البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الجنائز] [باب ما يفعل بالميت]

(3/5)


كتاب الجنائز
باب ما يفعل بالميت يستحب لكل أحد أن يكثر من ذكر الموت في جميع أحواله؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات". "فما ذكر في كثير ... إلا وقلله، ولا ذكر في قليل
إلا وكثره» .
وروي: (أنه كان منقوشًا على خاتم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كفى بالموت واعظًا يا عمر) .

(3/7)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استحيوا من الله حق الحياء" فقيل له: وكيف ذلك: قال: "من حفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الحياة الدنيا، وذكر الموتى والبلى ... فقد استحيا من الله حق الحياء» .
وروي: (الجوف وما وعى) فقيل: معناه: البطن والفرج، فيكون تأويله: ألا يضع في بطنه إلا حلالاً، ولا يضع فرجه إلا في حلال.
وقيل: بل أراد (بالجوف) : القلب، (وما وعى) : من معرفة الله والعلم بحلاله وحرامه، وأن لا يضيع ذلك.
وأما (الرأس) : فقال أبو عبيد: أراد به الدماغ، وإنما خص به القلب والدماغ؛ لأنهما مجمع العقل ومسكنه.
ويستحب أن يستعد للموت: بالخروج من المظالم، وإصلاح المشاجر له، والإقلاع عن المعاصي، والإقبال على الطاعات؛ لأنه لا يأمن أن يأتيه الموت فجأة، واستحبابنا ذلك في حال المرض أشد؛ لأنه سبب الموت.

[مسألة: الصبر عند المرض والابتلاء]
ومن مرض ... استحب له أن يصبر عليه؛ لما روي: «أن امرأة قالت: (يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: "إن شئت
دعوت الله فشفاك، وإن شئت ... فاصبري، ولا حساب عليك"، فقالت: أصبر ولا حساب علي»

(3/8)


ويكره للمريض الأنين، لما روي عن طاووس: أنه كره له ذلك.
ويكره للمريض أن يتمنى الموت وإن اشتد مرضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت، لضيق نزل به، وليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» .
ويستحب له أن يتداوى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، فتداووا، ولا تداووا بالحرام» .
ويستحب للإنسان أن يحسن ظنه بالله تعالى في حياته، وعند وفاته؛ لما روى جابر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بثلاث يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»

(3/9)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على شاب، وهو يكابد الموت، فقال: "كيف تجدك؟ "، فقال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف من ذنوبي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف»
ويستحب عيادة المريض، لما روي عن البراء بن عازب، أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس» .

(3/10)


وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة وعشية ... إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية
صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، فإن رجا له العافية ... دعا له بها» .
والمستحب: أن يقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك (سبع مرات) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال ذلك سبع مرات عند مريض لم يحضره أجله ... عافاه الله من مرضه» .
ويستحب أن يبشره بالعافية؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخلتم على المريض ... فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئًا، ويطيب نفسه» .
وإن رآه منزولاً به، فالمستحب: أن يلقنه قول: لا إله إلا الله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»

(3/11)


والمستحب: أن لا يقول له: قل: لا إله إلا الله، ولكن يقول عنده؛ لأنه ربما ضاق صدره إذا قال له: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا، فيكفر، ولا يكثر عليه.
قال المحاملي: بل يلقنه ثلاث مرات، فإذا قالها ... لم يلقن إلا أن يتكلم بكلام غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله
دخل الجنة» .
ويستحب أن يوضع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة بجميع بدنه، كما يوضع الميت في لحده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم ... فليتوسد يمينه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» . فاستحب أن يموت على أشرف الهيئات.
وروي: أن فاطمة ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قالت لأم ولد رافع: (ضعي فراشي هاهنا، واستقبلي بي القبلة، ثم قامت، واغتسلت كأحسن ما يغتسل، ولبست ثيابًا جددًا، ثم

(3/12)


قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن، ثم استقبلت القبلة، وتوسدت يمينها) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن ذلك لضيق المكان ... ألقي على قفاه حتى يكون بوجهه وقدميه مستقبل القبلة) .
ويستحب أن يُقرأ عنده سورة (يس) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا على موتاكم يس» .
ويستحب أن يقرأ عنده سورة (الرعد) ؛ لما روي عن جابر بن زيد: أنه قال: اقرؤوا على موتاكم سورة الرعد؛ فإنها تهون عليه خروج الروح.

[مسألة: ما يسن فعله بالميت]
إذا مات الميت ... استحب أن يُفعل به سبعة أشياء:
أحدها: أن يتولى أرفق أهله به - إما ولده، أو والده - إغماض عينيه بأسهل ما يقدر عليه، لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغمض أبا سلمة لما مات، وقال: "إن البصر يتبع الروح» ، ولأنه إذا لم يفعل ذلك ... بقيت عيناه مفتوحتين، فقبح

(3/13)


منظره، وإذا أغمضتا ... بقي كالنائم.
الثاني: أن يشد لحيه الأسفل بعصابة عريضة أو عمامة، ويربطها فوق رأسه؛ لئلا يبقى فوه مفتوحًا، فتدخل إليه الهوام.
الثالث: أن يلين مفاصله، فيرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يمدهما، ويرد أصابع يديه إلى كفيه، ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدهما؛ ليكون أسهل على غاسله، وذلك: أن الروح إذا فارق البدن ... كان البدن حارًا، لقرب مفارقة الروح، ثم تبرد، فإذا لين عقيب خروجه
لانت وإذا لم يلين ... بقيت جافة.
الرابع: أن ينزع عنه ثيابه التي مات فيها.
قال الشافعي: (سمعت أهل التجربة يقولون: إن الثياب تحمى عليه، فيسرع إليه الفساد) .
الخامس: أن يسجى جميع بدنه بثوب؛ لما روت عائشة أم المؤمنين: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... سجي بثوب حبرة» .
السادس: أن يترك على شيء مرتفع من الأرض: إما سرير أو لوح؛ لئلا تصيبه نداوة الأرض، فيتغير ريحه.
السابع: أن يثقل بطنه بحديدة، أو طين رطب؛ لما روي: أن مولى لأنس مات، فقال أنس: (ضعوا على بطنه حديدة؛ لئلا ينتفخ) .

(3/14)


قال الشافعي: (وأول ما يبدأ به ولي الميت بعد ذلك أن يقضي دينه إن كان عليه، أو يحتال به على نفسه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه» ، وروي: «مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه» ، وإن كان قد وصى بوصية ... نفذت؛ لكي يتعجل له منفعتها.

[مسألة: التحقق من الموت قبل الدفن]
فإذا مات بمرض وعلة معروفة ... لم يدفن حتى تظهر فيه علامات الموت؛ لأنه قد يغشى عليه، فيخيل إليهم أنه قد مات.
وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للموت أربع علامات:
(إحداهن: أن تسترخي قدماه، فينصبان، فلا ينتصبان. الثانية: أن تميل أنفه. الثالثة: أن تمتد جلدة وجهه. الرابعة: أن ينخلع كفه من ذراعه) .

(3/15)


وذكر أصحابنا علامة خامسة: وهو: أن ينخسف صدغاه.
فإذا شوهدت هذه العلامات فيه، مع تقدم المرض ... تحقق بذلك موته.
وإن مات فجأة بغير علة، كأن يموت من فزع، أو غرق، وما أشبه ذلك ... فإنه ينتظر حتى يتحقق موته.
فإذا تحقق موته في هذا، أو في القسم قبله. فالسنة: أن يبادر إلى تجهيزه ودفنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تؤخروهن: الصلاة، والجنازة، والأيم إذا وجدت كفؤًا» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على طلحة بن البراء يعوده، فقال: "ما أرى الموت إلا قد ذهب بطلحة، فإذا مات ... فآذنوني، وبادروا به، فما ينبغي لجيفة مسلم أن يكون بين ظهراني أهله» .
وبالله التوفيق

(3/16)


[باب غسل الميت]
غسل الميت فرض من فروض الكفاية، يجب على من علمه ميتًا أن يتولاه، فإذا قام به البعض ... سقط الفرض عن الباقين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل الذي سقط عن بعيره، فمات: اغسلوه بماء وسدر»
قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه.

[مسألة: المقدم لغسل الميت]
فإن كان الميت رجلاً لا زوجة له: فأولى الناس بغسله الأب، ثم الجد أبو الأب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ، ثم ابن الأخ وإن سفل، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل، على ترتيب العصبات.
وإنما قدمنا الأب والجد على الابن، لأنهم أكثر شفقة عليه من الابن.
وإن كان له زوجة ... جاز لها غسله.
قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا رواية تروى عن أحمد: أنه قال: (لا يجوز لها) .

(3/17)


والدليل عليه: ما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ... ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير نسائه) .
وروي: (أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته، وهي: أسماء ابنة عميس) ، ولا مخالف له، وهل تقدم الزوجة على الأب والجد وسائر القرابات؟ فيه وجهان:
أحدهما: تقدم؛ لأن لها النظر إلى عورته، بخلاف القرابات فيه.
والثاني: تقدم القرابة عليها، كما يقدمون في الصلاة عليه.
والأول أقيس؛ لما ذكرناه من حديث عائشة وأبيها، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر

(3/18)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لهما قرابة من الرجال.
ويخالف الصلاة؛ لأن المرأة لا مدخل لها في التقدم بالصلاة على الميت.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: وإن مات رجل وامرأته حامل، فوضعت قبل أن تغسله ... حل لها غسله بعد الوضع.
وقال أبو حنيفة: (ليس لها أن تغسله) .
دليلنا: أنه مات على الزوجية التامة، فأشبه إذا بقيت عدتها.
وإن كان له نساء من ذوات محارمه، كأمه، وجدته، وأخته، ومن أشبههن، فالذي يقتضي المذهب: أنه يجوز لهن غسله، كما يجوز له غسلهن، إلا أن الرجال والزوجة يقدمون عليهن.
وإن كان الميت امرأة، ولا زوج لها ... فالنساء أحق بغسلها من الرجال، سواء كن محارم لها، أو أجنبيات؛ لأنهن أوسع في باب النظر، وأولاهن ذوات رحم محرم، وهن: كل من لو كانت رجلاً
لم يحل له أن يتزوج بها، مثل: الأم، والجدة، والأخت، وابنة الأخ، وابنة الأخت، ومن أشبههن، ثم ذات رحم غير محرم، مثل: ابنة العم، ثم الأجنبيات.
فإن لم يكن هناك نساء ... غسلها أقاربها من الرجال، من كان ذا رحم محرم لها، كالأب، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم العم، وهم عصبة لها ومحرم.
فإن اجتمع الخال وابن الأخت مع ابن العم ... غسلها الخال، أو ابن الأخت؛ لأنهما من ذوي الأرحام المحرمين، وابن العم ليس من المحرمين، بل هو عصبة لا غير.

(3/19)


وإن ماتت امرأة، ولها زوج ... جاز له غسلها، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له غسلها) .
دليلنا: ما «روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو مت قبلي ... لغسلتك ودفنتك» .
وروي: (أن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ماتت ... أوصت أن يغسلها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأسماء ابنة عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فغسلاها) وظهر ذلك في

(3/20)


الصحابة، ولم ينكره أحد، فدل على أنه إجماع.
ولأنه أحد الزوجين، فجاز له غسلها، كالزوجة.
ولأن النظر الذي يستفاد بعقد النكاح نظران: نظر شهوة، ونظر حرمة، فإن مات أحد الزوجين ... بطل جواز النظر بالشهوة، وبقي جواز النظر بالحرمة.
إن ثبت هذا: فهل يقدم الزوج على غيره؟ فيه وجهان، كالوجهين في الزوجة، هل تقدم على الرجال، وقد مضى توجيههما.
فإن قلنا: تقدم الزوجة على الرجال ... قدم الزوج - هاهنا - على النساء والرجال من أقاربها؛ لأنه أوسع في باب النظر منهن ومنهم.
وإن قلنا: يقدم الرجال على الزوجة ... قدم النساء - هاهنا - ثم القرابات المحرمون من الرجال، ثم الزوج.
وإن مات وله امرأتان أو أكثر في حالة واحدة ... أقرع بينهما بتقديم الغسل؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
وإن طلق زوجته طلاقًا رجعيًا، ثم مات أحدهما ... لم يجز للآخر غسله.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إحدى الروايتين عنه: (يجوز له أن يغسلها) .
دليلنا: أنها محرمة الوطء عليه، فأشبهت المبتوتة.

(3/21)


[مسألة: عدم وجود مغسل من جنسه]
مسألة: [في عدم وجود مغسل من جنسه] :
إذا مات رجل بين نسوة لا محرم له منهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا محرم لها منهم ... ففيه وجهان:
أحدهما: ييمم ولا يغسل، وهو قول ابن المسيب، وحماد، ومالك، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم، لأن في غسله النظر إلى من ليس بمحرم.
والثاني: وبه قال قتادة، والزهري، والنخعي رحمة الله عليهم: أنه يجعل على الميت ثوب، ويصب الماء من تحت الثوب، ويمر الغاسل يده عليه، وعليها خرقة؛ لأنه يمكن غسله بذلك.
وقال الأوزاعي: (لا ييمم، ولا يغسل، بل يدفن) . واختار هذا الشيخ أبو نصر في " المعتمد ".
دليلنا: أن غسله ممكن، على ما ذكرناه، فلم يسقط فرضه.
وإن مات خنثى مشكل، وليس هناك أحد من ذوي محارمه من الرجال والنساء ... ففيه أربعة أوجه:
وجهان حكاهما فيه ابن الصباغ، وهما الوجهان في التي قبل هذه في الرجل إذا مات وليس له قرابة، لا من الرجال، ولا من النساء المحرمات عليه، ووجهان حكاهما أصحابنا الخراسانيون فيه:
أحدهما: يُشترى له جارية من ماله إن كان له مال، أو من بيت المال إن لم يكن له مال؛ لأنه لا يجوز للرجال غسله؛ لجواز أن تكون امرأة، ولا يجوز للنساء غسله؛ لجواز أن يكون رجلاً، ولا بد من غسله، ولا طريق إلى جواز غسله إلا بذلك.

(3/22)


والوجه الثاني - وهو قول القفال -: أنه يغسله الرجال والنساء استصحابًا لحكمه في حال الصغر؛ لأن الصغير من الرجال والنساء يجوز للنساء والرجال غسله.
فإن كان الخنثى ذميًا، ولا مال له ... لم يكن فيه إلا الأوجه الثلاثة
ويسقط شراء الجارية له من بيت المال؛ لأنه لا حق له في بيت المال.
فإذا قلنا: يُشترى له جارية، فاشتريت من ماله ... فإنها تكون لوارثه، كسائر أمواله، وإن اشتريت للمسلم من بيت المال
اشتريت من سهم المصالح، فإذا فرغت من غسله وتكفينه ... بيعت، وأعيد ثمنها إلى بيت المال، ولا حق لوارثه فيها.

