البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صدقة الإبل السائمة]
: الأصل في وجوب الزكاة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته» .
إذا ثبت هذا: فبدأ الشافعي من المواشي بالإبل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بذكرها في الصدقات. وليس فيما دون خمس من الإبل صدقة؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، فإذا بلغت الإبل خمسا، ففيها شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، فإذا بلغت خمسا وعشرين، ففيها ابنة مخاض» ، وهي التي لها سنة، ودخلت في

(3/165)


الثانية، وإنما سميت: ابنة مخاض؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون ماخضا، أي: حاملا بغيرها:
فإذا بلغت ستا وثلاثين.. ففيها ابنة لبون، وهي التي لها سنتان، ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون لبونا على غيرها.
فإذا بلغت ستا وأربعين.. ففيها حقة، وهي التي لها ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك؛ لأنها قد استحقت أن يطرقها الفحل، وهذا المروي في الخبر. وقيل: لأنها استحقت أن يحمل على ظهرها.
فإذا بلغت إحدى وستين.. ففيها جذعة، وهي التي لها أربع سنين، ودخلت في السنة الخامسة، وهي أعلى سن تجب في زكاة الإبل، وسميت بذلك؛ لأنها تجذع سنها.
فإذا بلغت ستا وسبعين.. ففيها بنتا لبون.
فإذا بلغت إحدى وتسعين.. ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة.. ففيها ثلاث بنات لبون.
قال أصحابنا: ولا خلاف فيما ذكرناه بين الصحابة والفقهاء، إلا حكاية تحكى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، فإذا بلغت ستا وعشرين.. فيها ابنة مخاض، فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة.. ففيها ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) . هذا مذهبنا.
وقال مالك: (تجب في إحدى وتسعين حقتان، حتى تبلغ مائة وتسعا وعشرين، فإذا صارت مائة وثلاثين.. كان في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) .
وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت مائة وعشرين.. استؤنفت الفريضة، فتجب في كل خمس شاة مع الحقتين، إلى أن تبلغ مائة وخمسا وأربعين، فتجب فيها حقتان وابنة مخاض) .

(3/166)


وقال ابن جرير الطبري: إذا بلغت مائة وعشرين، ثم زادت.. فرب المال بالخيار بين أن يأخذ بما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبين أن يأخذ بما قال أبو حنيفة.
دليلنا: ما روي «عن أنس: أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له لما وجهه إلى البحرين: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتي أمر الله بها عباده، فمن سألها على وجهها.. فليعطها، ومن سأل فوقها.. فلا يعطه: " في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين.. ففيها ابنة مخاض، فإن لم يوجد فابن لبون ذكر، فإن بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين.. ففيها ابنة لبون، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين.. ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين.. ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين.. ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين.. ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة.. ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة»

(3/167)


وإذا ثبت هذا: فمعنى قوله: (التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أي: التي قدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أمره الله به مجملا.
وقوله: «إذا سألها على وجهها.. فليعطها» : إذا أتى المصدق، وطلب الصدقة كما أمره الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فإنه يعطى.
وأما قوله: «ومن سأل فوقها فلا يعطه» : إن سال فوقها بتأويل، مثل: أن يكون الإمام مالكيا يرى أخذ الكبيرة من الصغار.. فإنه لا يعطى الزيادة، ويعطى الأصل، وإن سأل فوقها بغير تأويل، مثل: أن يسأل عن أربعين شاة شاتين.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يعطى شيئا؛ لأنه قد ظهر ظلمه، ودفع الصدقة إلى الظلمة لا يجوز.
ومنهم من قال: يعطى الأصل، ولا يعطى الزيادة؛ لاحتمال أن يكون سها أو نسي، فلا يمنع عن الواجب. قال ابن الصباغ: وهذا أصح. فإن ملك مائة وعشرين من الإبل وجزءا من واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجب عليه فيها ثلاث بنات لبون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا زادت على عشرين ومائة.. ففي كل أربعين بنت لبون» . ولم يفرق بين أن يزيد واحدة، أو أقل.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب فيها إلا حقتان) ؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في كتاب الصدقة: «فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين.. ففيها ثلاث بنات لبون» . وهذا نص لا احتمال فيه.
ولأن سائر الأوقاص لا تتغير بأقل من واحد، فكذلك هذا مثله.

