البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صلاة المسافر]
يجوز قصر الصلاة في السفر في: الخوف، والأمن.
والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] [النساء: 101] .
وأما السنة: فروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في أسفاره حاجًّا وغازيًا» .
وروي عن «يعلى بن أمية: أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وقد أمن الناس، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» ، فثبت جواز القصر في السفر بالخوف بالكتاب، وثبت جواز القصر في السفر بالأمن بالسنة.
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز قصر الصلاة في السفر.

(2/449)


إذا ثبت هذا: فإنما يجوز قصر الظهر والعصر والعشاء، فأما الصبح والمغرب: فلا يجوز قصرهما؛ لأنه لم يروَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصرهما، وقصر سائر الصلوات الأخرى؛ ولأن الأمة أجمعت على ذلك أيضًا.
وروي عن عائشة: أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتْين، إلا المغرب والصبح، وكان إذا سافر عاد إلى الأول) .
ويجوز قصر الصلاة في السفر في البحر، كما في السفر في البر.

[مسألة أنواع السفر]
والأسفار على أربعة أضرب: واجب، ومحظور، وطاعة، ومباح.
فأما الواجب: فهو سفر الحج والعمرة الواجبين، والجهاد في سبيل الله، إذا تعين عليه، والهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام، فهذا يجوز الترخص فيه برخص السفر، بلا خلاف بين أهل العلم.

(2/450)


وأما السفر المحظور: فهو أن يسافر لقطع الطريق، أو لقتل نفس بغير حق، أو ليزني بامرأة، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الترخص فيه بشيء من رخص السفر عندنا.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يترخص بجميع الرخص، حتى قال: لو خرج مع الحاج ليسرقهم، ولم ينو حجًّا ولا عمرة، جاز له أن يترخص) . وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] [البقرة: 173] .
قال ابن عباس: (غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم بسيفه) ؛ ولأن في تجويز الترخص برخص السفر في سفر المعصية إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز.
وأما سفر الطاعة: فهو السفر لزيارة الوالدين، والسفر لحج التطوع، وما أشبهه.
وأما المباح: فهو أن يسافر لنزهة، أو تجارة، فحكم هذين الضربين عندنا حكم السفر الواجب في جواز الترخص بهما، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن مسعود: (لا يجوز قصر الصلاة إلا في السفر الواجب) .
وقال عطاء: لا يجوز القصر إلا في سفر الطاعة.

(2/451)


دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعًا» ، ولم يفرق بين المباح والواجب.
ولأن كل رخصة تعلقت بالسفر الواجب تعلقت بالطاعة والمباح، كالنافلة على الراحلة.
قال الشيخ أبو حامد: والأحكام التي تتعلق بالسفر على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يتعلق إلا بالسفر الطويل، وضرب: يتعلق بالسفر الطويل والقصير، وضرب: يتعلق بالطويل، وهل يتعلق بالقصير؟ فيه قولان.
فأما الضرب الذي لا يتعلق إلا بالطويل: فهي ثلاثة: القصر، والفطر في رمضان، ومسح الخفين ثلاثة أيام.
وحكى أبو علي السنجي قولًا آخر: أن القصر يجوز في السفر القصير مع الخوف لعموم الآية، وليس بصحيح.
وأما الأحكام التي تتعلق بالقصير والطويل: فهي ثلاثة:
النافلة على الراحلة، والتيمم عند عدم الماء، وأكل الميتة عند الضرورة.
وقد ذكرت قبل هذا قولًا آخر في (التيمم) والتنفل على الراحلة: أنه لا يجوز في القصير، وليس بمشهور.
وأما الذي اختلف فيه قول الشافعي في القصير: فهو الجمع بين الصلاتين، ويأتي توجيه القولين في موضعهما.

(2/452)


إذا ثبت هذا: فاختلفت عبارات الشافعي عن حد السفر الطويل:
فقال في موضع: (ستة وأربعون ميلًا بالهاشمي) .
وقال في موضع: (ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي) .
وقال في موضع: (أكثر من أربعين ميلًا) .
وقال في موضع: (أربعون ميلًا: مسيرة ليلتين بسير الأثقال، ودبيب الأقدام) .
وقال في موضع: (مسيرة يومين) .
وقال في موضع: (مسيرة يوم وليلة) .
قال أصحابنا: وليس بين هذه العبارات اختلاف في المعنى، وإنما المراد واحد، وهو أربعة برد، كل بريد أربعة فرسخ ثلاثة أميال بالهاشمي، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وذلك ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي.
وحيث قال الشافعي: (ستة وأربعون ميلًا) أراد: غير الميل الذي يبدأ به، وغير الميل الذي يختم به.
وحيث قال: (أكثر من أربعين ميلًا) فتفسيره: ما ذكرناه.

(2/453)


وحيث قال: (أربعون ميلًا) أراد: بأميال بني أمية؛ لأنها تكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي.
وحيث قال: (مسيرة ليلتين) أراد: من غير يوم بينهما.
وحيث قال: (مسيرة يومين) أراد: من غير ليلة بينهما.
وحيث قال: (مسيرة يوم وليلة) أراد: متواليين، وذلك يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة: (ثلاث مراحل) ، وهو أربعة وعشرون فرسخًا، وروي ذلك عن ابن مسعود.
وقال الأوزاعي: (يقصر في مسيرة يوم) ، وروي ذلك عن أنس.
وقال داود، وأهل الظاهر: (يقصر في طويل السفر وقصيره) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان والطائف» .

(2/454)


فدليل الخطاب من الخبر دليل على أبي حنيفة، ونطقه دليل على غيره.
فإن كان السير في البحر، فالاعتبار بالمسافة التي ذكرناها في البر، وهي أربعة براد، ولو قطعها في أدنى زمان، فيجوز له القصر في السفر في ذلك.

[فرع ما لو كان للبلد طريقان]
] : وإن كان للبلد الذي يقصده طريقان، يقصر في إحداهما الصلاة، دون الأخرى، فسافر في الطريق القصيرة لم يقصر.
وإن سافر في الطريق الطويلة، فإن كان لغرض صحيح في السفر من واجب، أو طاعة، أو مباح، فله أن يقصر الصلاة؛ لأنه سافر لمعنى جائز.
وإن كان لغير غرض، ولكن ليقصر الصلاة، ففيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يقصر، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يبغض المشائين من غير أرب» ، وهذا يمشي من غير أرب؛ ولأنه طول الطريق على نفسه لا لغرض، فأشبه إذا مضى في الطريق القصير طولًا وعرضًا، حتى طال.
والثاني: له أن يقصر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] وهذا ضارب.
ولأنه سفر مباح تقصر في مثله الصلاة، فهو كما لو لم يكن له طريق سواه.

(2/455)


وإن سار هائمًا على وجهه، لا لغرض، فقد قال في " الفروع ": هل له أن يقصر؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في التي قبلها.
وقال ابن الصباغ، والطبري: لا يقصر.
قال في " الفروع ": وإن كان الرجل ممن لا موطن له، بل عادته السير أبدًا، جاز له القصر، والمستحب له: الإتمام.

[فرع سافر في سفينة ونحوها ومعه أهله]
قال في "الأم" [1/166] : (وإذا كان ملاح في سفينة له، وكان فيها أهله، وماله، وولده، وهو يسافر في البحر، أحببت له ألا يقصر؛ لأنه في وطنه، وموضع إقامته، فإن قصر الصلاة جاز؛ لأنه مسافر) .
وقال أحمد: (لا يجوز له القصر) .
دليلنا: أنه يسافر لمباح سفرًا تقصر فيه الصلاة، فهو كما لو يم يكن له فيها أهل.
قال في قال في "الأم" [1/167] : (وإن كان سيارة، يتبع أبدا مواقع القطر -حل بموضع- إذا شام برقا انتجعه، فإن كان لا يبلغ سيره إليه ستة عشر فرسخًا، لم يقصر) ، ومعنى هذا: أنه يسير في طلب موضع القطر، وليس يقصد موضعًا بعينه.
وقوله: (شام) : أبصر.
وكذلك إذا سير في طلب الخصب.