[فرع: غسل الصغير]
قد ذكرنا: أن الصغير من الرجال والنساء يجوز للرجال والنساء غسله.
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس في سنه نص، والذي يجيء على المذهب: أنه ما لم يكن مميزًا ... غسله الرجال والنساء.
وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما لم يفطم.
وقال مالك رحمة الله عليه: (ما له دون سبع سنين) ، وقال أبو حنيفة: (ما لم يتكلم) .

[فرع: يغسل السيد أمته]
] : وإن ماتت أم ولده، أو أمته القنة ... جاز للسيد غسلها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) ؛ لأنه لا يجوز له وطؤها.
دليلنا: أنه يلزمه الإنفاق عليها بحكم الملك، فكان له غسلها، كالحية.

(3/23)


وإذا مات السيد: فهل يجوز لأم الولد غسله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها عتقت بموته، فصارت أجنبية منه.
والثاني: يجوز؛ لأنه لما جاز له غسلها ... جاز لها غسله، كالزوجة.
وهل لأمته القنة غسله؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون:
أحدهما: يجوز لها غسله، كما يجوز له غسلها.
والثاني: لا يجوز، لأنها أجنبية منه، إذ صارت ملكًا لوارثه.

[مسألة: غسل الكافر]
وإن مات كافر ... جاز غسله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل أباه» ، ولو لم يكن جائزًا
لما أمره بغسله.
فإن كان له قرابة مسلمون، وقرابة كفار، وتنازعوا في غسله ... فالكفار أولى؛ لأنه لا موالاة بينه وبين المسلمين.

(3/24)


فإن لم يغسله الكافر، أو لم يكن له ولي كافر، جاز لوليه المسلم غسله، وكفنه، ودفنه، ولا يجوز له الصلاة عليه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يجوز له غسله، ولا يجوز الصلاة عليه) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا أن يغسل أباه» ، ولو لم يجز له غسله، لما أمره به.
ولأن الله تعالى قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] .
ومن المعروف غسله إذا مات، ويخالف الصلاة، فإن القصد بها الترحم عليه، والترحم عليه لا يجوز، والقصد بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بغسله.

[فرع: غسل الذمية ونية الغسل]
وإن ماتت ذمية، ولها زوج مسلم ... جاز له غسلها؛ لأن النكاح يجري مجرى النسب.
وإن مات المسلم وله زوجة ذمية ... قال الشافعي: (كرهت لها أن تغسله، فإن غسلته
أجزأه؛ لأن القصد منه التنظيف، وذلك يحصل بغسلها) .
فمن أصحابنا من قال: لا يفتقر غسل الميت إلى النية، واستدل بما ذكره الشافعي في غسل الذمية للمسلم؛ لأنها لو كانت واجبة ... لما صحت من الكافرة، ولأن القصد منه التنظيف، فلم يفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة.
ومنهم من قال: إنه يفتقر إلى النية، فينوي الغاسل أنه غسل واجب؛ لأن الشافعي

(3/25)


- رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا وجد الغريق ... غسل) ، فلما لم يكتف بإصابته الماء
علم أن النية واجبة.
ولأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فوجبت فيه النية، كغسل الجنابة.
ومن قال بالأول ... قال: لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - غسل الغريق لعدم النية، وإنما أوجبه لعدم فعل الآدمي فيه؛ لأن غسل الميت يجب علينا، فلما لم يفعله الآدمي
لم يسقط الفرض عنا.

[مسألة: ستر موضع الغسل]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستر موضعه الذي يغسل فيه، فلا يراه إلا غاسله ومن لا بد له من معونته عليه، ويغضون أبصارهم عنه، إلا فيما لا يمكن غيره، ليعرف الغاسل ما غسل؛ لأنه قد يكون فيه عيب يكتمه) .
وينبغي أن يكون الغاسل ثقة؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يغسل موتاكم إلا المأمونون) .
ولأنه إذا لم يكن ثقة ... لم يؤمن أن لا يستوفي الغسل، أو يظهر ما يرى من قبيح، ويخفي ما يرى من جميل.
ويستحب أن لا يكون مع الغاسل إلا من لا بد له من معونته.
ويستحب أن يغسل في قميص رقيق؛ لكي إذا صب الماء ... نزل، ولم يقف، فإن كانت أكمام القميص واسعة
أدخل الغاسل فيه يده، وصب الماء من فوق القميص،

(3/26)


وإن كانت أكمامه ضيقة ... فإن الشافعي قال: (ينزع القميص، ويطرح على عورته خرقة، ويغسل) .
وقال أبو علي بن أبي هريرة: فيشق فوق الدخاريص، ويدخل يده فيه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (الأفضل أن يجرد، ولا يغسل في قميص) .
دليلنا: ما روي عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: «لما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمعنا صوتًا، ولم ندر من يتكلم: اغسلوا نبي الله في ثيابه، فغسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قميصه، والماء يصب من فوق القميص» ، ولأن ذلك أستر، فكان أولى.

[مسألة: موضع الميت حال الغسل]
قال المزني: ويفضى بالميت إلى مغتسله، ويكون كالمنحدر قليلاً، ويعاد تليين مفاصله، وهذا صحيح، إذا أريد غسل الميت، فإنه يجعل على ألواح، ويكون منحدرًا من قبل رجليه؛ لئلا يقف الماء، فيستنقع الميت فيه، وتسترخي مفاصله.
قال أصحابنا: وأما تليين مفاصله عند الغسل: فلا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحتاج إليه؛ لأن بدنه قد برد، فلا ينفعه ذلك. فلا معنى لما ذكره المزني من ذلك.
ويستحب أن يكون مع الغاسل ثلاثة آنية:
إناء كبير، كالحب، يكون فيه الماء بالبعد منه؛ لئلا يتطاير إليه شيء من النجاسة إن كان هناك.

(3/27)


وإناء صغير أصغر من الأول بقرب الغاسل.
وإناء صغير بيد المعين يغرف به من الإناء الكبير إلى الذي هو أصغر منه، ثم من ذلك الإناء إلى الميت.
والماء البارد أولى من المسخن، إلا أن يكون بالميت وسخ لا يزيله إلا المسخن، أو كان البرد شديدًا لا يقدر الغاسل على استعمال الماء البارد، فلا بأس بالمسخن.
وقال أبو حنيفة: (المسخن أولى بكل حال) .
دليلنا: أن البارد يشد بدنه، والمسخن يرخيه، فكان البارد أولى.

[فرع: إعداد الغاسل الخرق ونحوها]
ويعد الغاسل خرقتين، فيلف إحداهما على يديه، ويغسل بها فرجيه، وأسفله، ويرمي بها، ويأخذ الأخرى، فيغسل بها بقية بدنه، ولو غسل كل عضو بخرقة ... كان أولى؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيديه خرقة يتبع بها ما تحت القميص) .
ولو غسل الخرقة التي نجاه بها، وغسل بها بدنه ... جاز.
ولا يجوز للغاسل أن يمس عورة الميت بيديه، ولا ينظر إليها، كما لا يجوز له ذلك في حال حياته، ويغض بصره عن سائر بدنه، إلا ما لا بد له منه.

(3/28)


ويستحب أن يكون بقربه مجمرة فيها بخور أو عود؛ لئلا يظهر ريح شيء إن خرج من الميت، فتضعف نفس الغاسل ومن يعينه.

[مسألة: كيفية الغسل]
وأول ما يبدأ به الغاسل: أن يجلس الميت إجلاسًا رفيقًا، ويكون جلوسه مائلاً على ظهره، ولا ينصبه نصبًا مستويًا؛ لأنه إذا نصبه نصبًا مستويًا ... لم يخرج منه شيء، ويمر يده على بطنه إمرارًا بليغًا؛ لما روي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما غسل عبد الله بن عبد الرحمن، فنفضه نفضًا شديدًا، وعصره عصرًا شديدًا، ثم غسله) .
ولأنه إذا فعل به ذلك، وكان في جوفه شيء ... خرج منه، وإذا لم يفعل به ذلك
ربما خرج منه ما بجوفه بعد كمال غسله، أو بعد تكفينه، فيفسد بدنه أو كفنه.
ويلف الغاسل على يده إحدى الخرقتين المعدتين، فيدخل يده التي تلف الخرقة عليها بين فخذيه، ويصب عليه الماء، فيغسل بها مذاكيره، ويصب عليه الماء صبًا كثيرًا؛ ليذهب ما خرج من جوفه، ثم يرمي بهذه الخرقة، ويغسل يديه بماء وأشنان إن كان عليها نجاسة، ثم يأخذ الخرقة الأخرى، ويلفها على يده، فيوضئ

(3/29)


الميت، فيبدأ بالمضمضة والاستنشاق، ويدخل أصابعه في فمه، ويمرها على ظاهر أسنانه بالماء، ولا يفغر فاه، أي: لا يفتحه، ويدخل أصبعه في خيشومه؛ ليزيل وسخًا إن كان هناك، ثم يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه.
وقال أبو حنيفة: (لا تستحب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت) .
دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن غسل ابنته: ابدأن بمواضع الوضوء منها» ومعلوم: أن موضع المضمضة والاستنشاق من مواضع الوضوء، ثم يغسل رأسه، ثم لحيته، بالماء والسدر والخطمي.
وقال النخعي: يبدأ بلحيته قبل رأسه.
دليلنا: أنه إذا غسل لحيته أولاً، ثم غسل رأسه ... نزل الماء والسدر إلى لحيته، فيحتاج إلى غسلها من ذلك ثانيًا.
وإذا بدأ بغسل رأسه، لم ينزل من لحيته إلى رأسه شيء، فكانت البداية بالرأس أولى.
وإن كان شعر الرأس واللحية متلبدًا ... سرحهما بمشط منفرج الأسنان.

(3/30)


وقال أبو حنيفة: (لا يسرحهما بمشط) .
دليلنا: ما روي «عن أم عطية: أنها قالت (ضفرنا شعر ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها» . وهذا لا يكون إلا بعد التسريح.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم» . ومعلوم: أن شعر العروس يسرح، فكذلك شعر الميت.
ثم يغسل صفحة عنقه اليمنى، ثم شق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه الأيمن، ثم يعود إلى شقه الأيسر، فيغسله من صفحة عنقه الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جانبه الأيسر، فيغسل جانب ظهره الأيمن وقفاه إلى ساقه الأيمن، ثم يحرفه على جانبه الأيمن، فيغسل جانب ظهره الأيسر وقفاه إلى ساقه الأيسر.

(3/31)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر: (إنه يغسل جانبه الأيمن من مقدمه ويحوله، ثم يغسل جانب ظهره الأيمن، ثم يعود إلى جانبه الأيسر من مقدمه، فيغسله، ثم يحوله، ويغسل جانب ظهره الأيسر، وأيها فعل ... أجزأه) ، إلا أن الأول أولى، ويكون ذلك بالماء المخلوط فيه السدر.
وإن كان عليه وسخ كثير لا يزول إلا بالأشنان ... لم يكن باستعماله بأس، فإذا فرغ من غسله بالماء المخلوط فيه السدر، صب عليه الماء القراح - وهو الذي لا يخالطه غيره - من قرنه إلى قدميه، على جميع بدنه، ويكون الغسل المعتد به هو هذا الغسل بالماء القراح، دون الغسل بالماء والسدر.
وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالغسل بالماء والسدر من الغسلات. وليس بشيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وكل ما صب عليه الماء بعد السدر، حسب ذلك غسلاً) ، ولأن الماء إذا خلط فيه السدر ... سلب صفته.
إذا ثبت هذا: فإنه يستحب أن يغسل وترًا، ثلاث مرات، أو خمسًا، أو سبعًا، كما ذكرناه، في كل مرة يغسل بالماء والسدر، ثم يصب عليه الماء القراح، فيحتسب الغسل بالماء القراح، ويستحب أن يجعل الكافور في الماء القراح في كل غسلة، فإن لم يمكن ... ترك في الغسلة الأخيرة.
وقال أبو حنيفة: (يغسل ثلاث مرات، أولها: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء القراح، ولا يستحب الكافور) .
وقال مالك: (لا حد في الغسل) .

(3/32)


دليلنا: ما روت أم عطية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غسل ابنته: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا بماء وسدر، أو أكثر إن رأيتن ذلك، واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورًا، أو شيئًا من كافور» .
وظاهر الخبر يقتضي: أن كل غسلة منها تكون بالسدر.
والواجب غسل مرة واحدة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره: «اغسلوه بماء وسدر» . وذلك لا يقتضي أكثر من مرة، ولأن غسل الحي يجزئ مرة واحدة، فكذلك غسل الميت.
ويستحب أن يمر يده على بطنه، ويعصرها في كل مرة، إلا أنه يبالغ في المرة الأولى، ويرفق فيما بعدها، ويتفقده عند آخر غسلة، فإن خرج من أحد فرجيه شيء ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) ، واختلف أصحابنا فيه:
فقال المزني وغيره من أصحابنا: يجب غسل الموضع لا غير، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم؛ لأن غسله قد صح، فلا يبطل بالحدث، كالجنب إذا اغتسل، ثم أحدث، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) أراد: استحبابًا، لا وجوبًا.
وقال أبو إسحاق: يجب غسل الموضع، وغسل أعضاء الوضوء، كالحي إذا اغتسل من الجنابة، ثم أحدث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجب إعادة غسل جميع بدنه، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه خاتمة طهارته.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أضعف الوجوه، والأول هو الصحيح.

(3/33)


[فرع: تنشيف المغسل]
فإذا فرغ من غسله ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فإنه ينشف في ثوب، ثم يصير في أكفانه، وإنما كان كذلك؛ لأن عادة الحي إذا اغتسل أن ينشف في ثوب، ثم يلبس ثيابه، فكذلك الميت، ولأنه إذا لم يفعل ذلك
ابتلت أكفانه، وأسرع الفساد إليها) .
وإن تعذر غسل الميت؛ لعدم الماء أو لغيره ... يمم؛ لأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فناب التيمم عنه عند العجز، كغسل الجنابة.

[مسألة: غسل الجنب والحائض للميت]
يجوز للجنب والحائض غسل الميت، وكره ذلك الحسن، وابن سيرين، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يغسله الجنب) .
دليلنا: أن الجنب والحائض طاهران، فلم يمنعا من غسل الميت.
وإن مات الجنب أو الحائض ... غسلا غسلاً واحدًا.
وقال الحسن: يغسلان غسلين، وهذا ليس بصحيح؛ لأن موجبهما واحد، وهو الحدث، فتداخلا، كغسل الجنابة والحيض في حال الحياة.

[مسألة: لا يختن الأقلف بعد موته]
] : وإذا مات الرجل، وهو أغلف لم يختن ... فهل يختن بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما: يختن، صغيرًا كان أو كبيرًا.
والثاني: إن كان صغيرًا، لم يختن، وإن كان كبيرًا ... ختن.