(3/168)


[مسألة: وجوب زكاة المواشي في النصاب]
] : وهل تتعلق الزكاة بالنصاب والوقص، أو بالنصاب وحده، والوقص عفو؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم والجديد: (تتعلق الزكاة بالنصاب، وما زاد عليها عفو) . وبه قال أبو حنيفة، والمزني؛ لأنه وقص قبل النصاب، فلم يتعلق به حق كالأربعة الأولى.
و [الثاني] : قال في " البويطي ": (تتعلق الزكاة بالجميع) . قال أبو العباس: وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين.. ففيها ابنة مخاض» ، ولأنه حق يتعلق بنصاب، فتعلق به وبما زاد عليه، كالقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا: فالوقص - بتسكين القاف -: هو ما بين الفرضين، وحكي عن بعض أهل اللغة: الوقص، بفتح القاف.

(3/169)


فإن ملك تسعا من الإبل، فتلف منها أربع، فإن تلفت قبل الحول.. وجبت عليه شاة؛ لتمام الحول، وإن تلفت بعد الحول وبعد إمكان الأداء.. لم يسقط عنه من الشاة شيء.
وإن تلفت بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. فإن الشيخ أبا حامد، وأكثر أصحابنا قالوا: إن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. وجب عليه شاة بإمكان الأداء؛ لأنه جاء وقت الوجوب وعنده نصاب.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان:
فإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب والوقص.. وجب عليه خمسة أتساع شاة، وهذا هو المشهور.
وحكى القاضي أبو الطيب، عن أبي إسحاق المروزي: أنه يجب عليه شاة على هذا. ولم يذكر وجهه.
قال ابن الصباغ: ووجهه عندي: أن الزيادة لما لم تكن شرطا في وجوب الشاة.. لم يسقط منها شيء بتلفها، وإن كانت الزكاة متعلقة بها.. فهو كما لو شهد ثمانية بالزنا، فرجم المشهود عليه، ثم رجع أربعة منهم، فإنه لا يجب عليهم شيء.
وإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب، والوقص عفو.. وجبت عليه شاة.
وأما الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": فلم يذكر هاهنا البناء على إمكان الأداء، ولعله أراد التفريع على القول الصحيح، فحصل في هذه المسألة وجهان:

(3/170)


أحدهما: تجب عليه شاة.
والثاني: لا يجب عليه إلا خمسة أتساع الشاة.
وإن هلك منها خمس بعد الحول، وقبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. لم يجب عليه شيء؛ لأن وقت الوجوب جاء وعنده أقل من نصاب.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. بنيت على القولين الآخرين:
فإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب، والوقص عفو.. وجب عليه أربعة أخماس شاة.
وإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب والوقص.. وجبت عليه أربعة أتساع الشاة، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب فيها شيء.
والثاني: يجب فيها أربعة أخماس شاة.
والثالث: أربعة أتساع الشاة.

[فرع: تلف بعض الماشية قبل إمكان الأداء]
فإن كان معه خمس وعشرون من الإبل، فتلف منها خمس من الإبل، بعد الحول، وقبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكانية الأداء من شرائط الوجوب.. لم تجب عليه ابنة مخاض، بل يجب عليه أربع شياه.

(3/171)


وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. وجب عليه أربعة أخماس ابنة مخاض.

[فرع: تلف شطر الماشية]
وإن كان معه ثمانون شاة، فتلف منها أربعون: فإن كان قبل الحول، أو بعد الحول وبعد إمكان الأداء وجب عليه شاة.
وإن كان تلفها بعد الحول، وقبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فعليه شاة أيضا.
وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان:
فإن قلنا: تجب الشاة في النصاب والوقص.. وجب عليه نصف شاة.
وإن قلنا: تجب عليه في النصاب، والوقص عفو.. فعليه شاة.
قال ابن الصباغ: ويجيء على الوجه المحكي عن أبي إسحاق: أنه تجب عليه شاة بكل حال.

