض البلدان.
فأما الصلوات: فإنما ينصرف النهي إلى إنشاء صلاة نافلة لا سبب لها، فأما الصلاة التي لها سبب: فيجوز فعلها في هذه الأوقات، كقضاء الفائتة من الفرائض، والسنن، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة.
وقال مالك: (يقضي الفرائض في هذه الأوقات، ولا يقضي فيها السنن) .
وبه قال أحمد، إلا أنه أجاز فيها ركعتي الطواف، وصلاة الجماعة مع إمام الحيِّ. ووافقنا أبو حنيفة على جواز فعل الصلاة التي لها سبب بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر.
وأما الأوقات الثلاثة: فقال: (لا يجوز فعل جميع الصلوات فيها، إلا عصر يومه) ؛ لما روي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(2/353)


ينهانا أن نصلي فيها، وان نقبر فيها أمواتنا: إذا طلعت الشمس بازغة، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب» .
قال: (والنهي عن القبران في هذه الأوقات، إنما هو نهيٌ عن صلاة الجنازة فيها، لا عن نفس القبران) .
ودليلنا: ما روي عن قيس بن قهد: أنه قال: «رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد الصبح، فقال: "ما هاتان الركعتان؟ " قلت: لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان الرَّكعتان» .
وروي عن أم سلمة: أنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر، فصلَّى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت هاتين الرَّكعتين في وقت ما كنت تصليهما فيه؟ فقال: "ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فقدم عليَّ وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فصليتهما بعد العصر". قالت: ثم داوم عليهما» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نام عن صلاة، أو نسيها: فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها» . ولم يفرق.
وأما الجواب عن حديث عقبة بن عامر: فظاهر الإقبار أنه: الدفن، وذلك جائز بالإجماع بيننا وبينهم، فلا يجوز حمله على الصلاة.

(2/354)


فإن عقد نافلة لا سبب لها في هذه الأوقات. . فهل تنعقد؟ فيه وجهان، حكاهما صاحب " الإبانة " [ق 78] : وكذلك الوجهان في عقد نذر الصلاة في هذه الأوقات.
واختار ابن الصباغ: أنه لا يصح نذره.
فأما إذا قال: إن شفاني الله من المرض، أو رزقني ولدًا. . فعليَّ لله أن أصلي ركعتين، فشفاه الله، أو رزقه الولد في تلك الأوقات. . جاز له أن يصلي فيها؛ لأنه قد كان يجوز أن يشفيه الله، أو يرزقه في غير تلك الأوقات.
وهل يجوز أن يصلي الاستسقاء في هذه الأوقات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوزُ؛ لأنها صلاة لها سبب.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يخاف فوتها.
قال في " الإبانة " [ق 78] : ولا يجوز أن يصلي ركعتي الإحرام في هذه الأوقات؛ لأن سببها متأخر عنها.
وأما تحية المسجد في هذه الأوقات: فاختلف أصحابنا فيها:
فذكر الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون: أنه ينظر فيه: فإن دخل المسجد في هذه الأوقات ليعتكف فيه، أو ليدرس العلم فيه، أو يقرأ، أو غير ذلك من الأغراض. . جاز له أن يصلي تحية المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد. . فلا يجلس، حتى يصلي ركعتين» . ولم يفرق.
وإن دخل المسجد، لا لحاجة، ولكن ليصلي التحية لا غير. . ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يصلي التحية؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأن سبب الصلاة الدخول، وقد وجد.

(2/355)


والثاني: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتحرى أحدكم بصلاته طلوع الشمس وغروبها» ، وهذا تحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها، والتحري: التعمد.
ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، من غير تفصيل:
أحدهما: يجوز.
والثاني - وهو قول أبي عبد الله الترمذي -: أنه لا يجوز.
فأما إذا كانت له نافلة يداوم على فعلها في وقت يجوز فيه فعل الصلاة، فنسيها أو شغل عنها. . جاز له أن يقضيها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لما ذكرناه من حديث أم سلمة. وهل له أن يداوم على فعلها في ذلك الوقت الذي قضاها فيه بعد ذلك؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوز؛ لما ذكرناه في حديث أم سلمة: أنها قالت: «ثم داوم على فعلهما» .
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر قط إلا صلَّى ركعتين» .