[فرع صلاة الأسير]
فإن أسر المشركون رجلًا من المسلمين، فساقوه معهم، لم يجز له القصر؛ لأنه لا يتيقن المسافة التي يحمل إليها.

(2/456)


قال الشافعي: (فإن ساروا به ستة عشر فرسخًا، كان له أن يقصر؛ لأنه قد تيقن طول سفره) .
وينبغي أنه إذا علم أنهم يحملونه إلى بلد يقصر إليه الصلاة، فإن كان ينوي أنهم متى خلوه رجع لم يقصر، وإن نوى أن يقصد ذلك البلد، أو غيره مما تقصر إليه الصلاة قصر.
وإن أبق له عبد، أو ضل له مال، فسافر لطلبه إلى بلد، تقصر إليه الصلاة، واعتقد أنه إن لقي عبده أو ماله دونه، رجع لم يقصر؛ لأنه لم يقطع على سفر طويل.
وإن نوى أنه لا يرجع وإن وجده جاز له أن يقصر؛ لأنه نوى سفرًا طويلًا، فإن وجده، ثم بدا له الرجوع صار سفرًا مستأنفًا، فإن كان بينه وبين بلده ما تقصر إليه الصلاة قصر، فإن كان دونه لم يقصر.

[فرع تعدد نية المسافر]
قال الشافعي في "الأم" [1/162 و166] : (وإذا نوى أن يسافر من بلده إلى بلد، ثم يسافر من ذلك البلد إلى بلد آخر، اعتبر حكم كل واحد منهما بنفسه) ، هكذا أطلقها الشافعي، والشيخ أبو إسحاق في " المهذب".
قال أصحابنا: وهذا يقتضي أن يكون المسافر قصد أن يقيم في البلد الأول أربعة أيام، وهذا مرادهما فيما أطلقا من ذلك.
فعلى هذا: إن كان بين بلده الذي سافر منه، وبين البلد الأول مسافة القصر، كان له أن يقصر، وكذلك إن كان بين البلد الأول والثاني مسافة القصر، كان له أن يقصر أيضًا، إذا خرج من البلد الذي وصله، وإن كان بين كل واحد منهما دون مسافة القصر، لم يقصر في واحد منهما.

(2/457)


[مسألة الإتمام أفضل أم القصر]
] : قد ذكرنا أن مسافة القصر: ستة عشر فرسخًا، وهو مسير يومين، قال الشافعي: (وأحب ألا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام) ليخرج بذلك من الخلاف.
وإذا كان سفره مسيرة ثلاثة أيام، فهل القصر أفضل، أم الإتمام؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وغيره:
أحدهما: أن الإتمام أفضل، وهو اختيار المزني؛ لأن الأصل: التمام، والقصر بدل عنه، فكان أفضل، كغسل الرجلين، والصوم في السفر؛ ولأنه أكثر عملًا.
والثاني: أن القصر أفضل، وبه قال مالك، وأحمد، ولم يذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق غيره.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا» .
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يداوم على القصر، ولا يداوم إلا على الأفضل.
ولأنه إذا قصر سقط عنه الفرض بالإجماع، وإذا أتم اختلف في إجزائه.
وأما الصوم في السفر: فقال في " العدة": فيه وجهان:
أحدهما: الفطر أفضل، فعلى هذا: يسقط السؤال.
والثاني: الصوم أفضل، وهو المشهور.

(2/458)


والفرق بينه وبين القصر على هذا: أنه إذا أخره، عرضه للنسيان وعوارض الزمان، وليس كذلك الإتمام، فإنه يسقط إلى بدل في الحال.
قال في " الفروع ": وقد قيل: إن القصر والإتمام سواء.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نوى الكافر أو الصبي السفر إلى بلد مسيرة ثلاثة أيام، فسار يومين، فأسلم الكافر، وبلغ الصبي جاز لهما أن يقصرا فيما بقي من سفرهما.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يقصر الكافر؛ لأن له نية صحيحة، ولا يقصر الصبي؛ لأنه لا نية له.
ودليلنا: أن الكافر أسوأ حالًا من الصبي؛ لأنه ليس من أهل الصلاة والرخص، فإذا جاز له القصر؛ فالصبي بذلك أولى.

[فرع ترك المسافر القصر]
فإن ترك المسافر القصر، فأتم جاز، وبه قال عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.
وذهبت طائفة إلى أن القصر عزيمة، ولا يجوز له التمام، ذهب إليه عمر وعلي، ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة.
وتفصيل مذهب أبي حنيفة: أنه إذا ائتم بمقيم لزمه أن يتم، وإن صلى منفردًا

(2/459)


أربعًا، فإن جلس في الأوليين قدر التشهد، ثم قام أجزأ عنه الركعتان الأوليان، وكان الأخريان نافلة، وإن لم يجلس بطلت صلاته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] ، وهذه اللفظة في لغة العرب وكلامهم موضوعة للإباحة ورفع الحرج.
وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سافرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رجعت قال: ما صنعت في سفرك؟ فقلت: أتممت الذي قصرت، وصمت الذي أفطرت، فقال: أحسنت» .
وروي عن عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصر في السفر، ويتم» .
وروي عن أنس: أنه قال: (سافرنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا المقصر، ومنا المتم، فلم يعب المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) .

[مسألة نية المعصية في السفر]
قد ذكرنا أن المسافر للمعصية لا يترخص بشيء من رخص المسافر، ومضى

(2/460)


الخلاف فيه، فإن أبق عبد من سيده، أو نشزت المرأة من زوجها، أو هرب من عليه حق، وهو قادر على أدائه، من الحق الذي عليه لم يجز لواحد منهم أن يترخص بشيء من رخص المسافر؛ لأنهم عصاة، فإن سافر بنية تجوز له القصر، ثم أحدث نية المعصية في أثناء سفره، فهل تمنعه هذه النية من الترخص برخص المسافر؟ فيه وجهان: حكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
أحدهما: له أن يترخص؛ لأن بإنشاء سفره، كان يباح الرخصة، فلا يضره ما اعترض بعد ذلك من نية المعصية.
والثاني: لا يجوز له الترخص؛ لأنه عاص في سفره، فهو كما لو أنشأ السفر بهذه النية.
وتشبه هذه المسألة: إذا كان له مقصد صحيح، ثم أحدث نية في أثناء السفر، أنه إذا استقبلني فلان انصرفت، فهل تمنعه هذه النية من القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 86] :
أحدهما: تمنع، كما لو أنشأ السفر على هذه النية.
قال القفال: فإن عرف أنه لا يستقبله ما لم يمض ستة عشر فرسخًا فله القصر، وإن سار ابتداء على هذه النية.
والوجه الثاني: له أن يقصر، اعتبارًا بإنشاء سفره، ولا اعتبار بالنية الحادثة، وهذا هو القياس؛ لأن الشافعي نص في "الأم" [1/165] : (إذا سافر إلى بلد، فمر في بلد، وأقام بها يومًا، ونوى: إن لقي فلانًا، أو قدم فلان أقمت أربعًا، أو أكثر، فله أن يقصر ما لم يلق فلانًا؛ لأنه لم يوجد شرط الإقامة) .
قال الشافعي: (فإذا لقي فلانًا أتم الصلاة؛ لأن الإقامة والنية وجدتا جميعًا) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أنه إن لقي فلانًا، وهو مستصحب للنية، عازم عليها، فإن لقي فلانًا، ثم بدا له ألا يقيم قال الشافعي: (لم يكن له أن

(2/461)


يقصر؛ لأنه قد صار مقيمًا، فما لم يخرج لم يقصر) .
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا بدا له قبل لقاء فلان، أن له القصر، إذا لقيه؛ لأنه لم تحصل نية الإقامة.

[فرع تغير نية المسافر]
] : قال في "الأم" [1/166] : (وإذا خرج رجل من مكة يريد المدينة قصر، فإن خاف في طريقه وهو بعسفان، فأراد المقام به، أو الخروج على غير المدينة ليقيم، أو ليرتاد الخير به جعلته إذا ترك النية من سفره إلى المدينة مبتدئًا بالسفر من عسفان؛ لأنه قد قطع النية إلى المدينة) .