[مسألة: وجوب الغنم في دون خمس وعشرين من الإبل]
] : الواجب فيما دون خمس وعشرين من الإبل: إخراج الغنم، ولا يطالب إلا بالغنم؛ لأنه هو الفرض المنصوص عليه، فإن اختار أن يعطي بعيرا منها.. جاز، بشرط أن يكون مما يجزئ في خمس وعشرين، هذا قول عامة أهل العلم.

(3/172)


وقال مالك وداود: (لا يجزئه) .
دليلنا: أن البعير يجزئ عن خمسة وعشرين، فلأن يجزئ عما دونها أولى.
وإن كانت الإبل من أصناف، أعطى بعيرا متوسطا منها.. قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (كان له ذلك وإن كان أردأها) ؛ لأنه أفضل من الشاة، وهل الجميع فرضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الجميع ليس بفرض، بل الفرض يقسط على خمس وعشرين، فإن أخرجه عن خمس.. كان خمسه فرضا لا غير، وإن أخرجه عن عشرة.. كان فرضه خمساه لا غير، والباقي تطوع؛ لأنه يجزئ عن خمس وعشرين، فدل على أن لكل خمس من الإبل خمس بعير.
والثاني: أن الجميع فرضه؛ لأنه خير بين الشاة والبعير، فأيهما اختار إخراجه.. كان ذلك فرضه، كمن خير بين غسل الرجلين والمسح على الخفين.
قال ابن الصباغ: ولو كان ما قاله الأول صحيحا.. لأجزأه خمس بعير.
وهكذا: إذا أخرج المتمتع بدنة.. فهل الجميع فرضه أو سبعها؟ على هذين الوجهين.
وإن اختار إخراج الغنم.. أخرج جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز؛ لما «روى سويد بن غفلة، قال: أتانا مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: (نهينا عن أخذ الراضع،

(3/173)


وأمرنا أن نأخذ جذعة من الضأن، وثنية من المعز» وهل يجزئ فيه الذكر؟ فيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا يجزئه؛ لحديث سويد بن غفلة.
والثاني: يجزئه، وهو المنصوص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس شاة» . ولم يفرق. وأما جنسها: فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: إنه يجب عليه من غالب غنم البلد، إن كان بمكة.. فالشاة مكية، وإن كانت غنمه غير ذلك، فإن كان ببغداد.. فتجب عليه شاة بغدادية. وإن كانت غنمه غير ذلك.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أنظر إلى الغالب من غنم البلد) . قال الشيخ أبو حامد: أراد به في الصنفين، يعني: الضأن والمعز.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إن كان غالب غنم البلد الضأن.. فعليه أن يخرج الضأن، وإن كان غالب غنم البلد المعز.. فعليه أن يخرج المعز) . وكذلك طريقة الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " في الأغلب، كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس من الإبل شاة» . ولم يفرق بين الضأن والمعز.
فإن عدل عن نوع بلده إلى نوع بلد آخر: فإن كان خيرا من نوع بلده أو مثله.. أجزأه، وإن كان دونه.. لم يجزئه.

(3/174)


وإن كانت الخمس من الإبل مراضا.. ففي شاتها وجهان:
أحدهما: يجب عليه أن يخرج شاة تجزئ في الأضحية، وهو المذهب؛ لأنه لا يعتبر فيه صفة المال، فلم يختلف بصحة المال ومرضه، كالأضحية، وفيه احتراز منه إذا كانت الزكاة من جنس المال المزكى.
و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: لا يجب عليه إلا شاة بالقسط؛ لأنه لا يجب في المال المريض صحيحة إذا كان الفرض من جنسه، فكذلك إذا كان الفرض من غير جنسه.
وكيفية التقسيط هاهنا: أن يقال: لو كانت هذه الخمس من الإبل صحاحا.. كم قيمتها؟
فإن قيل: قيمتها ألف.. قيل: فكم قيمة الشاة الواجبة فيها؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم قيمة هذه الإبل المراض؟ فإن قيل: خمسمائة.. قيل له: أخرج شاة قيمتها خمسة.
قال ابن الصباغ: فإن أمكن أن يشتري بها شاة، وإلا فرقت دراهم على المساكين.