(3/34)


وقال سائر أصحابنا: لا يختن، من غير تفصيل؛ لأنه قطع عضو، والميت لا يقطع منه عضو.
وأما تقليم الأظافر، وحف شاربه، وحلق عانته، ونتف إبطه: فقال الشيخ أبو حامد: لا خلاف على المذهب: أنه لا يستحب، ولكن هل يكره؟ فيه قولان:
أحدهما: يكره؛ لأنه متصل بالميت، فلم يقطع منه، كموضع الختان.
فإن قلنا بهذا: أخذ الغاسل خلة من شجرة لينة لا تجرح، ويتبع بها ما تحت أظافيره.
والثاني: لا يكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم، ما تفعلون بعروسكم» .
والعروس يفعل به هذا، فكذلك الميت.
وروي: (أن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: غسل ميتًا، فدعا بموسى، وحلقه) . ولا يعرف له مخالف.
فإذا قلنا بهذا: فإن شاء ... حلقه بالنورة، وإن شاء
بالموسى.
وأما شعر رأسه: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحلق؛ لأن شعر الرأس إنما يحلق لزينة، أو نسك، والميت لا يزين، ولا نسك عليه.

(3/35)


وقال أبو إسحاق: فإن كان شعره جمة ... لم يحلق؛ لأن حلقه ليس بزينة في حقه، وإن كان ممن يحلق رأسه في حياته في العادة
فحلقه تنظيف في حقه، وهل يكره حلقه؟ على القولين في حلق شعر العانة، والمذهب الأول.

[فرع: غسل المرأة كالرجل]
وإن كان الميت امرأة ... كان غسلها كغسل الرجل، وإن كان لها شعر
ضفر بعد الغسل ثلاث ضفائر، وألقين خلفها.
وقال أبو حنيفة: (لا يسرح، ويجعل بين يديها) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أم عطية في غسل ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[مسألة: غسل المغسل]
وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت ... اغتسل، وهل يجب ذلك عليه، أو يستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، ولا يجب، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن الميت طاهر، ومن غسله طاهر، فهو كما لو غسل جنبًا.
والثاني: يجب، وبه قال علي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا ... فليغتسل، ومن مسه
فليتوضأ» .

(3/36)


والأول أصح، والخبر محمول على الاستحباب، بدليل: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا غسل عليكم من غسل ميتكم، حسبكم أن تغسلوا أيديكم» .
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (أأنجاس موتاكم؟!) ، تريد بذلك: الإنكار على من قال بوجوب الغسل من غسل الميت.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والوضوء من مسه» : فيحتمل أنه أراد: من مس ذكره، ويحتمل أنه أراد: الوضوء، لا لأجل مسه، ولكن لأجل الصلاة عليه عند مسه، حتى لا تفوته الصلاة إذا اشتغل بالوضوء بعد غسله، ويحتمل أنه أراد: غسل اليد.
إذا ثبت: أن الغسل من غسل الميت لا يجب ... فهل هو آكد، أو غسل الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: أن غسل الجمعة آكد؛ لأن الأخبار فيه أثبت.
والثاني: أن الغسل من غسل الميت آكد، وهو الأصح؛ لأنه مختلف في وجوبه عندنا، بخلاف غسل الجمعة.

(3/37)


ويستحب لمن غسل ميتًا، فرأى ما يعجبه، مثل: تهلل وجهه، وما أشبه ذلك ... أن يتحدث به، وإن رأى ما يكرهه، مثل: اسوداد وجهه، وما أشبه ذلك
أن لا يتحدث به؛ لما روى أبو رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا، فكتم عليه ... غفر الله له أربعين مرة» .
وإن كان الميت مبتدعًا مظهرًا لبدعته، ورأى الغاسل منه ما يكرهه، فالذي يقتضي القياس: أن يتحدث به الغاسل في الناس، ليكون ذلك زجرًا للناس عن البدعة.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(3/38)


[باب الكفن]
وتكفين الميت فرض على الكفاية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره، فمات: «وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» .
ويجب الكفن ومؤنة الغسل والدفن من رأس مال الميت مقدمًا على الدين، سواء كان موسرًا أو معسرًا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال الزهري، وطاووس: إن كان موسرًا، فمن رأس ماله، وإن كان معسرًا، فمن ثلثه.
وقال خلاس بن عمرو: يجب من ثلثه بكل حال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي سقط من بعيره، فوقص، فمات: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» . ولم يسأل، هل يخرجان من ثلثه، أم لا؟ أو هل هو موسر، أو معسر؟.
وروي: «أن رجلاً من الأنصار مات، فقدموا جنازته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فقال: "هل على صاحبكم دين؟ "، فقالوا: نعم، عليه ديناران، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا على صاحبكم"، فتحملها أبو قتادة، فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه» .

(3/39)


فلو كان الكفن محتسبًا من الثلث ... لوجب صرف كفنه في الدينارين.
فإن قال بعض الورثة: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من التركة ... كفن من التركة؛ لأن في كفنه من مال بعض الورثة منة على الباقين، فلم يلزمهم قبولها.
وإن كان الميت امرأة لها زوج، ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجب على زوجها؛ لأن من وجبت كسوته على شخص في حال الحياة ... وجب كفنه عليه في الموت، كالمملوك.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: إنه لا يجب على الزوج، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأن الكسوة إنما وجبت عليه في حياتها؛ لأجل تمكينها له من الاستمتاع، وقد عدم ذلك بموتها.
فعلى هذا: يجب في مالها، فإن لم يكن لها مال ... فعلى قرابتها الذين تلزمهم نفقتها لو لم يكن لها زوج، فإن لم يكن
ففي بيت المال. والأول أصح.

[مسألة: أقل الكفن]
وأقل ما يجب في الكفن ما يستر به عورة الميت.
ومن أصحابنا من قال: يجب ثوب في الرجل والمرأة؛ لأن ما دونه لا يسمى كفنًا.
والأول أصح؛ لما روي: «أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يكن له إلا

(3/40)


نمرة، إذا غطي بها رأسه ... بدت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه
بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر» و (النمرة) : الشملة المخططة.
وأما المستحب في كفن الرجل: فثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
وقال أبو حنيفة: (يستحب القميص فيها) .
دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة» وروي: (أن عمر كفن في ثلاثة أثواب، بردتين سحوليتين، وثوب كان يلبسه) .
قال ابن الصباغ: و (سحول) - بفتح السين -: مدينة بناحية اليمن يعمل فيها، و (السحول) - بضم السين -: هي الثياب الشديدة البياض.
وقد روى الترمذي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية» .

(3/41)


وروى أبو عبيد الهروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثوبين صحاريين» .
وأما الجائز في كفن الرجل: فخمسة أثواب؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة) .
فإن كان في الكفن قميص وعمامة ... جُعلا تحت الثياب؛ لأن إظهارهما زينة، وليس حاله حال زينة، ويكره الزيادة على ذلك؛ لأنه سرف.
ويستحب أن يكفن الصغير في ثلاثة أثواب.
وقال أبو حنيفة: (يكفن في خرقتين) .
دليلنا: أنه لما ساوى الكبير في صفة الكفن ... ساواه في قدره، كحال الحياة.
وأما صفة الكفن: فإن الشافعي قال: (أستحب أن يكون ثلاثة أثواب بيض رياط) .
وقال أبو حنيفة: (يكون فيهما برد حبرة) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض» ، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البسوا البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطيب وأطهر» .
وأما (الرياط) : فواحدتها: ريطة، وهي الملاءة البيضاء التي ليست ملفقة من ثوبين.
وإن اختلف الورثة في قدر الكفن ... قال بعضهم: يكفن بثلاثة أثواب، وقال بعضهم: يكفن بثوب، وقال بعضهم: يكفن بما يستر عورته
ففيه ثلاثة أوجه:

(3/42)


أحدها: أنه يقدم قول من دعا إلى الثلاث؛ لأنه هو الكفن المسنون.
والثاني: يقدم قول من دعا إلى ثوب؛ لأنه يعم ويستر البدن.
والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنه يقدم قول من دعا إلى ما يستر العورة إذا قلنا: إنه الواجب؛ لأنه هو الواجب.
فإن كان الميت موسرًا ... كفن في ثياب مرتفعة، وإن كان متوسطًا
ففي ثياب متوسطة، وإن كان معسرًا ... ففي ثياب أدنى من المتوسطة، اعتبارًا بحاله في الحياة.
وتكره المغالاة في الكفن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلبًا سريعًا، فإما يبدل خيرًا منه، أو شرًا منه» .
ويستحب أن يبخر الكفن على مشجب أو عود؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت ... فجمروه ثلاثًا» .
ولأنه ربما ظهر من الميت شيء، فيغلبه ريح البخور، ولهذا قال بعض أصحابنا: يستحب أن يبخر عند الميت من حين يموت؛ لهذه العلة.

(3/43)


[مسألة: بسط أوسع وأحسن الثياب أولاً في الكفن]
مسألة: [بسط أوسع وأحسن الثياب أولاً] :
ويستحب أن تبسط أحسن الثياب وأوسعها، ويذر عليه الحنوط، ثم يبسط الذي بعده، ويذر عليه الحنوط ثم الذي دونها، اعتبارًا بالحي، فإنه يجعل أحسن ثيابه ظاهرًا، ثم يذر عليه الحنوط.
قال ابن الصباغ: وظاهر ما نقله المزني يقتضي: ألا يذر على الثالث الحنوط؛ لأنه قال: يذر فيما بينهما الحنوط، إلا أن أصحابنا لا يختلفون أنه يذر عليه الحنوط؛ لأنه أولى بذلك، فإنه يلي الميت.
ثم يحمل الميت مستورًا، حتى يوضع على الأكفان ملقى على قفاه، ويؤخذ قطن منزوع الحب، ويذر عليه الحنوط والكافور، ويدخل بين أليتيه إدخالاً بليغًا؛ ليرد شيئًا إن خرج منه.
وقد ظن المزني أن الشافعي أراد: أنه يدخل في دبره، وقال أصحابنا: ليس كما ظن، وإنما أراد الشافعي: أنه يجعل كالموزة، ويدخل بين إليتيه؛ لأنه قال: (ليرد شيئًا إن خرج منه) ، فلو كان أراد إدخاله في دبره، لكان يقول: ليمنع شيئًا إن خرج.
قال الشافعي: (ويشد عليه خرقة مشقوقة الطرفين بإحدى أليتيه وعانته، ثم تشد عليه كما يشد التبان الواسع) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا الشد لا يحتاج إليه في الميت إلا إن كان به علة قيام، أو خشي عليه أن يخرج منه، فيؤخذ لبد، فيشد عليه من فوق أليتيه، فإن لم

(3/44)


يكن لبد، فخرقة، فأما شق الطرف: فلا يحتاج إليه في الميت، وإنما ذكره الشافعي في (المستحاضة) ؛ لأنها تنصرف وتمشي، وأما الميت: فلا يحتاج أن يشد ذلك عليه.
قال ابن الصباغ: وقد قيل: يشد ذلك بخيط، والتبان: السراويل بلا تكة. ويؤخذ قطن منزوع الحب، ويذر عليه الحنوط والكافور، ويترك على الفم، والمنخرين، والعينين، والأذنين، وعلى جراح نافذة إن كانت فيه؛ ليخفى ما يظهر من الرائحة من هذه المواضع.
ويذر الحنوط والكافور على قطن منزوع الحب، ويجعل على مواضع السجود من بدنه؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يتبع بالطيب مساجده) ، ولأنها شرفت بالسجود، فاستحب تطييبها.
ويستحب أن يطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يطيبهما إذا تطيب، وإن حنط جميع بدنه بالكافور والحنوط ... فلا بأس؛ لأنه يقويه.
قال الشافعي: (وإن حنط بالمسك والعنبر ... فلا بأس) .
وقال عطاء، وطاووس: لا يطيب بالمسك.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسك من أطيب الطيب» ، وروي: عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اجعلوا في حنوطي المسك، فإنه من بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وهل يجب الحنوط والكافور؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:

(3/45)


أحدهما: يجب؛ لأن العادة جرت به.
والثاني: لا يجب، كما لا يجب الطيب في حق المفلس.
فإذا فرغ من ذلك ... أدرج في ثوب.
قال الشافعي في موضع: (يثني صنفة الثوب من جانبه الأيمن، ويمده إلى جانبه الأيسر، ثم يأخذ صنفة الثوب من جانبه الأيسر، ويمده إلى جانبه الأيمن) .
وقال في موضع آخر: (بل يأخذ حاشية الثوب من جانبه الأيسر، ويمده إلى جانبه الأيمن، ثم يأخذ حاشية الثوب من جانبه الأيمن، ويمده إلى جانبه الأيسر، ويكون العالي ما على كتفه الأيسر) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يبتدأ بالأيسر على الأيمن، ثم بالأيمن على الأيسر، وهو الأصح؛ لأن هذا عادة الحي في الرداء أو الطيلسان.
ثم يفعل ببقية الأكفان كذلك، ويجعل ما يلي الرأس من زيادة الأكفان أكثر مما يلي الرجلين، كالحي ما على رأسه أكثر، ويرد ما بقي عند رأسه على وجهه، وما بقي عند رجليه على ظهر قدميه، فإن خافوا أن تنتشر الأكفان ... عقدوها عليه، فإذا أدخلوه القبر
حلوها؛ لأنه يكره أن يكون معه في القبر شيء معقود، ولهذا استحب ألا يكون معه شيء مخيط، ولأن الانتشار قد أمن منه.
وإن كان الكفن قصيرًا لا يعم بدنه ... ستر به عورته، وما بقي من ستر عورته
غطي به صدره ورأسه؛ لما ذكرناه في حديث مصعب بن عمير.

(3/46)


[مسألة: تكفين المرأة]
وأما المرأة: فإنه يستحب أن تكفن في خمسة أثواب.
قال القاضي أبو الفتوح: وكذلك الخنثى يستحب أن يكفن في خمسة أثواب، كالمرأة، وهل يستحب أن يكون أحدها درعا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحب؛ لأنها ميتة، فلم يستحب في كفنها المخيط، كالرجل، ولأن الدرع إنما تحتاج إليه المرأة؛ لتستتر به في تصرفها، والميت لا يتصرف.
فعلى هذا: تؤزر بإزار، وتخمر بخمار، وتدرج في ثلاثة أثواب.
والثاني: يستحب أن يكون أحدها درعًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لما روي عن أم عطية: أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسًا على الباب يناولنا الأكفان واحدًا واحدًا، فناولنا إزارًا، ودرعًا، وخمارًا، وثوبين»
ولأن أفضل حال الإنسان، إذا كان محرمًا، فلما كان للمرأة المحرمة لبس المخيط، فكذلك بعد الموت.
فعلى هذا: تؤزر بإزار، وتلبس الدرع، وتخمر بخمار، وتدرج بثوبين.
قال الشافعي: (ثم يشد على صدرها ثوب؛ ليجمع أثوابها) .
فقال الشيخ أبو إسحاق: هذا ثوب سادس ليس من جملة الأكفان، فيحل عنها في القبر.

(3/47)


وقال أبو العباس: هو من جملة الأكفان، ولكن يكون فوق اللفافة؛ لأن الشافعي لم يذكر أنه يحل.
والأول أشبه بقول الشافعي؛ لأنه قال: (يجمع عليها الثياب) . وهذا يقتضي أن يكون أعلاها.

