البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الزكاة]

(3/129)


كتاب الزكاة والأصل في وجوب الزكاة: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] .
فأمر بالإيتاء، وهو الدفع.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] [البينة: 5] .
وقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] [التوبة: 103] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] [التوبة: 34-35] .
فتواعدهم على الكنز، والكنز: كل مال لم تؤد زكاته.
وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ويدل على وجوبها من السنة: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له مال، فلم يؤد زكاته.. مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع يطلبه وهو يفر منه حتى يطوقه، وتلا قَوْله تَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] » [آل عمران: 180] .

(3/131)


وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم» .
ووجوب الزكاة إجماع بين المسلمين، لا خلاف بينهم في ذلك.

(3/132)


إذا ثبت هذا: فالزكاة - في اللغة -: هي النماء والزيادة، يقال: زكت الثمرة: إذا كثرت، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، ويسمى ما يدفع إلى المساكين: زكاة؛ لأنها تثمن المال.
واختلف أصحابنا في الآيات التي ذكرناها، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] ، وفيما يشبهها من الأخبار:
فمنهم من قال: إنها مجملة، وهو قول أبي إسحاق؛ لأن المجمل: ما لا يعلم المراد منه إلا ببيان، وهذه الآيات والأخبار بهذه الصفة.
فعلى هذا: لا يحتج بها إلا على وجوب الزكاة، فأما على القدر المخرج: فلا يحتج بها.
ومن أصحابنا من قال: هي عامة تدل بظاهرها؛ لأن الصلاة هي الدعاء، والزكاة النماء، فيصح أن يحتج بها على وجوب فعل ما يسمى صلاة، وعلى إخراج ما يقع عليه الاسم في الزكاة، ولا يجب ما زاد على ذلك إلا بدليل.

[مسألة: وجوب الزكاة في الملك الحقيقي]
ولا تجب الزكاة في مال المكاتب.
وقال أبو ثور: (تجب الزكاة في ماله) .
وقال أبو حنيفة: (يجب العشر في أرضه) .
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال المكاتب» .

(3/133)


ولأن هذا يجب في المال على طريق المواساة، فلم يجب في مال المكاتب، كنفقة الأقارب، فإن أدى المكاتب ما عليه من نجوم الكتابة.. عتق، واستأنف الحول على ما بقي في يده، وإن عجز.. رد ما بيده إلى سيده، واستأنف به السيد الحول، وكان كـ: مال استفاد ملكه في هذه الحالة.
وإن ملك السيد عبده، أو أم ولده مالًا:
فإن قلنا بقوله القديم، وأنه يملك.. لم يجب على السيد فيه زكاة؛ لأنه خارج عن ملكه، ولا يجب على العبد فيه زكاة؛ لأن ملكه أضعف من ملك المكاتب؛ لأن للسيد أن يسترجعه متى شاء.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن العبد لا يملك إذا ملك.. فإن حول السيد لا ينقطع فيه، ويجب على السيد زكاته.
وإن كان نصفه حرًا، ونصفه مملوكًا، وملك بنصفه الحر نصابًا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه لا يجب عليه فيه زكاة؛ لنقصانه بالرق.
والثاني: يجب عليه فيه الزكاة؛ لأنه يملكه ملكًا تامًا.

[مسألة: لا يخاطب الكافر بالزكاة]
وأما الكافر الأصلي: فلا يصح إخراج الزكاة منه، وهل هو مخاطب بوجوبها، ويكون آثمًا بها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وأما المرتد: فإن ارتد بعد وجوب الزكاة عليه.. لم يسقط عنه بردته ما قد وجب عليه، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه) .
دليلنا: أنه قد ثبت وجوبه عليه، فلم يسقط بردته، كالدين.

(3/134)


وإن ارتد في أثناء الحول.. فهل ينقطع الحول؟ يبنى على حكم ملكه، وفيه طريقان:
قال أبو العباس: في ملكه قولان:
أحدهما: أن ملكه لا يزول بالردة، وإنما يزول بالموت.
فعلى هذا: لا ينقطع حوله، وتجب عليه الزكاة عند حلول الحول.
والثاني: أن ملكه موقوف.
فإن رجع إلى الإسلام.. بنينا أن ملكه لم يزل.
فعلى هذا: تجب عليه الزكاة.
وإن لم يعد.. بنينا أن ملكه زال بنفس الردة.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة في ماله.
وقال أبو إسحاق: في ملكه ثلاثة أقوال:
قولان: هما الأولان.
والثالث: أن ملكه زال عن ماله بنفس الردة، وبه قال أبو حنيفة.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة، واختار صاحب " المهذب " طريقة أبي إسحاق.

[مسألة: الزكاة حق في المال]
وتجب الزكاة في مال الصبي، والمعتوه والمجنون، ويجب على الولي إخراجها من ماله، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه قال مالك، وابن أبي ليلي.