[فرع: أخر الزكاة أحوالا]
وإن أقامت في يده خمس من الإبل ثلاثة الأحوال لم يزك عنها.. فإن بالحول الأول تجب فيه الشاة.

(3/175)


فإذا جاء الحول الثاني:
فإن قلنا: تجب الزكاة في الذمة، وكان له مال من غير الإبل بقدر قيمة الشاة في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فإنه تجب عليه شاة أخرى.
فإذا حال الحول الثالث، وكان يملك من غير الإبل في جميع الحول الثالث بقدر قيمة الشاتين، أو لم يكن له مال غير الإبل، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه شاة ثالثة.
وإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه شاة في الحول الأول، ولا يجب في الثاني ولا في الثالث شيء.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب في السنة الأولى شاة، ولا يجب في السنة الثانية والثالثة شيء؛ لأن المساكين قد استحقوا في الحول الأول بقدر شاة، وبقي معه دون النصاب، فهو كما لو كان معه أربعون من الغنم، فحال عليها ثلاثة أحوال.. لم يزك عنها.. فإنه لا تجب عليه زكاة الثانية والثالثة على هذا القول.
والقول الثاني: يجب فيه ثلاث شياه لثلاث سنين؛ لأن الشاة التي تجب في الأولى لا تؤخذ من عين المال، وإنما يؤخذ بدلها، فتكون من الإبل بقدر شاة رهنا بتلك الشاة، والرهن لا يمنع وجوب الزكاة. هكذا ذكر أصحابنا.
والذي تبين لي: أن على هذا القول يجب أن يكون الحكم كالحكم فيها إذا قلنا: الزكاة تجب في الذمة، وهو أن ينظر فيه: فإن كان يملك قدر قيمة الشاة في الحول الثاني، وقدر قيمة الشاتين في الحول الثالث.. وجب عليه ثلاث شياه، وإن كان لا يملك شيئا غير هذه الإبل.. كان على القولين في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟
وإن ملك ستا من الإبل، فحال عليها ثلاثة أحوال، ولم يؤد زكاتها فيها.. فإن الشيخ أبا حامد قال: يجب فيها ثلاث شياه بكل حال؛ لأن معه أكثر من نصاب؛ لأنه إذا أخرج لكل سنة شاة، يكون الباقي نصابا.

(3/176)


وهذا الذي قاله الشيخ أبو حامد صحيح إذا كانت قيمة واحدة من هذه الست في جميع الحول الثاني تساوي قيمة شاة، وكانت هي أو غيرها تساوي في الحول الثالث قيمة شاتين.

[فرع: تأجيل الزكاة أحوالا]
إذا كان معه خمس وعشرون من الإبل، وأقامت في يده ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها.. فإن بحؤول الحول الأول يجب عليه ابنة مخاض.
فإذا حال الحول الثاني:
فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها، فإن كان له مال من غير الإبل يفي بقيمة ابنة مخاض في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه بحؤول الحول الثاني ابنة مخاض ثانية.
فإن كان يملك في جميع الثالث مالا من غير الإبل، بقدر قيمة ابنتي مخاض، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فعليه ابنة مخاض ثالثة بحؤول الحول الثالث.
وإن قلنا: الزكاة تجب في العين أو في الذمة، ولا مال له غيرها، والدين يمنع وجوب الزكاة.. فعليه ابنة مخاض بحؤول الحول الأول، ويجب عليه في الحول الثاني أربع شياه، وكذلك في الثالث أربع شياه.

