البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صلاة المريض]
إذا عجز عن القيام جاز له أن يصلي الفرض قاعدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آل عمران: 191] .
قيل في التفسير: (قيامًا) إذا قدروا عليه، و (قعودًا) إذا لم يستطيعوا القيام، و (على جنوبهم) إذا لم يقدروا على الجلوس.
وروي «عن عمران بن الحصين: أنه قال: كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط من راحلته، فجحش شقه الأيمن، فصلى قاعدًا، وصلى الناس معه قعودًا» .
والعجز الذي يجوز له ترك القيام: إما أن يكون زمنًا لا يستطيع القيام أصلًا، أو يكون صحيحًا، إلا أنه لا يستطيع القيام إلا بتحمل مشقة شديدة، أو يخاف تأثيرًا ظاهرًا في العلة؛ لأن كل عبادة لم يقدر على فعلها إلا بمشقة شديدة جاز له تركها إلى بدلها؛ لأجل المشقة، كالمسافر في شهر رمضان: له أن يفطر وإن كان يقدر على الصيام لو تحمل المشقة.
إذا ثبت هذا: فكيف يقعد؟ فيه قولان:

(2/442)


أحدهما: يقعد متربعًا؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى متربعًا» .
والثاني: يقعد مفترشًا؛ لأن ذلك قعود العبادة، والتربع قعود العادة.
والذي يقتضي القياس: أن القولين في الاستحباب، لا في الوجوب.
إذا ثبت هذا: فإن الجالس إذا أمكنه الركوع والسجود فعل ذلك.
قال في " الفروع ": وينحني في الركوع، حتى يصير بالإضافة إلى القاعد، كالراكع بالإضافة إلى القائم.
وإن لم يقدر أن يسجد على الأرض لعلة بجبهته، أو ظهره انحنى أكثر ما يقدر عليه.
قال الشافعي: (وإن أمكنه أن يسجد على صدغه فعل ذلك) .
قال أصحابنا: وأراد بهذا: أن يأتي بما تكون جبهته إلى الأرض أقرب، فكلما كان أقرب إلى الأرض كان أولى، فلو علم أنه لو سجد على عظم رأسه الذي فوق الجبهة، كنت الجبهة من الأرض أقرب فعل ذلك، ولو علم أنه لو يسجد على صدغه، كانت جبهته أقرب فعل.

(2/443)


فإن سجد على مخدة نظرت: فإن وضعها على يديه، وسجد عليها لم يجزئه؛ لأنه سجد على ما هو حامل له، وإن وضع المخدة على الأرض، وسجد عليها أجزأه، وهكذا إذا سجد على شيء مرتفع، وهو صحيح أجزأه، ما لم يخرج عن هيئة السجود.
قال في " الأم ": (وإذا كان قادرًا على أن يصلي قائمًا منفردًا، ويخفف الصلاة، وإذا صلى خلف إمام، احتاج أن يقعد في بعضها، أحببت له أن يصلي منفردًا، وكان هذا عذرًا في ترك الجماعة، فإن صلى مع الإمام، وجلس فيما عجز عنه كانت صلاته صحيحة) .
وإن كان بظهره علة لا تمنعه من القيام، وتمنعه من الركوع والسجود وجب عليه القيام، ويركع ويسجد، على حسب ما يقدر عليه.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: إن شاء صلى قائمًا، وإن شاء صلى جالسًا، إذا عجز عن الركوع) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن الحصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا» ، وهذا مستطيع للقيام، فلم يسقط عنه، فإذا بلغ إلى الركوع، وعجز عن أن يحني ظهره حتى رقبته، فإن لم يقدر عليها، إلا بأن يعتمد على عكازة، أو غيرها؛ اعتمد عليها وانحنى.
وإن تقوس ظهره من الكبر أو الحدب، حتى صار يمشي كالراكع، ولا يقدر على الاستواء، فعليه أن يصلي على حالته، فإذا بلغ إلى الركوع انحنى وإن كان يسيرًا؛ ليقع الفصل بين القيام والركوع.

(2/444)


وإن كان بعينيه رمد أو غيره، وكان يقدر على الصلاة قائمًا، فقيل له: إن صليت مستلقيًا على قفاك كان برؤك أسرع:
قال أصحابنا: فليست بمنصوصة للشافعي، ولكن قال مالك والأوزاعي: (لا يجوز له ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وهذا هو الأشبه بمذهبنا.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (يجوز له ترك القيام) ، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا.
ووجهه: أنه لو كان صائمًا، فرمدت عينه، فاحتاج إلى الفطر لأجل ذلك؛ لكان له أن يفطر، كذلك هاهنا، يجوز له ترك القيام؛ لسرعة برئه.
ووجهه الأول: ما روي: أن ابن عباس، لما وقع في عينيه الماء، وكف بصره أتاه رجل، وقال له: (إن صبرت علي سبعة أيام تصلي مستلقيًا داويتك، ورجوت برأك، فأرسل إلى عائشة، وأم سلمة، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، فسألهم عن ذلك، فقالوا له: إن مت في هذه السبع ما تفعل بصلاتك؟ ! ولما ترك المداواة.
وأما الصوم: فإنما جاز له تركه؛ لأنه يرجع إلى بدل تام مثله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يرجع منه إلى بدل تام، فلم يجز له تركه بأمر مظنون.