[فرع: كراهة المعصفر للمرأة]
ويكره أن تكفن المرأة في المعصفر والمزعفر.
وقال أبو حنيفة: (لا يكره) . وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثياب البيض: «وكفنوا فيها موتاكم» . وهذا يعم الرجال والنساء.
قال الصيمري: ولا يستحب أن يعد الرجل كفنه في حياته، لئلا يحاسب عليه.

[مسألة: تكفين المحرم]
إذا مات محرم ... لم ينقطع إحرامه بموته، فلا يلبس المخيط، ولا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبًا في بدنه، ولا في ثيابه، ولا يجعل الكافور في الماء الذي يغسل به. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: عثمان، وعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومن التابعين: عطاء، ومن الفقهاء: الثوري، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى: أن بموته ينقطع حكم إحرامه، فيلبس المخيط، ويخمر رأسه، ويطيب. ذهب إليه من الصحابة: ابن عمر، وعائشة، ومن الفقهاء: الأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن رجلاً محرمًا خر من بعيره، فوقص، فمات،

(3/48)


فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» .
وروي: "ملبدًا".
فإن طيبه إنسان ... لم تجب الفدية على الذي طيبه؛ لأن الطيب في الإحرام يتعلق به حقان: حق لله، وحق للآدمي، فحق الآدمي: هو الانتفاع بالطيب، وحق الله: التحريم، والفدية تجب في مقابلة الانتفاع به، وإذا مات
زال انتفاعه بالطيب، فسقطت الفدية، وحق الله لم يزل بموت المحرم، فلم يسقط التحريم.
وهذا كما نقول في الجناية على الآدمي: يتعلق بها حقان: حق الله تعالى، وهو التحريم، وحق الآدمي، وهو القصاص، أو الأرش.
فإذا مات إنسان، ثم جنى عليه إنسان ... لم يلزمه القصاص ولا الأرش؛ لزوال حقه بموته، وكان عليه الإثم، لحق الله تعالى.

[فرع: تطييب المعتدة]
وإن ماتت معتدة عن الوفاة ... فهل يسقط تحريم الطيب؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يسقط، كالمحرمة.
والثاني: يسقط؛ لأن المعتدة إنما حرم عليها الطيب؛ لئلا يدعوها ذلك إلى النكاح، وذلك لا يوجد بعد الموت، فسقط التحريم.
وبالله التوفيق

(3/49)


[باب الصلاة على الميت]
الصلاة على الميت فرض على الكفاية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وفرض الكفاية كفرض الأعيان في ابتداء الوجوب؛ لأن فرض الأعيان يجب على كل واحد بعينه، وفرض الكفاية أيضًا يجب على كل أحد علم بالميت إلا أنهما يختلفان في الفعل، ففرض الكفاية إذا قام به بعض الناس ... سقط الفرض عنهم وعن غيرهم، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره.
إذا ثبت هذا: ففي أدنى ما يسقط به فرض الصلاة على الميت قولان، حكاهما أصحابنا البغداديون.
أحدهما: ثلاثة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا" خطاب للجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
والثاني: يسقط الفرض بواحد؛ لأنها صلاة لا تفتقر إلى الجماعة، فلم تفتقر إلى العدد، كسائر الصلوات.
وقولنا: (لا تفتقر إلى الجماعة) احتراز من الجمعة، فإنها لا تصح فرادى، فلذلك اشترط العدد فيها.
وأصحابنا الخراسانيون يحكون فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: ثلاثة.
والثاني: واحد.

(3/50)


والثالث أربعة.
وهل يسقط الفرض بصلاة النساء؟ فيه وجهان، قال صاحب " الإبانة " [ق \ 108] : لا يسقط الفرض بفعلهن، واختار القاضي أبو الفتوح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وهذا خطاب للذكور.
فعلى هذا: إذا صلى عليه الخنثى المشكل ... لم يسقط الفرض.
وقال صاحب " المجموع ": يسقط الفرض بفعلهن، كالغسل.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الرجال إذا كانوا موجودين، فالفرض لا يتوجه على النساء، وهذا يدل من قوله: إذا عدم الرجال ... توجه الفرض عليهن.
والسنة: أن تصلى في جماعة؛ لنقل الخلف عن السلف.
ويستحب أن يكونوا ثلاثة صفوف؛ لما روي «عن مالك بن هبيرة: أنه كان إذا صلى على ميت، فتقال الناس، جزأهم ثلاثة صفوف، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى عليه ثلاثة صفوف ... فقد أوجب» .

(3/51)


وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يموت من المسلمين ميت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة، فيشفعون له، إلا شفعوا له» .
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن اجتمع نسوة، ولا رجل معهن ... صلين على الميت فرادى؛ لأن النساء لا يسن لهن الجماعة في الصلاة على الميت، فإن صلين جماعة
فلا بأس.

[مسألة: نعي الموتى]
ويكره نعي الميت، وهو: أن ينادى في الناس: إن فلانًا قد مات؛ ليشهدوا جنازته، وحكى الصيدلاني وجهًا آخر: أنه لا يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعى النجاشي للناس» .
وقال النخعي: لا بأس أن تعرف قرابة الميت.
دليلنا: ما روى عبد الله بن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إياكم والنعي، فإنه من عمل الجاهلية» . قال عبد الله: والنعي: أذان بالميت.

(3/52)


وقال حذيفة: (إذا مت، فلا تؤذنوا بي أحدًا، فإني أخاف أن يكون نعيًا) .

[مسألة: الأولى بالصلاة على الميت]
] : وأولى الناس بالصلاة على الميت: الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ ثم بنوه، ثم العم، ثم بنوه، ثم يقدم الأقرب فالأقرب.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقدم الابن على الأب) ؛ لأنه أقوى تعصيبًا منه في الميراث.
دليلنا: أن المقصود من الصلاة على الميت الدعاء له، والأب يساوي الابن في الإدلاء إلى الميت، ويزيد على الابن بأنه أحنى على الميت، وأكثر شفقة منه، فقدم؛ لأن دعاءه أرجى إجابة.

[فرع: لا ولاية للزوج في التقدم]
ولا ولاية للزوج في التقدم بالصلاة على زوجته.
وقال الشعبي، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، وإسحاق رحمة الله عليهم: هو أولى من القريب. وروي ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

(3/53)


وقال أبو حنيفة: (لا ولاية له، إلا أنه يكره لابنه أن يتقدم عليه، فيقدم الزوج هاهنا) .
دليلنا: أنه لا ولاية له، فلم يقدم على العصبات، كتزويج الزوج جارية زوجته. وما قاله أبو حنيفة يبطل بتقديم الأب مع الجد.
وإن اجتمع أخ لأب وأم، وأخ لأب ... فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان:
أحدهما: أنهما سواء.
والثاني: يقدم الأخ للأب والأم، كما قلنا فيهما إذا اجتمعا في ولاية النكاح، وتحمل العقل.
ومنهم من قال: يقدم هاهنا الأخ للأب والأم، قولاً واحدًا، لأن للأم مدخلاً في الصلاة على الميت؛ لأنها تصلي عليه مأمومة ومنفردة، فقدم من يدلي بها، كما يقدم من يدلي بها في الميراث، حين كان لها مدخل في الميراث.
وإن لم يكن من العصبة، ولا مدخل لها في ولاية النكاح، ولا في تحمل العقل، فإن قلنا: إنهما سواء ... فأولادهما سواء، وإن قلنا: يقدم ذو القرابتين
قدم ابنه على ابن الآخر.
وإن اجتمع عمان، أحدهما: يدلي بالأب والأم، والآخر: يدلي بالأب. فعلى الطريقين.
وكذلك: إذا كان هناك ابنا عم، أحدهما: أخ لأم، فعلى الطريقين.
وإن اجتمع أخوان، أحدهما: حر، والآخر: مملوك ... فالحر أولى.
وإن كان هناك أخ هو عبد، وعم حر ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] :
أحدهما: العبد أولى؛ لأنه أقرب.

(3/54)


والثاني - وهو المنصوص، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره -: (أن العم أولى) ؛ لأنه أكمل.
قال أصحابنا: وقد سها المزني في نقله، حيث قال: (والولي الحر أولى من الولي المملوك) ، وقالوا: لا يسمى المملوك وليًا، بل قد قال الشافعي في " الأم " [1/244] : (والولي الحر أولى من المملوك) .
قال صاحب " الإبانة " [ق\107] : والقريب المملوك أولى من الأجنبي الحر؛ لأنه أرجى إجابة.

[فرع: اجتماع وليين في رتبة]
فإن اجتمع وليان في درجة واحدة ... ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم الأفقه، كما قلنا في الصلاة المفروضة.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يقدم الأسن) ، والفرق بينهما: أن الحق في الصلاة المفروضة لله، فقدم الأفقه؛ لأنه أعرف بحق الله، والحق - هاهنا - للميت، فقدم الأسن؛ لأنه أرجى إجابة، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يستحيي أن يرد للشيخ دعوة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من إجلال الله وكرمه إكرام ذي الشيبة المسلم» .
فإن لم يكن الأسن محمود الطريقة ... قدم الأفقه، وكذلك إذا استويا في

(3/55)


السن ... قدم الأفقه؛ لأن له مزية بالفقه، فإن استويا في ذلك
أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن اجتمع الولي والوالي ... ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يقدم الوالي) . وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤم الرجل في سلطانه» .
وروي: أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما مات ... دفع الحسين بن علي في قفا سعيد بن العاص، وهو وال يومئذ بالمدينة، وقال: (تقدم، فلولا السنة ما قدمتك) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (الولي أولى) . وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وهذا عام في الصلاة وغيرها، ولأنها ولاية مستحقة بالنسب، فقدم الولي فيها على الوالي، كولاية النكاح.
وأما الخبر: فمحمول على صلاة الفرض.

(3/56)


وأما تقديم الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فخاف إن منعه ذلك أن تكون فتنة، والسنة: إطفاء الشر، ويحتمل أن يكون الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد صلى عليه قبل ذلك.

[فرع: وصى أن يصلي عليه رجل]
إذا أوصى الميت أن يصلي عليه رجل ... لم يقدم على الأولياء.
وقال أنس بن مالك، وزيد بن أرقم: (الوصي أولى) ، وهو قول أحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (إن كان الوصي ممن يرجى دعاؤه ... قدم على الولي) .
دليلنا: أنها ولاية ترتبت فيها العصبات، فلم يقدم الوصي على العصبات، كولاية النكاح.
فإن غاب الولي الأقرب، واستناب من يصلي ... فالذي استنابه أولى من القريب البعيد الحاضر.
وقال أبو حنيفة: (القريب الحاضر أولى) .
دليلنا: أن الغائب على ولايته، فكان من استنابه أولى من الولي البعيد الحاضر، كما لو كان الولي القريب حاضرًا، واستناب غيره.

[فرع: يقدم المملوك والصبي على النساء]
وإن كان ميت في فلاة، ومعه نساء ومملوك وصبي يعقل ... فالمملوك والصبي أولى منهن، والمملوك أولى من الصبي؛ لأن المملوك مكلف، فإن لم يكن إلا النساء
صلين عليه فرادى، فإن صلين عليه جماعة ... قامت إمامتهن في وسطهن.
وقال أبو حنيفة: (يصلين عليه جماعة) .
دليلنا: أن النساء لم يسن لهن الصلاة على الجنازة ... فلم يشرع لهن الجماعة.

(3/57)


هكذا ذكر ابن الصباغ، وهذا يدل عليه من قوله: إن الفرض لا يسقط بصلاتهن. وقد مضى ذكر ذلك.

[مسألة: شروط صلاة الجنازة]
ومن شروط صحة صلاة الجنازة: الطهارة بالماء عند وجوده، أو التيمم عند عدمه، أو الخوف من استعماله، وهو قول كافة أهل العلم.
وقال الشعبي، وابن جرير: الطهارة ليست من شرط صحة صلاة الجنازة، وبه قال الشيعة؛ لأن المقصود منها الدعاء.
وقال أبو حنيفة: (إن خاف فوتها بالاشتغال بالطهارة بالماء ... تيمم لها مع وجود الماء) . وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة في التيمم.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية. [المائدة:6] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور» . ولم يفرق بين صلاة الجنازة وغيرها.
ولأن صلاة الجنازة تفتقر إلى ستر العورة، والطهارة من النجاسة، واستقبال القبلة، فافتقرت إلى الطهارة عن الحدث، كسائر الصلوات.

[مسألة: صلاة الجنازة في المسجد]
لا تكره الصلاة على الجنازة في المسجد.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (تكره) .

(3/58)


دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أمرت بجنازة سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أن تدخل المسجد، ليصلى عليها، فأنكر عليها ذلك، فقالت: (ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل ابن بيضاء وأخيه إلا في المسجد»
ولا تكره الصلاة على الميت في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
وقال الأوزاعي: (تكره) .
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الوقت، وتجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الفعل) . وقد مضى ذكر ذلك.

[فرع: موقف الإمام في الجنازة]
] : وفي مسنون موقف الإمام من الرجل وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن يقف عند رأسه.

(3/59)


والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه عند صدره.
وأما المرأة: فلا يختلف أصحابنا فيها، بل يقف الإمام عند عجيزتها، وكذلك الخنثى يقف عند عجيزته، كالمرأة.
وقال أبو حنيفة: (يقف عند صدر الرجل والمرأة) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقف من الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبيها) .
دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» .
«وروى أبو غالب: قال: (كنت في سكة المدينة، يعني: البصرة، فمرت جنازة معها ناس كثير، فقيل: هذه جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها، فإذا برجل عليه كساء رقيق، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما وضعت الجنازة ... قام أنس، فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، فكبر أربعًا، ثم ذهب، فقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فأتي بها، وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، وصلى عليها صلاته على الرجل، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؟ قال: نعم، فلما فرغ
قال: احفظوا» . وذكر الترمذي: أن المرأة كانت من قريش.

(3/60)


[مسألة: اجتماع جنائز]
وإن اجتمع جنائز ... فالأولى أن يفرد كل جنازة بصلاة، فإن أراد الإمام أن يصلي على جميعها صلاة واحدة
جاز؛ لأن القصد من ذلك الدعاء، وذلك يحصل بصلاة واحدة.
فإن كانت الجنائز جنسًا: إما رجالاً، أو نساء ... ففي كيفية وضعها وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] :
أحدهما: يوضع رأس كل واحد عند رجل الآخر.
والثاني: يوضع كل واحد بجنب الآخر، كالصف، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الصحيح.