[فرع: مرور أحوال بلا زكاة]
إذا كان معه أحد وتسعون من الإبل، فحال عليها ثلاثة أحوال لم يزك عنها.. فإن بحؤول الحول الأول يجب عليه حقتان.
فإذا حال الحول الثاني: فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها،

(3/177)


فإن كان له فيه مال من غير الإبل بقدر قيمة الحقتين في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، وقلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فإنه يجب عليه حقتان بحؤول الحول الثاني.
فإذا حال الحول الثالث: فإن كان له في الحول الثالث مال غير الإبل يفي بقيمة أربع حقاق، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجب عليه حقتان أيضا بحؤول الحول الثالث.
وإن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.. وجب عليه بحؤول الأول حقتان؛ لأن نصابه تام، ويجب عليه بحؤول الحول الثاني ابنتا لبون، وكذلك بحؤول الثالث أيضا.
وهكذا إذا قلنا: تجب الزكاة في الذمة، ولا مال له غيره، وقلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. فالحكم فيه كالحكم إذا قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.

[مسألة: وجوب بنت مخاض]
إذا ملك خمسا وعشرين من الإبل، فقد ذكرنا أن عليه ابنة مخاض، وفيها ست مسائل:
الأولى: إذا كان واجدا لها في إبله.. فيلزمه إخراج ابنة مخاض على صفة إبله، ولا يجوز له إخراج ابن لبون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن فيها ابنة مخاض.. فابن لبون ذكر» . وهذا في إبله ابنة مخاض، فدل على: أنه لا يجزئه إخراج ابن لبون.
الثانية: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولا يقدر على شرائها، وكان فيها ابن لبون ذكر.. جاز له إخراجه من غير جبران؛ للخبر، ولأن فيها فضيلة بالأنوثية،

(3/178)


ولكنها لا تصل حيث يصل ابن لبون من الرعي، ولا تمتنع من صغار السبع كامتناعه، ففيه فضيلة بهذا، وينقص عنها لكونه ذكرا، فاستويا.
الثالثة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، وكان هو يقدر على شرائها، وعنده ابن لبون.. فيجوز له إخراج ابن لبون، ولا يلزمه شراء ابنة مخاض.
والفرق بين هذه، وبين من وجبت عليه في الكفارة رقبة لا يملكها، ويقدر على ثمنها: أنه يلزمه شراؤها؛ لأن الله تعالى قال في الكفارة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] .
ومن وجد الثمن.. فهو قادر على الرقبة، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الزكاة: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض، فابن لبون» . وهذا ليس في إبله ابنة مخاض.
الرابعة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولا ابن لبون، وكان قادرا على شرائهما.. فقال الشافعي: (هو بالخيار بين أن يشتري أيهما شاء) .
وقال مالك: (لا يجزئه أن يشتري ابن لبون، بل يشتري ابنة مخاض) . وحكاه صاحب " الإبانة " [ق \ 111] وجها لصاحب " التقريب ".

(3/179)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض.. فابن لبون ذكر» . فأجاز له إخراج ابن لبون، إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولم يفرق بين أن يقدر على شرائها، أو لا يقدر.
الخامسة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، فأخرج مكانها حقا.. أجزأه؛ لأنه أفضل من ابنة مخاض وابن لبون. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأطلق.
والذي يقتضي المذهب: أنه لو طلب معه الجبران.. لم يعط؛ لأن الجبران إنما يكون بين الإناث، وهاهنا: لا يعلم الفضل بينهما.
وإن أراد أن يخرج الحق مكان ابنة لبون.. لم يقبل منه؛ لأنهما يتساويان في ورود الماء والشجر، وتفضل عليه بالأنوثة.
السادسة: إذا كانت إبله مهازيل، وفيها ابنة مخاض سمينة.. لم يلزمه إخراجها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» ، فإن أخرجها.. أجزأه، وقد تطوع بأكثر مما عليه.
وإن اشترى ابنة مخاض بصفة ماله، وأخرجها.. جاز.
وإن أراد إخراج ابن لبون.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يجزئه) ؛ لأن التي عنده لا يلزمه إخراجها، فكان وجودها كعدمها.