[مسألة ابتداء السفر]
ولا يجوز له القصر حتى يفارق موضع الإقامة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وقال عطاء: يجوز له أن يقصر، وإن لم يخرج عن بيوت القرية.
وحكي: أن الحارث بن ربيعة: أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله بن مسعود.
وقال قتادة: إذا جاوز الجسر أو الخندق قصر.
وقال مجاهد: إذا خرج بالنهار فلا يقصر إلى الليل، وإذا خرج بالليل فلا يقصر إلى النهار.
دليلنا على مجاهد: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] . وهذا قد ضرب.

(2/462)


وعلى الحارث: أن من كان في بيته، ولم يفارق البنيان فلم يضرب.
وروى أنس قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين» .
وروي عن علي بن ربيعة: أنه قال: (خرجت مع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقصر ونحن نرى البيوت) .
إذا ثبت هذا: فإن كان بطرف البلد مساكن خربت وخليت من السكان، إلا أن الجدران قائمة لم يقصر، حتى يفارقها؛ لأن السكنى فيها ممكن، فإن تهدمت، وذهبت قواعدها جاز له القصر قبل مفارقتها؛ لأنها لا تسكن.
وإن كان حيطان البساتين متصلة بحيطان البلد فله أن يقصر إذا فارق حيطان البلد، وإن لم يفارق حيطان البساتين؛ لأنها ليست بمبنية للسكنى.
قال ابن الصباغ: وإن كان في وسط البلد نهر يجري مثل بغداد، فأراد رجل سفرًا يجتاز فيه إلى الجانب الآخر، لم يجز له أن يقصر، حتى يفارق بنيان الجانب الآخر والنهر، والماء ليس بحائل، ألا ترى أنه لو كان في وسط البلد رحبة واسعة ميدانًا لم يقصر حتى يفارقها، فالنهر أولى بالمنع لتعلق المنافع به.
فإن كان هناك قريتان، فاتصل البناء بينهما، حتى صارتا قرية واحدة لم يقصر حتى يفارق جميعها، وإن كان بينهما فضاء قصر إذا فارق القرية التي هو فيها، وإن لم يفارق القرية الأخرى.
وقال أبو العباس بن سريج: إذا كان بينهما قريب، فهما كالقرية الواحدة.
والمذهب الأول؛ لأن كل واحدة من القريتين منفصلة عن الأخرى، فثبت لكل واحدة حكم نفسها.

(2/463)


[فرع قصر أهل الخيام]
] : فأما أهل الخيام، فإن كانت مجتمعة لم يقصر، حتى يفارق جميعها، وإن كانت متفرقة لم يقصر، حتى يفارق ما يقرب من بيوته.
قال أبو إسحاق المروزي: معنى هذا: إذا كان الحين بطونًا، فلكل بطن حكم نفسه.
وإن كان في الصحراء، فنقل المزني: (أنه لا يقصر، حتى يفارق موضعه) .
وقال في "الأم" [1/162] : (حتى يفارق البقعة التي فيها موضعه) وهذا صحيح، لا يقصر حتى يفارق الموضع الذي يسكن فيه، ويكون فيه رحله، وقماشه، وتصرفه.
قال الشافعي: (فإن كان في عرض الوادي، فحتى يقطع عرض الوادي، وإن كان في طول الوادي، فحتى ينبت عن موضع منزله) .
وقال أكثر أصحابنا: إنما اشترط قطع عرضه، إذا كانت البيوت في جميع عرض الوادي، وإن كانت البيوت في بعضه، فيقصر إذا فارقها، وإن كان في عرض الوادي.
وقال القاضي أبو الطيب: لم يشترط الشافعي ما ذكروه بل أطلق، وإنما قال ذلك؛ لأن جانبي الوادي بمنزلة السور على البلد؛ لأنهم إنما اختاروا النزول في الوادي؛ ليتحصنوا بجانبيه، كما يتحصن أهل البلد بسوره، فينبغي ألا يقصر، حتى يفارقه.

[فرع خرج من بلد ثم عاد لحاجة]
] : فإن خرج من بنيان بلده فله أن يقصر، فإن ذكر أنه نسي حاجة في البنيان، فعاد إليه لم يكن له أن يقصر فيه؛ لأن هذا موضع إقامته، فلم يقصر حتى يفارقه.

(2/464)


قال في " الإملاء " والقديم: (فإن فارق البنيان، وشرع في الصلاة، فرعف، وانصرف إلى البنيان، فغسل الدم لم يجز له أن يتم الصلاة قصرًا، ووجب عليه الإتمام؛ لأنه يتم في البنيان) .
وعلى القول الجديد: تبطل صلاته، فإن أراد أن يستأنف، أتم الصلاة في البنيان، فإن خرج من البنيان استأنفها مقصورة.
وإن خرج وأقام في موضع خارج البلد، ينتظر القافلة، فإن نوى أنه ينتظر دون الأربع إن اجتمعت، وإلا سافر كان له أن يقصر؛ لأنه قد قطع بالسفر، وإن نوى أنه لا يسافر، حتى تجتمع القافلة وإلا ترك السفر، لم يكن له أن يقصر؛ لأنه لم يقطع على السفر.

[مسألة كون جميع الصلاة في السفر شرط للقصر]
] : ولا يجوز القصر، حتى يكون جميع الصلاة في السفر، فإن حصل جزء من الصلاة في دار إقامته، وذلك يتصور في بلد يكون في وسطه نهر، تمر به السفينة، أو نوى الإقامة في أثناء الصلاة في السفر لزمه أن يتم الصلاة؛ لأنها لم تتمحض في السفر.

[مسألة نية القصر]
ولا يجوز له القصر حتى ينوي القصر عند الإحرام.
وقال أبو حنيفة: (القصر عزيمة، فلا يفتقر إلى نية) .
وقال المزني: لا تختص نية القصر بأول الصلاة، بل لو نوى القصر في أثناء الصلاة جاز له القصر.

(2/465)


وقال المغربي: لو نوى الإتمام، ثم نوى أن يقصر في أثناء الصلاة، كان له أن يقصر.
فأما أبو حنيفة: فقد مضى الدليل عليه، وأن القصر ليس بعزيمة.
ودليلنا على المزني: أن كل نية افتقرت إليها الصلاة، كان محلها عند الإحرام، كنية الصلاة.
ودليلنا على المغربي: أنه أحرم بالصلاة تامة، فلم يجز له القصر بعد ذلك، كما لو أحرم بها في السفينة بدار الإقامة، ثم سافر.

[فرع من أراد القصر بعد تركه]
فإن أحرم بالصلاة وهو جاهل، ثم بان له أن يقصر لأجل السفر، ثم سلم من ركعتين، وجب عليه قضاؤها أربعًا؛ لأن عقدها أربعًا، فإذا سلم من ركعتين فقد قصد إفسادها متلاعبًا، فلزمته الإعادة.

[فرع الشك في النية]
] : وإن شك: هل نوى القصر، أم لا؟ وجب عليه الإتمام؛ لأن الأصل التمام، ما لم يتيقن الرخصة، فإن ذكر بعد ذلك أنه قد كان نوى القصر لم يكن له القصر؛ لأنه قد وجب عليه الإتمام بنفس الشك، وإن نوى القصر، فصلى أربعًا ساهيًا، ثم ذكر فإنه يجزئه، ويسجد للسهو لأجل الزيادة، وهذه نادرة؛ لأن الزيادة التي توجب السهو إذا تعمدها أفسدت صلاته.
ولو نوى هذا المسافر التمام لم تفسد صلاته، ولزمه التمام، هذا مذهبنا.
وقال مالك: (إذا نوى المسافر القصر لم يكن له أن ينوي الإتمام؛ لأنه نوى عددًا، فإذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية) وهذا ليس بصحيح؛ لأن نية الزيادة على العدد لا تعتبر لها النية؛ لأن نية صلاة الوقت تجزئ لهما، كما قلنا في النافلة إذا نواها ركعتين، كان له أن ينويها أربعًا في أثنائها.