(3/61)


وإن اجتمع جنازة رجل، وصبي، وخنثى، وامرأة: فإن الرجل يكون مما يلي الإمام، ثم الصبي بعده، ثم الخنثى، ثم المرأة مما يلي القبلة.
وقال القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب: يكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة مما يلي الإمام؛ لأن أشرف المواضع ما يلي القبلة، فخص الرجل بها، كما إذا دفنا معًا في اللحد.
دليلنا: ما روي عن عمار بن أبي عمار: أنه قال: (لما ماتت أم كثلوم بنت علي بن أبي طالب، وابنها زيد بن عمر بن الخطاب، فصلى عليهما سعيد بن زيد، فجعل زيدًا مما يليه، وأمه مما يلي القبلة، وفي القوم الحسن، والحسين، وابن عباس، وأبو هريرة، حتى عد ثمانين من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هكذا السنة) .
وروي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما صلى على تسع جنائز، رجالاً ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة) .
ولأن الرجال يلون الإمام في جميع الصلوات، فكذلك هاهنا، ويخالف اللحد؛ لأنه ليس ثم إمام، فاعتبرت القبلة، وهاهنا إمام، فاعتبر القرب منه.

(3/62)


[فرع: اختلاف أولياء الموتى]
وإن اختلف أولياؤهم فيمن يوضع للصلاة أولاً؟ فإن كان الأموات رجالاً أو نساء ... قدم السابق؛ لأن له مزية السبق.
وإن كان رجلاً وامرأة ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قدم الرجل، سواء كانت المرأة سابقة أو مسبوقة؛ لأن سنة موقف المرأة أن تكون خلف الرجل) .
وإن كان رجلا وصبيًا: فإن كان الرجل هو السابق ... قدم إلى الإمام، وإن كانت جنازة الصبي سابقة، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم أؤخره؛ لأن له حق السبق، وقد يقف مع الرجل في الموقف، بخلاف المرأة مع الرجل) .

[مسألة: صلاة الجنازة قائمًا]
إذا أراد الصلاة على الميت ... قام، فإن صلى عليه قاعدًا مع القدرة على القيام
لم تصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنها صلاة مفروضة، فوجب فيها القيام مع القدرة عليه، كسائر الصلوات المفروضة.
ويجب أن ينوي الصلاة المفروضة، ويجب أن ينوي الصلاة على الميت؛ لأنها صلاة، فوجبت لها النية، كسائر الصلوات، ولا يفتقر أن ينوي أن الميت رجل أو امرأة.
فإن نوى أن يصلي على هذا الرجل الميت، فبان الميت امرأة، أو نوى أن يصلي على المرأة، فبان رجلاً ... قال المسعودي [في " الإبانة " ق\108] : لم يجزه.
ولا يجوز أن ينوي بها سنة؛ لأنها لا يتنفل بمثلها؛ ولأنها تتعين بالدخول فيها.
وهل يلزمه أن ينوي أنها فريضة؟ قال الصيدلاني: فيه وجهان، كما قلنا في سائر الصلوات المفروضة.

(3/63)


[فرع: التكبير على الجنازة أربعًا]
ويكبر أربعًا، وبه قال عمر، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعقبة بن عامر، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وداود رحمة الله عليهم.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يكبر ثلاث تكبيرات) . وبه قال ابن سيرين، وجابر بن زيد رحمة الله عليهما.
و: (كان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يكبر على من كان بدريًا ست تكبيرات، وعلى غيره من الصحابة خمس تكبيرات، وعلى غير الصحابة أربع تكبيرات) .
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز، تسعًا، وسبعًا، وخمسًا، وأربعًا، فكبروا ما كبر الإمام» .
وقال زيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان: (يكبر خمسًا) ، وإليه ذهبت الشيعة.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعًا» .

(3/64)


وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن آخر ما كان كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنازة أربعًا» وكذلك حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي مضى ذكره.
وروى أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة صلت على آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكبرت عليه أربعًا، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم» .
فإن كبر خمسًا عامدًا ... فقد ذكر في " الإبانة " [ق\108] وجهين:
أحدهما: تبطل صلاته، كما قلنا: لو زاد في الصلاة ركعة عامدًا.
والثاني: لا تبطل؛ لأنه زاد ذكرًا، وهذا هو الصحيح.

(3/65)


ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرفع يديه، إلا في الأولى) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر، وأنس: (أنهما كانا يفعلان ذلك في التكبيرات كلها) .
ولأنها تكبيرة في صلاة الجنازة ... فسن فيها رفع اليدين كالأولى.

[مسألة: قراءة الفاتحة]
] : ثم يقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب، وهي واجبة، وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وإسحاق، وداود.
وروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري: (لا يقرأ فيها شيئًا من القرآن) .
وقال مالك: (أكره القراءة، وإنما يأتي بعد الأولى بالتحميد) .
دليلنا: ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على الميت أربعًا، وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن» .
ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة، كسائر الصلوات.
وهل يسن دعاء التوجه والتعوذ قبلها والسورة بعدها؟ فيه وجهان:

(3/66)


[الأول] : قال عامة أصحابنا: لا يسن شيء من ذلك؛ لأنها مبنية على الحذف والإيجاز.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يسن ذلك كله، كما يسن في غيرها من الصلوات.
وهل يسن الجهر بالقراءة فيها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يسن ذلك، سواء صلاها ليلاً أو نهارًا؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه جهر بالقراءة فيها، وقال: (إني لم أجهر فيها؛ لأن الجهر مسنون فيها، ولكن أحببت أن تعلموا أن لها قراءة واجبة) .
و [الثاني] : قال الداركي: يجهر فيها، إن صلى بالليل، كالمغرب والعشاء. وليس بشيء.

[مسألة: ما يقال عقب التكبيرة الثانية]
فإذا كبر الثانية ... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه»

(3/67)


قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع.
قال الشافعي: (ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ولا يجب، وإنما يستحب) ؛ لأن في سائر الصلوات يدعو للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ونقل المزني: (أنه إذا كبر الثانية ... حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولأن هذا ليس بموضع حمد.

[مسألة: الدعاء للميت بعد الثالثة]
ثم يكبر الثالثة، ويدعو للميت، وذلك واجب؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على موتاكم ... فأخلصوا لهم بالدعاء» .
ولأن القصد من الصلاة عليه الدعاء له، فلا ينبغي الإخلال به.
وأما صفة الدعاء: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدعية مختلفة، إلا أن أكثر ما نقل عنه: أنه كان يقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا ... فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا
فتوفه على الإسلام ".

(3/68)


وزاد ابن الصباغ في أوله، وهو: اللهم اغفر لأولنا وآخرنا، وفي آخره: فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» قال: وعليه أكثر أهل خراسان.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا وقف فيه، فأي دعاء دعا فيه ... أجزأه) . واختار - رَحِمَهُ اللَّهُ - دعاء ذكره في " الأم " [1/240] : (اللهم هذا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم، إن كان محسنًا
فزد في إحسانه، وارفع درجته، وقه عذاب القبر، وهول يوم القيامة، وابعثه من الآمنين، وإن كان مسيئًا ... فتجاوز عن سيئاته، وبلغه بمغفرتك وطولك درجات المحسنين، اللهم إنه قد فارق ما كان يحب من سعة الدنيا وأهلها وغيره، وصار إلى ظلمة القبر وضيقه، وجئناك شفعاء له، نرجو له مغفرتك، اللهم إنه فقير إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه) .
ونقل المزني عنه [في " المختصر " (1/183) دعاء أطول منه، وهو: (اللهم هذا عبدك، وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنًا ... فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا
فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من

(3/69)


عذابك حتى تبعثه إلى جنتك، يا أرحم الراحمين) .
ومعنى قولنا: (كان يشهد أن لا إله إلا أنت) ، أي: إنما دعوناك له؛ لأنه كان يشهد.
وإن كان الميت صغيرًا ... قال في موضع الدعاء له: اللهم اجعله فرطًا وذخرًا وأجرًا، ويدعو لأبويه، فيقول: اللهم اجعله لهما سلفًا وذخرًا، وفرطًا وغبطة واعتبارًا.

[مسألة: الدعاء بعد الرابعة]
فإذا كبر الرابعة ... فروى المزني: (إنه يسلم) .
وذكر الشافعي في موضع آخر: (أنه إذا كبر الرابعة، قال: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) .
قال أصحابنا: وليست على قولين، ولا اختلاف حالين، وإنما ذكره في موضع، وأغفله في آخر، وليس بواجب.
ثم يسلم، وذلك واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . وهل يسن تسليمتان، أو تسليمة واحدة؟ فيه قولان، كسائر الصلوات.

(3/70)


[مسألة: من سبق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة]
مسألة: [من سبق ببعض التكبيرات] : فإن فاته الإمام ببعض التكبيرات ... فإنه يكبر، ولا ينتظر تكبيرة الإمام.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يكبر، بل ينتظر تكبيرة الإمام، فيكبر معه) .
دليلنا: أنه مدرك للإمام، فدخل معه، كسائر الصلوات.
إذا ثبت هذا: وأدرك المأموم الإمام في القراءة ... فإنه يكبر، ويقرأ، فإذا كبر الإمام الثانية، فإن كان المأموم قد فرغ من القراءة
كبر الثانية، وإن لم يفرغ من القراءة ... فهل يقطع القراءة ويكبر، أو يتم القراءة؟ فيه وجهان: كالمسبوق إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة.
فإذا قلنا: يقطع القراءة ويكبر ... فهل يتم القراءة بعد التكبيرة الثانية؟ فيها وجهان، خرجهما ابن الصباغ:
أحدهما: يتم القراءة؛ لأن محلها القيام، وهو باق.
والثاني: لا يتمها؛ لأن محلها ما قبل التكبيرة الثانية.
فإن أدركه بعد التكبيرة الثانية ... فإنه يكبر، ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته، لا ما يقتضيه ترتيب صلاة الإمام.
فإذا سلم الإمام، وقد بقي عليه شيء من التكبيرات ... أتى بهن.
وقال الأوزاعي: (لا يأتي بهن) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» .
وهل يجب عليه أن يأتي بالذكر بين التكبيرات؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه أن يأتي به؛ لأن الميت يرفع.

(3/71)


والثاني: يجب عليه أن يأتي به، كما لو كان الميت غائبًا.

[مسألة: تعجيل الدفن]
] : إذا صلي على الميت ... بودر إلى دفنه، ولا يوضع لمن أراد أن يصلي عليه ثانيًا، إلا أن يكون وليه لم يصل عليه، فجاء ليصلي، فإن لم يخش تغير الميت
فلا بأس أن يوضع ليصلي عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صلى عليه بعض الأولياء والناس، ثم جاء ولي آخر كان غائبًا، فأراد الصلاة عليه ... لم توضع له الجنازة، فإن وضعت له
رجوت أن لا يكون به بأس، ومن فاتته الصلاة ... صلى على القبر) . وإليه ذهب ابن سيرين، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على القبر، إلا أن يكون الميت قد دفن بغير صلاة، فيجوز أن يصلى على القبر إلى ثلاثة أيام، وبعد الثلاث: لا يجوز، وإن صلي عليه ... لم يصل على القبر إلا الولي، أو الوالي، أو إمام الحي) .
دليلنا: ما روي: «أن امرأة مسكينة مرضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ماتت ... فآذنوني"، فماتت ليلاً، فدفنوها، ولم يوقظوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح
أخبر بذلك، فقال: "آلا آذنتموني؟ "، فقالوا: كرهنا أن نوقظك، فخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قبرها، ووقف بالناس، وصلى عليها، وكبر أربعًا» .

(3/72)


فإن قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام.
قلنا: قد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم عليها.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وقد مات البراء بن معرور وكان قد أوصى له، فقبل وصيته، وصلى على قبره بعد شهر» .
إذا ثبت هذا: فإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: إلى شهر، وبه قال أحمد رحمة الله عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر البراء بن معرور، وعلى أم سعد بن عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعدما دفنا بشهر، ولم ينقل أكثر منه.
والثاني: ما لم يبل جسده ويذهب؛ لأنه إذا كان باقيًا ... فهو بمنزلة حال الموت.
والثالث: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه؛ لأنه من أهل الخطاب بالصلاة عليه، فأما من ولد أو بلغ بعد موته: فلا يصلي عليه؛ لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه.

(3/73)


والرابع: أن يصلى عليه أبدًا؛ لأن القصد منها الدعاء له، وذلك يوجد بعد طول المدة.
فأما الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلا تجوز على الأوجه الثلاثة الأولى؛ لأنه قد مضى أكثر من شهر، ولأنا لا نعلم بقاءه في القبر؛ لأن الأنبياء يرفعون من قبورهم، ولأنا لم نكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه عند موته. وأما على الوجه الرابع: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تجوز الصلاة عليه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، قال: وكذلك لو صلى على قبر آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ... جاز ذلك، كما يجوز ذلك في حق سائر الموتى.
ومنهم من قال: لا يجوز. حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا قبري مسجدًا» . وروي: «لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وهل يستحب لمن صلى على الميت أن يعيد الصلاة عليه مع من لم يصل عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحب، كما قلنا في سائر الصلوات.
والثاني: لا يستحب؛ لأن صلاته الثانية نفل، وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها.

(3/74)


[مسألة: الصلاة على الغائب]
وتجوز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، فيتوجه المصلي إلى القبلة، ويصلي عليه بالنية، سواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وبه قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على الغائب) .
دليلنا ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه يوم مات، وخرج بهم إلى المصلى، وصف بهم، وكبر أربعًا» .
هذا إذا كان الميت في بلد أخرى، أو قرية أخرى، وبينهما مسافة، سواء كان ما بينهما قريبًا أو بعيدًا.
فإن كان الميت في طرف البلد ... لم يجز أن يصلي عليه حتى يحضر عنده؛ لأنه يمكنه ذلك.
وإن كان بحضرة الجنازة، فتقدم عليها، وصلى، وهي خلفه ظهره ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] :
أحدهما: يجوز، كما لو كان الميت غائبًا.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الأصول فرقت بين حال الضرورة والإمكان، وهاهنا: أمكنه أن تكون الجنازة أمامه.

[مسألة: وجود جزء من الميت]
إذا وجد بعض الميت ... فإنه يجب غسله والصلاة عليه، سواء وجد أكثر البدن أو أقله، حتى لو وجد منه أصبع بعد أن علم أنه انفصل من ميت، وبه قال أحمد

(3/75)


رحمة الله عليه، وإن وجد منه الظفر أو الشعر ... ففيه وجهان:
أحدهما: يغسل، ويصلى عليه، كسائر أعضائه. والثاني: لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لأن ذلك يوجد منه في حال الحياة.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (إن وجد أكثر البدن ... صلي عليه، وإن وجد الأقل
لا يغسل، ولا يصلى عليه) .
دليلنا: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه صلى على عظام بالشام) .
و: (صلى أبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه على رؤوس من المسلمين) .
و: (صلت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ألقاها طائر بمكة من وقعة الجمل، فعرفوها بخاتم) .
ولأنه بعض من البدن لا يزال منه في حال السلامة، انفصل من البدن بعد وجوب الصلاة على الجملة، فصلي عليها، كما لو كان أكثر البدن.
وفيه: احتراز من الظفر والشعر، ومن العضو المقطوع في حال الحياة.