(2/356)


والثاني: لا يجوز له المداومة على ذلك؛ لأنا لو جوَّزنا له ذلك، لصارت صلاة لغير سبب.
وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان ملتزمًا للمداومة على أفعاله، فصار مخصوصًا بذلك.
وهل يكره التنفل بعد طلوع الفجر بغير ركعتي الفجر؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: وهل يكره ذلك صلَّى ركعتي الفجر، فيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب، ألا لا تصلُّوا بعد الفجر إلا سجدتين» .
والثاني: لا يكره؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينه إلا بعد الصبح، حتى تطلع الشمس) .
وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق: أنه لا يكره التنفل بعد طلوع الفجر لمن لم يصل ركعتي الفجر.
وذكر ابن الصباغ: أن الوجهين في كراهية التنفل بعد طلوع الفجر من غير تفصيل:
أحدهما - وهو ظاهر مذهب الشافعي -: أنه يكره، وبه قال ابن عمر، وعبد الله بن عمر، وابن المسيب، والنخعي، وأبو حنيفة.
[والثاني] : قال بعض أصحابنا: لا يكره. وبه قال مالك، والأوزاعي، والأوَّل

(2/357)


أصحُّ؛ لما روي: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر» .
وصحَّ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر) .

[مسألة تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهة]
مسألة: [تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهية] : وأما اختصاص النهي في بعض الزمان: فإنه لا يكره التنفل بما لا سبب لها يوم الجمعة، عند استواء الشمس لمن حضر الجامع.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (يكره) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة» .
ولأن الناس ينتظرون الجمعة، ويشق عليهم مراعاة الشمس، وربما غلبهم النوم إن قعدوا، فجوَّز لهم النفل لذلك.
وهل يكره التنفل بما لا سبب له في سائر الأوقات المنهي عن الصلاة فيها في يوم الجمعة؟ فيه وجهان:

(2/358)


أحدهما: يكره؛ لأنَّ الرخصة إنما وردت في نصف النهار.
والثاني: أنه لا يكره، وهو قول أبي عليٍّ الطبري؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: (أن جهنم تُسْجَرُ في الأوقات الثلاثة في سائر الأيام إلا في يوم الجمعة) . والأول أصحُّ.
فإذا قلنا بهذا، لم يكره التنفل يوم الجمعة نصف النهار لمن كان في الجامع وغيره.
وإذا قلنا بالأول. . فهل يكره التنفل يوم الجمعة نصف النهار، لمن لم يحضر الجامع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لأن الرخصة إنما وردت فيمن يحضر الجامع؛ لئلا يغلبه النوم إن قعد، وعليه مشقة في مراعاة الشمس، وهذا المعنى لا يوجد في غيره.
والثاني: لا يكره؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا يوم الجمعة» .

[مسألة النهي في بعض البلدان]
وأما اختصاص النهي في بعض البلدان: فإنه لا يكره أن يصلي صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات بمكة.
ومن أصحابنا من قال: إنما الرخصة فيها في ركعتي الطواف؛ لئلا ينقطع الطواف، فأما غير ركعتي الطواف مما لا سبب لها: فيكره.
وقال أبو حنيفة: (يكره الجميع) . والأول أصحُّ.
والدليل عنه: ما روي أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد صلاة الصبح، حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، إلا بمكة» . ولم يفرق بين ركعتي الطواف وغيرهما.

(2/359)


وروى جبير بن مطعم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بني عبد مناف: مَنْ ولي منكم مِنْ أمور الناس شيئًا. . فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلَّى، أية ساعة شاء من ليل أو نهار» . وهذا عام.
قال أصحابنا: ولا فرق بمكة بين مسجدها، وبيوتها؛ لعموم الخبر.

[مسألة من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس]
فإن صلَّى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس. . لم تبطل صلاته.
وقال أبو حنيفة: (تبطل) ؛ لأنه نُهيَ عن الصلاة في هذا الوقت.
ودليلنا ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلَّى ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح - وروي: "فليتم صلاته" - ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» .
ولأن أبا حنيفة وافقنا إذا اصفرت الشمس هو في صلاة العصر. . أن صلاته لا تبطل، فكذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق

(2/360)