(2/466)


[مسألة ائتمام المسافر بالمقيم]
] : إذا ائتم المسافر بالمقيم في جزء من صلاته لزمه الإتمام، وبه قال أبو حنيفة.
وقال طاوس، والشعبي، وإسحاق: يجوز له القصر.
وقال مالك: (إن أدرك معه ركعة لزمه التمام، وإن كان دونها لم يلزمه) .
دليلنا ما روي: أنه «سئل ابن عباس: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ ! فقال: (تلك السنة» ؛ وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والدليل على مالك: أنه مؤتم بمقيم فلزمه التمام، كما لو أدرك معه ركعة.

[فرع المسافر يصلي خلف إمام الجمعة والصبح]
فإن صلى المسافر خلف من يصلي الجمعة لزمه التمام، سواء كان إمام الجمعة مقيمًا أو مسافرًا؛ لأن الصلاة تامة.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو فاتته الصلاة في السفر، وأراد قصرها -على القول الذي يجوز له القصر- وائتم بمن يصلي الصبح لزمه التمام؛ لأن الصبح صلاة تامة.

[فرع ائتمام المسافر بمقيم]
] : إذا ائتم المسافر بمن يعلم أنه مقيم، مثل: أن يراه في منزله ووطنه لزمه أن ينوي التمام؛ لأن الإمام مقيم، وكذلك إذا ائتم بمن الظاهر من حاله أنه مقيم، مثل:

(2/467)


أن يرى عليه زي المقيمين لا زي المسافرين، فإن عليه أن ينوي التمام؛ لأن الظاهر من حاله أنه مقيم، وإن ائتم بمن يعلم أنه مسافر، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر
فهل له أن ينوي القصر، أو يعلق نيته بنية إمامه؟ فيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ:
أحدهما: ينوي القصر، ولا يجوز تعليق نيته بنية غيره، كما لا يجوز أن ينوي الصلاة التي عليه إذا نسيها، ولم يعلم عينها.
والثاني: يجوز تعليق نيته بنية إمامه؛ لأن صلاته تقع بحسب صلاة الإمام إذا نواها مقصورة، فجاز أن يعلقها بنية الإمام.
فإن اقتدى المسافر بمن ظنه مسافرًا، ونوى القصر، فبان أن الإمام مقيم محدث، أو مسافر نوى الإتمام وهو محدث، فإن تبين له الأمران معًا، أو بان له حدثه قبل إقامته، فهل للمؤتم به أن يقصر هذه الصلاة؟ فيه وجهان:
أحدهما وهو قول ابن القاص، ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أن له أن يقصرها؛ لأن صلاة الإمام لم تنعقد، فلم يلزم المؤتم به التمام.
والثاني حكاه الطبري في " العدة": ليس له أن يقصر؛ لأنه قد صح اقتداؤه به، إذا لم يعلم حدثه، ولهذا لا إعادة على من يقتدي به، إذا علمه بعد.
وأما إذا بان له أنه مقيم، أو أنه نوى الإتمام أولًا، ثم بان له حدثه، فعليه أن يتم هذه الصلاة، وجهًا واحدًا.
وكذلك لو ظنه مقيمًا، فاقتدى به، ثم بان أنه مسافر محدث، أو غير محدث، فإن المأموم يلزمه إتمام هذه الصلاة؛ لأنه قد التزم إتمامها، فلم يسقط عنه بما بان بعد ذلك.
وإن ائتم المسافر بمقيم، أو بمن نوى الإتمام، أو لم ينو القصر، أو نوى الائتمام فإنه يلزمه في هذه المسائل الإتمام.
فإن أفسد صلاته لزمه إعادتها تامة؛ لأنه قد التزمها تامة بإحرامه الأول، فإن بان أن المأموم كان محدثًا فيه جاز له أن يعيدها مقصورة؛ لأنه بان أن إحرامه كلا إحرام.

(2/468)


[فرع ائتمام المسافر بالمسافر]
] : إذا ائتم المسافر بمن يعلمه مسافرًا، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر، ثم نويا القصر، فقام الإمام من الثانية إلى الثالثة ساهيًا، فإن علم المأموم أن الإمام قام ساهيًا، وقل ما يعلم ذلك فإنه يفارقه، كما لو قام إلى الخامسة.
وإن لم يعلم ذلك، بل ظن أنه أتم الصلاة لأمر ما لزمه متابعته؛ لأن الظاهر أن ما يأتي به الإمام من الصلاة، فلو أن الإمام -بعد أن فرغ من الرابعة- ذكر أنه صلى أربعًا ساهيًا، ثم نوى إتمامها لم يحتسب بهاتين الركعتين، بل يجب عليه أن يقوم، ويأتي بركعتين أخريين، ولا يجوز للمأموم متابعته فيهما؛ لأن الظاهر من الإمام، أنه قام ساهيًا في هذه الحالة.
وإن نوى القصر خلف المسافر، ثم أفسد الإمام صلاته، ثم قال: كنت نويت القصر، كان للمأموم أن يتمها مقصورة، وإن قال الإمام: كنت نويتها تامة لزم المأموم أيضًا أن يتمها.
وإن انصرف ولم يعلم بماذا أحرم الإمام، ففيه وجهان:
أحدهما وهو المنصوص: (أنه يلزمه أنه يتمها) ؛ لأنه يشك في عدد الركعات، فلزمه البناء على اليقين.
والثاني وهو قول أبي العباس: أن له أن يقصر؛ لأن الظاهر من إمامه أنه يقصر.

[مسألة إمامة المسافرين وغيرهم]
] : قال الشافعي: (وإن صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام واستخلف مقيمًا، كان على جميعهم والراعف أن يصلوا أربعًا؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم) .

(2/469)


وجملة ذلك: أنه إذا صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام، واستخلف مقيمًا كان على المأمومين أن يتموا الصلاة.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزم المسافرين الإتمام؛ لأنهم يبنون على حكم الإمام الأول) .
ودليلنا: أنهم مؤتمون بالمقيم، فأشبه إذا أحرموا خلف المقيم.
وأما الراعف: فإن الشافعي قال: (يلزمه أن يتم) .
قال المزني: هذا غلط، بل هو بالخيار، إن شاء قصر، وإن شاء أتم؛ لأنه مسافر لم ينو الإتمام، ولا اقتدى بمقيم.
قال أصحابنا: الصحيح ما قاله المزني.
واختلفوا في تأويل قول الشافعي: فقال أبو إسحاق: تأويل ذلك هو أن الراعف لما رعف، واستخلف المقيم ذهب، وغسل الدم عن نفسه، ثم عاد، فائتم بالمقيم، وعليه يدل ظاهر كلام الشافعي، حيث قال: (لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم) ، وهذا الراعف لا يكون فيها في صلاة مقيم إلا بهذا.
وتأولها أبو العباس تأويلين غير هذا:
أحدهما: أنه قال: بنى الشافعي هذا على القول القديم، وأن الصلاة لا تبطل إذا سبقه الحدث، فيكون في حكم المؤتم بالمقيم.
وهذا التأويل ليس بشيء؛ لأنه وإن لم تبطل صلاته على هذا القول إلا أنه منفرد عن الجماعة.
والتأويل الثاني حكاه أبو العباس عن بعض أصحابنا: أنه قال: يحتمل أن يلزمه التمام على القولين؛ لأن هذا الخليفة فرع له، ولا يجوز أن تكون صلاة الأصل أنقص من صلاة الفرع.
وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما لزمه التمام؛ لأنه مقيم.

(2/470)


ألا ترى أن الراعف لو لم يصبه الرعاف؛ لكانت صلاته أنقص من صلاة فرعه في حال كونه إمامًا له.
وقال أبو غانم ملقي أبي العباس: تأويلها: هو أن الراعف لما أحس بالرعاف استخلف المقيم، وهو في الصلاة قبل أن يظهر الدم، فائتم بالمقيم في جزء من صلاته، ثم خرج الدم.
وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما يستخلف وينصرف، فأما أن يستخلف، ويصلي مع خليفته فلا، هكذا قال ابن الصباغ؛ ولأن الشافعي قال: (فرعف، واستخلف مقيمًا) . وظاهر قوله: أنه استخلف بعد أن رعف.