(3/76)


[مسألة: الصلاة على السقط]
إذا استهل السقط صارخًا، أو تحرك ثم مات ... فإنه يغسل، ويصلى عليه.
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلى عليه حتى يبلغ.
وقال بعض الناس: إن كان قد صلى ... صُلي عليه، وإلا فلا.
دليلنا: ما روى جابر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استهل السقط ... صلي عليه» .
وروى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على المولود، ويدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة» .
وإن لم يستهل ... نظرت:
فإن كان قد نفخ فيه الروح بأن يولد لأربعة أشهر فما زاد ... فهل تجب الصلاة عليه؟
فيه قولان:
أحدهما: تجب الصلاة عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح، بدليل: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمكث أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا

(3/77)


نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، ويأتيه ملكان، فيقال لهما: اكتبا رزقه، وعمله، وأجله شقيًا أو سعيد» .
وإذا ثبت: أنه نفخ فيه الروح ... صلي عليه.
فعلى هذا: يجب غسله.
والثاني: لا تجب الصلاة عليه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، وهو الصحيح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استهل السقط ... صلي عليه» ، فدليل خطابه: أنه إذا لم يستهل
لا يصلى عليه.
فعلى هذا: هل يجب غسله؟ ذكر الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، والمحاملي فيه قولين:
أحدهما: لا يغسل؛ لأن من لا يصلى عليه لا يغسل، كالشهيد.
والثاني: يغسل؛ لأن الغسل آكد من الصلاة، بدليل: أن الكافر يغسل، ولا يصلى عليه.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وسلم في " الفروع ": أنه يجب غسله، قولاً واحدًا، وقالا: وإنما القولان في وجوب غسله، إذا وضعته لدون أربعة أشهر، وقد بان فيه شيء من خلق الآدمي ... فإنه يجب كفنه، قولاً واحدًا، وفي وجوب غسله قولان.
والطريقة الأولى أشهر.

(3/78)


[مسألة: لا يصلى على الكافر]
إذا مات كافر ... لم تجز الصلاة عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] [التوبة: 84] .
ولأن الصلاة للرحمة، والكافر لا يرحم.
ويجوز غسله وكفنه ودفنه؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في موت أبيه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قميصه؛ ليكفن فيه عبد الله بن أبي، ابن سلول، وكان منافقًا، وقال: " إنه لا يعذب ما بقي عليه منه سلكة "، يعني: خيطًا.
فإن اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، ولم يتميزوا ... فإنه يصلي على واحد واحد، وينوي الصلاة عليه إن كان مسلمًا، سواء كان المسلمون أكثر أو أقل، وبه قال

(3/79)


مالك، وأحمد رحمة الله عليهما، وكذلك إذا صلى صلاة واحدة، ونوى بها الصلاة على المسلمين منهم ... صح.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المسلمون أكثر ... صلى عليهم - كما قلنا - وإن كانوا أقل من المشركين
لم يصل عليهم) .
دليلنا: أنه اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه، ولم يتميزوا، فوجبت الصلاة بالقصد، كما لو كان المسلمون أكثر.

[مسألة: لا يصلى على الشهيد]
المقتول من المسلمين في معركة الكفار لا يغسل، ولا يصلى عليه، وكذلك من مات من المسلمين هناك بسبب من أسباب القتال، بأن وقع من دابته، أو من جبل، أو رجع عليه سلاحه، أو رفسته دابة، فمات ... فهو شهيد، وحكمه حكمه، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يغسل الشهيد، وإنما يصلى عليه) . واختاره المزني.
وقال الحسن وسعيد بن المسيب: يغسل، ويصلى عليه.
دليلنا: ما روى جابر، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه «قتل من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يوم أحد اثنان وسبعون قتيلاً، فـ: (أمر بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنزع عنهم الجلود والفرى، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم»

(3/80)


إذا ثبت هذا: فإنه ينزع عنه ما لم يكن من عامة لباس الناس، مثل: الجلود، والفرى، والخفاف، ووليه بالخيار: بين أن ينزع ثيابه التي قتل فيها، ويكفنه بغيرها، وبين أن يدفنه بثيابه التي قتل فيها.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا ينزع عنهم الخفاف والجلود والفرى) .
وقال أبو حنيفة: (ليس لوليه نزع تلك الثياب، بل يدفن بها) .
دليلنا على مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر أن ينزع عن قتلى أحد الحديد والجلود» .
وعلى أبي حنيفة: ما روي: «أن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثوبين؛ ليكفن بهما حمزة بن عبد المطلب، فكفنه بأحدهما، وكفن بالآخر رجلا آخر» . فدل على جواز ذلك.

(3/81)


[فرع: جرح في الحرب ثم مات بعد انقضائها]
فإن جرح في الحرب، فمات بعد انقضاء الحرب ... فالمشهور من المذهب: أن حكمه حكم الموتى يغسل ويصلى عليه.
وحكى في " الإبانة " [ق\109] قولاً آخر: أن حكمه حكم الشهيد.
وقال أبو حنيفة: (إن أكل، أو شرب، أو أوصى ... لم يثبت له حكم الشهادة، وإن مات قبل ذلك
ثبت له حكم الشهادة) .
وقال مالك: (إن أكل، أو شرب، أو بقي يومين أو ثلاثة ... فحكمه حكم الموتى، وإن لم يأكل، ولم يشرب، ولم يبق
فحكمه حكم الشهيد) .
دليلنا: أنه مات بعد انقضاء الحرب، فهو كما لو أكل، أو شرب، أو بقي ثلاثًا.

[فرع: المقتول خارج الصف]
إذا انكشف الصف عن مقتول من المسلمين ... فإنه لا يغسل، ولا يصلى عليه، سواء كان به أثر أو لم يكن.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (إن لم يكن به أثر ... غسل، وصلي عليه) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان به دم يخرج من عينه أو أذنه ... لم يغسل، وإن كان يخرج من أنفه أو ذكره أو دبره
غسل) .
دليلنا: أن الظاهر أنه مقتول بسبب الحرب، فلم يغسل، ولم يصل عليه، كما لو كان به أثر.

(3/82)


[فرع: الصغير يقتل في المعركة]
وإن كان المقتول صغيرًا ... ثبت له حكم الشهداء.
وقال أبو حنيفة: (لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ) .
دليلنا: أنه مسلم قتل في معركة الكفار، بقتالهم، فهو كالبالغ.

[فرع: الشهيد الجنب]
وإن كان الشهيد جنبًا ... فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: لا يغسل.
وقال أبو العباس، وأبو علي بن أبي هريرة: يغسل. وهو قول أحمد رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة: (يغسل، ويصلى عليه) .
والدليل على وجوب غسله: ما روي: «أن حنظلة بن الراهب قتل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهله: "ما شأن حنظلة؟ فإني رأيت الملائكة تغسله"، فقالوا: إنه كان جنبًا، فسمع هيعة، فخرج إلى القتال، فقتل» .
والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أحد: «زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في الله، إلا وهو يأتي يوم القيامة بدم، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك» . وهذا عام في الجنب وغيره.

(3/83)


وأما حديث حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلا حجة فيه؛ لأن غسله لو كان واجبًا ... لما سقط الفرض بغسل الملائكة.
وإن كان على الشهيد نجاسة قبل القتال ... فهل يجب غسلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب غسلها؛ لأنه غسل واجب، فسقط بالشهادة، كغسل الموت.
والثاني: يجب غسلها؛ لأن هذا غسل وجب بغير الموت، فلم يسقط بالشهادة، بخلاف غسل الموت.

[مسألة: قتل أهل البغي عدلاً]
ً] : إذا قتل أهل البغي رجلاً من أهل العدل ... فهل يجب غسله والصلاة عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لما روي: (أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لم يغسل أحدًا ممن قتل معه) ، و: (أوصى عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألا يغسل) ؛ لأنه يذب عن الدين، فهو كالمقتول في معترك الكفار.
والثاني: يجب غسله، والصلاة عليه، لما روي: (أن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه غسلت عبد الله بن الزبير) . ولم ينكر ذلك منكر.
ولأنه مقتول في غير معركة الكفار، فهو كمن قتل غيلة في المصر.

(3/84)


ومن قتله قطاع الطريق من أهل المصر أو القافلة ... فهل يجب غسله والصلاة عليه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين فيمن قتله أهل البغي من أهل العدل؟
وأما من قتله اللصوص من أهل القافلة: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كمن قتله قطاع الطريق.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يجب غسله، والصلاة عليه، وجهًا واحدًا، هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (من قتل ظلمًا بحديدة ... فإنه لا يغسل، وإن قتل بمثقل
غسل) .
دليلنا: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قتل بحديدة ظلمًا، فغسل، وصلي عليه) فدل على: إنه إجماع بين الصحابة.
ومن قتل قصاصًا، أو رجم بالزنا ... فوجب غسله، والصلاة عليه.
وقال الزهري: (المرجوم لا يصلى عليه) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يصلي عليه الإمام الأعظم، ويصلي عليه غيره) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم الغامدية، وصلى عليها» .
وإن قتل أهل العدل رجلاً من أهل البغي ... وجب غسله، والصلاة عليه.
وقال أبو حنيفة: (لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ عقوبة له) .
دليلنا: أنه مسلم قتل في غير معركة الكفار، فهو كما لو قتل غيلة.

(3/85)


[مسألة: الصلاة على ولد الزنا]
ولد الزنا إذا مات ... وجب غسله، والصلاة عليه.
وقال قتادة: لا يغسل، ولا يصلى عليه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» ، ولأنه مسلم مات في غير حرب الكفار ... فوجب غسله والصلاة عليه، كثابت النسب.

[مسألة: الصلاة على النفساء]
والنفساء إذا ماتت ... وجب غسلها والصلاة عليها.
وقال الحسن: لا يصلى عليها.
دليلنا: ما ذكرناه في ولد الزنا.
وإن قتل نفسه، أو مات الغال من الغنيمة ... وجب غسلهما والصلاة عليهما.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (لا يصلي عليهما الإمام) .
وقال الأوزاعي: (من قتل نفسه ... لا يغسل، ولا يصلى عليه) .
دليلنا: ما ذكرناه في ولد الزنا.
وقال الشيخ أبو حامد: وأما سائر الشهداء، مثل: من مات بحريق، أو غرق، أو بطن، أو تحت الهدم، وما أشبه ذلك ... فإنهم يغسلون، ويصلى عليهم، بلا خلاف؛ لعموم الخبر، ولأنه مسلم مات في غير معترك الكفار
فوجب غسله، والصلاة عليه، كما لو مات بغير هذه الأمراض.
وبالله التوفيق

(3/86)


[باب حمل الجنازة والدفن]
الحمل - بفتح الحاء -: المصدر، وما كان غير منفصل، كحمل البطن، وحمل الشجرة، وبكسر الحاء: ما كان بائنًا، كالحمل على الظهر وغيره.
والجنازة - بكسر الجيم -: السرير، وبفتحها: الميت.
قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: الأفضل إذا أراد حمل الجنازة أن يجمع في الحمل بين العمودين والتربيع، وإذا أراد الاقتصار على أحدهما ... فالحمل بين العمودين أفضل.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ في " الشامل ": أن الحمل بين العمودين أفضل.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم: (أن التربيع أفضل) .
وقال النخعي، والحسن: (يكره الحمل بين العمودين) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (هما سواء) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» .
وروي ذلك عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
إذا ثبت هذا: فكيفية الحمل بين العمودين، وهو أن يحمل النعش ثلاثة: واحد

(3/87)


من مقدم النعش، فيضع كل عمود على كتف ورأسه بينهما، ومن المؤخر اثنان، لا يتأتى غير ذلك.
وأما التربيع: فيستحب لكل من أراد أن يحمل الجنازة أن يأخذ بجوانبها الأربعة، فيبدأ بياسرة المقدمة، فيضع العمود على عاتقه الأيمن، ثم بياسرة المؤخرة، فيضعها على عاتقه الأيمن، ثم يرجع إلى يامنة المقدمة، فيضعها على عاتقه الأيسر، ثم يامنة المؤخرة، فيضعها على عاتقه الأيسر.
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبدأ، فيأخذ بياسرة المقدمة، ثم بياسرة المؤخرة، كما قلنا، ثم يأخذ بيامنة المؤخرة، ثم بيامنة المقدمة. وهذا ليس بصحيح، بل الأولى أن يبدأ بالمقدم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدؤوا بميامنكم» .
ويحمل على سرير أو لوح أو خشب، فإن خيف عليه الانفجار قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه ... فلا بأس بحمله على الأيدي والرقاب، فإن ثقل
فلا بأس أن يحمل في جنبي السرير من يخففه على الحاملين، وإن أدخلوا عمودًا آخر، ليكونوا ستة أو ثمانية ... لم يكن في ذلك بأس، وإن كان الميت امرأة
اتخذ لها خيمة تسترها؛ لما روي: (أن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: إني لضئيلة، فإذا مت ... فلا يراني الناس) ، يعني: أنها مهزولة. فلما ماتت
قالت أم سلمة، أو أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إني رأيت في أرض الحبشة يعمل للنساء نعش يحملن فيه، عليه خيمة، فاتخذت لها نعشًا عليه خيمة، فكانت أول من حمل بنعش عليه خيمة فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) .

(3/88)


ويستحب الإسراع بالمشي في الجنازة.
قال أصحابنا: وهو إجماع.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة ... فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك
فشر تضعونه عن رقابكم» .
ولا يبلغ به الخبب، وإنما يزيد فوق سجية مشي العادة، بحيث لا يشق على ضعفاء الناس معها.
وقال أبو حنيفة: (يبلغ به الخبب) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال: «سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المشي بالجنازة، فقال: "دون الخبب، فإن يكن خيرًا ... قدمتموها إليه، وإن يكن شرًا
فبعدًا لأصحاب النار» .
فإن خيف الانفجار، إذا كان المشي فوق سجية المشي ... مشوا به أسرع من ذلك. فإن خيف الانفجار من الإسراع
فإنه يمشي به على سجية المشي.
ويستحب اتباع الجنازة؛ لما روي عن البراء بن عازب: أنه قال: «أمرنا

(3/89)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم» .
ويكره له الركوب في الذهاب مع الجنازة من غير عذر؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في عيد ولا جنازة» .
وروي عن ثوبان: أنه قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة، فرأى ناسًا ركبانًا، فقال: "ألا تستحيون؟! إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» .
فإن كان عاجزًا عن المشي ... لم يكره له الركوب في الذهاب؛ لأن ذلك عذر.
وإن ركب في الانصراف ... لم يكره؛ لما روي عن جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة أبي الدحداح ماشيًا، ورجع على فرس» ، ولأنه غير قاصد إلى قربة.