(3/180)


والثاني - ولم يذكر في " التعليق " غيره -: أنه لا يجزئه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض.. فابن لبون» . وهذا في إبله ابنة مخاض تجزيء.

[مسألة: جبران السنين]
] : ومن وجبت عليه سن من هذه الأسنان المذكورة، وليس عنده إلا ما هو أسفل منها بسنة.. فإنها تقبل منه، ويدفع معها شاتين أو عشرين درهما، وإن وجبت عليه سن وليس عنده إلا ما هو أعلى منها بسنة، واختار دفعها.. قبلت منه، ويعطيه الساعي شاتين أو عشرين درهما، وقال الثوري، وأبو عبيد، وإحدى الروايتين عن إسحاق بن راهويه: الجبران شاتان، أو عشرة دراهم. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روى أنس في (كتاب الصدقة) .
فإن وجبت عليه جذعة، ولم يكن فيها جذعة، وفيها حقة.. فإنها تقبل منه، ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن بلغت صدقته الحقة، وليس عنده إلا ابنة لبون.. فإنها تقبل منه، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته ابنة لبون، وليست عنده، وعنده ابنة مخاض.. فإنها تقبل منه، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعنده ابنة لبون.. فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، فإن وجبت عليه جذعة، وليست عنده، وعنده ثنية، فإن دفعها، ولم يطلب الجبران.. قبلت منه؛ لأنها أعلى من الفرض بسنة، وإن طلب الجبران.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يعطى) ؛ لأنها أعلى من الفرض بسنة.
والثاني: لا يعطى؛ لأن الجذعة تساوي الثنية؛ لورود الماء والشجر.

(3/181)


وإن وجبت عليه ابنة مخاض، ولم تكن عنده، وأراد أن يعطي ما لها دون السنة، ويدفع الجبران.. لم يجز؛ لأن ما دونها ليس بفرض مقدر.
وإن كانت إبله مراضا، ولم يكن الفرض فيها، فأراد أن يصعد إلى فرض مريض، ويأخذ الجبران.. لم يجز؛ لأن الجبران بين المريضين أقل مما بين الصحيحين.
وإن أراد أن ينزل إلى فرض مريض، ويدفع الجبران.. جاز؛ لأنه متطوع بالزيادة.
وإن لم يكن عنده الفرض المنصوص عليه، وعنده أعلى منه بسنة وأنزل منه بسنة، فإن اتفق رب المال والساعي على الصعود أو النزول مع الجبران.. جاز.
وإن اختلفا، فدعا أحدهما إلى الصعود، والآخر إلى النزول.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يقدم اختيار الساعي؛ ليأخذ للمساكين الأنفع لهم) .
الثاني: يقدم اختيار رب المال؛ لأنه هو المعطي. وهذا ليس بشيء.
وإن لم يوجد في المال الفرض المنصوص عليه، ووجد ما هو أعلى منه بسنتين.. قبل منه، وأعطاه الساعي أربع شياه، أو أربعين درهما.
وهكذا: إذا لم يوجد في المال إلا ما هو أنزل من الفرض بسنتين.. قبل منه مع أربع شياه، أو أربعين درهما، قياسا على الجبران بسنة.
وحكى ابن الصباغ: أن من الناس من قال: لا يجوز، واختاره ابن المنذر.

(3/182)