[فرع تفريق الإمام المصلين في صلاة الخوف]
إذا فرق الإمام الناس فرقتين في صلاة الخوف، وصلى بفرقة ركعة، وقام إلى الثانية فأحدث، واستخلف مقيمًا ليصلي بهم الركعة الثانية قال الشافعي: (كان على الطائفتين أن يصلوا أربعًا) .
قال أصحابنا: تأويلها: إذا قدم المقيم قبل أن تفارقه الأولى، فأما بعد مفارقته: فإن الأولى تقصر دون الثانية.

[مسألة حكم القصر]
إذا سافر إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فوصل ذلك البلد، فإن لم ينو الإقامة فيه فهو مسافر فيه، وله أن يقصر فيه الصلاة. وإن نوى فيه الإقامة صار مقيمًا فيه بنفس الدخول، فينقطع عنه رخص المسافر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة، وخرج إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة، وهو يقصر الصلاة» .

(2/471)


وتأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع، ولم يكن انتهى سفره؛ لأنه كان يريد الخروج إلى عرفات، فلما خرج إلى عرفات لم ينو الإقامة فيها، فلذلك قصر فيه وجمع، فلما فرغ من نسكه، ونزل من منى لم يدخل مكة، وإنما نزل بالمحصب، فلما كان من الغد دخل مكة، وطاف للوداع، وراح إلى المدينة، فلم ينو الإقامة بمكة.
فإن دخل المسافر في طريقه بلدًا له فيها أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيها، فإن له أن يقصر فيها؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حج معه خلق كثير من المهاجرين، وكذلك حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالناس في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حجًّا بالناس، وكان لهم بمكة دور، وأهل، وقرابة، ولم ينقل: أن أحدًا منهم أتم الصلاة، بل نقل: أنهم قصروا فيها.
ولأن الإقامة إنما تكون بنية الإقامة، أو بأن تحصل بدار إقامته، ولم يوجد شيء منهما.

(2/472)


وحكى الطبري في " العدة" قولًا آخر: أن بنفس الدخول يصير مقيمًا، كدخوله دار إقامته، والأول هو المشهور.

[فرع نية الإقامة]
] : إذا نوى المسافر أن يقيم ببلد أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، انقطعت رخص السفر، وبه قال عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، ومالك، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: (إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا، مع اليوم الذي يدخل فيه، واليوم الذي يخرج فيه أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) . وهي إحدى الروايتين عن ابن عمر، واختاره المزني.
وحكي عن سعيد بن جبير: أنه إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر.
وروي عن ابن عمر رواية أخرى: (أنه إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) .
وروي عنه رواية ثالثة: (إن نوى إقامة اثني عشر يومًا أتم، وإن نوى دون ذلك قصر) .
وقال علي وابن عباس: (إن نوى إقامة عشرة أيام أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) .

(2/473)


وقال ربيعة: إن نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة.
وقال الحسن البصري: إذا دخل المسافر البلد أتم الصلاة.
وقالت عائشة: (إذا وضع المسافر رحله أتم الصلاة، سواء كانت في البلد أو خارجًا منها) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا» .
ووجه الدلالة منه هو: أن المهاجرين حرمت عليهم الإقامة بمكة قبل فتحها، فلما صارت دار إسلام تحرج المسلمون من الإقامة فيها؛ ليكونوا على هجرتهم، وكانوا لا يدخلونها إلا لقضاء نسك، فلما أذن لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إقامة الثلاثة دل على أنها في حكم السفر، وما زاد علها في حكم الإقامة، وفي هذا دليل على أكثر المخالفين.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة بمكة، ومنى، وعرفات» ، وفي هذا دليل على باقي المخالفين فيها.
وأما يوم الدخول ويوم الخروج: فلا يعتبر؛ لأنه يشق مراعاة الزمان والساعة التي يدخل فيها أو يخرج، وضم بعضه إلى بعض، فسقط اعتبار ذلك.

(2/474)


[فرع نية الإقامة]
] : وإن نوى الإقامة في موضع لا يصلح لها، كالمفازة من الأرض؛ فقال البغداديون من أصحابنا: حكمه حكم ما لو نوى الإقامة في بلد.
وقال الخراسانيون: هل يكون كالإقامة في بلد؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن نوى الإقامة عند مواجهة العدو.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه الإتمام) .
دليلنا: أنه نوى الإقامة مدة الإقامة، فأشبه إذا نوى الإقامة بقرية.

[فرع نية التابع إذا انفرد بها]
إذا كان العبد مع سيده في سفر، فنوى العبد إقامة أربعة أيام، أو كانت الزوجة مع زوجها في السفر، فنوت الإقامة، ولم ينو الزوج، ولا السيد ففيه وجهان:
أحدهما: يلزم العبد والزوجة الإتمام؛ لأنهما قد نويا الإقامة، فصارا كغيرهما.
والثاني: لا يلزمهما؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة.
ويحتمل أن يكون إذا نوى الجيش الإقامة مع الإمام، أو الأمير من قبله، ولم ينو هو الإقامة على هذين الوجهين.

[فرع نية إقامة المسافرين]
لو أن مسافرين دخلا بلدًا، ونويا إقامة أربعة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج، وأحدهما يعتقد جواز القصر مع نية إقامة أربعة أيام، كره للآخر أن يأتم به، فإن خالف، واقتدى به، فقصر الإمام لم تبطل صلاة المأموم بذلك؛ لأن الإمام لا تبطل صلاته إلا بالسلام من ركعتين، فيقوم المأموم، ويتم لنفسه، كما لو أفسد الإمام صلاته بكلام أو غيره.

(2/475)


[فرع نية الإقامة لإنجاز حاجة]
] : فأما إذا نوى المسافر الإقامة؛ لينجز حاجة، ثم يرحل بعدها، مثل: أن يقيم على كتب حديث أو سماعه، أو قراءة علم، أو على بيع سلعة أو شرائها، أو كان مريضًا، فنوى الإقامة إلى أن يبرأ، ولم ينو إقامة مدة نظرت: فإن كان يعلم أن حاجته لا تتنجز له إلا بإقامة أربعة أيام، فما زاد لم يجز له القصر، كما لو نوى إقامة أربعة أيام.
وإن كان لا يدري متى تتنجز حاجته، وقد تتنجز في أربع، وفيما دونها، وفيما زاد عليها، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: له أن يقصر إلى أن تبلغ إقامته إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن عام الفتح قولًا واحدًا، وقد اختلفت الرواية في قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن.
ففي رواية: (أنه أقام سبعة عشر يومًا) .
وفي رواية: (أنه أقام ثمانية عشر) .
قال في " الإبانة " [ق \ 88] : وهو الأصح.

(2/476)


وفي رواية ثالثة ذكرها في " الإبانة " [ق \ 88] : (أنها عشرون يومًا) .
وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة، جمعت هوازن قبائل العرب، وأرادت المسير إلى قتاله، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيمًا يتخوف من ذلك، وينتظرهم ليقاتلهم، وهو يقصر الصلاة، فأقام المدة التي ذكرناها.
فإن زادت إقامته على ذلك، ففيه قولان:
أحدهما: يجوز له أن يقصر؛ لأنه إقامة في مدة، على تنجز حاجة يرحل بعدها، فجاز له القصر فيها، كالإقامة في سبعة عشر يومًا.
والثاني: يلزمه الإتمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] [النساء: 101] ، وهذا ليس بضارب؛ ولأن الأصل التمام، إلا فيما وردت فيه الرخصة، وهو قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونفي ما زاد على الأصل.
وقال أبو إسحاق المروزي: له أن يقصر أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها ثلاثة أقوال:
أحدها: يجوز له أن يقصر أبدًا.
والثاني: له أن يقصر إلى أن يبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يتم فيما زاد عليها، ووجههما ما ذكرناه.
والثالث: يلزمه الإتمام بعد الأربع؛ لأن الإقامة أبلغ من نية الإقامة، فإذا لزمه

(2/477)


الإتمام بنية إقامة أربعة أيام، فلأن يلزمه الإتمام بالإقامة فيما زاد عليها أولى.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 88] : له أن يقصر ثلاثة أيام قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها قولان:
أحدهما: يقصر أبدًا.
والثاني: يقصر ما لم تبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويتم فيما زاد عليها.
فأما الإقامة على حرب: فلا فرق بين أن يكون مقاتلًا في الحال، أو يكون متخوفًا من القتال، والحكم فيه واحد، فينظر فيه:
فإن لم ينو إقامة مدة، بل نوى أنه متى انقضى القتال رحل، فهو كما لو نوى الإقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها، على ما مضى من الطرق.
وإن نوى إقامة أربعة أيام، فما زاد على ذلك ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له القصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام، فهو كما لو نوى الإقامة على غير حرب.
والثاني: له أن يقصر؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة على قتال هوازن المدة التي ذكرناها، وهو يقصر الصلاة.
ولما روي: أن رجلًا سأل ابن عباس، فقال: إنا نغزو بخراسان، فتطول المدة؛ أنقصر؟ فقال: (اقصروا، ولو بقيتم عشر سنين) ، وروي: (أن أنسًا أقام بنيسابور سنة يقصر الصلاة على حرب) ، و (أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة) .