[مسألة: المشي أمام الجنازة]
والمشي أمام الجنازة أفضل للماشي والراكب، وبه قال الزهري، ومالك، وأحمد رحمة الله عليهم، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

(3/90)


وقال أبو حنيفة: (المشي خلف الجنازة أفضل) . وبه قال الأوزاعي.
وقال الثوري: (الراكب خلفها، والماشي أمامها) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبا بكر، وعمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يمشون أمام الجنازة» ، ويقولون: هو أفضل؛ لأنهم شفعاء الميت ... فاستحب أن يتقدموا عليه.
ويستحب أن يمشي قريبًا منها؛ لأنه إذا بعد منها ... لم يكن معها، فإن سبق إلى المقبرة
لم يجب عليه القيام، بل هو بالخيار إن شاء ... قام، وإن شاء
قعد.
وحكي عن أبي مسعود البدري، وجماعة معه: أنهم قالوا: (يجب القيام لها) .
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكره له الجلوس حتى يوضع في اللحد) .
دليلنا: ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقوم للجنازة، ثم أمرنا بالجلوس» .

(3/91)


وروى الحسن، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن جنازة اليهودي مرت بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها رائحة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرائحتها حتى جازت، ثم قعد» . فرؤي: أنه قام لذلك.
وقيل أيضًا: إنه قام، لكي لا تعلوه جنازة المشرك.
وروى عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في جنازة ... لم يجلس حتى توضع في اللحد، فاعترض بعض اليهود، وقال: إنا لنفعل ذلك، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "خالفوهم» .
ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر؛ لما روي: «أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لما مات أبوه ... أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إن عمك الضال قد مات، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهب فواره»

(3/92)


[فرع: لا تتبع الجنائز بنار ولا نائحة]
ولا تتبع الجنازة بنار ولا نائحة.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت» ، يعني: نوحًا.
وروي: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى مجمرة على قبر، فقال: (لا تتشبهوا باليهود) .
ولأنها إذا أتبعت بالنار ... يفأل بذلك فأل السوء.

[مسألة: دفن الميت]
دفن الميت فرض على الكفاية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] [عبس:21] ، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أكرمه) ، ولأنه إذا ترك ... تأذى الناس برائحته.
ولا يكره الدفن بالليل، ولكنه بالنهار أولى؛ لأنه أمكن.
وقال الحسن البصري: (يكره الدفن ليلاً) .

(3/93)


دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (ما عرفنا دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سمعنا صوت المساحي أول ليلة الأربعاء) .
وروي: (أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه دفن ليلاً) ، و: (دفنت عائشة، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليلاً) .

[مسألة: الدفن بمكة]
إذا مات ميت بمكة ... فالأفضل أن يدفن في مقبرتها؛ لما جاء فيها من الأثر، وكذلك من مات في المدينة أو بيت المقدس
فالأفضل أن يدفن في مقبرتهما؛ لحرمتهما، وشرف منزلتهما.
وإن مات في بلد غير هذه، وكانت مقبرتها تذكر بخير، مثل: أن يكون فيها قبور الصالحين، أو يرى فيها منامات صالحة ... فالدفن فيها أولى من غيرها من المقابر، وإن لم يذكر فيها شيء
فالدفن فيها أفضل من الدفن في البيت؛ لما يلحقه من دعاء المسلمين الذين يزورون القبور.

(3/94)


فإن قيل: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن في بيت عائشة أم المؤمنين؟
قلنا: إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن أصحابه في المقبرة، فكان الاقتداء بفعله أولى.
ولأنهم أرادوا تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ لأنه يكثر إليه الزوار، بخلاف غيره.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... اختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا ما أُنسيته، سمعته يقول: ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه» ادفنوه في موضع فراشه.

[فرع: الاختلاف على موضع الدفن]
] : وإن تشاحَّ الورثة، فقال بعضهم: ندفنه في ملكه، وقال بعضهم: يدفن في المقبرة المسبلة ... فإنه يدفن في المقبرة المسبلة؛ لأن الملك قد صار لهم.
ولو قال بعضهم: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من ماله ... كفن من ماله.
والفرق بينهما: أنه لا منة عليهم بدفنه في المقبرة المسبلة، وعليهم المنة في كفن بعض الورثة له من ماله.
فإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك الميت ... قال أصحابنا: كان للباقين نقله؛ لأن الملك قد صار لهم، غير أنه يكره لهم نقله.

(3/95)


وإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك نفسه، أو كفنه من مال نفسه، ثم دفنه ... قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، وعندي: أنه لا ينقل، ولا تسلب أكفانه بعد دفنه؛ لأنه ليس في تبقيته إسقاط حق أحدهم، وفي نقله هتك حرمته.
وإن تشاحّ اثنان في الدفن في مقبرة مسبلة ... قدم السابق منهما؛ لأن له مزية بالسبق، وإن لم يسبق واحد منهما
أقرع بينهما؛ لتساويهما.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت عندنا يحبون أن يجمع الأهل والقرابة في الدفن في موضع واحد) . وهذا صحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دفن عثمان بن مظعون ... أمر رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسر عن ذراعيه، ثم حملها، فوضعها عند رأسه، وقال: "أُعلم على قبر أخي؛ لأدفن فيه من مات من أهلي» .
وإذا دفن ميت في مقبرة مسبلة، ثم أراد آخر أن يدفن في ذلك الموضع ميتًا آخر، فإن علم أنه قد بلي الأول ... جاز الدفن فيه، وإن علم أنه لم يبل
لم يجز الدفن فيه، وذلك يختلف باختلاف البلاد؛ لأن البلد إذا كان شديد الحر ... فإن الميت يبلى فيه في أقرب مما يبلى في البلاد الباردة، فإن خالف وحفر قبرًا، فوجد فيه ميتًا،

(3/96)


أو عظامًا ... أعيد القبر، إلا أن الشافعي قال: (فإن فرغ من القبر، وظهر فيه شيء من العظام
لم يضر أن يجعل في جانب القبر، ويدفن الثاني معه) .

[فرع: عارية الأرض للدفن]
فإن أعار رجل أرضه لرجل ليدفن فيها ميتًا ... فله أن يرجع فيها ما لم يدفن؛ لأنها عارية لم تقبض، وإن دفن الميت فيها
لم يكن له الرجوع فيها، فإن بلي ... كان له الرجوع.
وإن دفن رجل بأرض غيره بغير إذنه ... فالمستحب لصاحب الأرض: أن لا ينقله؛ لأن في ذلك هتكًا لحرمته، فإن نقله
جاز؛ لأنه دفن فيها بغير إذنه.

[فرع: دفن أكثر من واحد]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحب أن يدفن في قبر أكثر من واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل هكذا) .
فإن دعت إلى ذلك ضرورة، بأن يكثر الموتى، أو يكون في الناس ضعف؛ لقلة الغذاء في القحط، أو مشتغلين في الحرب ... جاز أن يدفن الاثنان، والثلاثة، وأكثر في قبر، ويقدم أكثرهم قرآنًا إلى القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في قتلى أحد أن يجعل الاثنان والثلاثة في قبر، قالوا: فمن نقدم؟ قال: "أكثرهم قرآنًا» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، وإن دعت

(3/97)


ضرورة أن يدفن رجل مع امرأة في قبر ... جعل الرجل قدامها، وجعل بينهما حاجز من تراب) .
وإن كان رجلاً وصبيا وخنثى وامرأة ... قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، اعتبارًا بصف الصلاة.

[مسألة: ترتيب دفن الجماعة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن مات جماعة من أهله، ولم يمكنه دفنهم إلا واحدًا واحدًا، فإن كان يخشى تغير أحدهم ... بدأ به، ثم بمن يخشى تغيره بعده، وإن لم يخش تغير أحدهم
بدأ بأبيه؛ لأنه أكثر حرمة، وأوجب حقًا، ثم بعده الأم؛ لأن لها رحمًا، ثم الأقرب فالأقرب.
وإن كانا أخوين ... قدم أكبرهما، وإن كانتا زوجتين
أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى) .

[مسألة: الدفن في مقابر الكفرة]
ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار، ولا كافر في مقبرة المسلمين، فإن ماتت ذمية حامل بمسلم ... دفنت بين مقابر المسلمين والكفار، وجعل ظهرها إلى القبلة؛ لأنه يقال: إن وجه الجنين إلى ظهرها.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه دفنها في مقبرة المسلمين) . وبه قال مكحول، وإسحاق رحمهما الله.

(3/98)


وقال عطاء، والزهري، والأوزاعي: (تدفن مع أهل دينها) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يؤدي إلى دفن مسلم مع الكفار.
وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يصح عنه؛ لأنه يؤدي إلى دفن مشرك مع المسلمين.

[مسألة: الدفن في البحر]
وإن مات ميت في السفينة في البحر ... فإنه يغسل، ويحنط، ويكفن، ويصلى عليه، فإن علموا أنهم يجدون جزيرة، أو كانوا بقرب ساحل
انتظروا حتى يدفنوه هنالك.
وإن لم يكن شيء من ذلك ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يتركونه بين لوحين، ويشدونه، ويطرحونه في الماء، فربما يقع في جزيرة، فيراه بعض المسلمين، فيدفنه، ولا يثقل حتى ينزل إلى القرار، فتأكله الحيتان) .
قال المزني: إنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان أهل الجزائر مسلمين، فأما إذا كانوا مشركين: فإنه يثقل بشيء حتى ينزل إلى القرار؛ لكي لا يأخذه الكفار، فيغيروا فيه سنة المسلمين.
وقال أحمد: (يثقل بشيء حتى ينزل بكل حال) .
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى؛ لأنه ربما يأخذه مسلم، فيدفنه، فيكون أولى من أن تأكله الحيتان.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فاختار في " المهذب " ما قاله المزني.

(3/99)


[مسألة: تعميق القبر]
قال الشافعي في " الأم " [1/244] : (ويعمق القبر قدر قامة وبسطة) . قال أصحابنا: وذلك أربعة أذرع ونصف.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا حد فيه) .
وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلى السرة.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا» .
وروي عن عمر: أنه قال: (احفروا قبري قامة وبسطة) ، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع، وأبعد على من يريد نبشه، ولئلا يظهر ريحه.
ويستحب أن يوسع عند رجلي الميت ورأسه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحافر: أوسع من قبل رجليه ورأسه»
فإن كانت الأرض صلبة ... فاللحد أحب إلينا من الشق، وهو أن يحفر في القبر

(3/100)


حفيرة في جانبه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللحد لنا، والشق لغيرنا» .
وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... اختلفوا في قبره، فقال بعضهم: يلحد له، وقال الآخرون: يشق له، وكان في المدينة حفاران، أحدهما يلحد، والآخر يشق، فوجهوا إليهما، وقالوا: اللهم اختر لنبيك ما فيه الخيرة، فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وإن كانت الأرض رخوة ... لم يمكن اللحد، ولكن الشق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أن يبني في القبر من الجانبين بالحجارة أو اللبن، ويترك الميت في وسطه، ثم يسقف عليه باللبن أو الخشب، ويجعل في شقوقه كسر اللبن) .

(3/101)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيتهم - عندنا - يضعون على السقف الإذخر، ثم يضعون عليه التراب) .

[مسألة: فعل الدفن للرجال]
] : ولا يدخل الميت قبره إلا الرجال، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة؛ لأنه يحتاج فيه إلى بطش وقوة، فكان الرجال به أقوم، ولأن المرأة إذا تولت ذلك ... بان شيء مما هو عورة منها.
قال الصيدلاني: ويتولى النساء حمل المرأة من مغتسلها إلى الجنازة، وتسليمها إلى من في القبر؛ لأنهن يقدرن على ذلك ... وكذلك: يتولى النساء حل ثيابها في القبر، ولم أر هذا لغيره من أصحابنا.
إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رجلاً ... فأولى الناس بإدخاله القبر أولاهم بالصلاة عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويدخله منهم أفقههم) . فإن كان له قريبان، أحدهما أبعد من الآخر، وكان البعيد فقيهًا ... فهو أولى من القريب الذي ليس بفقيه؛ لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى معرفة وعلم، فكان الفقيه بذلك أولى.
فإن استويا في الفقه ... فأقربهم رحمًا، كالأب والجد، ثم بعدهما الابن، ثم ابن الابن، على ترتيب العصبات.
وإن كان الميت امرأة ... فالزوج أولى بإدخالها من كل أحد؛ لأنه يحل له من النظر إليها ما لا يحل لغيره، فإن لم يكن زوج
فالأب أولى، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، فإن لم يكن أحد من ذوي محارمها ... فمملوكها؛ لأنه محرم لها على ظاهر المذهب، فإن لم يكن
فالخصي من الرجال؛ لأنه لا شهوة له، فإن لم يكن، فبنوا العم.

(3/102)


قال صاحب " الفروع ": فإن لم يكونوا ... أرسلت بحبل، فإن تعذر ذلك
جاز للأجانب الثقات وضعها.

[فرع: عدد الدافنين]
والمستحب: أن يكون عدد من يدفن وترًا: إما ثلاثة، أو خمسة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى وتر يحب الوتر» .
ولما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... أدخله القبر ثلاثة: العباس، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، واختلف في الثالث: فقيل: إنه الفضل بن العباس. وقيل: أسامة بن زيد، وهو الصحيح.
وأما عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فهم بذلك، وتهيأ للنزول، ولم ينزل.

[فرع: ستر القبر]
ويستحب أن يستر القبر بثوب عند إدخال الميت، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الميت رجلاً ... لم يفعل ذلك) .
دليلنا: ما روي عن سعد بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «لما دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/103)


سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... ستر قبره بثوب، وكنت ممسكًا بحاشية الثوب، فأصغى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما قال لك؟ فقال: قال: اهتزت قوائم العرش لموت سعد»
ولأنه لا خلاف أنه يستحب ستره بثوب بعد الموت، وعند الغسل؛ لأنه لا يؤمن أن يكون قد تغير، فاستحب - هاهنا - مثله.
ولأنه يحتاج إلى حل عقد كفنه، وتسويته، فاستحب ستره.

[مسألة: استحباب الدفن من قبل الرأس]
ويستحب أن يسل الميت من قبل رأسه، فيوضع رأس الميت عند رجل الميت من القبر، ثم يسل الميت من قبل رأسه سلاًّ إلى القبر، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (توضع الجنازة عرضًا من ناحية القبلة، ثم يدخل إلى القبر معترضًا) .
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُل من قبل رأسه) ولأن ذلك أسهل.

(3/104)


والمستحب: أن يقول من يدخله القبر: (بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . والملة والسنة واحد؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أدخل الميت القبر ... قال ذلك) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يدعو مع ذلك، فيقول: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة، إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك، وأنت خير منزول به، إن عاقبته ... فبذنبه، وإن عفوت
فأنت أهل العفو، وأنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشكر حسنته، واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك، يا أرحم الراحمين) .