دليلنا: أن كل سن جاز العدول عنه إلى ما يليه بسنة مع الجبران.. جاز العدول عنه إلى ما يليه بسنتين مع الجبران، كما لو دفع أعلى مما يجب عليه بسنتين من غير جبران.
وإن وجبت عليه ابنة لبون، وليست عنده، وعنده حقة وجذعة، فأراد رب المال أن يدفع الجذعة، ويأخذ أربع شياه، أو أربعين درهما.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد عرف ما بينهما.
والثاني: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه قد كان يمكنه أن يدفع ما هو أعلى بسنة وجبرانا واحدا، فلم يجز له العدول عنه إلى جبرانين، كما لو وجد الفرض، وأراد أن يعدل إلى غيره مع الجبران.
ومن وجبت عليه شاتان، أو عشرون درهما.. فالخيار إليه، فإن كان الذي يدفع الجبران هو رب المال.. فالأولى أن يدفع الأكثر من الشاتين أو عشرين درهما؛ لأنه أكثر ثوابا، وإن أراد أن يدفع أدونهما.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره بينهما، وإن كان الذي يدفع الجبران هو الساعي.. فلا يجوز أن يعطي إلا أقلهما؛ لأنه ناظر لغيره، فإن كان في بيت المال شيء.. دفع الإمام منه ذلك؛ لأنه مصلحة لأهل السهمان، وإن لم يكن في بيت المال شيء، باع الساعي مما في يده للمساكين، وسلمه جبرانا؛ لأنه ناظر للمساكين، فهو كولي اليتيم.
فإن أراد الدافع منهما أن يدفع شاة وعشرة دراهم.. لم يجز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره بين شيئين، فلا يجوز أن يخيره بين ثلاثة أشياء، وإن أراد من وجب عليه في الجبران أربع شياه، أو أربعون درهما، فأراد أن يعطي شاتين وعشرين درهما.. كان له ذلك؛ لأنهما جبرانان.

[مسألة: فيما يجب بالمائتين من الإبل]
وإن كان معه مائتان من الإبل:
فقال الشافعي في الجديد: (يحب فيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون) .

(3/183)


وقال في القديم: (يجب فيها أربع حقاق) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب فيها أربع حقاق لا غير؛ لأن تغير الفرض بالسن في الإبل أكثر من تغيره بالعدد، ألا ترى أنه يجب في مائة وستين أربع بنات لبون، ثم كلما زادت الإبل عشرا.. تغير الفرض فيها بالسن؟
فإذا بلغت مائة وتسعين.. ففيها ثلاث حقاق، وبنت لبون، فإذا بلغت مائتين.. وجب التغيير بالسن أيضا، فيجب أربع حقاق.
والقول الثاني: يجب فيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، وهو الصحيح؛ لما روى سالم بن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، يرفعه في نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا بلغت مائتين.. ففيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون» .
ومنهم من قال: يجب أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، قولا واحدا، وما قاله في القديم، فإنما قال ذلك؛ لأن الخيار إلى الساعي عند الشافعي، وعليه أن يأخذ الحقاق؛ لأنها أفضل.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن الواجب أربع حقاق، فإن كانت موجودة في المال.. لم يجز العدول عنها إلى غيرها.
وإن كانت معدومة في المال.. فرب المال بالخيار بين أن يشتري الحقاق، وبين أن يصعد إلى الجذاع، ويأخذ الجبران، أو ينزل إلى بنات لبون، ويدفع الجبران.
وإن قلنا: إن الواجب أحد الفرضين، فإن وجد أحدهما في المال.. تعين إخراجه، ولا يطالبه الساعي بإحضار الثاني، وإن عدما جميعا.. كان رب المال بالخيار: بين أن يشتري أحدهما، أو ينزل عن أحدهما، ويدفع الجبران، أو يصعد إلى ما فوقه، ويأخذ الجبران، وإن وجد الفرضان معا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أن الخيار إلى الساعي، فيأخذ الأفضل منهما) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .

(3/184)