(2/478)


قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نزل المسافر قرية، فأقام بها أربعة أيام، من غير نية الإقامة لم يكن له أن يقصر بعدها.
وقال أبو حنيفة: (يقصر ما لم ينو الإقامة) .
دليلنا: أن وجود الإقامة عيانًا وحقيقة، أقوى من نية الإقامة، ولو نوى هذه المدة لم يقصر كذلك إذا وجد حقيقة.

[فرع المسافر في البحر عند ركود الريح]
وإن سافروا في البحر، فركدت بهم الريح، فأقاموا على هبوبها، فهم كالمقيمين على تنجز حاجة، فلو أقاموا في موضع قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي قبلها، وقلنا: يجب عليهم التمام، أو قلنا: يلزمهم الإتمام بعد أربعة أيام، في أحد الأقوال على طريقة أبي إسحاق، ثم هبت الريح، فعدوا عن موضعهم، جاز لهم القصر.
فإن ردتهم الريح إلى موضعهم الأول، ثم ركدت بهم الريح فيه كانوا كالمقيمين في هذه الحالة على تنجز حاجة، فلهم أن يقصروا أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها الطرق؛ لأنهم قد أنشئوا السفر بهبوب الريح، وهذه إقامة غير الأولى، وإن كان الموضع واحدًا.

[فرع يقصر المكي]
] : ذكر الطبري في " العدة": لو أن مكيًّا قصد إلى عرفات، ثم يعود إلى منى، ثم إلى مكة، ثم يخرج إلى بعض الآفاق، ولم يقم في شيء من هذه المواضع أربعة أيام، فليس له أن يقصر في شيء منها، ما لم يفارق مكة بعد رجوعه إليها؛ لأن كل ذلك بلد إقامته، والمسافات متقاربة.

(2/479)


فأما إذا قصد المكي إلى جدة، أو إلى موضع تقصر إليه الصلاة من مكة، ثم يعود إلى مكة، ولا يقيم بها أربعة أيام، بل يخرج منها إلى بعض الآفاق فله أن يقصر هاهنا عند خروجه من مكة إلى جدة، وفي رجوعه من جدة إلى مكة، وهل له أن يقصر بمكة؟ فيه قولان، كالقولين فيمن مر ببلد له فيها أهل ومال.
قلت: وعندي: أنه لا يقصر بمكة قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي قال: (لو خرج من وطنه مسافرًا إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فأحرم بالصلاة خارج البلد فرعف، فرجع إلى البلد لغسل الدم، أو لحاجة نسيها لم يكن له أن يقصر ببلده) ؛ لأنه في دار إقامته، وإن كان برجوعه لم ينو الإقامة، بل هو على نية السفر.
ويدل على ما ذكرته: أن الشافعي قال في "الأم" [1/164] والقديم: (إذا ولى الإمام رجلًا مكة، فسار من موضع تقصر منه الصلاة إليها، وهو يريد الحج، فبلغ مكة انقطع قصره، وإن كان يريد المسير إلى منى وعرفات) ؛ لأنه يحصل بذلك في وطنه، ولا يقطع قصره إذا حصل في طرق عمله؛ لأن ذلك ليس بوطن له؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسير في البلد التي فيها أهل طاعته، وكان يقصر الصلاة فيها.

[فرع المسافر يؤم غيره]
إذا أمّ المسافر بمسافرين وبمقيمين جاز، ويجوز للإمام، ولمن خلفه من المسافرين أن يقصروا، ويتم المقيمون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤم المسافرين والمقيمين بمكة، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن خلفه من المسافرين يقصرون الصلاة، ويتم المقيمون خلفه.
ويستحب للإمام إذا سلم أن يقول للمقيمين: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم قال: "أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» .
فإن أراد أن يستخلف أحد المقيمين؛ ليتم بهم الصلاة، بنى على القولين في

(2/480)


الاستخلاف عند الحدث، فإن قلنا هناك: لا يجوز فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يجوز فهاهنا وجهان، ويأتي بيان ذلك.

[مسألة قضاء فائتة الحضر في السفر]
] : فإن فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في الحضر، وجب عليه أن يقضيها تامة، سواء كان بين فواتها وقضائها سفر أو لم يكن؛ لأنه مقيم حال الوجوب، وحال القضاء.
وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في الحضر ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز له أن يقضيها مقصورة) ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والثوري، والحسن البصري، وحماد؛ لأنها صلاة، فكان قضاؤها كأدائها كالصبح، والمغرب، وكما لو فاتته في الحضر، فقضاها في السفر.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه أن يقضيها تامة) ، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وهو الأصح؛ لأن القصر تخفيف تعلق بعذر، وقد زال العذر، فزال التخفيف، كالقعود في صلاة المريض.
وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في السفر ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له قصرها؛ لأنها صلاة ردت إلى ركعتين، فكان من شرطها الوقت، كصلاة الجمعة.
والثاني: يجوز له قصرها، وهو الأصح؛ لأنه تخفيف تعلق بعذر، والوقت باق، فجاز أن يكون التخفيف باقيًا، كالقعود في صلاة المريض.
فعلى هذا: إن تخلل بين الفوات والقضاء حضر، فهل يجوز له القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 87] .

(2/481)


[فرع القضاء في السفر]
] : وإن فاتته صلاة في الحضر، وأراد قضاءها في السفر، وجب عليه أن يقضيها تامة.
وقال الحسن البصري والمزني: يجوز أن يقضيها مقصورة؛ لأن الاعتبار بحال الفعل، ولهذا لو ترك صلاة في حال الصحة، فقضاها في حال المرض، كان له أن يصليها قاعدًا، وكما لو فاته صوم في الحضر، فذكره في السفر فإن له أن يفطر.
ودليلنا: أن هذه صلاة تعين عليه فعلها أربعًا، فلا يجوز له النقصان عن عددها، كما لو لم يسافر، وكم لو نذر أن يصلي أربع ركعات.
وأما ما ذكراه من صلاة المريض: فالفرق بينهما: أن المرض حال ضرورة، والسفر حال عذر، فلا يعتبر أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لو افتتح الصلاة قائمًا في الصحة، ثم طرأ عليه المرض، في أثنائها جاز له القعود، ولو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر في أثنائها لم يجز له قصرها.
وأما الصوم: فإن كان تركه في الحضر لغير عذر، بأن أكل عامدًا فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له تركه في السفر؛ لأنه مفرط.
فعلى هذا: يسقط السؤال.
وقال أكثر أصحابنا: هو مخير بين قضائه في السفر أو الحضر، وكذلك إذا تركه في الحضر بعذر، فهو مخير أيضًا بين قضائه بالسفر أو الحضر، فيكون الفرق بينه وبين الصلاة: أن الترخص في الصوم بالسفر هاهنا إنما هو بتأخيره، لا بسقوط بعضه، والترخص بالسفر في الصلاة إنما هو بسقوط بعضها، ولهذا لو دخل في الصوم بالسفر؛ كان مخيرًا بين إتمامه أو الفطر منه، ولو دخل في الصلاة في السفر بنية التمام لم يجز له قصرها.