(3/105)


[فرع: إضجاعه على الشق الأيمن]
والمستحب: أن يوضع على جنبه الأيمن، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم ... فليتوسد يمينه» .
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا فُعِلَ به، وكذلك فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم من بعده إلى يومنا هذا.
ولأنه إذا فعل به ذلك ... استقبل القبلة بجميع بدنه، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .
فإن خالفوا، وأضجعوه على جنبه الأيسر، واستقبلوا بوجهه القبلة ... جاز.
ويستحب أن يوسد رأسه بلبنة، كالحي إذا نام، ويدنى إلى اللحد، ويجعل خلف ظهره تراب يسنده؛ لئلا يستلقي على ظهره.
ولا تترك يده تحت خده؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إذا مت ... فأفضوا بخدي إلى الأرض) .
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليتوسد يمينه» ... فأراد به: الجنب الأيمن.
ويكره أن يدفن في تابوت، أو يجعل تحته مخدة، أو مضربة، أو غير ذلك؛

(3/106)


لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أنزلتموني في اللحد ... فأفضوا بخدي إلى الأرض) .
وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا) .
ويستحب أن ينصب عليه اللبن؛ لما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انصبوا علي اللبن نصبًا، وأهيلوا علي التراب) .
ويستحب لمن على شفير القبر عند رد التراب أن يحثو بيده ثلاث حثيات من التراب في القبر، ثم يهال عليه التراب بالمساحي؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حثى في قبر ثلاث حثيات من التراب في القبر» . وروي عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت:

(3/107)


(كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . فدل على: أنهم كانوا يحثون.
ولا يستحب أن يزاد في القبر أكثر من ترابه؛ لئلا يرتفع، فيضيق على الناس.
وقيل: إن الملك يأخذ من تراب قبر المؤمن، فإذا زيد تراب في قبره، فرآه الناس كثيرًا ... أساءوا الظن به، وأن الملك لم يأخذ من ترابه شيئًا.
ويكره أن يرفع القبر فوق الأرض رفعًا كثيرًا؛ لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته»
ويستحب أن يشخص القبر على وجه الأرض قدر شبر، ليعلم أن هناك قبرًا، لما روي عن القاسم بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أماه، اكشفي لي عن قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة) .

(3/108)


وروي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ألحد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصب عليه اللبن، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر) . ويستحب أن يسطح القبر.
وقال أبو علي الطبري: الأولى أن يسنم. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن التسطيح شعار الرافضة واليهود.
قال أبو علي الطبري: وكذلك يستحب ألا يجهر بالبسملة في الصلاة؛ لأن الجهر بها شعار الرافضة، وهذا ليس بصحيح؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سطح قبر ابنه إبراهيم، ورش عليه الماء، ووضع عليه حصى من حصى العرصة» .
وأما موافقة الرافضة: فلا يضر إذا صحت السنة فيه.
ويستحب أن يرش على القبر الماء، ويوضع عليه الحصى؛ لما ذكرناه من الخبر، وإنما أمر بالرش؛ ليلصق عليه الحصى، وإذا لم يفعل ذلك ... زال أثره، فلا يعرف.

[فرع: تجصيص القبر]
ويكره أن تجصص القبور؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقعد على قبر، ولا يبنى عليه، ولا يقصص» ، يعني: لا يجصص.

(3/109)


وفي رواية أخرى: «أنه نهى عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والقعود عليها» .
ولأن ذلك من زينة الأحياء، ولا حاجة بالميت إليه.
وأما البناء على القبر: فإن بني عليه بيت أو قبة، فإن كان ذلك في مقبرة مسبلة ... لم يجز؛ لأنه يضيق على غيره، وعليه يحمل الخبر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها، ولم أر من الفقهاء من يعيب عليه ذلك) .
وإن كان في ملكه ... جاز له أن يبني ما شاء؛ لأنه لا يضيق على غيره، بخلاف المسبلة.

[مسألة: الدفن قبل الصلاة]
إذا دفن الميت قبل الصلاة عليه ... صلي على القبر؛ لأن الصلاة تصح على القبر عندنا.

(3/110)


وإن دفن بغير غسل، أو وجه إلى غير القبلة، فإن خيف عليه التغيير ... لم ينبش؛ لأن ذلك قد تعذر، وإن لم يخف عليه التغيير
نبش، وغسل، ووجه إلى القبلة.
وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل نصب اللبن، أو بعد نصب اللبن، وقبل أن يطرح عليه التراب ... فإنه ينبش، وإن كان بعد طرح اللبن عليه
لم ينبش) .
دليلنا: أنه فرض مقدور عليه، فوجب أن ينبش لأجله، كما لو لم يطرح عليه التراب.
وإن دفن من غير كفن ... ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا ينبش؛ لأن القصد منه المواراة، وقد وجد ذلك، فلا ينبغي أن ينبش.
والثاني: أنه ينبش، ويكفن؛ لأنه فرض مقدور عليه، فأشبه الغسل.
وإن غصب من رجل ثوبًا، وكفن به ميتًا، ودفنه ... ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: ينتقل حق مالكه إلى القيمة، مراعاة لحق الميت.
والثاني - وهو الأشبه -: إن أتى عليه زمان يبلى فيه ذلك الثوب ... كان حقه في القيمة، وإن لم يأت عليه ذلك
طالبه برد الثوب، كما لو دفنه في أرض مغصوبة.

[فرع: وقوع شيء في القبر]
فروع: [وقوع شيء في القبر] :
فإن وقع في القبر شيء له قيمة ... نبش، وأخرج؛ لما روي: (أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الدفن، فقال: خاتمي، ففتح موضعًا وأخرجه) .

(3/111)


وقيل: إنه فعل ذلك حيلة؛ ليقول: (أنا أقربكم عهدًا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وإن ابتلع الميت جوهرة، فإن كانت لغيره ... شق جوفه، وأخرجت، وإن كانت للميت
ففيه وجهان:
أحدهما: يشق جوفه، وتخرج؛ لأنها صارت للورثة.
والثاني: لا تخرج؛ لأنه أتلفها في حياته، وهي على ملكه.
وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين يتحرك ... ففيه وجهان:
قال أبو العباس ابن سريج: يشق جوفها، ويخرج؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت.
ومن أصحابنا من قال: ينظر فيه: فإن قلن القوابل: إن هذا الجنين إذا أخرج عاش، مثل: أن يكون ابن ستة أشهر، فأكثر ... شق جوفها.
وإن قلن: لا يعيش ... فإنه لا يخرج؛ لأن فيه هتك حرمة الميتة بما لا فائدة فيه.
فعلى هذا: لا تدفن حتى يتحقق موته.

(3/112)


[فرع: نقل الميت]
] : قال الشيخ أبو نصر: ليس في نقل الميت من بلد إلى بلد نص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والذي يشبه عندي: أنه يكره، وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسئل الزهري عن ذلك؟ فقال: (قد حمل سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه وسعيد بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العقيق إلى المدينة) .
ودليلنا: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتعجيل دفن الميت» . وفي ذلك تأخير لدفنه، وأما نقل سعد وسعيد: فالعقيق قرب المدينة، فجرى مجرى البلد الواحد إذا نقل من مقبرة فيه إلى مقبرة.

[مسألة: الانصراف بعد الدفن]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا فرغ من الدفن ... فقد أكمل، وينصرف من شاء) .
قال أصحابنا: وفي الانصراف أربع مسائل:
إحداهن: إذا صلى، وانصرف ... فله ثواب.
الثانية: إذا صلى عليه، وانتظره حتى يوسد في القبر، وانصرف ... فهذا أفضل من الأول.

(3/113)


الثالثة: أن يقف حتى يفرغ من الدفن، وينصرف، فهذا أفضل من الأولين؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى على جنازة ... فله قيراط، ومن شيعها حتى قضى دفنها
فله قيراطان. أحدهما - أو قال: أصغرهما - مثل جبل أحد".
قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فذكرت ذلك لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فأرسل إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فسألها عن ذلك، فقالت: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لقد فرطنا في قراريط كثيرة»
الرابعة: أن يقف بعد الدفن، ويدعو للميت، وهذا أفضل من الأولين.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/245] : (وكان بعض من مضى عندنا من أهل العلم يأمر أهل الميت إذا فرغوا من الدفن: أن يقفوا عند قبره بمقدار ما ينحر جزور) .

(3/114)


وقال: (ذلك حسن، إلا أني لست أراهم يفعلون ذلك الآن عندنا) . فيستحب ذلك؛ لما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دفن ميتًا ... وقف عند قبره، وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» .
وبالله التوفيق

(3/115)


[باب التعزية والبكاء على الميت]
يستحب أن يعزى أهل الميت وأقاربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا ... فله مثل أجره» .

(3/116)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى ثكلى ... كسي بردًا في الجنة» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ووقت التعزية من حين يموت الميت إلى أن يدفن، وبعد الدفن أحب إلي، إلا أن يضعف الولي عن احتماله، فيعزى قبل الدفن) .
وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يعزى بعد الدفن، بل قبله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا ... فله مثل أجره» . ولم يفرق.
ولأن بعد الدفن أولى بالتعزية؛ لأنه حين مفارقته، وتجديد مصيبته.
ولأن الميت ما لم يدفن، فهو بين أظهر أهله، وإنما يأنسون منه، ويستوحشون بفرقته إذا دفن، فكان أولى الأحوال بالتعزية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعزى الكبير والصغير، والرجل والمرأة إلا أن تكون شابة، فلا أحب أن يعزيها إلا ذو رحم محرم لها) . فأما الأجنبي: فلا يعزيها؛ مخافة الافتتان بها، ويخص بالتعزية صبيانهم وضعفاؤهم عن احتمال المصيبة، فإن الثواب في تعزيتهم أكثر.
وأما لفظ التعزية: فقال الشافعي: (فإن كان يعزي مسلمًا بمسلم، فأحب أن يعزي بتعزية الخضر أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك: أنه لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/117)


وجاءت التعزية ... سمعوا صوتًا، ولا يرون أحدًا، يقول: (السلام عليكم، أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ودركًا من كل فائت، وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب) .
ويستحب أن يقول بعد ذلك: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك.
وإن عزى مسلمًا بكافر ... قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وخلفه عليك، يعني: الله خليفته عليك.
وإن عزى كافرًا بكافر ... قال: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، حتى تكثر الجزية.

[مسألة: كراهة الجلوس للتعزية]
ويكره الجلوس للتعزية، وهو أن يجتمع أهل الميت في بيت؛ ليقصدهم من أراد العزاء؛ لأن ذلك محدث وبدعة، بل يتوجه كل واحد منهم لحاجته، فيعزى الرجل في مصلاه، وفي سوقه وضيعته.

(3/118)


[مسألة: حرمة النياحة]
ويحرم النوح على الميت، وشق الجيوب، ونشر الشعور، وخمش الوجوه؛ لما روت «أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قالت: (نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النوح، فما وفت منا واحدة، إلا أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -»
وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن النائحة والمستمعة» .
وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» .
وروي «عن امرأة بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: (أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن

(3/119)


لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيبًا، ولا ننشر شعرًا» .
ولأن ذلك شبيه بالتظلم والاستغاثة، وما فعله الله تعالى حق وعدل.
ولأن ذلك يجدد الحزن، ويمنع الصبر، فحرم.
وأما البكاء من غير ندب، ولا نوح: فيجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ابنه إبراهيم في حجره، وهو ينزع، فبكى عليه، وقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، إنا بك يا إبراهيم لمحزونون" ثم فاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! فقال: إنها رحمة يضعها الله في قلب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»
وروي أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس قد نهيت يا رسول الله عن البكاء؟! فقال: "لا، إنما نهيت عن النوح» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكى على عثمان بن مظعون، حتى سالت دموعه، فروي: أنه قال في بكائه عليه: "هاء هاء هاء" ثلاث مرات» .
فإن قيل: هذا صوت، وأنتم تكرهون الصوت؟!

(3/120)


فالجواب: أنه يحتمل أنه كان مغلوبًا عليه، وما كان مغلوبًا عليه الإنسان لا يؤاخذ به. ويحتمل أن يكون الصوت المكروه ما كان بنوح وتعديد، وهذا ليس بشيء منه.
إذا ثبت هذا: فالبكاء مباح إلى أن يموت الميت، فإذا مات: فيستحب أن لا يبكي.
قال الشيخ أبو حامد: وإن كان لا يحرم؛ لما روى جابر بن عتيك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى عبد الله بن ثابت يعوده، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه، فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] [البقرة: 156] ، ثم قال: "قد غلبنا عليك يا أبا الربيع "، فصاحت النسوة بالبكاء، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعهن يبكين، فإذا وجبت ... فلا تبكين باكية". قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: إذا مات»
ولأن البكاء بعد الموت يجدد الحزن، ويمنع الصبر.
فإن قيل: فقد روى عمر، وابن عمر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» .

(3/121)


قال أصحابنا: فعن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن هذا الخبر؟ فقالت: يرحم الله عمر، والله، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الحديث هكذا، وإنما قال: "إن الميت ليزاد في عذابه ببكاء أهله عليه". حسبكم القرآن، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] » [الأنعام: 164] ) .
وروي عنها: أنها قالت: «مات يهودي، فكان أهله يبكون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الميت ليعذب وأهله يبكون عليه»
والجواب الثاني: قال المزني: تأويله: أن يكون الميت أوصى بالبكاء عليه، وهكذا أهل الجاهلية كانوا يوصون بالبكاء عليهم، قال طرفة بن العبد:

(3/122)


إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
والجواب الثالث: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» ، أي: بما يبكي عليه أهله؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يبكون على ميتهم، ويعددون في بكائهم ما كان يصنع من الظلم والقتل، ويفتخرون به.

[مسألة: زيارة القبور]
] : ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت، ولا تقولوا هجرًا» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قبر أمه في ألف مقنع» .
ويستحب أن يسلم عليهم، ويدعو لهم؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبور بالمدينة، فأقبل عليها بوجهه، وقال: "السلام عليكم، يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» .

(3/123)


وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى البقيع، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» .
وروي: أنه قال: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» .
وأما النساء: فلا يجوز لهن زيارة القبور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله زوارات القبور» .

(3/124)


ولا يكره المشي في المقبرة بنعلين، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره) .
دليلنا: ما روي في حديث المساءلة: «وإنه ليسمع خفق نعالهم» .
ويكره أن يطأ القبر، أو يجلس عليه، أو يتكئ عليه.
وقال مالك: (لا يكره ذلك إلا أن يكون لبول أو غائط) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن يجلس أحدكم على نار، فتحرق ثوبه، ويصل إلى بدنه، أحب إلي من أن يجلس على قبر» .
فإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا أن يمشي على قبر ... جاز له المشي عليه؛ لأنه موضع عذر.
ويكره المبيت في المقبرة؛ لما فيها من الوحشة.
ويكره أن يبني على القبر مسجدًا، لما روى أبو مرثد الغنوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

(3/125)


«لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن تبنى، وأن توطأ» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس) .

[مسألة: إطعام أصحاب المصيبة]
ويستحب لقرابة الميت وجيرانه أن يعملوا لأهل الميت طعامًا يشبعهم يومهم وليلتهم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه نعي جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... قال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم»
ولأن ذلك من البر والمعروف.
وقال ابن الصباغ: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا، وجمع الناس عليه: فلم ينقل فيه شيء، وهو بدعة، غير مستحب.

(3/126)


...
....
....
...

(3/127)


وبالله التوفيق

(3/128)