فلو قلنا: الخيار إلى رب المال.. لكان يخرج الأدون، فيكون قد أنفق خبيث المال.
الثاني - وهو قول أبي العباس -: أن الخيار إلى رب المال، فيعطي أي الفرضين شاء، إلا أن يكون ناظرا ليتيم، فلا يجوز أن يعطي إلا أدونهما، وحمل النص عليه إذا خير رب المال الساعي.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» . فلو جعلنا الخيار إلى الساعي، لأخذ الكريمة.
فإذا قلنا بالمنصوص: فإن كان الفرضان متساويين في القيمة.. أخذ الساعي أيهما شاء، وإن كان أحدهما أكثر قيمة.. كان على الساعي أن يأخذ أفضل الفرضين.
فإن أخذ الأدون: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان على رب المال أن يخرج الفضل، ويعطيه أهل السهمان) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: أراد بذلك: إذا أخذ الساعي الأدنى بغير عمد منه، أو من رب المال، مثل: أن يكون رب المال قد أظهرهما، وأدى الساعي اجتهاده إلى أن الذي يأخذه هو الأفضل، ثم بان أنه الأدنى.. فإنه يخرج الفضل.
فأما إذا أخذ الأدنى بتفريط منهما، أو من أحدهما، بأن لم يظهر رب المال له الفرض الآخر، أو أخذه بغير نظر، أو مع العلم بأنه الأدنى.. فلا يجزئه إخراج الفضل، بل يجب رد المأخوذ إن كان باقيا، أو قيمته إن كان تالفا، ويجب على رب المال أن يخرج الفرض الأجود.
ومنهم من قال: إن كان الساعي قد أخذ الأدون، وفرقه على المساكين.. لم يمكن رده؛ لأنه تالف، فيخرج الفضل هاهنا.
فأما إذا لم يكن الساعي فرقه: فإنه يرد إلى رب المال، ويؤخذ الأجود.
ومنهم من قال: يجزئه المأخوذ بكل حال، ويخرج الفضل؛ لأن كل واحد منهما

(3/185)


فرض بحال، وهل يكون إخراج الفاضل واجبا، أو مستحبا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستحب؛ لأن الفرض الذي أخرجه قد أجزأ، إذ لو لم يكن مجزئا.. لوجب رده، وإخراج الأجود.
والثاني - وهو المذهب -: أن إخراج الأفضل واجب؛ لأن الواجب على الساعي أن يأخذ الأجود، فإن تركه، وأخذ الأدون.. فقد أخذ بعض ما وجب له، فصار بمنزلة ما لو وجب له خمسة دراهم، فأخذ أربعة.
فإذا قلنا: إن إخراج الفضل مستحب.. أخرجه كيف شاء.
وإن قلنا: إنه واجب، فإن كان الفضل يسيرا لا يمكنه أن يشتري به جزءا من حيوان.. فرقه دراهم، وإن كان يمكنه أن يشتري به جزءا من حيوان.. فهل يلزمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن ذلك يشق.
والثاني: يلزمه لأن إخراج القيمة في الزكاة لا يجوز.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه أن يشتري من جنس الأجود منهما، أو يجوز له أن يشتري من جنس الأدون منهما؟ فيه وجهان.

(3/186)


وإن وجد أحد الفرضين، وبعض الآخر. أخذ الموجود، ولا يجوز أن يأخذ بعض الموجود ويضم إليه غيره مع الجبران.
وإن وجد في المال ثلاث حقاق وأربع بنات لبون، فإن أخذ الثلاث الحقاق وبنت لبون وجبرانا واحدا، أو أخذ أربع بنات لبون وحقة ودفع الجبران.. جاز، وإن أخذ ثلاث بنات لبون مع كل واحدة جبران، وحقة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد عرف ما بينهما.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه عدل إلى الجبرانات مع إمكانه أن يأخذ جبرانا واحدا، فلم يصح.
وإن كان الفرضان معيبين. لم يجز أخذهما؛ لأن المعيب لا يجزئ أخذه عن الصحاح، ويقال له: إما أن تشتري صحيحا، أو تصعد وتأخذ الجبران، أو تنزل وتدفع الجبران.

[فرع: جواز دفع بنات اللبون أو الحقاق]
فإن ملك أربعمائة من الإبل.. فعلى الطريقين في الأولى:
فإن قلنا: يجب أحد الفرضين.. فله أن يأخذ عشر بنات لبون، أو ثماني حقاق، فإن أراد أن يأخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون.. فعامة أصحابنا قالوا: يجوز.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز، كما لا يجوز مثل ذلك في المائتين. وهذا ليس بشيء؛ لأن كل مائتين فريضة منفردة بنفسها، فأشبه إذا انفردت.
وبالله التوفيق

(3/187)