(2/482)


[فرع أدرك الصلاة حضرًا وصلاها سفرًا]
] : إذا دخل عليه وقت الصلاة في الحضر، وتمكن من أدائها، ثم سافر فله أن يقصر، وقال المزني: ليس له أن يقصر.
قال الشيخ أبو إسحاق: ووافقه أبو العباس ابن سريج على هذا، كما لو دخل على المرأة وقت الصلاة في الحضر، وتمكنت من أدائها، ثم حاضت قبل أن تصليها، فإنها لا تسقط عنها.
والمذهب الأول؛ لأن الاعتبار في الصلاة بحال الأداء، لا بحال الوجوب، بدليل أنه لو دخل عليه وقت الظهر يوم الجمعة، وهو عبد، فلم يصل حتى أعتق فإن الجمعة تجب عليه، وهذا مسافر في حال الأداء فجاز له القصر.
قال ابن الصباغ: وأما الحائض: فلا نسلمه، على قول أبي العباس، فإنه قال فيها: إذا دخل عليها وقت الصلاة، وتمكنت من فعلها، ثم طرأ عليها الحيض، أو الإغماء، فإنها تسقط عنها، وقد حكى الشيخ أبو إسحاق هذا عن أبي العباس في الحائض.
فإن ثبتت الحكايتان عن أبي العباس، تناقض قوله.
وإن سلمنا الحائض على المذهب، فالفرق بينها وبين المسافر: أن الحيض يؤثر في إسقاط الصلاة، فلو أثر ذلك بعد التمكن من فعلها، لأدى إلى إسقاط فرض الصلاة بعد وجوبها، والسفر لا يؤثر في إسقاط الفرض، وإنما يؤثر في عدد الركعات، فلا يؤدي إلى إسقاطها.
وإن سافر، ولم يبق من وقت الصلاة إلا قدر أربع ركعات، جاز له القصر.
وقال المزني: لا يجوز له القصر، ووافقه على هذا أبو الطيب بن سلمة، والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في الأولى.
وإن سافر وقد بقي من الوقت قدر ركعة، فإن قلنا بقول المزني، وابن سلمة في الأولى لزمه التمام.

(2/483)


وإن قلنا بقول عامة أصحابنا في الأولى بنيت هذه على من صلى في الوقت ركعة، ثم خرج الوقت، فإن قلنا بقول أبي علي ابن خيران: إنه يكون مؤديًا للجميع، وهو ظاهر المذهب، جاز له القصر.
وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت لم يجز له القصر.
وإن لم يصل المسافر، حتى بقي من الوقت قدر ركعة أو أقل، فإن قلنا: يكون مؤديًا للجميع جاز له القصر، قولًا واحدًا.
وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت، فهل يجوز له القصر؟ فيه قولان، كما لو فاتته في السفر، فقضاها في السفر.

[فرع استخلاف المسافر المقيم]
] : قال في " الإبانة " [ق \ 89] : إذا اقتدى مسافر بمسافر، ونويا القصر، فأحدث الإمام، واستخلف مقيمًا لزم المأموم الإتمام، وأما الإمام الأول: فإن توضأ وعاد، فائتم بخلفيته لزمه التمام، وإن صلى منفردًا جاز له القصر.
قال: وفيه وجه بعيد: أنه يلزمه الإتمام؛ لأن نظام صلاة الخليفة بنظام صلاته، ولعل هذا الوجه مأخوذ من أحد التأويلات في مسألة الراعف التي مضت.

[مسألة الجمع بين الصلوات]
يجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، في السفر الطويل، وبه قال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن

(2/484)


زيد، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، ومعاذ بن جبل، وجابر بن سمرة.
وهل يجوز الجمع بينهما في السفر الطويل؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) ، وبه قال مالك.
ووجهه: أن أهل مكة يجمعون بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولا ننكر عليهم منكر؛ ولأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة، فجاز الجمع فيه كالطويل.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وهو الأصح؛ لأنه إخراج عبادة عن وقتها، فلم يجز في السفر القصير كالفطر، وأما أهل مكة: فلا حجة في فعلهم أيضًا.
قال ابن الصباغ: لأنهم يقصرون أيضًا، ونحن لا نجيز ذلك في القصر، وأما التنفل على الراحلة: فإنما جاز ذلك؛ لئلا ينقطع عن النافلة، وفي ذلك مشقة، وهذا يستوي فيه القصير والطويل، وليس في منع الجمع في القصر مشقة، هذا مذهبنا.

(2/485)


وقال الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر بحال، وإنما يجوز لأجل النسك في عرفة، ومزدلفة لا غير) .
ودليلنا: ما روي عن «ابن عباس: أنه قال: (ألا أخبركم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال، وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر» .
وروي عن «عبد الله بن دينار: أنه قال: غربت الشمس، ونحن مع عبد الله بن عمر في سفر، فسار حتى أمسى، فقلنا: الصلاة، فسار حتى غاب الشفق، وتصوبت النجوم ثم نزل، فجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير صلى صلاتي هذه» .

(2/486)


إذا ثبت هذا: فالأفضل إن كان نازلًا في وقت الأولى أن يجمع بينهما في وقت الأولى، وإن كان سائرًا فالأفضل أن يجمع بينهما في وقت الثانية؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس؛ ولأنه أرفق بالمسافر، فكان أولى.
فإن جمع بينهما في وقت الأولى، افتقر إلى ثلاثة شروط:
أحدها: نية الجمع.
وقال المزني: لا يفتقر إلى نية الجمع، بل إذا فرغ من الأولى، وأراد أن يصلي الثانية نوى أنه يترخص بها.
ودليلنا: أنه جمع، فلا بد من نيته، كالجمع في وقت الثانية، فإنه وافقنا على ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن نوى الجمع عند الإحرام بالأولى صح ذلك قولًا واحدًا، وإن أخر نية الجمع عن حال الإحرام بالأولى، ونواه قبل تسليمه منها، في أي جزء كان منها فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن القصر رخصة، والجمع رخصة، فلما كان القصر لا يصح إلا بنية مع الإحرام، فكذلك الجمع.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأن الجمع يحصل بفعل الثانية عقيب الأولى، فإذا نوى الجمع قبل الفراغ من الأولى أجزأه، كما لو نوى عند الإحرام.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 90] : طريقة ثانية: إن كان الجمع بالمطر، اشترط أن تكون النية عند الإحرام بالأولى، وإن كان في السفر أجزأه أن ينوي قبل التسليم من الأولى، قال: وقد نص الشافعي على هذا، والفرق بينهما: أن وجود السفر شرط في جميع الصلاة، فاكتفي بوجوده عن النية في أولها، والمطر لا يفتقر إلى وجوده في جميع الصلاة، فافتقر إلى النية في أولها؛ لأن المطر يشترط في أولها.
الشرط الثاني: الترتيب بين الصلاتين، وهو أن يقدم الأولى منهما؛ لأن الوقت

(2/487)


لها، والثانية تبع لها، فاشترط تقديم المتبوع.
الشرط الثالث: التتابع بينهما، فإن فصل بينهما بفصل يسير جاز؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن فصل بينهما بفصل طويل، ويعرف حده بالعرف والعادة منع الجمع.
قال الشافعي: (ولا يسبح بينهما) ؛ يعني: لا يتنفل بينهما.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يمنع ذلك؛ لأن ذلك من سنن الصلاة، فلم يمنع صحة الجمع كالإقامة، وهذا ليس بشيء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإقامة للثانية، ولم يتنفل بينهما.
وإن كان عادمًا للماء، وأراد الجمع بينهما بالتيمم ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يطلب الماء للثانية، ويجدد التيمم للثانية، بعد الفراغ من الأولى، وذلك فصل يطول، فمنع الجمع، كما لو فصل بينهما بنافلة.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز، كما يجوز الجمع بينهما بالوضوء، وما ذكرناه من الفصل غير صحيح؛ لأنه من مصلحة الصلاة؛ ولأنه دون الطلب الأول، ويفارق النافلة؛ لأنها ليست من مصلحة الصلاة.
فإن جمع بينهما في وقت الأولى، فلما فرغ منهما تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الصلاتين، ولم يعرفها بعينها، لزمه إعادة الظهر؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة منها، ولم يجز له أن يجمع إليها العصر، بل يصلي العصر في وقتها؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة من العصر، وقد يسقط عنه فرض الظهر بفعل الأولى، وقد حصل هناك فصل طويل، بفعل العصر وبإعادة الظهر، فمنع صحة الجمع.
قال أصحابنا: ويجيء فيه قول آخر: أنه يجوز الجمع له، قياسًا على الجمعتين إذا