(3/135)


وقال ابن مسعود، والثوري، والأوزاعي: (تجب، ولكن لا تخرج حتى يبلغ الصبي، ويفيق المعتوه والمجنون، فيؤديها) .
وقال ابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تجب الزكاة في مالهم، وإنما تجب زكاة الفطر والعشر في مالهم) . وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر، وفي الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة» . ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» .
ولأنه حر مسلم، فجاز أن تجب الزكاة في ماله، كالبالغ.

(3/136)


[مسألة: أنواع المزكين]
] : إذا تقرر ما ذكرناه: فالناس في الزكاة على ثلاثة أضرب:
[أحدها] : ضرب يعتقد وجوبها، ويؤديها في الوقت الذي تحل عليه، فهذا داخل تحت المدح في قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] [المؤمنون: 1-4] .
وفي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] [الأعلى: 14] وما أشبهها من الآيات.
والضرب الثاني: يعتقد وجوبها، ولا يؤديها، وهم فساق المسلمين، فإن كانوا في قبضة الإمام.. ضيق عليهم، وأخذها منهم.
وإن امتنعوا بمنعة.. قاتلهم الإمام كما قاتل أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مانعيها.
وإن أخفوا أموالهم.. حبسهم الإمام، فإذا ظهرت.. ففي القدر الذي يؤخذ منهم قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يأخذ منهم الزكاة، وشطر مالهم، عقوبة لهم) ؛ لما روى بهز بن حكيم [بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده] : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن منعها.. فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد فيها شيء» .

(3/137)


و [الثاني] : قال في الجديد: (تؤخذ منه الزكاة لا غير) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ، ولأنها عبادة، فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله، كسائر العبادات، والخبر منسوخ؛ لأن العقوبات كانت في أول الإسلام في الأموال.
والضرب الثالث: من لا يقر بوجوب الزكاة، فإن كان قريب عهد بالإسلام، أو ناشئًا في بادية لا يعلم وجوب الزكاة.. فإنه يعرف وجوب الزكاة.
وإن كان ممن نشأ مع المسلمين.. فإنه يحكم بكفره؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى من طريق توجب العلم الضروري؛ لكونها معلومة من نص الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الخاصة والعامة، فمن جحد وجوبها بعد ذلك.. حكم بكفره.
فإن قيل: أفليس الذين منعوا الزكاة في زمان أبي بكر زعموا أنها غير واجبة عليهم، ولم يكفروا؟
قلنا: إنما لم يكفروا؛ لأن وجوبها لم يكن مستقرًا في ذلك الوقت؛ لأنهم اعتقدوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصًا بذلك، ولهذا قال عمر لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف نقاتلهم؟! وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوا، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الصلاة من حقها، والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، والله لو منعوني عناقًا - وروي: عقالًا - مما أعطوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه) ثم اجتمعت الصحابة بعد ذلك معه على قتالهم، فاستقر الوجوب.

(3/138)


وهذا كما نقول: إن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب كانا يذهبان إلى إباحة الخمر، وكان عمرو يقول: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] [المائدة: 93] ، فقيل له: هذا فيما سلف، فرجع عن ذلك، ولم يحكم بكفره.
فلو أن قائلًا قال في وقتنا: الخمر مباحة.. كان كافرًا.
إذا ثبت هذا: ففي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فوائد:
أحدها: أنه يدل على وجوب الزكاة.
الثانية: أن للإمام أن يقاتل مانعيها.
الثالثة: أن المناظرة في الأحكام جائزة.
الرابعة: أن مناظرة الإمام جائزة.
الخامسة: أن الاحتجاج بالعموم جائز؛ لأن عمرَ احتج بعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/139)


السادسة: أن تخصيص العموم جائز؛ لأن أبا بكر احتج عليه بالتخصيص، وهو قوله: «إلا بحقها» .
السابعة: أن التخصيص بالقياس جائز؛ لقول أبي بكر: (والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة) . وهذا اعتبار الزكاة بالصلاة.
الثامنة: أن من ترك الصلاة قوتل.
التاسعة: أن خلاف الواحد للجماعة خلاف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنكروا على أبي بكر، ولم يكن قولهم حجة عليه.
العاشرة: أن الناس إذا اختلفوا على قولين، ثم رجعوا إلى أحدهما.. صار إجماعًا؛ لأن الصحابة رجعوا إلى قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الحادية عشرة: أن ذلك يدل على شجاعة أبي بكر وعلمه، فإنهم أشاروا عليه بترك قتالهم، وبرد جيش أسامة بن زيد، فقال: (والله، لأقاتلنهم بموالي وأتباعي، ولا أرد جيشًا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
الاثنتا عشرة: أن الخطاب الوارد في القرآن بخطاب المواجهة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاركه فيه غيره من الأئمة، وهو قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] .
الثالثة عشرة: أن السخلة يجوز أخذها في الزكاة؛ لقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والله لو منعوني عناقًا) ، وأما (العقال) : فهو صدقة العام. وقيل: هو الحبل الذي يقرن به البعيران. وقيل: إنه الحبل الذي يشد به مال التجارة.
وبالله التوفيق

(3/140)