(2/445)


[مسألة الصلاة مضطجعًا]
] : فإن عجز عن الصلاة قاعدًا صلى مضطجعًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آل عمران: 191] ، ولما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين.
وكيف يضطجع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها وهو المنصوص في " البويطي ": (أنه يضطجع على جنبه الأيمن معترضًا بين يدي القبلة، كما يوضع الميت في لحده) وبه قال عمر، وأحمد بن حنبل.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو اضطجع على جنبه الأيسر معترضًا، أو وضع الميت في لحده على جنبه الأيسر جاز ذلك عندي، والأول أولى.
والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويستقبل القبلة برجليه، وبه قال ابن عمر، والثوري في إحدى الروايتين عنهما، والأوزاعي، وأبو حنيفة.
والثالث: أنه يضطجع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة برجليه.
والأول أصح؛ لما روى علي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع صلى جالسًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى على قفاه، ورجلاه إلى القبلة، وأومأ بطرفه» .
ولأنه إذا فعل ذلك استقبل القبلة بجميع بدنه، وإذا كان رأسه في دبر القبلة لم يستقبل القبلة إلا برجليه، ويومئ برأسه إلى الركوع، والسجود، فإن عجز عن

(2/446)


الإيماء برأسه أومأ بحاجبه وطرفه إليهما؛ لما ذكرناه في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن لم يمكنه أن يصلي مضطجعًا بالإيماء، وعجزت لسانه عن القراءة حركها عند القراءة، فإن لم يمكنه تحريكها وعقله معه نوى الصلاة، وعرض القرآن على قلبه ونواه، وكذلك يعرض سائر أفعال الصلاة على قلبه وينويها.
وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه فعل الصلاة في هذه الحالة) .
وحكى الطبري في " العدة " ذلك عن بعض أصحابنا.
والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، وهذا يستطيع ما ذكرناه، فوجب عليه الإتيان به.

[مسألة العجز أثناء الصلاة]
] : إذا افتتح الصلاة قائمًا، ثم عجز عن القيام، فله أن يجلس، ويبني على صلاته.
قال أصحابنا: وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فلو قرأ الفاتحة في حال الانحطاط إلى الجلوس أجزأه؛ لأن الانحطاط أعلى حالًا من الجلوس، فإذا أجزأته القراءة في حال الجلوس، فلأن تجزئه في حال الانحطاط أولى.
وكذلك إذا افتتح الصلاة جالسًا، ثم عجز عن الجلوس، واضطجع في صلاته بنى عليها، كما قلنا في التي قبلها.
وإن افتتح الصلاة جالسًا عند العجز، ثم قدر على القيام في أثناء الصلاة، وجب عليه القيام، ويبني على صلاته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وأكثر أهل العلم.
وقال محمد بن الحسن: تبطل الصلاة، ويستأنفها.

(2/447)


دليلنا: أنه قادر على القيام في موضع القيام، فلزمه القيام والبناء عليه، كما لو قعد التشهد الأول؛ ولأن زوال العذر لا يورث عملًا طويلًا، فلم تبطل الصلاة لأجله.
إذا ثبت هذا: فإن كان قد قرأ الفاتحة في جلوسه قال الشافعي: (أستحب له أن يعيدها في حال القيام؛ ليأتي بها على أكمل أحواله) ، وهذا يبطل قول من قال من أصحابنا: إن من قرأ فاتحة الكتاب مرتين في ركعة بطلت صلاته، ولا يجب عليه إعادتها؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بالفراغ منها.
فإن قدر على القيام قبل أن يقرأ الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويقرأ الفاتحة في حال القيام، وإن قدر على القيام في أثناء الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويتم قراءتها وهو قائم، فإن أتمها في حال نهوضه إلى القيام لم يجزئه؛ لأن القراءة وجبت عليه وهو قائم، والقيام أعلى من حال النهوض، فلا يجوز أن يسقط ما وجب عليه في حال الكمال، بما هو أدنى منه.
وإن افتتح الصلاة مومئًا، ثم قدر على الجلوس، أو القيام في أثناء الصلاة، فإنه يلزمه ذلك، ويبني على صلاته.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (تبطل صلاته، فيقوم، ويستأنف الصلاة) .
وكذلك العريان عندهم إذا استفتح الصلاة، ثم قدر على السترة في أثناء الصلاة، فإنه يستر عورته، ويستأنف الصلاة، إلا أنهم وافقونا في الأمة، إذا أعتقت وهي في الصلاة مكشوفة الرأس، أنها تستر رأسها، وتبني على صلاتها.
وقالوا في الأمي إذا افتتح الصلاة، ثم قدر على القراءة في أثناء الصلاة: إنه يستأنف الصلاة.
ودليلنا: أنه قدر على ركن من أركان الصلاة في أثنائها، فوجب أن يلزمه البناء على صلاته، كما لو افتتح الصلاة جالسًا، ثم قدر على القيام.
وبالله التوفيق

(2/448)