(2/488)


أقيمتا في بلد واحد، ولم تعرف السابقة منهما: أن لهم أن يصلوا الجمعة ثانيًا، في أحد القولين.
وإن نوى الإقامة في أثناء الأولى، أو بعد الفراغ منها وقبل الدخول في الثانية بطل الجمع؛ لأنه زال سبب الرخصة، وهو السفر.
وإن نوى الإقامة في أثناء الثانية، فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 90] .
وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: إن نية الإقامة في أثناء الثانية لا تمنع الجمع فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: إنها تمنع الجمع بينهما، فهاهنا وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 90] .
قلت: وهذا بعيد؛ لأنا قد حكمنا بسقوط الفرض عنه بالفراغ منها، فلا تؤثر هذه النية، كما لو أحدث، وكما لو قصر، ثم نوى الإقامة بعد الفراغ منها.
وإن أراد الجمع بينهما في وقت الثانية افتقر إلى نية الجمع، وهو أن ينوي أنه يصليها مع الثانية في وقتها، وتجزئه النية في أي وقت شاء من وقت الأولى؛ لأنه قد يؤخر الأولى إلى وقت الثانية، على وجه المعصية، وعلى وجه النسيان، فافتقر إلى النية؛ لتمييز التأخير الشرعي عن غيره، ولا يفتقر إلى تقديم إحداهما على الأخرى، ولا إلى المتابعة بينهما؛ لأن الأولى قد فات وقتها، فهي تفعل في وقت الثانية على وجه القضاء، والثانية تؤدى في وقتها، فلا تتعلق إحدى الصلاتين بالأخرى، هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل تفتقر إلى الشروط الثلاثة هاهنا؟ فيه وجهان.

[مسألة الجمع بالمطر]
] : يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت الأولى منهما في الحضر في المطر.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا يجوز) .

(2/489)


وقال مالك: (يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر، ولا يجوز بين الظهر والعصر) .
دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر؛ لأجل المطر» ، وقد روى الشافعي، عن مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع في المدينة بين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر» .
قال مالك: (أرى ذلك في المطر) .
إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة ذلك: تقديم الأولى منهما، ونية الجمع على ما مضى، والموالاة بينهما.
وأما المطر: فيشترط وجوده عند الإحرام في الأولى، وعند السلام منها، وعند الإحرام في الثانية، ولا يؤثر انقطاع المطر في غير هذه الحالات؛ لأن المطر قد وجد حال الجمع.
وقال ابن الصباغ: إذا حدث المطر بعد الإحرام بالأولى، فعندي أنه يجوز له الجمع إذا قلنا: تجوز نية الجمع قبل السلام منها؛ لأن سبب الجمع قد وجد، وهو المطر.
والأول هو المشهور، هذا طريقة أصحابنا العراقيين.

(2/490)


وقال الخراسانيون: إذا انقطع المطر في أثناء العصر فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان.
وإن انقطع بعد الفراغ من العصر، فعلى أحد الوجهين وجهان، كما مضى في نية الإقامة، وإن أراد الجمع بينهما للمطر في وقت الثانية، فهل يجوز؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) ؛ لأن كل سبب جاز لأجله تقديم العصر إلى الظهر، جاز تأخير الظهر إلى العصر لأجله كالسفر.
و [الثاني] : قال في "الأم": (لا يجوز) ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الجمع من غير وجود العذر؛ ولأن المطر قد ينقطع.
فإذا قلنا: يجوز الجمع بينهما في وقت الثانية، قال أصحابنا: فإنه يجوز الجمع سواء اتصل المطر إلى وقت الثانية أو انقطع؛ لأنه إذا أخر فقد لزمه الجمع بالضرورة، فلا تتغير حاله، هذه طريقة أصحابنا العراقيين.
وقال في " الإبانة " [ق \ 90] : يجوز أن يؤخر الأولى إلى الثانية في المطر، وهل يجوز أن يقدم الثانية إلى الأولى؟ فيه وجهان.

(2/491)


[فرع الجمع في المطر لمن لا حرج عليه]
] : وهل يجوز الجمع في المطر للمنفرد، أو لمن يصلي في بيته، أو لمن يصلي في المسجد، وبين المسجد وبين بيته سقف يمنع من وصول المطر إليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنا إنما جوزنا له الجمع؛ لئلا تفوته الجماعة، وللمشقة التي تلحقه بالمطر، وهذا غير موجود هاهنا.
والثاني: يجوز؛ لأن العلة في جواز الجمع وجود المطر، والمطر موجود، فوجب أن يجوز له الجمع، كمن يصلي في جماعة في مسجد لا سقف بينه وبين بيته.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع في المطر في المسجد، وليس بين حجرة عائشة وبين المسجد شيء.

[فرع المطر المجيز للجمع]
والمطر الذي يجوز الجمع لأجله: هو المطر الذي يبل الأرض والثياب، سواء كان كثيرًا أو خفيفًا؛ لأن التأذي به موجود.
فأما الرذاذ الذي لا يبل الأرض والثياب إلا بطول المكث فيه: فلا يجوز الجمع لأجله؛ لأن ذلك لا يتأذى به، وأما البرد: فإنه لا يجوز الجمع لأجله؛ لأنه لا يبل الأرض والثبات.
وأما الثلج: فإن كان رخوًا يبل الأرض والثياب جاز الجمع لأجله؛ لأنه بمنزلة المطر بالتأذي به، وإن كان صلبًا لا يبل الأرض والثياب لم يجز الجمع لأجله كالبرد، وأما الوحل: فلا يجوز الجمع لأجله.
وقال مالك وأحمد: (يجوز) .

(2/492)


دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع لأجل المطر، ولم ينقل أنه جمع لأجل الوحل؛ ولأن الوحل لا يشارك المطر في التأذي به؛ لأن المطر يبل الثياب، وذلك لا يوجد في الوحل.

[فرع الجمع للمرض والخوف]
] : ولا يجوز الجمع في الحضر للمرض، ولا للخوف.
وقال مالك وأحمد وإسحاق: (يجوز الجمع للمرض والخوف) .
وقال ابن سيرين: يجوز الجمع في الحضر أيضًا من غير مرض، ولا خوف، ولا مطر، واختاره ابن المنذر؛ لما روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر» .
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ولم تراه فعل ذلك؟ قال: (أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته) .
وروي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر» .

(2/493)


ودليلنا: ما ذكرناه من الأخبار في المواقيت.
وأما الخبر الأول: فقوله: (من غير خوف ولا سفر) ، فنقول: أراد به: في المطر، وأما قوله في الخبر الثاني: (من غير خوف ولا مطر) ، فيحتمل أن يكون أراد: أن المطر انقطع في الثانية، ويحتمل أن يكون أراد: الجمع الذي يقوله أبو حنيفة وهو: أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها.

[فرع جمع العصر مع الجمعة]
إذا أراد جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في المطر، فلا أعلم فيها نصًّا.
والذي يقتضي القياس: أنه يجوز ويشترط وجود المطر عند الإحرام بصلاة الجمعة، وعند السلام منها، وعند الإحرام بالعصر، ولا يشترط وجود المطر في الخطبتين؛ لأنهما ليستا من الصلاة، وإنما هما شرط في صحة الجمعة، فلم يشترط وجود المطر فيهما كالطهارة والتيمم.
وإن أراد أن يؤخر الجمعة إلى العصر، على القول القديم جاز ذلك، ولا يشترط وجود المطر في وقت العصر، على ما مضى، ويخطب وقت العصر، ويصلي الجمعة؛ لأن كل وقت جاز فعل الظهر فيه، جاز فيه فعل صلاة الجمعة، كآخر وقت الظهر، وهذا القول ضعيف، وما ت فرع عليه.

(2/494)


وبالله التوفيق

(2/499)